مع الاثني عشرية
في الأصول والفروع
دراسة مقارنة في العقائد
د. علي السالوس
1-4
تمهيد
إن الحمد كله لله نحمده سبحانه وتعالي ونستهديه ، ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل . ونصلى ونسلم على رسله الكرام ، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين ، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمنذ نحو أربعين سنة بدأت الاطلاع على كتب الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية ، والاتصال ببعض علمائهم . وشجعني على هذا أستاذي المرحوم الشيخ محمد المدني ، أحد دعاة التقريب بين المذاهب الخمسة ، حيث اعتبروا المذهب الشيعي هذا مذهباً خامساً ، ولذلك كانت رسالتي للماجستير في الفقه المقارن بين الشيعة الإمامية - أي الجعفرية الاثنى عشرية - والمذاهب الأربعة .
غير أنني عندما بدأت الدراسة ، ثم قرأت كثيراً من كتبهم ، وجدت الأمر على خلاف ما تصوره دعاة التقريب ، حيث إن عقيدتهم في الإمامة ، وما ينبنى عليها ، تمنع التقريب وتحول دونه ، فإن هذه العقيدة لا تصح إلا بالطعن في خير أمة أخرجت للناس ، حيث يعتبر باقي الصحابة - وحاشاهم - مقرين للمعصية ، راضين عنها .
وإذا كانت مسألة الإمامة في ذمة التاريخ ، فلا حاجة لإثارتها ، وخلاف الأمس لا يمنع تقريب اليوم ، ومن هنا كانت رسالتي للدكتوراه عن أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله ، وللأسف الشديد أنني وجدت هذه العقيدة الباطلة قد أفسدت الكثير من أصول الفقه . فكيف تكون دعوة التقريب ؟
إن قلنا للشيعة : دعوا مسألة الإمامة في مجال العقيدة ، ولا تجعلوا لها أثراً في التشريع وأصوله حتى تصبحوا كأي مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة ، أفيقبلون ؟
وإذا كانوا لا يقبلون ، بل لم توجه لهم هذه الدعوة ، أفنؤمن نحن بعقيدتهم الباطلة ؟(1/1)
لهذا يجب أن تكون دعوة التقريب على هدى وبصيرة . ولذا رأيت أن أجعل بين أيدي المسلمين ، ودعاة التقريب منهم ، بعض الكتب التي تبين الفوارق بين السنة والشيعة في مجالات مختلفة ، ليفكروا في هذه الفوارق ، ولنحدد كيف تكون دعوة التقريب ، ومن الذي يجب أن يترك رأيه ويقترب من الآخر .
وكنت جمعت المادة العلمية منذ عدة سنوات ، ثم توقفت بضعة أعوام عندما شغلت بالاقتصاد الإسلامي ، والمعاملات المعاصرة ، وتم بحمد الله تعالي وفضله تأليف بعض الكتب والأبحاث ، غير أن البحث في المعاملات المعاصرة أمر متجدد لا ينتهي ، فرأيت ألا أجعل الوقت كله له ، وأن أعود إلى ما جمعت من مادة للدراسة المقارنة حتى أخرج الكتب التي أريدها ، مستعيناً بالله عز وجل .
وتوطئة لهذه الدراسة صدر كتابى الأول تحت عنوان :
" عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية- دراسة في ضوء الكتاب والسنة - هل كان شيخ الأزهر البشرى شيعياً ؟ ! "
وانتهت الدراسة إلي أن عقيدتهم لا تستند إلى كتاب ولا إلى سنة ، بل باطلة تصطدم بالكتاب والسنة ، وأظهرت الدراسة كثيراً من الأخطاء ، وكشفت عن مفتريات وأباطيل ، ونزهت الشيخ البشرى مما نسبه إليه المفترى الكذّاب صاحب كتاب المراجعات .
ورأيت أن تكون الدراسة التالية للكتاب السابق تتعلق بكتاب الله العزيز ، المصدر الأول للعقيدة والشريعة . فكان الكتاب الثانى في التفسير المقارن وأصوله بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية ، وقسمته قسمين :-
القسم الأول : للحديث عن التفسير وأصوله عند أهل السنة.
القسم الثانى : للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية.(1/2)
ومن يقرأ ما احتواه القسمان يدرك الفوارق البينة الظاهرة بين التفسيرين ، وأصول كل منهما . ويتأكد من أن مسألة الإمامة ليست نظرية بحتة تاريخية ، بل لها أثرها في كتبهم خلال جميع العصور ، ولهذا وجدنا الغالين الضالين من الشيعة يحرفون القرآن نصا ومعنى ، ويطعنون في الصحابة الكرام ، ويجعلون أئمتهم هم المراد من كلمات الله حتى وصل بعضهم إلى تأليه الأئمة ،ووجدنا المعتدلين منهم يقعون في تناقض بين ، وهذه نتيجة حتمية ، فكيف يجمع بين هذه العقيدة والاعتدال ؟! وكيف يجمع بين توثيقهم وإجلالهم لأكبر كبار علمائهم كالقمى والعياشى والكلينى ، وهم رءوس الغلو والضلال ، وحملة لواء التشكيك والتضليل ، وتحريف القرآن المجيد ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ؟! كيف يجمع بين هذا كله وبين شيء من الاعتدال ؟! والمهم أن ما أنسبه إليهم هنا منقول من كتبهم وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقاً غير جائر .
وانتهيت من الكتاب الثانى سنة 1409 هـ (1989م) ، وفى أواخر ذلك العام كانت الطامة حيث صدر البيان المشهور عن دار الإفتاء المصرية الذي أحل بعض المعاملات التي أجمعت المجامع الفقهية كلها وجميع دور الإفتاء على أنها من الربا المحرم ، وتبع البيان بعد ذلك تحليل صور أخرى من المعاملات الربوية حتى وصل الأمر إلى القول بأن البنوك في جميع بقاع الأرض تستثمر بالطرق التي أحلها الله تعالي !!
فشغلت بالرد على البيان ، وعلى ما صدر بعد ذلك من الفتاوى الباطلة ، فكتبت عشرات المقالات ، وبضعة كتب وأبحاث ،ووقفت عند الكتاب الثانى بين الشيعة والسنة .(1/3)
ومنذ سنوات طلبت منى إحدى الجهات العلمية البارزة كتابة رد على كتاب المراجعات لعبدالحسين شرف الدين الموسوي ، ثم تكرر الطلب حتى استحييت ، وكنت كتبت بعض الملاحظات حول الكتاب استعداداً للرد قبل هذا الطلب ، فأعدت النظر فيما كتبت ، واستعنت بالله عز وجل ، وبذلت أقصى ما أستطيع حتى انتهيت بحمد الله عز وجل وفضله وكرمه - من كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " ، حيث أثبت يقينا براءة شيخ الأزهر مما نسب إليه ، وأن عبدالحسين هو وحده صاحب هذه المراجعات المفتراة . والقارئ يجد هذا الأمر واضحاً جلياً ، وسيعجب كل العجب من جرأة هذا الرافضي لا على الكذب والافتراء فقط ، ولكن أيضا على تصوير شيخ الأزهر وشيخ المالكية وقد جاوز الثمانين عاما في صورة جاهل لا يدرى ما في كتب في التفسير والحديث عند أهل السنة أنفسهم ، وما يدرس منها لطلاب الأزهر ، فبدا كأنه أقل علماً من هؤلاء الطلاب ، إلى أن جاء هذا الشاب الرافضي الطريد الذي لجأ إلى مصر ليعلم شيخ الأزهر نفسه ما في هذه الكتب ، ويصور الرافضي نفسه في صورة من أخرج شيخ الأزهر من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، وجعله يسلم بصحة عقيدة الرافضة وشريعتهم وبطلان ما عليه أمة الإسلام منذ الصحابة الكرام البررة إلى عصرنا !!
وقد ناقشت الرافضي مناقشة علمية مستفيضة ، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منا فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
وبعد أن انتهيت من كتاب المراجعات رأيت أن أستكمل الموضوع الذي بدأته بالكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل ، ولكن بدا لي أن أقدم للمسلمين موسوعة شاملة في هذا الموضوع تبين حقيقة الشيعة والرافضة في الماضي والحاضر في ضوء الكتاب والسنة ، وكل ما أنسبه إليهم منقول من كتبهم هم أنفسهم ، وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقا غير جائر . وهذه الموسوعة يضمها كتاب في أربعة أجزاء :
الجزء الأول في العقائد .
الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله .(1/4)
الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله .
والجزء الرابع في أصول الفقه والفقه .
وكل جزء له مقدمة تخصه وتناسبه .
وكتبت بحثا عنوانه " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فرأيت من المناسب أن ألحقه بالجزء الثالث الخاص بالسنة المشرفة .
وقبل أن أنتقل إلى مقدمة الجزء الأول أحب أن أذكر بما يأتي :-
أولا: لماذا كثر ما كتبت عن الشيعة ؟
بعد أن تخرجت في كلية دار العلوم سنة 1376 هـ (1957م) ، والتحقت بالدراسات العليا ، كان ممن درس لنا أستاذنا الجليل / محمد المدني - رحمه الله تعالى - وهو من الأعضاء البارزين لدار التقريب بين المذاهب في القاهرة ، وكثيراً ما كان يحدّثنا عن الشيعة ، وفقههم وأنهم لا يختلفون كثيراً عن المذاهب الأربعة ، ويمكن اعتبارهم مذهبا خامسا .
والشيعة يزيدون على سبعين فرقة ، لكنه كان يقصد الشيعة الإمامية الجعفرية الاثنى عشرية بالذات ، فهى صاحبة دار التقريب فكرة وتنفيذا.
ونتيجة فهمى لما سمعته منه سجلت رسالة الماجستير تحت عنوان " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة " وأردت أن أحدد مواضع الخلاف فقط ، أي ما ينفردون به دون أي مذهب من المذاهب الأربعة ، ثم أناقش هذه المواضع باعتبارهم مذهبا خامسا من باب التقريب .
غير أننى عندما بدأت البحث ، واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدت الأمر يختلف عما سمعت تماما . ورأيت أن عقيدة الإمامة عندهم ، التي جعلوها أصلا من أصول الدين ، أثرت في مصادر الشريعة ، وجميع أبواب الفقه ، ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه عنوانها " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله".
فدراستى إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب . ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات .
وكان طبيعيا ألا أقف عند الماجستير والدكتوراه ، وأن يظهر هذا التخصص في دراسات أخرى ، ولهذا قمت بتأليف عدة كتب في سلسلة دراسات في الفرق .(1/5)
من هذا التوضيح يعرف سبب كثرة ما كتبت في هذا المجال ، وما أكتبه ليس من أهدافه الحوار مع الشيعة والرافضة ، وإنما أوجه كتابتى لأهل السنة والجماعة وجمهور المسلمين في ضوء المصادر المعتمدة التي تلقتها الأمة بالقبول ، والمنهج العلمي الذي اتفق عليه جمهور المسلمين .
ثانيا: الشيعة ليسوا سواء
الشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء ، فمنهم الغلاة الذين نرى فيما كتبوا الكفر والزندقة ، ومنهم من ينشد الاعتدال ، ويتصدى لبعض هؤلاء الغلاة ، ومنهم من يجمع بين الغلو والاعتدال . فعلى سبيل المثال .
ظهر في القرن الثالث الهجرى ثلاثة كتب في التفسير هي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري ، وتفسير العياشى ، وتفسير القمي. وهذه الثلاثة كلها زيغ وضلال وزندقة : تكفر الصحابة رضي الله تعالي عنهم ، وعلى الأخص الخلفاء الراشدين قبل الإمام على ، ومن بايعوهم ، وتحرف القرآن الكريم نصا ومعنى وتغلو في الأئمة الاثنى عشر إلى درجة الشرك بالله عز وجل .
وفى القرن الرابع الهجرى يؤلف الكلينى ـ وهو تلميذ القمي ـ كتابه الكافى ، الكتاب الأول في الحديث عندهم ، وقد ضل ضلالا بعيداً ، ونهج منهج التفاسير الثلاثة وزاد عليها كفراً وضلالا .
وفى القرن الخامس يؤلف الطوسي كتابه التبيان في التفسير ، وينهج منهجا فيه شيء من الاعتدال ، ويتصدى لحركة التشكيك والتضليل التي سبقته ، ويحاول جاهدا صيانة كتاب الله العزيز نصا ومعنى ، وإن تأثر بعقيدته في بعض معانى الآيات الكريمة .
والإمامية الاثنا عشرية بعد هذا منهم من سار في ظلمات الضالين الغلاة ومنهم من اقترب من شيخ الطائفة الطوسي ، ومنهم من أخذ من كل نصيبا . وقد بينت هذا بالتفصيل في كتابى " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " ، وفى هذا الكتاب بأجزائه الأربعة.(1/6)
وعبد الحسين في كتابه " المراجعات " الذي أشرت إليه من قبل لم ينقل إلا عن الغلاة الضالين ، وأضاف إليهم ما هو أشد كفرا وضلالا ، ولم ينقل شيئا عن التبيان للطوسى شيخ طائفتهم وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة .
ولذلك فهو يعد من أشد الروافض غلوا وزندقة وكفرا .
وأرجو أن يكون واضحا أن ما نراه في كتب الغلاة الرافضة ، وما نصمهم به نتيجة ما قدمت أيديهم ، لا ينطبق على المعتدلين من الطائفة .
والذى تعجب له هو موقف المعتدلين الغلاة من الشيعة ، حيث نرى تناقضا واضحا :-
فهم يثنون على الصحابة الكرام ، ويقولون بأن القرآن الكريم الذي بين أيدى المسلمين هو كما أنزله الله عز وجل ، وأن أي خبر يتعارض مع هذا سواء أكان في الكافى أو غيره ، يضرب به عرض الحائط ، وكذلك ما يتصل بفرية علم الأئمة للغيب .
والتناقض يأتي في الإشادة بكتب الغلاة كالمراجعات ، وهو الذي يتعارض مع كل ما سبق كما يظهر عند عرضه ومناقشته ، وبيان ما فيه من البلاياوالرزايا .
وكذلك القول بأن كل ما في تفسير على بن إبراهيم القمي صحيح ، وهو الذي كفر الصحابة وقال بالتحريف تنزيلاً وتأويلاً ، وعلم الأئمة لما كان وما يكون إلى يوم القيامة .
تناقض واضح جلى بلا شك !! ولذلك فهم جمعوا بين الاعتدال والغلو !!
ووجدنا طائفة من معتدلي الشيعة لم تقع في مثل هذا التناقض ، وظهرت لهم كتب تفضح وترد على غلاة الشيعة ، وذلك مثل كتاب تحطيم الصنم ، والمقصود بالصنم كتاب الكافى ، وكتاب لله ثم للتاريخ ، وفيه تبرئة الأئمة الأطهار مما نسب إليهم من الغلو ، وما كتبه أحمد الكاتب ، وموسى الموسوي ، وغيرهم .فالشيعة إذن ليسوا سواء .
ثالثا: منهج الرافضة في محاولة هدم الإسلام(1/7)
عبد الحسين الذي افترى كتاب المراجعات ، أراد أن يبين أن علامة أهل السنة وشيخ أزهرهم ، والذى جاوز الثمانين من عمره ، جاهل بالكتاب والسنة معا ، حتى بالكتب التي تدرس لطلاب الأزهر ، ويسلم بكل ما يقوله هذا الرافضي الشاب الطريد الذي لجأ إلي مصر ، فلا ينتهى الكتاب المفترى حتى ينطق ويشهد شيخ الأزهر- وحاشاه ثم حاشاه - بما ينطق به غلاة الروافض ! وإذا كان هذا هو حال الإمام الأكبر فعلى الباقين جميعا أن يسلموا تسليماً ، وأن يعود الأزهر شيعيا كما بدأ ! هكذا زين الشيطان للرافضى !
وأراد شيطان الرافضة أن يبين أنه صاحب ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وبه نور الظلم ، وأنقذ شيخ الأزهر من ظلمات الجهل... هكذا دون أدنى خجل أو حياء من الله عز وجل ، أو من الناس .
وما ذكر في مقدمة كتاب المراجعات عن عبد الحسين فهو من باب ما قاله الإمام الشافعى " أشهد الناس بالزور الرافضة " .
وأحب أن أنبه إلى أمر هام وهو منهج الرافضة في هدم الإسلام من الداخل ونشر عقائدهم الباطلة .
رأيت كتابا لعبد الحسين هذا عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، ومن الذي لا يريد تأليف أمة الإسلام ؟ فلما نظرت في الكتاب وجدته ينتهى إلى أن التأليف إنما يكون باعتناق عقيدة الرافضة وترك ما عليه أهل السنة والجماعة ، وهذا هو ما انتهى إليه في كتاب المراجعات ، بعد أن بدأه بالتحذير من الفرقة ، ووجوب اجتماع الكلمة ، أي أننا يجب أن نجتمع ، على الكفر والزندقة ، لا على سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ، التي أمرنا أن نعض عليها بالنواجذ .
فيجب أن نتنبه إلى هذا المنهج الخبيث ، وإلى أنهم في سبيل تصدير الثورة التي نادى بها الخمينى ، أي عقيدة الرافضة وشريعتهم ، يغرون بالمال الوفير ، وبالنساء عن طريق زواج المتعة عندهم .
رابعا : عبد الله بن سبأ
صاحب فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم(1/8)
عبد الله بن سبأ كان يهودياً ثم أعلن إسلامه ، ووالي على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أبى الحسن مثل ذلك . وهو صاحب فكرة أن علياً هو وصى النبي - صلى الله عليه وسلم .
جاء في كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي ، وسعد بن عبد الله القمي ، وهما من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجرى :
" عبد الله بن سبأ أول من شهر القول بفرض إمامة على رضي الله عنه ، وأظهر البراءة من أعدائه ، وكاشف مخالفيه وكفرهم ، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية " . ( ص 32:33 وانظر هذا أيضا في ترجمة ابن سبأ في تنقيح المقال للماماقانى 2/184 ، والأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الموسوي الجزائري ص 234 . وكلها مراجع شيعية ).
ونتيجة لدور ابن سبأ في تأسيس عقيدة الرافضة ، ولرفع هذه التهمة الثابتة ، ألف مرتضى العسكري الشيعي كتابا عن عبد الله بن سبأ ، وقال: إنه شخصية خرافية لا وجود لها ، وإن قصته وضعها سيف بن عمر ، واشتهرت عن طريق تاريخ الطبري .
وما قاله هذا الشيعي غير صحيح ، بل جرأة عجيبة على إنكار ما هو ثابت مشتهر ، فما أكثر ما جاء عن ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر ، وما نقلته من كتاب فرق الشيعة وغيره ليس فيه سيف بن عمر ، وليس منقولا عن طريق الطبري ، وأضيف إليه بعض المراجع الشيعية الأخرى التي ذكرت ابن سبأ ، وليس في سندها سيف بن عمر :
فانظر على سبيل المثال لأصحاب كتب الحديث الأربعة عند الشيعة :
الكافى للكلينى 1/545 ، وللصدوق : فقيه من لا يحضره الفقيه 1/213 ، وعلل الشرائع ص 344 ، والخصال 638 ، وللطوسى : تهذيب الأحكام 2/322 ، واختيار معرفة الرجال 2/108 ، والأمالى 1/234 .(1/9)
وراجع أيضا : وسائل الشيعة 18/554 ، ورجال الكشّى ، وغيرها من مراجع الشيعة أنفسهم ، إلى جانب مراجع الجمهور التي يطول ذكرها . ويمكن أن يكون هذا الموضوع بحثا موسعا نثبت به أخطاء مرتضى العسكري وغيره ، ولكن أكتفى بذكر نموذج لأحد الشيعة المشهورين بالاعتدال إلى حد ما وهو السيد أبو القاسم الخوئى ، الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق . جاء في كتابه معجم رجال الحديث في ترجمة عبد الله بن سبأ ما نصه :
الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ : من أصحاب على رضي الله عنه رجال الشيخ (76).
وقال الكشّى (48) : " حدثني محمد بن قولويه القمي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله بن أبى خلف القمي ، قال : حدثني محمد بن عثمان العبدى ، عن يونس بن عبدالرحمان ، عن عبد الله بن سنان ، قال : حدثني أبى عن أبى جعفررضي الله عنه : أنّ عبد الله بن سبأ كان يدعى النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه هو الله !! تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه ، فدعاه وسأله فأقرّ بذلك ، وقال : نعم أنت هو وقد كان ألقى في روعى أنك أنت الله وأنىّ نبي !! فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه : ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار" . وقال : إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقى في روعه ذلك .
حدثني محمد بن قولويه ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب ابن يزيد ومحمد بن عيسى ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه ، فقال : إنه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين رضي الله عنه فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار.(1/10)
حدثني محمد بن قولويه : قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب بن يزيد ، ومحمد بن عيسى ، عن على بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الأرذى عن أبان بن عثمان ، قال : سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول : لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان والله أمير المؤمنين رضي الله عنه عبد الله طائعاً ، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا ، نبرأ إلى الله منهم . نبرأ إلى الله منهم .
وبهذا الإسناد عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبى عمير ، وأحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، والحسين بن سعيد ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبى حمزة الثمالى ، قال : قال على بن الحسين صلوات الله عليهما: لعن الله من كذب علينا إنى ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدى ، لقد ادّعى أمراً عظيماً ! ما له لعنه الله ، كان على رضي الله عنه والله عبداً لله صالحاً ، أخا رسول الله ، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله ، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله إلا بطاعته لله .
وبهذا الإسناد : عن محمد بن خالد الطيالسى ، عن ابن أبى نجران ، عن عبد الله (بن سنان) ، قال : قال أبو عبد الله رضي الله عنه :إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلموآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلّها ، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه أصدق من برأ الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفترى على الله الكذب عبد الله بن سبأ .
أقول ـ أي الخوئى : وتأتى هذه الرواية الأخيرة في ترجمة محمد بن أبى زينب وفى سندها ابن سنان ، بدل عبد الله .(1/11)
وقال الكشّى : " ذكر بعض أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليا رضي الله عنه، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصى موسى بالغلو ! فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في على رضي الله عنه مثل ذلك ، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة على !! وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة : أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية !! " .
أقول : بطلان قول من خالف الشيعة واضح ناشئ عن العصبية العمياء ، فإن أصل التشيع والرفض مأخوذ من الله عز وجل حيث قال سبحانه وتعالى:
" إنما وليكم لله ورسوله والذين آمنوا... " والرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله حيث قال في الغدير : " من كنتٌ مولاه فهذا على مولاه ، اللهم وال من والاه ..." وأما عبد الله بن سبأ فعلى فرض وجوده فهذه الروايات تدل على أنه كفر وادّعى الألوهيّة في على رضي الله عنه لا أنه قائل بفرض إمامته رضي الله عنه ، مضافاً إلى أن أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلفة اختلقها سيف بن عمر الوضاع الكذّاب ، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه ، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدم من دراسات عميقة دقيقة في هذه القصص الخرافية وعن سيف وموضوعاته في مجلّدين ضخمين طبعا باسم ( عبد الله بن سبأ ) وفى كتابه الآخر (خمسون ومائة صحابي مختلق ) صلى الله عليه وسلم (11/205: 207 ) . انتهت الترجمة.
ونلاحظ هنا أن الخوئى نقل الترجمة من مراجع شيعية فقط ، وذكر الأخبار بأسانيدها وليس في أي منها سيف بن عمر ، ومع ذلك يقول : أسطورة عبد الله بن سبأ ، ويثنى على مرتضى العسكري ! وعلى دراساته ! أين ذهب عقل الخوئى وهو يكتب هذا ؟!(1/12)
ثم لا يكتفى بالافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأصل التشيع ، بل يلحق به الرفض الذي يعنى الطعن في أبى بكر وعمر ، خير البشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . وفى الأمة الإسلامية كلها التي بايعت كلا منهما . والخوئى مشهور بالاعتدال النسبى ، فماذا ننتظر من غلاة الرافضة وزنادقتهم ؟!(1[1])
أما من عرف بالاعتدال وعدم الغلو والتطرف من الشيعة فقد وجدنا منهم من يكتب عن عبد الله بن سبأ ويثبت وجوده ، ويرد على مرتضى العسكري ومن أيده ، ففي كتاب كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار لعالم شيعي من علماء النجف وهو السيد حسين الموسوي نجد سبعة نصوص تؤيد وجود عبد الله بن سبأ ، ثم يقول المؤلف بعد ذكر هذه النصوص ما يأتي :
فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة ، بعضها في الرجال وبعضها في الفقه والفرق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل ، كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ ، فلا يمكننا بعد نفي وجودها خصوصاً وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه ، بأنه إله ، وهذا يعنى أن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد التقى عبد الله بن سبأ ، وكفى بأمير المؤمنين بحجة ، فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده .
نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي :-
ـ إثبات وجود شخصية ابن سبأ ، ووجود فرقة تناصره وتنادى بقوله ، وهذه الفرقة تعرف بالسبئية .
ـ أن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام ، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقى على يهوديته وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك .(1/13)
ـ أنه هو الذي أظهر الطعن في أبى بكر وعمر وعثمان والصحابة ، وكان أول من قال بذلك ، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه ، وهو الذي قال بأنه رضي الله عنه وصى النبي محمد صلى الله عليه وآله ، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية ؟ وأنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت ودعوة لولايتهم ، والتبرؤ من أعدائهم ـ وهم الصحابة ومن والاهم بزعمه .
إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها ، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة ، وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية ، انظر المصادر التالية :
" الغارات للثقفى ، " رجال الطوسي " ، " الرجال " للحلي ، " قاموس الرجال " للتستري ، " دائرة المعارف " المسماة بـ " مقتبس الأثر " للأعلمى الحائري ، " الكنى والألقاب " لعباس القمي ، " حل الإشكال " لأحمد بن طاووس المتوفى سنة (673 هـ ) ، " الرجال " لابن داود ، " التحرير " للطاوسي ، " مجمع الرجال " للقهبانى ، " نقد الرجال " للتفرشى ، " جامع الرواة " للمقدسى الأردبيلى ، " مناقب آل أبى طالب " لابن شهر أشوب ، " مرآة الأنوار " لمحمد بن طاهر العاملي .
فهذه على سبيل المثال لا الحصر ، أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ ، فالعجب كل العجب من فقهائنا أمثال المرتضى العسكري ، والسيد محمد جواد مغنية ، وغيرهما ... في نفى وجود هذه الشخصية ، ولا شك أن قولهم ليس فيه شيء من الصحة .
انتهى كلام السبد حسين الموسوي ، العالم الشيعي النجفي ، ومصادره كلها شيعية كما ذكر
مقدمة الجزء الأول
بعد أن انتهينا من التمهيد للكتاب كله بأجزائه الأربعة ننتقل إلى مقدمة هذا الجزء الأول ، فأقول مستعينا بالله سبحانه وتعالى:
لا شك أن الإمامة قد حظيت بكثير من الدراسة والبحث ، ولا غرو فأعظم خلاف وقع بين المسلمين إنما كان بسببها .(1/14)
والشيعة الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة وإليها اتجهت دعوة التقريب ، لذا رأيت أن أبين عقيدة الإمامة عندهم كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم ، دون اعتماد على شيء مما كتب عنهم ، فبعض من كتبوا عنهم خلطوا بينهم وبين فرق شيعية أخرى .
والإسلام - عقيدة وشريعة - إنما يستمد أصلاً من الوحي الذي أنزله الله عز وجل في كتابه المجيد ، وما بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة.
وصحة عقيدة الجعفرية أو بطلانها لا يثبت إذن إلا بالكتاب والسنة. لهذا رأيت أن أحدد أهم أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، وأبين وجهة نظرهم ، وأناقشهم فيما ذهبوا إليه.
وإذا كان من اليسير أن نحدد أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، فمن العسير تعيين أدلتهم التي تستند إلى السنة النبوية الشريفة ، لأن السنة مجال واسع رحب ، ودور الكذّابين والوضاعين معروف . والجعفرية معنيون كل عناية بالحديث عن الإمامة ، ومحاولة إثبات صحة مذهبهم بالأدلة النقلية والعقلية ،ولهم في القديم والحديث مئات المؤلفات ، بل عشرات المئات ، فقلما نجد عالماً من علمائهم لم يدل بدلوه في هذا الميدان . وفى مؤلفاتهم نرى الميل إلى الإكثار الزائد من النقل والجدل ، مثال هذا أنهم يستدلون على صحة الإمامة بأحد الأحاديث ، فجاء كاتب من كتابهم وألف كتاباً في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة هذا الحديث وشهرته ، ومن قبله يقرون كتب غيره كتاب الألفين - أي من الأدلة - في إمامة أمير المؤمنين ؟!
وأمام هذا الفيض الزاخر رأيت أن اعتمد أساساً على ثمانية كتب من كتب السنة هي : الموطأ ومسند الإمام أحمد ، والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، ثم جمعت كل ما جاء فيها متصلاً بالإمامة سواء أأيد رأيهم أم عارضه ، وناقشت ما جمعت سنداً ومتناً لنتبين دلالة السنة.(1/15)
أما كتب السنة عند الجعفرية فلم أعتمد عليها لأننى عندما اطلعت عليها رأيت أنها ما وضعت إلا من أجل عقيدتهم وما يتصل بها . على أن كتب الجعفرية التي ينشرونها في الأوساط المختلفة وتتعرض لعقيدتهم في الإمامة ، تذكر أن هذه العقيدة تؤيدها كتب السنة عند جمهور المسلمين ، ويذكرون أخباراً كثيرة ينسبونها لهذه الكتب ويحتجون بها . وجمعنا لما جاء في الكتب الثمانية المذكورة آنفاً ومناقشة ما جمع يغنى عن مناقشة ما جاء في كل كتاب من مئات الكتب الجعفرية .
غير أننى لم أكتف بهذا ، بل رأيت تخصيص فصل لأدلتهم التي يذكرونها ، مع مناقشتها ، وهى تعتمد على تحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى ، وعلى الأحاديث الموضوعة المفتراة .
وهذه الأدلة نرى معظمها في كتابين من كتبهم .
أولهما : كتاب منهاج الكرامة لابن المطهر الحلى ، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابة منهاج السنة النبوية .
والكتاب الثانى هو : المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، ورددت عليه بكتابي : المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى.
فتناولت في الفصل شيئاً من كتابى ابن المطهر وعبد الحسين ، والرد عليهما ، وبينت بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال .
وبعد الحديث عن عقيدة الإمامة ، والمناقشة ختمت الجزء بفصل عن العقائد التابعة لعقيدة الإمامة وأهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية. فهذا الجزء يقع في خمسة فصول :-
الفصل الأول :- الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة.
الفصل الثانى :- أدلة الإمامة من القرآن العظيم .
الفصل الثالث :- الإمامة في ضوء السنة.
الفصل الرابع :- الاستدلال بالتحريف والوضع .
الفصل الخامس :- عقائد تابعة .
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل ، إنه نعم المولي ونعم النصير ، وهو المستعان .(1/16)
? رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ?، ? سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ علَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ??.
الفصل الأول
الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة
أولا : الإمامة والخلافة
الإمامة لغة التقدم ، نقول : أمّ القوم وبهم : تقدمهم . والإمام : ما ائتم به الناس من رئيس أو غيره : هادياً كان أو ضالاً ، ويطلق لفظ الإمام على الخليفة ، وهو السلطان الأعظم وإمام الرعية ورئيسهم .
وأممت القوم في الصلاة إمامة ، وائتم به أي اقتدى .
ويطلق لفظ الإمام كذلك على القرآن الكريم ، فهو إمام المسلمين ، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو إمام الأئمة بأئمتها ، وعليهم جميعاً الائتمام بسنته التي نص عليها .
ويطلق على قيم الأمر المصلح له ، وعلى قائد الجند ، وقد يذكر ويراد به غير هذه المعاني (1).
ولم يرد لفظ الإمامة في القرآن الكريم ، وإنما ورد لفظ إمام وأئمة ، قال تعالى :-
" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "(2) أي جاعلك قدوة يؤتم به ، وقال سبحانه :" وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " (3) وقال عز وجل "فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ "(2???) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين صار ضعفاؤهم تبعاً لهم . وقال تعالى : "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " (3[3]) ، أي من تبعهم فهو في النار يوم القيامة .(1/17)
ومن المفهوم اللغوى لكلمة إمام نستطيع أن ندرك سبب إطلاق هذا الاسم على حاكم المسلمين ، كما وجدنا ترادفاً بين الإمامة والخلافة . ويفسر هذا أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله فيقول : " سميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شئون المسلمين ، وتسمى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً ، ولأن طاعته واجبة ، ولأن الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة "(4[4]).
وأعظم خلاف بين الأمة - كما يقول الشهر ستانى - خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (5[5])
وبالطبع ما كان الخلاف ليجد مكانا بين المسلمين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسم الخلاف ، ويصلح النفوس ويهدى إلى صراط مستقيم
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (6[6])
ثانيا : التفكير في الإمامة وبيعة الصديق
أكان المسلمون يفكرون فيمن يخلف الرسول الكريم في إمامتهم وعلى وجه الخصوص عندما اشتد مرضه الأخير ؟(1/18)
وردت روايات صحيحة الإسناد تفيد وجود مثل هذا التفكير ، منها ما جاء عن ابن عباس أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفى فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً ، قال ابن عباس : فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب فقال : ألا ترى أنت ؟ والله إنى أعرف وجوه بنى عبدالمطلب عند الموت ، فاذهب بنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر ؟ فإن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا ، فقال على : والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً ، فوالله لا أسأله أبداً (7[7]).
وجاء عن على - كرم الله وجهه - قال : " قيل : يا رسول الله ، من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا علياً ، ولا أراكم فاعلين ، تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " (8[8])(1/19)
معنى هذا أن التفكير في الإمامة نبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الخلاف لم ينشأ إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث كان اجتماع السقيفة المشهور الذي انتهى بالبيعة للخليفة الأول ، وتحدث الخليفة الثانى في إحدى خطبه عن ذلك الاجتماع فقال : " بلغنى أن قائلاً منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغترن امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة أبى بكر فلتة ، وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بنى ساعدة ، وخالف عنا على والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر ، فقلت لأبى بكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالى عليه القوم ، فقالا : لا عليكم أن تقربوهم ، اقضوا أمركم ، فقلت : ماله ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وكنت زورت مقالة أعجبتنى أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر ، وكنت أدارى منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبوبكر فكان هو أعلم منى وأوقر . والله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم(1/20)
أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى ، ولا يقربنى ذلك من إثم ، أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسى عند الموت شيئاً لا أجده الآن . فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش . فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، قال عمر : وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبى بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد ، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو و لا الذي بايعه تغرة أن يقتلا "(9???).
ثالثاً : الإمامة عند الجمهور
مما ذكره الفاروق نلاحظ ما يأتي :-
أولاً : لا خلاف حول وجوب إقامة خليفة ، وإنما كان الخلاف بشأن من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم . وإلى هذا انتهى جمهور السنة ، فلا يستقيم أمر الأمة بغير حاكم .
ثانياً : أن الخلافة في قريش : " لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش " ولم يأخذ الأنصار بهذا أول الأمر ، ولكن ما أسرع أن بايعوا قريشاً ما عدا سعد عبادة فلم يبايع ، ويؤيد ما ذكره الصديق أحاديث صحيحة : فالبخارى - في كتاب الأحكام من صحيحه -جعل باباً بعنوان " الأمراء من قريش " ، ومما آخرجه هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وقوله صلوات الله عليه : " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان " .(1/21)
وفى كتاب الإمارة من صحيح مسلم نجد " باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش " ، ومما جاء في هذا الباب قول الرسول الكريم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال هذا الأمر في قريش مابقى من الناس اثنان " .
وأخرج أحمد في مسنده روايات كثيرة صحيحة الإسناد تؤيد هذا ، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما بعد ، يا معشر قريش ، فإنكم أهل هذا الأمر ، ما لم تعصوا الله ، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب - لقضيب في يده - ثم لحا قضية ، فإذا هو أبيض يصلد " (10????)
ثالثاً : لا يكون خليفة إلا بالبيعة " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم " . " فقلت ابسط يدك ياأبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار " .
فإذا تمت البيعة وجب الوفاء بها ، ولهذا قال " خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على مالا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد " وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (2) وقال أيضا: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (11[11])
رابعا : ما دام الواجب الوفاء بالبيعة فلا بيعة إلا بمشورة المسلمين " فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " والشورى مبدأ معروف في الإسلام فمن المقطوع به أن الحكم في الإسلام ينبنى على مبدأين أساسيين هما العدالة والشورى ، قال تعالى:-
" وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " (12[12]). وقال جل شأنه:-" وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " (13[13]) " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"َ (14[14])(1/22)
خامساً :-أن البيعة تمت لأبى بكر بهذه السرعة ، بغير تدبير سابق وإنما كانت فلتة نظراً لمكانته . " ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر " (...... " كان والله أن أقوم فتضرب عنقى - لا يقربنى ذلك من إثم - أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر " .
بعد هذه الملاحظات نقول : إنه في ضوء ما سبق وغيره اشترط الجمهور للخلافة الراشدة ، خلافة النبوة ، أن تكون لقرشى عادل عن طريق البيعة والشورى ، على خلاف في بعض الأمور مثل تحديد من تنعقد بهم البيعة(15????) .
ورأي الأنصار في أحقيتهم للخلافة انتهى بالبيعة ، ولم يطل على التاريخ من جديد ، ولكن أولئك القرشيين الذي امتنعوا عن البيعة أول الأمر، ثم ما لبثوا أن بايعوا كان لهم شأن آخر في تاريخ الأمة الإسلامية . والمشهور أن هؤلاء لم يبايعوا لأنهم يرون أن الإمامة ليست في قريش بصفة عامة ، وإنما هي في أهل بيت النبوة وللإمام على بصفة خاصة . وهؤلاء قلة يذكر لنا التاريخ منهم بعض الصحابة من غير بنى هاشم كالمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسى ، وأبى ذر الغفارى رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ولكنهم جميعاً لم يتعرضوا للخليفة بتكفير أو تجريح . وعرض أبوسفيان البيعة على الإمام على ولكنه أبى لقوة دينه وفرط ذكائه .
*****
رابعاً : على وبيعة من سبقه(1/23)
إذا كان المشهور يدل غالباً على واقع الأمر . فإن من الأمور ما يشتهر مخالفاً للحقيقة . فمما اشتهر أن الإمام علياً لم يبايع لأنه كان يرى أحقيته بالإمامة من غيره . ولكن الثابت من أقواله يدل على أنه كان يرى ألا يقضى مثل هذا الأمر دون أن يكون له فيه رأي ، مع اعترافه بأفضلية الصديق ، وعدم إنكار أحقيته لإمامة المسلمين : روى البخاري أن الإمام علياً عندما أراد مبايعة الصديق رضي الله عنهما أرسل إليه فجاءه ، فتشهد على فقال : " إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً ، حتى فاضت عينا أبى بكر . فلما تكلم أبو بكر قال : والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى ، وأما الذي شجر بينى وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته . فقال على لأبى بكر : موعدك العشية للبيعة . فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد ، وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة ، وعذره بالذى اعتذر إليه ، ثم استغفر وتشهد على فعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ولا إنكارا للذى فضله الله به ،ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسر بذلك المسلمون وقالوا : أصبت . وكان المسلمون إلى على قريباً حين راجع الأمر بالمعروف" ( كتاب المغازي باب غزوة خيبر). وروى مسلم أكثر من رواية تفيد ما سبق ، وفى إحدى رواياته " ثم قام على فعظم من حق أبى بكر ، وذكر فضيلته وسابقته ، ثم مضى إلى أبى بكر فبايعه ، فأقبل الناس إلى على فقالوا : أصبت وأحسنت " (كتاب الجهاد - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث ماتركنا فهو صداقة ) . واستبد بالأمر : إذا انفرد به غير مشارك له فيه(1/24)
، وقول الإمام : ولكنك استبددت علينا بالأمر : أي لم تشاورنا في أمر الخلافة .
ومن المشهور كذلك أن الإمام علياً لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنهما ، ولكن يوجد ما يدل على أنه لم يتآخر هذه الفترة.
وقبل انتهاء فترة الخلافة الأولى القصيرة - التي بارك الله تعالى فيها أيما بركة - كان الصديق قد استقر رأيه على استخلاف عمر بعد تعرفه على آراء كثير من الصحابة الكرام . على أن بعض هؤلاء قد تخوف من خلافة الفاروق لما اشتهر به من الشدة ، وقالوا لأبى بكر : قد وليت علينا فظاً غليظاً ، فقال : لو سألنى ربى يوم القيامة لقلت : وليت عليهم خيرهم (16????) .
وعندما أخذ رأي المسلمين في البيعة لمن ذكر في كتاب الخليفة الأول قالوا : نسمع ونطيع ، غير أن على بن أبى طالب انفرد بقوله : " لا نرضى إلا أن يكون عمر " (17????) .
ولم يتأخر أحد عن بيعة عمر بن الخطاب إلا سعد بن عبادة . ومرت الخلافة العمرية الراشدة ، وانتهى الأمر إلى الستة (18????) ليختاروا واحدا منهم ، ثم انحصرت الخلافة في ثلاثة ، فاثنين هما عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب ، ثم كانت البيعة الجماعية لذى النورين ، فلماذا انتهت إليه ؟(1/25)
روى البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة " أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبدالرحمن : لست بالذى أنافسكم على هذا الأمر ، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم ، فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن ، فلما ولوا عبدالرحمن أمرهم ، فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالى ، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور : طرقنى عبدالرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائماً ، فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم ، انطلق فادع الزبير وسعداً ، فدعوتهما له فشاورهما ، ثم دعانى فقال : ادع لي علياً فدعوته ، فناجاه حتى ابهار الليل ، ثم قام على من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبدالرحمن يخشى من على شيئاً ، ثم قال : ادع لي عثمان فدعوته ، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح . فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر ، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار ، وأرسل إلى أمراء الأجناد ، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبدالرحمن ، ثم قال : أما بعد يا على إنى قد نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً ، فقال : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده ، فبايعه عبدالرحمن ، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون(19[19]).(1/26)
وكانت السنوات الأولى في عهد عثمان خيراً وبركة ، ثم بدأت الفتنة التي أدت إلى مقتله . وقد بذل الإمام على كل ما استطاع في سبيل إخمادها ولكن هيهات ! وفى هذه الفترة بدأت الأنظار تتعلق بعلى ، وتذكر ما له من فضل ومكانة . إذا ما انتقل الخليفة الشهيد إلى حيث بشره الرسول صلى الله عليه وسلم تجمع المسلمون حول أبى الحسن علهم يجدون على يديه مخرجاً . وتمت البيعة ولكن لم تنته الفتنة ، بل زاد أوراها ، وسالت دماء طاهرة على أرض الإسلام بسيوف المسلمين! وعلى قتله عثمان الوزر الأكبر لكل ما نتج عن هذه الفتنة ، ولكن " وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" (20????) .
وكان من نتيجة حادثة " التحكيم " الشهيرة أن انسل جماعة من أتباع الإمام وخرجوا على المتحاربين معاً ، على ومعاوية ! وهؤلاء هم الذين سموا " الخوارج " أما الذين ظلوا مع الإمام فهم الذين أطلق عليهم لقب " الشيعة " . (21????)
خامساً : الخوارج ورأيهم في الإمامة
الخوارج لا يزال لهم بقية إلى يومنا هذا (22????) وقد انقسموا فرقاً على مر التاريخ " ويجمع الخوارج على اختلاف مذاهبها : إكفار على ، وعثمان وأصحاب الجمل ، والحكمين ، ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما ، ووجوب الخروج على السلطان الجائر " (23[23]) .
وللخوارج رأي خاص في الإمامة :(1/27)
فالإمام لا يكون إلا باختيار حر من المسلمين ، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم . ويظل رئيساً للمسلمين ما دام قائماً بالعدل مجتنباً للجور ، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه ، ولكن إذا غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله . ولا يشترطون القرشية كما اشترط الجمهور ، فللأمة أن تختار من تشاء ولو كان عبداً حبشياً . كما أن فرقة منهم وهى "النجدات" أجمعت على أنه لا حاجة بالناس إلى إمام وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم ، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز ، فإقامة الإمام في نظرهم ليست واجبة بإيجاب الشرع بل جائزة ، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة.وفرقة أخرى منهم وهى " الشبيبية " أتباع شبيب بن يزيد الشيبانى - " أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم . وخرجت على مخالفيهم ، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت " (24????)
سادساً : الإمامة عند الزيدية
الشيعة على اختلاف فرقهم يرون وجوب إمام ، ولكن رأيهم في الإمامة يخالف ما ذهب إليه جمهور المسلمين .
وأقربهم إلى الجمهور فرقة الزيدية ، أتباع زيد بن على بن الحسين بن علىبن أبى طالب رضي الله عنهم . فبعد استشهاد الإمام الحسين ذهبت فرقة من الشيعة إلى أن الإمامة لا تكون إلا في أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها ، ويستوى في هذا أولاد الحسن وأولاد الحسين ، ورأوا أن كل فاطمى عالم شجاع سخى خرج بالإمامة فهو إمام واجب الطاعة ، وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ، فلما خرج زيد بن على في عهد هشام بن عبد الملك بايعه هؤلاء.(1/28)
وكان من مذهب الإمام زيد جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل ، فقال : " كان على بن أبى طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة ، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوها ، وقاعدة دينية راعوها ، من تسكين نائرة الفتنة ، وتطييب قلوب العامة ، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً ، وسيف أمير المؤمنين على عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد . والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي ، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد ، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والتقدم بالسن ، والسبق في الإسلام ، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.... وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام ، ويحكم بحكمه في القضايا " (25????)
ولما سمعت شيعة الكوفه هذه المقالة منه ، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين ، وإنما قال : " إنى لا أقول فيهما إلا خيراً ، وما سمعت أبى يقول فيهما إلا خيراً ، وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسين " عندما سمعوا ذلك فارقوه ، ورفضوا مقالته حتى قال لهم : رفضتمونى ، ومن يومئذ سموا رافضه (26????) .
وفرق الزيدية منهم من يتفق مع ما ذهب إليه الإمام زيد ومنهم من خالفه ، فالجارودية زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإمام على بالوصف دون التسمية ، وهو الإمام بعده ، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف ، ولم يطلبوا الموصوف ، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم فكفروا بذلك (27[27]).
ولكن باقي فرق الزيدية ذهبوا إلى أن الإمامة شورى فيما بين الخلق ، وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل ، وأثبتوا إمامة الشيخين أبى بكر وعمر حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً ، واختلفوا في عثمان فمنهم من طعن ، ومنهم من توقف (28[28]).
سابعاً : الإمامة عند الإسماعيلية(1/29)
أما الشيعة الإمامية فهم يرون أن الإمامة منصب إلهى يختار له الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي ، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمر باتباعه .
ويقولون : إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وقد بلغ الرسول الكريم ربه ، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يتبع المسلمون أمر الله تعالى و لا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتركوا ركناً من أركان الإيمان . ويرون أن النص بعد الإمام على لابنه محمد الباقر ، فابنه جعفر الصادق . وبعد القول بإمامة أبى عبد الله جعفر الصادق نرى منشأ أكبر فرقتين من فرق الشيعة هما الإسماعيلية والجعفرية الاثنا عشرية .
فالإسماعيلية جعلوا الإمامة بعده لابنه إسماعيل ، الابن الأكبر ، وافترق هؤلاء فرقتين :
فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر ، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه . وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر حيث إن جعفر نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل ، وإلى هذا القول مالت الإسماعيلية الباطنة (29[29]).
والإسماعيلية جعلوا الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد المكتوم ، ومنهم من وقف عليه وقال برجعته بعد غيبته ، ومنهم من ساق الإمامة في أئمة " مستورين" منهم ، ثم في (ظاهرين قائمين ) من بعدهم . وقالوا : لم تخل الأرض قط من إمام حى قائم . إما ظاهر مكشوف ، وإما باطن مستور .
فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً ، وإذا كان الإمام مستوراً فلابد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين .
ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية (30????).
ثامناً : عقيدة الإمامة عند الجعفرية(1/30)
الجعفرية الاثنا عشرية ـ وهم أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة ـ لهم عقيدة خاصة في الإمامة أحب بيانها بشئ من التفصيل ، فأقول :
يعتقد الجعفرية أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحي ، فالقول فيه مخلتف ، ولذلك قالوا (31????).
إن الإمامة أصل من أصول الدين :-
لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها ، فمن لم يذهب مذهبهم في الإمامة فهم يجمعون على أنه غير مؤمن ، وإن اختلفوا في تفسير غير المؤمن هذا : فمن قائل بكفره ، إلى قائل بالفسق ، وأكثرهم اعتدالا أو أقلهم غلواً يذهب إلى أنه ليس مؤمناً بالمعنى الخاص وإنما هو مسلم بالمعنى العام ، ما لم يكن مبغضاً للأئمة وشيعتهم فضلاً عن حربهم فهو يعد كافراً عند جميع الجعفرية .
ذكر الحلى ـ الملقب عند الجعفرية بالعلامة ـ بأن إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة ! حيث قال : " الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حى بخلاف الإمام....وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص " (الألفين 1/3) .
وعقب أحد علمائهم على هذا بأنه " نعم ما قال " وأضاف : وإلى هذا أشار الصادق بقوله عن منكر الإمامة هو شر الثلاثة ، فعنه أنه قال : الناصبى شر من اليهودى . قيل : وكيف ذلك يا بن رسول الله ؟ فقال : إن اليهودى منع لطف النبوة وهو لطف خاص ، والناصبى منع لطف الإمامة وهو عام ( انظر حاشية ص43 النافع يوم الحشر ) .
وفى مصباح الهداية (ص 61-62 ) ذكر المؤلف أن الإمامة مرتبة فوق النبوة !
وقال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق : " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء . واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( رسالته في الاعتقادات ص 103 ) .(1/31)
وقال المفيد : " اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة ، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار"( بحار الأنوار للمجلسى 23/390، والمجلسى ذكر قول المفيد لتأييد رأيه ) . والمفيد كان رأس الإمامية ، وشيخاً لشيخ طائفتهم أبى جعفر الطوسي .
وإلى جانب ضلال هؤلاء القوم وغلوهم نجد غلوهم في جانب آخر ، فهم يرون أن الفاسق منهم يدخل الجنة وإن مات بلا توبة ! (انظر أجوبة المسائل الدينية - العدد الثامن-المجلد التاسع ص 226وراجع كتابى : فقه الشيعة الإمامية 1/15).
الإمام كالنبي في عصمته وصفاته وعلمه :-
فالإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، من سن الطفولة إلى الموت ، عمداً وسهواً ، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان !
ويجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق .
أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله .
وإذا استجد شئ فلابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقى ، لا يخطئ فيه و لايشتبه عليه ، و لا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية ، ولا إلي تلقينات المعلمين ، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد . وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسدده ويرشده ويعلمه ، فلما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده . ولم يصعد ليؤدى نفس وظيفته مع الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم (32[32]).(1/32)
لابد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين ، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ، ورفع الظلم والعدوان من بينهم ، وعلى هذا فإن الإمامة استمرار للنبوة .
الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم ، وهم الشهداء على الناس ، وأبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه . فأمرهم أمر الله تعالى ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته ، ووليهم وليه وعدوهم عدوه . ولا يجوز الرد عليهم ، والراد عليهم كالراد على الرسول ، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى ، فيجب التسليم لهم ، والانقياد لأمرهم ، والأخذ بقولهم .
ولذا فالجعفرية يعتقدون أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير ماء أئمتهم ، ولا يصح أخذها إلا منهم ، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى ، غيرهم ، و لايطمئن بينه وبين الله تعالى إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم .
مادامت الإمامة كالنبوة فهى لا تكون إلا بنص من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو على لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق ، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه هادياً ومرشداً لعامة البشر ، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه ، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله تعالى ، ولا يعين إلا بتعيينه .(1/33)
ويعتقدون كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خليفته والإمام في البرية من بعده ، فعين ابن عمه على بن أبى طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحى ،وإماماً للخلق في عدة مواطن ، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم غدير خم . كما أنه صلى الله عليه وسلم بين أن الأئمة من بعده اثنا عشر ، نص عليهم جميعاً بأسمائهم ، ثم نص المتقدم منهم على من بعده .
6-الأئمة الاثنا عشرية الذين نص عليهم الرسول صلى الله عليه وسلمهم :-
1- ابو الحسن على بن أبى طالب ( المرتضى ) الذي ولد قبل البعثة بعشر سنوات ، واستشهد سنة أربعين من الهجرة .
2- أبو محمد الحسن بن على " الزكى "
(3-50)
3- أبو عبد الله الحسين بن على "سيد الشهداء "
(4-61)
4- أبو محمد على بن الحسين " زين العابدين "
(38-95)
5-أبو جعفر محمد بن على " الباقر"
(57-114)
6- أبو عبد الله جعفر بن محمد " الصادق "
(83-148)
7- أبو إبراهيم موسى بن جعفر " الكاظم "
(128-183)
8- أبو الحسن على بن موسى " الرضا "
(148-202 أو 203)
9- ابو جعفر محمد بن على " الجواد "
(195-220)
10-أبو الحسن على بن محمد " الهادى "
(212أو 214-250)
11-أبو محمد الحسن بن على " العسكري"
(232-260)
12-أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدى " وهو الحجة في هذا العصر الغائب ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً . قيل ولد سنة 256 هـ ، وغاب غيبة صغرى سنة 260 هـ ، وغيبة كبرى سنة 329
تعقيب
بعد بيان عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم أذكر بما يأتي :-(1/34)
جعلهم الإمامة أصلا من أصول الدين فيه طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فما منهم من أحد يقول بالإمامة التي تقصدها هذه الفرقة ، حتى أن الإمام علياً رضى عنه هو نفسه لم يقل بهذا كما بينت وأثبت فيما جاء تحت عنوان " رابعاً : على وبيعة من سبقه " ، وأول من قال بالوصى بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ كما نقلت من المراجع الشيعية نفسها في التمهيد .
إجماعهم على تكفير من حارب أمير المؤمنين على بن طالب رضي الله عنه يعنى تكفير آلاف الصحابة الكرام البررة ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شهد لهم بالخيرية ، وبشر بعضهم بالجنة ، بل يصطدم مع كتاب ربنا عز وجل ، فمنهم من شهد الله سبحانه وتعالى بأنه رضى عنهم ، ولم يثبت أنه عاد فسخط عليهم فمن أين إذن جاءوا بهذه الفرية الكبرى ؟!
ما سبق من قول المفيد ـ شيخ طائفتهم الطوسي ، وابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق ، وصاحب أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم ، وابن المطهر الحلى الملقب عندهم بالعلامة ، وغيرهم يدل على أنهم يرون تكفير الأمة كلها ما عدا الرافضة وأتباع عبد الله بن سبأ ، وعلى الأخص خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه . وهذا ما سنراه عند تناولنا لكتاب الكافى للكلينى ، وهو أول وأعلى كتب الحديث المعتمدة عندهم ، وكتاب شيخه على بن إبراهيم القمي في التفسير .(1/35)
وفى كتابى " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت أن عبد الله الحسين شرف الدين يرى هذا الرأي الفاجر الكافر الضال ، وهذا يقطع بأن مسألة تكفير الأمة والصحابة الكرام ليس مسألة تاريخية جاءت في كتب التراث عندهم كما يحلو لدعاة التقريب عن جهل أو تضليل أن يبرروا هذا الضلال. بل إن عبدالحسين الذي يرى هذا الرأي ذكر أنه من دعاة التقريب !! وقد جاء هذا في أحد مؤتمرات التقريب في طهران ، وعبدالحسين في كتابيه المراجعات والفصول المهمة في تأليف الأمة يعتبر فعلاً من دعاة التقريب ولكن بمفهوم خاص !! فهو يدعو إلى تأليف الأمة كلها وجمعها تحت راية عبد الله بن سبأ ، وجعلها جميعها من الرافضة التي رفضت تبرئة الشيخيين خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت على تكفيرهما وتكفير من بايعهما !!
ويحضرنى هنا ما اشتهر عن أبى زرعة الرازى أنه قال :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق : وذلك أن القرآن حق ، والرسول صلى الله عليه وسلم حق ، وما جاء به حق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة . فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
قولهم بوجوب استمرار الإمامة أبداً دون انقطاع أو توقف إلى يوم القيامة بعد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ في أحد من نسله ، بحيث يكون الابن خلفا للأب ، هذا القول جعلهم يضطرون إلى تنصيب طفل صغير في السابعة من عمره ، وهو إمامهم محمد الجواد الإمام التاسع ، ولذلك وجدنا فرقتين من شيعة أبيه على الرضا لم يعترفوا بإمامته لأنهم استصبوه واستصغروه . وفى كتاب فرق الشيعة (ص 92) للنوبختى والقمى الشيعيين جاء بيان هذا حيث قالا :(1/36)
" إن أبا الحسن الرضا عليه السلام توفى وابنه محمد ابن سبع سنين ، فاستصبوه واستصغروه ، وقالوا : لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا ، ولو جاز أن يأمر الله ـ عز وجل ـ بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ ، فإنه كما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ ، فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس ، دقيقه وجليله، وغامض الأحكام وشرائع الدين ، وجميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها ، طفل غير بالغ ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة ، لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولة ، حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق ، وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف " ا. هـ
وكذلك اعتبروا ابنه عليا الهادى إماما وهو في السادسة من عمره ، وعلى قول آخر في الثامنة ، أي أنه كسابقه في سن الطفولة !
وأعجب من هذا كله قولهم بعد إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري : فقد توفى ولم ير له خلف ، ولم يعرف له ولد ظاهر ، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه ، فافترق أصحابه من بعده أكثر من عشر فرق ، فاخترع الاثنا عشرية له ابنا طفلا إماما حيا لا يموت إلى يوم القيامة !! وهو غائب يحج كل عام يرانا و لانراه !!
والإمامية الذين ساروا مع ضلال الاثنى عشرية في أحد عشر إماما ، جميعهم ـ ما عدا فرقة واحدة ـ قالوا وأكدوا أن الحسن العسكري ليس له ولد .(1/37)
من يراجع كتب الفرق يجد ظاهرة عامة وهى افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عند موت كل إمام ، وكل فرقة من هذه الفرق يمكن أن تفترق هي الأخرى إلى عدة فرق . وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان لشىء من هذا في موضوع تدوين السنة عند الشيعة في الجزء الثالث ، ونجد من هذه الفرق من بلغت درجة تأليه بعض البشر ، والشرك بالله عز وجل ، ومن ادعت نبوة فرد من أفرادها ، ومن استباحت اللواط ونكاح المحارم ، وقالت : من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه !
والمهم أن كل فرقة من هذه الفرق الضالة تزعم أنها هي الفرقة الناجية ، وأنها تمثل مذهب أهل البيت ! وأهل البيت الأطهار الأبرار برءاء منهم جميعاً .
وإن تعجب فعجب قول كل فرقة أنها مؤيدة بالكتاب العزيز ، والسنة المطهرة !!
ويأتى لهذا مزيد بيان في الفصل التالي ، وفى التدوين وكتب الحديث عند الاثنى عشرية في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
الفصل الثاني
أدلة الإمامة من القرآن العظيم
" بين يدى الفصل "
من المعلوم أن القرآن الكريم ليس فيه نص ظاهر يؤيد المذهب الجعفرى ، فلجأ معتنقوه إلى التأويل ، والاستدلال بروايات ذكرت في أسباب النزول لآيات كريمة . وأهم ما استدل به الجعفرية هو :
قال تعالى :
" إِنمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " (33????)
هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية ، ويقولون : إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل هو على بن أبى طالب ، لأن لفظة " إنما " تفيد الحصر و " وليكم " تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته ، والآية الكريمة نزلت في على بلا خلاف - كما يقولون - عندما تصدق بخاتمه وهو راكع .
في آية المباهلة(1/38)
" فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " (34[34])
3 - قال تعالي :
" وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (35[35])
قالوا :إن المراد بأهل البيت هنا على وفاطمة والحسن والحسين ، وهذه الآية الكريمة تدل على عصمتهم ، والإمامة تدور مع العصمة .
4- قال سبحانه وتعالى :"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (36[36])
قالوا : إن هذه الآية الكريمة قد أبطلت إمامة كل ظالم ، فصارت في الصفوة من ذرية إبراهيم الخليل . ومن عبد غير الله ولو لحظة فهو ظالم ، وعلى هو الذي لم يعبد صنماً قط . أما غيره من الخلفاء فهم ظالمون لا يستحقون هذه الخلافة .
ومعنى هذا أن القرآن الكريم - على قولهم - قد أشار في أكثر من موضع أن عليا هو المستحق للإمامة دون غيره ، ولذلك فهم يعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علىِّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس ، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره ، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم ، وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك ، فأوحى إليه :(1/39)
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (37[37])
فلم يجد بداً من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد ، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم ، فنادى وجلهم يسمعون :
" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : اللهم بلى . فقال : من كنت مولاه فهذا على مولاه ، إلى آخر ما قال ، ثم أكد ذلك في مواطن آخرى تلويحاً وتصريحاً ، وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة(38[38]).
وقبل أن ينصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من غدير خم وقبل أن يتفرق الجمع نزل قوله تعالى : "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " (39[39])(1/40)
فقال رسول صلى الله عليه وسلم : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتى ، والولاية لعلى من بعدى ، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين وفى مقدمتهم الشيخان(40[40]). فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها ، فقال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلى خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك ففضلته علينا ، وقلت من كنت مولاه فعلى مولاه ، فهذا شىء منك أم من الله عز وجل ؟ فقال : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله . فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله عز وجل : "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " (41[41])الآيات (42[42])
هذه الآيات الكريمة السبعة السابقة هي أساس ما يستدلون به من القرآن الكريم ، فلنعرض رأيهم ، ونناقشه بالتفصيل .
أولا : الولاية
ننظر في الآية الكريمة الأولى ، آية الولاية كما يسميها الجعفرية والتي يعتبرونها نصاً صريحاً في إمامته ، فنجد أنهم يروون أنها نزلت في على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فأومى بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره .
وقالوا في المعنى : إن الله تعالى بين من له الولاية على الخلق ، والقيام بأمورهم ، وتجب طاعته عليهم فقال :(1/41)
"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ" أي الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، " وَالَّذِينَ آمَنُواْ " ثم وصف الذين آمنوا فقال:" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ " بشرائطها "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" أي يعطونها في حالة الركوع .
ثم قالوا : هذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة على بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ، والوجه فيه أنه إذا ثبت أن لفظ وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته ، وثبت أن المراد بالذين آمنوا على ، ثبت النص عليه بالإمامة ، ووضح . الذي يدل على الأول هو الرجوع إلى اللغة ، فمن تأملها علم أن القوم نصوا على ذلك ، ولا يجوز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة ، لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر ، ولفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور . والذى يدل على أن المراد بالذين آمنوا على الروايات الكثيرة . فهو وحده الذي تصدق في حال الركوع ، كما أن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية ، وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه (43[43]).
هذا ما ذهب إليه الجعفرية ، ولكن أهل التأويل - كما يقول الطبري(44????).
-اختلفوا في المعنى بقوله تعالى :
"وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"، فقال بعضهم : عنى به على بن أبى طالب ، وقال بعضهم : عنى به جميع المؤمنين .
وذكر الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه القائلون بأن المعنى به جميع المؤمنين ، وفى بعضها تعجب ممن سأل عن المراد بالذين آمنوا ، لأنه يسأل عن شيء لا يسأل عن مثله . ثم ذكر روايتين :
الأولى : عن إسماعيل بن إسرائيل قال : حدّثنا أيوب بن سويد قال ، حدّثنا عتبة بن أبى حكيم في هذه الآية " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ " قال : على بن أبى طالب.(1/42)
الثانية : هي حدثني الحارث قال : حدثني عبدالعزيز قال : حدّثنا غالب بن عبيد الله قال ، سمعت مجاهداً يقول في قوله : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ " قال : نزلت في على ابن أبى طالب ، تصدق وهو راكع .
والرواية الأولى في سندها أيوب بن سويد ، وعتبة بن أبى الحكيم : فأما أيوب فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما . وقال البخاري في الكبير " يتكلمون فيه " (45????) وأما عتبة فقد ضعفه ابن معين ، وكان أحمد يوهنه قليلاً ، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات (46[46]).
فهذه الراوية إذن ضعيفة السند . والرواية الثانية في سندها غالب بن عبيد الله وهو منكر الحديث متروك(47????) فراويته لا يؤخذ بها .
والحافظ ابن كثير عند تفسير الآية قال (48????) : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ " أي ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله :
"الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام ، وهى له وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين . وأما قوله "وَهمْ رَاكِعُون"َفقد توهم بعض الناس أ هذه الجملة في موضع الحال في قوله: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي في حال ركوعهم ، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح ، وليس الأمر كذلك عند أحد العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى . وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبى طالب أن هذه الآية نزلت فيه ، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه .(1/43)
وذكر ابن كثير الروايات التي تشير إلى هذا ، ثم بين أنها لا يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها . ثم قال : وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حيث تبرأ من حلف اليهود ، ورضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
كما قال تعالى : "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(...أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" .
فكل من رضى بولاية الله ورسله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ، ومنصور في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة . " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
وبعد هذا كله نذكر بعض الملاحظات :
بدراسة روايات الطبري ، ومما ذكره الحافظ ابن كثير ، نجد أن رواية التصدق في حالة الركوع لا تصح سنداً ، يضاف إلى هذا أن كتب السنة التي رجعت إليها لم أجد فيها ذكراً لمثل هذه الرواية(49[49]).
الروايات مرفوضة كذلك من ناحية المتن كما أشار ابن كثير وغيره ، فالفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات ، سواء أكانت كثيرة أو قليلة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ، ولكن تؤثر قصوراً في معنى لإقامة الصلاة ألبتة (50[50]).(1/44)
قال ثعلب : الركوع الخضوع ، ركع يركع ، ركعاً وركوعاً : طأطأ رأسه . وقال الراغب الأصبهانى : الركوع الانحناء ، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل : إما في العبادة ، وإما في غيرها . وكانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان ، ويقولون : ركع إلى الله ، قال الزمخشري : أي اطمأن ، قال النابغة الذيبانى :
سيبلغ عذراً أو نجاحاً من امرئ إلى ربه رب البرية راكع
وتقول : ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له ، ومنه قول الشاعر :
بيعت بكسر لئيم واستغاث بهامن الهزال أبوها بعد ما ركعا
يعنى بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة .
ومنه كذلك : لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً كما قيل في قوله سبحانه:" وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" ، إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع . وكذا في قوله تعالى " وَخَرَّ رَاكِعًا " إلى غير هذا(51[51])
فقوله تعالى :- " وَهُمْ رَاكِعُونَ " يعنى به وهم خاضعون لربهم منقادون لأمره ، متواضعون متذللون في أدائهم للصلاة وإيتائهم للزكاة ، فهو بمعنى الركوع الذي هو في أصل اللغة بمعنى الخضوع .
وأرى تأييد لهذا المعنى مجئ الآية الكريمة بالفعل المضارع ، فهو يدل على أن الآية الكريمة لا تشير إلى حادثة حدثت وانتهت ، وإنما تدل على الاستمرار والدوام ، أي أن صفات المؤمنين وطبيعتهم الصلاة والزكاة وهم راكعون ، ولا يستقيم المعنى - بغير تكلف - أن يكون من صفاتهم إخراج الزكاة أثناء الصلاة .
ذكر الشيعة أن التصدق أثناء الركوع لم يقتصر على أمير المؤمنين ولكن اقتدى به باقي أئمتهم جميعاً ! وهنا يرد تساؤل : إذا كان هذا العمل من الفضائل التي امتدح بها أبو الأئمة وتبعه جميعهم فكيف لم يحرص على هذه الفضيلة سيد الخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه ؟وكذلك سائر الأمة ؟(1/45)
5. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : " وَهُمْ رَاكِعُونَ" ما يأتي:
" الواو فيه للحال : أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذ صلوا وإذا زكوا . وقيل هو حال من يؤتون الزكاة بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، وأنها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه كأنه كان مرجا في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
فإن قلت : كيف صح أن يكون لعلى رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير في الصلاة لم يؤخروه إلى الفرغ منه " (52[52])
والزمخشرى هنا ذكر أولاً المعنى المفهوم من النص ، ثم ما قيل في سبب النزول دون تمحيص ، وقد ظهر أن سبب النزول هذا غير صحيح ، فلا ضرورة للتأويل الذي ذهب إليه . ثم ما هذا الأمر الذي لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ؟ ألم يكن الأفضل أن يصلى السائل مع المصلين ؟ أو أن ينتظرهم حتى تنتهى الصلاة ؟ وكيف يذهب لراكع يسأله الصدقة ويشغله عن الصلاة ؟ ولو وجد مثل هذا السائل فكيف نشجعه على ارتكاب خطأ جسيم كهذا ؟
6. سبق قول الإمامة بأن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وهذا نوع من الجدل العقيم ، لأن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً لا أن يكون كل واحد منهم ولى نفسه . كما أن الخطاب موجه كذلك إلى أولئك الذي تبرءوا من ولاية اليهود فأولياؤهم المؤمنون ، وهم أيضاً أولياء لغيرهم من المؤمنين ، وفى مثل قوله تعالى :-(1/46)
" وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ " خطاب للمؤمنين جميعاً أفمعنى هذا أنه نهى لكل مسلم أن يلمز نفسه ؟! قال الألوسى : كيف يتوهم من قولك مثلاً : أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهى لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه ؟! (53????)
7. من المعلوم لدى جميع العلماء - شيعة وسنة - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلوصح ما ذكر في سبب النزول لا نطبق على كل من يتصف بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع كما ذكروا ، أو الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء كما أوله الزمخشري .
8. كلمة الولى تأتى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وتأتى بمعنى الناصر والخليل ، والسياق يحدد المعنى المراد ، والقرآن الكريم عندما يأمر بموالاة المؤمنين ، أو ينهاهم عن موالاة غير المؤمنين من الكفار وأهل الكتاب تأتى الموالاة بمعنى النصرة والمحبة كقوله تعالى :- " وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا" (54????)
وقوله عز وجل : " الذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " (55????)
وقوله سبحانه : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " (56????)
ولم يخرج عن هذا المعنى إلا حالات خاصة كولاية الدم وولاية السفيه . ولكن حالة من هذه الحالات لم تأت بمعنى الولاية العامة على المؤمنين (57[57]) أفآية الولاية شذت عن هذا النسق القرأنى ؟(1/47)
وقبل هذه الآية الكريمة جاء قوله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (58????) . فهذا نهى عن موالاة من تجب معاداتهم . ثم بينت الآية الكريمة - آية الولاية - من تجب موالاتهم ، ثم جاء النهى مرة أخرى في قوله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (59????)
ولا شك أن الذي جاء قبل الآية الكريمة وبعدها ينهى عن المالاة في الدين والمحبة ، فإذا جاء الأمر بالموالاة بين نهيين فإنه قطعاً لا يخرج عن هذا المعنى إلا بدليل آخر .
فكلمة " وليكم " ليست دليلاً على أن الإمامة العظمى لأبى الحسن - كرم الله وجهه . وإنما هي في حاجة إلى دليل يظهر أنها خرجت على الاستعمال القرآنى العام ، وعلى المفهوم الخاص لتلك الأيات الكريمة المتتابعة في سورة المائدة .
9. لا خلاف في أن لفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور ، ولكن الجعفرية بنوا على هذا عدم جواز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر .
وهذا الاستدلال أيضاً لا يستقيم ، فالموالاة مختصة بالمؤمنين جميعاً دون غيرهم ممن تجب معاداتهم ، وليست لمؤمن دون مؤمن ، بل إن هذا التخصيص يقتضى عكس ما ذهبوا إليه " لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع ، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف ، بل كان في النصرة والمحبة (60[60]).(1/48)
10. أمر الله تعالى للمؤمنين بموالاة أقوام ، ونهيه إياهم عن موالاة آخرين ، كل هذا صدر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ونفذ في حياته ، فكيف يكون إمام المسلمين الأعظم علياً مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
هذه بعض الملاحظات ، وأعتقد بعد هذا أن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة لا تدل بحال على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب . على أن هذه الآية الكريمة تعد أهم دليل قرآنى يستندون إليه . فلننظر بعد هذا في باقي الأدلة .
ثانياً : المباهلة
في آية المباهلة قالوا : اتفق المفسرون كافة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين ، والنساء إشارة إلى فاطمة ،والأنفس إشارة إلى على رضي الله تعالى عنه . ولا يمكن أن يقال : إن نفسهما واحدة ، فلم يبق المراد من ذلك إلا المساوى ، ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس فمساويه كذلك أيضاً (61[61]).
ونلاحظ هنا :
لو سلمنا بكل ماسبق فإن الآية الكريمة لا تنص على إمامة أحد ، لأن ولاية أمر المسلمين تحتاج إلى قدرات خاصة تتوافر في صاحبها ، حتى يستطيع أن يقود الأمة بسلام ، ويرعى مصالحها على الوجه الأكمل ، والآية الكريمة لا تشير إلى شىء من هذا و لاتتعرض للخلافة على الإطلاق ، وإنما تذكر الأبناء والنساء والأنفس في مجال التضحية لإثبات صحة الدعوى ، وهؤلاء المذكورون من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يتحقق للمعاندين صحة دعواه لتقديمه للمباهلة أقرب الناس إليه . وفرق شاسع بين مجال التضحية ومجال الإمامة ، ففي التضحية يمكن أن يقدم النساء والصغار ولكنهم لا يقدمون للخلافة .
القول بأن الإمام عليا يساوى الرسول صلى الله عليه وسلم غلو لا يقبله الإمام نفسه كرم الله وجهه ، ويجب ألا يذهب إليه مسلم ، مكانة الرسول المصطفى غير مكانة من اهتدى بهديه واقتبس من نوره .(1/49)
لو قلنا : أن الآية الكريمة تدل على أفضلية الإمام على رضي الله عنه فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة حتى عند بعض فرق الشيعة أنفسهم كالزيدية ، وهذا لا يمنعه الشرع ولا العقل ، لأن المفضول بصفة عامة قد يكون أفضل بصفة خاصة فيما يتعلق بأمور الخلافة ومصلحة المسلمين ، وكان الرسول الكريم يولى الأنفع على من هو أفضل منه (62????) .
عقب ابن تيمية على قولهم بأن الله تعالى جعل عليا نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :هذا خطأ ، وإنما هذا مثل قوله : "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُموهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا " (63????)
وقوله تعالى :"فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ " (64[64]) ، " وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيارِكُمْ "(65????)
فالمراد بالأنفس: الإخوان نسباً أو ديناً (66????) .
قال الزمخشري : " فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه . وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم . وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل لا شىء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام (67????).
وبعد : فمهما اختلفت الأقوال فالآية الكريمة تدل على مكانة أولئك الذين قدموا للمباهلة ، ولكن هذا لا صلة له بالخلافة كما بينا .
ثالثاً : التطهير(1/50)
قال تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاوَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا "(68????) فخير الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته ، فاخترن جميعاً الله ورسوله والدار الآخرة ، واستحققن بعد هذا الاختيار مخاطبة الله تعالى لهن بقوله :" يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ ((.... " إلى قوله تعالى " لَطِيفًا خَبِيرًا " (69????) . فهذه الآيات الخمس في نساء النبي كما يبدو ، ولكن جدلاً كثيراً دار حول عجز الآية الثالثة والثلاثين " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"
وهذا الجزء يطلق عليه اسم آية التطهير ، ويرى الشيعة أنه لا صلة له بما قبله ولا بما بعده ، وإنما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والسيدة فاطمة الزهراء والإمام على وبنيهما الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم جميعاً ، وأنه يدل على عصمتهم ، ومن ثم يستدلون به على مذهبهم في الإمامة .
فاستدلالهم ينبنى على ثلاث نقاط هي : تحديد المراد بأهل البيت في الآية الكريمة ، ثم دلالة الآية على عصمتهم ، وأخيراً التلازم بين العصمة والإمامة .
وقد ذهبوا إلى أن المراد بأهل البيت هم هؤلاء الخمسة فقط مستدلين بشيئين:(70????) .
الأول : الخطاب في قوله تعالى " عنكم " ، " يطهركم " بالجمع المذكر يدل - كما يقولون (- على أن الآية الشريفة في حق غير زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فسياق الآيات يقتضى التعبير بخطاب الجمع المؤنث ؛ أي " عنكن " و " يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات .(1/51)
الثانى : أخبار تدل على أنها في الخمسة الأطهار .
وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد قوله : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ"( 71????) وهذا خطاب لامرأة إبراهيمرضي الله عنه.
وقوله تعالى:" فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ" (72????) ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب .
وقوله تعالى :" وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ "(73[73])
وقوله عز وجل :" إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" (74[74])
وقوله تعالى : " وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " (75[75])
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستعمال القرآنى لا يمنع أن يكون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة نساء النبي مع الخطاب بالجمع المذكر ، بل إن المذكر هو الذي يتمشى مع هذا الاستعمال ، فلم أجد التعبير بالمؤنث مع كلمة الأهل - سواء أأريد بها الزوجات أم غيرهن - في القرآن الكريم كله (76[76]).
واحتج طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " . وهذا الحديث متفق عليه .(1/52)
وكذلك بما ورى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل : اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته ، كما صليت على آل إبراهيم ، إنك ، حميد مجيد " (77????).
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : " بنى على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً .... فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك ، فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما قال لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة " (78????)
كما أن المعنى اللغوى للأهل لا يخرج الزوجات (79????).
فالاستعمال القرآنى والنبوي واللغوى لا يخرج الزوجات من آية التطهير، والسياق إن لم يحتم دخولهن فعلى أقل تقدير يعتبر مرجحاً . هذا بالنسبة لأمهات المؤمنين . ولكن سواء أشملتهن الآية أم لم تشملهن ، فإن تخصيص المراد بالخمسة لا يكون إلا إذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك . فلننظر إذن في الروايات .
قال الطبري : حدثني محمد بن المثنى ، قال ثنا بكر بن يحيى بن زياد العنزى ، قال ثنا مندل عن الأعمش عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت هذه الآية في خمسة : في وفى على رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها " (80????).
وذكر الطبري بعد ذلك كثيراً من الروايات التي تبين أن الآية الكريمة تعنى هؤلاء المذكورين أو بعضهم ، ثم ذكر أخيراً ما روى عن عكرمة من أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة (81????).(1/53)
والروايتان الأولى والأخيرة فيهما نظر ، فأما الأولى ففي سندها عطية عن أبى سعيد الخدري ، وعطية هذا كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد ليوهم أنه الخدري . وقد ضعفه أحمد والنسائى وغيرهما (82????).
أما الرواية الأخيرة فذكرت أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس ، وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم (83????) . فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فهذا يتفق مع ما ذهب إليه كثير من المفسرين . وراوية عطية المذكورة ظهر ضعفها فلا أثر لمعارضتها ، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن فهذا معارض بكثير من الروايات ، ولذلك فالرواية لا تقٌبل إلا على الوجه الأول .
وروايات الطبري الأخرى منها رواية عن السيدة عائشة قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم قال : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" وهذه الرواية تقتصر على الحسن ، ولكنها بلا شك لا تمنع كون غيره من أهل البيت ، وقد روى الإمام مسلم عنها رواية مماثلة وفيها دخول باقي الخمسة الأطهار.
وروى الطبري عن أنمس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ" . وهذه الرواية كذلك لا تمنع شمول الآية لغير من ذكر .
وروى عدة روايات عن أم سلمة : قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي ، وعلى فاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة (84[84]) ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً "(1/54)
وفى رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم أجلسهم على كساء ، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله ، فضمه فوق رءوسهم ، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .
وهاتان الروايتان تتفقان مع رواية مسلم عن السيدة عائشة في دخول الخمسة في الآية ، ولكن هذا لا يحتم عدم دخول غيرهم .
وذكر الطبري روايتين عن واثلة بن الأسقع تتفقان مع الروايات الثلاثة السابقة وتدخلانه هو مع أهل البيت ، ففي إحداهما :
عن أبى عمار قال : إنى لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا علياً رضي الله عنه ، فشتموه ، فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، إنى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه على وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ( قلت : يا رسول الله وأنا ؟ قال وأنت . قال : فوالله إنها لأوثق عمل عندي . وفى الأخرى : اللهم هؤلاء أهلي ، اللهم أهلي أحق . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي . قال واثلة ، إنها لمن أرجى ما أرتجى ) .
ولكن باقي روايات الطبري عن أم سلمة فيها زيادات تشير إلى عدم دخولها مع أهل الكساء . وهذه الروايات هي :-
حدثني أبو كريب قال : ثنا وكيع ، عن عبدالحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلل عليهم كساء (85[85]) خيبرياً ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت أم سلمة : ألست منهم ؟ قال : أنت إلى خير.(1/55)
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا حسن بن عطية ، قال : ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية ، عن أبى سعيد ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في بيتها "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت ، وفى البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، قال : ثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثنا هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبى وقاص عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرتني أم سلمة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا والحسين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ثم قال : هؤلاء أهل بيتي . فقالت أم سلمة : يا رسول الله أدخلنى معهم . قال : إنك من أهلي " .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا عبدالرحمن بن صالح ، قال : ثنا محمد بن سليمان الأصبهانى ، عن يحيى بن عبيد المكى ، عن عطاء عن عمر بن أبى سلمة ، قال : " نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة ، وأجلسهم بين يديه ، ودعا علياً فأجلسه خلفه . فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطيراً . وقالت أم سلمة أنا معهم مكانك ، وأنت على خير "(1/56)
حدثنا ابن حميد ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم ابن سعد قال : " ذكرنا على بن أبى طالب رضي الله عنه عند أم سلمة ، قالت: فيه نزلت "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" قالت أم سلمة : جاء النبي : صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، فقال : لاتأذنى لأحد ، فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه ، وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم على بساط ، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا ، قالت : فوالله ما أنعم وقال : إنك إلى خير "
وبالنظر في هذه الروايات نجد ما يأتي :
أولاً: في الروايتين الأولى والثانية ينتهى الإسناد إلى عطية عن أبى سعيد عن أم سلمة ، وقد بينا ضعف عطية ورواياته عن أبى سعيد .(1/57)
ثانياً :- في إسناد الرواية الثالثة " خالد بن مخلد " : وهو متكلم فيه : وثقة عثمان بن أبى شيبة وابن حبان والعجلى ، وقال ابن معين وابن عدى : لا بأس به ، وقال أبو حاتم ، يُكتب حديثه ، وقال الآجري عن أبى داود : صدوق ولكنه يتشيع ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : له أحاديث مناكير ، وقال ابن سعد : كان متشيعا منكر الحديث في التشيع مفرطاً ، وكتبوا عنه للضرورة . وقال صالح بن محمد جزرة : ثقة في الحديث إلا أنه كان متهماً بالغلو . وقال الجوزجانى : كان شتاماً معلناً لسوء مذهبه . وقال الأعين : قلت له : عندك أحاديث في مناقب الصحابة ؟ قال : قل في المثالب أو المثاقب ، يعنى بالمثلثة لا بالنون . وحكى أبوالوليد الباجى في رجال البخاري عن أبى حاتم أنه قال : لخالد بن مخلد أحاديث مناكير و'يكتب حديثه . وقال الأزدى : في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق . وذكره الساجى والعقيلى في الضعفاء (86????) .
من هنا نرى أن ما يرويه خالد عن مخلد متصلاً بمذهبه الشيعي لا يحتج به (87????).
وفى إسناد هذه الرواية كذلك يروى خالد عن موسى بن يعقوب ، وهو متكلم فيه أيضاً : وثقه ابن معين وابن حبان وابن القطان ، وقال الآجري عن أبى داود : هو صالح ، وقال ابن عدى : لابأس به عندي ولا برواياته . وقال على بن المديني : ضعيف الحديث : منكر الحديث .
وقال النسائي: ليس بالقوى - وقال أحمد : لا يعجبني .(1/58)
ثالثاً: في إسناد الرواية الرابعة عبدالرحمن بن صالح ، وهو من شيعة الكوفة ومتكلم فيه : وثقه أبو حاتم وابن حبان وغيرهما . وقال موسى بن هارون : كان ثقة وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآجري عن أبى داود : لم أر أن أكتب عنه ، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : وذكروه مرة أخرى فقال : كان رجل سوء . وقال ابن عدى : معروف مشهور في الكوفيين لم يُذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع (88????).
وفى الإسناد أيضاً محمد بن سليمان الأصبهانى : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم : لا بأس به . يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدى : مضطرب الحديث ، قليل الحديث ، ومقدار ماله قد أخطأ في غير شىء منه . وضعفه النسائي.
رابعاً: في سند الرواية الأخيرة عبد الله بن عبدالقدوس ، وهو شيعي متكلم فيه :
قال البخاري : هو في الأصل صدوق إلا أنه يروى عن أقوام ضعاف . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : ربما أغرب . وقال عبد الله بن أحمد : سألت ابن معين عنه قال : ليس بشىء ، رافضى خبيث . وقال محمد بن مهران الحمال : لم يكن بشىء كان يُسخر منه يشبه المجنون يصيح الصبيان في أثره . وقال أبو داود : ضعيف الحديث كان يرمى بالرفض ، قال وبلغنى عن يحيى أنه قال : ليس بشىء . وقال أبو أحمد الحاكم : في حديثه بعض المناكير وضعَّفه النسائي والدار قطنى(89????).
وفى سند الرواية كذلك ضعف آخر ، فالأعمش - وهو مدلس - لم يذكر ما يفيد سماعه من حكيم .
بعد النظر في أسانيد هذه الروايات يمكن القول بأنها ليست حجة يرد بها دلالة السياق ، والظاهر من الآيات الكريمة ، فكيف إذن يحتج بمثل هذه الروايات لإثبات أصل من أصول العقيدة ؟(90????)(1/59)
وذكر الترمذي رواية عن أم سلمة وفيها : وأنا معهم يا نبي الله ؟ قال:أنت على مكانك وأنت إلى خير . ثم عقب على الحديث بقوله : إنه غريب(91????) .
وفى أبواب العلل يتحدث عن الغريب فيقول:" أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان : رُب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد((.... ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث ، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه .... ، ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد " .
ومعنى الحديث يتفق مع ما ذكره مسلم ، فلعل الترمذي استغربه من أجل هذه الزيادة .
والحافظ ابن كثير ذكر الآية الكريمة وقال : (92[92]) إنها نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً : إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح.
وذكر روايات الطبري وروايات أخرى ، ثم ذكر رواية في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدُعى خما بين مكة والمدينة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : " أما بعد: " ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً " . فقال له حصين . ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال ومن هم ؟ قال : هم آل على ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، رضي الله عنهم .(1/60)
وذكر رواية مسلم الأخرى عن زيد أيضاً بنحو ما تقدم وفيها : فقلت له : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا . وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (93????).
ثم قال ابن كثير : هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى والأخذ بها أحرى . وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله ، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها ، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت ،فإن في بعض أسانيدها نظراً والله أعلم .
ويؤيد هذا الاحتمال الذي ذكره ابن كثير أن السؤال في الحديث الأول فيه من التبعيضية " أليس نساؤه من أهل بيته ؟ وفى رواية مماثلة عن زيد أيضاً في المسند : قال حصين : " ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " (94????) . فهنا تأكيد أن نساءه من أهل بيته .(1/61)
وقال ابن كثير بعد ذلك : الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلمداخلات في قوله تعالى : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" فإن سياق الكلام معهن ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ((... ("ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي أحق " ، وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال : " هو مسجدى هذا " ، فهذا من هذا القبيل ، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر ، ولكن إذا كان ذلك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك والله أعلم .وبمثل هذا قال ابن تيمية من قبل (95????).(1/62)
وقال القرطبى (96????) : قوله تعالى:" وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ " . هذه الألفاظ تعطى أن أهل البيت نساؤه ، وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت ، ومن هم ؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس : هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ " وقالت فرقة منهم الكلبى : هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة . وفى هذا أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام . واحتجوا بقوله تعالى " لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ " " بالميم " ولو كان للنساء خاصة لكان " عنكن ويطهركن " ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل . كما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ؟ أي امرأتك ونساؤك ، فيقول هم بخير ، قال تعالى : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ" ، الذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيره . وإنما قال " ويطهركم " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم ، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت . لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، يدل عليه سياق الكلام والله أعلم .(1/63)
ثم قال القرطبى : " فكيف صار في الوسط كلام منفصل لغيرهن ، وإنما هذا جرى في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية ، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بهاالأزواج ، فذهب الكلبى ومن وافقه فصيرها لهم خاصة ، وهى دعوة لهم خارجة من التنزيل .
وممن صير الآية لأهل الكساء خاصة أبو جعفر الطحاوي ، فقد انتهى إلى هذا في كتابه مشكل الآثار (97????) وبنى رأيه على مجرد احتمالات فقال : إن أم سلمة من أهله لأنها من أزواجه ، وأزواجه أهله ، كما قال في حديث الإفك : " من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ؛ والله ما علمت في أهلي إلا خيراً " ليحتمل أن يكون قوله لأم سلمة أنت من أهلي من هذا المعنى أيضاً لا أنها من أهل الآية المتلوة في هذا الباب . واستدل ببعض الروايات المذكورة عنها ، وفى بعضها : وما قال إنك من أهل البيت ، وفى أخرى : أنت من أزواج النبي ، وأنت على خير أو إلى خير .
وفى رواية : قلت يا رسول الله : ألستُ من أهلك ؟ قال : بلى (98????).
قالت : فأدخل في الكساء ؟ قلت : فدخلته بعد ما قضى دعاءه لابن عمه على وبنيه وبنته فاطمة رضي الله عنهم .
وأرى أن الرواية الأخيرة تدل على دخولها في الآية لا على خروجهامنها ، فالسؤال متصل بدخولها فيمن شملتهم الآية . والجواب يؤيده . ودخولها في الكساء بعدهم أليق بالأدب النبوي ، فما كان صلى الله عليه وسلم ليدخل زوجته في كسائه مع ابن عمه .(1/64)
وذكر الطحاوي الاعتراض بأنها في آيات نساء النبي وقال : جوابنا له : أن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ " الآية خطاب لأزواجه ثم أعقب ذلك بخطاب لأهله بقوله" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ" فجاء على خطاب الرجال.... فعقلنا أن قوله خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ليعلمهم تشريفه لهم ، ورفعه لمقدارهم ، أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى .
ولكن جواب الطحاوي - لو صح - لاقتصرت الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لأن الآيات في نساء النبي ، فكيف تشمل غيره من الرجال والبنين فضلاً عن النساء ؟ وقد مر من قبل الحديث عن التعبير بالمذكر في الآية الكريمة ، وبيان ضعف الروايات التي تمنع شمول الآية الكريمة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم .
والطحاوي على أية حال حاول ألا يخرج على السياق ولكن الغريب أن نجد من يقول :
" الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ، ولا متصلة بها ، وإنما وضعت بينها . إما بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة "(99[99]).
فكيف أن عجز آية ُيضم إلى صدرها و لا صلة بينهما ؟ ثم كيف يكون الصدر متصلاً بما قبله وما بعده ، والعجز يبعد عن هذا كل البعد ؟ وما الحكمة في وضعه هنا إذن ؟ والأشد غرابة ونكراً أن يوجد احتمال وضعه بدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الطبرسي : " متى قيل إن صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فالقول فيه أن هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم ، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ، والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم " (100[100]).
وهذا القول وإن كان ينقصه الدليل ، وبيان الحكمة المقتضية لمثل هذا ، وبالذات إذا كان الخروج إلى ما ليس له علاقة بالموضوع ، هذا القول لا ينزل إلى مستوى القول السابق .(1/65)
ونخرج من هذا بأن آية التطهير في نساء النبي وغيرهم من أهل البيت كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا كان لأحد أن يتكلم في شمولها لأمهات المؤمنين فليس هناك دليل على الإطلاق يخرج باقي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأي دليل يمنع شمولها لباقى بنات النبي ؟ ومفارقتهن للحياة قبل نزول الآية لا يعنى عدم إرادة تطهيرهن في حياتهن ، وما الذي يمنع دخول باقي ذرية الإمام على ؟ وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس ؟
وعلى القول بأنها منحصرة في الخمسة كيف تتعداهم إلى غيرهم من باقي الأئمة الاثنى عشر؟ ولماذا لم تشمل أئمة الزيدية مثلاً أو الإسماعيلية أو باقي فرق الشيعة التي جاوزت السبعين ؟
وننتقل بعد هذا إلى دلالة الآية الكريمة على العصمة . قال الطوسي(101[101]):
" استدل أصحبنا بهذه الآية أن في جملة أهل البيت معصوماً لا يجوز عليه الغلط وأن إجماعهم لا يكون إلا صواباً بأن قالوا : ليس يخلو إرادة الله لإذهاب الرجس عن أهل البيت بأن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصى ، أو يكون عبارة عن أنه أذهب عنهم الرجس بأن فعل لهم لطفاً اختاروا عنده الامتناع من القبائح ، والأول لا يجوز أن يكون مراداً لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكفلين ، فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيرهم ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم ؟ على أن لفظة إنما تجرى مجرى ليس ، فيكون تلخيص الكلام (ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد من أهل البيت ) ، فدل ذلك على أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم ، وذلك يدل على عصمتهم" (102[102])
وقد انفرد الجعفرية بهذا القول ، وخالفوا أهل التأويل جميعاً ، وما ذكروه فيه نظر لعدة أمور :
مخالفتهم لأهل التأويل جميعاً يجعل قولهم غير مقبول ما لم يؤيد بأدلة قوية تسنده .(1/66)
في الأحاديث السابقة ما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أهل الكساء ودعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً ،فإذا كان إذهاب الرجس قد حصل والتطهير قد تم فما الحاجة إلى الدعاء ؟
أية التطهير واقعة بين آيات فيها الأمر والنهى مما يؤيد إرادة فعل الطاعات ، واجتناب المعاصى ليؤدى ذلك إلى إذهاب الرجس وحدوث التطهير ، ويؤيده أيضاً ما روى من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فهنا يبدو الربط بين الأمر بالصلاة والآية الكريمة.
ويزيد ذلك تأييداً ما روى بسند صحيح عن على بن أبى طالب أنه قال :
" أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم وفاطمة ، وذلك من السحر ، حتى قام على الباب ، فقال : ألا تصلون ؟ فقلت مجيباً له : يا رسول الله ، إنما نفوسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا ، قال : فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إلى الكلام ، فسمعته حين ولى يقول ، وضر ب بيده على فخذه : وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (103[103]) ، وفى رواية أخرى عن الإمام أيضاً قال : " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل ، فأيقظنا للصلاة ، قال : ثم رجع إلى بيته فصلى هويّاً من الليل ، قال ، فلم يسمع لنا حساً ، قال : فرجع إلينا فأيقظنا ، وقال : قوما فصليا ، قال : جلست وأنا أعرك عينى وأقول : إنا والله ما نصلى إلا ما كتب لنا ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ويضرب بيده على فخذه : ما نصلى إلا ما كتب لنا ! ما نصلى إلا ماكتب لنا ! وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (104?????).(1/67)
فهنا يتضح حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إذهاب الرجس عن أهل بيته وتطهيرهم تطهيراً ، وغضبه لما بدر من زوج الزهراء رضي الله تعالى عنهما.
قال ابن تيمية :
أما الآية ( الأحزاب 33) " وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فليس فيها إخبار بذهاب الرجس وبالطهارة ، بل فيها الأمر لهم بما يوجبها ، وذلك كقوله تعالى :
"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ علَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ " (105?????)
" يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ " (106?????)
" يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ " (107?????)
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا ، ليست هي الملتزمة لوقوع المراد ، ولو كان كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته ، ثم أيد رأيه بدعائهصلى الله عليه وسلم لأصحاب الكساء (108?????) .
6.انتهينا إلى أن آية التطهير في نساء النبي ، وغيرهن من أهل البيت وهم: آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . ولا قائل بعصمة هؤلاء ، وتخصيص الخمسة يحتاج إلى دليل ،والأدلة التي وجدناها تمنع هذا التخصيص.
بقى بعد هذا ما ذكره الطوسي من أن حمل الإرادة على هذا المعنى لا يجوز لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكلفين . فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيره ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيه فضيلة ومزية على غيرهم ؟!
هذا هو الدليل الذي استند إليه الطوسي (109?????) ، وهو استدلال عقلى ، فهل يرد بمثل هذا الدليل ما ذكرناه من الأدلة ؟!(1/68)
ولو صح هذا القول لكانت آية التطير في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فقد اختصصن بمضاعفة الأجر ، وهذا يجعلهن أقرب إلى التطهير وإذهاب الرجس ، كما اختصصن بنزول الوحي في بيوتهن ، ولكنا نقول : إن إرادة التطهير وإن كانت حاصلة مع المكلفين ، إلا أن أهل البيت بها أخص فهم المقتدى بهم،ولأصحاب الكساء النصيب الأوفى . فهذا التأويل لا يمنع الفضيلة والمزية ، ولكنه لا يثبت العصمة .
والاستدلال بآية التطهير بعد هذا يصبح غير مسلم به ، فتخصيصها بالخمسة الأطهار غير ثابت ، وتأويلها بما يثبت العصمة لا دليل عليه ، وهم يرون ثبوت الإمامة لثبوت العصمة . على أن القول بعصمة الإمام نتحدث عنه عند مناقشة الدليل التالي .
*****
رابعا : عصمة الأئمة
ذكرت من قبل ما ذهب إليه الشيعة من القول بعصمة الأئمة ، فلا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم ، لافرق في ذلك بين سن الطفولة وسن النضج العقلى ، ولا يختص هذا بمرحلة الإمامة .
ومما استدلوا به قوله تعالى :- " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " .
قالوا : تدل هذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح ، لأن الله سبحانه وتعالى نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره ، فإن قيل : إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه ، فإذا تاب لا يسمى ظالماً ، فيصح أن يناله ، فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً . فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها . والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها ، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد (110?????) .(1/69)
ثم قالوا : إن الله سبحانه وتعالى عصم اثنين فلم يسجدا لصنم قط وهما : محمد بن عبد الله وعلى بن أبى طالب ، فلأحدهما كانت الرسالة ، وللآخر كانت الإمامة ، أما الخلفاء الثلاثة فلم يعصموا ، وهم ظالمون ليسوا أهلاً للإمامة .
ونلاحظ هنا :
1. في تأويل الآية الكريمة (111?????)" إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " يحتمل جعله رسولاً ُيقتدي به ، لأن أهل الأديان، مع اختلافهم ، يدينون به ، ويقرون بنبوته . ويحتمل إماماً من الإمامة والخلافة ، أو الإمامة والاقتداء ، فيقتدي به الصالحون . والعهد اختُلف في تأويله : فقيل الرسالة والوحي ، وقيل الإمامة ، وهو واضح من التأويل السابق ، ويؤيده عدة روايات . وعن ابن عباس قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته أنقضه ، وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حبان نحو ذلك. وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : ليس لظالم عهد . وقال عبدالرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : لا ينال عهد في الآخرة الظالمين ، وأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش ، وكذا قال إبراهيم النخعى وعطاء والحسن وعكرمة . وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه ، يقول لا ينال الظالمين ، ألا ترى أنه قال :
" وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ " (112?????)
يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق ، وكذا روى عن أبى العالية وعطاء ومقاتل بن حيان ، وقال جويبر عن الضحاك : لاينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني . وروى عن على بن أبى طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : " لا طاعة إلا في المعروف . فالآية الكريمة إذا اختلف في تأويلها ، والقطع بأن المراد هو ما ذهب إليه الجعفرية من التأويل ينقصه الدليل ، ورد باقي الأدلة .(1/70)
2. ولكن مع هذا فلا خلاف بأن الظالم لا يصلح لإمامة المسلمين ، قال الزمخشري : " وكيف يصلح لها من لايجوز حكمه وشهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سراً بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقى(113?????) وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على بنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد بنى عبد الله بن الحسن حتى قتل : فقال ليتنى مكان ابنك وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم "(114?????)
ا 3. لايمكن التسليم بأن غير المعصوم لابد أن يكون ظالماً ، أو أن غير الظالم لابد أن يكون معصوماً ، فبين العصمة وعدم الظلم فرق شاسع ، فالمخطئ قبل التكليف ليس ظالماً ولا يحاسب بالاتفاق ، ومن ندر ارتكابه للصغائر وأتبعها بالتوبة والاستغفار لا يكون ظالماً ، أما الخطأ والنسيان فمما لايحاسب عليه كما قال صلى الله عليه وسلم : " وُضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (115[115]). وكما يؤخذ من دراسة قوله تعالى :
" رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " (116?????)(1/71)
4. في رفض الآلوسى لما ذهب إليه الشيعة قال : استدل بها بعض الشيعة على نفى إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله عنهم ، حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك ، وإن الشرك لظلم عظيم ، والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة ، وأجيب بأن ( غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لايناله ، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم ) ، ثم قال : " ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر ، أو ظالم في لغة وعرف وشرع ، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفى غيره مجاز ، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً وإلا لجاز صبى لشيخ ونائم لمستيقظ وغنى لفقير وجائع لشبعان وحى لميت وبالعكس ، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حاف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل سنين متطاولة أن يحنث ، ولا قائل به " (117?????) .
5. ليس من المقطوع به أن الإمام عليا لم يسجد لصنم قط ، ولم أجد أثراً صحيحاً يؤيد هذا ، ولكن يرجحه أن الإسلام أدركه وهو صبى ، وأنه تربى في بيت النبوة ، واقتدى بابن عمه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وتخلق بخلقه ، ولهذا كان أول من أسلم بعد خديجة رضي الله تعالى عنهما .
والذين لم يسجدوا للأصنام كثيرون كالصحابة الذين عاشوا في بيئة إسلامية في صغرهم فنشئوا على الإسلام ، ثم الذين ولدوا في هذه البيئة ، فلا اختصاص لأمير المؤمنين هنا .(1/72)
6. العصمة من الخطأ كبيره وصغيره ، عمداً وسهواً ونسياناً من المولد إلى الممات أمر يتنافى مع الطبيعة البشرية ، فلا يقبله العقل إلا بالدليل قطعى من النقل . وهذه الآية الكريمة لا تثبته للأئمة عموماً فضلاً عن أئمة الجعفرية على وجه الخصوص ، على أن دلالة القرآن الكريم تتنافى مع مثل هذه العصمة حتى بالنسبة لخير البشر جميعاً الذين اصطفاهم الله تعالى للنبوة والرسالة . وقد أثبتُّ هذا من قبل في بحثى الذي نلت به درجة الماجستير (118?????) ، وسيأتي الحديث عن العصمة في الفصل الخامس من هذا الجزء .
7. الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، والذين مدحهم القرآن الكريم في أكثر من موضع ، ويبين أنهم .
" كُنتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (119?????)
كيف يستبيح مسلم لنفسه أن يصفهم بأنهم ظالمون ؟ وكيف يصدر هذا ممن يقول : الظلم اسم ذم ، ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله تعالى:
"أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (120?????)
وكيف يبين القرآن الكريم أنهم خير أمة أخرجت للناس ثم تؤول آية من آياته بأنهم ملعونون ؟
فعلى الجعفرية إذا أن يعيدوا النظر في تأويلهم ، وما بنوه على هذا التأويل.
والآية الكريمة على كل حال لا تدل على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب و لا على إمامة أحد بعينه .
*****
خامسا : الغدير(1/73)
ذكرت من قبل ما قاله الجعفرية من أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينص على على وينصبه علماً للناس ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم امتثل للأمر - بعد تردد! وبلغ المسلمين عند غدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع . وبحث ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في الغدير يتعلق بالسنة ، ولكنهم ذكروا أن ثلاث آيات تتصل بهذه الحادثة ، آيتان من سورة المائدة ، وأول سورة المعارج كما بينت عند ذكر أدلتهم من القرآن الكريم . وآية التبليغ هي قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (121?????)
ولم يكتف بعضهم بذكر أنها نزلت في على ، ولكن ذكر الأقوال المختلفة في أسباب النزول ، قال الطوسي (122?????) :
قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال :
أحدها : قال محمد بن كعب القرظى وغيره : إن أعرابياً هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه .
الثانى : أن النبي صلى الله عليه وسلم كلن يهاب قريشاً ، فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة . وقيل : كان للنبي صلى الله عليه وسلم حراس بين أصحابه ، فلما نزلت الآية قال : ألحقوا بملاحقكم ، فإن الله تعالى عصمنى من الناس .
الثالث : قالت عائشة : إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي للتقية .
الرابع : قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام : إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف علياً كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه .(1/74)
ولم يناقش الطوسي ما قيل ، ولم يذكر ما يرجح أحد هذه الأقوال ، ولكن كثيراً من طائفته استدلوا بروايات على أنها استخلاف على(123?????) ، وظاهر النص لا يدل على هذا ، والروايات كلها أقصى ما تبلغه لا تصل إلى مرتبة السنة ، فليس فيها ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنا لم نجد رواية واحدة صحيحة عن طريق الجمهور تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية ، ولننظر إلى ما ذهب إليه المفسرون .
قال الطبري في تفسير الآية الكريمة :-
" هذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمداً بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة ، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم إياه ، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم ، وسائر المشركين وغيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم ، والإزراء عليهم ، والتقصير بهم والتهجين لهم ، وما أمرهم به وما نهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله ، و لاجزعاً من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لايتقى أحداً في ذات الله ، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه ، ودافع عنه مكروه كل من يبغى مكروهه ، وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شئ مما يبلغ إليه إليهم ، فهو في تركة تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئاً . وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل " (124[124]) .
والذى ذهب إليه أهل التأويل هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة ، ومع تكملة الآية ذاتها . والخروج على السياق وفصل صدر الآية عن عجزها لا يجوز بغير أدلة صحيحة .(1/75)
والطبرى بعد أن ذكر اتفاق أهل التأويل في المراد من الآية الكريمة ، ذكر أنهم اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت ، فقال بعضهم نزلت بسبب أعرابى كان هُّم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفاه الله إياه ، وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشاً ، فأومن من ذلك ، وذكر روايات القائلين بهذين القولين (125?????).
أما الحافظ ابن كثير فقد توسع في الحديث عن هذه الآية الكريمة ، حيث قال :
" يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله بذلك به وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك ، وقام به أتم القيام ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول :
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " الآية هكذا رواه ههنا مختصراً ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً ، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان ، والتزمذى والنسائى في كتاب التفسير من سننهما ، من طرق عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله تعالى عنها . وفى الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية :-
" وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ " (126?????)
وقال ابن أبى حاتم :
حدثنا أحمد بن منصور الرمادى ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناساً يأتونا يخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ، فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال :-(1/76)
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء وهذا إسناد جيد . وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبى جحيفة وهب بن عبد الله السوائى قال : قلت لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه : هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل (127?????) ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري :
قال الزهرى : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو أربعين ألفاً ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس إنكم مسئولون عنى فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول : " اللهم هل بلغت " . قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعنى ابن غزوان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام ، قال : " أي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام ، قال : " فأي شهر هذا " قالوا : شهر حرام ، قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا من شهركم هذا " مراراً قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عز وجل ، ثم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ولا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " . وقد روى البخاري عن على بن المديني ، عن يحيى بن سعيد ، عن فضيل بن غزوان به نحوه ، وقوله تعالى :(1/77)
" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " يعنى وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته ، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع ، " وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" يعنى إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته(128?????) . ا . هـ .
ثم استمر ابن كثير في تفسيره ليبين ما يتعلق بتتمة الآية الكريمة . وأشار إلى كيد المشركين وأهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله تعالى منهم ، وقال بعد أن ذكر شيئاً من كيدهم : " ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عن هذه الآية الكريمة " (129?129?) ، وذكر بعض روايات الطبري وغيره .
وهكذا نجد أن تفسير الآية الكريمة لا يتفق مع ما ذهب إليه الجعفرية .
وبالإضافة إلى ما ذكره المفسرون روى الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً بلغ والله ما أرسل به ، وما اختصنا دون الناس بشئ ليس ثلاثا ، أمرنا أن نسبغ الوضوء ، وأن لا نأكل الصدقة ، ولا ننزى حماراً على فرس " (130?130?).
وهذه رواية صحيحة السند ، ونصها يتعارض مع تأويل الجعفرية .(1/78)
على أن بعض المفسرين ناقش الشيعة فيما ذهبوا إليه ، وبين أنه قول لا يستقيم . قال الآلوسى عند تفسيره للآية الكريمة : ( أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ، ولا مسلمة لديهم أصلاً ) (131?????) وأيد هذا القول : ثم قال : ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة على كرم الله وجهه ، وأن الموصول فيها خاص كقوله تعالى : " وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فإن الناس فيه وإن كان عاماً إلا أن المراد بهم الكفار ، ويهديك إليه " إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " فإنه في موضع التعليل بعصمته عليه الصلاة والسلام (132?????): وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر ، أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك . ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة : بل لو قيل لم تصح ، لم يبعد ، لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - في تبليغ أمر الخلافة إنما هو من الصحابة. رضي الله تعالى عنهم - حيث إن فيهم - معاذ الله تعالى - من يطمع فيها لنفسه ، ومتى رأي حرمانه منها لم يبعد قصد الإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتزام القول - والعياذ بالله عز وجل - بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه ، مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله وجهه وهو هو ، أو نسبة الجبن إليه وهو أسد الله تعالى الغالب ، أو الحكم عليه بالتقية وهو الذي لا يأخذه في الله تعالى لومة لائم ، ولا يخشى إلا الله سبحانه (133?????).(1/79)
ولقد وفق الآلوسى في الاستدلال عن طريق ربط الآية بعضها ببعض وتأويله الآية كما ذهب إليه جمهور المفسرين لا يحتاج إلى دليل ، لأنه أخذ بظاهر النص وعمومه ، وبدلالة السياق ، ولكن تخصيصها باستخلاف على هو الذي يحتاج إلى أدلة أصح وأكثر قبولاً من أدلة الجمهور المذكورة ، وهذا ما لم نجده . وروايات الغدير تناقش تفصيلاً في بحث متصل بالسنة النبوية الشريفة .
والآية الكريمة الأخرى من سورة المائدة هي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " (134?????) وإختلف أهل التأويل في المراد بإكمال الدين ، فقال بعضهم : يعنى جل ثناؤه بقوله : " الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضى عليكم ، وحدودى وأمرى إياكم ونهى وحلالى وحرامى ، وتنزيلى من ذلك ما أنزلت منه في كتاب ، وتبيانى ما بينت لكم منه بوحيى على لسان رسولى ، والأدلة نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم.
وقال آخرون : إن الله عز وجل أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم - يوم أنزل هذه الآية على نبيه - دينهم ، بإفرادهم البلد الحرام ، وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون ، وهذا هو الذي اختاره الطبري وأيده (135?????).
والجعفرية لا يخرجون في تأويلهم عن القولين ، ولكنهم يزيدون أن الآية الكريمة نزلت بعد أن نصب النبي صلى الله عليه وسلم علياً علماً للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع ، ويروون هذا عن الإمامين الباقر والصادق ، ويرون أن الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى ، ثم لم ينزل بعدها فريضة (136?????).(1/80)
وفسر الطبرسي " وأتممت عليكم نعمتي " بولاية على بن أبى طالب ، وذكروا رواية عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزوله الآية الكريمة:الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي ، وولاية على بن أبى طالب من بعدى .
ولكن الطوسي لا يذكر مثل هذه الرواية ، ويفسر " وأتممت عليكم نعمتي " بقوله : " خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم ، بإظهارهم على عدوهم المشركين ونفيهم إياهم عن بلادهم ، وقطعه طمعهم من رجوع المؤمنين وعودهم إلى ملة الكفر ، وانفراد المؤمنين بالحج والبلد الحرام ، وبه قال ابن عباس وقتادة والشعبي" .
ولم يشر الطوسي إلى الولاية ، وما ذكره كأنما نقل عن شيخ المفسرين ، فقد قال الطبري في تفسيره : " يعنى جل ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي ، أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوى وعدوكم من المشركين ، ونفيي إياهم عن بلادكم ، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ماكنتم عليه من الشرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وروى عن ابن عباس أنه قال : كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً ، فلما نزلت براءة : فنفُى المشركون عن البيت ، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، فكان ذلك في تمام النعمة : " وأتممت عليكم نعمتي ".
وعن قتادة : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، وأخلص للمسلمين حجهم .
وعن الشعبي قال : نزلت هذه الآية بعرفات ، حيث هدم منار الجاهلية ، واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك .
وعن عامر قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات ، وقد أطاف به الناس ، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ، ولم يطف حول البيت عريان فأنزل الله :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " . وعن الشعبي بنحوه .(1/81)
إن روايات قتادة والشعبى التي ذكرها الطبري تعارض ما قيل من أن الآية الكريمة نزلت يوم الغدير . وهناك روايات أخرى صحيحة السند تثبت نزولها يوم عرفة يوم جمعة لا يوم الغدير . وذكر الطبري بعض هذه الروايات ، وروايات أخرى معارضة ، ثم قال : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ، ووهى أسانيد غيره .
وقال الحافظ ابن كثير : " قال الإمام أحمد : حدثنا أبى جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأي آية ؟(1/82)
قال : قوله " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " فقال عمر : والله إنى لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة (137?????) ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضاً مسلم والترمذى والنسائى أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية عن طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً . فقال عمر : إنى لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة . قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ، ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم . وقد روى هذا عن غير وجه من عمر " .(1/83)
وبعد هذه الروايات ذكر ابن كثير روايات الطبري التي صح سندها ، وهى تبين - كما سبق - أن الآية نزلت يوم الجمعة . ثم ذكر الروايات المعارضة ، وهى التي استوهاها الطبري ، وبين ضعفها ، ومنها ما روى عن الربيع بن أنس أنها نزلت في المسير في حجة الوداع ، وقال : وقد روى ابن مردويه عن طريق أبى هارون العبدى ، عن أبى سعيد الخدري ، أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلى : " من كنت مولاه فعلى مولاه " . ثم رواه عن أبى هريرة وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذى الحجة ، يعنى مرجعه عليه السلام من حجة الوداع ، ولايصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه و لامرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلى بن أبى طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبى سفيان ، (138?????) وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله .(1/84)
ومن هنا يظهر أن الروايات الصحيحة تعارض ما ذهب إليه الجعفرية من نزول الآية الكريمة يوم الغدير ، ولكن أحد كتابهم أيد ما ذهبوا إليه بقوله بأنه " يؤكده النقل الثابت في تفسير الرازى ( 3 ص 529 ) عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازى (3 ص 523 ) وذكره المؤرخون منهم : إن وفاته صلى الله عليه وسلم في الثانى عشر من ربيع الأول ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين والثمانين يوماً بعد إخراج يومى الغدير والوفاة ، وعلى أي فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة كما جاء في صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما (139?????) . لزيادة الأيام حينئذ ، على أن ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها " (140?????) .
أما النصوص الكثيرة التي يرى ألا محيص عن الخضوع لمفادها فقد سبق ذكر بعضها وبيان عدم الأخذ بها ، فهى روايات ضعيفة السند متعارضة مع روايات صحيحة بل متواترة كما ذكر الحافظ ابن كثير .
ومن الواضح البين أن رواية الرازى للأيام إذا تعارضت مع هذ الروايات وجب طرح رواية الرازى . وليس من البحث العلمي الصحيح أن رواية تأتى في أحد كتب التفاسير تسقط بها روايات متعددة كثيرة السند ، جاءت عن طريق الأئمة أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم .(1/85)
وأول النصوص الكثيرة التي يرى مؤلف الغدير ألا محيص عن الخضوع لمفادها نص ذكر أن الطبري رواه بإسناده عن زيد بن أرقم في كتاب الولاية ، وأشار إليه هنا حيث أثبته بالكامل عند استدلاله على آية التبليغ السابقة في غديره (141?????) ، وبالرجوع إلى النص نجد أمراً عجيباً ! فهو يكاد يجمع ما يتصل بعقيدة الإمامية وغلاتهم في الإمامة ، فهى لعلى بالنص ، ثم في أولاده إلى يوم القيامة إلى القائم المهدى ، وغيرهم أئمة يدعون إلى النار ، وهم وأتباعهم في الدرك الأسفل منها ، والله تعالى ورسوله بريئان منهم .... إلخ .
والمعروف أن شيخ المفسرين الطبري ليس شيعياً فضلاً عن غلاتهم ، ولكن صاحب الغدير بعد ذكر الرواية وروايات أخرى قال (142?????) بأن الطبري أول من عرفناه ممن ذكر أن آية التبليغ حول قصة الغدير .
وأخذ يناقش الروايات التي جاءت في تفسير الطبري ليبين أنها لا تتعارض مع الرواية المذكورة في كتابه عن الولاية ، مع أن الطبري متفق مع أهل التأويل كما ذكرنا من قبل عند مناقشة الآية الكريمة ، أفكل أهل التأويل جعفريون ؟!
وعند الحديث عن آية الإكمال هذه ذكر رواية الطبري وأشار إلى كتابه في الولاية ، ولم يشر إلى تفسيره ، ويتضح سر هذا وقد عرفنا الرأي الذي اختاره الطبري حيث استوهى الروايات المخالفة لرواية عمر بن الخطاب . إذن لسنا في حاجة إلى بيان ضلال الباحث عندما يسيره هواه ، ولكن أحب أن أقول هنا بأن كتاب الولاية في ضوء ما سبق إما أنه ألف ونسب إلى الطبري زورا وانتصارا لمذهب ، وإما أن الطبري جمع ما وجده من الولاية بغير نظر إلى مصادر الروايات : وفى كلتا الحالتين الكتاب لا وزن له ، ولا يبين رأي الطبري (143?????) .(1/86)
وإذا كانت آية التبليغ السابقة نزلت قبل آية الإكمال هذه - كما قال الجعفرية أنفسهم - فإن الروايات السابقة تدل على أن آية التبليغ نزلت قبل الغدير ، مما يؤيد ما ذهب إليه جمهور المفسرين في تأويلها ، ويعارض ما قاله الجعفرية من أنها خاصة بالاستخلاف يوم الغدير ، وهذا دليل آخر يضاف إلى أدلة الجمهور .
ومما سبق رأينا أن آية الإكمال نزلت يوم عرفة ، ولكن لو فرضنا أنها نزلت يوم الثامن عشر من ذى الحجة يوم الغدير فإنها لا تعتبر دليلاً على استخلاف على ، لأن هذا مبنى على أساس أن آية التبليغ خاصة بالاستخلاف وهذا غير ثابت كما بينت من قبل .
ويبقى بعد هذا ما يتعلق بأول سورة المعارج " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " .
والسورة الكريمة " مكية " بالاتفاق ، وما ذكره بعضهم (144?????) يستلزم أن تكون مدنية بل من أواخر ما نزل بالمدينة بعد حجة الوداع قبيل الوفاة : وشيخ طائفتهم الطوسي لم يقع في هذا الخطأ ، ولذا قال : سورة المعارج مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما . وفسرها بما يتفق مع جمهور المفسرين ، ولم يشر إلى أن التكذيب كان بالولاية ، ولا أن جزءاً من هذه السورة نزل بالمدينة فضلاً عن كونه بعد حجة الوداع (145?????).(1/87)
وفى مجمع البيان ذكر الطبرسي مثل هذا التفسير، ثم زاد رواية عن جعفر ابن محمد عن آبائه ، قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام يوم غدير خم ، وقال : من كنت مولاه فعلى مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن الحرث الفهرى فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة ففعلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلى مولاه : فهذا شىء منك أو أمر من عند الله ؟ فقال : والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله ، فولى النعمان ابن الحرث وهو يقول : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى: " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ" .
ولكن هذه الرواية تتعارض مع ما ذكره الطبرسي نفسه حيث قال: "سورة المعارج مكية ، وقال الحسن : إلا قوله " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ"(146?????) .
وفى موضع آخر ذكر روايات تبين ترتيب نزول سور القرآن الكريم ، وبحسب هذا الترتيب نجد سورة المعارج مكية ، وبعدها سبع سور مكية أخرى ، ثم ذكر السور المدنية . وفى إحدى هذه الروايات : " وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة " .
ومعنى هذا أن سورة المعارج مكية وبالأخص فاتحتها ، والطبرسي في تفسيره الآخر " جوامع الجامع " الذي كتبه بعد أن اطلع على تفسير الكشاف للزمخشرى وأعجب به (147?????) ، ذكر أن سورة المعارج مكية ، وفسرها بما يتفق مع مكيتها ، ولم يشر للرواية المنسوبة للإمام الصادق . وفى تفسير الآية الخامسة وهى" فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " قال : فاصبر يتعلق بسأل سائل لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيباً بالوحي(148?????) .(1/88)
فالطبرسي هنا لم يأخذ بالرواية المنسوبة للإمام الصادق ، وما ذكره الطوسي موافقاً به جمهور المفسرين فيه ما يكفى لرد ما ذهب إليه بعض الجعفرية.
*****
تعقيب
بعد المناقشة السابقة نقول :-
ظهر أن عقيدة الإمامة عند المذهب الجعفرى لا تستند إلى شىء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تنبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شئ من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلاً يؤيد مذهبهم .
قال أحد مفسرى الجعفرية عن أسباب النزول :
" ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية ، بمعنى أنهم يردون غالباً الحوادث التاريخية ، ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول ، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة ،أو آيات ذات سياق واحد ، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقر وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها . وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول (149[149]).
وما ذكره هذا المفسر الجعفرى يكاد ينطبق على جميع الآيات الكريمة التي استدلوا بها .
ومن قبل قال الإمام أحمد بن حنبل :
ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير والملاحم والمغازى (150[150]).
ويروى " ليس لها أصل " أي إسناد ، لأن الغالب عليه المراسيل .
يرى الجعفرية أن الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثنى عشر ركن من أركان الإيمان، والقرآن الكريم - تبيان كل شيء - كيف لا يبين هذا الركن بنصوص ظاهرة من آياته البينات .
غلاة الجعفرية لم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة ، ووضع الروايات كأسباب للنزول ، وإنما أقدموا على ما هو أشنع من هذا وأشد جرماً ، ذلك أنهم قالوا بتحريف القرآن الكريم ، وحذف اسم على منه في أكثر من موضع ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في بحث التفسير عندهم في الجزء الثانى من هذه الموسوعة ، والذي جرفهم إلى هذه عقيدتهم في الإمامة ، وجعلهم إياها ركناً من أركان الإيمان .
*****
الفصل الثالث(1/89)
الإمامة في ضوء السنة
أولا : خطبة الغدير والوصية بالكتاب والسنة
أخبار الغدير تعتبر المستند الأول من السنة عند الجعفرية ، فهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند غدير خم ، بعد منصرفه من حجة الوداع ، بين للمسلمين أن وصيه وخليفته من بعده على بن أبى طالب ، وذكرت من قبل أن كاتباً جعفرياً ألف كتاباً يقع في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة حديث وشهرته ، وهذا الكتاب الذي أشرت إليه عنوانه " الغدير في الكتاب والسنة والأدب" ! فالتأليف إذن كان من أجل واقعة الغدير ، وإذا لم يثبت في القرآن الكريم شئ مما أراده المؤلف لم يبق إلا السنة ، أما الأدب فلا حاجة لنا به في هذا المجال !
وقبل النظر في كتب السنة الثمانية التي حددت في منهجى الرجوع إليها ، وهى : الموطأ ، والمسند والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، نسترشد بما جاء في سيرة محمد بن إسحاق (151[151]) التي جمعها ابن هشام .
تحت عنوان موافاة على في قفوله من اليمن رسول الله في الحج ورد ما قاله ابن إسحاق عما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم علياً من أمور الحج (152?????). ثم ورد ما يأتي :
" قال ابن اسحاق : وحدثنى يحيى بن عبد الله بن عبدالرحمن بن أبى عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن ركانة ، قال : لما أقبل على رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على رضي الله عنه . فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم ، فإذا عليهم الحلل قال : ويلك ؟ ما هذا ؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس . قال : ويلك ! انزع قبل أن تنتهى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . قال : فانتزع الحلل من الناس ، فردها في البز ، قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم .(1/90)
قال ابن اسحاق : فحدثنى عبد الله بن عبدالرحمن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً ، فسمعته يقول : أيها الناس ، لا تشكوا عليا ، فوالله إنه لأخشن في ذات الله ، أو في سبيل الله ، من أن يشكى .
خطبة الرسول في حجة الوداع
قال ابن اسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :(1/91)
أيها الناس ، اسمعوا قولى : فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا الموقف أبداً ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكن لكم رءوس أموالكم ، لا تظَلمون ولا تظُلمون . قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله ، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ، وكان مسترضعاً في بنى ليث ، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية . أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، أيها الناس : إن النسىء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، ورجبمضر (153?????) ، الذي بين جمادى وشعبان.(1/92)
أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقاً ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف . واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان (154?????). لايملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولى ، فإنى قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً ، أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه ، أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم ، اللهم هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد (155?????) .
وغير ما ذكره ابن اسحق من سبب تلك الشكوى ، نجد سبباً آخر يذكر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً ، واستعمل عليهم على بن أبى طالب ، فمضى في السرية فأصاب جارية ، فأنكروا عليه ، ونجد رواية أخرى أنه أصاب الجارية عندما كان على جيش وخالد بن الوليد على جيش آخر ، فأرسل خالد للرسول صلى الله عليه وسلم يخبره لما فعله أبو الحسن .
والروايات كلها تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن زوج الزهراء عليهما السلام ، والأقوال مختلفة ، وسنبين الصحيح منه إن شاء الله تعالى .
وخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي ذكرها ابن اسحاق ، نرى معناها مبثوثاً في كتب السنة ، ففي صحيح البخاري نجد شيئاً منها في باب الخطبة أيام منى من كتاب الحج ، وفى آخر الباب " فطفق النبي صلى الله عليه وسلم " يقول : اللهم اشهد وودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع " .(1/93)
ونجد كثيراً منها في باب حجة النبيصلى الله عليه وسلم من كتاب الحج في صحيح مسلم . وهذه الحجة يرويها الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله تعالى عنهم ، كما أخرجها أيضاً غيرالإمام مسلم (156?????) .
وقد بينت في الفصل السابق أنه في يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " ومن قبله : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " ويرى الجعفرية أن استخلاف الإمام على كان يوم الغدير في الثامن عشر من ذى الحجة ، وهنا يأتي تساؤل وهو : أفيمكن أن يترك ركن من أركان الإيمان لا يذكر ، وقد أكمل الله تعالى دينه ، وخطب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وودع الناس في حجة الوداع ؟
أظن هذا مستبعداً ، ولكن ليس مستحيلاً !
ولم يَدُر جدل بين الجمهور والجعفرية حول معنى من معانى الخطبة كما ذكرها ابن إسحاق إلا في قوله صلى الله عليه وسلم : " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ، أمراً بينا ، كتاب الله وسنة نبيه ". فالجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتمسك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير ، وأنه ترك الثقلين كتاب الله تعالى وأهل بيته .
وليس معنى هذا أن الجعفرية يرون عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليس بمسلم من يرى هذا ، ولكنهم يرون أن الأئمة معصومون ، وأقوالهم كأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهى تعتبر عندهم من السنة ، فلابد من الرجوع إليهم حتى لا تضل الأمة !
وننظر في مفتاح كنوز السنة فنجده يذكر وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنة رسوله عن عشرة مراجع منها : الصحيحان ، والمسند ، والترمذى ، والنسائى ، وابن ماجه (157?????) .(1/94)
وفى صحيح البخاري نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء في هذا الكتاب " وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوا إلى غيره ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفى الموطأ يروى الإمام مالك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة نبيه " (158?????).
ونجد في بعض هذه المراجع العشرة الوصية بكتاب الله تعالى دون ذكر السنة ، من ذلك ما جاء في سنن الدارمى : حدثنا محمد بن يوسف ، عن مالك بن مغول ، عن طلحة بن مصرف اليامى ، قال : " سألت عبد الله بن أبى أوفى : أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قلت : فكيف كتب على الناس الوصية ، أو أمروا بالوصية ؟ فقال : أوصى بكتاب الله " . (انظر كتاب الوصايا . باب من لم يوص ج 2 ص 290-291)
وفى سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث ، وقال السيوطى في شرحه: " أوصى بكتاب الله أي بدينه ، أو به وبنحوه ليشمل السنة " . (انظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ج6 ص 240).
وفى غير المراجع العشرة نجد مثلاً في كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة " ويحتوى الباب على ثمانية أخبار.
وفى المسند لأبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى حدث المصنف قال : ثنا سفيان قال : ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبى أوفى : " هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يوصى فيه . قلت : وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله " . ( انظر المجلد الثانى - حديث رقم 722) .(1/95)
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ، نجد رواية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتى ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض " .
ومما قاله المناوى في شرحه :
إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ، ولا هدى إلا منهما ، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما . واعتصم بحبلهما ، وهما الفرقان الواضح ، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما ، والمبطل إذا خلاهما ، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة .
(راجع الجزء الثالث ص 240-241 ، حديث رقم 3282 وشرحه ، وانظر صحيح الجامع الصغير للشيخ ناصر الدين الألبانى جـ 2 ، حديث رقم 2934) .
ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا ، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام بالقرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة .
والخلاف حول شىء من السنة مرده إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة ، أما ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان واضح الدلالة ، فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه ، فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى : " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (159?????)
وقوله عز وجل : " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ " (160?????)
وقوله سبحانه وتعالى :" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (161?????)
إلى غير ذلك من آيات الله البينات التي بينت أن من لم يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد ابتعد عن الإيمان . وضل ضلالاً بعيداً .(1/96)
من الواضح إذن أن عصمة الأمة وعدم ضلالها في التمسك بما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز ، وبما بينه جل شأنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة ، دون حاجة إلى الرجوع إلى أئمة الجعفرية ، أو غيرهم من فرق الشيعة، ولكنا نجد روايات أخرى تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الكتاب والعترة ، وفى بعضها الأمر بالتمسك بهما حتى لا نضل .
ثانيا : روايات التمسك بالكتاب والعترة
من هذه الروايات ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وسبق ذكره عند الحديث عن آية التطهير ، وفى تلك الروايات الحث على التمسك بكتاب الله تعالى ، ثم قوله صلى الله عليه وسلم : " أذَّكركم الله في أهل بيتي " ، وقول زيد : " إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " وقال " هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس " . وهذه الروايات تحثنا معشر المسلمين على أن نرعى حقوق آل البيت ، بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ، فنحبهم ونوقرهم وننزلهم منازلهم ، فحبنا لرسولنا الأعظم يدفعنا لحبنا لآله الأطهار ، وعلينا أن نصلهم ، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال : " والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى"(162?????) ، وقال " ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته " (163?????).
وبالطبع لا تدل هذه الروايات على وجوب الإمامة لآل البيت ، ولا لأحد بعينه ، فلا صلة بين التذكير بأهله والنص على خلافة بعضهم .
وأما باقي الروايات فإنها جاءت في المسند ، وفى سنن الترمذي . وروايات المسند هي :-
1. حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل يعنى إسماعيل بن أبى إسحق الملائى ، عن عطية ، عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/97)
" إنى تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/14).
2.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد يعنى ابن طلحة ، عن الأعمش ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنى أوشك أن أدعى فأجيب ، وإنى تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله عز وجل ، وعترتى ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظرونى بم تخلفونى فيهما ؟ " (3/17) .
3.حدثنا عبد الله ، حدثنا أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك يعنى ابن أبى سليمان ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/26).
4.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك بن أبى سليمان ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى : الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي . ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/59) .
5.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا الأسود بن عامر ، ثنا شريك ، عن الركين، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يرد ا على الحوض " (5/181/182) .(1/98)
6.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا أحمد الزبيرى ، ثنا شريك عن الركين ، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض جميعاً " ( 5/189-190).
والترمذى أخرج روايتين هما (164?????):- حدثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطى ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس ، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " (حسن غريب ) .
-حدثنا على بن المنذر كوفى ، حدثنا محمد بن فضيل قال ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبى سعيد ، والأعمش عن حبيب بن أبى ثابت ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ،أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " . (حسن غريب) .
مناقشة الروايات
هذه هي روايات التمسك بالكتاب والعترة ، و بالنظر فيها نجد ما يأتي :-
عن أبى سعيد الخدري خمس روايات ، الأربع الأولى من المسند ، والثانية من سنن الترمذي ، وهذه الروايات كلها يرويها عطية عن أبى سعيد .
وعطية هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى " والإمام أحمد نفسه - صاحب المسند - تحدث عن عطية وعن روايته عن أبى سعيد فقال بأنه ضعيف الحديث ، وأن الثوري وهشيما كانا يضعفان حديثه ، وقال : بلغنى أن عطية كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير ، وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد فيوهم أن الخدري .(1/99)
وقال ابن حبان : سمع عطية من أبى سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبى ، فإذا قال الكلبى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، فيحفظه ، وكناه أبا سعيد ، وروى عنه ، فإذا قيل له : من حدثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد ، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري ، وإنما أراد الكلبى ، قال : لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب.
وقال البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير ، وقال أيضاً : كان هشيم يتكلم فيه . وقد ضعفه النسائي أيضاً في الضعفاء ، وكذلك أبو حاتم . ومع هذا كله وثقه ابن سعد فقال : " كان ثقه إن شاء الله ، وله أحاديث صالحة ، ومن الناس من لا يحتج به " . وسئل يحيى بن معين : كيف حديث عطية ؟ قال : صالح (165?????)
وما ذكره ابن سعد وابن معين لا يثبت أمام ما ذكر من قبل . وقد يقُال هنا : إذا كان الإمام أحمد يرى ضعف حديث عطية فلماذا روى عنه ؟
والجواب أن الإمام إنما روى في مسنده ما اشتهر ، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم . ويدل على ذلك أن ابنه عبد الله قال : قلت لأبى : ما تقول في حديث ربعى بن خراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبدالعزيز بن أبى رواد ؟ قلت : نعم ، قال الأحاديث بخلافه ، قلت : فقد ذكرته في المسند ؟ قال : قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لن أرو من هذا المسند إلا الشئ اليسير . وقد طعن الإمام أحمد في أحاديث كثيرة من المسند ، ورد كثيراً مما روى ، ولم يقل به ، ولم يجعله مذهباً له (166?????).(1/100)
وعندما عد ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرحها الإمام أحمد في مسنده ، وثار عليه من ثار ، ألف ابن حجر العسقلانى كتابه " القول المسدد في الذب عن المسند " ، فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي ، ثم أجاب عنها ، ومما قال : " الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شئ من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام ، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع ، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا . وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا . وهكذا حال هذه الأحاديث (167?????).
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسك بالعترة .
الرواية الثانية للترمذى رواها عن على بن المنذر الكوفي ، عن محمد بن فضيل ، ثم انقسم السند إلى طريقين : انتهى الأول إلى عطية عن أبى سعيد ، والثانى إلى زيد بن أرقم ، ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل . وإذا نظرنا إلى الروايات الأربع السابقة التي رواها عطية عن أبى سعيد نجد توافقاً تاماً في المعنى وفى كثير من اللفظ بينها وبين هذه الرواية ، مما يرجح أن هذا الطريق هو الأصل ، وهو المذكور أولاً في الإسناد ، ومن قبل تحدثنا عما رواه الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم بطرق متعددة وفى تلك الروايات ذكر قوله صلى الله عليه وسلم " وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " (168?????).
وهذا يتفق بعض الشئ مع رواية الترمذي ، لكن بينهما اختلاف كبير يستوجب عدم الجمع ، مما يجعلنا نطمئن إلى ضم رواية الترمذي إلى الروايات الأربع التي رواها عطية عن أبى سعيد ، واستبعادها عن روايات زيد بن أرقم إلا في موضع الاتفاق .(1/101)
والذى جمع بين الطريقين في هذا الإسناد على بن المنذر الكوفي أو محمد بن فضيل ، ولكن الثانى روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة عن زيد بن أرقم ، فيُستبعد الجمع عن طريقه . فلم يبق إلا على بن المنذر ، وهو من شيعة الكوفة . قال ابن أبى حاتم : سمعت منه مع أبى ، وهو صدوق ثقة . وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن نمير : هو ثقة صدوق . وقال الدار قطنى : لا بأس به ، وكذا قال مسلمة بن قاسم ، وزاد : كان يتشبع .
وقال الإسماعيلى : في القلب منه شىء لست أخيره . وقال ابن ماجه : سمعته يقول : حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً (169?????).
وما سمعه منه ابن ماجه يجعلنا نتردد كثيراً في الاحتجاج بقوله : فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً ؟ ليس من المستبعد إذن أن يجمع راوٍ شيعي كهذا روايتين في مناقب أهل البيت تتفقان في شىء وتختلفان في شىء آخر ، وهذا يجعلنا نزداد اطمئناناً إلى ما انتهينا إليه من جعل هذه الرواية مع الروايات الأخرى لعطية عن أبى سعيد ، وفصلها عن روايات زيد بن أرقم .
على أن هذه الرواية فيها ضعف آخر . وهو الانقطاع في موضعين ، فالأعمش وحبيب بن أبى ثابت مدلسان . وهما يرويان بالعنعنة . فلم يثبت سماع كل منهما هنا .
والأعمش وحبيب من الثقات . وثبت سماع الأعمش من حبيب ، وسماع حبيب من زيد بن أرقم . إلا أن في هذه الرواية لم يثبت السماع ، والأعمش فيه تشيع وهو كوفى ، وحبيب كوفى أيضاً ، وفى بيئة الكوفة يمكن أن تشيع مثل هذه الأحاديث دون دقة أو تمحيص .
وحبيب نفسه قال لابن جعفر النحاس : إذا حدثني رجل عنك بحديث ، ثم حدثت به عنك كنت صادقاً (170?????).
فحبيب كان صادقاً ليس بكاذب ، إلا أنه أبان عن رأيه ، فليس من الكذب عنه أن يسمع من راوٍ عن آخر ، فيروى عن الآخر مباشرة بما لايفيد السماع منه .(1/102)
وفى المستدرك روى الحاكم (171?????) هذا الحديث بما يفيد سماع الأعمش من حبيب . وهذا ما يحتاج إلى مراجعة الإسناد الذي ذكره ، وما أكثر رجاله . غير أننا لسنا مضطرين إلى بذل هذا الجهد ، فإن ثبت سماع الأعمش بقى أكثر من موطن ضعف . والحاكم ذكر الحديث بروايتين :-
إحداهما في إسنادها الإمام أحمد بن حنبل ، وسيأتي أنه هو نفسه ضعف الحديث كما ذكر ابن تيمية ، والأخرى بين الذهبي وهَىْ إسنادها (172?????).
القاسم بن حسان العامرى الكوفي روى الروايتين الخامسة والسادسة من المسند عن زيد بن ثابت ، ورجح المرحوم الشيخ أحمد شاكر توثيقه وقال :
" وثقة أحمد بن صالح ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وذكر البخاري في الكبير اسمه فقط ، ولم يذكر عنه شيئاً ، وترجمه ابن أبى حاتم في الجرح والتعديل فلم يذكر فيه جرحاً ، ثم نقل عن المنذرى أن البخاري قال : القاسم بن حسان سمع من زيد بن ثابت ، وعن عمه عبدالرحمن بن حرملة ، وروى عنه الركين بن الربيع ، لم يصح حديثه في الكوفيين " .
ثم عقب شاكر على هذا بقوله " والذى نقله المنذرى عن البخاري في شأن القاسم بن حسان لا ادرى من أين جاء به ، فإنه لم يذكر في التاريخ الكبير إلا اسمه فقط كما قلنا ، ثم لم يترجمه في الصغير ، ولم يذكره في الضعفاء ، وأخشى أن يكون المنذرى وهم فأخطأ ، فنقل كلام ابن أبى حاتم بمعناه منسوباً للبخاري ، وأنا أظن أن قول البخاري في عبدالرحمن بن حرملة " لا يصح حديثه " إنما مرده إلى أنه لم يعرف شيئاً عن القاسم بن حسان ، فلم يصح عنده لذلك حديث عمه عبدالرحمن " (173?????)
وفى توثيق القاسم بن حسلن نظر ، فابن حبان ذكره أيضاً في أتباع التابعين ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت ، وقال ابن القطان : لايعرف حاله (174?????).(1/103)
والبخاري ذكر اسمه فقط في التاريخ الكبير ، وليس في هذا توثيق و لا تضعيف . وفى الجرح والتعديل حقيقة لم يذكر فيه جرحاً ،ولكن لم يذكر فيه كذلك تعديلاً . وإذا كان الظن بأن البخاري ضعف عبدالرحمن بن حرملة من أجل القاسم، فمن باب أولى أن يدخل القاسم في الضعفاء ، ويبقى هنا الإشكال وهو أن البخاري لم يذكره في الضعفاء ، ولم يذكر فيه جرحاً في كتبه الأخرى المذكورة ، فمن أين جاء المنذرى بما نقله عن البخاري ؟
لعل المرحوم الشيخ شاكراً كان يتردد فيما كتب لو عرف أن البخاري له كتاب كبير في الضعفاء يقع في تسعة أجزاء ، وهو مخطوط و لا يوجد منه نسخ في مصر ، فلم لا يكون المنذرى نقل منه (175?????) ؟ وفاته كذلك أن يقرأ ترجمة القاسم في ميزان الاعتدال ، فقد نقل الذهبي عن البخاري أن القاسم بن حسان حديثه منكر و لا يعرف (176?????) ، وهذا قول لا يحتمل الوهم . فلا شك أن المنذرى والذهبي قد رجعا لما لم يتيسر لنا الرجوع إليه ، وأغلب الظن - إن لم يكن من المؤكد - أنهما نقلا عن كتاب الضعفاء الكبير للبخاري .
لم يبق إذن إلا الرواية الأولى للترمذى ، وفى سندها زيد بن الحسن الأنماطى الكوفي ، الذي روى عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله ، قال أبو حاتم عن زيد هذا : كوفى قدم بغداد ، منكر الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات (177?????).
وخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع رواها مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر ، وليس فيها " وعترتى أهل بيتي " (178?????)، وهذه الخطبة رويت عن جابر بطرق متعددة في مختلف كتب السنة ، وليس فيها جميعاً ذكر لهذه الزيادة (179?????) .
الاختلاف حول الحديث
رأينا فيما سبق ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وهذا لا خلاف حول صحته .(1/104)
ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث ، وظهر ما بها من ضعف . وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة . وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير .
ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة ، وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد ، ومعجم الطبرانى رواية عن زيد بن ثابت ، وصحح الحديث السيوطى والمناوى ، وقال المناوى : " قال الهيثمى : رجاله موثقون ، ورواه أيضاً أبو يعلى بسند لا بأس به ، والحافظ عبدالعزيز بن الأخضر وزاد أنه قال : في حجة الوداع ، ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي . قال السمهودى : وفى الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة " ا . هـ .
وتحدثنا من قبل عما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت ، وبينا ضعف الإسناد ، وبالنظر فيما رواه الطبرانى نجد موطن الضعف نفسه . فهو من رواية القاسم بن حسان ، فقول الهيثمى يعنى توثيق القاسم .
وما ذكره عن حجة الوداع هنا بيناه من قبل . فالتصحيح إذن غير مقبول ، غير أننا قد نوافق على عدم جعل الحديث من الموضوعات ، ومع هذا فابن الجوزي قد يكون له ما يؤيد رأيه ، فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفى النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك ، ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، بل إلى سبعين غير أنه لو صح عن صحابى واحد لكفى إلا أن يكون ممن لا يستحق شرف الصحبة .
ولعل من المهم هنا أن نذكر أن الإمام أحمد بن حنبل ، وهو ممن أخرج الحديث ، ذكر أنه ضعيف لا يصح ، فهو إذن غير صحيح بالنسبة إلى أي من الصحابة الكرام .(1/105)
وشيخ الإسلام ابن تيمية رفض هذا الحديث وقال : " وقد سئل عنه أحمد ابن حنبل فضعفه ، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا : لا يصح " (180?????).
وفى عصرنا وجدنا العلامة المحقق الشيخ ناصر الدين الألبانى - رحمهالله - يذهب إلى تصحيح رواية التمسك بالكتاب والسنة التي أشرنا إليها من قبل ، ويوافق السيوطى والمناوى هنا أيضاً فيصحح حديث الثقلين الذي يأمر بالتمسك بالكتاب والعترة ، فيذكره في صحيح الجامع الصغير لا في ضعيفه (181?????).
وعندما سعدت بلقائه في زيارته الأخيرة لدولة قطر ، دار نقاش حول هذا الحديث ، وذكرت مواطن الضعف في الروايات التي جمعتها ، فقال - زاده الله علماً وفضلاً - إن ضعف هذه الروايات لا يعنى ضعف الحديث ، فقد يكون مروياً من طرق أخرى صحيحة لم تصل إليك (182?????)، ثم أشار إلى كتابين أخرجا الحديث ولم يكونا من المصادر التي اعتمدت عليها قبل هذا البحث .
أحدهما :معجم الطبرانى ، فنظرنا فيه ووجدنا في الإسناد القاسم بن حسان ، فالرواية إذن غير صحيحة .
والثانى :مستدرك الحاكم وفيه ما يفيد سماع الأعمش من حبيب ، ولكن يبقى أيضاً مواطن الضعف الأخرى (183?????). ولم يتذكر لماذا صحح الحديث ، ولم يتمكن من الرجوع إلى ما كتب نظراً لإبعاده عن داره ومكتبته ، وبعد سفره قرأت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلما أبلغ به طلب تصوير الصفحات .
والشيخ الجليل في تصحيحه للحديث أشار إلى تخريج المشكاة ، فرأيت الرجوع إليها عسى أن أقف على حجته في التصحيح .
في الجزء الثالث في مشكاة المصابيح ( ص 1735) جاءت روايتان للحديث هما رقم 6143، 6144.
قرأت الروايتين والتخريج فكانت المفاجأة مذهلة . وأثبت هنا ما جاء في الكتاب بالنص :
الرواية رقم 6143 :(1/106)
عن جابر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس : إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله ،وعترتي أهل بيتي " (رواه الترمذي ).
والرواية الأخرى نصها كما يلى :
وعن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " .(رواه الترمذي ) .
هاتان هما الروايتان ، أما التخريج فهو كما يلى :
الرواية الأولى : " وقال - أي الترمذي - : حديث حسن غريب .
قلت - أي الألبانى - : وإسناده ضعيف "
الرواية الثانية : " وقال : حديث حسن غريب قلت : وإسناده ضعيف أيضاً ، لكنه شاهد للذى قبله " .
هذا ما قرأته ، ونقلته بنصه ، والضعيف الذي يشهد للضعيف لا يرفعه لمرتبة الصحيح ، بل قد لا يزيده إلا ضعفاً ، فمن أين جاء تصحيح الشيخ إذن ؟
وبعد لقائى بالشيخ الجليل تتبعت روايات الطبراني للحديث في المعجم الكبير ، فوجدت خمس عشرة رواية :
تسع منها عن زيد بن أرقم ، وهى الرواية رقم 2681 بالجزء الثالث ، وفى الجزء الخامس الروايات الثمانية وأرقامها : 4980، 4981 ، 4982 ، 5025 ، 5026 ، 5027 ، 5028 ، 5040 وعرفنا ما صح عن زيد بن أرقم ، فلا حاجة للنظر في هذه الروايات .
أما الروايات الستة الباقية فهى كما يلى :
روايتان يرويهما عطية عن أبى سعيد ، وهما رقم 2678 ، 2679 بالجزء الثالث .
وروايتان يرويهما زيد بن الحسن الأنماطى ، وهما رقم 2680 ، 2683 ، وهما بالجزء الثالث أيضاً .
وروايتان يرويهما القاسم بن حسان ، وهما رقم 4922 ، 4923، وهما بالجزء الخامس .(1/107)
ومن هذا التتبع نرى أن الضعف في هذه الروايات لا يخرج عما ذكرته من قبل في مناقشة روايات مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ،ويؤكد عدم استبعاد أن يكون الحديث كوفي النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك . كما يزيدنا اطمئنانا إلى صحة المنهج الذي بدأت به ، واكتفيت بالرجوع إلى الكتب السبعة والموطأ . فالرجوع إلى غير هذه الكتب لم يضف إلينا جديدا .
فقه الحديث
مما سبق نرى أن حديث الثقلين التي صح سندها صح متنها ، وأن الروايات الثمانية التي تأمر بالتمسك بالعترة إلى جانب الكتاب الكريم لم تخل واحدة منها من ضعف في السند (184?????)، وفى متن هذه الروايات نجد الإخبار بأن الكتاب وأهل البيت لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل هذا وجب التمسك بهما . ولكن الواقع يخالف هذا الإخبار ، فمن المتشيعين لأهل البيت من ضل وأضل ، وأكثر الفرق التي كادت للإسلام وأهله وجدت من التشيع لآل البيت ستاراً يحميها ، ووجدت من المنتسبين لآل البيت من يشجعها لمصالح دنيوية ، كأخذ خمس مايغنمه الأتباع ، وفرق الشيعة التي زادت على السبعين كل فرقة ترى أنها على صواب ، وأن غيرها قد ضل إن لم يكن قد كفر! ولسنا في حاجة إلى إثبات هذا القول ، فالكتب التي تبحث في الفرق ، وكتب الفرق ذاتها تبين هذا ، والجعفرية مثلاً عندما يشترطون للإيمان عقيدتهم في الأئمة الاثنى عشر يخرجون الأمة كلها من الإيمان ! وعقيدتهم هذه لا يسندها نص واحد من كتاب الله تعالى كما رأينا ، فإذا أمرنا بالتمسك بأهل البيت فبمن نتمسك ؟ أبكل من ينتسب لأهل البيت ! وإن تركوا كتاب الله وسنة نبيه ! بالطبع لا .
إذن عدم الضلال يأتي من التمسك بالكتاب والسنة ، وإذا تمسك أهل البيت بهما كان لهم فضل الانتساب مع فضل التمسك واستحقوا أن يكونوا أئمة هدى يقتدي بهم كما قال تعالى:-(1/108)
"وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"أي أئمة نقتدى بمن قبلنا ، ويقتدي بنا من بعدنا(185?????) ، ولا يختص هذا بأهل البيت ولكن بكل من يعتصم بالكتاب والسنة .
فالروايات التي ضعف سندها لا يستقيم متنها كذلك ، وهذا ضعف آخر ، ومع هذا كله فلو صحت هذه الروايات فإنها لا تدل على وجوب إمامة الأئمة الاثنى عشر وأحقيتهم للخلافة .
وللننظر في فقه روايات الحديث الكوفية .
قال العلامة المناوى في فيض القدير (3/14): " إن ائتمرتم بأوامر كتابه ، وانتهيتم بنواهيه ، واهتديتم بهدى عترتى ، واقتديتم بسيرتهم ، اهتديتم فلم تضلوا .
قال القرطبى : وهذه الوصية ، وهذا التأكيد العظيم ، يقتضى وجوب احترام أهله ، وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم ، وجوب الفروض المؤكدة التي لاعذر لأحد في التخلف عنها " .
ثم قال المناوى بعد هذا (3/15): لن يفترقا : أي الكتاب والعترة ، أي يستمرا متلازمين حتى يردا على الحوض : أي الكوثر يوم القيامة .(1/109)
زاد في رواية : كهاتين ، وأشار بأصبعيه ، وفى هذا مع قوله أولاً : " إنى تارك " تلويح بل تصريح بأنهما كتوأمين ، خلفهما ووصى أمته بحسن معاملتهما ، وإيثار حقهما على أنفسهما ، واستمساك بهما في الدين ، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية ، والأسرار والحكم الشرعية ، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق . وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين ، فطيب العنصر يؤدى إلى حسن الأخلاق ، ومحاسنها تؤدى إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته . قال الحكيم : " والمراد بعترته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن . أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام ، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلى بالفضائل ، والتخلى عن الرذائل ، فإن كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائناً ما كان ، ولا يعارض حثه هنا على اتباع عترته حثه في خبر على اتباع قريش ، لأن الحكم على فرد من أفراد العام بحكم العام لا يوجب قصر العام على ذلك الفرد على الأصح ، بل فائدته مزيد الاهتمام بشأن ذلك الفرد ، والتنويه يرفعه قدره . ثم قال الشريف : هذا الخبر يفهم منه وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به ، كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض ، فإن ذهبوا ذهب أهل الأرض " ا . هـ.
وقال ابن تيمية بعد أن بيَّن أن الحديث ضعيف لا يصح : " وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة . قالوا : ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضى أبو يعلى وغيره " .
وقال أيضاً : " إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع ، والعترة بعض الأمة ، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة " .
بالنظر في هذه الأقوال ، وبتدبر متن الحديث ، نقول :(1/110)
يجب ألا يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت ، فكثير من الفرق التي رزئ بها الإسلام والمسلمون ادعت أنها هي التابعة لأهل البيت .
أهل البيت الأطهار لا يجتمعوا على ضلالة ، تلك حقيقة واقعة ، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الإسلام لم يجتمعوا على شىء يخالف باقي الأمة ، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية .
إذا نظرنا إلى أهل البيت كأفراد يتأسى بهم ، فمن يتأسى به منهم ، ونتمسك بسيرته ، لابد أن يكون متمسكاً بالكتاب والسنة ، فإن خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت .
وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فعند الخلاف نطبق قول الله :-
" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " (186?????)
لو كان ما ذكره الشريف من الفقه اللازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن ، فالأيام أثبتت بطلانه ، وإلا فمن الذي نؤمر باتباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال ؟
أبإحدى الفرق التي تنتسبب آل ؟ أم بجميع الفرق وكل فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره ؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق ؟ !
5. فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسك بهم ، فالعطف على الصغير ، ورعاية اليتيم ، والأخذ بيد الجاهل ، غير الأخذ عن العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا : روايات أخرى متصلة بالغدير
هناك روايات أخرى متصلة بالغدير منها في المسند عن الإمام على سبع روايات هي (187?????):-
حدثنا ابن نمير ، حدثنا عبدالملك ، عن أبى عبدالرحيم الكندى ، عن زاذان أبى عمر قال : سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس : من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال ؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : من كنت مولاه فعلى مولاه .(1/111)
حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا الربيع يعنى ابن أبى صالح الأسلمى ، حدثني زياد بن أبى زياد : سمعت على بن أبى طالب ينشد الناس فقال : أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال ؟ فقام اثنا عشر بدرباً فشهدوا .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن الحكيم الأودى ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن سعيد بن وهب ، عن زيد بن يثُيع قالا : نشد على الناس في الرحبة : من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام ؟ قال : فقام من قبل سعيد ستة ، ومن قبل زيد ستة ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين ؟ قالوا : بلى ، قال : اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن حكيم ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن عمرو ذى مر ، بمثل حديث أبى إسحق ، يعنى عن سعيد وزيد ، وزاد فيه: وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني عبد الله بن عمر القوايرى ، حدثنا يونس بن أرقم ، حدثنا يزيد بن أبى زياد ، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى قال : شهدت علياً في الرحبة ينشد الناس :
أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد ؟
قال عبدالرحمن : فقام اثنا عشر بدرياً ، كانى أنظر إلى أحدهم ، فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم وأزواجى أمهاتهم ؟ فقلنا : بلى يا رسول الله ، قال : فمن كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .(1/112)
قال عبد الله بن أحمد : حدثنا أحمد بن عمر الوكيعى ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الوليد بن عقبة بن نزار العنسى ، حدثني سماك بن العبيد ابن الوليد العبسى قال : دخلت على عبدالرحمن بن أبى ليلى ، فحدثنى أنه شهد علياً في الرحبة قال : أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهده يوم غدير خم إلا قام ، ولا يقوم إلا من قد رآه ؟ فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا : قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، فقام إلا ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم ، فأصابتهم دعوته .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا شبابة ، حدثني نعيم بن حكيم ، حدثني أبو مريم ورجل من جلساء على عن على : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه ، قال : فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه .
مناقشة الروايات
هذه هي الروايات السبع ، والرواية الأولى سندها ضعيف ، إلا أن متنها صحيح وهو : " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، والروايات الأخرى تؤيده ، كما أنه روى بطرق مختلفة عن غير الإمام على ، حتى عده بعض رجال الحديث من المتواتر أو المشهور (188?????).
وفى الروايتين الثالثة والخامسة نجد زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " . وفى الرابعة " وانصر من نصره ، واخذل من خذله " ولكن نجد في السابعة " فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه " .
فهذه الرواية تنص على أن الزيادة ليست من قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
والإشكال هنا أن هذه الروايات الأربع صحيحة السند ، وفى المسند كذلك عن زيد بن أرقم عدة روايات في بعضها زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " ، وفى بعضها إنكار لهذه الزيادة (189?????) ، وهذا يجعلنا نتوقف فلا نستطيع الحكم بأن هذا قول النبي الكريم أو زيادة الناس بعد إلا بمزيد من البحث للترجيح .(1/113)
والمهم هنا دلالة المتن مع الزيادة أو بدونها ، أيعتبر هذا نصاً في أن الخلافة يجب أن تكون للإمام على ؟
سبق بيان أن الولى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وبمعنى الناصر والخليل ، والقرآن الكريم عندما أمر بمولاة أقوام ، أو نهى عن موالاة آخرين جاءت الموالاة بمعنى النصرة والمحبة ، ولم تأت حالة واحدة بمعنى الولاية العامة على المؤمنين ، وهذه الروايات تأمر بموالاة الإمام على ونصرته وتنهى عن معاداته وخذلانه ، وهذا لا يخرج عن الاستعمال القرآنى كما هو واضح ، فإذا كان النهى عن المعاداة والخذلان ، فالأمر بالمحبة وهى الموالاة والنصرة ، ولا مكان للخلافة هنا ، ولو أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان التعبير بنص صريح لا يحتمل تأويلاً يخرجه عن معناه ، ولكانت القرائن كذلك تؤيده .
ومما يدل على أن المراد بالموالاة المحبة والنصرة لا الخلافة ، أن الإمام نشد الناس في الكوفة بعد أن آلت الخلافة إليه ، وأهل الكوفة - ومن ذهب معه إليها - بايعوه بلا خلاف ، ولكن أكثرهم خذلوه ولم ينصروه كما هو معلوم مشهور(190?????) ولو كان المراد بالموالاة الخلافة لاحتج بهذا على الخلفاء الراشدين السابقين وعلى من بايعهم ، وهذا لم يثبت على الإطلاق ، ولم أجد في كتب السنة التي رجعت إليها رواية واحدة تذكر مثل هذا الاحتجاج .(1/114)
وفى الفصل الأول ذكرت ما رواه البخاري ومسلم عن بيعة أبى الحسن للصديق ، وليس فيها ذكر لشىء عن الغدير ، ولم ينكر الإمام على أحقية الصديق و لا فضله ، وسر المسلمون بذلك الموقف وقالوا لعلى : أصبت وأحسنت ، وكانوا إليه قريباً حين راجع المعروف ، أي حين بايع ، ولو نشد المسلمين هنا لشهد المئات ممن حضر الغدير ، ومنهم من شهد بعد ذلك بالفعل في الكوفة ، ولكنه بين سبب تأخره عن البيعة بقوله لأبى بكر : " إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً " . وعند البيعة أمام المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر وتشهد ، وعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ، ولا إنكاراً للذى فضله الله به ، " ولكننا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علنا ، فوجدنا في أنفسنا " .
فالإمام على قد وجد في نفسه لأنه لم يشرك في أمر الخلافة واستبد بهغيره ، وله ما يؤيد وجهة نظره ، فأمر خطير كهذا لا يُقضى دون مشورة أبى الحسنين ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء ، إلى جانب فضله وسبقه وعلمه . وعذر أبى بكر وعمر وسائر الصحابة كان واضحاً - كما يقول النووى - لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ،ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لأنها كانت أهم الأمور ، كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله ، أو الصلاة عليه أو غير ذلك ، وليس لهم من يفصل الأمور ، فرأوا تقديم البيعة أهم الأشياء .
فلو كانت الموالاة تعنى الخلافة لاحتج بها على الصديق ومن بايعه ، ولما تمت البيعة أصلاً .(1/115)
والشكوى التي من أجلها دافع الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبى الحسن توضح أن المراد بالموالاه شىء آخر غير الخلافة ، أو على أقل تقدير لا ترجح أن الخلافة هي المراد .
وتبين الشكوى كذلك السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا في خطبته الجامعة يوم عرفة في حجة الوداع ، فلو كان المراد الخلافة لكان من الأرجح - إن لم يكن من المؤكد - أن يقال هذا في تلك الخطبة لا أن يقال بعد الشكوى(191?????).
قال الآلوسى :
" ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدى ، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد . ولا يتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة " (192?????).
وإذا كان عدم التقييد بلفظ بعدى في جميع الروايات السابقة يؤيد ما ذهب إليه الآلوسى ، فإنى وجدت روايات فيها التقييد ،وربما يستدل بها على أن المراد بالولاية أولوية التصرف ، ويحمل المطلق على المقيد حينئذ ، وهذه الروايات نجدها في المسند وسنن الترمذي ، ففيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن علياً منى وأنا منه ، وهو ولى كل مؤمن بعدى" (193?????) وزاد الترمذي : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من جعفر بن سليمان " . وجعفر هذا نجده في رواية الإمام أحمد كذلك ، ثم انفرد برواية أخرى عن طريق غير جعفر وفيها : " وإنه منى وأنا منه ، وهو وليكم بعدى " (194[194]).
وجعفر بن سليمان من شيعة البصرة ، وهو متكلَّم فيه : وثقة ابن معين وعباس وابن حبان والبزار . قال ابن سعد : كان ثقة وبه ضعف ، وكان يتشيع .
وقال أبو طالب عن أحمد : لا بأس به . قيل له : إن سليمان بن حرب يقول لا يكتب حديثه ؟ فقال : إنما كان يتشيع ، وكان يحدث بأحاديث في فضل على ، وأهل البصرة يغلون في على . قلت عامة حديثة رقاق ؟ قال :(1/116)
نعم ، كان قد جمعها وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه ، وكان يستضعفه . وكان عبدالرحمن بن مهدى يستثقل حديثه .
وقال البخاري : يقال كان أميّاً ، وقال في الضعفاء ، يخالف في بعض أحاديثه . وقال ابن المديني : هو ثقة عندنا ، وقال أيضاً : أكثر عن ثابت ، وبقية أحاديثه مناكير .
وقال ابن شاهين في المختلف فيهم : إنما تكلم فيه لعلة المذهب ، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار يقول : جعفر بن سليمان ضعيف .
وبغير ترجيح لتوثيق جعفر بن سليمان أو تضعيفه يمكن القول بأن حديثاً ينفرد به ويتصل بمذهبه لا يرقى إلى مرتبة الاحتجاج .
والرواية الأخرى للإمام أحمد نجد في سندها الأجلح الكندى (195[195]) ، وهو من شيعة الكوفة ، ومتكلَّم فيه أيضاً ، وثقه ابن معين والعجلى وابن عدى ، وقال يعقوب بن سفيان : ثقة حديثة لين .
وقال أحمد : روى الأجلح غير حديث منكر .
وقال القطان : في نفسى منه شىء . وقال أيضاً : ما كان يفصل بين الحسين ابن على وعلى بن الحسين ، يعنى أنه ما كان بالحافظ . وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول ، جعل أبا سفيان أبا الزبير .
وضعفه أبو داود والنسائى وأبو حاتم ، وقال ابن سعيد : كان ضعيفاً جداً ، بل وصمه الجوزجانى بالافتراء . إذن فهذه الرواية التي انفرد بها أحمد عن الأجلح لا يحتج بها ، ولا توجد روايات فيها تقييد بلفظ بعدى ، وبذا يظل ما ذكره الآلوسى صحيحاً .
رابعا : روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
بعد هذا كله نقول : إن الروايات السابقة هي جميع ما يتصل بالغدير عمدة أدلة الشيعة ، ومن عرضها ومناقشتها تبين لنا أنها لا تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية
من القول في الإمامة ، وتوجد روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم ، نعرض أهمها ونناقشها بشىء من الإيجاز .(1/117)
1-خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ؟ فقال : " أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدى " .
هذا الحديث الشريف رواه الشيخان وغيرهما (196?????) ، وهو بلا شك يدل على فضل الإمام كرم الله وجهه ، وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة آخرين(197?????) ، فهذا الاستخلاف ليس خاصاً بأبى الحسن ، ومثل هذا الاستخلاف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لايقتضى الخلافة في الأمة بعد مماته ، ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الخلافة العظمى لقالها ، فما يمنعه صلى الله عليه وسلم ولقال ذلك للمسلمين ، ووجب عليهم السمع والطاعة وإن ولى عليهم عبد حبشى مجدع الأطراف . وواضح من شكوى الإمام في جعله مع الخوالف من النساء والصبيان أن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ترضية لنفسه وتهدئة لخواطره ، فموسى استخلف هارون عليهما السلام عندما توجه إلى الطور ، ولكن الجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم " أنزله منه منزلة هارون من موسى ، ولم يستثن من جميع المنازل إلا النبوة ، واستثناؤها دليل على العموم " (198?????).(1/118)
وقولهم فيه نظر ، فمثلاً كان هارون أخاً لموسى وأفصح منه لساناً ، وهذا ينقض العموم ، لأن هاتين المنزلتين لا تتحققان لعلى . بل إن التطابق لا يتحقق في الاستخلاف ذاته ، فموسى استخلف أخاه على بنى إسرائيل وذهب هو للمناجاة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف ابن عمه على المدينةوليس فيها إلا من لم يخرج للقتال من النساء ، والصبيان والعجزة ، أما عامة المسلمين فكانوا الجيش الذي خرج للقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن " هارون لم يل أمر بنى إسرائيل بعد موسى عليهما السلام ، وإنما ولى الأمر بعد موسى رضي الله عنه يوشع بن نون فتى موسى وصاحبها الذي سافر معه لطلب الخضر عليهما السلام ، كما ولى الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (199?????).
2-روى الإمام البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" يكون اثنى عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبى : إنه قال : كلهم من قريش (200?????) " .
وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبى على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : " إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة ، قال : ثم تكلم بكلام خفى على قال : فقلت لأبى ما قال ؟ قال : كلهم من قريش " .
وفى رواية أخرى " لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً " وفى إحدى الروايات كذلك " لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثنى عشر خليفة " (201?????) ، وفى رواية لأبى داود " كلهم تجتمع عليه الأمة " (202?????).
وتحديد الخلفاء باثنى عشر هو الذي جعل الاثنى عشرية يحتجون بهذه الروايات ، ولكن من الواضح أن هذه الروايات تشير إلى المدة التي يظل فيها عزة الإسلام والدين ، وصلاح حال المسلمين . وعلى قول الجعفرية تظل هذه العزة وهذا الصلاح إلى يوم القيامة كما يظهر من قولهم في الإمام الثانى عشر !(1/119)
وواقع الأمر ودلالة الروايات يدلان على غير هذا . ومن الواضح كذلك أن الأمة لم تجتمع على أئمة الجعفرية ، بل لم يتولوا الخلافة أصلاً باستثناء الإمام على.
3-أخرج البخاري(203[203]) عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم قال : وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدى. قال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله . واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال : قوموا عنى .
قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .
وعن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ؟ اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : إئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً . فتنازعوا ، ولاينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا : ماشأنه أهجر؟ استفهموه ، فذهبوا يردون عليه فقال : دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه ، وأوصاهم بثلاث ، قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيتها (204?????).(1/120)
وفى رواية للإمام أحمد (205[205]) : حدثنا سفيان عن سليمان بن أبى مسلم خال ابن أبى نجيح ، سمع سعيد جبير يقول : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بل دمعه - الحصى ، قلنا يا أبا العباس ، وما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : ائتونى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا ما شأنه ؟ أهجر ؟ قال سفيان : يعنى هذى ، استفهموه ، فذهبوا يعيدون عليه ، فقال : دعونى ، فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه ، وأمر بثلاث ، وقال سفيان مرة أوصى بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت سعيد عن الثالثة ، فلا أدرى أسكت عنها عمداً ، وقال مرة أو نسيها ؟ وقال سفيان مرة : وإما أن يكون تركها أو نسيها .
ووردت هذه الروايات كذلك في صحيح مسلم (206?????).(1/121)
ولا تبدو صلة بين هذه الروايات وبين الإمامة ، ولكن الوصية الثالثة - التي نسيت أو تركت - كانت المدخل للجدال ! فوجدنا من الجعفرية من يقول بأن الصحابة " علموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد توثيق العهد بالخلافة ، وتأكيد النص بهذا علَى علىّ خاصة ، وعلى الأئمة من عترته عامة ، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثانى في كلام دار بينه وبين ابن عباس ، وأنت إذا تأملت في قوله صلى الله عليه وسلم " ائتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده " ، وقوله في حديث الثقلين : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " ، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد ، وأنه صلى الله عليه وسلم أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين " - كتاب المراجعات ص 284 ، وفى ص 255 قال : " ومع ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا ثلاث : أن يولوا عليهم علياً ، وأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزه ، لكن السلطة والسياسة يومئذ ما أباحتا للمحدثين بوصيته الأولى ، فزعموا أنهم نسوها " .
ولسنا في حاجة إلى الحديث عن كبار الصحابة ، رضوان الله عليهم . وعن تنزيههم عن مثل هذه المفتريات ، ولكن يكفى أن نقول : بأن هذه الروايات ليست دليلاً قائماً بذاته وإنما يحتاج إلى أدلة أخرى لترجيح احتمالات الوصية الثالثة وما أريد كتابته ، ولذلك احتج بحديث الثقلين للاستدلال ، وهذا الحديث لم يصح له إسناد كما ثبت من قبل ، والذى صح حديث التمسك بالكتاب والسنة ، فلعله هو المراد من الوصية الثالثة .(1/122)
على أن ذلك من باب الترجيح لا الجزم (207?????) . واتهام المحدثين بأنهم زعموا النسيان خوفاً من السلطة وميلاً مع السياسية ، وهم يعلمون أن الوصية خاصة بخلافة على ، هذا الاتهام لو صح فإنه يوجه إلى سعيد بن جبير ، ويكفى لرده أن يعرف تاريخ سعيد ، وشجاعته أمام الحجاج ، وأن نقرأ ما كتب عنه في كتب الجعفرية أنفسهم (208?????) .
وإن تعجب فعجب قولهم بأن الفاروق اعترف بأن الكتاب أريد به توثيق العهد بالخلافة لعلى والأئمة من عترته ، وأنه هو وكبار الصحابة صدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ! (209?????) .
وسيأتي بعد قليل رواية الصحيحن عن عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف .
خامسا : روايات لها صلة بموضوع الإمامة
مما سبق نرى أن السنة النبوية - كما روتها الكتب الثمانية وغيرها أيضاً مما رجعنا إليه - ليس فيها ما يؤيد عقيدة الشيعة الجعفرية في الإمامة ، وفى هذه الكتب وردت روايات أخرى لها صلة بموضوع الإمامة نعرضها ونناقشها فيمتا يأتي :-
من يؤمّر بعدك ؟
1- روى الإمام أحمد بسند صحيح (210?????) عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " قيل : يا رسول الله : من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا عليّاً ، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " .
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الإمامة بالاختيار لا بالتعيين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً ، وإنما جعل هذا للمسلمين ، وذكر ثلاثة يصلحون لخلافته (211?????).
الاستخلاف(1/123)
2- روى الشيخان بسندهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " قيل لعمر : ألا تستخلف ؟ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ؛ أبو بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى ، رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأثنوا عليه فقال : راغب راهب ، وددت أنى نجوت منها كفافاً لا لي ولا على ، لا أتحملها حياً وميتاً " (212?????) .
وفى رواية أخرى لمسلم بسند آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : " دخلت على حفصة فقالت : أعلمت أن أباك غير مستخلف ؟ قال : فقلت : ما كان ليفعل . قالت : إنه فاعل . قال : فحلفت أنى أكلمه في ذلك ، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه ، قال : فكنت كأنما أحمل بيمينى جبلاً حتى رجعت ، فدخلت عليه ، فسألنى عن حال الناس وأنا أخبره ، قال : ثم قلت : إنى سمعت الناس يقولون فآليت أن أقولها لك ، زعموا أنك غير مستخلف ، وإنه لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد . قال : فوافقه قولى فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلىّ فقال : إن الله عز وجل يحفظ دينه ، وإنى لئن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف . قال : فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، وأنه غير مستخلف" (213?????).
وروى أحمد بسند صحيح عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " لتخضبن هذه من هذا ، فما ينتظر بى الأشقى ؟ قالوا : ياأمير المؤمنين ، فأخبرنا به نبير عترته ! قال : إذن تالله تقتلون بى غير قاتلى ، قالوا : فاستخلف علينا ، قال : لا ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال : اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك ، ثم قبضتنى إليك وأنت فيهم ، فإن شئت أصلحتهم ، وإن شئت أفسدتهم " .(1/124)
وفى رواية بسند آخر أن الإمام قال : " والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه ، قال الناس : فأعلمنا من هو ؟ والله لنبيرن عترته ! قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلى ، قالوا : إن كنت قد علمت ذلك استخلف إذن . قال لا ، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (214?????).
فهذه الروايات تدل على أن عمر وعلياً رضي الله عنهما لم يستخلفا أحداً تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهى تشترك مع الرواية الأولى في الدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحد لخلافته .
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن قيس بن عباد قال : " كنا مع على فكان إذا شهد مشهداً أو أشرف على أكمة أو هبط وادياً قال : سبحان الله ! صدق الله ورسوله ، فقلت لرجل من بنى يشكر : انطلق بنا إلى أمير المؤمنين حتى نسأله عن قوله صدق الله ورسوله ، قال : فانطلقنا إليه : فقلنا : يأأمير المؤمنين ، رأيناك إذا شهدت مشهداً ، أو هبطت وادياً ، أو أشرفت على أكمة ، قلت : صدق الله ورسوله ، فهل عهد رسول الله إليك شيئاً في ذلك ؟ قال : فأعرض عنا ، وألححنا عليه ، فلما رأي ذلك قال : والله ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً إلا شيئاً عهده إلى الناس ، ولكن الناس وقعوا على عثمان فقتلوه ، فكان غيرى فيه أسوأ حالاً وفعلاً منى ، ثم إنى رأيت أنى أحقهم بهذا الأمر فوثبت عليه ، فالله أعلم أصبنا أم أخطأنا (215?????).
وكذلك يؤيد ما سبق ما رواه الشيخان وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ولم يوص ، وقد روى هذا عن ابن عباس ، وعبد الله بن أبى أوفى ، والسيدة عائشة (216?????) .
يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر(1/125)
3- روى البخاري بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلوات الله عليه قال : " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد ، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ، ثم قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون " (217?????) .
وروى مسلم عنها أيضاً أنها قالت : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : ادعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (218?????) .
وأخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الشريف بسند صحيح كسند مسلم ، وبسندين آخرين (219?????).
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلافة لو كانت بالنص لكانت لأبى بكر الصديق ، فهو الأولى بها ، وتم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد أبى الله سبحانه والمؤمنون إلا أبا بكر .
وأرى أن الرسول صلوات الله عليه قد مهد لخلافة الصديق بعدة أمور ، منها : جعله أمير الحج في العام التاسع ، ولما أرسل أبا الحسن بسورة براءة لم يرسله أميراً ، بل جعله تحت إمرة الصديق .
ومنها خطبته صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبى سعيد الخدري قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ماعند الله . فبكى أبو بكر رضي الله عنه ، فقلت في نفسى : ما يُبكى هذا الشيخ ، إن يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ما عند الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد ، وكان أبو بكر أعلمنا .
قال : يا أبا بكر لا تبك ، إن أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتى لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " .(1/126)
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنه ليس من الناس أحد أمن على في نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة ، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل ، سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر " (220?????).
وروى الخطبة كلُُّ من أحمد والترمذى بسند صحيح (221?????).
ومما مهد كذلك لخلافة الصديق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤم المسلمين في الصلاة عندما اشتد المرض ولم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم ، واستمر المسلمون مأمومين خلف أبى بكر إلى أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى .
وروى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود ، وروى النسائي عنه أيضاً (222?????) قال : " لما ُقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر فقال : يا معشر الأنصار ، ألستهم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . فإمامة الصلاة إذن مما مهد للإمامة الكبرى (223?????).
ومما مهد لهذه الإمامة كذلك ما رواه الشيخان بأسانيدهما عن جبير بن مطعم قال : أتت النبيصلى الله عليه وسلم امرأة فكلمته في شئ فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : يا رسول الله ، أرأيت إن جئت ولم أجدك كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (224?????).
المهدى
4-أخرج أحمد في مسنده عن الإمام على قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهدى منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ".
وفى رواية أخرى " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منا ، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً " .(1/127)
وفى المسند أيضاً عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يلى رجل من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمى " .
وفى رواية ثانية : " لا تذهب الدنيا أو قال : لا تنقضى الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمى " ، ووردت هذه الرواية بأسانيد أخرى (225?????).
وأحاديث المهدى لم يرد منها شىء في الصحيحين ، ولكنها جاءت في المسند وكتب السنن ، وكثر حولها الجدل . والذى يعنينا هنا هو أن الأحاديث منها صحيحة الأسانيد بما لايدع مجالاً لرفضها (226?????) ومع هذا فإنها لا تدل على أنه المهدى الذي قالت به " الجعفرية " وإنما هو رجل من أهل البيت يُبعث قبيل الساعة ، وفى بعض الروايات أنه يحكم خمس سنين أو سبعاً أو تسعاً (227?????).
فلابد من أحاديث أخرى تبين أنه الإمام الثانى عشر المعين بالنص ، الذي بقى من القرن الثالث الهجرى إلى قيام الساعة (228?????) !
وهاذا ما لم نجده في كتب الحديث الثمانية التي التزمنا الرجوع إليها ، ولا في غيرها من الكتب التي رجعنا إليها ، بل وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً للخلافة من بعده كما ذكرنا من قبل ، والإمام الثانى عشر الذي قالت به الجعفرية تبع لقولهم في باقي الأئمة . ووجدنا كذلك في بعض الأحاديث ما ينقض قول الجعفرية ، ففيها " يؤاطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " . وفيها أن علياً نظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنهما فقال : إن ابنى هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الُخلق ولا يشبهه في الخْلق صلى الله عليه وسلم.... يملأ الأرض عدلاً (229?????)
وبعد : فتلك سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تشهد بصحة ما ذهب إليه جمهور المسلمين ، وتشهد بأن الإمامة ما كانت بنص ولا تعيين . فالحمد لله عز وجل الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله .
الفصل الرابع(1/128)
الاستدلال بالتحريف والوضع
رأينا في الفصول السابقة أن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية لا تستند إلى شيء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شيء من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلا يؤيد مذهبهم .كما رأينا أن السنة النبوية المطهرة لا تؤيد هذه العقيدة الباطلة ، بل تعارضها، وتثبت بطلانها بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة .
والإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ إنما يستمد من الكتاب العزيز والسنة المشرفة . وكان إذن يمكن الاكتفاء بما سبق والانتقال إلى موضوع آخر ، غير أننى رأيت أن كتبهم التي يحاولون بها إفساد المجتمع المسلم ، ونشر هذه العقيدة الباطلة ، رأيت هذه الكتب لا تكتفي بما سبق مما ناقشناه من الأدلة ، بل تلجأ إلى تحريف القرآن الكريم نصا ومعنى ، وجمع الروايات المختلفة للأحاديث الموضوعة والباطلة ، وتقدم كل هذا على أنه أدلة ثابتة أو يقينية متواترة تؤيد عقيدتهم . وغير أهل الاختصاص ، وهم الكثرة ، بل عامة الناس ، لا يستطيعون أن يميزوا بين الروايات الصحيحة وغير الصحيحة .
ولذلك كان من المناسب كشف هذا التضليل وبيان هذا الباطل . ومن الكتب القديمة التي حاولت إفساد المجتمع المسلم آنذاك كتاب " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " لابن المطهر الحلي وقد رد عليه بالتفصيل ممن عاصره شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه القيم الفذ " منهاج السنة النبوية " .
وفى عصرنا وجدنا كتابا طبع منه ملايين النسخ ، أو مئات الآلاف على أقل تقدير ، حاول مؤلفه أيضا أن يفسد المجتمع المسلم المعاصر ، وأن يشككه في عقيدته الصحيحة ، ويزين له باطل هذا الرافضي ، وهذا الكتاب المشهور هو كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، وقد رددت عليه بكتابي" المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " .(1/129)
وفى هذا الفصل أتناول شيئا من كتابى الرافضيين ، والرد عليهما ، وبيان بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال ، كما نبين منهج الرافضة في التضليل، والله عز وجل هو المستعان .
تحريف القرآن الكريم
للاستدلال بالقرآن الكريم على عقيدة الرافضة ، سلكوا كغيرهم من الفرق الضالة مسلك التحريف في النص والمعنى ، وسنرى هذا بوضوح وجلاء عند دراستنا لكتب تفسيرهم ، وبيان موقفهم من القرآن الكريم ، وكذلك عند عرضنا لكتابهم الأول ـ والأعلى عندهم ـ في الحديث ، وهو كتاب الكافى ، وذلك أثناء عرض الأبواب والأخبار المتصلة بالقرآن المجيد .
وعبد الحسين في كتابه نرى المراجعة الثانية عشرة تدور حول ما أسماه " حجج الكتاب " ، وذكر فيها كثيرا من الآيات الكريمة ، وحرف معناها حتى بدا القرآن الكريم كأي كتاب من كتب الفرق الضالة وليس " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" ، " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ " فعلى سبيل المثال جاء في هذه المراجعة أن الرافضة هم مراد الله تعالى فيمن ذكر أنهم أصحاب الجنة ، والمتقون ، وخير البرية ، ... إلى آخره ، أما خير أمة أخرجت للناس من الصحابة الكرام الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، فهؤلاء في زعم خليفة ابن سبأ هم أصحاب النار ، والفجار ، والكفار ، وكذلك خير البشر بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، حيث خصهما بمزيد من الطعن ؛ فهما في زعمه الجبت والطاغوت وأئمة الضلال . وهكذا يستمر هذا الرافضي اللعين في زندقته وضلاله مما يوجب إقامة الحد عليه .(1/130)
وما ذكره هذا الرافضي يردده غلاة الرافضة في كتبهم واستدلالاتهم . ومعظم ما ذكره هنا سبقه إليه ابن المطهر الحلى ، حيث جاء بأربعين آية كريمة ، وحرف معناها لتتفق مع ضلاله . وقد أثبتها كاملة شيخ الإسلام وأجاب عنها ، وفصل بطلان الاستدلال بها في الجزء السابع من منهاج السنة ( من بدايته إلى ص 297 ) ولولا الإطالة لنقلت تلك الصفحات ، ففيها إقناع وإمتاع ، وفضح للغلاة الرافضة . وسأكتفى هنا بذكر جزء جاء في بداية الرد على البرهان الأول ، وهو نفسه الدليل الأول الذي ذكرته في الفصل الثانى من هذا الباب ، وهو ما يتعلق بقوله تعالى " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ?"( 55 : المائدة ) بعد ذكر كلام الرافضي قال شيخ الإسلام :
والجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل ، من جنس السفسطة ، وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة ؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين ، كقوله تعالى:
" وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة البقرة : 111 ) .
وقال تعالى :
" أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة النمل : 64 ) .
فالصادق لابد له من برهان على صدقه ، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم .(1/131)
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب ، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة ، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل . وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها ، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس ، مع أنه قد يكون كذبا عليه ، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس . فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه ، وقد خالفه الأكثرون برهانا ، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض ، والبراهين لا تتناقض .
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين ، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر ، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه ، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق ، وأن القرآن حق ، وأن دين الإسلام حق ـ تناقض ما ذكره من البراهين ، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب ، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول .
وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين ، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام ، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام ، وروجوها على أقوام ، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل ، فقبلها لهواه ، ولم ينظر في حقيقتها . ومنهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام ، فقال بموجبها ، وقدح بها في دين الإسلام ، إما لفساد اعتقاده في الدين ، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام .
ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب ؛ فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلَّطوا به على الطعن في الإسلام ، وصارت شبها عند من لم يعلم أنها كذب ، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام .(1/132)
وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية ، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين ، وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث ، كأئمة العُبيْديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ، ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضُلاَّل ، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة ، إلى القدح في علىّ ، ثم في النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في الإلهية ، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر ، والناموس الأعظم . ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد .
ثم نقول : ثانيا : الجواب عن هذه الآية حق من وجوه : الأول : أنا نطالبه بصحة هذا النقل ، أو لا ُيذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبى ، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات ، الصادقين في نقلها ، ليس بحجة باتفاق أهل العلم ، إن لم نعرف ثبوت إسناده . وكذلك إذا روى فضيلة لأبى بكر وعمر ، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم .
فالجمهور ـ أهل السنة ـ لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته : لا حكما، ولا فضيلة ، ولا غير ذلك . وكذلك الشيعة .
وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها ، بطل الاحتجاج به . وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبى نُعيم أو الثعلبى أو النقاش أو ابن المغازلى ونحوهم .
الثانى : قوله : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " من أعظم الدعاوى الكاذبة ، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علىّ بخصوصه ، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة ، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع .(1/133)
وأما ما نقله من تفسير الثعلبى ، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبى يروى طائفة من الأحاديث الموضوعات ، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبى أمامة في فضل تلك السورة ، وكأمثال ذلك . ولهذا يقولون : " هو كحاطب ليل " .
وهكذا الواحدى تلميذه ، وأمثالهما من المفسرين : ينقلون الصحيح والضعيف .
ولهذا لما كان البغوى عالما بالحديث ، أعلم به من الثعلبى والواحدى ، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبى ، لم يذكر في تفسيره شيئا من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبى ، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبى ، مع أن الثعلبى فيه خير ودين ، لكنه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث ، ولا يمّيز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال .
وأما أهل العلم الكبار : أهل التفسير ، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقىّ بن مخلد ، وابن أبى حاتم ، وابن المنذر ، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، وأمثالهم ـ فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات .
دع من هو أعلم منهم ، مثل تفسير أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . بل ولا ُيذكر مثل هذا عند ابن حُميد ولا عبد الرزاق ، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ، ويروى كثيرا من فضائل علىّ ، وإن كانت ضعيفة ، لكنه أجل قدرا من أن يروى مثل هذا الكذب الظاهر .
وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد ، من جنس الثعلبى والنقَّاش والواحدى ، وأمثال هؤلاء المفسرين ، لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا ، بل موضوعا . فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى ، لم يجز أن نعتمد عليه ، لكون الثعلبى وأمثاله رووه ، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب ؟ !(1/134)
…وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يبيّن كذبه عقلا ونقلا ، وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله ، حيث قال : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " فيا ليت شعرى من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور ؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات ، وما فيها من إجماع واختلاف .
فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم ، لو ادّعى أحدهم نقلا مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه ، فكيف إذا ادّعى إجماعا ؟ !
الوجه الثالث : أن يقال : هؤلاء المفسرون الذين نقَلَ من كتبهم ، هم ـ ومن هم أعلم منهم ـ قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى ، والثعلبى قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول : نزلت في أبى بكر . ونقل عن عبد الملك : قال : سألت أبا جعفر ، قال : هم المؤمنون . قلت : فإن ناسا يقولون : هو علىّ . قال : فعلىُّ من الذين آمنوا . وعن الضحاك مثله .
وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا معاوية بن صالح ، حدثنا علىّ بن أبى طلحة ، عن ابن عباس في هذه ، قال: " كل من آمن فقد تولَّى الله ورسوله والذين آمنوا " . قال : وحدثنا أبو سعيد الأشجّ عن المحاربىّ ، عن عبد الملك بن أبى سليمان ، قال : سألت أبا جعفر محمد بن علىّ عن هذه الآية ، فقال : " هم الذين آمنوا " . قلت : نزلت في علىّ ؟ قال : علىّ من الذين آمنوا . وعن السدى مثله .
الوجه الرابع : أنّا نعفيه من الإجماع ، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح . وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبى إسناده ضعيف ، فيه رجال متهمون . وأما نقل ابن المغازلى الواسطى فأضعف وأضعف ، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلىَ من له أدنى معرفه بالحديث ، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا .
واستمر شيخ الإسلام إلى أن ذكر تسعة عشر وجها .(1/135)
والملاحظ أن ابن المطهر كان أكثر ترتيبا وتنظيما من خلفه رافضى المراجعات ، وأنه كان ضالا غاليا رافضيا خبيثا ، ومع هذا كله كان أقل فحشا وسوءا من عبد الحسين .
والملاحظ أيضا أن عبد الحسين ذكر المراجع التي رجع إليها ابن المطهر ، غير أنه أضاف إليها مراجع أخرى ، فأكثر من النقل من الصواعق المحرقة ، وسيأتي الحديث عنه لفضح منهج هذا الرافضي في نقله من الكتب ، كما نقل من مراجع تحتاج إلى وقفة خاصة .
من هذه المراجع صحيح البخاري !
ومن المسلم به بين جمهور الأمة أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ، فكيف يستدل به هذا الرافضي ؟ ! وما عهدناه يستدل بغير الموضوع والباطل . فلننظر ماذا أخذ من صحيح البخاري .
قال الرافضي : وقال ـ أي الله عز وجل فيهم وفى خصومهم :
" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ" ( 19 : الحج )
وقال في الحاشية : أخرج البخاري في تفسير سورة الحج بالإسناد إلى علي قال : أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة . ( قال البخاري ) : قال قيس : وفيهم نزلت : " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : على وصاحباه حمزة وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة وصاحباه عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .
قلت : نزول هذه الآية الكريمة في الذين بارزوا يوم بدر من المسلمين وكفار قريش أخرجه الإمام البخاري في التفسير وفى المغازي من صحيحه ، كما أخرجه غيره . والاختصام هنا واضح أنه بين المسلمين وغيرهم وهم الكفار، وبينت الآية الكريمة جزاء الذين كفروا ، وما سيلقونه في جهنم .(1/136)
ومن المعلوم أن الذين خرجوا للمبارزة أولا كانوا من الأنصار ، فرفض المشركون ، فخرج هؤلاء الثلاثة الكرام . وكان خلفهم جيش المسلمين بقيادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر الصديق في العريش ، وهو مركز القيادة ، وليس معه غيره . وممن شهد بدرا عمر وعثمان (230[230]) رضي الله عنهم جميعا . والرافضى جعل هذه المراجعة لحجج الكتاب التي تثبت ما عليه الرافضة من القول بإمامة على ومن بعده ، وتبطل ما عليه جمهور المسلمين من مبايعة أبى بكر بالخلافة ، ومن بعده من الخلفاء الراشدين . وهذا يعنى أن الرافضي ـ لعنة الله عليه ـ جعل الرافضة وحدهم هم المسلمين ، وجعل الخلفاء الراشدين الثلاثة ومن بايعوهم هم الذين كفروا ، وقطعت لهم ثياب من نار .
أي أن الآية الكريمة ـ بحسب فريته ـ لم تجعل الاختصام بين المسلمين وكفار قريش ، وإنما في أهل بدر أنفسهم ممن كانوا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأولهم من كان معه في العريش حيث كان أول الخلفاء الراشدين بعد ذلك .
فالرافضى أخذ الخبر الصحيح من البخاري ، ثم وضع أهل بدر ـ رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ بدلا من كفار قريش ! ! انظر كيف يفترى علىالكذب !( ومع كل هذا الكفر والفجور فسينسب للإمام البشرى إعجابه بحججه ، واتهامه لمن خالف هذا الرافضي ! ولذلك أثبت يقينا أن المراجعات المنسوبة لشيخ الأزهر البشرى ، علامة زمانه ، افتراها عليه الرافضي عبد الحسين )
هذا هو أحد خبرين أخذهما من صحيح البخاري .
وإليك الخبر الثانى :
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (56: الأحزاب )
نقل الرافضي عن البخاري ومسلم أيضا ما يأتي :(1/137)
" فقالوا : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، الحديث " ثم قالالرافضي : " فعلم بذلك أن الصلاة عليهم جزء من الصلاة المأمور بها في هذه الآية " . ا . هـ.
قلت : هذه رواية متفق على صحتها ، ولكن من الآل ؟
ذكرت عند آية التطهير أن طائفة من العلماء احتجوا على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء في الصحيحين عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل ابراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته . . . إلخ " فهذه الرواية مفسرة للرواية الأولى . ونحن نعرف موقف الرافضة من أمهات المؤمنين .
والرافضة يزعمون أن فرقتهم هي مذهب أهل البيت في الأصول والفروع ، وزعمهم يحتاج إلى وقفة من البداية لتجلية هذا الأمر ، وإزالة هذا اللبس والتلبيس ، فقد كان لهذا أثره على السذج من الناس الذين لا يعرفون حقيقةهذه الفرقة .
ومن المعروف أن عشرات الفرق من الشيعة ينازع بعضها بعضا في هذا الزعم ، بل إن عبد الله بن سبأ ـ الذي وضع فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبنتها فرق الغلاة ـ يزعم أنه هو نفسه من أتباع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحدد أولا المراد بالأهل :
جاء في المعجم الوسيط تحت مادة أهل :
أهل يأهل أهلا وأهولا : تزوج ، وأهل المكان أهولا : عمر بأهله ، وأهل فلانة : تزوجها .
والأهل : الأقارب والعشيرة والزوجة .
وأهل الدار ونحوها : سكانها .
وفى معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية قال في مادة أهل :أهل : يحدد معناه بما يضاف إليه .
فأهل الرجل : زوجه ، وعشيرته ، وذوو قرباه .
وأهل الدار : سكانها .
وأهل الكتاب ، وأهل الإنجيل ، وأهل القرية ، وأهل المدينة ، ... إلخ : من يجمعهم الكتاب ، أو الإنجيل ... إلخ .(1/138)
ثم أشار إلى الآيات الكريمة التي ورد فيها كلمة أهل .
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :
" بنى على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعيا ... فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك .. فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة (231[231]) .
من هذا نرى أن أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم : زوجاته أمهات المؤمنين ـ رضي الله تعالى عنهن ، وذريته وذوو قرباه ـ رضي الله تعالى عنهم : كعلى بن أبى طالب ، وابن عباس وأبيه ، وجعفر ، وغيرهم . وأهل السنة والجماعة يقدرون أهل البيت جميعا حق قدرهم ، وينزلون هؤلاء الأطهار منزلتهم ، ويأخذون بما صح عنهم من الأحاديث و الآثار ، وكتبنا تشهد بذلك : انظر مثلا ما روى عن فضائلهم في كتب السنة المشرفة ، وما روى عنهم من الأحاديث الشريفة والآثار .
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختص أحدا بعلم دون غيره ، وإنما علم صحابته الكرام ، وأهل بيته الأطهار ، وعلى الأخص زوجاته أمهات المؤمنين .
والصحابة الكرام جميعا ـ سواء منهم من كان من أهل البيت ومن كان من غيرهم من المهاجرين والأنصار ، هم خير أمة أخرجت للناس ، شهد لهم ربهم عز وجل في كثير من آيات كتابه البينات المحكمات ، وكفى بالله شهيدا ، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أعظم شهادة من لا ينطق عن الهوى ، المبلغ والمبين عن الله ـ سبحانه وتعالى .
وعن هؤلاء الصحابة الكرام ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، نقل إلينا كتاب ربنا العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة نبينا المطهرة ، وما يتصل بهما من البيان والأحكام ، فتم علينا نعمة الله ـ تبارك وتعالى .(1/139)
ولذلك اشتهر قول أبى زرعة الرازى :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعلم أنه زنديق . وذلك أن القرآن حق ، والرسول حق ، وما جاء به حق . وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
هذا موقف جمهور المسلمين من خير القرون ، فما موقف عبد الحسين وفرقته ؟
أما موقفهم من غير أهل البيت من الصحابة الكرام ، فليس موقف انتقاص فقط كما قال أبو زرعة ، وإنما سنجد في كتبهم التي قال عنها عبد الحسين في مراجعات تأتى فيما بعد : بأنها مقدسة ، ومتواترة ـ ما يشيب لهوله الولدان . سنجد الطعن والتفسيق ، بل التكفير والنفاق .. لمن ؟ لخير أمة أخرجت للناس !! وسيأتي هذا مفصلا في موضعه من كتابنا هذا .
وما موقفهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أمهات المؤمنين ، وهن أول المراد من أهل البيت ، فهن : الصديقة بنت الصديق ، عائشة ـ رضي الله عنهما ـ المعلوم منزلتها عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنزلتها العلمية وما استدركته على الصحابة ...إلخ ، غير أنها بنت خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى متواترا عن على رضي الله تعالى عنه ، وعن غيره ، وهذه الفرقة ترى أنه أول من اغتصب الخلافة ، وموقف أم المؤمنين من أمير المؤمنين على معروف ـ وإن نقل مشوها ، ولذلك فهم لا يأخذون شيئا من علمها الذي علمها إياه زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يعتبرونها ـ والعياذ بالله ـ كافرة لأنها اشتركت في الحرب ضد الإمام ، وهذا واضح فيما سبق من بيان عقيدة الإمامة عندهم .
وأم المؤمنين حفصة لم تسلم من طعن هذه الفرقة ، لموقفهم من أمير المؤمنين عمر الفاروق ـ رضي الله عنه : ففي قوله تعالى :(1/140)
" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا "(232[232]) نرى الطعن في تفسير هذه الفرقة :
يقول أحد علمائهم ، بل علامتهم المجلسى : " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض ، بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما !! " (233[233]) .
كما طعنوا في أمهات المؤمنين : أم حبيبة ، وصفية وسودة رضي الله تعالى عنهن (234[234]). ( انظر إلى ما ذكره عبد الحسين من الكتب المقدسة التي تحمل علم أهل البيت !! )
ولم يقف الأمر عند أمهات المؤمنين ، بل طعنوا في غيرهن من أهل البيت : فهذا مثلا عبد الله بن عباس ، حبر الأمة وترجمان القرآن ، وأبوه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا قالوا فيهما ؟
من أهم كتبهم وأقدمها التي يرى عبد الحسين وغيره أن كل ما جاء فيه صحيح : تفسير على بن إبراهيم القمي ، وستأتى دراسة مفصلة لهذا الكتاب ، ونجد القمي يروى أن ابن عباس ، وأباه ، نزل فيهما قوله تعالى : " وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (235[235]) ، وفى أبيه نزل قوله تعالى : " وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (236[236])
ولم يقف أمر هؤلاء القوم عند هذا الحد ، بل تجرءوا على بنات النبي صلى الله عليه وسلم غير السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن جميعا وأرضاهن ! أي والله بنات النبي نفسه صلى الله عليه وسلم !(1/141)
فقوم عبد الحسين لا يريدون أن يكون لأحد شرف مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم غيرعلى رضي الله تعالى عنه ، ولذلك الذين اجترءوا على القرآن الكريم وقالوا بتحريفه ، منهم من ذكر أن سورة الشرح أسقط الصحابة منها : وجعلنا عليا صهرك(237[237]) .
فإذا كان علي من أهل البيت ، وله شرف الزواج من إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن عثمان من أهل البيت أيضا(238[238]) ، وله شرف الزواج من اثنتين ـ لا واحدة فقط من بنات النبي الطاهرات صلى الله عليه وسلم ، فرقية تزوجها بعد إسلامه ، وهاجر بها إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة حيث ماتت بعد بدر بثلاثة أيام . وأصغر بنات الرسول صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم ، كانت لابن عمها عتبة بن أبى لهب ، وطلقها قبل أن يدخل بها ، وكانت هي التي لا تزال بغير زواج بعد أن تزوج على أختها فاطمة الزهراء ، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية عنده سنة ثلاث من الهجرة .
أما أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن جميعا ـ فهى زينب ، تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف . وهو ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة رضي الله عنها ، وهو كما نرى من نسبه يعد من أهل البيت .
هؤلاء هن بنات النبي الأربعة ، والأزواج الثلاثة ، فما موقف هذه الفرقة من هؤلاء السبعة ، وهم جميعا من أهل البيت ؟
رأينا من قبل عند بيان عقيدتهم في الإمامة كيف أنهم جعلوا فاطمة الزهراء وزوجها ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فوق الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ، فيعتبر هذا عندهم من ضروريات المذهب ، أي أن من لم يعتقد هذا فليس مؤمنا ، وواضح أن هذا من مقالات الغلاة وعقائدهم الباطلة وذو النورين بايع الشيخين ، وتولى الخلافة بعدهما ، فهو في زعمهم ممن اغتصب هذا المنصب الإلهي ، ولذلك فإن كتبهم ـ التي أشار إليها عبد الحسين واعتبرها مقدسة متواترة ـ تجعله من الكفار والمنافقين والعياذ بالله .(1/142)
وأبو العاص ولدت له زينب ابنته أمامه التي جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم حملها وهو يصلى . وتزوج على أمامه هذه بعد موت خالتها فاطمة . ومات أبو العاص في خلافة أبى بكر الصديق في ذى الحجة سنة اثنتى عشرة(239[239]).
أما أخوات الزهراء الطاهرات فماذا قالوا عنهن ؟
قال أحد علمائهم : " رقية وزينب كانتا ابنتى هالة أخت خديجة ، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى . وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما "(240[240]) . ا . هـ .
ومعلوم أن زينب بنت خير البشر صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها عثمان ، ولم يمت زوجها قبلها ، فقد مات في خلافة أبى بكر ـ كما ذكر من قبل ـ زوجها أبو العاص . أما هي فقد ماتت في أول سنة ثمان من الهجرة . وأخرج مسلم في الصحيح بسنده عن أم عطية قالت : لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اغسلنها وترا ، ثلاثا أو خمسا ، واجعلن في الآخرة كافورا " .
وزوجها أبو العاص ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة ، فهل تزوج أخته بنت أمه هالة ؟ !
أفيعتبر هذا المفترى الكذاب من أتباع أهل البيت ؟ ! أم أن أهل البيت الأطهار منه براء ، ومن أمثاله سائر الغلاة الروافض ؟
أما الطاهرتان رقية و أم كلثوم فهما اللتان تزوجهما ذو النورين . وفى كتاب منهاج الشريعة ، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، جاء الحديث عن أختى الزهراء ـ رضي الله عنهن ـ في أكثر من موضع .
ومما قاله : " ما زعمه ـ أي ابن تيمية ـ من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه ، من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " (241[241]) وقال : " لم يرد شىء من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض النسوة " (242[242]).(1/143)
وقال : " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل ـ صلى الله عليه وسلم وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (243[243]).
أهؤلاء إذن أتباع مذهب أهل البيت ؟ أم أعداء أهل البيت الأطهار ؟ وما الفرق بينهم وبين دعوى ابن سبأ وحقيقته ؟
ولتأكيد أن الرافضة كاذبون في زعمهم حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نذكر شيئا من سيرة آل البيت الأطهار يفضح هؤلاء الرافضة :
زوج على ابنته عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ، وهذا يؤكد معنى طيبا يجمع بين الخليفتين الراشدين يفهمه أي عاقل ، فإذا بالرافضة يقولون : " ذاك فرج غصبناه " !! ويفترون روايات تذكر أن عليا زوج ابنته خوفا من عمر وتهديده له !! ( انظر وسائل الشيعة 14 / 433 ـ 434 ) .
وهذا ليس إساءة إلى عمر وحده كما يظهرون ، وإنما هو إساءة أشد إلى على الذي يسلبه ما عرف عنه من شجاعة وإقدام ، فيبدو ذليلا جبانا !! وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجزء الرابع عند الحديث عن النكاح .
ونترك هذا ونأتى إلى ما يبين مدى حب آل البيت الأطهار للخلفاء الراشدين الثلاثة الذين عرفنا موقف الرافضة منهم ، وسأترك كتب جمهور المسلمين وآتى إلى كتاب من كتب الشيعة ألفه السيد أبو القاسم الخوئى الذي كان المرجع الأعلى للشيعة بالعراق ، وهو كتاب معجم رجال الحديث :
ونقرأ في هذا الكتاب الأرقام الآتية للتراجم وهى :
( 7618 ، 8729 ، 8731 ، 8787 ، 8788 ، 14000 ، 14002 ) .
هذه التراجم لسبعة رجال فمن هم ؟
كلهم من آل البيت الأطهار ، وكلهم أبو بكر أو عمر أو عثمان .. تأمل ! فأما الإمام على فقد اختار أسماء إخوانه الثلاثة جميعا فسمى بهم أبناءه ، منهم أبو بكر و عثمان اللذان قتلا مع أخيهما الحسين في واقعة الطف . وقتل أيضا عمر مع أبيه الحسين ، وأبو بكر بن الحسن مع عمه الحسين ، وعمر بن الحسن مع عمه الحسين.(1/144)
هؤلاء آل البيت الأطهار : على والحسن والحسين ، وأولادهم أبو بكر وعمر وعثمان ، فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وتدبروا سيرة آل البيت الأطهار ، وبراءتهم من الرافضة الفجار .
وفى كتاب كشف الأسرار ( ص 17 ،18) يقول السيد حسين الموسوي تحت عنوان :
الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت : "إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة ، اختصاصنا بأهل البيت ، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت - حسب رأينا - إذ الولاء والبراء مع العامة - وهم أهل السنّة - بسبب أهل البيت ، والبراءة من الصحابة ، وفى مقدمتهم الخلفاء الثلاثة ، وعائشة بنت أبى بكر بسبب الموقف من أهل البيت ، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، ذَكَرهم وأنثاهم ، أنّ الصحابة ظلموا أهلّ البيت ، وسفكوا دماءهم واستباحوا حرماتهم .
وإن أهل السنّة ناصبوا أهل البيت العداء ، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب ، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد رضي الله عنه ولكن كُتبنا المعتبرة عندنا تُبيّن لنا الحقيقة ، إذ تذكر لنا َتذمُّرَ أهلِ البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم ، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت ، وتذكر لنا من الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام ، ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم .
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " لو ميزت شيعتى لما وجدتهم إلا واصفة ، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ، ولو تمحّصتهم لما خلص من الألف واحد " " الكافى / الروضة " (8/338)(1/145)
وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " ياأشباه الرجال و لا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال ، لّوددت ُ أنّى لم أركم ولم أعرفكم ، معرفةُ جرّت والله ندماً وأعقبت سَدَماً (244?????)... قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً ، وجرَّعتمونى نغب التهمام أنفاسا ، وافسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ، حتى لقد قالت قريش : إن ّ ابن أبى طالب رجل شجاع ولكن لا علم َ له بالحرب ، ولكن ْ لا رأي َ لمن لا يطاع " . " نهج البلاغة " ( ص 70، 71)
وقال لهم موبّخاً : منيت بكم بثلاث ، واثنتين : " صُمُّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعُمْى ذوو أبصار ، لا أحرار وصُدُق' عند اللقاء ، ولا إخوان' ثقة عند البلاء ... قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراجَ المرأة عن قُبُلها " . " نهج البلاغةَّ " ( ص 142)
قال لهم ذلك بسبب تخاذلهم وغدرهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه ، وله فيهم كلام كثير .
وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته : " اللهم إنْ متَّعهم إلى حين ففرقهم فرقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا تُرْضِ الولاة عنهم أبداً ، إنَّهم دَعَوْنا لينصرونا ثم عَدَْوا علينا فقتلونا " . " الإرشاد المفيد " ( ص 241).
وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم ، فكان مما قال :
" لكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدباء ، وتهافتم كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها ، سفهاً وبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونَبَذَةِ الكتاب ، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا ، ألا لعنةُ الله على الظالمين " . " الاحتجاج " (2/24).
وهذه النصوص تبيّن لنا مَنْ هم قتلةُ الحسين الحقيقيون ، إنهم شيعة أهل الكوفة، أي أجدادنا ، فلماذا نُحَمل أهلَ السنة مسؤولية مقتل الحسين رضي الله عنه ؟!(1/146)
ولهذا قال السيد محسن الأمين : " بايع الُحسَيْنَ من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه " . " أعيان الشيعة " ( القسم الأول)
وقال الحسن رضي الله عنه: " أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء ، يزعمون أنّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلى وأخذوا مالى ، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقنُ به من دمى ، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلونى ، فيضيع أهل بيتي ، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقى حتى يدفعوا بى إليه سلماً ، والله لأن أُسالمه وأنا عزيز خيرُ من أن يقتلنى وأنا أسير " . " الاحتجاج " (2/10).
وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة : " هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبى وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق ، ثم قاتلتموه وخذلتموه ... بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول لكم : قاتلتم عترتى ، وانتهكتم حرمتى ؛ فلستم من أمتى " . " الاحتجاج " (2/32)
وقال أيضاً عنهم : " إن هؤلاء يبكون علينا فَمَنْ قتلَنا غيرُهم ؟ " . " الاحتجاج " (2/29).
وقال الباقررضي الله عنه : " لو كان الناس كلّهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً ، والربع الآخر أحمق " . " رجال الكشّي " (ص 79).
وقال الصادق رضي الله عنه" أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثى ما استحللت ُ أن أكتمهم حديثاً " . " أصول الكافى " (1/496). انتهى . هذا بعض ما قاله العالم الشيعي .
بعد بيان موقف الرافضة من أهل البيت الأطهار نعود مرة أخرى للنظر في المراجع :
ومن المراجع التي ذكرها عبد الحسين تفسير مجاهد ، ومجاهد كما نعلم تلميذ حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وذكرت من قبل طعن الرافضة فيهما .
قال الرافضي :
عن تفسير مجاهد ويعقوب بن سفيان عن ابن عباس في قوله تعالى :(1/147)
" وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا "، أن دحية الكلبى جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة ، فنزل عند أحجار الزيت ، ثم ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه، فنفر الناس إليه ، وتركوا النبي ?صلى الله عليه وسلم قائما يخطب على المنبر إلا عليا والحسن والحسين وفاطمة وسلمان وأباذر والمقداد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد نظر الله إلى مسجدى يوم الجمعة ، فلولا هؤلاء لأضرمت المدينة على أهلها نارا ، وحصبوا بالحجارة كقوم لوط . وأنزل الله فيمن بقى مع رسول الله في المسجد قوله تعالى :
" يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ" الآية .
قلت : نظرت في تفسير مجاهد ، وهو مطبوع ، فلم أجد ما سبق . ثم نظرت في الدر المنثور ( 6 / 220 ـ 221 ) فوجدت الروايات المختلفة التي ذكرت من بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تنص على أبى بكر وعمر . وأول هذه الروايات هي ما روى عن جابر بن عبد الله ، وفيها : " لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا : أنا فيهم ، وأبو بكر ، وعمر " .
والحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه لحديث جابر الذي أورده البخاري في كتاب الجمعه من صحيحه ، وفيه . " ما بقى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا " قال ابن حجر :
وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال : " أنا فيهم " وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر " .
ثم قال : وروى العقيلى عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار " .
وليس في أي رواية من الروايات كلها ذكر للحسن أو الحسين .
أما الآية الأخيرة وهى رقم 36 من سورة النور فلم يذكر في تفسيرها وأسباب النزول ما ذكره الرافضي من أن الرافضة هم رجال التسبيح !! فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما:-(1/148)
" فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ " الآية قال : هي المساجد تكرم ونهى عن اللغو فيها "وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" يتلى فيها كتابه " يُسَبِّحُ " يصلى " لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ " صلاة الغداة " وَالْآصَالِ " صلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة ، وأحب أن يذكرهما ، ويذكرهما عباده. ( الدر المنثور 5 / 50 ) .
وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك في قوله تعالى:- " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " قال : هم في أسواقهم يبيعون ويشترون، فإذا جاء وقت الصلاة لم يلههم البيع والشراء عن الصلاة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس"? رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ...." قال : عن شهود الصلاة المكتوبة . وأخرج الفريابى عن عطاء مثله .
…وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ، ثم دخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيهم نزلت " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " ( الدر المنثور 5 /52 ) .
ولم أجد في جميع الروايات أن آية سورة النور نزلت فيمن بقى يوم الجمعة . ولو أنها نزلت فيهم فأولهم بلا ريب الصديق والفاروق كما جاء في الأخبار الصحيحة .
قال الرافضي : أخرج المحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عباس في قوله تعالى : " الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً " ( 274 : البقرة )
قال : نزلت في على بن أبى طالب .(1/149)
قلت : أصحاب الكتب ذكروا عليا وغيره ، فقالوا : نزلت في أصحاب الخيل، فيمن يربطها في سبيل الله لا رياء ولا سمعة . ولا خيلاء ، وقالوا : نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة . ( انظر أصحاب هذه الكتب ورواياتهم في الدر المنثور 1 / 363 ) وما أكثر الصحابة الكرام الذين كانوا ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ! ومثل على ما كان ليبخل لو كان عنده مال ، لكنه لم يكن كثير المال كما هو معلوم ، وأصحاب الأموال الذين كانوا ينفقونها في سبيل الله مشهود لهم ، وأولهم أبو بكر الصديق ، الذي نزل فيه قول الله تعالى :
"وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىوَلَسَوْفَ يَرْضَى".
والمحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب لم يذكروا أحدا آخر غير أبى بكر الصديق . ( انظر جميع الروايات في الدر المنثور 6 / 359 ـ 360 ) ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر " وقال : " وواسانى بنفسه وماله " ( راجع صحيح البخاري ـ كتاب فضائل الصحابة تجد الحديثين الشريفين وغيرهما من فضائل الصديق ، وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن شهد له الله ـ عزوجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، يأتي هذا الرافضي فيقول بكفره ، وأنه الجبت ، وكفر الأمة الإسلامية التي أقرت بيعته ، وبعد هذا العداء للإسلام وأهله ينسب الرافضي اللعين نفسه لأهل البيت الأطهار !! ثم يفترى الكذب على الإمام الأكبر شيخ الأزهر فينسب له أنه وافقه بل أعجب بهذا التكفير !! ) .
قال الرافضي :
وفى جميل بلائهم وجلال عنائهم قال الله تعالى: ?وَمِنَ الناسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ? (245[245])(1/150)
ثم قال : أخرج الحاكم ( 3 ، 4 ) عن ابن عباس قال : " شرى على نفسه ولبس ثوب النبي " الحديث . وأخرج أيضا عن على بن الحسين قال : " إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله على بن أبى طالب إذ بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم " . ا . هـ .
قلت : لا شك أن عليا رضي الله تعالى عنه قد شرى نفسه حتى ولو لم يصح الخبر عن ابن عباس ، لكن الروايات كلها لم تخصه بسبب النزول ، لا عند الحاكم ولا عند غيره ، بل إن الحاكم في الجزء نفسه ذكر أن الآية الكريمة نزلت في صهيب ، وصحح الخبر ، ولم يتعقبه الذهبي ( 3 / 398 ) .
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أحب أن أصفع هذا الرافضي وأمثاله بحديث شريف أخرجه الحاكم الذي عرف عنه التشيع وهو ما رواه بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تبارك وتعالى اختارنى ، واختار لي أصحابا ، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا . فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل " .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ( جـ 3 ص 632 )
إذن عندما نلعن هذا الرافضي فإننا ننفذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد سب الصحابة الكرام وعلى الأخص خيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو أبو بكر الصديق ، فعمر الفاروق ، بل قال بأنهما الجبت والطاغوت ، والصحابة الذين بايعوهما كفار آمنوا بالجبت والطاغوت !
فمن كان عدوا لهؤلاء فهو عدو لله ولرسوله وملائكته ، يستحق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من اللعنة والخسران يوم القيامة .(1/151)
إذن يجب أن نضع الأمور في نصابها ، ونزنها بميزان الشرع وحكم الله تعالى ورسوله الكريم ، حتى لا يأتىأحد ويقول : كيف تلعن مسلما ؟ وأين أنت من دعوة التقريب ؟ ! أقول : قد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لا نلعنه ؟ أما التقريب فهذا الرافضي له كتاب عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، انتهى إلى وجوب أن ترتد الأمة كلها فتصبح رافضة مثله ! !
فالتقريب إذن لا يكون مع مثل هذا الرافضي اللعين ، عدو الإسلام والمسلمين ، وإنما يكون مع الشيعة من غير الرافضة .
الاستدلال بالأحاديث الموضوعة
بعد تحريف القرآن الكريم لجأ الرافضة إلى الأحاديث الموضوعة ، سواء أكانت من وضعهم وأكاذيبهم أم من وضع غيرهم .
وعندما نأتى إلى دراسة كتب السنة عندهم وتدوينها فسيتضح جليا أنها مبنية على الكذب والافتراء ، وموضع هذه الدراسة في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
ولكننا نقف هنا عند بعض الأحاديث التي ذكرها الرافضيان : ابن المطهر وعبد الحسين ، أحدهما أو كلاهما ، ونثبت جواب شيخ الإسلام ابن تيمية ، مع إضافة بعض ما كتبته في ردى على المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى، والتى افتراها عبد الحسين . ونبدأ بالدليل الأول الذي ذكره ابن المطهر ، وجواب شيخ الإسلام .
حديث الدار
هذا هو الدليل الأول عن ابن المطهر حيث قال :
" المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة ، المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهى اثنا عشر .
الأول : ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله تعالى :(1/152)
" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "( سورة الشعراء : 214) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى عبد المطلب في دار أبى طالب ، وهم أربعون رجلا ، وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعا من اللبن ، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد ، ويشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام ، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا ، ولم يتبين ما أكلوه ، فبهرهم ( النبي صلى الله عليه وآله ) بذلك ، وتبين لهم آية نوبته ، فقال : يا بنى عبد المطلب ، إن الله بعثنى بالحق إلى الخلق كافة ، وبعثنى إليكم خاصة ، فقال : "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ، ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ، ووصيي ووارثي ، وخليفتى من بعدى . فلم يجبه أحد منهم. فقال أمير المؤمنين : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : اجلس. ثم أعاد القول مرة ثانية فصمتوا. فقال على : فقمت فقلت مثل مقالتى الأولى ، فقال : اجلس ثم أعاد القول ثالثة ، فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقمت فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر . فقال : اجلس فأنت أخي ووزيرى ، ووصيى ووارثى ، وخليفتى من بعدى. فنهض القوم وهم يقولون لأبى طالب : ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميرا عليك " . ا. هـ
قال شيخ الإسلام :(1/153)
والجواب من وجوه : الأول : المطالبة بصحة النقل . وما ادعاه من نقل الناس كافة من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث ، فإن هذا الحديث ليس في شىء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل : لا في الصحاح ولا في المساند والسنن والمغازى والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به ، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف ، مثل تفسير الثعلبى والواحدى والبغوى ، بل وابن جرير وابن أبى حاتم ، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء ، دليلا على صحته باتفاق أهل العلم ؛ فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف ، فلابد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف .
وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والثمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة ، مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبى حاتم والثعلبى والبغوى ، ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا ، مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية ، فإنهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ، ولكن هؤلاء المفسرين ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة . والضعيفة ، ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال ، ليذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها ، وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب ، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات ، وترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك ـ كان هذا من أفسد الحجج ، كمن احتج بشاهد يشهد له ولم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، وقد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته، أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، ويدع روايات كثيرين عدول ، وقد رووا ما يناقض ذلك .(1/154)
بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة ، وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك ، لوجب النظر في الروايتين : أيهما أثبت وأرجح ؟ فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضة لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة ، بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر ، وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل .
الثانى :
أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين : إما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع ، ولو أنه مسألة فرعية ، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم . فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع ، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم أنه مسند إسناداً تقوم به الحجة، أو يصححه من يرجع إليه في ذلك . فأما إذا لم يعلم إسناده ، ولم يثبته أئمة النقل ، فمن أين يعلم ؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها ، ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسألة ، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه ؟!
الثالث :
أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث ، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع ، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات ، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب .
وقد رواه ابن جرير والبغوى بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد ، أبو مريم الكوفي ، وهو مجمع على تركه ، كذبه سماك بن حرب وأبو داود ، وقال أحمد : ليس بثقة ، عامة أحاديث بواطيل . قال يحيى : ليس بشئ . قال ابن المديني: كان يضع الحديث . وقال النسائي وأبو حاتم : متروك الحديث . وقال ابن حبان البستى : كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر ، وهو مع ذلك يقلب الأخبار ، لا يجوز الاحتجاج به ، وتركه أحمد ويحيى .(1/155)
ورواه ابن أبى حاتم ، وفى إسناده عبد الله بن عبد القدوس ، وهو ليس بثقة . وقال فيه يحيى بن معين : ليس بشئ رافضى خبيث . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال الدارقطنى : ضعيف .
وإسناد الثعلبى أضعف ، لأن فيه من لا يعرف ، وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في أقل مسألة .
الرابع :
أن بنى عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية ؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر . ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن بنى عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة : العباس ، وأبو طالب ، والحارث ، وأبو لهب . وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة ، وهم بنو هاشم، ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة : العباس ، وحمزة ، وأبو طالب ، وأبو لهب ، فآمن اثنان ، وهما حمزة و العباس ، وكفر اثنان ، أحدهما نصره وأعانه ، وهو أبو طالب ، والآخر عاداه وأعان أعداءه ، وهو أبو لهب .
وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين : طالب ، وعقيل، وجعفر ، وعلى . وطالب لم يدرك الإسلام ، وأدركه الثلاثة ، فآمن على وجعفر في أول الإسلام ، وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة عام خيبر .
وكان عقيل قد استولى على رباع بنى هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ، ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته : " ننزل غدا في دارك بمكة " قال : " وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ "(1/156)
وأما العباس فبنوه كلهم صغار ، إذ لم يكن فيهم بمكة رجل . وهب أنهم كانوا رجالاً فهم : عبد الله ، وعبيد الله ، والفضل . وأما قثم فولد بعدهم ، وأكبرهم الفضل ، وبه كان يكنى . وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ، ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله، وأما سائرهم فولدوا بعده.
وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل . والحارث كان له ابنان: أبو سفيان وربيعة ، وكلاهما تأخر إسلامه ، وكان من مسلمة الفتح .
وكذلك بنو أبى لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح ، وكان له ثلاثة ذكور ، فأسلم منهم اثنان : عتبة ومغيث ، وشهد الطائف وحنينا ، وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب ، فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً. فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا ، فأين الأربعون ؟ !
الخامس :
قوله : " إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن " فكذب على القوم ، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا .
السادس :
أن قوله للجماعة : " من يجيبنى إلى هذا الأمر ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ووصيى وخليفتى من بعدى " كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز نسبته إليه . فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله ؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين ، وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته ، وفارقوا أوطانهم ، وعادوا إخوانهم ، وصبروا على الشتات بعد الألفة ، وعلى الذل بعد العز ، وعلى الفقر بعد الغنى ، وعلى الشدة بعد الرخاء ، وسيرتهم معروفة مشهورة ، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له .(1/157)
وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه ـ أو أكثرهم أو عدد منهم ـ فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده ؟ أيعين واحدا بلا موجب ؟ أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد ؟ وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة ، إلا بأمر سهل ، وهو الإجابة إلى الشهادتين، والمعاونة على هذا الأمر . وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة ، إلا وله من هذا نصيب وافر ، ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق ، فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي َصلى الله عليه وسلم ؟ !
السابع :
أن حمزة وجعفرا وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه على من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر ؛ فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر . بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبى الأرقم ، وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ، ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة ، فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب .
الثامن :(1/158)
أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا . ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبى هريرة ـ واللفظ له ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا ، فخص وعم فقال : " يابنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها " .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال: " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا . يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا . سلانى ما شئتما من مالى " . وخرجه مسلم من حديث ابن المخارق وزهير بن عمرو ومن حديث عائشة وقال فيه : " قام على الصفا " .
وقال في حديث قبيصة : " انطلق إلى رضمة من جبل ، فعلا أعلاها حجرا ، ثم نادى : يا بنى عبد مناف إنى لكم نذير . إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله ، فخشى أن يسبقوه ، فجعل يهتف : يا صباحاه " .(1/159)
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال : " لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه " فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه ، فجعل ينادى : " يا بنى فلان ، يا بنى عبد مناف ، يا بنى عبد المطلب " وفى رواية : " يا بنى فهر ، يا بنى عدى ، يا بنى فلان " لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو ، فاجتمعوا فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقى ؟ " قالوا : ما جربناعليك كذبا . قال : " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد " قال : فقال أبو لهب : تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا ؟ فقام فنزلت هذه السورة : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " ( سورة المسد : 1 ).
وفى رواية: " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقونى؟ " قالوا : " بلى ".
فإن قيل : فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل، كالثعلبى والبغوى وأمثالهما والمغازلى .(1/160)
قيل له : مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث ؛ فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع ، وفيها شئ كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب ، بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب . والثعلبى وأمثاله لا يتعمدون الكذب ، بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك ، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ، ويروون ما سمعوه ، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث ، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدى ، وأحمد بن حنبل ، وعلى بن المديني ، ويحيى بن معين ، وإسحاق ، ومحمد بن يحيى الذهلى ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى داود ، والنسائى ، وأبى حاتم وأبى زرعة الرازيين ، وأبى عبد الله ابن منده ، والدار قطنى ، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم من نقلة العلم .
وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسماءهم ، وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه ، ومن أخذ عنهم . مثل كتاب " العلل وأسماء الرجال " عن يحيى القطان ، وابن المديني ، وأحمد ، وابن معين ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى زرعة ، وأبى حاتم ، والنسائى ، والترمذى ، وأحمد بن عدى ، وابن حبان ، وأبى الفتح الأزدى ، والدارقطنى وغيرهم .
وتفسير الثعلبى فيه أحاديث موضوعة وأحاديث صحيحة . ومن الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور : سورة سورة .
وقد ذكر هذا الحديث الزمخشري والواحدى ، وهو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث . وكذلك غير هذا .(1/161)
وكذلك الواحدى تلميذ الثعلبى ، والبغوى اختصر تفسيره من تفسير الثعلبى والواحدى ، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه ، والواحدى أعلم بالعربية من هذا وهذا ، والبغوى أتبع للسنة منهما .
وليس كون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق ، كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا ، بل الاعتبار بميزان العدل .
وقد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم : في الأصول ، والأحكام ، والزهد ، والفضائل . ووضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة ، وفضائل معاوية .
ومن الناس من يكون قصده رواية كل ما روى في الباب ، من غير تمييز بين صحيح وضعيف ، كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء ، وكذلك غيره ممن
صنف في الفضائل . ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبى الفوارس ، وأبو على الأهوازى وغيرهما من فضائل معاوية . ومثل ما جمعه النسائي في فضائل على ، وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل على وغيره ، فإن هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفه ، فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم .
وأما من يذكر الحديث بلا اسناد من المصنفين في الأصول والفقه والزهد والرقائق ، فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة ، ويذكر بعضهم أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة ، كما يوجد ذلك في كتب الرقائق والرأي وغير ذلك . ا. هـ.
قلت : وهذا الحديث ذكره بنصه السابق عبد الحسين ، وقال بأن الإمام أحمد أخرجه في المسند ، وذكر اسناده ، ونسب للشيخ سليم البشرى موافقته على ثبوت الحديث وصحته .(1/162)
وما جاء في المسند ( 1 / 111 ) هو ما يأتي : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عباد ابن عبد الله الأسدي ، عن على ، قال : لما نزلت هذه الآية " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ". قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا . قال : فقال لهم : من يضمن عنى دينى ومواعيدى ، ويكون معى في الجنة ، ويكون خليفتى في أهلي ؟ فقال رجل لم يسمه شريك : يا رسول الله ، أنت كنت بحرا ، من يقوم بهذا ! قال : ثم قاله الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال على : أنا .( انتهى الخبر ) .
هذا هو نص المسند الذي ذكر الرافضي إسناده ، وقال : " كل واحد من سلسلة هذا المسند حجة عند الخصم ، وكلهم من رجال الصحاح بلا كلام " .
قلت : لننظر في الاسناد ثم في المتن :
أما الاسناد ففيه ما يأتي :
1- الأعمش ثقة لكنه مدلس ، ولا يقبل حديث المدلس إذا عنعن ، " .... الأعمش ( عن ) المنهال ... "
2 - المنهال هو ابن عمرو الكوفي :
وثقه ابن معين والعجلى والنسائى وقال أحمد بن حنبل : أبو بشر أحب إلى من المنهال وأوثق . وقال الحاكم : غمزه يحيى بن سعيد ، وتكلم فيه ابن حزم ، وكان يضعفه . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبى يقول : ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد .
وقال الحافظ ابن حجر في هدى الساري ( ص 446 ) :
ماله في البخاري سوى حديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين من رواية زيد بن أبى أنيسة عنه ، وحديث آخر في تفسير حم فصلت ، اختلف فيه الرواة هل هو موصول أو معلق . ( انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال ، وهدى الساري ص 445 : 446 ) .
3 - عباد بن عبد الله الأسدي :(1/163)
قال الرافضي : هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدي ، احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما . سمع أسماء وعائشة بنتى أبى بكر . وروى عنه في الصحيحين ابن أبى مليكة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وهشام بن عروة .
قلت : هذا من كذب الرافضي وتضليله ! فمن ذكره الرافضي مدني ، وصاحبنا كوفي !
والاثنان مترجم لهما في صفحة واحدة في تهذيب التهذيب ، وكذلك في كتاب الجرح والتعديل ، فهما اثنان : والمدني لا خلاف حول توثيقه ، أما صاحبنا فقال ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب : عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي . روى عن على . وعنه المنهال بن عمرو . قال البخاري : فيه نظر . وذكره ابن حبان في الثقات . قلت ( أي ابن حجر ) : وقال ابن سعد : له أحاديث . وقال على بن المديني ضعيف الحديث . وقال ابن الجوزي : ضرب ابن حنبل على حديثه عن على : أنا الصديق الأكبر ، وقال : هو منكر . وقال ابن حزم : هو مجهول . ا . هـ
ولم يترجم له ابن حجر في هدى الساري كما ترجم للمنهال وأمثاله ، لأنه ليس من رجال الصحيحين كما ذكر الرافضي ، والبخاري نفسه ضعفه حين قال : فيه نظر .
وفى ميزان الاعتدال نجد ترجمة عباد الكوفي ولا نجد ترجمة عباد المدني . قال الذهبي في الميزان :
عباد بن عبد الله الأسدي . عن على . قال البخاري : سمع منه المنهال بن عمرو . فيه نظر .
قلت ( أي الذهبي ) : روى العلاء بن صالح ، حدثنا المنهال ، عند عباد بن عبد الله ، عن على ، قال : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديق الأكبر ، وما قالها أحد قبلى ، ولا يقولها إلا كاذب مفتر ، ولقد أسلمت وصليت قبل الناس بسبع سنين .
قلت ( أي الذهبي ) : هذا كذب علَى علىّ .
قال ابن المديني : ضعيف الحديث . وذكره ابن حبان في الثقات ، له في خصائص على . ا . هـ .
والذهبي ذكره أيضا في كتابه المغنى في الضعفاء .(1/164)
هذه ثلاث علل في الإسناد وليست علة واحدة ، ومع كل هذه العلل ينسب للعلامة شيخ الأزهر أنه قال :
"راجعت الحديث في ص 111 من الجزء الأول من مسند أحمد ، ونقبت عن رجال سنده ، فإذا هم ثقات أثبات حجج " !
وكأن شيخ الأزهر لا يعرف شيئا عن الحديث وعلومه ورجاله !! ولا يفرق بين عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي ، وهو من الضعفاء ، وبين عباد بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي المدني ، وهو من الثقات !حاشا لعلامة زمانه أن يكون كذلك !
ونأتى إلى ما هو أوضح ولا يحتاج إلى عالم ليميز كلام الرافضي من حديث المسند ، بل يدركه كل من يحسن القراءة !
فنص المسند :
" ويكون خليفتى في أهلي " ، فأين الإمامة العامة هنا ؟! ونهاية الخبر " فقال على : أنا " ، وليس فيه الزيادة الباطلة المفتراة : " إن هذا أخي ووصيى وخليفتى فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ...." فكيف تنسب هذه الزيادة للمسند ، وهو موضع الاستدلال ؟ وفى رواية أخرى في المسند أيضا :
".. يابنى عبد المطلب ، إنى بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعنى على أن يكون أخي وصاحبى ؟ قال : فلم يقم إليه أحد . قال ( أي على ) : فقمت إليه ، وكنت أصغر القوم ، قال : فقال : اجلس، قال : ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس ، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدى " . انتهى الخبر .
( انظر المسند بتحقيق شاكر 2 / 352 ـ رواية رقم 1371 ) وواضح من الخبر أن عليا لم يكن هو المقصود ، ولذلك أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلوس ، ولما لم ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطر إلى زجره أو تنبيهه بالضرب على يده في المرة الثالثة .(1/165)
فكيف تتخذ مثل هذه الأخبار في هدم الإسلام ، والطعن في نقلة الكتاب والسنة ، وتكفير خير جيل عرفته البشرية لعدم أخذهم بمبدأ ابن سبأ في الوصي بعد النبي ، ومبايعتهم للصديق خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
قال الرافضي في المراجعة ( 20 ) بعد ذكر الخبر :
" أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية " وقد رأينا كذبه فيما نسبه لمسند الإمام أحمد ، وكان الكذب في الإسناد والمتن .
وأحب أن أبين طريقة أخرى من طرق الرافضي في التضليل :
ذكر الرافضي أن أبا الفداء الحافظ ابن كثير أخرج هذا الخبر بهذه الألفاظ في تاريخه . فنظرت في البداية والنهاية فوجدت الخبر مع إشارة للزيادة : " إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا " . قال ( أي على ) : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبى طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! ( جـ3 ص40 ) .
فأين التضليل هنا إذن ما دام الخبر يتفق مع ماذكره الرافضي ؟ التضليل ـ أيها المسلمون ـ هو أن الرافضي لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير بعد إيراده الخبر مباشرة ، حيث قال ما نصه :
" تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم ، وهو كذاب شيعي ، اتهمه على بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الباقون ".
المراجعة الثامنة وأحاديثها
في هذه المراجعة يظهر لنا بوضوح أن عبد الحسين رافضى ، بل من أخبث الروافض ، فهو ينتهى إلى القول بضلال الأمة و كفرها بدءا بخير أمة أخرجت للناس، وخير قرن عرفته البشرية ، خير الناس الصحابة الكرام الذين بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة فهم في زعم هذا الرافضي خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يجعلوا الوصي بعده مباشرة على بن أبى طالب ، وهو القول الذي اخترعه لأول مرة اليهودى عبد الله بن سبأ.(1/166)
وهذا الطعن يشمل الإمام عليا نفسه لأنه ممن بايع كما بينا من قبل ،وممن فضل الصديق والفاروق على باقي الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت بالتواتر من ثمانين طريقا .
وهذا الرافضي يضيف إلى هذا الطعن العام طعنا خاصاً ، فيصف الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم " أبناء الوزغ " :
والوزغ دويبة يقال لها سام أبرص ، ويوصف بها الرجل إذا كان ضعيفا جبانا رزلا رديئا لا مروءة له .
( راجع معاجم اللغة : والمجموع المغيث في غريبى القرآن والحديث 409 ـ 410 ) لو كان هذا الرافضي في عهد الإمام على كرم الله وجهه ـ لكان موقفه منه كموقفه من ابن سبأ سواء بسواء .
ولننظر في الأحاديث التي ذكرها في هذه المراجعة لينتهى منها إلى الحكم بضلال وكفر الصحابة الكرام وخير أمة أخرجت للناس .
استند أساسا إلى حديث الثقلين ، وفيما سبق جمعت كل روايات هذا الحديث ، وبينت الصحيح منها وغير الصحيح ، وتحدثت عن فقه الحديث الصحيح وعدم صلته بالخلافة على الإطلاق . أما الروايات غير الصحيحة ، سواء أكانت ضعيفة أم موضوعة مكذوبة ، فإنها ليست حجة في شرع الله تعالى ، ويعارضها ويسقطها الصحيح الصريح من الأحاديث الشريفة .
والملاحظ أنه ترك الروايات الصحيحة ، كرواية صحيح مسلم وغيره ، وذكر الروايات الأخرى .
وأثناء الروايات جاء ذكر " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، وقد سبق الحديث عنه . وأكثر هنا من النقل من كتاب " الصواعق المحرقة " ، ومن أجل مثل هذه النقول ستكون الوقفة الطويلة مع هذا الكتاب .
وبعد حديث الثقلين ذكر حديثين آخرين استدل بهما على ضلال وكفر خير أمة أخرجت للناس !! هكذا ظهر خليفة ابن سبأ .
فلننظر إلى هذين الحديثين
الحديث الأول :
" ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق "
وقال الرافضي : أخرجه الحاكم بالإسناد إلى أبى ذر .
وذكر رواية أخرى للحديث ، وهى :(1/167)
" إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بنى إسرائيل من دخله غفر له " .
وقال : أخرجه الطبرانى في الأوسط عن أبى سعيد .
الحديث الثانى :
" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتى من الاختلاف ( في الدين ) ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ( يعنى في أحكام الله عز وجل ) اختلفوا فصاروا حزب إبليس " .
وقال الرافضي: أخرجه الحاكم عن ابن عباس ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قلت : الحديث الأول أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3 / 151) ، وتعقبه الذهبي وبين وهى الإسناد ، والحديث الثانى في المستدرك ( 3 / 149 ) ، وصححه الحاكم كما ذكر الرافضي ، ولكنه لم يذكر تعقيب الذهبي حيث قال : بل موضوع .
والحديث الأول في إسناده المفضل بن صالح الكوفي . قال البخاري عنه : منكر الحديث ، وهذا الجرح عند البخاري يعنى أنه لا يحل الرواية عنه . وقال مثل هذا أيضا أبو حاتم ، وغيره (246[246]) .
والحديث الثانى بين الذهبي أنه موضوع ، وأن الوضع بسبب راويين اثنين وليس راويا واحدا . وذكر الشيخ الألبانى الحديث بلفظ " أهل بيتي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، وبين أنه موضوع ، وقال : وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب، وقد وقفت عليها (247[247]). وذكره أيضا ابن عراق في كتابه " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة : 1 / 419 " ، وقال بأنه من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط ، وترجم له من قبل في مقدمة الكتاب ( ص 25 ) ، فقال : " كذاب ، حدث عن أبيه عن جده بنسخة فيها بلايا " .(1/168)
ومن قبل عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة ، وهو حديث الثقلين ، أشرت إلى أن أصحاب الحديث أنكروا على الحاكم كثيرا من الأحاديث ، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه . وذكرت قول ابن حجر في لسان الميزان عند ترجمة الحاكم : إمام صدوق ، ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك ،فما أدرى هل خفيت عليه ؟ فما هو ممن يجهل ذلك . وإن علم فهو خيانة عظيمة . ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين . والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء . ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره . وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له ، وقطع بترك الرواية عنهم ، ومنع من الاحتجاج بهم ، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها. إذن تصحيح الحاكم ليس بحجة ، مع إمامته وصدقه كما بين الحافظ ابن حجر .
ونأتى بعد هذا إلى رواية الطبرانى في الأوسط التي ذكرها الرافضي ، وبالبحث نجد أن هذه الرواية إضافة إلى ثلاث روايات أخرى أخرجها الطبرانى في المعجم الكبير : في الجزء الثالث ( ص 45 ، 46 ) ثلاث روايات :
الأولى
هي رقم 2636 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر : وهو متروك ، وعلى بن زيد ابن جدعان : وهو ضعيف .
والثانية
رقم 2637 ، وفى سندها عبد الله بن داهر : وهو متروك . وعبد الله بن عبد القدوس : بينت عدم الاحتجاج به عند الحديث عن آية التطهير ، والأعمش : وهو مدلس ، وهنا عنعن .
والرواية الثالثة
رقم 2638 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر الموجود في الرواية الأولى . وهو أيضا في الرواية الرابعة ، وهى في الجزء الثانى عشر ص 34 ، ورقمها 12388.
فروايات الطبرانى كلها لم تخل من المتروكين ، فكيف يحتج بمثلها ؟ ! ( انظر تخريج الروايات في المواضع المذكورة من المعجم الكبير ) بقى أن نقول بأن استدلال الرافضي بهذه الأحاديث الثلاثة ليس جديدا !(1/169)
فقد وجدنا ابن المطهر الحلى يستدل بهذه الأحاديث نفسها ، وهو الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام ، وأبطل احتجاجه بهذه الأحاديث وغيرها . بل إن ابن المطهر استدل بحديث السفينة نقلا عن شيخه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672 هـ (248[248]).
والطوسى هذا هو أبو جعفر ـ أو أبو عبد الله ـ محمد بن محمد بن الحسن، ويعرف بالمحقق وبالخواجه . " اتصل بهولاكو وأصبح مقربا عنده ، وأشار عليه بقتل المستعصم وذبح المسلمين في بغداد (249[249]).
وتحدث ابن القيم عنه فقال :" ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد ، وزير الملاحدة ، النصير الطوسي وزير هولاكو ، شفا إخوانه نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه ، فعرضهم على السيف ، حتى شفا إخوانه من الملاحدة ، واشتفى هو ، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين ، واستبقى الفلاسفة ، والمنجمين ، والطبائعيين والسحرة . ونقل أوقاف المدارس والمساجد ، والربط إليهم ، وجعلهم خاصته وأولياءه ، ونصر في كتبه قدم العالم ، وبطلان الميعاد ، وإنكار صفات الرب جل جلاله : من علمه ، وقدرته ، وحياته ، وسمعه وبصره ، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ، وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة ، واتخذ للملاحدة مدارس " (250[250]) ثم قال :
" وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله ، وملائكته، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر " (251[251]) .
وقال أيضا :
" وكان هؤلاء زنادقة ، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض ، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا ، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران ، لا يحرمون حراما ، ولا يحلون حلالا (252[252]) .(1/170)
وهذا الملحد يلقبه أهل السنة بشيطان الطاق ، ولكن الرافضة يطلقون عليه مؤمن الطاق ! والرافضى في مراجعاته يلقبه بمؤمن الطاق (253[253]) ، ولا عجب ، فهدفهما واحد . ووجدنا من الرافضة من يعتبر مجدد المائة السابعة الخواجه نصير الدين الطوسي كما صرح شهاب الدين الحسينى المرعشى النجفي في كتابه غاية الآمال ( ص : خ ) الذي جعله مقدمة لكتاب بهجة الآمال لرافضى مثله !!
المراجعة التاسعة
وجرأة الرافضي على الكذب والافتراء
مرت المراجعة الثامنة بما فيها من البلايا والرزايا ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأثبتت المراجعة أن صاحبها ليس رافضيا فقط بل من أخبث الروافض أتباع عبد الله بن سبأ .
وتأتى المراجعة التاسعة لتثبت من جديد قول الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " . ولتبين أن هذا الرافضي من أكثرهم جرأة على الكذب والافتراء . لو أن شيخ الأزهر والمالكية عرض عليه المراجعة الثامنة لعاقب هذا الرافضي عقوبة تتناسب مع جريرته وجريمته .
ووضوح الكذب بجلاء في المراجعة كلها من بدايتها إلى نهايتها :
فكيف يرحب الشيخ البشرى بتكفير الصحابة وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، ويطلب المزيد بقوله : أطلق عنان القلم .... ؟ !
يصف ما سبق بأنه من جوامع الكلم ، ونوابغ الحكم ، وضوال الحكمة ؟!
والشيخ بمكانته وعلمه وقد بلغ الثانية والثمانين من عمره قبيل وفاته ببضع سنوات لم يستحى هذا الرافضي أن ينسب له منكرا من القول وزورا : " وأنا في أخذ العلم عنك على جمام من نفسى و ..... إلخ " ؟! .........." فزدنى منه لله أبوك زدنى " ؟!
والعلم هنا من كتب أهل السنة والجماعة وليس من كتب الروافض ! فبعد الثمانين جاء رافضى يعلمه ما في كتبنا !!(1/171)
والأحاديث التي بينا ما فيها ينسب الرافضي للعالم العلامة أنه رحب بها ، وطلب المزيد منها ، ووصفها بأنها أدلة وبينات !! إن الطالب الذي حصل شيئا من العلم يستطيع الرجوع إلى منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمى ، ليبين بطلان وضلال ما جاء في المراجعة الثامنة.
لكن هذا الرافضي الطريد أراد ـ دون خجل أو استحياء ـ أن يجعل شيخ الأزهر العالم الثبت تلميذا صغيرا جاهلا يتلقى العلم لأول مرة على يديه !
المراجعة العاشرة و أحاديثها
بعد أن جعل المراجعة السابقة تأييدا لباطله ، بل إعجابا بهذا الباطل ، ونسب للشيخ البشرى أنه طلب المزيد من النصوص دون أن يعترض على نص واحد ، أو يشير إلى ضعفه فضلا عن وضعه ، كما لم يعترض على تكفير الصحابة وخير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، وغير ذلك من البلايا والرزايا ، بعد هذا تأتى المراجعة العاشرة بمزيد من الأحاديث الموضوعة المكذوبة ، وكل الأحاديث بلا استثناء أخذت من مراجع يعلم من له أدنى دراية بالحديث وعلومه أنها مراجع لا يكفى نسبة الأحاديث إليها لتكون حجة في الفروع ، فكيف إذا كان يستدل بها على عقيدة الرافضي ، والحكم على الأمة كلها بالضلال ؟! وإذا كان الباحث عادة يبدأ بأقوى الأدلة في نظره ، فإن هذا يعنى أنه يرى أن أحاديث المراجعة الثامنة أقوى من أحاديث هذه المراجعة. فإذا لم يثبت هناك أي حديث فمن باب أولى ألا يثبت هنا حديث واحد .
ولننظر في الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، أي أقوى الأحاديث في نظره .
وقد أغنانا عن البيان الشيخ الألبانى حيث ذكر هذه الأحاديث في الجزء الثانى من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وبين أنها موضوعة وليست ضعيفة فقط، وأشار إلى هذا الرافضي ، ومنهجه في كتابه المراجعات .
ولذلك فإننى أنقل كلامه هنا تاما غير منقوص ، وأرقامها في كتابه هي : 892 ، 893 ، 894 .
وهذه هي الأحاديث بأرقامها في الكتاب(1/172)
892 ( من أحب أن يحيا حياتى ، ويموت موتتى ، ويسكن جنة الخلد التي وعدنى ربى عزوجل ، غرس قضبانها بيديه ، فليتول على بن أبى طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) .
موضوع : رواه أبو نعيم في " الحلية " ( 4 / 349 ـ 350 ) والحاكم ( 3 / 128 ) وكذا الطبرانى في " الكبير " وابن شاهين في " شرح السنة " ( 18 / 65 / 2 ) من طرق عن يحيى بن يعلى الأسلمى قال : ثنا عمر بن رزيق عن أبى إسحاق عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ـ زاد الطبرانى : وربما لم يذكر زيد بن أرقم ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره . وقال أبو نعيم: " غريب من حديث أبى إسحاق ، تفرد به يحيى " .
قلت : وهو شيعي ضعيف ، قال ابن معين : " ليس بشئ " . وقال البخاري : " مضطرب الحديث " . وقال ابن أبى حاتم ( 4 / 2 / 196 ) عن أبيه : " ليس بالقوى ، ضعيف الحديث " .
والحديث قال الهيثمى في " المجمع" ( 9 / 108 ): " رواه الطبرانى ، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمى ، وهو ضعيف " .
" قلت : وأما الحاكم فقال : صحيح الإسناد " ! فرده الذهبي بقوله : " قلت : أنى له الصحة والقاسم متروك . وشيخه ( يعنى الأسلمى ) ضعيف . واللفظ ركيك ، فهو إلى الوضع أقرب " .
وأقول : القاسم ـ وهو ابن شيبة ـ لم يتفرد به ، بل تابعه راويان آخران عند أبى نعيم ، فالحمل فيه على الأسلمى وحده دونه .
نعم للحديث عندي علتان أخريان :
الأولى : أبو إسحاق ، وهو السبيعى فقد كان اختلط مع تدليسه ، وقد عنعنه .
الأخرى : الاضطراب في إسناده منه أو من الأسلمى ، فإنه يجعله تارة من مسند زيد بن أرقم ، وتارة من مسند زياد بن مطرف ، وقد رواه عنه مطين والباوردى وابن جرير وابن شاهين في " الصحابة " كما ذكر الحافظ بن حجر في " الإصابة " وقال :" قال ابن منده : " لا يصح " : قلت : في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى . وهو واه " .(1/173)
قلت : و قوله " المحاربى " سبق قلم منه . وإنما هو الأسلمى كما سبق ويأتى .
( تنبيه ) لقد كان الباعث على تخريج هذا الحديث ونقده . والكشف عن علته. أسباب عدة ، منها أنني رأيت الشيخ المدعو بعبد الحسين الموسوي الشيعي قد خرج الحديث في ( مراجعاته ) ( ص 27 ) تخريجا أوهم به القراء أنه صحيح كعادته في أمثاله . واستغل في سبيل ذلك خطأ قلميا وقع للحافظ ابن حجر رحمه الله . فبادرت إلى الكشف عن إسناده ، وبيان ضعفه ، ثم الرد على الإيهام المشار إليه ، وكان ذلك منه على وجهين . فأنا أذكرهما ، معقبا على كل منهما ببيان ما فيه فأقول :
الأول : أنه سابق الحديث من رواية مطين و من ذكرنا معه نقلا عن الحافظ من رواية زياد بن مطرف ، وصدره برقم ( 38 ) . ثم قال :
" ومثله حديث زيد بن أرقم .... " فذكره، و رقم له بـ ( 39 ). ثم علق عليهما مبينا مصادر كل منهما ، فأوهم بذلك أنهما حديثان متغايران إسنادا ! والحقيقة خلاف ذلك ، فإن كل منهما مدار إسناده على الأسلمى ، كما سبق بيانه غاية ما في الأمر أن الراوى كان يرويه تارة عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ، وتارة لا يذكر فيه زيد بن أرقم ويوقفه على زياد بن مطرف ، وهو مما يؤكد ضعف الحديث لاضطرابه في إسناده كما سبق .
والآخر : أنه حكى تصحيح الحاكم للحديث دون أن يتبعه بيان علته ، أو على الأقل دون أن ينقل كلام الذهبي في نقده . وزاد في إيهام صحته أنه نقل عن الحافظ قوله في " الإصابة " . " قلت في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى وهو واه " .
فتعقبه عبد الحسين ( ! ) بقوله : " أقول : هذا غريب من مثل العسقلانى ، فإن يحيى بن يعلى المحاربى ثقة بالاتفاق ، وقد أخرج له البخاري ... ومسلم .... " .(1/174)
فأقول : أغرب من هذا الغريب أن يدير عبد الحسين كلامه في توهيمه الحافظ في توهينه للمحاربى ، وهو يعلم أن المقصود بهذا التوهين إنما هو الأسلمى وليس المحاربى ، لأن هذا مع كونه من رجال الشيخين ، فقد وثقه الحافظ نفسه في " التقريب " وفى الوقت نفسه ضعف الأسلمى ، فقد قال في الترجمة الأولى :
" يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربى الكوفي ثقة ، من صغار التاسعة مات سنة ست عشرة " . وقال بعده بترجمة :
" يحيى بن يعلى الأسلمى الكوفي شيعي ضعيف ، من التاسعة " .
وكيف يعقل أن يقصد الحافظ تضعيف المحاربى المذكور وهو متفق على توثيقه ، ومن رجال " صحيح البخاري " الذي استمر الحافظ في خدمته وشرحه وترجمة رجاله قرابة ربع قرن من الزمان ؟! كل ما في الأمر أن الحافظ في " الإصابة " أراد أن يقول : " .... الأسلمى وهو واه " فقال واهما : " المحاربى وهو واه " .
فاستغل الشيعي هذا الوهم أسوأ الاستغلال . فبدل أن ينبه أن الوهم ليس في التوهين . وإنما في كتب " المحاربى " مكان الأسلمى . أخذ يوهم القراء عكس ذلك وهو أن راوى الحديث إنما هو المحاربى الثقة وليس الأسلمى الواهى ! فهل في صنيعه هذا ما يؤيد من زكاه في ترجمته في أول الكتاب بقوله:
" ومؤلفاته كلها تمتاز بدقة الملاحظة .. و أمانة النقل " .
أين أمانة النقل يا هذا وهو ينقل الحديث من " المستدرك " وهو يرى فيه يحيى ابن يعلى موصوفا بأنه " الأسلمى " فيتجاهل ذلك ، ويستغل خطأ الحافظ ليوهم القراء أنه المحاربى الثقة . وأين أمانته أيضا وهو لا ينقل نقد الذهبي والهيثمى للحديث بالأسلمى هذا ؟! فضلا عن أن الذهبي أعله لمن هو أشد ضعفا من هذا كما رأيت ، ولذلك ضعفه السيوطى في " الجامع الكبير " على قلة عنايته فيه بالتضعيف فقال : " وهو واه " .
وكذلك وقع في " كنز العمال " رقم ( 2578 ) ، ومنه نقل الشيعي الحديث دون أن ينقل تضعيفه هذا مع الحديث ، فأين الأمانه المزعومه أين ؟!(1/175)
( تنبيه ) أورد الحافظ ابن حجر الحديث في ترجمة زياد بن مطرف في القسم الأول من " الصحابة " وهذا القسم خاص كما قال في مقدمته ، " فيمن وردت صحبته بطريق الروايه عنه أو عن غيره ، سواء كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة ، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان ، وقد كنت أولا رتبت هذا القسم الواحد على ثلاثة أقسام ، ثم بدا لي أن أجعله قسما واحدا ، وأميز ذلك في كل ترجمة " .
قلت : فلا يستفاد إذن من إيراد الحافظ للصحابى في هذا القسم أن صحبتة ثابتة ، ما دام أنه قد نص على ضعف إسناد الحديث الذي صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو هذا الحديث ، ثم لم يتبعه بما يدل على ثبوت صحبته من طريق أخرى ، وهذا ما أفصح بنفيه الذهبي في " التجريد " بقوله : ( 1 / 199 ) : " زياد بن مطرف ، ذكره مطين في الصحابة ، ولم يصح " .
وإذا عرفت هذا فهو بأن يذكر في المجهولين من التابعين أولى من أن يذكر في الصحابة المكرمين وعليه فهو علة ثالثة في الحديث .
ومع هذه العلل كلها في الحديث يريدنا الشيعي أن نؤمن بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عابئ بقوله صلى الله عليه وسلم : " من حدث عنى بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " . رواه مسلم في مقدمة " صحيحة " فالله المستعان .
وكتاب " المراجعات " للشيعى المذكور محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل على رضي الله عنه ، مع كثير من الجهل بهذا العلم الشريف، والتدليس على القراء والتضليل عن الحق الواقع . بل والكذب الصريح. مما لا يكاد القارئى الكريم يخطر في باله أن أحدا من المؤلفين يحترم نفسه يقع في مثله . من أجل ذلك قويت الهمة في تخريج تلك الأحاديث ـ على كثرتها ـ وبيان عللها وضعفها . مع الكشف عما في كلامه عليها من التدليس والتضليل . وذلك ما سيأتي بإذن الله تعالى برقم ( 4881 ـ 4975 ) .(1/176)
893 ( من سره أن يحيا حياتى ، ويموت ميتتى ، ويتمسك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده ، ثم قال لها " كونى فكانت " فليتول على بن أبى طالب من بعدى).
موضوع : رواه أبو نعيم ( 1 / 86 و 4 / 174 ) من طريق محمد بن زكريا الغلابى : ثنا بشر بن مهران : ثنا شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة مرفوعا . وقال : " تفرد به بشر عن شريك "
قلت : هو ابن عبد الله القاضى وهو ضعيف لسوء حفظه .
وبشر بن مهران قال ابن أبى حاتم : " ترك أبى حديثه " . قال الذهبي : " قد روى عنه محمد بن زكريا الغلابى ، لكن الغلابى متهم " . قلت : ثم ساق هذا الحديث . والغلابى قال فيه الدارقطنى : " يضع الحديث " . فهو آفته .
والحديث أورده ابن الجوزي في " الموضوعات"( 1 / 387 ) من طرق أخرى ، وأقره السيوطى في " اللآلئ " ( 1 / 368 ـ 369 ) ، وزاد عليه طريقين آخرين أعلهما ، هذا أحدهما وقال : " الغلابى متهم " .
وقد روى بلفظ أتم منه ، وهو :
894 " من سره أن يحيا حياتى ، ويموت مماتى ، ويسكن جنة عدن غرسها ربى فليوال عليا من بعدى ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدى . فإنهم عترتى ، خلقوا من طينتى ، رزقوا فهما وعلما ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتى ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم الله شفاعتى " .
موضوع : أخرجه أبو نعيم ( 1 / 86 ) من طريق محمد بن جعفر بن عبد الرحيم : ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم : ثنا عبد الرحمن بن عمران ابن أبى ليلى ـ أخو محمد بن عمران ـ : ثنا يعقوب بن موسى الهاشمى عن ابن أبى رواد عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا . وقال:
" وهو غريب " .(1/177)
قلت : وهذا إسناد مظلم ، كل من دون ابن أبى رواد مجهولون . لم أجد ذكرهم . غير أنه يترجح عندي أن أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم إنما هو ابن مسلم الأنصارى الأطرابلسى المعروف بابن أبى الحناجر ، قال ابن أبى حاتم ( 1 / 1 / 73 ) : " كتبنا عنه وهو صدوق " . وله ترجمة في " تاريخ ابن عساكر" (2 / ق 113 ـ 114 / 1 ) .
وأما سائرهم فلم أعرفهم ، فأحدهم هو الذي اختلق هذا الحديث الظاهر البطلان والتركيب ، وفضل على رضي الله عنه أشهر من أن يستدل عليه بمثل هذه الموضوعات ، التي يتشبث الشيعه بها ، ويسودون كتبهم بالعشرات من أمثالها مجادلين بها في إثبات حقيقة لم يبق اليوم أحد يجحدها ، وهى فضيلة على رضي الله عنه .
ثم الحديث عزاه في " الجامع الكبير " ( 2 / 253 / 1 ) للرافعى أيضا عن ابن عباس ، ثم رأيت ابن عساكر أخرجه في " تاريخ دمشق " ( 12 / 120 / 2 ) من طريق أبى نعيم ثم قال عقبه :
" هذا حديث منكر ، وفيه غير واحد من المجهولين " .
قلت : وكيف لا يكون منكرا ، وفى مثل ذاك الدعاء ! " لا أنالهم الله شفاعتى " الذي لا يعهد مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتناسب مع خلقه صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته بأمته ؟
وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها صاحب " المراجعات " عبد الحسين الموسوي نقلا عن كنز العمال ( 6 / 155 و 217 ـ 218 ) موهما أنه في مسند الإمام أحمد ، معرضا عن تضعيف صاحب الكنز إياه تبعا للسيوطى ...... .
وكم في هذا الكتاب " المراجعات " من أحاديث موضوعات ، يحاول الشيعي أن يوهم القراء صحتها وهو في ذلك لا يكاد يراعى قواعد علم الحديث حتى التي هي على مذهبهم إذ ليست الغاية عنده التثبت مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في فضل على رضي الله عنه ، بل حشر كل ما روى فيه ! وعلى رضي الله عنه كغيره من الخلفاء الراشدين والصحابة الكاملين أسمي مقاما من أن يمدحوا بما لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/178)
ولو أن أهل السنة والشيعة اتفقوا على وضع قواعد في " مصطلح الحديث " يكون التحاكم إليها عند الاختلاف في مفردات الروايات ، ثم اعتمدوا جميعا على ما صح منها ، لو أنهم فعلوا ذلك لكان هناك أمل في التقارب والتفاهم فهيهات هيهات أن يمكن التقارب والتفاهم معهم . بل كل محاولة في سبيل ذلك فاشلة . والله المستعان .
انتهى كلام الشيخ العلامة ، حفظه الله تعالى ونفعنا بعلمه .
هذه هي الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، وكلها موضوعة مكذوبة ، وما يأتي بعدها ليس بأحسن حالاً منها ، وعددها ثلاثة عشر ، وبالنظر إلى مراجعه التي جمع منها هذه الأحاديث نجد الآتى :
خمسة أحاديث من كتاب الصواعق المحرقة ، وابن حجر الهيثمى أثبت بطلان عقيدة الرافضة ، ولهذا ألف كتابه الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة . وقد بين في كتابه عدم صحة ما يستدلون به ، وأنه معارض بالمتواتر والصحيح . والرافضى ينقل غير الصحيح الذي يؤيد باطله ، متجاهلا ما يعارضه . ولذلك سأقف وقفة طويلة تغنينا عن الرجوع لما ينقل من كتاب الصواعق .
ونقل ثلاثة أحاديث من كنز العمال لم يصح منها شيء .
وباقى مراجعه هي : إسعاف الراغبين ، والشرف المؤبد ، والشفا ، وإحياء الميت ، والأربعين للنبهانى ، وتفسير الثعلبى ، وتفسير الزمخشري . وأخذ الأحاديث من هذه المراجع يدل على جهل أو تجاهل الرافضي للحديث وعلومه ، والمنهج العلمى في الاستدلال بالسنة المطهرة .
فهذه الكتب كلها ليست من الكتب المعتمدة للسنن والآثار ، فضلا عن أن تكون من الصحاح . بل إن هذه الكتب يكثر فيها الأخبار الباطلة مثل هذه الأخبار المنقولة .
*****
باب مدينة العلم
من الأحاديث التي استدل الرافضيان " أنا مدينة العلم وعلى بابها " ، وأثبت هنا رد شيخ الإسلام على ابن المطهر .
قال رحمه الله تعالى :(1/179)
وحديث : " أنا مدينة العلم وعلى بابها " أضعف وأوهى ، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات ، وإن رواه الترمذي ، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة ، والكذب يعرف من نفس متنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ، ولم يكن لها إلا باب واحد ، ولم يُبلّغ عنه العلم إلا واحد ، فَسَدَ أمر الإسلام ، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا ، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر ، الذي يحصل العلم بخبرهم للغائب .
وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن ، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة .
وإذا قالوا : ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره .
قيل لهم : فلابد من العلم بعصمته أولا . وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته ، فإنه دَوْر ، ولا تثبت بالإجماع ، فإنه لا إجماع فيها . وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة ، لأن فيهم الإمام المعصوم ، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه ، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره .
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو ، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين ، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا ، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام ، إذ لم يبلغه إلا واحد .
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر ؛ فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير على . أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر ، وكذلك الشام والبصرة ؛ فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلا ، وإنما كان غالب علمه في الكوفة ، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان ، فضلا عن علىّ .(1/180)
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر ، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من على . ولهذا روى أهل اليمن عن مُعاذ بن جبل أكثر مما رووا عن على ، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل . ولما قدم على الكوفة كان شريح فيها قاضيا . وهو وعبيدة السلمانى تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم على الكوفة .
وقال ابن حزم : " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما ". قال : " وهذا كذب ، وإنما يعرف علم الصحابى بأحد وجهين لا ثالث لهما : أحدهما: كثرة روايته وفتاويه . والثانى : كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له . فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له . وهذه أكبر شهادة على العلم وسعته ، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته ، وجميع أكابر الصحابة حضور ، فعمر وعلى وابن مسعود وأبى وغيرهم ، فهذا بخلاف استخلافه عليا إذا غزا ، لأن ذلك على النساء وذوى الأعذار فقط ، فوجد ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها ، وأعلم المذكورين بها ، وهى عمود الإسلام . ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات كالذى عند غيره من علماء الصحابة ، لا أقل ، وربما كان أكثر ، إذ قد استعمل غيره ، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه ، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة .
وبرهان ما قلناه من تمام علم أبى بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها ، والذى يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبى بكر ، ثم الذي من طريق عمر . وأما من طريق على فمضطرب ، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة ، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه .(1/181)
وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج ، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج . وهذه دعائم الإسلام .
ثم وجدناه قد استعمله على البعوث ، فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث ، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل ، فعند أبى بكر من علم الجهاد كالذى عند على وسائر أمراء البعوث لا أقل .
وإذا صح التقدم لأبى بكر علَى علىّ وغيره في العلم بالصلاة والزكاة والحج ، وساواه في الجهاد ، فهذه عمدة للعلم .
ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر ، فشاهد أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة على لها ، فصح ضرورة أنه أعلم بها ، فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق ؟ أو المشارك الذي لا يسبق ؟ فبطلت دعواهم في العلم ، والحمد لله رب العالمين .(1/182)
وأما الرواية والفتيا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ، ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة ، ولم يرو عن على إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة ، يصح منها نحو خمسين حديثا . وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة ، فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده ، لذهاب جمهور الصحابة ، وكثر سماع أهل الآفاق ، منه مرة بصفين ، وأعواما بالكوفة ، ومرة بالبصرة ، ومرة بالمدينة ، فإذا نسبنا مدة أبى بكر من حياته ، وأضفنا تفرى على البلاد بلدا بلدا ، وكثرة سماع الناس منه ، إلى لزوم أبى بكر موطنه ، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه ، وفتاويه من فتاويه ، علم كل ذى حظ من علم أن الذي عند أبى بكر من العلم أضعاف ما كان عند على منه .
وبرهان ذلك أن مَنْ عُمّر من الصحابة عُمرا قليلا قلّ النقل عنه ، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس . وقد عاش على بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر ، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا ، يصح منها نحو خمسين ، كالذى عن على سواء ، فكل ما زاد حديث علىّ علَى حديث عمر تسعة و أربعون حديثا في هذه المدة ، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان .(1/183)
وفتاوى عمر موازية لفتاوى على في أبواب الفقه ، فإذا نسبنا مدة من مدة ، وضربا في البلاد من ضرب فيها ، وأضفنا حديثا إلى حديث ، وفتاوى إلى فتاوى ، علم كل ذى حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند على ، ووجدنا مسند عائشة ألفى مسند ومائتى مسند وعشرة مسانيد ، وحديث أبى هريرة خمسة آلاف مسند ، وثلثمائة مسند ، وأربعة وسبعون مسندا ، ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ، ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما ، أزيد من ألف وخمسمائة ، ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا ، ولكل من ذكرنا ـ حاشا أبى هريرة وأنس ـ من الفتاوى أكثر من فتاوى على أو نحوها ، فبطل قول هذا الجاهل " .
إلى أن قال : " فإن قالوا : قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن ؟ قلنا : نعم ، لكن مشاهدة أبى بكر لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند على وهو باليمن ، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس ، فقد ساوى علمه علم على في حكمها بلا شك ، إذ لا يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عالما بما يستعمله عليه ، وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ذلك ، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع على معاذا وأبا موسى الأشعرى ، فلعلىّ في هذا شركاء كثير ، منهم أبو بكر وعمر ، ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم " .
نظرة في الكتب التي ينقل منها الرافضيان(1/184)
أشار شيخ الإسلام الى بعض الكتب التي نقل منها الرافضي ابن المطهر الحلى ، وبين خطأ منهجه في النقل . وعبد الحسين كسلفه الرافضي نقل من تلك الكتب بالمنهج الخاطئ هو نفسه ، غير أنه في مراجعاته نقل نقولا كثيرة من كتابين هما : نهج البلاغة ، والصواعق المحرقة ، مما يستدعى أن نقف وقفة أمام كل منهما لنرى القيمة العلمية لما ينقل من نهج البلاغة ، ومنهج التضليل والتلبيس في النقل من الصواعق : وتكفينا وقفة قصيرة بالنسبة للكتاب الأول ، أما الثانى فيحتاج إلى وقفة طويلة تفضح هذا الرافضي وأمثاله .
أولا : نهج البلاغة
كتاب نهج البلاغة كتاب بغير إسناد ، فسواء أكان من تأليف وجمع الشريف الرضى المتوفى سنة 406 هـ ، أم أخيه الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ ، فليس متصل الإسناد إلى الإمام على ـ رضي الله عنه ـ بل كان التأليف والجمع بعد ما يقرب من أربعة قرون ، وكما قال عبد الله بن المبارك وابن سيرين وغيرهما : " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " .
وروى الإمام الحاكم بسنده عند عبد الله بن المبارك قال : " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، ثم قال بعد هذا ـ وهو شيعي لكنه غير رافضى : " فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له ، وكثرة مواظبتهم على حفظه ، لدرس منار الإسلام ، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث ، وقلب الأسانيد ، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا " .
وروى أن ابن أبى فروة ذكر أحاديث بغير إسناد فقال له الزهرى : " قاتلك الله يا بن أبى فروة ، ما أجرأك على الله ! لا تسند حديثك ؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة " ! .
( انظر كتابه معرفة علوم الحديث ص 6 ) .
فكتاب نهج البلاغة إذا بغير خطم ولا أزمة ، ولا وزن له من الناحية العلمية . وفى ضوء المنهج العلمى لا يعتبر حجة في أي فرع من فروع الشريعة فضلا عن أصول العقيدة .(1/185)
وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضى ـ كما سيأتي ـ فإن هذا الشاعر رافضى جلد لا يحتج بروايته كما هو معلوم من ترجمته ، وهذا يعنى أن نهج البلاغة لو كان مسندا عن طريقه فلا يجوز الإحتجاج بما جاء فيه . فلو كان مسندا فليس بحجة ، فما بالك إذا خلا تماما عن الإسناد ؟ !
وفى عام 1406 هـ ( 1986 م ) ظهرت طبعة جديدة للكتاب ، وجاء تحت العنوان ما يأتي :
نسخة جديدة محققة وموثقة ، تحوى ما ثبت نسبته للإمام على رضي الله عنه وكرم الله وجهه من خطب ورسائل وحكم . تحقيق وتوثيق دكتور صبرى إبراهيم السيد ، تقديم العلامة المحقق الأستاذ عبد السلام محمد هارون .
فلننظر في هذه النسخة لنرى ماذا قال أستاذنا رحمه الله في تقديمه ، ولنرى نتيجة التحقيق والتوثيق . قال أستاذنا في التقديم :
إنها قضية ذات كتاب : أو كتاب ذو قضية . فكتابنا هذا " نهج البلاغة "يعد في طليعة أمهات كتب الأدب العربى . ولا تكاد مكتبة أديب حفى بالتراث العربى تخلو من الظفربه أو اقتنائه .
وكنا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه : أولاهما : من هو صانع هذا الكتاب ؟ أهو الشريف الرضى ، أم هو أخوه المرتضى ؟ والأخرى : مدى صحة هذا الحشد الهائل من الخطب والرسائل والحكم ، أو بعبارة أدق : ما مدى توثيق هذا الكم الضخم ونسبته إلى الإمام على كرم الله وجهه ؟ من ذا الذي يقضى في هذه المسائل ؟ فإن كثيرين من علماء القرن السادس الهجرى يزعمون أن معظم هذه النصوص لا يصح إسناده إلى الخليفة الإمام ، وإنما هو من صناعة قوم من فصحاء الشيعة ، صنعوه ليزيدوا الناس يقينا بما عرفوه من فصاحة الإمام واقتداره، مع أن فصاحة وبلاغة وسمو بيانه لا تحتاج إلى دليل ، أو تفتقر إلى برهان ، وزعموا أيضا أن الشريف الرضى أو غيره من الشيعة نظموا أنفسهم في سلك هؤلاء الأقوام .(1/186)
وقالوا : إنه مما يحير هذا الشك ويقويه ، ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة في غير ما موضع : وإن السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي .
قالوا : إن فيه من دقة الوصف ، وغرابة التصوير ما لم يكن معروفا في آثار الصدر الأول الإسلامي ، كما أنه يطوى في جنباته كثيرا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس بعد أن شاعت علوم الحكمة ، كالأين والكيف ، إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية ، والعد ، وكلام الخالق ، ومالم يكن معهودا كذلك من التقسيمات الرياضية ذات النظام .
وقالوا : إن الكتاب مشتمل على ادعاء المعرفة بالغيبيات ، وهو الأمر الذي يجل قدر الإمام على بن أبى طالب وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس له أو اصطناعه .
وأن في الكتاب تكرارا للمقاطع بالتطويل تارة ، وبالإيجاز أخرى ، وأن كثيرا من نصوصه لم يظهر فيما أثر من كتب الأدب والتاريخ التي صنعت قبل الشريف الرضى أو أخيه ، وأن فيه تطويلا يتجاوز حد الغلو في بعض نصوصه ، كعهده إلى الأشتر النخعى . دع عنك ما يسرى فيه من مظاهر التشيع المذهبى ، والتعصب الشيعي التي يعلو قدر الإمام عنها .
وأمر آخر يريب : وهو أن جامع هذه النصوص لم يسجل في صدر كتابه أو أثنائه شيئا من مصادر التوثيق والرواية ، كما هو المألوف في أمثال هذه الكتب التي ينظر إليها بعين خاصة ، وهذه كلها شبهات تعلو ، ومسائل تطفو ، تحمل الباحث على كثير من التأمل ، وطويل من الدرس . شبهات ومسائل كانت تحيك في صدر كل دارس لهذا الكتاب الخالد ، ويود لو أن قد تفرغ لدراستها من يزيل عنها تلك الأوضار ، ليظهر من بينها يقين التحقيق .
لهذا كله كانت غبطتى بهذا البحث الذي تولاه باحث أعرف فيه الدقة والصبر، وأعرف فيه خلة التأنى ، فقد استطاع الدكتور صبرى أن يحقق نسبة الكتاب إلى الشريف الرضى بما لا يدع مجالا للشك .(1/187)
ويمكن من تحقيق نسبة النصوص في هذا الكتاب بمختلف ضروبها من خطب ورسائل وحكم إلى أصحابها ، ومن بينها ما صحت نسبته إلى الإمام على في جملتها وتفصيلها ، أو في تفصيلها فقط دور جملتها . وهذا أمر يحدث للمرة الأولى بين الباحثين في هذا الكتاب بهذا الأسلوب المنهجي الفريد " ا . هـ
وبعد هذا التقديم نأتى إلى نتائج التوثيق التي انتهى إليها الدكتور صبرى ، حيث قال :
وهكذا أجد نفسى ـ بعد هذه الجولة التوثيقية ـ أمام مستويات خمسة من النصوص :
1- نصوص ثبتت نسبتها إلى الإمام علي.
2- نصوص رواها الشيعة وحدهم .
3- نصوص لم يروها أحد .
4- نصوص مشكوك في صحة نسبتها لأسباب خاصة .
5- نصوص ثبتت نسبتها لآخرين .
( انظر ص 81 : 97 )
والذى يعنينا هو المستوى الأول فقط . وكيف استطاع المحقق إثبات نسبتها إلى الإمام على ؟
بين المحقق منهجه في التوثيق حيث قال : ( ص 65 )
" وهأنذا أحاول استكشاف ما في بطون الكتب الأدبية والتاريخية من نصوص أوردها صاحب النهج ، ملتزما في ذلك باعتماد أقوال من سبقوا الشريف الرضى ، أو عاصروه ، واستبعاد من جاءوا بعده أو لم يعاصروه " .
وقبل أن ننظر في مراجع المحقق نراه هنا يذكر أنها كتب أدبية وتاريخية،وهذه الكتب كما نعلم ليست حجة في أي فرع من فروع الشريعة ، فما بالك بأصول العقيدة ؟ !
بعد نتائج التوثيق انتقل المحقق إلى تحقيق النصوص وتوثيقها ، وبدأها بتوثيق الخطب :(1/188)
أثبت الخطبة الأولى من أولها إلى قوله : " ولا وقت معدود " ، ومرجعه العقد الفريد لابن عبد ربه . ( انظر ص 101 ) وهى هنا خمسة أسطر فقط ، وفى الأصل أكثر من خمسين ومائة سطر . والثانية نصف سطر ، وقال المحقق ( ص 101 ) : الكلمة موجودة في تاريخ اليعقوبى . والثالثة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة ( ص 102 ) ـ قلت : الكتاب غير صحيح النسبة لابن قتيبة . وهكذا نجد مراجع المحقق من هذا النوع من الكتب التي لا تعتبر إطلاقا مراجع معتمدة في مجال الشريعة . وفى ص 297 : 309 ذكر مراجع البحث والتوثيق . وبالنظر فيها نراها كما ذكر المحقق من كتب الأدب والتاريخ ما عدا مسند الإمام أحمد ، وقد سبق جمع ما في المسند ودراسته ، إذن لا يجوز ذكر شىء مما جاء في نهج البلاغة ليحتج به في أي مجال من مجالات الشريعة ، ولسنا بعد هذا في حاجة إلى مناقشة ما يذكره هذا الرافضي ، وبيان أن ما جاء به من طعن في الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وخيرهم الشيخان ، يتعارض مع كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ثبت متواترا وصحيحا عن الإمام على هو نفسه، رضي الله عنه.
ثانيا : الصواعق المحرقة
كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيتمى المكى ، المتوفى سنة 974 هـ .
والكتاب كما يظهر من عنوانه إنما هو للرد على هذه الفرقة وأمثالها ، ولذلك قال في بداية الكتاب :
" سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق ، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجانب ، فجاء بحمد الله أنموذجا لطيفا ، ومنهاجا شريفا ، ومسلكا منيفا . ثم سئلت قديما في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة . . إلخ " ( ص 9 ) .(1/189)
فالكتاب إذن لبيان بطلان مذهب الشيعة والرافضة و نحوهما ، فكيف يستدل عبد الحسين بما جاء في هذا الكتاب لبيان صحة مذهبه لا بطلانه ؟
لننظر إلى ما جاء في الصواعق أولا ، ثم نبين مسلك عبد الحسين .
بدأ ابن حجر الهيتمى بثلاث مقدمات ، ومما جاء فيها : بيان وجوب تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ما افتراه الرافضة عليهم من الروايات . ثم إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام بعد عصر النبوة . وأخيرا طريق ثبوت الخلافة .
وقسم الكتاب إلى أحد عشر بابا :
جعل الباب الأول في بيان كيفية خلافة الصديق ، والاستدلال على حقيتها بالنقل والعقل ، وقسم الباب إلى خمسة فصول :
الأول : في بيان كيفيتها : وبدأه بقول : " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ، اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به ، أن عمر رضي الله عنه ـ خطب الناس مرجعه من الحج .. " وذكر ما يتصل ببيعة الصديق، وأثبتها من قبل .
وقال بعد هذا ( ص 20 ) .
" وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه : عن ابن مسعود قال : لما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر ابن الخطاب ، فقال : يا معشر الأنصار : ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ، وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . ثم قال بعد هذا ( ص 21 ) :(1/190)
وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والحاكم ، وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال : خطب أبو بكر فقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، لقد قلدت أمرا عظيما مالى به من طاقة ، ولا يد إلا بتقوية الله . فقال على والزبير : ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة ، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها ؛ إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف شرفه وخيره ، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بين الناس وهو حى " .
وقال أيضا :
وأخرج أحمد أن أبا بكر لما خطب يوم السقيفة لم يترك شيئا أنزل في الأنصار ، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم إلا ذكره ، وقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار ، وقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تابع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم . فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعدا أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقى الله ـ ( انظر ص 21 : 22 ) .
وجعل الفصل الثانى في بيان انعقاد الإجماع على ولاية أبى بكر ، فقال :
قد علم مما قدمناه أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك ، وأن ما حكى من تخلف سعد بن عبادة عن البيعة مردود .(1/191)
ومما يصرح بذلك أيضا ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا ، فهو عند الله سيئ . وقد رأي الصحابة جميعا أن يستخلف أبو بكر ، فانظر إلى ما صح عن ابن مسعود ، وهو من أكابر الصحابة ، وفقهائهم ومتقدميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعا على خلافة أبى بكر ، ولذا كان هو الأحق بالخلافة عند جميع أهل السنة والجماعة في كل عصر منا إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وكذلك عند جميع المعتزلة ، وأكثر الفرق ، وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنه أهل لها مع أنها من الظهور بحيث لا تخفى . فلا يقال إنها واقعة يحتمل أنها لم تبلغ بعضهم ، ولو بلغت الكل لربما أظهر بعضهم خلافا . على أن هذا إنما يتوهم أن لو لم يصح عن بعض الصحابة المشاهدين بذلك الأمر من أوله إلى آخره حكاية الإجماع ، وأما بعد أن صح عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلهم ، فلا يتوهم ذلك أصلا، سيما وعلى كرم الله وجهه ممن حكى الإجماع على ذلك أيضا ، كما سيأتي عنه أنه لما قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مبايعته هو وبقية الصحابة لأبى بكر ، وأنه لم يختلف عليه منهم اثنان .(1/192)
وأخرج البيهقي عن الزعفرانى قال سمعت الشافعى يقول : أجمع الناس على خلافة أبى بكر ، وذلك أنه اضطرب الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبى بكر فولوه رقابهم . وأخرج أسد السنة عن معاوية بن قرة قال: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله ، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلالة . وأيضا فالأمة اجتمعت على حقية إمامة أحد الثلاثة أبى بكر وعلى والعباس ، ثم إنهما لم ينازعاه بل بايعاه ، فتم بذلك الإجماع له على إمامته دونهما . إذ لو لم يكن على حق لنازعاه كما نازع على معاوية مع قوة شوكة معاوية عدة وعددا على شوكة أبى بكر ، فإذا لم يبال على بها ، ونازعه ، فكانت منازعته لأبى بكر أولى وأحرى ، فحيث لم ينازعه دل على اعترافه بحق خلافته ، ولقد سأله العباس في أن يبايعه ، فلم يقبل ، ولو علم نصا عليه لقبل سيما ومعه الزبير مع شجاعته وبنو هاشم وغيرهم . ومر أن الأنصار كرهوا بيعة أبى بكر وقالوا منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر بخبر : الأئمة من قريش ، فانقادوا له وأطاعوه ، وعلى أقوى منهم شوكة وعدة وعددا وشجاعة، فلو كان معه نص لكان أحرى بالمنازعة ، وأحق بالإجابة ، ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر على والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد ، ومنها أنهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا ، لا للقدح في خلافة الصديق. هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة ، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة ، ولكن وقى الله شرها .(1/193)
ويوافق ما مر عن الأولين من الاعتذار ، ما أخرجه الدار قطنى من طرق كثيرة أنهما قالا عند مبايعتهما لأبى بكر : إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها . إنه لصاحب الغار وثانى اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وكبره ، وفى آخرها أنه اعتذر إليهم ، فقال " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة ، ولا كنت فيها راغبا ، ولا سألتها الله عزوجل في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما " ، إلى آخر ما مر ، فقبلوا منه ذلك ، وما اعتذر به . ( انظر ص 23 : 25 ) .
وعقب على ما سبق وعلى رواية للبخاري ، بقوله :
فتأمل عذره وقوله : لم ننفس على أبى بكر خيرا ساقه الله إليه ، وأنه لا ينكر ما فضله الله به ، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الحديث تجده بريئا مما نسبه إليه الرافضة ونحوهم ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم ! ( ص 26 ) .
أما الفصل الثالث ففي النصوص السمعية الدالة على خلافة أبى بكر من القرآن والسنة ، وبدأ بالنصوص القرآنية فقال :
فمنها قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"
أخرج البيهقي عن الحسن البصري أنه قال : هو والله أبو بكر ، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام , وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال : لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب ، فذكر قتال أبى بكر لهم إلى أن قال : فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه . " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وشرح ثم قال :(1/194)
وأخرج الدار قطنى عن ابن عمر قال : لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ على بزمامها وقال : إلى أين يا خليفة رسول الله ، أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : شمر سيفك ولا تفجعنا بنفسك ، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا . ( انظر 27 : 28 ) .
واستمر في ذكر الآيات الكريمة ، ومما قاله :
ومن الآيات الدالة على خلافته أيضا قوله تعالى :" قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".
أخرج ابن أبى حاتم عن جويبر أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة ، ومن ثم قال ابن أبى حاتم وابن قتيبة وغيرهما : هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا إلى قتالهم ، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة : سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول : الصديق في القرآن في هذه الآية . قال : لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبى بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة . قال : فدل ذلك على وجوب خلافة أبى بكر ، وافتراض طاعته إذ أخبر الله أن المتولى عن ذلك يعذب عذابا أليما . قال ابن كثير : ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم ، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم ، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان وهما فرعا الصديق .(1/195)
فإن قلت : يمكن أن يراد بالداعى في الآية النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلت : لا يمكن ذلك مع قوله تعالى : " قُل لَّن تَتَّبِعُونَا " ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة في حياته صلى الله عليه وسلم إجماعا كما مر ، وأما على فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلا بل لطلب الإمامة ، ورعاية حقوقها ، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة ، وعندهم كفار ، فتعين أن ذلك الداعى الذي يجب باتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب الأليم أحد الخلفاء الثلاثة ، وحينئذ فالألزم عليه حقية أبى بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها الناشئان عنها والمترتبان عليها .
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى : "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
قال ابن كثير : هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق ، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهرى قال : إن ولاية أبى بكر وعمر في كتاب الله . يقول الله تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ".
ومنها قوله تعالى :" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ".(1/196)
وجه الدلاله : أن الله تعالى سماهم صادقين ، ومن شهد له سبحانه وتعالى بالصدق لا يكذب ، فلزم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبى بكر خليفة رسول الله صادقون فيه ، فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته . أخرجه الخطيب عن أبى بكر ابن عياش وهو استنباط حسن ، كما قاله ابن كثير ، ( انظر ص 31 : 32 ) .
وبعد أن انتهى صاحب الصواعق من ذكر الآيات الكريمة ، وبيان دلالتها على خلافة أبى بكر ، انتقل إلى السنة المطهرة . فقد جمع كثيرا من الأحاديث التي تدل على خلافتة ، والأحاديث التي تدل على فضله ، وهى تزيد على المائة ، وذكرها في أبواب متفرقة .
وأثبت هنا بعض الأحاديث التي بين أنها تدل على خلافة أبى بكر .
1 ـ أخرج أحمد وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وأخرجه الطبرانى من حديث أبى الدرداء والحاكم من حديث ابن مسعود . وروى أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن حذيفه : إنى لا أدرى ما قدر بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وتمسكوا بهدى عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوا . والترمذى عن ابن مسعود والرويانى عن حذيفة وابن عدى عن أنس :
اقتدوا باللذين من بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر ، واهتدوا بهدى عمار ، وتمسكوا بعهد ابن مسعود .(1/197)
2 ـ أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله ، فبكى أبو بكر وقال : بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمنّ الناس علَىَّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبى بكر ، وفى لفظ لهما : لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبى بكر ، وفى آخر لعبد الله بن أحمد : أبو بكر صاحبى ومؤنسى في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر للبخاري : ليس في الناس أحد أمنّ على في نفسى ومالي من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل . سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر لابن عدى : سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبى بكر . وطرقه كثيرة منها عن حذيفة وأنس وعائشة وابن عباس ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله تعالى عنهم .
قال العلماء : في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له في الصلاة بهم وغيرها .
3 ـ أخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : بعثنى بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك ، فأتيته فسألته ، فقال : إلى أبى بكر . ومن لازم دفع الصدقة إليه كونه خليفة إذ هو المتولى قبض الصدقات .(1/198)
4 ـ أخرج مسلم عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. وأخرجه أحمد وغيره من طرق عنها . وفى بعضها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبى بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد ، ثم قال : دعيه معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبى بكر ، وفى رواية عن عبد الله بن أحمد : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر .
5 ـ أخرج الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . قالت عائشة ؛ يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف ! فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفى رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها قالت لحفصة : قولى له يأمر عمر ، فقالت له ، فأبى حتى غضب وقال: أنتن أو إنكن أو لأنتن صواحب يوسف ! مروا أبا بكر .(1/199)
واعلم أن هذا الحديث متواتر ، فإنه ورد من حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد وعلى بن أبى طالب وحفصة. وفى بعض طرقه عن عائشة : لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به ، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبى بكر . وفى حديث ابن زمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة ، وكان أبو بكر غائبا ، فتقدم عمر ، فصلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، لا، لا ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، فيصلى بالناس أبو بكر ، وفى رواية عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له : اخرج وقل لأبى بكر يصلى بالناس ، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر ، فقال يا عمر : صل بالناس ، فلما كبر وكان صيتا وسمع صلى الله عليه وسلم صوته قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر . وفى حديث ابن عمر : كبر عمر فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره فأطلع رأسه مغضبا ، فقال : أين ابن أبى قحافة ؟ قال العلماء : في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق ، وأحقهم بالخلافة ، وأولاهم بالإمامة .
قال الأشعرى :(1/200)
قد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصديق أن يصلى بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) . فدل على أنه كان أقرأهم أي أعلمهم بالقرآن . انتهى . وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة ، منهم عمر، ومر كلامه في فضل المبايعة . ومنهم على، فقد أخرج ابن عساكر عنه : لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس ، وإنى لشاهد وما أنا بغائب ، وما بى مرض ، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا .
قال العلماء : وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال : كان قتال بين بنى عمرو بن عوف ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم ، فقال يابلال: إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس ، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة . ثم أمر أبا بكر فصلى . ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته بالخلافة ؛ لأن القصد الذاتى من نصب الإمام العالم إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن ، وإماتة البدع ، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقها ودفع الظلم ، ونحو ذلك فليس مقصودا بالذات ، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمن على الأنفس ، والأموال ، ووصول كل ذى حق إلى حقه ، فلذلك رضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الدين ، وهو الإمامة العظمى ، أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ، كما ذكرنا ومن ثم أجمعوا على ذلك كما مر .(1/201)
وأخرج ابن عدى عن أبى بكر بن عياش قال : قال لي الرشيد : يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق ؟ قلت : يا أمير المؤمنين : سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون . قال والله وما زدتنى إلا عماء ، قلت : يا أمير المؤمنين مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام ، فدخل عليه بلال ، فقال يا رسول الله : من يصلى بالناس ؟ قال : مر أبا بكر يصلى بالناس ، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل عليه (254[254])، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله ، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعجبه فقال : بارك الله فيك .
6 ـ أخرج ابن حبان عن سفينة : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا ، قال لأبى بكر : ضع حجرك إلى جنب حجرى ، ثم قال لعمر : ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر ، ثم قال لعثمان : ضع حجرك إلى جنب حجر عمر ، ثم قال : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال أبو زرعة : إسناده لا بأس به ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك ، وصححه ، والبيهقى في الدلائل ، وغيرهما . وقوله لعثمان ما ذكر يرد على من زعم أن هذا إشارة إلى قبورهم . على أن قوله آخر الحديث : هؤلاء الخلفاء بعدى صريح فيما أفاده الترتيب الأول أن المراد به ترتيب الخلافة (255[255]).
هذه بعض الأحاديث التي ذكر أنها تنص على إمامة أبى بكر . وأراد بعد هذا أن يبين أن الموضوع محل خلاف ، ولذلك جعل عنوان الفصل الرابع " في بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم هل نص على خلافة أبى بكر ؟
وقال ( ص 42 وما بعدها ) :(1/202)
اعلم أنهم اختلفوا في ذلك . ومن تأمل الأحاديث التي قدمناهاعلم من أكثرها أنه نص عليها نصا ظاهرا . وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحق ، وقال جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج : لم ينص على أحد ، ويؤيدهم ما أخرجه البزار في مسنده عن حذيفة قال : قالوا يا رسول الله : ألا تستخلف علينا ؟ قال : إنى إن أستخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب . وأخرجه الحاكم في المستدرك لكن في سنده ضعف . وما أخرجه الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ( يعنى أبا بكر ) ، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما أخرجه أحمد والبيهقى بسند حسن عن على أنه لما ظهر على يوم الجمل قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر ، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن نستخلف عمر ، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضى الله فيها . والجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب بجرانه الشئ أي استقر وثبت .(1/203)
وأخرج الحاكم وصححه أنه قيل لعلى : ألا تستخلف علينا ؟ فقال : ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ، ولكن إن يرد الله الناس خيرا فسيجمعهم بعدى على خيرهم . وما أخرجه ابن سعد عن على أيضا قال : قال على : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر . وقول البخاري في تاريخه : روى عن ابن جمهان عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر وعثمان : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال البخاري : ولم يتابع على هذا لأن عمر وعليا وعثمان قالوا لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى ، ومر أن هذا الحديث ، أعنى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى ، صحيح ولا منافاة بين القول بالاستخلاف والقول بعدمه لأن مراد من نفاه أنه لم ينص عند الموت على استخلاف أحد بعينه ، ومراد من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم نص عليه وأشار إليه قبل ذلك . ولا شك أن النص على ذلك قبل قرب الوفاة يتطرق إليه الاحتمال ، وإن بعد بخلافه عند الموت ، فلذلك نفى الجمهور كعلى وعمر وعثمان الاستخلاف ، ويؤيد ذلك قول بعض المحققين من متأخرى الأصوليين : معنى لم ينص عليها لأحد لم يأمر بها لأحد . على أنه قد يأخذ مما في البخاري عن عثمان أن خلافة أبى بكر منصوص عليها ، والذى فيه في هجرة الحبشة عنه من جملة حديث أنه قال : وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته ووالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله ، ثم استخلف الله أبا بكر ، فوالله ما عصيته ولا غششته ، ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته . الحديث . فتأمل قوله في أبى بكر : ثم استخلف الله أبا بكر ، وفى عمر : ثم استخلف عمر ، تعلم دلالته على ما ذكرته من النص على خلافة أبى بكر ، وإذا أفهم كلامه هذا ذلك مع ما مر عنه من أنها غير منصوص عليها تعين الجمع بين كلاميه(1/204)
بما ذكرناه . وكان اشتمال كلاميه على ذلك مؤيدا للجمع الذي قدمناه ، وعلى كل فهو صلى الله عليه وسلم كان يعلم لمن هي بعده بإعلام الله له ، ومع ذلك فلم يؤمر بتبليغ الأمة النص على واحد بعينه عند الموت ، وإنما وردت عنه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله له أنها لأبى بكر ، فأخبر بذلك كما مر ، وإذا أعلمها فإما أن يعلمها علما واقعا موافقا للحق في نفس الأمر أو أمرا واقعا مخالفا له ، وعلى كل حال لو وجب على الأمة مبايعة غير أبى بكر لبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة ما لزمهم ، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعى على نقله دل على أنه لا نص . . وتوهم أن عدم تبليغه لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره فلا فائدة فيه باطل ، فإن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه ، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد مع الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عليه ؟ واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سرا ـ واحدا واثنين ـ ونقل كذلك لا يفيد ؛ لأن سبيل مثله الشهرة لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا ، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا كما مر ، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنة . واحتمال أنه بلغه مشتهرا ولم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضا، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض لتوفر الدواعى على نقل مهمات الدين ، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص ، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم لا لعلى ولا لغيره ، فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسودوا به أوراقهم من نحو خبر : أنت الخليفة من بعدى وخبر سلموا على على بإمرة المؤمنين ، وغير ذلك مما يأتي . إذ لا وجود لما نقلوه فضلا عن اشتهاره ، كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها ، إذ لم يصل علمه لأئمة الحديث(1/205)
المثابرين على التنقيب عنه كما اتصل لهم كثير مما ضعفوه . وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحة تلك الآحاد مع أنهم لم يتصفوا قط برواية ولا بصحبة محدث ؟ ويجهل تلك الآحاد مهرة الحديث وسباقه الذي أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده قليلا منه ؟ فلذلك قضت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص علَى علِىّ صح آحادا عندهم مع عدم اتصافهم برواية حديث ولا صحبة لمحدث كما تقرر . نعم روى آحادا خبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى . وخبر : من كنت مولاه فعلى مولاه . وسيأتي الجواب عنهما واضحا مبسوطا ، وأنه لا دلالة لواحد منهما على خلافة على لا نصا ولا إشارة ، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة ،فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهال قاطع بأن ما توهموه من هذين الحديثين غير مراد . أن لو فرض احتمالهم لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي . فظهر أن ما سودوا به أوراقهم من تلك الآحاد لا تدل لما زعموه ، واحتمال أن ثم نصا غير ما زعموه يعلمه على أو أحد المهاجرين أو الأنصار باطل أيضا . وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ .(1/206)
وقولهم : ترك على إيراده مع علمه تقية باطل إذ لا خوف يتوهمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقل شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلا على ما يقوله ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلا عن أن يقتل . فبان بطلان هذه التقية المشؤومة عليهم سيما وعلى قد علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو فعل مع أن دعواه لا دليل عليها ، ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبه لعلى وقومه ، وأيضا فيمتنع عادة من مثلهم أنه يذكره لهم ولا يرجعون إليه كيف وهم أطوع الله وأعمالهم بالوقوف عند حدوده وأبعد عن اتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح : خير القرون قرنى ، ثم الذين يلونهم . وأيضا ففيهم العشرة المبشرون بالجنة . ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما صح من طرق ، فلا يتوهم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنهم يتركون العمل بما يرويه لهم من تقبل روايته بلا دليل أرجح يعولون عليه . معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة إذ هو خيانة في الدين وإلا لارتفع الأمان في كل ما نقوله عنه من القرآن والأحكام . ولم يجزم بشئ من أمور الدين مع أنه بجميع أصوله وفروعه إنما أخذ منهم ، على أن في نسبة على إلى الكتم غاية نقص له لما يلزم عليه من نسبته ، وهو أشجع الناس، إلى الجبن والظلم . ولهذا التوهم كفره بعض الملحدين كما يأتي فعلم مما تقرر جميعه أنه لا نص على إمامة على حتى ولا بالإشارة ، وأما أبو بكر فقد علمت النصوص السابقة المصرحة بخلافته ، وعلى فرض أن لا نص عليه أيضا ففي إجماع الصحابة عليها غنى عن النص إذ هو أقوى منه ؛ لأن مدلوله قطعى ومدلول خبر الواحد ظنى ، وأما تخلف جمع كعلى والعباس والزبير والمقداد عن البيعة وقت عقدها فمر الجواب عنه مستوفى . وحاصله مع الزيادة : أن أبا بكر أرسل إليهم بعد فجاءوا فقال للصحابة : هذا على ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره . ألا فأنتم(1/207)
بالخيار جميعا في بيعتكم إيأي ، فإن رأيتم لها غيرى فأنا أول من يبايعه ، فقال على : لا نرى لها أحدا غيرك ، فبايعه هو وسائر المتخلفين .
ونرى صاحب الصواعق بعد هذا يذكر الشبه التي أثارها الروافض ويدحضها، وهذه الشبه كرر ذكرها صاحب المراجعات ، فهى إذن في صلب موضوعنا ، غير أننا إذا أثبتناها كاملة يطول النقل كثيرا ، ولذلك أكتفى بذكر بعضها :
الشبهة السابعة
زعموا أنه ظالم لفاطمة لمنعه إياها مخلف أبيها ، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث ، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين . وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " . وخبر : " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم ، فتكون معصومة ، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث .(1/208)
وجوابها : أما عن الأول ، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن ، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات . وأما عن الثانى ، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت ، ولسن بمعصومات اتفاقا ، فكذلك بقية أهل البيت . وأما بضعة منى : فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى : فيما يرجع للخير والشفقة ، ودعواها أنه صلى الله عليه وسلم نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة ، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء ، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها ، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة ، وسيأتي عن الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم ، أنه صوب ما فعله أبو بكر ، وقال : لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به . وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قالت : أعطانى فدك ، فقال : هل لك بينة ، فشهد لها على وأم أيمن ، فقال لها : فبرجل وأمرأة تستحقينها . ثم قال زيد : والله ، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه . وعن أخيه الباقر أنه قيل له : أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا ؟ فقال : لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة .(1/209)
وأخرج الدارقطنى ، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى ؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر ، وكان يكره أن يخالفهما .
وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث ، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به . فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب ، فلا يشكل عليك ذلك ، وتأمله فإنه مهم . ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري ، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو : عن الزهرى ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى ، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم فلبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلى يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير ، فاستب على وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ، قالوا : قد قال ذلك . فأقبل عمر على على وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإنى أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها ، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله(1/210)
مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : فأنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر ، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتنى يعنى عباسا ، فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت ، وألا فلا تكلمانى ، فقلتما ادفعه إلينا بذلك ، فدفعته إليكما ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه . قال ، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير ، فقال : صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا أردهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن . قال ، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا ، فغلبه عليها ، ثم كانت بيد(1/211)
الحسن بن على رضي الله عنهما ، ثم بيد الحسين بن على ، ثم بيد على بن الحسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم ، وهى صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا . ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى.(1/212)
فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث ، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته ، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها ، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين ، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنة أبى بكر ، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق ، فصدقاه على ذلك . فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة ؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث ، أن للعباس فيه حصة ، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس ، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس ، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة ، وليس بإرث ، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الرافضة ، ونحوهم ، فلا يتصور بهم ذنب ، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث ، وهذا عين مدعانا ، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ثمنهن أيضا ، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده ، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم .(1/213)
وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا ! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث ، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً ، ثم استحضره الباقون ، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وسلم: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ( ص 57 : 60 ) .
الشبهة الثانية عشرة
زعموا أنه من النص التفصيلى على على قوله صلى الله عليه وسلم له لما خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة : أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى . قالوا : ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابته لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلى من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا لما صح الاستثناء ، ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافه عنه لو عاش بعده إذ كان خليفة في حياته ، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه ، وهو غير جائز على الأنبياء ، وأيضا فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده ، فوجب ثبوت ذلك لعلى إلا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حق على ، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملا بالدليل بأقصى ما يمكن .(1/214)
وجوابها : أن الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدى فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمة الحديث والمعول في ذلك ليس إلا عليهم ، كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يروونه حجة في الإمامة ، وعلى التنزيل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة . وقوله : اخلفنى في قومى ـ لا عموم له حتى يقتضى الخلافة عنه في كل زمن حياته وزمن موته ، بل المتبادر منه ما مر أنه خليفة مدة غيبته ، وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى رضي الله عنه ، إنما هو لقصور اللفظ عنه لا لعزله كما لو صرح باستخلافه في زمن معين ، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت، وأن عدم بقاء خلافته بعده عزل له ، لم يستلزم نقصا يلحقه ؛ بل إنما يستلزم كمالاً له أي كمال لأنه يصير بعده مستقلا بالرسالة والتصرف من الله تعالى ، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكاً في الرسالة . سلمنا أن الحديث يعم المنازل كلها لكنه عام مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخاً نبياً ، والعام المخصوص غير حجة في الباقى أو حجه ضعيفه على الخلاف فيه ، ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه ، وقد نفيت النبوة هنا لاستحالة كون على نبيا، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر، فعلم مما تقرر أنه ليس المراد من الحديث ـ مع كونه آحادا لا يقاوم الإجماع ـ إلا إثبات بعض المنازل الكائنه لهارون من موسى ، والحديث وسببه سياق يبينان ذلك البعض لما مر أنه إنما قاله لعلى حين استخلفه ، فقال على كما في الصحيح : أتخلفنى في النساء والصبيان ؟ كأنه استنقص تركه وراءه فقال له : ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى ؟ يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور ، إذ قال له : اخلفنى في قومى وأصلح ، وأيضاً فاستخلافه على المدينة(1/215)
لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كل معاصريه افتراضاً ولا ندباً بل كونه أهلاً لها في الجملة ، وبه نقول ، وقد استخلف صلى الله عليه وسلم في مرار أخرى غير على كابن أم مكتوم ، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده .
الشبهة الثالثة عشرة
زعموا أيضا أن من النصوص التفصيلية الدالة على خلافة على قوله صلى الله عليه وسلم لعلى: أنت أخي ووصيى وخليفتى وقاضى دينى ـ أي بكسر الدال ، وقوله : أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وقوله : سلموا على على بإمرة الناس.(1/216)
وجوابها : مر مبسوطا قبيل الفصل الخامس ومنه أن هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه صلى الله عليه وسلم ألا لعنة الله على الكاذبين ، ولم يقل أحد من أئمة الحديث أن شيئا من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها بل كلهم مجمعون على أنها محض كذب وافتراء ، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبه على الله ورسوله وعلى أئمة الإسلام ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم ، قلنا لهم هذا محال في العادة إذ كيف تتفردون بعلم صحة تلك مع أنكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدث ، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقه الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده شيئاً منه حتى جمعوا الأحاديث ونقبوا عنها وعلموا صحيحها من سقيمها ، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير ، وكيف والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فجزاهم الله خير الجزاء وأكمله إذ لولا حسن صنيعهم هذا لاستولى المبطلون والمتمردون المفسدون على الدين وغيروا معالمه وخلطوا الحق بكذبهم حتى لم يتميز عنه ، فضلوا وأضلوا ضلالاً مبيناً ، لكن لما حفظ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شريعته من الزيغ والتبديل بل والتحريف ، وجعل من أكابر أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة البطلة الجهلة ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: تركتكم على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحه الدالة صريحاً على خلافة أبى بكر كخبر : اقتدوا باللذين من بعدى وغيره من الأخبار الناصة على خلافته التي قدمتها مستوفاة في الفصل الثالث قالوا: هذا خبر واحد فلا يغنى فيما يطلب فيه(1/217)
التعيين ، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة على أتوا بأخبار تدل لزعمهم كخبر من كنت مولاه ، وخبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى مع أنها آحاد وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنه البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد ، فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح ، لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد ، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق ، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد ، وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر رواته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحق ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم !
الشبهة الرابعة عشرة
زعموا أنه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم أقيلونى أقيلونى لأن الإنسان لا يستقيل من الشىء إلا إذا لم يكن أهلاً له .
وجوابها : منع الحصر فيما عللوا به ، فهو من مفترياتهم ، وكم وقع للسلف والخلف التورع عن أمورهم لها أهل وزيادة ، بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلا بالإعراض عما تأهل له المعرض ، وأما مع عدم التأهل فالإعراض واجب لا زهد، ثم سببه هنا أنه إما خشى من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له ، أو أنه قصد بذلك استبانة ما عندهم ، وأنه هل فيهم من يود عزله فأبرز ذلك كذلك ، فرآهم جميعهم لا يودون ذلك لو أنه خشى من لعنه صلى الله عليه وسلم لإمام قوم وهم له كارهون ، فاستعلم أنه هل فيهم أحد يكرهه أو لا ـ والحاصل أن زعم ذلك يدل على عدم أهليته غاية في الجهالة والغباوة والحمق فلا ترفع بذلك رأساً .
الشبهة الخامسة عشرة
زعموا أيضاً أن علياً إنما سكت عن النزاع في أمر الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً ..(1/218)
وجوابها : أن هذا افتراء كذب وحمق وجهالة مع عظيم الغباوة عما يترتب عليه ، إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق ؟ ولو كان ما زعموه صحيحاً لما سل على السيف في حرب صفين وغيرها ، ولما قاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته وجالد وبارز الألوف منهم وحده وأعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً فكيف يتعقلون أنه صلى الله عليه وسلم يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم يجاهرون بأقبح أنواع الكفر مع ما أوجبه الله من جهاد مثلهم.(1/219)
قال بعض أئمة أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : وقد تأملت كلماتهم فرأيت قوماً أعمى الهوى بصائرهم ، فلم يبالوا بما ترتب على مقالاتهم من المفاسد . ألا ترى إلى قولهم : إن عمر قاد علياً بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت ، فأسقطت ولدا اسمه المحسن ، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة والغباوة التي أورثتهم العار والبوار والفضيحة وإيغار الصدور على عمر رضي الله عنه ، ولم يبالوا بما يترتب على ذلك من نسبة على رضي الله عنه الى الذل والعجز والخور بل ونسبة جميع بنى هاشم وهم أهل النخوة والنجدة والأنفة إلى ذلك العار اللاحق بهم الذي لا أقبح منه عليهم ، بل ونسبة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك، وكيف يسع من له أدنى ذوق أن ينسبهم إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته حتى قاتلوا وقتلوا الآباء والأبناء في طلب مرضاته لا يتوهم إلحاق أدنى نقص أو سكوت على باطل بهؤلاء العصابة الكمل الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص على لسان نبيه في الكتاب والسنة ، كما قدمته في المقدمة الأولى أول الكتاب ـ بواسطة صحبتهم له صلى الله عليه وسلم وموته وهو عنهم راض وصدقهم في محبته واتباعه إلا عبداً أضله الله وخذله فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار ، وأحله الله تعالى نار جهنم وبئس القرار . نسأل الله السلامة آمين . ( ص 73 : 77 ).
وبعد أن دحض شبهات الرافضة انتقل إلى الباب الثانى ( ص 78 ) وجعل عنوانه :
" فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين ليعلم براءتهما مما يقول الشيعة والرافضة من عجائب الكذب والافتراء ، وليعلم بطلان ما زعموه من أن عليا إنما فعل ما أثر عنه تقية ومداراة وخوفاً ، وغير ذلك من قبائحهم ".
ويقع هذا الباب في ثمان صفحات ، يحسن قراءتها ، ولولا الإطالة لنقلتها كاملة، وأكتفى هنا بما ختم به هذا الباب ( ص 85 ) حيث قال :(1/220)
" فهذه أقاويل المعتبرين من أهل البيت رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الأحاديث والآثار ، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة ، فكيف يسمح المتمسك بحبل أهل البيت ، ويزعم حبهم أن يعدل عما قالوه من تعظيم أبى بكر وعمر واعتقاد حقية خلافتهما ، وما كانا عليه . وصرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك يرى أن ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم حتى قال زين العابدين على بن الحسين رضي الله تعالى عنهما : أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فوالله ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً ، وفى رواية حتى نقصتمونا إلى الناس . أي بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه ، فلعن الله من كذب على هؤلاء الأئمة ورماهم بالزور والبهتان"أهـ
واستمر صاحب الصواعق فجعل الباب الثالث عنوانه :
" في بيان أفضلية أبى بكر على سائر هذه الأمة ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم ، على ، وفى ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده أو مع عمر أو مع الثلاثة أو مع غيرهم . وفيه فصول " .
وجعل عنوان الفصل الأول :
" في ذكر أفضليتهم على هذا الترتيب ، وفى تصريح على بأفضلية الشيخين على سائر الأمة ، وفى بطلان ما زعمه الرافضة الشيعة من أن ذلك منه قهر وتقية " .(1/221)
وقال : " اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر . ثم اختلفوا ، فالأكثرون : ومنهم الشافعى وأحمد وهو المشهور عن مالك أن الأفضل بعدهما عثمان ، ثم على ، وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل على على عثمان ، وقيل : بالوقف عن التفاضل بينهما ، وهو رواية عن مالك ، فقد حكى أبو عبد الله المازرى عن المدونة : أن مالكاً رحمه الله سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم ؟ فقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم قال : أو في ذلك شك ؟ فقيل له : وعلى وعثمان ؟ فقال : ما أدركت أحدا ممن اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر . انتهى ، وقوله رضي الله عنه : أو في ذلك شك ؟ يريد ما يأتي عن الأشعرى أن تفضيل أبى بكر ، ثم عمر على بقية الأمة قطعى ، وتوقفه هذا رجع عنه ، فقد حكى القاضى عياض عنه : أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان . قال القرطبى : وهو الأصلح إن شاء الله تعالى ... إلخ" ( ص 286 ) .
واستمر ابن حجر في حديثه بإثبات ما جعله عنواناً لهذا الفصل ، وقال :
" إن أفضلية أبى بكر ثبتت بالقطع حتى عند غير الأشعرى أيضاً بناء على معتقد الشيعة والرافضة ، وذلك لأنه ورد عن على ـ وهو معصوم عندهم والمعصوم لا يجوز عليه الكذب ـ أن أبا بكر وعمر أفضل الأمة . قال الذهبي : وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسى مملكته وبين الجم الغفير من شيعته . ثم بسط الأسانيد الصحيحه في ذلك ، قال : ويقال رواه عن على نيف وثمانون نفساً . وعدد منهم جماعة ، ثم قال : فقبح الله الرافضة ما أجهلهم ! انتهى .(1/222)
ومما يعضد ذلك ما في البخاري عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ، ثم رجل آخر . فقال ابنه محمد بن الحنفيه : ثم أنت، فقال : إنما أنا رجل من المسلمين ، وصحح الذهبي وغيره طرقاً أخرى عن على بذلك ، وفى بعضها : ألا وإنه بلغنى أن رجالاً يفضلونى عليهما ، فمن وجدته فضلنى عليهما فهو مفتر ، عليه ما على المفترى . ألا ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت ، ألا وإنى أكره العقوبة قبل التقدم .
وأخرج الدار قطنى عنه : لا أجد أحداً فضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى . وصح عن مالك ، عن جعفر الصادق ، عن أبيه الباقر ، أن عليا رضي الله عنه وقف على عمر بن الخطاب وهو مسجى ، وقال : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أحداً أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى ( ص 90 ـ 91 ) .(1/223)
ثم قال : ومما يلزم من المفاسد والمساوئ والقبائح العظيمة على ما زعموه من نسبة على إلى التقية أنه كان جباناً ذليلاً مقهوراً . أعاذه الله من ذلك ، وحروبه للبغاة لما صارت الخلافة له ومباشرته ذلك بنفسه ومبارزته للألوف من الأمور المستفيضه والتي تقطع بكذب ما نسبه إليه أولئك الحمقى والغلاة ؛ إذ كانت الشوكة من البغاة قوية جدا ، ولا شك أن بنى أمية كانوا أعظم قبائل قريش شوكة وكثرة جاهلية وإسلاما ، وقد كان أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو قائد المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب وغيرهما ، وقد قال لعلى لما بويع أبو بكر ما مر آنفا فرد عليه ذلك الرد الفاحش . وأيضا فبنو تميم ثم بنو عدى قوما الشيخين من أضعف قبائل قريش ، فسكوت على لهما مع أنهما كما ذكر وقيامه بالسيف على المخالفين لما انعقدت البيعة له مع قوة شكيمتهم أوضح دليل على أنه كان دائراً مع الحق حيث دار ، وأنه من الشجاعة بالمحل الأسنى ، وأنه لو كان معه وصيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر القيام على الناس لأنفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان السيف على رأسه مسلطاً ، لا يرتاب في ذلك إلا من اعتقد فيه ـ رضي الله عنه ـ ما هو بريء منه .
ومما يلزم أيضا على تلك التقيه المشؤومة عليهم أنه رضي الله عنه لا يعتمد على قوله قط ؛ لأنه حيث لم يزل في اضطراب من أمره ، فكل ما قاله يحتمل أنه خالف فيه الحق خوفا وتقية . ذكره شيخ الإسلام الغزالى . قال غيره : بل يلزمهم ما هو أشنع من ذلك ، وأقبح ؛ كقولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين الإمامة إلا لعلى ، فمنع من ذلك وقال : مروا أبا بكر تقية ! فيتطرق احتمال ذلك إلى كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ، ولا يفيد حينئذ إثبات العصمة شيئاً .(1/224)
وأيضا فقد استفاض عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يبالى بأحد حتى قيل للشافعى رضي الله عنه ما نفر الناس عن على إلا أنه كان لا يبالى بأحد ، وقال الشافعى : أنه كان زاهداً لا يبالى بالدنيا وأهلها ، وكان عالماً والعالم لا يبالى بأحد ، وكان شجاعاً والشجاع لا يبالى بأحد ، وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد. أخرجه البيهقي .
وعلى تقدير أنه قال ذلك تقية ، فقد أبقى مقتضيها بولايته ، وقد مر عنه من مدح الشيخين فيها وفى الخلوة وعلى منبر الخلافة مع غاية القوة والمنعة ما تلى عليك قريباً فلا تغفل .(1/225)
وأخرج أبو ذر الهروى والدار قطنى من طرق ، إن بعضهم مر بنفر يسبون الشيخين فأخبر عليا ، وقال : لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك ، فقال على : أعوذ بالله ، رحمهما الله ، ثم نهض فأخذ بيد ذلك المخبر وأدخله المسجد ، وصعد المنبر ، ثم قبض على لحيته وهى بيضاء ، وجعلت دموعه تتحادر على لحيته ، وجعل ينظر البقاع حتى اجتمع الناس ، ثم خطب خطبة بليغة من جملتها : ما بال أقوام يذكرون أخوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدى قريش وأبوى المسلمين ، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب ، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد والوفاء والجد في أمر الله ، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حباً لما يرى من عزمهما في أمر الله ، فقبض وهو عنهما راض ، والمسلمون راضون ، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره في حياته وبعد موته ، فقبضا على ذلك فرحمهما الله ، فوالذى فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقى مارق . حبهما قربة وبغضهما مروق . ثم ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر بالصلاة وهو يرى مكان على ، ثم ذكر أنه بايع أبا بكر ، ثم ذكر استخلاف أبى بكر لعمر ، ثم قال : ألا ولا يبلغنى عن أحد أنه يبغضهما إلا جلدته حد المفترى ، وفى رواية : وما اجترءوا على ذلك أي سب الشيخين ـ إلا وهم يرون أنك موافق لهم منهم عبد الله بن سبأ (256[256])، وكان أول من أظهر ذلك ، فقال على : معاذ الله أن أضمر لهما ذلك . لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ، وسترى ذلك إن شاء الله ، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا يساكننى في بلدة أبدا ، قال الأئمة : وكان ابن سبأ هذا يهوديا فأظهر الإسلام وكان كبير طائفة من الروافض وهم الذين أخرجهم على رضي الله عنه لما(1/226)
ادعوا فيه الألوهية .
وأخرج الدارقطنى من طرق أن علياً بلغه أن رجلاً يعيب أبا بكر وعمر فأحضره وعرض له بعيبهما لعله يعترف ففطن ، فقال له : أما والذى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق أن لو سمعت منك الذي بلغنى أو الذي نبئت عنك وثبت عليك ببينة لأفعلن بك كذا وكذا .
إذا تقرر ذلك ، فاللائق بأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في ذلك ، والإعراض عما يوشيه إليهم الرافضة وغلاة الشيعة من قبيح الجهل والغباوة والعناد ، فالحذر الحذر عما يلقونه إليهم من أن كل من اعتقد تفضيل أبى بكر علَى علِىّ رضي الله عنهما كان كافراً ، لأن مرادهم بذلك أن يقرروا عندهم تكفير الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم ، وأنه لا مؤمن غيرهم ، وهذا مؤد إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته وأهل بيته ؛ إذ الراوي لجميع آثارهم وأخبارهم وللأحاديث بأسرها بل والناقل للقرآن في كل عصر من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هلم ، هم الصحابة والتابعون وعلماء الدين . إذ ليس لنحو الرافضة رواية ولا دراية يدرون بها فروع الشريعة ، وإنما غاية أمرهم أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي أو نحوه . والكلام في قبولهم معروف عند أئمة الأثر ونقاد السنة ، فإذا قدحوا فيهم قدحوا في القرآن والسنة وأبطلوا الشريعة رأسا ، وصار الأمر كما في زمن الجاهلية الجهلاء ، فلعنة الله وأليم عقابه وعظائم نقمته على من يفترى على الله وعلى نبيه بما يؤدى إلى إبطال ملته وهدم شريعته ... إلخ " .
ويأتى الفصل الثانى من هذا الباب وعنوانه :" في ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده وفيه آيات وأحاديث " ( ص 98 ) . ويذكر اثنتى عشرة آية كريمة( ص 98: 102)، ثم قال:" وأما الأحاديث:فهى كثيرة مشهورة " وأثبت عشرات الأحاديث الشريفة .(1/227)
ويطول الأمر كثيرا إذا أردنا أن نثبت ما جاء في هذا الكتاب متصلا بموضوعنا ، إذن لنقلناه كله أو جله ، ولهذا أكتفى هنا بإثبات آخر باب جعله قبل خاتمة الكتاب ، وعنوان الباب هو " في التخيير والخلافة " ( 372 ) وتحت العنوان جاء ما يأتي:
وكان خير الناس بعده وبعد المرسلين أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تواترت بذلك الأحاديث المستفيضه الصحيحة التي لا تعتل ، المرويةٍ في الأمهات والأصول المستقيمة ، التي ليست بمعلولة ولا سقيمه . قال سبحانه : "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ " فنعته بالفضل . ولا خلاف أن ذلك فيه رضوان الله عليه ، وقال سبحانه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ" فشهدت له الربوبيه بالصحبة وبشره بالسكينه وحلاه بثانى اثنين . كما قال على كرم الله وجهه: من يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما . وقال سبحانه : " وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ " ، لا خلاف وهو قول جعفر الصادق رضوان الله عليه ، وقول على كرم الله وجهه ، إن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذى صدق به أبو بكر . وأي منقبه أبلغ من هذا ، ولما أخبرنا سبحانه وتعالى : أنه لا يستوى السابقون ومن بعدهم بقوله سبحانه وتعالى : " لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "والخبر في البخاري مسطور : أن عقبة بن أبى معيط وضع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه وخنقه به ، فأقبل أبو بكر يعدو حول الكعبة ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ؟ قال : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر فضربوه حتى لم يعرف أنفه من وجهه ، فكان أول من جاهد وقاتل ونصر دين الله، وأنه الشخص الذي به قام الدين وظهر ، وهو أول القوم(1/228)
إسلاما ، وذلك ظاهر جلى. وقال جابر بن عبد الله الأنصارى : كنا ذات يوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر الفضائل فيما بيننا إذ أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفيكم أبو بكر ؟ قالوا: لا ، قال : لا يفضلن أحد منكم على أبى بكر ، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة .
وخبر أبى الدرداء المشهور قال : رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشى أمام أبى بكر ، وقال : يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو خير منك ؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر . ومن وجه آخر : أتمشى بين يدى من هو خير منك ؟ فقلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ؟ قال : ومن أهل مكة جميعاً ، قلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل مكة جميعاً؟ قال : ومن أهل المدينة جميعاً ، قلت : يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل الحرمين ؟ قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين والمرسلين خيرا وأفضل من أبى بكر .
ونذكر في كثير منها تخيير عمر بعده ثم عثمان ثم على .
فمن ذلك خبر أبى عقال قد رواه مالك ، وقد سأل عليا كرم الله وجهه وهو على المنبر : من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا ، وإلا فصمت أذنأي إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فعميت وأشار إلى عينيه إن لم أكن رأيته ـ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ما طلعت الشمس ولا غربت على رجلين أعدل ولا أفضل ـ وروى ولا أزكى ولا خيراً ـ من أبى بكر وعمر .
وقد روى محمد بن الحنفية قال : سألت والدى علياً وأنا في حجره ، فقلت: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، ثم حملتنى حداثة سنى قلت : ثم أنت يا أبتى ؟ قال : أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم .(1/229)
وخبر أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض ، وخير الأولين ، وخير الآخرين إلا النبيين والمرسلين . وقال صلى الله عليه وسلم: على وفاطمة والحسن والحسين أهلي ، وأبو بكر وعمر أهل الله وأهل الله خير من أهلي . وقال صلى الله عليه وسلم : لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح .
وخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور قال : قلت يا رسول الله : أخبرني عن فضائل عمر . فقال : يا عمار لقد سألتنى عما سألت عنه جبريل عليه السلام ، فقال لي يا محمد : لو مكثت معك ما مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً أحدثك في فضائل عمر ما نفذت ، وإن عمر لحسنة من حسنات أبى بكر ، وقال : قال لي ربى عز وجل : لو كنت متخذا بعد أبيك إبراهيم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ولو كنت متخذاً بعدك حبيبا لاتخذت عمر حبيباً . نقل ذلك من تفسير القرآن العظيم للبغوى رحمه الله تعالى في آخر سورة الحشر في قوله تعالى :
" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ " يعنى التابعين ، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة فقال : "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا " -غشاً وحسداً وبغضاً ـ " لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل : المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من أقسام المؤمنين .(1/230)
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحى ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبى ، أنبأنا عبد الله بن جليد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سليمان ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبى ، عن إسماعيل ابن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسببتموهم ، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " .
قال مالك بن معرور ، قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ؛ سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ فقالت: أصحاب موسى رضي الله عنه، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : حوارى عيسى رضي الله عنه ، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم !! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم حجة ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حججهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
قال مالك بن أنس : من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فىء ، ثم تلا :
" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" حتى أتى هذه الآية :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ " "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ " " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ" إلى قوله " رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
نقل البغوى رحمه الله في قوله : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر : أنت صاحبى في الغار وصاحبى على الحوض .(1/231)
قال الحسن بن الفضيل : من قال إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن ، وفى سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً .
*****
تعقيب
أطلت إلى حد ما في النقل من كتاب الصواعق المحرقة ليستبين منهج الرافضي صاحب المراجعات ، وجرأته على الباطل وتزييف الحقائق ، فصاحب الصواعق إنما أراد أن يحرق أمثاله ، فإذا به يأخذ من الصواعق لإحقاق باطله وإبطال ما أجمعت عليه الأمة ، وثبت بالنصوص القاطعة ، وذلك بمنهج ليس له أدنى صلة بالمنهج العلمى .
ولذلك لسنا في حاجة بعد هذا للوقوف أمام نقوله الكثيرة من هذين الكتابين:
فنهج البلاغة بغير إسناد ولشاعر رافضى جلد هو نفسه غير ثقة لو أسند . فكيف بانقطاع أربعة قرون ؟! ، كما أن في الكتاب ما يتعارض مع النصوص القطعية الثابتة عن على رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، ومالا يمكن أن يصدر إلا من الرافضة !
وأما الصواعق المحرقة فصاحب الكتاب أفاض وأسهب في بيان بطلان ما ذهب إليه الشيعه والرافضة ، فهو يبطل إذن ما أراده صاحب كتاب المراجعات بالقرآن المجيد ، والسنة المطهرة الثابتة .
وأثبت في هذا التعقيب ما ذكره ابن حجر في الصواعق ( ص 69 ) ، وهو ما أخرجه البيهقي عن الإمام الشافعى قال :
" ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
أما أهل السنة فمنهجهم يوضحه الإمام أحمد بن حنبل بقوله :
" إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا " .
وإذا نظرنا في مسند الإمام أحمد نجد تساهله لا ينزل عن درجة الضعيف إلا في الأخبار القليلة المختلف فيها ، حيث عدها ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة، ورد عليه الحافظ ابن حجر العسقلانى .(1/232)
أما ابن حجر الهيتمى في صواعقه فقد أكثر من ذكر أسباب النزول والأحاديث والآثار ، ومنها الصحيح والضعيف والموضوع ومالا أصل له ، ومنها الصريح وغير الصريح في الدلاله . وقد بين أن الأحاديث الصحيحة التي يحتج بها الشيعة والرافضة ليست صريحة ، ويعارضها الصريح من الصحيح ، بل المتواتر أحيانا . أما الروايات الصريحة التي يحتجون بها فليس منها ما يصل إلى درجة الصحيح أو الحسن ، ومعظمها روايات باطلة موضوعة مكذوبة ، وقد نجد فيها ما يصل إلى درجة الضعيف ، وكل هذا يعارضه ما سبق ذكره من المتواتر والصحيح.
ومنهج الشيعي الرافضي في مراجعاته أن يذكر من كتاب الصواعق ما يحتج به الروافض متجاهلا بطلانه ، وتواتر وصحة ما يعارضه كما بين صاحب الصواعق هو نفسه ! ثم ينسب زورا للشيخ البشرى إقراره بل إعجابه بهذا الباطل !
أكرر هنا ما قاله الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
وجاء في حاشية ص 43 من الصواعق : ذكر الفخر الرازى أنه لم ينقل عن على ذكر النص في شئ من خطبه ، ولا نعرفه إلا عن الكذابين ، ولو كان موجودا لعلمناه ولاشتهر .
الطرق التي يعلم بها كذب المنقول
في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للرافضى ابن المطهر الحلى بين بيانا شافيا الطرق التي يعلم بها كذب المنقول ، وذلك في الجزء السابع من كتابه (ص437 : 479 ) وما ذكره شيخ الإسلام في غاية الأهمية ، وعلى الأخص بالنسبة لغير علماء الحديث والمتخصصين ، ولهذا رأيت أن أجعل كلامه القيم ختاما لهذا الفصل . قال رحمه الله تعالى وأنزله الفردوس الأعلى :
فصل
في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول .(1/233)
منها : أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة ، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة ، واتبعه طوائف كثيرة من بنى حنيفة ، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب ، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا ، وأن الهرمزان كان مجوسيا أسلم ، وأن أبا بكر كان يصلى بالناس مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه ، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف ، والتى لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها ، وما نزل من القرآن في الغزوات ، كنزول الأنفال بسبب بدر ، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ، ونزول أولها بسبب نصارى نجران ، ونزول سورة الحشر بسبب بنى النضير ، ونزول الأحزاب بسبب الخندق ، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك ، وغيرها وأمثال ذلك .(1/234)
فإذا روى في الغزوات ـ وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلاف الواقع ، علم أنه كذب ، مثل ما يروى هذا الرافضي ، وأمثاله من الرافضة وغيرهم ، من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات ، كما تقّدم التنبيه عليه ، ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان ، كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة ، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف و الكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة ، وأن المعراج كان بمكة ، وأن الصفٌةَّ كانت بالمدينة ، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين ، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين ، وممن دخل فيهم سعد بن أبى وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحى المؤمنين ، وكالعريين الذين ارتدوا عن الإسلام ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة يستسقون ، فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة .
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب .
ومن الطرق التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعى على نقله ؛ فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد لبلد عظيم بقدر بغداد والشام والعراق لعلمنا كذبه في ذلك ، لأنه لو كان موجودا لأخبر به الناس .(1/235)
وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان ، أو تولّى بين عثمان وعلى ، أو أخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في العيد ، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء ، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة ، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد ، أو أنه كان يصلى العيد بمنى يوم العيد ، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه ، أو أنه كان يجمع بين الصلاتين بمنى كما كان يقصر ، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان ، أو أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل ، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة ، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه ، ونحو هذه الأمور ـ لكنا نعلم كذب هذا الكاذب ، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها ، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعى على نقلها عامة لبنى آدم ، وخاصة لأمتنا شرعا ، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم ، فضلا عن أن تتواتر ، علم أنها كذب .
ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علىّ ، فإنّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة ؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد ( من أهل العلم ) بإسناد صحيح ، فضلا عن أن يكون متواترا ، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء ، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة ، وحين موت عمر ، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون ، لكان من المعلوم بالضرورة أنه لابد أن ينقله الناس نقل مثله ، وأنه لابد أن يذكره لكثير من الناس ، بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر ، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم ، ونظائر ذلك كثيرة .(1/236)
ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق ، وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه ، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه .
والكلام مع الشيعة أكثره مبنى على النقل ، فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقينى علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إماماتهما ، وكذب ما تدعيه الرافضة .
ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله ، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ، ممن يدّعى نصاً خفياً ، وأن عليا كان أفضل من الثلاثة ، أو يتوقف في التفضيل ؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركّب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار .
فصل
واعلم أنه ثم أحاديث أُخر لم يذكرها هذا الرافضي ، لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده ، وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره ، لكنها كلها كذب .
والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم ، لكن المكذوب في فضل على أكثر ، لأن الشيعة أجرأ على الكذب من النواصب .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : " فضائل علىّ الصحيحة كثيرة ، غير أن الرافضة لم تقتنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع ، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل " .
قال : " فاعلم أن الرافضة ثلاثة أصناف : صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا . وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ، ويقولون : قال جعفر ، وقال فلان . وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ " .(1/237)
فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص على من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا العلاء ابن صالح ، عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال : قال علىّ رضي الله عنه : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديقِّ الأكبر ، لا يقولها بعدى إلا كاذب ، صليت قبل الناس سبع سنين " ورواه أحمد في " الفضائل " وفى رواية له : " ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين " .
ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال عن عباد .
قال أبو الفرج : " هذا حديث موضوع والمتهم به عباد بن عبد الله . قال على بن المديني : كان ضعيف الحديث " . وقال أبو الفرج : " حماد الأزدى : روى أحاديث لا يتابع عليها . وأما المنهال فتركه شعبه . قال أبو بكر الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث علىّ : " أنا عبد الله وأخو رسول الله " فقال : اضرب عليه فإنه حديث منكر " .
قلت : وعباد يروىُ من طريقه عن علىّ ما يُعلم أنه كذب عليه قطعا ، مثل هذا الحديث ؛ فإنّا نعلم أن عليا كان أبرَّ وأصدق وأتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام ، الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضروره أنه كذب . وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه ، فقد علمنا أن علياً لم يقله ، لعلمنا بأنه أتقى لله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح ، وأنه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه ، فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط ، وليس قدح المبغض لعلى من الخوارج والمتعصبين لبنى مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه ، كما أنه ليس قدح الرافضة في أبى بكر وعمر ، بل وقدح الشيعة في عثمان ، لا يشككنا في العلم بصدقهم وبرهم وتقواهم ، بل نحن نجزم بأن واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا هو فيما دون ذلك .
فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله ، وقد علمنا أنه كذب ، جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا .(1/238)
مثل ما رواه عبد الله في " المناقب " : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن على . وحدثنا أبو خثيمة ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي عن على قال : لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "? ( سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من أهل بيته : إن كان الرجل منهم لآكلا جذعة ، وإن كان شاربا فرقا ... إلى آخر الحديث .
وهذا كذب علَى علىّ رضي الله عنه لم يروه قط ، وكذبه ظاهر من وجوه .
وهذا حديث رواه أحمد في " الفضائل " : حدثنا عثمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبى صادق ، عن ربيعة بن ناجز ، عن على ، وهؤلاء يعلم أنهم يروون الباطل .
وروى أبو الفرج من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل ، عن حبة بن جوين ، قال : سمعت عليا يقول : أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين " قال أبو الفرج : " حبة لا يساوى حبة فإنه كذاب . قال يحيى : ليس بشيء قال السعدى : غير ثقة . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث . وأما الأجلح فقال أحمد : قد روى غير حديث منكر . قال أبو حاتم الرازى : لا يحتج به . وقال ابن حبان : كان لا يدرى ما يقول "
قال أبو الفرج : " ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبى بكر وزيد ، وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا ، فكيف يصح هذا ؟ " .
وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا الصديق الأكبر " " وهو مما عملته يد أحمد ابن نصر الذراع ، فإنه كان كذابا يضع الحديث " .(1/239)
وحديثا فيه : " أنا أولهم إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية " قال : " وهو موضوع ، والمتهم به بشر بن إبراهيم . قال ابن عدى وابن حبان : كان يضع الحديث على الثقات " . ورواه الأبرازى الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهرى ، عن مأمون عن الرشيد . قال : وهذا الأبرازى كان كذابا .
وذكر حديثا : " أنت أول من آمن بى ، وأنت أول من يصافحنى يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، أو يعسوب الظلمة " .
قال : " وهذا حديث موضوع . وفى طريقه الأول : عباد بن يعقوب . قال ابن حبان : يروى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، وفيه علىّ بن هاشم . قال ابن حبان : كان يروى المناكير عن المشاهير . ، وكان غاليا في التشيع . وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى : ليس بشئ . وأما الطريق الثانى ففيه أبو الصلت الهروى كان كذابا رافضيا خبيثا ، فقد اجتمع عباد وأبو الصلت في روايته ، والله أعلم بهما أيهما سرقه من صاحبه " .
قلت : لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله .
وروى عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر . قال ابن معين : ليس بشئ لا يكتب عنه إنسان فيه خير . قال أبو الفرج بن الجوزي : " كان غاليا في الرفض " .
فصل
وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة ؛فإن كثيرا من الخاصة ـ فضلا عن العامة ـ يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره . وإنما يعرف ذلك علماء الحديث ، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها ، وسلكوا طريقا آخر .(1/240)
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث ، العالمين بما بعث الله به رسوله . ولكن نحن نذكر طريقاً آخر فنقول : نقدِّر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد ، أو لم يُعلم أيها الصحيح ، ونترك الاستدلال بها في الطرفين ، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر ، وما يٌعلم من العقول والعادات ، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها .
فنقول : من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة ، الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة : لا برغبة ولا برهبة ، لا بذل فيها ما يرغّب الناس به ، ولا شهر عليهم سيفاً يرهبهم به ، ولا كانت له قبيلة ولا موالٍ تنصره وتقيمه في ذلك ، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ، ولا طلبها أيضا بلسانه ، ولا قال : بايعونى ، بل أمر بمبايعة عمر وأبى عبيدة ، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ، ولا أكرهه على المبايعة ، ولا منعه حقا له ، ولا حرك عليهم ساكنا . وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة . .
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وهم السابقون الأّولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .
وأما علىّ وسائر بنى هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه ، لكن تخلف من كان يريد الإمرة لنفسه ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا ، وشرع في قتال فارس والروم ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق ، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم بشئ ، ولا أمّر له قرابة .(1/241)
ثم وَلِىَ عمر بن الخطاب ، ففتح الأمصار ، وقهر الكفّار ، وأعزّ أهل الإيمان، وأذلّ أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولَّى أحداً من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد .
وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقرّ قبله بسكينة وحلٍ ، وهدى ورحمة وكرم ، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطُمع فيه بعض الطمع ، وتوسّعوا في الدنيا ، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا ، وضعف خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ـ ما أوجب الفتنة ، حتى قُتل مظلوما شهيداً.
وتولىّ علىُّ علَىَ إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطّخ بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه ، المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه ، المبغضون لغيره من الصحابة ؛ فإن علياّ لم يُعِن على قتل عثمان ولا رضى به ، كما ثبت عنه ـ وهو الصادق ـ أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفا ، وجانب من حاربه إلا قوة ، والأمة إلا افتراقاً ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يُطلب منه الكفّ .(1/242)
وضعفت خلافة ( النبوة ) ضعفاً أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور : " تكون نبوّة ورحمة ، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية ، فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ، وعلى آخر الخلفاء الراشدين ، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين ، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين ، لكن إذا جاء القادح فقال في أبى بكر وعمر : إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ، وإنهما ـ ومن أعانهما ـ ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة ، مع ما قد عُرف من سيرتهما ـ كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غُلب ، وسُفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ، لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة .
وإذا كنا ندفع من يقدح في علىّ من الخوارج ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في أبى بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى ..
وإن جاز أن يظن بأبى بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل ، مع أنه لم يُعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل عَلَى الولاية ـ ولم يحصل له مقصودة ـ أولى وأحرى .
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامى مسجد ، وشيخى مكان ، أو مدرسى مدرسة ـ كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير .(1/243)
فإذا كنا نظن بعلىّ أنه كان قاصدا للحق والدين ، وغير مريد علواً في الأرض ولا فسادا ، فظنُّ ذلك بأبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أولى وأحرى.
وإن ظن ظان بأبى بكر أنه كان يريد العلوّ في الأرض والفساد ، فهذا الظن بعلىّ أجدر وأولى .
أما أن يقال : إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد ، وعلىُّ لم يكن يريد علوّا في الأرض ولا فسادا ، مع ظهور السيرتين ـ فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبى بكر أفضل .
ولهذا كان الذين ادّعَوْا هذا لعلىّ أحالوا على ما لم يُعرف ، وقالوا : ثَمَّ نص على خلافته كُتم ، وثَمَّ عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها مُنع حقه .
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما عُلم وتيقن وتواتر عن العامة والخاصة ، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهى مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر .
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رُويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يُغنى من الحق شيئا ؟ !
فالمعلوم المتيقَّن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلىّ فضلا عن علىّ وحده ، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده ، فضلا عن على ، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة ، وأن ولايته الأمة خير من ولاية على ، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة على ، رضي الله عنهم .
وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل ، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزاً عنه ، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه ، وأنه لم يكن مريداً للعلوّ في الأرض ولا الفساد ـ كان هذا الاعتقاد بأبى بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى .(1/244)
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص ، كالنقل لفضائل على ، ولما يقتضى أنه أولى بالإمامة ، أو أن إمامته منصوص عليها .وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة ـ الذين هم أصدق وأكثر ـ لفضائل الصديق التي تقضى أنه أولى بالإمامة ، وأن النصوص إنما دلت عليه .
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسنى حجة من جنسها أولى منها ؛ فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل ، فما من حجة يسلكها كتابى إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها .
قال تعالى : " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " ( سورة الفرقان : 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة ، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه .
قال تعالى : "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" ( سورة المؤمنون : 71 ) .
وهنا طريق آخر . وهو أن يُقال : دواعى المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق ، وليس لهم ما يصرفهم عنه ، وهم قادرون على ذلك ، فإذا حصل الداعى إلى الحق ، وانتفى الصارف مع القدرة ، وجب الفعل.
فعُلم أن المسلمين اتّبعوا فيما فعلوه الحق . وذلك أنهم خير الأمم ، وقد أكمل الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة . ولم يكن عند الصديق غرض دنيوى يقدّمونه لأجله ، ولا عند علىّ غرض دنيوى يؤخرونه لأجله ، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدَّموا علياً . وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتّبع رجلا من بنى هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بنى تيم . وكذلك عامة قبائل قريش ، لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؛ فإن طاعتهم لمنافى كانت أحب إليهم من طاعة تيمى لو اتبعوا الهوى . وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقدم علىّ .(1/245)
وقد روى أن أبا سفيان طلب من علىّ أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما . وقد قال أبو قحافة ، لما قيل له أن ابنك تولى ، قال : " أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؟ " قالوا : نعم . فعجب من ذلك ، لعلمه بأن بنى تيم كانوا من أضعف القبائل ، وأن أشراف قريش كانت من تلك القبيلتين .
وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ، لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ؛ فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب ، وأبو بكر كان أتقاهم .
وهنا طريق آخر ، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة خير الأمم كما دل عليه الكتاب والسنة .
وأيضا فإنه من تأمّل أحوال المسلمين في خلافة بنى أمية ، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين ، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيراً وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر . فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم ، وولوا فاسقا وظالما ، ومنعوا عادلا عالما ، مع علمهم بالحق ، فهؤلاء من شر الخلق ، وهذه الأمة شر الأمم ، لأن هذا فعل خيارها ، فكيف بفعل شرارها ؟ !
وهنا طريق آخر . وهو أنه قد عُرف بالتواتر ، الذي لا يخفى على العامة والخاصة ، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به ، وصحبة له ، وقرباإليه ، واتصالا به ، وقد صاهرهم كلهم ، وما عُرف عنه أنه كان يذمهم ولايلعنهم ، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثنى عليهم .(1/246)
وحينئذ : فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا ، في حياته وبعد موته. وإما أن يكونوا بخلاف ذلك ، في حياته أوبعد موته . فإن كانوا على غير الاستقامة ، مع هذا التقرب ، فأحد الأمرين لازم : إما عدم علمه بأحوالهم ، أو مداهنته لهم . وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل :
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة وإن كنت تدر فالمصيبة أعظم
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه . ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك ، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولّى مثل هذا أمرها ؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله ، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين ؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول ، كما قال مالك وغيره : إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل : رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلا صالحاً لكان أصحابه صالحين .
ولهذا قال أهل العلم : إن الرافضة دسيسة الزندقة ، وإنه وضع عليها.وطريق آخر أن يقال : الأسباب الموجبة لعلىّ ـ إن كان هو المستحق ـ قوية ، والصوارف منتفية ، والقدرة حاصلة ، ومع وجود الداعى والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ، وذلك أن علياً هو ابن عم نبيهم ، ومن أفضلهم نسبا ، ولم يكن بينه وبين أحدٍ عداوة : لا عداوة نسب ولا إسلام ، بأن يقول القائل : قتل أقاربهم في الجاهلية .(1/247)
وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار ؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم ، ولهم الشوكة ، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا ، والقبائل التي قتل منها ، كبنى عبد مناف ، كانت تواليه ، وتختار ولايته ، لأنه إليها أقرب . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته ، أو كان هو الأفضل المستحق لها ، لم يكن هذا مما يخفى عليهم ، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته ، إذا لم يكن هناك صارف يمنع ، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى ، ولا معارض لها ولا صارف أصلا .
ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل ، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه ، بل هو قادرون على ولايته . ولو قالت الأنصار : علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ، وقام أكثر الناس مع علىّ ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم ، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما ، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون ، إلا كما يبغضون أمثاله . بخلاف عمر ، فإنه كان شديدا عليهم ، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر .
ولهذا لما استخلفه أبو بكر ، كره خلافته طائفة ، حتى قال له طلحة : ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا ؟ فقال : أبا لله تخوفنى ؟ أقول : وليت عليهم خير أهلك .
فإذا كان أهل الحق مع علىّ ، وأهل الباطل مع علىّ ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه ؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا ، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال ؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد ؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد ، فمن يكون فيهم المحق ؟(1/248)
ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق ؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك ، ولم يّدع داع إلى علىّ : لا هو ولا غيره ، واستمر الأمر على ذلك ، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان ، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا ، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى ، لا لوجود المانع ، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق ، فضلا عن نص جلى ، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه ، مع وجود المانع .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير ، لو كان لعلىّ حق . فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه ، ولا أرغب ولا أرهب ، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان ، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله ، وبعضهم يقول : خذله . وكان قتلة عثمان في عسكره ، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته .
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر ، فكان جنده أعظم ، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر ، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة ، وليس هناك داع قوى يدعو إلى منعه ، كما كان بعد مقتل عثمان ، ولا جند يجمع على مقاتلته ، كما كان بعد مقتل عثمان .(1/249)
وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، فلو تبين أن الحق لعلىّ ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر : إما أن يُسلم إليه ، وإما أن يجامله ، وإما أن يعتذر إليه . ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق ، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم ، لو كان الأمر كذلك ، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية ، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع ، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق ، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد ، لو كان ظالما .
لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا ، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله ، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ، ولو كان لبعضهم هوى مع الغير .
وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين ، الذي يحبه الله ويرضاه.
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة ، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه ، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا ، وكلاهما ممتنع عادة ودينا ، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها ، فكيف إذا علم كذبها ؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها ، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ؟ ومقاييس لا نظام لها ، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى .(1/250)
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف ، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم ، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء ، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم ، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك ، لو تعرض لم تثبت . وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات ، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك . فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه ، فقد سلك مسلك السفسطة ، فإن السفسطة أنواع : أحدها : النفى والجحد والتكذيب : إما بالوجود وإما بالعلم به .
والثانى : الشك والريب ، وهذه طريقة اللاأدرية ، الذين يقولون : لا ندرى ، فلا يثبتون ولا ينفون ، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم ، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به .
والثالث : قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد ، فيقول : من اعتقد العالم قديما فهو قديم ، ومن اعتقده محدثا فهو محدث ، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح ، فإن هذا هو اعتقاده . لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج .
وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة ، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة ، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة ، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه ، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً .
ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ ، وسفسطتهم أكثر ؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة ، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية .(1/251)
ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ومما يُظهر أنه رسول حق ، ليس ملكا من الملوك ؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه : أحدهما : محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته . والثانى : لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي ، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه ، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم ، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار .
ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا ، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم ، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم .
وكذلك ملوك الطوائف ، كبنى بويه ، وبنى سلجق ، وسائر الملوك بالشرق والغرب ، والشام ، واليمن ، وغير ذلك .
وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم ، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك ، ويقولون : هذا من العظم ، وهذا ليس من العظم ، أي من أقارب الملك .
وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم ، ودون سائر بنى عبد مناف : كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف ، الذين كانوا أجل قريش قدراً ، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأنه ليس ملكا ؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً : لا بقرب نسب منه ، ولا بشرف بيته ، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى .(1/252)
ودل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره ، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك . فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً .
وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك ؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا ، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته . فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال ، وإن كان ذلك مباحا ، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء ، بل كان عبد الله ورسوله .
كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " .
وقال : " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا ، فقلت : بل عبدا رسولا " .
وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء ، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم . ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة .
وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر ؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب ، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم ، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى ، وضعف قلوب أهل الأمصار ، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم .(1/253)
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين ، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم ، فقهرهم وفتح بلادهم . وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك .
فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل علىّ أو عثمان ، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا ؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا ، مع قوة الإسلام في زمانه ، وعلىّ كان أعجز من عثمان ، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما ، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما ، ومع هذا فلم يقهر عدوه ، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم ، مع قلة الأعوان وقوة العدو ؟!
وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر ، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الناس بعده ، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا ، إما لعدم القدرة ، وإما لعدم الإرادة.
فإنه إذا قيل : لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة ؟ فلابد أن يكون سبب ذلك : إما عدم كمال القدرة ، وإما عدم كمال الإرادة . وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له ، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله .
وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل ، وإرادتهما أفضل . فبهذا نصر الله بهما الإسلام ، وأذل بهما الكفر والنفاق ، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا .(1/254)
والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض ، فضّل بعض الخلفاء على بعض . فلما لم يؤت ما أوتيا ، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا ، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز ؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع : إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه .
فيقال : إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه ، فكيف يطيعه من لم يبايعه ؟ وإذا قيل : لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر .
فيقال : قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما ، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر ، ولم يفعل ما يشبه فعلهما ، فضلا عن أن يفعل أفضل منه .
وإذا قال القائل : إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك .
قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة ؛ فإنهم يقولون : إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا .
وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على ، دل ذلك على أنهما أفضل منه .
وإن قالوا : إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه.
قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة : إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما ، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم ، كانوا من أشر الناس ، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار .
وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك : إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .(1/255)
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .
وهذا بين لمن تدبره ؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم .
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان . وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه ، كسعد بن أبى وقاص ، وأسامة بن زيد ، وبن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبى هريرة ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .
ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين .
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلو معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ، لأن عليا كان موجودا على عهدالثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره ، كما تقول الرافضة ، أو كان أفضل وأحق بها ، كما يقوله من يقوله من الشيعة ، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .(1/256)
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل . وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة .
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار ، الذي تواترت به الأخبار ، وعلمته البوادى والحضار ؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله .
وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة ، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة ، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .
وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين . فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام ، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن ؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار .
ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود والنصارى خير منهم ، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد . وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين .(1/257)
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم ، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب ، هجرتين : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( سورة الحشر : 8 ) .
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم ، لم يكرههم عليه مكره ، ولا ألجأهم إليه أحد ؛ فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر ، فلم يسلم أحد إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره.
ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء : إنه لم يكن من المهاجرين من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج ، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين .
كما قال تعالى :
" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " ( سورة التوبة : 101 )(1/258)
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم .
وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة ، من أعظم البهتان ، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود ؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه ، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم ، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله .
وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً ؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة . ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام ، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟!
وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع ، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله ، طوعا غير إكراه ، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟!
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضى للمعاداة ، لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله ، معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوى المقتضى للموالاه ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً ؟(1/259)
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى ، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى ، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن . ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضى للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف . ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته .
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم ، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف ، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد ، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد ، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو .
وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، ثم رأوا ظهور الإسلام ، فأسلموا مغلوبين ، فهموا بالردة ، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص .
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون منهم والأنصار ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه ، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ، وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء . انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه .
الفصل الخامس(1/260)
عقائد تابعة
رأينا فيما سبق عقيدتهم في الإمامة ، وأثبتنا بطلانها بأدلة صحيحة صريحة، بل قطعية يقينية . وهذه العقيدة الباطلة هي الطامة الكبرى التي دفعتهم إلى كل غلو وضلال ، وقد رأيت هذا واضحاً جليا منذ عشرات السنين عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير، وكان عنوان الرسالة " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ... " ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه تحت عنوان " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " وإن كنا في غنى عن مناقشة ما تبع عقيدة الإمامة من عقائد أخرى ، فما بنى على باطل فهو باطل ، غير أننا آثرنا توضيح أهم العقائد التابعة ، وستكون المناقشة موجزة كل الإيجاز ، وهذه العقائد أهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية.
أولا : عصمة الأئمة
يرى الشيعة الاثنى عشرية وجوب عصمة الإمام " بحيث يحصل للمكلفين القطع بأنه حجة الله ، وأن قوله قول الله تعالى ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكمه وجوب طاعته والتسليم له ، والرد إليه على جهة القطع. (257?????)
وأهم أدلتهم على وجوب هذه العصمة ما يأتي :-
1.وجوب وجود الإمام لطف من الله سبحانه ، فبه يتم ارتفاع القبيح وفعل الواجب ، وفعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم ، فلابد على هذا من أن يكون الإمام معصوماً ، فهو مكان النبي ، متصف بكل صفاته إلا النبوة .
2.الإمام مقتدى به في جميع الشريعة ، فلو كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله مما يدعونا إليه أن يكون قبيحاً ، ويجب علينا موافقته من حيث وجب الاقتداء به ، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح ، فإذا لم يجز ذلك عليه تعالى دل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا يصدر منه فعل القبيح ولا يكون كذلك إلا المعصوم .(1/261)
3.إذا ثبت لنا عصمته في الظاهر ، فلابد من عصمته في الباطن ، إذ لا يحسن من الحكيم تعالى أن يولى الإمامة ـ وهى منصب يقتضي التعظيم والتبجيل ـ من يجوز أن يكون مستحقا للعنة والبراءة في باطنه .
4.لابد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى التنفير عنه، وعدم الاطمئنان إليه(258?????) .
وهم يرون كذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيهما ما يؤيد اعتقادهم ، فكريمة قوله تعالى : " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبرها جيدا(259?????).
" ومن ذلك مثل قوله تعالى ? " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"(1/262)
وجه الاستدلال العقلى من دليل الموعظة الحسنة أنه سبحانه أخبرهم بأن من يهدى إلى الحق أولى بالاتباع ، ومن فعل الذنب لا يكون هادياً إلى الحق حال معصيته ولا بفعله ، أما حال معصيته فلا يقبل منه ولا تؤثر موعظته في القلوب ، بل تنكر عليه ، وذلك موجب لخلاف دعوته إلى الحق ، وأما بفعله ففعله ذنب والذنب باطل يدعو إلى الباطل ، وأما في غير تلك الحال فالعقول تجوز عليه حالاً لمعصيته لما فيها من شائبة النفرة ، فلا يتم له هدايته إلى الحق ، ولو فرض أنها لا تجوز عليه حال الطاعة حال المعصية ، لم يستحق أحقية الاتباع المطلقة المستمرة التي هي مراد في الآية الشريفة ، ولو فرض الاستحقاق والحال هذه في الجملة ، أو بقول مطلق ، لم يكن في الاستحقاق للأتباع مثل إن لم يقع منه ذنب مطلقا ، فإذا كان الاتباع إنما هو للهداية للحق والصواب الموجبة للنجاة من عذاب الله وسخطه ، وجب في العقل اتباع من لم يجوز عليه العقل شيئاً من المعاصي بالقطع بحصول النجاة في اتباعه ، دون من وقع منه الذنب ، لعدم القطع بحصول النجاة فياتباعه " (260?????) .
ومعنى هذا أن الإمام غير المعصوم عندما يعصى ويفعل الذنب لا يصلح للدعوة إلى الحق ، وفي غير حال المعصية لا يصلح كذلك ، لأن العقول تجوز وقوع المعصية منه . وإذا فرض أنها لا تجوز ذلك في حال طاعته فإن غير المعصوم ـ مع هذا ـ ليس أهلا لأن يتبع الاتباع المطلق المستمر .
وأما السنة الشريفة فهى ـ في رأيهم ـ مستفيضة في الدلالة على العصمة ، بل إنه " ما نشأ القول بعصمة الأئمة إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله " (261?????).(1/263)
وهم يرون كذلك أن ما ورد في القرآن الكريم من العتابات المروية في حق الأنبياء عليهم السلام ليست مقصودة على ما هو المعروف عند سائر الناس ، " فإن المعروف عندهم أن الشخص إذا عاتب آخر ، والسيد إذا عاتب عبده ، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته ، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه ، لأنه عاص له ، قادم على مخالفة أمره ، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل ؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته ، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء ، وداعي أمر الله هو العقل . وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان . وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد " .
والنبي أو الولي " قد يقع منه خلاف الأولى لأنه ينافي الكمال ، ولا يستلزم النقصان ، لأنه بتلك الصفات الحميدة تام قائم في مقامه ومرتبته التي وضعه الله فيها ، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العقاب والذم من رب الأرباب لعلم ذلك الولي أنه مرجوح لا ينبغى له أن يفعله ، فإذا فعله مع علمه بذلك عرف من نفسه التقصير واستحقاق العتاب ، لأن الله سبحانه أقامه مقام القدس الذي هو محل الخلافة والسفارة المقتضى لأن يجرى على الحكمة التي هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله ، فإذا ورد عليه الذم والعتاب انكسر وأناب ، فاستحق بانكساره وذله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية " (262?????).
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم ، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم ، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب ، وإنما هو تكميل على تكميل ، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " (263?????).(1/264)
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل : " عَفَا اللّهُ عَنكَ "، فقالوا تفسيرا للعفو: " هذا يستعمل من لطيف المعاتبة ، وإن كان العتاب على فعل جائز مثل المراد في هذه الآية ، وليس للعفو متعلق إلا التلطف في العتاب " (264?????).
وقوله تعالى : " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ "
خرجوا معنى الآية الكريمة على أنه " محمول على ترك الأولى كما تقدم " . وقيل : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك بشفاعتك ، وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال بينه وبينهم .
وعن الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال ما كان له ذنب ولا هم بذنب ، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له ..
وفي رواية ابن طاووس عنهم عليهم السلام أن المراد : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند أهل مكة وقريش ، يعنى ما تقدم قبل الهجرة وبعدها ، فإنك إذا فتحت مكة بغير قتل لهم ولا استيصال ، ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال ، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبا لك عندهم متقدماً أو متأخراً ، وما كان يظهر من عداوته لهم في مقابلة عداوتهم له . فلما رأوه قد تحكم وتمكن ، وما استقصى ، غفروا ما ظنوه من الذنوب ، ونقل أنه صلى الله عليه وسلم وآله حين كسر الأصنام قالوا: ما كان أحد أعظم ذنباً من محمد ، كسر ثلثمائة وستين إلهاً ، فقال تعالى :" إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ " من عبادتها " وَمَا تَأَخَّرَ"بكسرك إياها ، تهكما بهم واستهزاء (265?????).
وفي واقعة آدم رضي الله عنه " لا يقال إنه عصى من حيث هو معصوم ـ كما هو حال ما نحن بصدده ـ بل إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة ليتم مقادير الله عز وجل " (266?????).(1/265)
وتفسير العصيان بأنه راجع إلى ترك الأولى ، وهو ليس بذنب في الحقيقة . نعم يسمى معصية وذنباً وسيئة إذا صدر من أصحاب المراتب العالية في القرب من الله عز وجل كالنبيين ، ولهذا ورد : حسنات الأبرار سيئات المقربين(267?????).
وفي قصة داود رووا عن الرضا أنه قال : " إن داود رضي الله عنه إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله عز وجل إليه ملكين فتسورا المحراب . فقالا له : خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب . فعجل داود رضي الله عنه على المدعى عليه فقال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، ولم يسأل المدعى البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم حكم " (268?????).
هذا هو رأي الإمامية في مسألة العصمة ، والذي دفعهم إلى كل هذا نظرتهم إلى الإمام على أنه مكان النبي تماما بفارق واحد هو مسألة النبوة ! فلولا وجود الإمام لضلت الأمة ، وهذا الذي يعصم الأمة من الضلال لابد أن يكون معصوماً .
وإن كان هؤلاء الغلاة يقصدون أئمتهم على وجه الخصوص دون غيرهم من سائر أئمة المسلمين ، فإن أي إمام من الأئمة في الإسلام كائنا من كان منفذ للشرع وليس مشرعا ، والذي يعصم الأمة الإسلامية من الضلال هو القرآن الكريم الذي تعهد الله سبحانه بحفظه " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (269?????) ثم من بعد ذلك السنة النبوية الشريفة . وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين ، فإنها تعمل عقلها وتجتهر فيما يعرض لها ، فإنها لا تجمع على ضلالة بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم (270?????) ، وهى التي تعصم الإمام من الخطأ ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام ، أما الأمة فهى أحقٍ بأن تصيب .(1/266)
وعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن ، فوضه في أن يجتهد بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة ، ومعاذ ليس معصوماً ، فلو وجبت العصمة للإمام لوجبت هنا لنفس الأدلة التي ساقوها : من فعل القبيح وترك الواجب ، واتباع الناس له ، إلى غير ذلك .
ولو وجبت العصمة للإمام ، لوجب نصب إمام معصوم لكل بلد ، لأن الإمام الواحد لا يكفي ، ولوجب استمرار وجود هؤلاء الأئمة المعصومين في كل زمان ومكان وهذا ـ كما يسلم الجميع ـ لم يحدث .
فاللطف من الله سبحانه إذا ليس في وجود الإمام المعصوم ، وإنما في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنزال القرآن الكريم وحفظه لهداية الناس .
ونحن إذا تمسكنا بالقرآن الكريم ، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلن نضل أبدا كما قال نبينا صلوات الله عليه في حجة الوداع : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا . كتاب الله وسنة نبيه (271?????).
ويقول تعالى في سورة النساء :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
( فلم يقل : وأطيعوا أولى الأمر ، ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا ، إذ اندراج طاعة الرسول في طاعة الله أمر معلوم ، فلم يكن تكرير لفظ الطاعة مؤذنا بالفرق ، بخلاف ما لو قيل : أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم ، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال " إنما الطاعة في المعروف " ، وقال : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ، وقال : " على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .(1/267)
ولهذا قال سبحانه بعد ذلك : " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر ... ولو كان غير الرسول معصوماً أو محفوظاً فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع (272?????).
فإذا أمر الإمام بالقبيح فليس على الأمة أن تطيعه وتقتدى به ؛ لأن ذلك لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يعقل أن أمة لا تستطيع أن تميز القبيح من غير القبيح ، في حين يستطيع ذلك الإمام وحده حتى لو كان طفلا !
قال ابن تيمية (273?????)، معقبا على القول بعصمة الإمام الثانى عشر : أجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة : أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد ، كما قال تعالى : (274?????)" وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ "
وليس في القرآن الكريم ، ولا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذه العصمة.
فقوله تعالى : (275?????)" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "(1/268)
ليس فيه معنى العصمة ، فهناك فرق كبير بين الظلم وعدم العصمة ، فغير المعصوم إذا أخطأ فلم يصر على هذا الخطأ وتاب وأناب إلى الله تعالى فليس بظالم. ثم أين هذا من السهو والنسيان الذي لا يحاسب عليه الإنسان ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ؟ (276[276]) وقوله تعالى (277?????)" أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى "
جزء من آية كريمة جاءت في سياق الاستدلال على إبطال دعوى المشركين فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد . قال تعالى: (278?????) " قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
فالله سبحانه يهدى للحق وهو أحق أن يتبع ، والمشركون ضالون فيما أشركوا بالله ، فأين وجوب العصمة للإمام هنا ؟!
وبصفه عامة كل من يدعو للحق أحق أن يتبع سواء أكان إماماً أم غير إمام ، ومن دعا إلى الضلال أحق ألا يتبع .
ويقول تعالى في سورة السجدة : (279?????) " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ "
فإذا كانت العصمة واجبة للأئمة ، فهل هؤلاء جميعا ـ الذين ذكرتهم الآية الكريمة ـ معصومون ؟!(1/269)
إن القرآن الكريم يبين أن لا عصمة لبشر ، فهذا آدم رضي الله عنه أبو البشر قد عصى ربه فغوى كما يبين القرآن الكريم ، قال تعالى : (280?????)" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"
وفي سورة الأعراف : (281?????). " فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
وفي سورة طه (282?????) : " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى"
فهذه الآيات الكريمة تذكر أن آدم رضي الله عنه قد أطاع الشيطان وعصى الله تعالى فغوى ، وظلم نفسه . فلو كان معصوماً كالعصمة التي تدعى للأئمة ما فعل ذلك .(1/270)
وكونه " إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة " (283?????) يمكن أن يقال مثله عن أي إنسان ، فكل إنسان معصوم إذن . وإنما يخطئ عندما يصرف عنه وجه العصمة ! وليس الأمر كذلك ! وإذا لم يكن ذلك ذنبا من آدم ـ كما قيل ـ فلم حاسبه الله تعالى وعاقبه ثم تاب عليه وهداه ؟ ولم عد ذلك الذي فعله ظلماً وخسراناً وغياً ؟
يقول ابن تيمية : " من زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله ، ولم يكن ذلك ذنبا ، فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله " . (284?????)
ويقول فخر الدين الرازى ـ وهو يدافع عن مبدأ عصمة الأنبياء ـ إن ما نسب لآدم رضي الله عنه كان قبل النبوة . وأورد رأي أولئك الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة ولكنه لم يستطع أن يسلم بهذا الرأي ، وانتهى إلى قوله بلزوم أن يكون اطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب (285?????) .
إن تلك الآيات الكريمة واضحة الدلالة في عدم العصمة ، ويزيد ذلك وضوحا لا لبس فيه قول الله تعالى :
" وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(286?????)
فقتل موسى للرجل ، واعتبار ذلك من عمل الشيطان ، واعترافه بظلم نفسه، وطلبه المغفرة من الله تعالى ، واستجابة الله له ، كل هذا لا تتحقق معه عصمة.
وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم لم يقر الرسول صلى الله عليه وسلم على أخطاء وقع فيها .
ففي سورة الأنفال : (287?????)(1/271)
" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
وفي سورة التوبة : (288?????) " لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"
وفي سورة الأحزاب (289?????) "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ "
وفي سورة عبس : (290?????) "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى "
وفي آيات كريمة أخرى ذكر أن له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذنوباً : قال تعالى : (291?????) "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"
وقال عز وجل : (292?????) "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ"(1/272)
وقال سبحانه : (293?????) " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"
وقال تعالى : (294?????) " وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"
وتخريج هذه الآيات الكريمة على أنها من باب ترك الأولى لا يتفق مع دعوى العصمة المطلقة .
وما روى عن الصادق في الآية الثانية من سورة الفتح أنه قال : " ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له " . (295?????) يعد مبدأ خطيرا يتنافي مع مبادئ الإسلام كلية ، فأين هذا من قوله تعالى : (296?????)
"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"
ومن قوله سبحانه : (297?????) " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"
فالقرآن الكريم إذن ينفي وجوب هذه العصمة المطلقة لخير البشر أجمعين وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم ، وإنما عصمتهم مقيدة محددة ، فمثلا " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه ، فلا يقرون على سهو فيه ، وبهذا يحصل المقصود من البعثة " . (298?????)
قال الإمام فخر الدين الرازى بعد نقل الآراء المختلفة في القول بعصمة الأنبياء : " والذى نقول :
إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد . أما على سبيل السهو فهو جائز . (299?????)(1/273)
فالرازى وقد كتب رسالته ـ كما يقول (300?????) ـ في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه ، لم يدع لهم عصمة كتلك التي ادعيت للأئمة .
وبالطبع لا يمكن أن تتعارض السنة الشريفة مع هذا المبدأ . لكن الإمامية يستدلون على عصمة الأئمة بكثير من الأحاديث ، بعضها صحيح وبعضها لا يمكن الأخذ به ، وقد رأينا فيما سبق نظرة الشيعة إلى الإمام ونحن لا يمكن بحال أن نأخذ بها ، فهى ترفعه فوق الأنبياء والبشر جميعا !
فما وجه الاستدلال في الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها ؟
من الأحاديث التي استدلوا بها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى : " أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى " . وقوله صلى الله عليه وسلم : " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ثم أعطاها علياً .
وهذا الحديثان الشريفان ورد معناهما في البخاري ومسلم .(301?????)
أما الحديث الأول فقد ذكر مسلم بإسناده عن سعد بن أبى وقاص قال : " خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ، فقال : أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي من بعدى " .
فالإمام على كرم الله وجهه يشبه هارون رضي الله عنه في الاستخلاف (302?????)، وقد استخلف غيره أيضا . وهذا الحديثان الشريفان يبينان مكانة ! على رضي الله عنه ، وما أسماها من مكانة ولكنهما لو كانا يوجبان عصمة لوجبت لكل الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فكلهم يحبون الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحبهم الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولوجبت العصمة كذلك لكل من استخلف على المدينة ، فهم جميعا بمنزلة هارون من موسى في الاستخلاف ، ولوجبت أيضا لكثيرين غير من ادعيت لهم ، مثال ذلك ما جاء في حق أبى بكر الصديق رضي الله عنه من الأحاديث الصحيحة .(1/274)
روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أمن الناس على في صحبته ، وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " (303?????) .
وأكثر من هذا صراحة ما روياه أيضاً بإسنادهما أن أمرأة أتت النبيصلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه . قالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول الموت . قال عليه الصلاة والسلام : إن لم تجدينى فأتى أبا بكر " (304?????) .
وبمنطق الشيعة نقول : إذا جاءت المرأة ولم تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها مأمورة بأن تسأل أبا بكر ، وتتبعه فيما يقوله لها ، فإذا لم يكن معصوماً فربما دلها على قبيح فتتابعه عليه ، وهذا غير جائز فلابد إذن أن يكون معصوماً ! أظن هذا أكثر منطقية واستدلالاً من استدلال الإمامية ، ولكن أحدا لم يقل به ، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بشر كسائر البشر ، يصيب ويخطئ ، والمرأة مأمورة بأن تتبعه فيما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وأبو بكر - كغيره - منفذ للشرع وليس مشرعاً . وغير هذا كثير فيما ورد عن فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (305?????).
نخرج من كل هذا إلى أن عصمة الأنبياء ليست مطلقة ، فهم بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان ، ولكنهم ? عليهم السلام - لا يقرون على هذا الخطأ " بل لابد من التوبة والبيان ، والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر ، فأما المنسوخ ، والمنهى عنه ، والمتوب عنه ، فلا قدوة فيه بالاتفاق ، فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها ، فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك" (306?????) أما باقي البشر فهى أدنى من هذا بكثير جداً .(1/275)
ودعوى العصمة للأئمة ليس لها سند من الشريعة والعقل ، فإنها ترفعهم فوق مستوى الأنبياء عليهم السلام . ولا نقول إن الأئمة جميعاً لا يصلون إلى درجة الأنبياء ، فهذا مسلم به ، وإنما نقول : إن جميع الأئمة ليس فيهم من يصل إلى منزلة الصديق والفاروق رضي الله عنهما باعتراف الإمام على نفسه كرم الله وجهه، فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بسنده عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : " قلت لأبى : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر " . (307?????)
قال ابن تيمية : " قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقاً ، وهو متواتر عنه " (308?????).
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة ، مثال ذلك أن الحسن رضي الله عنه هادن مع كثرة أنصاره ، والحسين رضي الله عنه حارب مع قلة من أنصاره (309?????). فلو كان أحدهما مصيباً ، كان الآخر مخطئاً ، أي غير معصوم ، ولا يمكن أن يكون الاثنان مصيبين . فلعل في هذا كله ما يكفى لدحض دعوىالعصمة ، والله سبحانه يهدينا سواء السبيل .
ثانياً : البداء
البداء : الظهور والانكشاف ، تقول : بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة ، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد ، تقول : بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة : نشأ له فيه رأي .(310?????)
وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم ، الأول في مثل قوله تعالى : " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " (311?????).
وقوله سبحانه وتعالى : (312?????) " وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" .
والثانى في قوله تعالى :(313?????) " ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين " .(1/276)
والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه ، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى ، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله ؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي ، فرفضوا القول بالبداء ، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين ، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل . (314?????) …
ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض ? ُيخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام ، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ ،وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون ، وذكر لما يثبت وما يمحى" يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة .(315?????)
وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي(316?????) عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".
وقال : " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قيل : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله ؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق (317?????).
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء : " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه ، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه ، معاذ الله ، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة ؟
بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم ، وقولنا ( بدا لله ) أي بدا حكم لله ، أو شأن لله " (318?????).(1/277)
فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء ، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين ، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري : فقد روى عن أبى هريرة?رضي الله عنه ? أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ثلاثة في بنى إسرائيل ، أبرص وأقرع وأعمى ، بدا لله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص... " إلى آخر الحديث الشريف (319?????).
فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة ؟ ينافحون عنه ، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا : " ما عبد الله بشئ مثل البداء " ، " ما عظم الله بمثل البداء " (320?????).
إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا ، فهم يقولون : إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته ، أو رسله المقربين بحادثة ما ، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة ، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال : مثال هذا : أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره ، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه ، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله ، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال : بدا لله فيه أن يمد في أجله ، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع (321?????).
وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع ، فما الحكمة من هذا البداء ؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة ؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين المضلين ؟ (322?????).
إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم ، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل ، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب ، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع ، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء !(1/278)
وأول من نادى به المختار الثقفى ، لأنه كان يدعى علم الغيب ، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال : قد بدا لربكم ! (323?????).
وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين ،وقال لقومه : قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف . ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم ، ولا تخل فيكم : فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة ، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له : ما ترى ما يحل بنا من القوم ، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر ، وقد عمل سلاحهم فينا ، وقتل من ترى منا ، فقال لهم : إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي ؟ (324?????)
ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله : " إن لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " (325?????).
وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369):
" إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا : صدق الله ، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين " .
وعلق صاحب الحاشية بقوله : " مرة للتصديق ، وأخرى للقول بالبداء "
فالقول بالبداء ، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب ، فإذا حدث غير ما أخبروا ، فإنما قد بد الله ! ومصدق الكذب يؤجر مرتين !
والمسلمون قاطبة ? عدا الشيعة ? يرفضون هذا القول ، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى : (326?????)
" وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "
وأمره سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : (327?????) " وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ "(1/279)
" قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ " (328?????)
على أن من الشيعة أنفسهم من ينكر علم الأئمة للغيب ، بل ينكر نسبة ذلك إلى الشيعة ! يقول الشيخ محمد جواد مغنية : وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب ، وهم يؤمنون بكتاب الله ، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه : "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ " ،وقوله : " إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ"، وقوله : " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ".
وذكر قول الشيخ الطبرسي المفسر : لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق .
ثم قال : وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين . ثم ذكر عن الشيعة أنهم لا يدعون لأئمتهم علم الغيب ، ولا الإيحاء والإلهام ، وأن من نسب إليهم شيئاً من ذلك فهو جاهل متطفل ، أو مفتر كذاب(329?????) .
وفى قول الشيخ مغنية ما يبين افتراء من يستجيز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، ولكنه بعد عن الواقع عندما ذكر أن الشيعة لا يستجيزون هذا ، فما أكثر الشيعة القائلين بأن الأئمة يعلمون الغيب ! (330?????) ولولا هذا لما قيل بالبداء.
ثالثاً : الرجعة
يعتقد الإمامية الاثنا عشرية أن إمامهم الثانى عشر محمدا المهدى ، سيرجع بعد غيبته الكبرى ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ورأينا أنهم ينتظرون خروجه حتى الآن ، رغم مضى أكثر من ألف عام ! وبسطنا بعض حججهم وأثبتنا بطلانها ، وهذه العقيدة من جوهر الإمامة التي أجمعت عليها هذه الفرقة .(1/280)
والإمامية ليست أول من قال برجوع الإمام بعد غيبته ، فأكثر فرق الشيعة رأت أن بعض الأئمة سيعودون بعد موتهم أو غيبتهم ، ولهم تفصيلات في ذلك يعحب الباحثون لوجود مثلها بين فرق من المسلمين (331?????).
وللإمامية عقيدة أخرى خاصة بالرجعة ، وهى رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته قبل يوم القيامة ، وكذلك رجعة أعدائهم ومن اغتصبوهم حقهم بحسب زعمهم ليقتصوا منهم ، ولهم في ذلك خرافات كثيرة : كظهور جسد أمير المؤمنين على ابن أبى طالب في قرص الشمس ، يعرفه الخلائق ، وينادى مناد باسمه في السماء، وينادى جبريل أن الحق مع على وشيعته (332?????).
وألف في موضوع الرجعة كثير من الرافضة ، وأطالوا الحديث عنها ، وعن إمكانها ، وعن أدلة إثباتها ، والرد على من ينكرها . كما نرى الحديث عن الرجعة في كتب التفسير والحديث عندهم ، والكتب التي تتناول موضوعات عامة .
ونضرب مثلا هنا بكتاب : " الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة " لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هـ .
نرى في مقدمة الكتاب ذكر تسعة وعشرين كتاباً في موضوع واحد هو إثبات الرجعة !!
وفى مراجع المؤلف نرى كثيراً من كتب التفسير والحديث وغيرها .
والكتاب كله مثل للغلو والضلال ، بل يصل إلى الكفر والزندقة . ولا نرى حاجة للوقوف أمام هذا الكتاب وأمثاله ، ويكفى ما بيناه من قبل من بطلان عقيدتهم في الإمامة ، وإثبات ضلال القائلين بها . والرجعة إنما هي تابعة لعقيدتهم في الإمامة ، وهى من أشد أقوالهم غلواً وضلالاً .
ووجدنا من الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم من ينكر هذه العقيدة الخرافية(333?????).
فهى إذن ليست من المبادئ المجمع عليها ، ونحن نرى أن الصواب مع أولئك الذين أنكروها ، وأن من قال بها فقد أدخل على الإسلام ما هو منه براء (334?????) .
رابعاً : التقية(1/281)
نقول : اتقيت الشئ وَتقَيْته أتَّقِيته وأتقْيٍةٍ تُقىّ وتقَّية وِتقاء : أي : حِذَرْته(335?????) ومنها قوله تعالى (336?????) :
" لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً "
وفى قراءة : " تقية " (337[337])
ومعنى هذا أن الله سبحانه قد أباح للمؤمنين : إذا خافوا شر الكافرين أن يتقوهم بألسنتهم ، فيوافقوهم بأقوالهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان .
وقد اتخذت الشيعة التقية مبدأ من مبادئها ، و" معنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك ، أو مالك ، أو لتحتفظ بكرامتك ، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين ، وقد بلغوا الغاية في التعصب، بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إضرارك والإساءة إليك . فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك ، وتدفع الأذى عنك ، لأن الضرورة تقدر بقدرها " (338[338]).
واستدلوا على صحة هذا المبدأ بالآية الكريمة السابقة ، وبقوله تعالى : (339[339])
" إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ "
وبقصة عمار ، فقد أخذه المشركون ولم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، ولم يؤثر ذلك في إيمانه ، إلى غير ذلك من الأدلة التي تبيح للمؤمن أن يظهر غير ما يضمر حفاظاً على حياته أو عرضه (340?????).
والتقية في هذه الصورة لا تتعارض ومبادئ الإسلام ، فلا ضرر ولا ضرار ، والضرورات تبيح المحظورات .
ومن يرجع إلى التاريخ ير من الأهوال التي نزلت بالشيعة ما تقشعر منه الأبدان ، وتأباه النفوس المؤمنة .
ونذكر على سبيل المثال : كتاب مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى ، فقد ترجم فيه لنيف ومائتين من شهداء الطالبين !(1/282)
فمن العبث إذن أن يعرض الإنسان حياته للهلكة دون أن يكون من وراء ذلك وصول إلى هدف مقدس ، أو غاية شريفة .
ويرى الإمامية أن " العمل بالتقية له أحكامه الثلاثة "
فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة ، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع تقوية له ، فله أن يضحى بنفسه ، وله أن يحافظ عليها .
وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل ، وإضلال الخلق، وإحياء الظلم والجور " (341?????)
والعمل بالتقية في ظل هذه الأحكام لا تنفرد به الإمامية ، فلماذا إذن اختصوا بهذا المبدأ ، وهوجموا من أجله ؟
أرى أن ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية :
الأول : أنهم غالوا في قيمة التقية ، مع أنها رخصة لا يقدم عليها المؤمن إلا اضطراراً . من ذلك ما جاء في كتاب الكافى :
عن أبى عبد الله في قوله تعالى : " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا " قال: بما صبروا على التقية ." وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِئَةَ ". قال : الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة . ( فهذا تحريف لمعانى القرآن الكريم ) .
وعن أبى عبد الله : " إن تسعة أعشار الدين التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ! ".
وعنه عن أبيه : " لا والله ما على وجه الأرض شىء أحب إلى من التقية(342?????) . وعن أبى جعفر : " التقية من دينى ودين آبائى ، ولا إيمان لمن لا تقية له " .
فمثل هذه الأخبار تنزل التقية منزلة غير المنزلة ، فمن ارتآها كذلك فإنما تخلق منه إنساناً جباناً كذوباً، وأين هذا من الإيمان ؟!
والسبب الثانى : أنهم وقد أحلوها هذه المكانة ، فلم يتمسكوا بأحكامها ، وتعلقوا بها تعلق المؤمن بإيمانه ، وطبقوها في غير حالاتها (343?????)، ولنضرب لذلك الأمثال :(1/283)
يرون في التيمم مسح الوجه والكفين ، وورد عن أحد أئمتهم أنه سئل عن كيفية التيمم ، فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين . وقالوا : إن ذلك محمول على ضرب من التقية (344?????). فما الذي يدعو إلى هذه التقية ؟ إن كثيراً من المسلمين يرون رأيهم في التيمم ، فلا ضير عليهم ، ولا ضرورة تلجئهم لترك ما يرون صحته ويطبقونه فيما بينهم ، والتعبد بما يرونه باطلاً
وهم لا يشترطون للجمعة المصر ، وروى نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعى والليث ومكحول وعكرمة والشافعى وأحمد (345?????).ورووا عن الإمام على أنه قال : لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحدود . وقالوا : إن هذا الخبر قيل تقية (346?????).
ومن الواضح أنه لا حاجة إلى هذه التقية ، ثم من الذي يتقى ؟ أعلى كرم الله وجهه ؟ وهو الشجاع الذي يأبى التقية إباءه للضيم ، واستشهد من أجل مبادئه ، وكان لفتاواه الدينية قيمتها عند المسلمين ، أمن روى عنه ؟ وكيف إذن يتعمدون الكذب على أمير المؤمنين وليست هناك رقاب ستقطع أو أعراض تنتهك بله أدنى ضرر؟!
وفى صلاة الجنازة يرون رفع اليدين في كل تكبيرة ، ويوافقون في ذلك ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والشافعى وأحمد وغيرهم(347?????).
ولكنهم رووا عن الإمام جعفر عن أبيه قال : كان أمير المؤمنين يرفع يديه في أول التكبير على الجنازة ، ثم لا يعود حتى ينصرف .
ورووا أيضاً عن أبى عبد الله عن أبيه أن الإمام عليا لا يرفع يديه في الجنازة إلا مرة ، يعنى في التكبير .
وعقب شيخ طائفتهم الإمام الطوسي على هاتين الروايتين بقوله : " يمكن أن يكونا وردا مورد التقية لأن ذلك مذهب كثير من العامة " (348?????) .(1/284)
وأشد من هذا عجبا رواياتهم في أكثر أيام النفاس ، فهم يرون أن أيام النفاس مثل أيام الحيض ، ويتعارض ذلك مع روايات لهم كثيرة مثل ما رووه عن الإمام على قال : النفساء تقعد أربعين يوما . وعن أبى عبد الله : سبع عشرة ، وثمانى عشرة ، وتسع عشرة ، وثلاثين أو أربعين إلى الخمسين ، وبين الأربعين إلى الخمسين ! وعن أبى جعفر : ثمانى عشرة .
فجوز إمامهم الطوسي حمل هذه الأخبار على ضرب من التقية ، وقال : لأنها موافقة لمذهب العامة ، ولأجل ذلك اختلفت كاختلاف العامة في أكثر أيام النفاس ، فكأنهم أفتوا كلا منهم بمذهبه الذي يعتقده (349?????).
بمثل هذا تكون التقية تضييعاً للعلم ، وإخفاء للحق ، وترويجاً للكذب .
يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله - : " لا يصح أن تكون التقية لإخفاء الأحكام ومنعها ، فإن ذلك ليس موضوع التقية وليس صالحاً لأن يتسمى بها ، بل له اسم آخر ، وهو كتمان العلم ـ ويوصف معتنقه بوصف لا يوصف به المؤمن " (350[350])
والسبب الثالث : أنهم جعلوا من التقية منفذاً للغلو والانحراف ، مثال هذا أن بعضهم حكم بكفر كثير من الصحابة لعداوتهم للإمام على ، وقالوا بنجاستهم تبعاً لذلك ، وعللوا مخالطة الشيعة لهم بأن طهارتهم مقرونة إما بالتقية ، أو الحاجة ، وحيث ينتفيان فهم كافرون قطعاً ! (351?????).
ويرون أن الصلاة لا تصح خلف من ليس إمامياً ، فكيف إذن كان يصلى الإمام على مثلاً خلف الخلفاء الثلاثة ؟ هذا من الأسئلة التي امتنع السيد كاظم الكفائى ان يجيب عنها ، وقال : " أبو بكر وعمر أتريد أن يكفرونا ؟ " ومثل هذا الغلو الذي أجمعوا عليه يجد التقية أسهل مخرج .
فالتقية إذن بهذه الصورة تعد مبدأ ينفرد به الشيعة الاثنا عشرية .
الموسوعة الشاملة
مع الاثني عشرية
في الأصول والفروع
دراسة مقارنة في العقائد
تمهيد(1/285)
إن الحمد كله لله نحمده سبحانه وتعالي ونستهديه ، ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل . ونصلى ونسلم على رسله الكرام ، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين ، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمنذ نحو أربعين سنة بدأت الاطلاع على كتب الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية ، والاتصال ببعض علمائهم . وشجعني على هذا أستاذي المرحوم الشيخ محمد المدني ، أحد دعاة التقريب بين المذاهب الخمسة ، حيث اعتبروا المذهب الشيعي هذا مذهباً خامساً ، ولذلك كانت رسالتي للماجستير في الفقه المقارن بين الشيعة الإمامية - أي الجعفرية الاثنى عشرية - والمذاهب الأربعة .
غير أنني عندما بدأت الدراسة ، ثم قرأت كثيراً من كتبهم ، وجدت الأمر على خلاف ما تصوره دعاة التقريب ، حيث إن عقيدتهم في الإمامة ، وما ينبنى عليها ، تمنع التقريب وتحول دونه ، فإن هذه العقيدة لا تصح إلا بالطعن في خير أمة أخرجت للناس ، حيث يعتبر باقي الصحابة - وحاشاهم - مقرين للمعصية ، راضين عنها .
وإذا كانت مسألة الإمامة في ذمة التاريخ ، فلا حاجة لإثارتها ، وخلاف الأمس لا يمنع تقريب اليوم ، ومن هنا كانت رسالتي للدكتوراه عن أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله ، وللأسف الشديد أنني وجدت هذه العقيدة الباطلة قد أفسدت الكثير من أصول الفقه . فكيف تكون دعوة التقريب ؟
إن قلنا للشيعة : دعوا مسألة الإمامة في مجال العقيدة ، ولا تجعلوا لها أثراً في التشريع وأصوله حتى تصبحوا كأي مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة ، أفيقبلون ؟
وإذا كانوا لا يقبلون ، بل لم توجه لهم هذه الدعوة ، أفنؤمن نحن بعقيدتهم الباطلة ؟(1/286)
لهذا يجب أن تكون دعوة التقريب على هدى وبصيرة . ولذا رأيت أن أجعل بين أيدي المسلمين ، ودعاة التقريب منهم ، بعض الكتب التي تبين الفوارق بين السنة والشيعة في مجالات مختلفة ، ليفكروا في هذه الفوارق ، ولنحدد كيف تكون دعوة التقريب ، ومن الذي يجب أن يترك رأيه ويقترب من الآخر .
وكنت جمعت المادة العلمية منذ عدة سنوات ، ثم توقفت بضعة أعوام عندما شغلت بالاقتصاد الإسلامي ، والمعاملات المعاصرة ، وتم بحمد الله تعالي وفضله تأليف بعض الكتب والأبحاث ، غير أن البحث في المعاملات المعاصرة أمر متجدد لا ينتهي ، فرأيت ألا أجعل الوقت كله له ، وأن أعود إلى ما جمعت من مادة للدراسة المقارنة حتى أخرج الكتب التي أريدها ، مستعيناً بالله عز وجل .
وتوطئة لهذه الدراسة صدر كتابى الأول تحت عنوان :
" عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية- دراسة في ضوء الكتاب والسنة - هل كان شيخ الأزهر البشرى شيعياً ؟ ! "
وانتهت الدراسة إلي أن عقيدتهم لا تستند إلى كتاب ولا إلى سنة ، بل باطلة تصطدم بالكتاب والسنة ، وأظهرت الدراسة كثيراً من الأخطاء ، وكشفت عن مفتريات وأباطيل ، ونزهت الشيخ البشرى مما نسبه إليه المفترى الكذّاب صاحب كتاب المراجعات .
ورأيت أن تكون الدراسة التالية للكتاب السابق تتعلق بكتاب الله العزيز ، المصدر الأول للعقيدة والشريعة . فكان الكتاب الثانى في التفسير المقارن وأصوله بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية ، وقسمته قسمين :-
القسم الأول : للحديث عن التفسير وأصوله عند أهل السنة.
القسم الثانى : للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية.(1/287)
ومن يقرأ ما احتواه القسمان يدرك الفوارق البينة الظاهرة بين التفسيرين ، وأصول كل منهما . ويتأكد من أن مسألة الإمامة ليست نظرية بحتة تاريخية ، بل لها أثرها في كتبهم خلال جميع العصور ، ولهذا وجدنا الغالين الضالين من الشيعة يحرفون القرآن نصا ومعنى ، ويطعنون في الصحابة الكرام ، ويجعلون أئمتهم هم المراد من كلمات الله حتى وصل بعضهم إلى تأليه الأئمة ،ووجدنا المعتدلين منهم يقعون في تناقض بين ، وهذه نتيجة حتمية ، فكيف يجمع بين هذه العقيدة والاعتدال ؟! وكيف يجمع بين توثيقهم وإجلالهم لأكبر كبار علمائهم كالقمى والعياشى والكلينى ، وهم رءوس الغلو والضلال ، وحملة لواء التشكيك والتضليل ، وتحريف القرآن المجيد ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ؟! كيف يجمع بين هذا كله وبين شيء من الاعتدال ؟! والمهم أن ما أنسبه إليهم هنا منقول من كتبهم وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقاً غير جائر .
وانتهيت من الكتاب الثانى سنة 1409 هـ (1989م) ، وفى أواخر ذلك العام كانت الطامة حيث صدر البيان المشهور عن دار الإفتاء المصرية الذي أحل بعض المعاملات التي أجمعت المجامع الفقهية كلها وجميع دور الإفتاء على أنها من الربا المحرم ، وتبع البيان بعد ذلك تحليل صور أخرى من المعاملات الربوية حتى وصل الأمر إلى القول بأن البنوك في جميع بقاع الأرض تستثمر بالطرق التي أحلها الله تعالي !!
فشغلت بالرد على البيان ، وعلى ما صدر بعد ذلك من الفتاوى الباطلة ، فكتبت عشرات المقالات ، وبضعة كتب وأبحاث ،ووقفت عند الكتاب الثانى بين الشيعة والسنة .(1/288)
ومنذ سنوات طلبت منى إحدى الجهات العلمية البارزة كتابة رد على كتاب المراجعات لعبدالحسين شرف الدين الموسوي ، ثم تكرر الطلب حتى استحييت ، وكنت كتبت بعض الملاحظات حول الكتاب استعداداً للرد قبل هذا الطلب ، فأعدت النظر فيما كتبت ، واستعنت بالله عز وجل ، وبذلت أقصى ما أستطيع حتى انتهيت بحمد الله عز وجل وفضله وكرمه - من كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " ، حيث أثبت يقينا براءة شيخ الأزهر مما نسب إليه ، وأن عبدالحسين هو وحده صاحب هذه المراجعات المفتراة . والقارئ يجد هذا الأمر واضحاً جلياً ، وسيعجب كل العجب من جرأة هذا الرافضي لا على الكذب والافتراء فقط ، ولكن أيضا على تصوير شيخ الأزهر وشيخ المالكية وقد جاوز الثمانين عاما في صورة جاهل لا يدرى ما في كتب في التفسير والحديث عند أهل السنة أنفسهم ، وما يدرس منها لطلاب الأزهر ، فبدا كأنه أقل علماً من هؤلاء الطلاب ، إلى أن جاء هذا الشاب الرافضي الطريد الذي لجأ إلى مصر ليعلم شيخ الأزهر نفسه ما في هذه الكتب ، ويصور الرافضي نفسه في صورة من أخرج شيخ الأزهر من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، وجعله يسلم بصحة عقيدة الرافضة وشريعتهم وبطلان ما عليه أمة الإسلام منذ الصحابة الكرام البررة إلى عصرنا !!
وقد ناقشت الرافضي مناقشة علمية مستفيضة ، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منا فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
وبعد أن انتهيت من كتاب المراجعات رأيت أن أستكمل الموضوع الذي بدأته بالكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل ، ولكن بدا لي أن أقدم للمسلمين موسوعة شاملة في هذا الموضوع تبين حقيقة الشيعة والرافضة في الماضي والحاضر في ضوء الكتاب والسنة ، وكل ما أنسبه إليهم منقول من كتبهم هم أنفسهم ، وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقا غير جائر . وهذه الموسوعة يضمها كتاب في أربعة أجزاء :
الجزء الأول في العقائد .
الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله .(1/289)
الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله .
والجزء الرابع في أصول الفقه والفقه .
وكل جزء له مقدمة تخصه وتناسبه .
وكتبت بحثا عنوانه " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فرأيت من المناسب أن ألحقه بالجزء الثالث الخاص بالسنة المشرفة .
وقبل أن أنتقل إلى مقدمة الجزء الأول أحب أن أذكر بما يأتي :-
أولا: لماذا كثر ما كتبت عن الشيعة ؟
بعد أن تخرجت في كلية دار العلوم سنة 1376 هـ (1957م) ، والتحقت بالدراسات العليا ، كان ممن درس لنا أستاذنا الجليل / محمد المدني - رحمه الله تعالى - وهو من الأعضاء البارزين لدار التقريب بين المذاهب في القاهرة ، وكثيراً ما كان يحدّثنا عن الشيعة ، وفقههم وأنهم لا يختلفون كثيراً عن المذاهب الأربعة ، ويمكن اعتبارهم مذهبا خامسا .
والشيعة يزيدون على سبعين فرقة ، لكنه كان يقصد الشيعة الإمامية الجعفرية الاثنى عشرية بالذات ، فهى صاحبة دار التقريب فكرة وتنفيذا.
ونتيجة فهمى لما سمعته منه سجلت رسالة الماجستير تحت عنوان " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة " وأردت أن أحدد مواضع الخلاف فقط ، أي ما ينفردون به دون أي مذهب من المذاهب الأربعة ، ثم أناقش هذه المواضع باعتبارهم مذهبا خامسا من باب التقريب .
غير أننى عندما بدأت البحث ، واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدت الأمر يختلف عما سمعت تماما . ورأيت أن عقيدة الإمامة عندهم ، التي جعلوها أصلا من أصول الدين ، أثرت في مصادر الشريعة ، وجميع أبواب الفقه ، ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه عنوانها " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله".
فدراستى إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب . ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات .
وكان طبيعيا ألا أقف عند الماجستير والدكتوراه ، وأن يظهر هذا التخصص في دراسات أخرى ، ولهذا قمت بتأليف عدة كتب في سلسلة دراسات في الفرق .(1/290)
من هذا التوضيح يعرف سبب كثرة ما كتبت في هذا المجال ، وما أكتبه ليس من أهدافه الحوار مع الشيعة والرافضة ، وإنما أوجه كتابتى لأهل السنة والجماعة وجمهور المسلمين في ضوء المصادر المعتمدة التي تلقتها الأمة بالقبول ، والمنهج العلمي الذي اتفق عليه جمهور المسلمين .
ثانيا: الشيعة ليسوا سواء
الشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء ، فمنهم الغلاة الذين نرى فيما كتبوا الكفر والزندقة ، ومنهم من ينشد الاعتدال ، ويتصدى لبعض هؤلاء الغلاة ، ومنهم من يجمع بين الغلو والاعتدال . فعلى سبيل المثال .
ظهر في القرن الثالث الهجرى ثلاثة كتب في التفسير هي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري ، وتفسير العياشى ، وتفسير القمي. وهذه الثلاثة كلها زيغ وضلال وزندقة : تكفر الصحابة رضي الله تعالي عنهم ، وعلى الأخص الخلفاء الراشدين قبل الإمام على ، ومن بايعوهم ، وتحرف القرآن الكريم نصا ومعنى وتغلو في الأئمة الاثنى عشر إلى درجة الشرك بالله عز وجل .
وفى القرن الرابع الهجرى يؤلف الكلينى ـ وهو تلميذ القمي ـ كتابه الكافى ، الكتاب الأول في الحديث عندهم ، وقد ضل ضلالا بعيداً ، ونهج منهج التفاسير الثلاثة وزاد عليها كفراً وضلالا .
وفى القرن الخامس يؤلف الطوسي كتابه التبيان في التفسير ، وينهج منهجا فيه شيء من الاعتدال ، ويتصدى لحركة التشكيك والتضليل التي سبقته ، ويحاول جاهدا صيانة كتاب الله العزيز نصا ومعنى ، وإن تأثر بعقيدته في بعض معانى الآيات الكريمة .
والإمامية الاثنا عشرية بعد هذا منهم من سار في ظلمات الضالين الغلاة ومنهم من اقترب من شيخ الطائفة الطوسي ، ومنهم من أخذ من كل نصيبا . وقد بينت هذا بالتفصيل في كتابى " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " ، وفى هذا الكتاب بأجزائه الأربعة.(1/291)
وعبد الحسين في كتابه " المراجعات " الذي أشرت إليه من قبل لم ينقل إلا عن الغلاة الضالين ، وأضاف إليهم ما هو أشد كفرا وضلالا ، ولم ينقل شيئا عن التبيان للطوسى شيخ طائفتهم وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة .
ولذلك فهو يعد من أشد الروافض غلوا وزندقة وكفرا .
وأرجو أن يكون واضحا أن ما نراه في كتب الغلاة الرافضة ، وما نصمهم به نتيجة ما قدمت أيديهم ، لا ينطبق على المعتدلين من الطائفة .
والذى تعجب له هو موقف المعتدلين الغلاة من الشيعة ، حيث نرى تناقضا واضحا :-
فهم يثنون على الصحابة الكرام ، ويقولون بأن القرآن الكريم الذي بين أيدى المسلمين هو كما أنزله الله عز وجل ، وأن أي خبر يتعارض مع هذا سواء أكان في الكافى أو غيره ، يضرب به عرض الحائط ، وكذلك ما يتصل بفرية علم الأئمة للغيب .
والتناقض يأتي في الإشادة بكتب الغلاة كالمراجعات ، وهو الذي يتعارض مع كل ما سبق كما يظهر عند عرضه ومناقشته ، وبيان ما فيه من البلاياوالرزايا .
وكذلك القول بأن كل ما في تفسير على بن إبراهيم القمي صحيح ، وهو الذي كفر الصحابة وقال بالتحريف تنزيلاً وتأويلاً ، وعلم الأئمة لما كان وما يكون إلى يوم القيامة .
تناقض واضح جلى بلا شك !! ولذلك فهم جمعوا بين الاعتدال والغلو !!
ووجدنا طائفة من معتدلي الشيعة لم تقع في مثل هذا التناقض ، وظهرت لهم كتب تفضح وترد على غلاة الشيعة ، وذلك مثل كتاب تحطيم الصنم ، والمقصود بالصنم كتاب الكافى ، وكتاب لله ثم للتاريخ ، وفيه تبرئة الأئمة الأطهار مما نسب إليهم من الغلو ، وما كتبه أحمد الكاتب ، وموسى الموسوي ، وغيرهم .فالشيعة إذن ليسوا سواء .
ثالثا: منهج الرافضة في محاولة هدم الإسلام(1/292)
عبد الحسين الذي افترى كتاب المراجعات ، أراد أن يبين أن علامة أهل السنة وشيخ أزهرهم ، والذى جاوز الثمانين من عمره ، جاهل بالكتاب والسنة معا ، حتى بالكتب التي تدرس لطلاب الأزهر ، ويسلم بكل ما يقوله هذا الرافضي الشاب الطريد الذي لجأ إلي مصر ، فلا ينتهى الكتاب المفترى حتى ينطق ويشهد شيخ الأزهر- وحاشاه ثم حاشاه - بما ينطق به غلاة الروافض ! وإذا كان هذا هو حال الإمام الأكبر فعلى الباقين جميعا أن يسلموا تسليماً ، وأن يعود الأزهر شيعيا كما بدأ ! هكذا زين الشيطان للرافضى !
وأراد شيطان الرافضة أن يبين أنه صاحب ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وبه نور الظلم ، وأنقذ شيخ الأزهر من ظلمات الجهل... هكذا دون أدنى خجل أو حياء من الله عز وجل ، أو من الناس .
وما ذكر في مقدمة كتاب المراجعات عن عبد الحسين فهو من باب ما قاله الإمام الشافعى " أشهد الناس بالزور الرافضة " .
وأحب أن أنبه إلى أمر هام وهو منهج الرافضة في هدم الإسلام من الداخل ونشر عقائدهم الباطلة .
رأيت كتابا لعبد الحسين هذا عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، ومن الذي لا يريد تأليف أمة الإسلام ؟ فلما نظرت في الكتاب وجدته ينتهى إلى أن التأليف إنما يكون باعتناق عقيدة الرافضة وترك ما عليه أهل السنة والجماعة ، وهذا هو ما انتهى إليه في كتاب المراجعات ، بعد أن بدأه بالتحذير من الفرقة ، ووجوب اجتماع الكلمة ، أي أننا يجب أن نجتمع ، على الكفر والزندقة ، لا على سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ، التي أمرنا أن نعض عليها بالنواجذ .
فيجب أن نتنبه إلى هذا المنهج الخبيث ، وإلى أنهم في سبيل تصدير الثورة التي نادى بها الخمينى ، أي عقيدة الرافضة وشريعتهم ، يغرون بالمال الوفير ، وبالنساء عن طريق زواج المتعة عندهم .
رابعا : عبد الله بن سبأ
صاحب فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم(1/293)
عبد الله بن سبأ كان يهودياً ثم أعلن إسلامه ، ووالي على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أبى الحسن مثل ذلك . وهو صاحب فكرة أن علياً هو وصى النبي - صلى الله عليه وسلم .
جاء في كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي ، وسعد بن عبد الله القمي ، وهما من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجرى :
" عبد الله بن سبأ أول من شهر القول بفرض إمامة على رضي الله عنه ، وأظهر البراءة من أعدائه ، وكاشف مخالفيه وكفرهم ، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية " . ( ص 32:33 وانظر هذا أيضا في ترجمة ابن سبأ في تنقيح المقال للماماقانى 2/184 ، والأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الموسوي الجزائري ص 234 . وكلها مراجع شيعية ).
ونتيجة لدور ابن سبأ في تأسيس عقيدة الرافضة ، ولرفع هذه التهمة الثابتة ، ألف مرتضى العسكري الشيعي كتابا عن عبد الله بن سبأ ، وقال: إنه شخصية خرافية لا وجود لها ، وإن قصته وضعها سيف بن عمر ، واشتهرت عن طريق تاريخ الطبري .
وما قاله هذا الشيعي غير صحيح ، بل جرأة عجيبة على إنكار ما هو ثابت مشتهر ، فما أكثر ما جاء عن ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر ، وما نقلته من كتاب فرق الشيعة وغيره ليس فيه سيف بن عمر ، وليس منقولا عن طريق الطبري ، وأضيف إليه بعض المراجع الشيعية الأخرى التي ذكرت ابن سبأ ، وليس في سندها سيف بن عمر :
فانظر على سبيل المثال لأصحاب كتب الحديث الأربعة عند الشيعة :
الكافى للكلينى 1/545 ، وللصدوق : فقيه من لا يحضره الفقيه 1/213 ، وعلل الشرائع ص 344 ، والخصال 638 ، وللطوسى : تهذيب الأحكام 2/322 ، واختيار معرفة الرجال 2/108 ، والأمالى 1/234 .(1/294)
وراجع أيضا : وسائل الشيعة 18/554 ، ورجال الكشّى ، وغيرها من مراجع الشيعة أنفسهم ، إلى جانب مراجع الجمهور التي يطول ذكرها . ويمكن أن يكون هذا الموضوع بحثا موسعا نثبت به أخطاء مرتضى العسكري وغيره ، ولكن أكتفى بذكر نموذج لأحد الشيعة المشهورين بالاعتدال إلى حد ما وهو السيد أبو القاسم الخوئى ، الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق . جاء في كتابه معجم رجال الحديث في ترجمة عبد الله بن سبأ ما نصه :
الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ : من أصحاب على رضي الله عنه رجال الشيخ (76).
وقال الكشّى (48) : " حدثني محمد بن قولويه القمي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله بن أبى خلف القمي ، قال : حدثني محمد بن عثمان العبدى ، عن يونس بن عبدالرحمان ، عن عبد الله بن سنان ، قال : حدثني أبى عن أبى جعفررضي الله عنه : أنّ عبد الله بن سبأ كان يدعى النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه هو الله !! تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه ، فدعاه وسأله فأقرّ بذلك ، وقال : نعم أنت هو وقد كان ألقى في روعى أنك أنت الله وأنىّ نبي !! فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه : ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار" . وقال : إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقى في روعه ذلك .
حدثني محمد بن قولويه ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب ابن يزيد ومحمد بن عيسى ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه ، فقال : إنه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين رضي الله عنه فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار.(1/295)
حدثني محمد بن قولويه : قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب بن يزيد ، ومحمد بن عيسى ، عن على بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الأرذى عن أبان بن عثمان ، قال : سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول : لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان والله أمير المؤمنين رضي الله عنه عبد الله طائعاً ، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا ، نبرأ إلى الله منهم . نبرأ إلى الله منهم .
وبهذا الإسناد عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبى عمير ، وأحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، والحسين بن سعيد ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبى حمزة الثمالى ، قال : قال على بن الحسين صلوات الله عليهما: لعن الله من كذب علينا إنى ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدى ، لقد ادّعى أمراً عظيماً ! ما له لعنه الله ، كان على رضي الله عنه والله عبداً لله صالحاً ، أخا رسول الله ، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله ، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله إلا بطاعته لله .
وبهذا الإسناد : عن محمد بن خالد الطيالسى ، عن ابن أبى نجران ، عن عبد الله (بن سنان) ، قال : قال أبو عبد الله رضي الله عنه :إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلموآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلّها ، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه أصدق من برأ الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفترى على الله الكذب عبد الله بن سبأ .
أقول ـ أي الخوئى : وتأتى هذه الرواية الأخيرة في ترجمة محمد بن أبى زينب وفى سندها ابن سنان ، بدل عبد الله .(1/296)
وقال الكشّى : " ذكر بعض أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليا رضي الله عنه، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصى موسى بالغلو ! فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في على رضي الله عنه مثل ذلك ، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة على !! وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة : أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية !! " .
أقول : بطلان قول من خالف الشيعة واضح ناشئ عن العصبية العمياء ، فإن أصل التشيع والرفض مأخوذ من الله عز وجل حيث قال سبحانه وتعالى:
" إنما وليكم لله ورسوله والذين آمنوا... " والرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله حيث قال في الغدير : " من كنتٌ مولاه فهذا على مولاه ، اللهم وال من والاه ..." وأما عبد الله بن سبأ فعلى فرض وجوده فهذه الروايات تدل على أنه كفر وادّعى الألوهيّة في على رضي الله عنه لا أنه قائل بفرض إمامته رضي الله عنه ، مضافاً إلى أن أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلفة اختلقها سيف بن عمر الوضاع الكذّاب ، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه ، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدم من دراسات عميقة دقيقة في هذه القصص الخرافية وعن سيف وموضوعاته في مجلّدين ضخمين طبعا باسم ( عبد الله بن سبأ ) وفى كتابه الآخر (خمسون ومائة صحابي مختلق ) صلى الله عليه وسلم (11/205: 207 ) . انتهت الترجمة.
ونلاحظ هنا أن الخوئى نقل الترجمة من مراجع شيعية فقط ، وذكر الأخبار بأسانيدها وليس في أي منها سيف بن عمر ، ومع ذلك يقول : أسطورة عبد الله بن سبأ ، ويثنى على مرتضى العسكري ! وعلى دراساته ! أين ذهب عقل الخوئى وهو يكتب هذا ؟!(1/297)
ثم لا يكتفى بالافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأصل التشيع ، بل يلحق به الرفض الذي يعنى الطعن في أبى بكر وعمر ، خير البشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . وفى الأمة الإسلامية كلها التي بايعت كلا منهما . والخوئى مشهور بالاعتدال النسبى ، فماذا ننتظر من غلاة الرافضة وزنادقتهم ؟!(352[1])
أما من عرف بالاعتدال وعدم الغلو والتطرف من الشيعة فقد وجدنا منهم من يكتب عن عبد الله بن سبأ ويثبت وجوده ، ويرد على مرتضى العسكري ومن أيده ، ففي كتاب كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار لعالم شيعي من علماء النجف وهو السيد حسين الموسوي نجد سبعة نصوص تؤيد وجود عبد الله بن سبأ ، ثم يقول المؤلف بعد ذكر هذه النصوص ما يأتي :
فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة ، بعضها في الرجال وبعضها في الفقه والفرق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل ، كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ ، فلا يمكننا بعد نفي وجودها خصوصاً وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه ، بأنه إله ، وهذا يعنى أن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد التقى عبد الله بن سبأ ، وكفى بأمير المؤمنين بحجة ، فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده .
نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي :-
ـ إثبات وجود شخصية ابن سبأ ، ووجود فرقة تناصره وتنادى بقوله ، وهذه الفرقة تعرف بالسبئية .
ـ أن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام ، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقى على يهوديته وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك .(1/298)
ـ أنه هو الذي أظهر الطعن في أبى بكر وعمر وعثمان والصحابة ، وكان أول من قال بذلك ، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه ، وهو الذي قال بأنه رضي الله عنه وصى النبي محمد صلى الله عليه وآله ، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية ؟ وأنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت ودعوة لولايتهم ، والتبرؤ من أعدائهم ـ وهم الصحابة ومن والاهم بزعمه .
إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها ، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة ، وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية ، انظر المصادر التالية :
" الغارات للثقفى ، " رجال الطوسي " ، " الرجال " للحلي ، " قاموس الرجال " للتستري ، " دائرة المعارف " المسماة بـ " مقتبس الأثر " للأعلمى الحائري ، " الكنى والألقاب " لعباس القمي ، " حل الإشكال " لأحمد بن طاووس المتوفى سنة (673 هـ ) ، " الرجال " لابن داود ، " التحرير " للطاوسي ، " مجمع الرجال " للقهبانى ، " نقد الرجال " للتفرشى ، " جامع الرواة " للمقدسى الأردبيلى ، " مناقب آل أبى طالب " لابن شهر أشوب ، " مرآة الأنوار " لمحمد بن طاهر العاملي .
فهذه على سبيل المثال لا الحصر ، أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ ، فالعجب كل العجب من فقهائنا أمثال المرتضى العسكري ، والسيد محمد جواد مغنية ، وغيرهما ... في نفى وجود هذه الشخصية ، ولا شك أن قولهم ليس فيه شيء من الصحة .
انتهى كلام السبد حسين الموسوي ، العالم الشيعي النجفي ، ومصادره كلها شيعية كما ذكر
مقدمة الجزء الأول
بعد أن انتهينا من التمهيد للكتاب كله بأجزائه الأربعة ننتقل إلى مقدمة هذا الجزء الأول ، فأقول مستعينا بالله سبحانه وتعالى:
لا شك أن الإمامة قد حظيت بكثير من الدراسة والبحث ، ولا غرو فأعظم خلاف وقع بين المسلمين إنما كان بسببها .(1/299)
والشيعة الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة وإليها اتجهت دعوة التقريب ، لذا رأيت أن أبين عقيدة الإمامة عندهم كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم ، دون اعتماد على شيء مما كتب عنهم ، فبعض من كتبوا عنهم خلطوا بينهم وبين فرق شيعية أخرى .
والإسلام - عقيدة وشريعة - إنما يستمد أصلاً من الوحي الذي أنزله الله عز وجل في كتابه المجيد ، وما بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة.
وصحة عقيدة الجعفرية أو بطلانها لا يثبت إذن إلا بالكتاب والسنة. لهذا رأيت أن أحدد أهم أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، وأبين وجهة نظرهم ، وأناقشهم فيما ذهبوا إليه.
وإذا كان من اليسير أن نحدد أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، فمن العسير تعيين أدلتهم التي تستند إلى السنة النبوية الشريفة ، لأن السنة مجال واسع رحب ، ودور الكذّابين والوضاعين معروف . والجعفرية معنيون كل عناية بالحديث عن الإمامة ، ومحاولة إثبات صحة مذهبهم بالأدلة النقلية والعقلية ،ولهم في القديم والحديث مئات المؤلفات ، بل عشرات المئات ، فقلما نجد عالماً من علمائهم لم يدل بدلوه في هذا الميدان . وفى مؤلفاتهم نرى الميل إلى الإكثار الزائد من النقل والجدل ، مثال هذا أنهم يستدلون على صحة الإمامة بأحد الأحاديث ، فجاء كاتب من كتابهم وألف كتاباً في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة هذا الحديث وشهرته ، ومن قبله يقرون كتب غيره كتاب الألفين - أي من الأدلة - في إمامة أمير المؤمنين ؟!
وأمام هذا الفيض الزاخر رأيت أن اعتمد أساساً على ثمانية كتب من كتب السنة هي : الموطأ ومسند الإمام أحمد ، والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، ثم جمعت كل ما جاء فيها متصلاً بالإمامة سواء أأيد رأيهم أم عارضه ، وناقشت ما جمعت سنداً ومتناً لنتبين دلالة السنة.(1/300)
أما كتب السنة عند الجعفرية فلم أعتمد عليها لأننى عندما اطلعت عليها رأيت أنها ما وضعت إلا من أجل عقيدتهم وما يتصل بها . على أن كتب الجعفرية التي ينشرونها في الأوساط المختلفة وتتعرض لعقيدتهم في الإمامة ، تذكر أن هذه العقيدة تؤيدها كتب السنة عند جمهور المسلمين ، ويذكرون أخباراً كثيرة ينسبونها لهذه الكتب ويحتجون بها . وجمعنا لما جاء في الكتب الثمانية المذكورة آنفاً ومناقشة ما جمع يغنى عن مناقشة ما جاء في كل كتاب من مئات الكتب الجعفرية .
غير أننى لم أكتف بهذا ، بل رأيت تخصيص فصل لأدلتهم التي يذكرونها ، مع مناقشتها ، وهى تعتمد على تحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى ، وعلى الأحاديث الموضوعة المفتراة .
وهذه الأدلة نرى معظمها في كتابين من كتبهم .
أولهما : كتاب منهاج الكرامة لابن المطهر الحلى ، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابة منهاج السنة النبوية .
والكتاب الثانى هو : المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، ورددت عليه بكتابي : المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى.
فتناولت في الفصل شيئاً من كتابى ابن المطهر وعبد الحسين ، والرد عليهما ، وبينت بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال .
وبعد الحديث عن عقيدة الإمامة ، والمناقشة ختمت الجزء بفصل عن العقائد التابعة لعقيدة الإمامة وأهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية. فهذا الجزء يقع في خمسة فصول :-
الفصل الأول :- الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة.
الفصل الثانى :- أدلة الإمامة من القرآن العظيم .
الفصل الثالث :- الإمامة في ضوء السنة.
الفصل الرابع :- الاستدلال بالتحريف والوضع .
الفصل الخامس :- عقائد تابعة .
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل ، إنه نعم المولي ونعم النصير ، وهو المستعان .(1/301)
" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ"، " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ علَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?"
الفصل الأول
الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة
أولا : الإمامة والخلافة
الإمامة لغة التقدم ، نقول : أمّ القوم وبهم : تقدمهم . والإمام : ما ائتم به الناس من رئيس أو غيره : هادياً كان أو ضالاً ، ويطلق لفظ الإمام على الخليفة ، وهو السلطان الأعظم وإمام الرعية ورئيسهم .
وأممت القوم في الصلاة إمامة ، وائتم به أي اقتدى .
ويطلق لفظ الإمام كذلك على القرآن الكريم ، فهو إمام المسلمين ، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو إمام الأئمة بأئمتها ، وعليهم جميعاً الائتمام بسنته التي نص عليها .
ويطلق على قيم الأمر المصلح له ، وعلى قائد الجند ، وقد يذكر ويراد به غير هذه المعاني (1).
ولم يرد لفظ الإمامة في القرآن الكريم ، وإنما ورد لفظ إمام وأئمة ، قال تعالى :-
" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "(2) أي جاعلك قدوة يؤتم به ، وقال سبحانه :" وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " (3) وقال عز وجل "فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ "(353???) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين صار ضعفاؤهم تبعاً لهم . وقال تعالى : "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " (354[3]) ، أي من تبعهم فهو في النار يوم القيامة .(1/302)
ومن المفهوم اللغوى لكلمة إمام نستطيع أن ندرك سبب إطلاق هذا الاسم على حاكم المسلمين ، كما وجدنا ترادفاً بين الإمامة والخلافة . ويفسر هذا أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله فيقول : " سميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شئون المسلمين ، وتسمى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً ، ولأن طاعته واجبة ، ولأن الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة "(355[4]).
وأعظم خلاف بين الأمة - كما يقول الشهر ستانى - خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (356[5])
وبالطبع ما كان الخلاف ليجد مكانا بين المسلمين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسم الخلاف ، ويصلح النفوس ويهدى إلى صراط مستقيم
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (357[6])
ثانيا : التفكير في الإمامة وبيعة الصديق
أكان المسلمون يفكرون فيمن يخلف الرسول الكريم في إمامتهم وعلى وجه الخصوص عندما اشتد مرضه الأخير ؟(1/303)
وردت روايات صحيحة الإسناد تفيد وجود مثل هذا التفكير ، منها ما جاء عن ابن عباس أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفى فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً ، قال ابن عباس : فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب فقال : ألا ترى أنت ؟ والله إنى أعرف وجوه بنى عبدالمطلب عند الموت ، فاذهب بنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر ؟ فإن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا ، فقال على : والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً ، فوالله لا أسأله أبداً (358[7]).
وجاء عن على - كرم الله وجهه - قال : " قيل : يا رسول الله ، من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا علياً ، ولا أراكم فاعلين ، تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " (359[8])(1/304)
معنى هذا أن التفكير في الإمامة نبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الخلاف لم ينشأ إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث كان اجتماع السقيفة المشهور الذي انتهى بالبيعة للخليفة الأول ، وتحدث الخليفة الثانى في إحدى خطبه عن ذلك الاجتماع فقال : " بلغنى أن قائلاً منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغترن امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة أبى بكر فلتة ، وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بنى ساعدة ، وخالف عنا على والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر ، فقلت لأبى بكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالى عليه القوم ، فقالا : لا عليكم أن تقربوهم ، اقضوا أمركم ، فقلت : ماله ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وكنت زورت مقالة أعجبتنى أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر ، وكنت أدارى منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبوبكر فكان هو أعلم منى وأوقر . والله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم(1/305)
أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى ، ولا يقربنى ذلك من إثم ، أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسى عند الموت شيئاً لا أجده الآن . فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش . فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، قال عمر : وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبى بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد ، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو و لا الذي بايعه تغرة أن يقتلا "(360???).
ثالثاً : الإمامة عند الجمهور
مما ذكره الفاروق نلاحظ ما يأتي :-
أولاً : لا خلاف حول وجوب إقامة خليفة ، وإنما كان الخلاف بشأن من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم . وإلى هذا انتهى جمهور السنة ، فلا يستقيم أمر الأمة بغير حاكم .
ثانياً : أن الخلافة في قريش : " لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش " ولم يأخذ الأنصار بهذا أول الأمر ، ولكن ما أسرع أن بايعوا قريشاً ما عدا سعد عبادة فلم يبايع ، ويؤيد ما ذكره الصديق أحاديث صحيحة : فالبخارى - في كتاب الأحكام من صحيحه -جعل باباً بعنوان " الأمراء من قريش " ، ومما آخرجه هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وقوله صلوات الله عليه : " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان " .(1/306)
وفى كتاب الإمارة من صحيح مسلم نجد " باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش " ، ومما جاء في هذا الباب قول الرسول الكريم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال هذا الأمر في قريش مابقى من الناس اثنان " .
وأخرج أحمد في مسنده روايات كثيرة صحيحة الإسناد تؤيد هذا ، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما بعد ، يا معشر قريش ، فإنكم أهل هذا الأمر ، ما لم تعصوا الله ، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب - لقضيب في يده - ثم لحا قضية ، فإذا هو أبيض يصلد " (361????)
ثالثاً : لا يكون خليفة إلا بالبيعة " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم " . " فقلت ابسط يدك ياأبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار " .
فإذا تمت البيعة وجب الوفاء بها ، ولهذا قال " خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على مالا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد " وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (2) وقال أيضا: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (362[11])
رابعا : ما دام الواجب الوفاء بالبيعة فلا بيعة إلا بمشورة المسلمين " فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " والشورى مبدأ معروف في الإسلام فمن المقطوع به أن الحكم في الإسلام ينبنى على مبدأين أساسيين هما العدالة والشورى ، قال تعالى:-
" وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " (363[12]). وقال جل شأنه:-" وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " (364[13]) " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"َ (365[14])(1/307)
خامساً :-أن البيعة تمت لأبى بكر بهذه السرعة ، بغير تدبير سابق وإنما كانت فلتة نظراً لمكانته . " ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر " (...... " كان والله أن أقوم فتضرب عنقى - لا يقربنى ذلك من إثم - أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر " .
بعد هذه الملاحظات نقول : إنه في ضوء ما سبق وغيره اشترط الجمهور للخلافة الراشدة ، خلافة النبوة ، أن تكون لقرشى عادل عن طريق البيعة والشورى ، على خلاف في بعض الأمور مثل تحديد من تنعقد بهم البيعة(366????) .
ورأي الأنصار في أحقيتهم للخلافة انتهى بالبيعة ، ولم يطل على التاريخ من جديد ، ولكن أولئك القرشيين الذي امتنعوا عن البيعة أول الأمر، ثم ما لبثوا أن بايعوا كان لهم شأن آخر في تاريخ الأمة الإسلامية . والمشهور أن هؤلاء لم يبايعوا لأنهم يرون أن الإمامة ليست في قريش بصفة عامة ، وإنما هي في أهل بيت النبوة وللإمام على بصفة خاصة . وهؤلاء قلة يذكر لنا التاريخ منهم بعض الصحابة من غير بنى هاشم كالمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسى ، وأبى ذر الغفارى رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ولكنهم جميعاً لم يتعرضوا للخليفة بتكفير أو تجريح . وعرض أبوسفيان البيعة على الإمام على ولكنه أبى لقوة دينه وفرط ذكائه .
*****
رابعاً : على وبيعة من سبقه(1/308)
إذا كان المشهور يدل غالباً على واقع الأمر . فإن من الأمور ما يشتهر مخالفاً للحقيقة . فمما اشتهر أن الإمام علياً لم يبايع لأنه كان يرى أحقيته بالإمامة من غيره . ولكن الثابت من أقواله يدل على أنه كان يرى ألا يقضى مثل هذا الأمر دون أن يكون له فيه رأي ، مع اعترافه بأفضلية الصديق ، وعدم إنكار أحقيته لإمامة المسلمين : روى البخاري أن الإمام علياً عندما أراد مبايعة الصديق رضي الله عنهما أرسل إليه فجاءه ، فتشهد على فقال : " إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً ، حتى فاضت عينا أبى بكر . فلما تكلم أبو بكر قال : والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى ، وأما الذي شجر بينى وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته . فقال على لأبى بكر : موعدك العشية للبيعة . فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد ، وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة ، وعذره بالذى اعتذر إليه ، ثم استغفر وتشهد على فعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ولا إنكارا للذى فضله الله به ،ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسر بذلك المسلمون وقالوا : أصبت . وكان المسلمون إلى على قريباً حين راجع الأمر بالمعروف" ( كتاب المغازي باب غزوة خيبر). وروى مسلم أكثر من رواية تفيد ما سبق ، وفى إحدى رواياته " ثم قام على فعظم من حق أبى بكر ، وذكر فضيلته وسابقته ، ثم مضى إلى أبى بكر فبايعه ، فأقبل الناس إلى على فقالوا : أصبت وأحسنت " (كتاب الجهاد - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث ماتركنا فهو صداقة ) . واستبد بالأمر : إذا انفرد به غير مشارك له فيه(1/309)
، وقول الإمام : ولكنك استبددت علينا بالأمر : أي لم تشاورنا في أمر الخلافة .
ومن المشهور كذلك أن الإمام علياً لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنهما ، ولكن يوجد ما يدل على أنه لم يتآخر هذه الفترة.
وقبل انتهاء فترة الخلافة الأولى القصيرة - التي بارك الله تعالى فيها أيما بركة - كان الصديق قد استقر رأيه على استخلاف عمر بعد تعرفه على آراء كثير من الصحابة الكرام . على أن بعض هؤلاء قد تخوف من خلافة الفاروق لما اشتهر به من الشدة ، وقالوا لأبى بكر : قد وليت علينا فظاً غليظاً ، فقال : لو سألنى ربى يوم القيامة لقلت : وليت عليهم خيرهم (367????) .
وعندما أخذ رأي المسلمين في البيعة لمن ذكر في كتاب الخليفة الأول قالوا : نسمع ونطيع ، غير أن على بن أبى طالب انفرد بقوله : " لا نرضى إلا أن يكون عمر " (368????) .
ولم يتأخر أحد عن بيعة عمر بن الخطاب إلا سعد بن عبادة . ومرت الخلافة العمرية الراشدة ، وانتهى الأمر إلى الستة (369????) ليختاروا واحدا منهم ، ثم انحصرت الخلافة في ثلاثة ، فاثنين هما عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب ، ثم كانت البيعة الجماعية لذى النورين ، فلماذا انتهت إليه ؟(1/310)
روى البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة " أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبدالرحمن : لست بالذى أنافسكم على هذا الأمر ، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم ، فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن ، فلما ولوا عبدالرحمن أمرهم ، فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالى ، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور : طرقنى عبدالرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائماً ، فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم ، انطلق فادع الزبير وسعداً ، فدعوتهما له فشاورهما ، ثم دعانى فقال : ادع لي علياً فدعوته ، فناجاه حتى ابهار الليل ، ثم قام على من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبدالرحمن يخشى من على شيئاً ، ثم قال : ادع لي عثمان فدعوته ، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح . فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر ، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار ، وأرسل إلى أمراء الأجناد ، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبدالرحمن ، ثم قال : أما بعد يا على إنى قد نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً ، فقال : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده ، فبايعه عبدالرحمن ، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون(370[19]).(1/311)
وكانت السنوات الأولى في عهد عثمان خيراً وبركة ، ثم بدأت الفتنة التي أدت إلى مقتله . وقد بذل الإمام على كل ما استطاع في سبيل إخمادها ولكن هيهات ! وفى هذه الفترة بدأت الأنظار تتعلق بعلى ، وتذكر ما له من فضل ومكانة . إذا ما انتقل الخليفة الشهيد إلى حيث بشره الرسول صلى الله عليه وسلم تجمع المسلمون حول أبى الحسن علهم يجدون على يديه مخرجاً . وتمت البيعة ولكن لم تنته الفتنة ، بل زاد أوراها ، وسالت دماء طاهرة على أرض الإسلام بسيوف المسلمين! وعلى قتله عثمان الوزر الأكبر لكل ما نتج عن هذه الفتنة ، ولكن " وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" (371????) .
وكان من نتيجة حادثة " التحكيم " الشهيرة أن انسل جماعة من أتباع الإمام وخرجوا على المتحاربين معاً ، على ومعاوية ! وهؤلاء هم الذين سموا " الخوارج " أما الذين ظلوا مع الإمام فهم الذين أطلق عليهم لقب " الشيعة " . (372????)
خامساً : الخوارج ورأيهم في الإمامة
الخوارج لا يزال لهم بقية إلى يومنا هذا (373????) وقد انقسموا فرقاً على مر التاريخ " ويجمع الخوارج على اختلاف مذاهبها : إكفار على ، وعثمان وأصحاب الجمل ، والحكمين ، ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما ، ووجوب الخروج على السلطان الجائر " (374[23]) .
وللخوارج رأي خاص في الإمامة :(1/312)
فالإمام لا يكون إلا باختيار حر من المسلمين ، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم . ويظل رئيساً للمسلمين ما دام قائماً بالعدل مجتنباً للجور ، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه ، ولكن إذا غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله . ولا يشترطون القرشية كما اشترط الجمهور ، فللأمة أن تختار من تشاء ولو كان عبداً حبشياً . كما أن فرقة منهم وهى "النجدات" أجمعت على أنه لا حاجة بالناس إلى إمام وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم ، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز ، فإقامة الإمام في نظرهم ليست واجبة بإيجاب الشرع بل جائزة ، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة.وفرقة أخرى منهم وهى " الشبيبية " أتباع شبيب بن يزيد الشيبانى - " أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم . وخرجت على مخالفيهم ، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت " (375????)
سادساً : الإمامة عند الزيدية
الشيعة على اختلاف فرقهم يرون وجوب إمام ، ولكن رأيهم في الإمامة يخالف ما ذهب إليه جمهور المسلمين .
وأقربهم إلى الجمهور فرقة الزيدية ، أتباع زيد بن على بن الحسين بن علىبن أبى طالب رضي الله عنهم . فبعد استشهاد الإمام الحسين ذهبت فرقة من الشيعة إلى أن الإمامة لا تكون إلا في أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها ، ويستوى في هذا أولاد الحسن وأولاد الحسين ، ورأوا أن كل فاطمى عالم شجاع سخى خرج بالإمامة فهو إمام واجب الطاعة ، وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ، فلما خرج زيد بن على في عهد هشام بن عبد الملك بايعه هؤلاء.(1/313)
وكان من مذهب الإمام زيد جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل ، فقال : " كان على بن أبى طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة ، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوها ، وقاعدة دينية راعوها ، من تسكين نائرة الفتنة ، وتطييب قلوب العامة ، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً ، وسيف أمير المؤمنين على عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد . والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي ، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد ، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والتقدم بالسن ، والسبق في الإسلام ، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.... وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام ، ويحكم بحكمه في القضايا " (376????)
ولما سمعت شيعة الكوفه هذه المقالة منه ، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين ، وإنما قال : " إنى لا أقول فيهما إلا خيراً ، وما سمعت أبى يقول فيهما إلا خيراً ، وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسين " عندما سمعوا ذلك فارقوه ، ورفضوا مقالته حتى قال لهم : رفضتمونى ، ومن يومئذ سموا رافضه (377????) .
وفرق الزيدية منهم من يتفق مع ما ذهب إليه الإمام زيد ومنهم من خالفه ، فالجارودية زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإمام على بالوصف دون التسمية ، وهو الإمام بعده ، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف ، ولم يطلبوا الموصوف ، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم فكفروا بذلك (378[27]).
ولكن باقي فرق الزيدية ذهبوا إلى أن الإمامة شورى فيما بين الخلق ، وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل ، وأثبتوا إمامة الشيخين أبى بكر وعمر حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً ، واختلفوا في عثمان فمنهم من طعن ، ومنهم من توقف (379[28]).
سابعاً : الإمامة عند الإسماعيلية(1/314)
أما الشيعة الإمامية فهم يرون أن الإمامة منصب إلهى يختار له الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي ، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمر باتباعه .
ويقولون : إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وقد بلغ الرسول الكريم ربه ، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يتبع المسلمون أمر الله تعالى و لا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتركوا ركناً من أركان الإيمان . ويرون أن النص بعد الإمام على لابنه محمد الباقر ، فابنه جعفر الصادق . وبعد القول بإمامة أبى عبد الله جعفر الصادق نرى منشأ أكبر فرقتين من فرق الشيعة هما الإسماعيلية والجعفرية الاثنا عشرية .
فالإسماعيلية جعلوا الإمامة بعده لابنه إسماعيل ، الابن الأكبر ، وافترق هؤلاء فرقتين :
فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر ، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه . وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر حيث إن جعفر نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل ، وإلى هذا القول مالت الإسماعيلية الباطنة (380[29]).
والإسماعيلية جعلوا الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد المكتوم ، ومنهم من وقف عليه وقال برجعته بعد غيبته ، ومنهم من ساق الإمامة في أئمة " مستورين" منهم ، ثم في (ظاهرين قائمين ) من بعدهم . وقالوا : لم تخل الأرض قط من إمام حى قائم . إما ظاهر مكشوف ، وإما باطن مستور .
فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً ، وإذا كان الإمام مستوراً فلابد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين .
ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية (381????).
ثامناً : عقيدة الإمامة عند الجعفرية(1/315)
الجعفرية الاثنا عشرية ـ وهم أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة ـ لهم عقيدة خاصة في الإمامة أحب بيانها بشئ من التفصيل ، فأقول :
يعتقد الجعفرية أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحي ، فالقول فيه مخلتف ، ولذلك قالوا (382????).
إن الإمامة أصل من أصول الدين :-
لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها ، فمن لم يذهب مذهبهم في الإمامة فهم يجمعون على أنه غير مؤمن ، وإن اختلفوا في تفسير غير المؤمن هذا : فمن قائل بكفره ، إلى قائل بالفسق ، وأكثرهم اعتدالا أو أقلهم غلواً يذهب إلى أنه ليس مؤمناً بالمعنى الخاص وإنما هو مسلم بالمعنى العام ، ما لم يكن مبغضاً للأئمة وشيعتهم فضلاً عن حربهم فهو يعد كافراً عند جميع الجعفرية .
ذكر الحلى ـ الملقب عند الجعفرية بالعلامة ـ بأن إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة ! حيث قال : " الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حى بخلاف الإمام....وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص " (الألفين 1/3) .
وعقب أحد علمائهم على هذا بأنه " نعم ما قال " وأضاف : وإلى هذا أشار الصادق بقوله عن منكر الإمامة هو شر الثلاثة ، فعنه أنه قال : الناصبى شر من اليهودى . قيل : وكيف ذلك يا بن رسول الله ؟ فقال : إن اليهودى منع لطف النبوة وهو لطف خاص ، والناصبى منع لطف الإمامة وهو عام ( انظر حاشية ص43 النافع يوم الحشر ) .
وفى مصباح الهداية (ص 61-62 ) ذكر المؤلف أن الإمامة مرتبة فوق النبوة !
وقال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق : " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء . واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( رسالته في الاعتقادات ص 103 ) .(1/316)
وقال المفيد : " اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة ، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار"( بحار الأنوار للمجلسى 23/390، والمجلسى ذكر قول المفيد لتأييد رأيه ) . والمفيد كان رأس الإمامية ، وشيخاً لشيخ طائفتهم أبى جعفر الطوسي .
وإلى جانب ضلال هؤلاء القوم وغلوهم نجد غلوهم في جانب آخر ، فهم يرون أن الفاسق منهم يدخل الجنة وإن مات بلا توبة ! (انظر أجوبة المسائل الدينية - العدد الثامن-المجلد التاسع ص 226وراجع كتابى : فقه الشيعة الإمامية 1/15).
الإمام كالنبي في عصمته وصفاته وعلمه :-
فالإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، من سن الطفولة إلى الموت ، عمداً وسهواً ، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان !
ويجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق .
أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله .
وإذا استجد شئ فلابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقى ، لا يخطئ فيه و لايشتبه عليه ، و لا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية ، ولا إلي تلقينات المعلمين ، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد . وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسدده ويرشده ويعلمه ، فلما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده . ولم يصعد ليؤدى نفس وظيفته مع الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم (383[32]).(1/317)
لابد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين ، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ، ورفع الظلم والعدوان من بينهم ، وعلى هذا فإن الإمامة استمرار للنبوة .
الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم ، وهم الشهداء على الناس ، وأبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه . فأمرهم أمر الله تعالى ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته ، ووليهم وليه وعدوهم عدوه . ولا يجوز الرد عليهم ، والراد عليهم كالراد على الرسول ، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى ، فيجب التسليم لهم ، والانقياد لأمرهم ، والأخذ بقولهم .
ولذا فالجعفرية يعتقدون أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير ماء أئمتهم ، ولا يصح أخذها إلا منهم ، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى ، غيرهم ، و لايطمئن بينه وبين الله تعالى إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم .
مادامت الإمامة كالنبوة فهى لا تكون إلا بنص من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو على لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق ، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه هادياً ومرشداً لعامة البشر ، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه ، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله تعالى ، ولا يعين إلا بتعيينه .(1/318)
ويعتقدون كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خليفته والإمام في البرية من بعده ، فعين ابن عمه على بن أبى طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحى ،وإماماً للخلق في عدة مواطن ، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم غدير خم . كما أنه صلى الله عليه وسلم بين أن الأئمة من بعده اثنا عشر ، نص عليهم جميعاً بأسمائهم ، ثم نص المتقدم منهم على من بعده .
6-الأئمة الاثنا عشرية الذين نص عليهم الرسول صلى الله عليه وسلمهم :-
1- ابو الحسن على بن أبى طالب ( المرتضى ) الذي ولد قبل البعثة بعشر سنوات ، واستشهد سنة أربعين من الهجرة .
2- أبو محمد الحسن بن على " الزكى "
(3-50)
3- أبو عبد الله الحسين بن على "سيد الشهداء "
(4-61)
4- أبو محمد على بن الحسين " زين العابدين "
(38-95)
5-أبو جعفر محمد بن على " الباقر"
(57-114)
6- أبو عبد الله جعفر بن محمد " الصادق "
(83-148)
7- أبو إبراهيم موسى بن جعفر " الكاظم "
(128-183)
8- أبو الحسن على بن موسى " الرضا "
(148-202 أو 203)
9- ابو جعفر محمد بن على " الجواد "
(195-220)
10-أبو الحسن على بن محمد " الهادى "
(212أو 214-250)
11-أبو محمد الحسن بن على " العسكري"
(232-260)
12-أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدى " وهو الحجة في هذا العصر الغائب ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً . قيل ولد سنة 256 هـ ، وغاب غيبة صغرى سنة 260 هـ ، وغيبة كبرى سنة 329
تعقيب
بعد بيان عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم أذكر بما يأتي :-(1/319)
جعلهم الإمامة أصلا من أصول الدين فيه طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فما منهم من أحد يقول بالإمامة التي تقصدها هذه الفرقة ، حتى أن الإمام علياً رضى عنه هو نفسه لم يقل بهذا كما بينت وأثبت فيما جاء تحت عنوان " رابعاً : على وبيعة من سبقه " ، وأول من قال بالوصى بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ كما نقلت من المراجع الشيعية نفسها في التمهيد .
إجماعهم على تكفير من حارب أمير المؤمنين على بن طالب رضي الله عنه يعنى تكفير آلاف الصحابة الكرام البررة ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شهد لهم بالخيرية ، وبشر بعضهم بالجنة ، بل يصطدم مع كتاب ربنا عز وجل ، فمنهم من شهد الله سبحانه وتعالى بأنه رضى عنهم ، ولم يثبت أنه عاد فسخط عليهم فمن أين إذن جاءوا بهذه الفرية الكبرى ؟!
ما سبق من قول المفيد ـ شيخ طائفتهم الطوسي ، وابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق ، وصاحب أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم ، وابن المطهر الحلى الملقب عندهم بالعلامة ، وغيرهم يدل على أنهم يرون تكفير الأمة كلها ما عدا الرافضة وأتباع عبد الله بن سبأ ، وعلى الأخص خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه . وهذا ما سنراه عند تناولنا لكتاب الكافى للكلينى ، وهو أول وأعلى كتب الحديث المعتمدة عندهم ، وكتاب شيخه على بن إبراهيم القمي في التفسير .(1/320)
وفى كتابى " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت أن عبد الله الحسين شرف الدين يرى هذا الرأي الفاجر الكافر الضال ، وهذا يقطع بأن مسألة تكفير الأمة والصحابة الكرام ليس مسألة تاريخية جاءت في كتب التراث عندهم كما يحلو لدعاة التقريب عن جهل أو تضليل أن يبرروا هذا الضلال. بل إن عبدالحسين الذي يرى هذا الرأي ذكر أنه من دعاة التقريب !! وقد جاء هذا في أحد مؤتمرات التقريب في طهران ، وعبدالحسين في كتابيه المراجعات والفصول المهمة في تأليف الأمة يعتبر فعلاً من دعاة التقريب ولكن بمفهوم خاص !! فهو يدعو إلى تأليف الأمة كلها وجمعها تحت راية عبد الله بن سبأ ، وجعلها جميعها من الرافضة التي رفضت تبرئة الشيخيين خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت على تكفيرهما وتكفير من بايعهما !!
ويحضرنى هنا ما اشتهر عن أبى زرعة الرازى أنه قال :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق : وذلك أن القرآن حق ، والرسول صلى الله عليه وسلم حق ، وما جاء به حق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة . فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
قولهم بوجوب استمرار الإمامة أبداً دون انقطاع أو توقف إلى يوم القيامة بعد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ في أحد من نسله ، بحيث يكون الابن خلفا للأب ، هذا القول جعلهم يضطرون إلى تنصيب طفل صغير في السابعة من عمره ، وهو إمامهم محمد الجواد الإمام التاسع ، ولذلك وجدنا فرقتين من شيعة أبيه على الرضا لم يعترفوا بإمامته لأنهم استصبوه واستصغروه . وفى كتاب فرق الشيعة (ص 92) للنوبختى والقمى الشيعيين جاء بيان هذا حيث قالا :(1/321)
" إن أبا الحسن الرضا عليه السلام توفى وابنه محمد ابن سبع سنين ، فاستصبوه واستصغروه ، وقالوا : لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا ، ولو جاز أن يأمر الله ـ عز وجل ـ بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ ، فإنه كما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ ، فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس ، دقيقه وجليله، وغامض الأحكام وشرائع الدين ، وجميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها ، طفل غير بالغ ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة ، لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولة ، حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق ، وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف " ا. هـ
وكذلك اعتبروا ابنه عليا الهادى إماما وهو في السادسة من عمره ، وعلى قول آخر في الثامنة ، أي أنه كسابقه في سن الطفولة !
وأعجب من هذا كله قولهم بعد إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري : فقد توفى ولم ير له خلف ، ولم يعرف له ولد ظاهر ، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه ، فافترق أصحابه من بعده أكثر من عشر فرق ، فاخترع الاثنا عشرية له ابنا طفلا إماما حيا لا يموت إلى يوم القيامة !! وهو غائب يحج كل عام يرانا و لانراه !!
والإمامية الذين ساروا مع ضلال الاثنى عشرية في أحد عشر إماما ، جميعهم ـ ما عدا فرقة واحدة ـ قالوا وأكدوا أن الحسن العسكري ليس له ولد .(1/322)
من يراجع كتب الفرق يجد ظاهرة عامة وهى افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عند موت كل إمام ، وكل فرقة من هذه الفرق يمكن أن تفترق هي الأخرى إلى عدة فرق . وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان لشىء من هذا في موضوع تدوين السنة عند الشيعة في الجزء الثالث ، ونجد من هذه الفرق من بلغت درجة تأليه بعض البشر ، والشرك بالله عز وجل ، ومن ادعت نبوة فرد من أفرادها ، ومن استباحت اللواط ونكاح المحارم ، وقالت : من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه !
والمهم أن كل فرقة من هذه الفرق الضالة تزعم أنها هي الفرقة الناجية ، وأنها تمثل مذهب أهل البيت ! وأهل البيت الأطهار الأبرار برءاء منهم جميعاً .
وإن تعجب فعجب قول كل فرقة أنها مؤيدة بالكتاب العزيز ، والسنة المطهرة !!
ويأتى لهذا مزيد بيان في الفصل التالي ، وفى التدوين وكتب الحديث عند الاثنى عشرية في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
الفصل الثاني
أدلة الإمامة من القرآن العظيم
" بين يدى الفصل "
من المعلوم أن القرآن الكريم ليس فيه نص ظاهر يؤيد المذهب الجعفرى ، فلجأ معتنقوه إلى التأويل ، والاستدلال بروايات ذكرت في أسباب النزول لآيات كريمة . وأهم ما استدل به الجعفرية هو :
قال تعالى :
" إِنمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " (384????)
هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية ، ويقولون : إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل هو على بن أبى طالب ، لأن لفظة " إنما " تفيد الحصر و " وليكم " تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته ، والآية الكريمة نزلت في على بلا خلاف - كما يقولون - عندما تصدق بخاتمه وهو راكع .
في آية المباهلة(1/323)
" فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " (385[34])
3 - قال تعالي :
" وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (386[35])
قالوا :إن المراد بأهل البيت هنا على وفاطمة والحسن والحسين ، وهذه الآية الكريمة تدل على عصمتهم ، والإمامة تدور مع العصمة .
4- قال سبحانه وتعالى :"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (387[36])
قالوا : إن هذه الآية الكريمة قد أبطلت إمامة كل ظالم ، فصارت في الصفوة من ذرية إبراهيم الخليل . ومن عبد غير الله ولو لحظة فهو ظالم ، وعلى هو الذي لم يعبد صنماً قط . أما غيره من الخلفاء فهم ظالمون لا يستحقون هذه الخلافة .
ومعنى هذا أن القرآن الكريم - على قولهم - قد أشار في أكثر من موضع أن عليا هو المستحق للإمامة دون غيره ، ولذلك فهم يعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علىِّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس ، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره ، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم ، وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك ، فأوحى إليه :(1/324)
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (388[37])
فلم يجد بداً من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد ، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم ، فنادى وجلهم يسمعون :
" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : اللهم بلى . فقال : من كنت مولاه فهذا على مولاه ، إلى آخر ما قال ، ثم أكد ذلك في مواطن آخرى تلويحاً وتصريحاً ، وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة(389[38]).
وقبل أن ينصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من غدير خم وقبل أن يتفرق الجمع نزل قوله تعالى : "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " (390[39])(1/325)
فقال رسول صلى الله عليه وسلم : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتى ، والولاية لعلى من بعدى ، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين وفى مقدمتهم الشيخان(391[40]). فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها ، فقال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلى خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك ففضلته علينا ، وقلت من كنت مولاه فعلى مولاه ، فهذا شىء منك أم من الله عز وجل ؟ فقال : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله . فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله عز وجل : "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " (392[41])الآيات (393[42])
هذه الآيات الكريمة السبعة السابقة هي أساس ما يستدلون به من القرآن الكريم ، فلنعرض رأيهم ، ونناقشه بالتفصيل .
أولا : الولاية
ننظر في الآية الكريمة الأولى ، آية الولاية كما يسميها الجعفرية والتي يعتبرونها نصاً صريحاً في إمامته ، فنجد أنهم يروون أنها نزلت في على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فأومى بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره .
وقالوا في المعنى : إن الله تعالى بين من له الولاية على الخلق ، والقيام بأمورهم ، وتجب طاعته عليهم فقال :(1/326)
"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ" أي الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، " وَالَّذِينَ آمَنُواْ " ثم وصف الذين آمنوا فقال:" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ " بشرائطها "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" أي يعطونها في حالة الركوع .
ثم قالوا : هذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة على بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ، والوجه فيه أنه إذا ثبت أن لفظ وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته ، وثبت أن المراد بالذين آمنوا على ، ثبت النص عليه بالإمامة ، ووضح . الذي يدل على الأول هو الرجوع إلى اللغة ، فمن تأملها علم أن القوم نصوا على ذلك ، ولا يجوز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة ، لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر ، ولفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور . والذى يدل على أن المراد بالذين آمنوا على الروايات الكثيرة . فهو وحده الذي تصدق في حال الركوع ، كما أن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية ، وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه (394[43]).
هذا ما ذهب إليه الجعفرية ، ولكن أهل التأويل - كما يقول الطبري(395????).
-اختلفوا في المعنى بقوله تعالى :
"وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"، فقال بعضهم : عنى به على بن أبى طالب ، وقال بعضهم : عنى به جميع المؤمنين .
وذكر الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه القائلون بأن المعنى به جميع المؤمنين ، وفى بعضها تعجب ممن سأل عن المراد بالذين آمنوا ، لأنه يسأل عن شيء لا يسأل عن مثله . ثم ذكر روايتين :
الأولى : عن إسماعيل بن إسرائيل قال : حدّثنا أيوب بن سويد قال ، حدّثنا عتبة بن أبى حكيم في هذه الآية " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ " قال : على بن أبى طالب.(1/327)
الثانية : هي حدثني الحارث قال : حدثني عبدالعزيز قال : حدّثنا غالب بن عبيد الله قال ، سمعت مجاهداً يقول في قوله : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ " قال : نزلت في على ابن أبى طالب ، تصدق وهو راكع .
والرواية الأولى في سندها أيوب بن سويد ، وعتبة بن أبى الحكيم : فأما أيوب فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما . وقال البخاري في الكبير " يتكلمون فيه " (396????) وأما عتبة فقد ضعفه ابن معين ، وكان أحمد يوهنه قليلاً ، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات (397[46]).
فهذه الراوية إذن ضعيفة السند . والرواية الثانية في سندها غالب بن عبيد الله وهو منكر الحديث متروك(398????) فراويته لا يؤخذ بها .
والحافظ ابن كثير عند تفسير الآية قال (399????) : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ " أي ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله :
"الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام ، وهى له وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين . وأما قوله "وَهمْ رَاكِعُون"َفقد توهم بعض الناس أ هذه الجملة في موضع الحال في قوله: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي في حال ركوعهم ، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح ، وليس الأمر كذلك عند أحد العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى . وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبى طالب أن هذه الآية نزلت فيه ، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه .(1/328)
وذكر ابن كثير الروايات التي تشير إلى هذا ، ثم بين أنها لا يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها . ثم قال : وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حيث تبرأ من حلف اليهود ، ورضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
كما قال تعالى : "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(...أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" .
فكل من رضى بولاية الله ورسله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ، ومنصور في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة . " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
وبعد هذا كله نذكر بعض الملاحظات :
بدراسة روايات الطبري ، ومما ذكره الحافظ ابن كثير ، نجد أن رواية التصدق في حالة الركوع لا تصح سنداً ، يضاف إلى هذا أن كتب السنة التي رجعت إليها لم أجد فيها ذكراً لمثل هذه الرواية(400[49]).
الروايات مرفوضة كذلك من ناحية المتن كما أشار ابن كثير وغيره ، فالفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات ، سواء أكانت كثيرة أو قليلة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ، ولكن تؤثر قصوراً في معنى لإقامة الصلاة ألبتة (401[50]).(1/329)
قال ثعلب : الركوع الخضوع ، ركع يركع ، ركعاً وركوعاً : طأطأ رأسه . وقال الراغب الأصبهانى : الركوع الانحناء ، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل : إما في العبادة ، وإما في غيرها . وكانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان ، ويقولون : ركع إلى الله ، قال الزمخشري : أي اطمأن ، قال النابغة الذيبانى :
سيبلغ عذراً أو نجاحاً من امرئ إلى ربه رب البرية راكع
وتقول : ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له ، ومنه قول الشاعر :
بيعت بكسر لئيم واستغاث بهامن الهزال أبوها بعد ما ركعا
يعنى بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة .
ومنه كذلك : لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً كما قيل في قوله سبحانه:" وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" ، إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع . وكذا في قوله تعالى " وَخَرَّ رَاكِعًا " إلى غير هذا(402[51])
فقوله تعالى :- " وَهُمْ رَاكِعُونَ " يعنى به وهم خاضعون لربهم منقادون لأمره ، متواضعون متذللون في أدائهم للصلاة وإيتائهم للزكاة ، فهو بمعنى الركوع الذي هو في أصل اللغة بمعنى الخضوع .
وأرى تأييد لهذا المعنى مجئ الآية الكريمة بالفعل المضارع ، فهو يدل على أن الآية الكريمة لا تشير إلى حادثة حدثت وانتهت ، وإنما تدل على الاستمرار والدوام ، أي أن صفات المؤمنين وطبيعتهم الصلاة والزكاة وهم راكعون ، ولا يستقيم المعنى - بغير تكلف - أن يكون من صفاتهم إخراج الزكاة أثناء الصلاة .
ذكر الشيعة أن التصدق أثناء الركوع لم يقتصر على أمير المؤمنين ولكن اقتدى به باقي أئمتهم جميعاً ! وهنا يرد تساؤل : إذا كان هذا العمل من الفضائل التي امتدح بها أبو الأئمة وتبعه جميعهم فكيف لم يحرص على هذه الفضيلة سيد الخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه ؟وكذلك سائر الأمة ؟(1/330)
5. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : " وَهُمْ رَاكِعُونَ" ما يأتي:
" الواو فيه للحال : أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذ صلوا وإذا زكوا . وقيل هو حال من يؤتون الزكاة بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، وأنها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه كأنه كان مرجا في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
فإن قلت : كيف صح أن يكون لعلى رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير في الصلاة لم يؤخروه إلى الفرغ منه " (403[52])
والزمخشرى هنا ذكر أولاً المعنى المفهوم من النص ، ثم ما قيل في سبب النزول دون تمحيص ، وقد ظهر أن سبب النزول هذا غير صحيح ، فلا ضرورة للتأويل الذي ذهب إليه . ثم ما هذا الأمر الذي لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ؟ ألم يكن الأفضل أن يصلى السائل مع المصلين ؟ أو أن ينتظرهم حتى تنتهى الصلاة ؟ وكيف يذهب لراكع يسأله الصدقة ويشغله عن الصلاة ؟ ولو وجد مثل هذا السائل فكيف نشجعه على ارتكاب خطأ جسيم كهذا ؟
6. سبق قول الإمامة بأن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وهذا نوع من الجدل العقيم ، لأن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً لا أن يكون كل واحد منهم ولى نفسه . كما أن الخطاب موجه كذلك إلى أولئك الذي تبرءوا من ولاية اليهود فأولياؤهم المؤمنون ، وهم أيضاً أولياء لغيرهم من المؤمنين ، وفى مثل قوله تعالى :-(1/331)
" وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ " خطاب للمؤمنين جميعاً أفمعنى هذا أنه نهى لكل مسلم أن يلمز نفسه ؟! قال الألوسى : كيف يتوهم من قولك مثلاً : أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهى لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه ؟! (404????)
7. من المعلوم لدى جميع العلماء - شيعة وسنة - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلوصح ما ذكر في سبب النزول لا نطبق على كل من يتصف بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع كما ذكروا ، أو الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء كما أوله الزمخشري .
8. كلمة الولى تأتى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وتأتى بمعنى الناصر والخليل ، والسياق يحدد المعنى المراد ، والقرآن الكريم عندما يأمر بموالاة المؤمنين ، أو ينهاهم عن موالاة غير المؤمنين من الكفار وأهل الكتاب تأتى الموالاة بمعنى النصرة والمحبة كقوله تعالى :- " وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا" (405????)
وقوله عز وجل : " الذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " (406????)
وقوله سبحانه : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " (407????)
ولم يخرج عن هذا المعنى إلا حالات خاصة كولاية الدم وولاية السفيه . ولكن حالة من هذه الحالات لم تأت بمعنى الولاية العامة على المؤمنين (408[57]) أفآية الولاية شذت عن هذا النسق القرأنى ؟(1/332)
وقبل هذه الآية الكريمة جاء قوله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (409????) . فهذا نهى عن موالاة من تجب معاداتهم . ثم بينت الآية الكريمة - آية الولاية - من تجب موالاتهم ، ثم جاء النهى مرة أخرى في قوله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (410????)
ولا شك أن الذي جاء قبل الآية الكريمة وبعدها ينهى عن المالاة في الدين والمحبة ، فإذا جاء الأمر بالموالاة بين نهيين فإنه قطعاً لا يخرج عن هذا المعنى إلا بدليل آخر .
فكلمة " وليكم " ليست دليلاً على أن الإمامة العظمى لأبى الحسن - كرم الله وجهه . وإنما هي في حاجة إلى دليل يظهر أنها خرجت على الاستعمال القرآنى العام ، وعلى المفهوم الخاص لتلك الأيات الكريمة المتتابعة في سورة المائدة .
9. لا خلاف في أن لفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور ، ولكن الجعفرية بنوا على هذا عدم جواز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر .
وهذا الاستدلال أيضاً لا يستقيم ، فالموالاة مختصة بالمؤمنين جميعاً دون غيرهم ممن تجب معاداتهم ، وليست لمؤمن دون مؤمن ، بل إن هذا التخصيص يقتضى عكس ما ذهبوا إليه " لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع ، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف ، بل كان في النصرة والمحبة (411[60]).(1/333)
10. أمر الله تعالى للمؤمنين بموالاة أقوام ، ونهيه إياهم عن موالاة آخرين ، كل هذا صدر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ونفذ في حياته ، فكيف يكون إمام المسلمين الأعظم علياً مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
هذه بعض الملاحظات ، وأعتقد بعد هذا أن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة لا تدل بحال على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب . على أن هذه الآية الكريمة تعد أهم دليل قرآنى يستندون إليه . فلننظر بعد هذا في باقي الأدلة .
ثانياً : المباهلة
في آية المباهلة قالوا : اتفق المفسرون كافة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين ، والنساء إشارة إلى فاطمة ،والأنفس إشارة إلى على رضي الله تعالى عنه . ولا يمكن أن يقال : إن نفسهما واحدة ، فلم يبق المراد من ذلك إلا المساوى ، ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس فمساويه كذلك أيضاً (412[61]).
ونلاحظ هنا :
لو سلمنا بكل ماسبق فإن الآية الكريمة لا تنص على إمامة أحد ، لأن ولاية أمر المسلمين تحتاج إلى قدرات خاصة تتوافر في صاحبها ، حتى يستطيع أن يقود الأمة بسلام ، ويرعى مصالحها على الوجه الأكمل ، والآية الكريمة لا تشير إلى شىء من هذا و لاتتعرض للخلافة على الإطلاق ، وإنما تذكر الأبناء والنساء والأنفس في مجال التضحية لإثبات صحة الدعوى ، وهؤلاء المذكورون من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يتحقق للمعاندين صحة دعواه لتقديمه للمباهلة أقرب الناس إليه . وفرق شاسع بين مجال التضحية ومجال الإمامة ، ففي التضحية يمكن أن يقدم النساء والصغار ولكنهم لا يقدمون للخلافة .
القول بأن الإمام عليا يساوى الرسول صلى الله عليه وسلم غلو لا يقبله الإمام نفسه كرم الله وجهه ، ويجب ألا يذهب إليه مسلم ، مكانة الرسول المصطفى غير مكانة من اهتدى بهديه واقتبس من نوره .(1/334)
لو قلنا : أن الآية الكريمة تدل على أفضلية الإمام على رضي الله عنه فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة حتى عند بعض فرق الشيعة أنفسهم كالزيدية ، وهذا لا يمنعه الشرع ولا العقل ، لأن المفضول بصفة عامة قد يكون أفضل بصفة خاصة فيما يتعلق بأمور الخلافة ومصلحة المسلمين ، وكان الرسول الكريم يولى الأنفع على من هو أفضل منه (413????) .
عقب ابن تيمية على قولهم بأن الله تعالى جعل عليا نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :هذا خطأ ، وإنما هذا مثل قوله : "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُموهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا " (414????)
وقوله تعالى :"فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ " (415[64]) ، " وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيارِكُمْ "(416????)
فالمراد بالأنفس: الإخوان نسباً أو ديناً (417????) .
قال الزمخشري : " فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه . وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم . وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل لا شىء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام (418????).
وبعد : فمهما اختلفت الأقوال فالآية الكريمة تدل على مكانة أولئك الذين قدموا للمباهلة ، ولكن هذا لا صلة له بالخلافة كما بينا .(1/335)
ثالثاً : التطهير
قال تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاوَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا "(419????) فخير الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته ، فاخترن جميعاً الله ورسوله والدار الآخرة ، واستحققن بعد هذا الاختيار مخاطبة الله تعالى لهن بقوله :" يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ ((.... " إلى قوله تعالى " لَطِيفًا خَبِيرًا " (420????) . فهذه الآيات الخمس في نساء النبي كما يبدو ، ولكن جدلاً كثيراً دار حول عجز الآية الثالثة والثلاثين " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"
وهذا الجزء يطلق عليه اسم آية التطهير ، ويرى الشيعة أنه لا صلة له بما قبله ولا بما بعده ، وإنما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والسيدة فاطمة الزهراء والإمام على وبنيهما الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم جميعاً ، وأنه يدل على عصمتهم ، ومن ثم يستدلون به على مذهبهم في الإمامة .
فاستدلالهم ينبنى على ثلاث نقاط هي : تحديد المراد بأهل البيت في الآية الكريمة ، ثم دلالة الآية على عصمتهم ، وأخيراً التلازم بين العصمة والإمامة .
وقد ذهبوا إلى أن المراد بأهل البيت هم هؤلاء الخمسة فقط مستدلين بشيئين:(421????) .
الأول : الخطاب في قوله تعالى " عنكم " ، " يطهركم " بالجمع المذكر يدل - كما يقولون (- على أن الآية الشريفة في حق غير زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فسياق الآيات يقتضى التعبير بخطاب الجمع المؤنث ؛ أي " عنكن " و " يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات .(1/336)
الثانى : أخبار تدل على أنها في الخمسة الأطهار .
وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد قوله : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ"( 422????) وهذا خطاب لامرأة إبراهيمرضي الله عنه.
وقوله تعالى:" فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ" (423????) ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب .
وقوله تعالى :" وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ "(424[73])
وقوله عز وجل :" إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" (425[74])
وقوله تعالى : " وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " (426[75])
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستعمال القرآنى لا يمنع أن يكون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة نساء النبي مع الخطاب بالجمع المذكر ، بل إن المذكر هو الذي يتمشى مع هذا الاستعمال ، فلم أجد التعبير بالمؤنث مع كلمة الأهل - سواء أأريد بها الزوجات أم غيرهن - في القرآن الكريم كله (427[76]).
واحتج طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " . وهذا الحديث متفق عليه .(1/337)
وكذلك بما ورى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل : اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته ، كما صليت على آل إبراهيم ، إنك ، حميد مجيد " (428????).
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : " بنى على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً .... فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك ، فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما قال لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة " (429????)
كما أن المعنى اللغوى للأهل لا يخرج الزوجات (430????).
فالاستعمال القرآنى والنبوي واللغوى لا يخرج الزوجات من آية التطهير، والسياق إن لم يحتم دخولهن فعلى أقل تقدير يعتبر مرجحاً . هذا بالنسبة لأمهات المؤمنين . ولكن سواء أشملتهن الآية أم لم تشملهن ، فإن تخصيص المراد بالخمسة لا يكون إلا إذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك . فلننظر إذن في الروايات .
قال الطبري : حدثني محمد بن المثنى ، قال ثنا بكر بن يحيى بن زياد العنزى ، قال ثنا مندل عن الأعمش عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت هذه الآية في خمسة : في وفى على رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها " (431????).
وذكر الطبري بعد ذلك كثيراً من الروايات التي تبين أن الآية الكريمة تعنى هؤلاء المذكورين أو بعضهم ، ثم ذكر أخيراً ما روى عن عكرمة من أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة (432????).(1/338)
والروايتان الأولى والأخيرة فيهما نظر ، فأما الأولى ففي سندها عطية عن أبى سعيد الخدري ، وعطية هذا كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد ليوهم أنه الخدري . وقد ضعفه أحمد والنسائى وغيرهما (433????).
أما الرواية الأخيرة فذكرت أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس ، وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم (434????) . فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فهذا يتفق مع ما ذهب إليه كثير من المفسرين . وراوية عطية المذكورة ظهر ضعفها فلا أثر لمعارضتها ، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن فهذا معارض بكثير من الروايات ، ولذلك فالرواية لا تقٌبل إلا على الوجه الأول .
وروايات الطبري الأخرى منها رواية عن السيدة عائشة قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم قال : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" وهذه الرواية تقتصر على الحسن ، ولكنها بلا شك لا تمنع كون غيره من أهل البيت ، وقد روى الإمام مسلم عنها رواية مماثلة وفيها دخول باقي الخمسة الأطهار.
وروى الطبري عن أنمس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ" . وهذه الرواية كذلك لا تمنع شمول الآية لغير من ذكر .
وروى عدة روايات عن أم سلمة : قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي ، وعلى فاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة (435[84]) ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً "(1/339)
وفى رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم أجلسهم على كساء ، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله ، فضمه فوق رءوسهم ، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .
وهاتان الروايتان تتفقان مع رواية مسلم عن السيدة عائشة في دخول الخمسة في الآية ، ولكن هذا لا يحتم عدم دخول غيرهم .
وذكر الطبري روايتين عن واثلة بن الأسقع تتفقان مع الروايات الثلاثة السابقة وتدخلانه هو مع أهل البيت ، ففي إحداهما :
عن أبى عمار قال : إنى لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا علياً رضي الله عنه ، فشتموه ، فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، إنى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه على وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ( قلت : يا رسول الله وأنا ؟ قال وأنت . قال : فوالله إنها لأوثق عمل عندي . وفى الأخرى : اللهم هؤلاء أهلي ، اللهم أهلي أحق . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي . قال واثلة ، إنها لمن أرجى ما أرتجى ) .
ولكن باقي روايات الطبري عن أم سلمة فيها زيادات تشير إلى عدم دخولها مع أهل الكساء . وهذه الروايات هي :-
حدثني أبو كريب قال : ثنا وكيع ، عن عبدالحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلل عليهم كساء (436[85]) خيبرياً ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت أم سلمة : ألست منهم ؟ قال : أنت إلى خير.(1/340)
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا حسن بن عطية ، قال : ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية ، عن أبى سعيد ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في بيتها "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت ، وفى البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، قال : ثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثنا هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبى وقاص عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرتني أم سلمة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا والحسين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ثم قال : هؤلاء أهل بيتي . فقالت أم سلمة : يا رسول الله أدخلنى معهم . قال : إنك من أهلي " .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا عبدالرحمن بن صالح ، قال : ثنا محمد بن سليمان الأصبهانى ، عن يحيى بن عبيد المكى ، عن عطاء عن عمر بن أبى سلمة ، قال : " نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة ، وأجلسهم بين يديه ، ودعا علياً فأجلسه خلفه . فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطيراً . وقالت أم سلمة أنا معهم مكانك ، وأنت على خير "(1/341)
حدثنا ابن حميد ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم ابن سعد قال : " ذكرنا على بن أبى طالب رضي الله عنه عند أم سلمة ، قالت: فيه نزلت "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" قالت أم سلمة : جاء النبي : صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، فقال : لاتأذنى لأحد ، فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه ، وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم على بساط ، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا ، قالت : فوالله ما أنعم وقال : إنك إلى خير "
وبالنظر في هذه الروايات نجد ما يأتي :
أولاً: في الروايتين الأولى والثانية ينتهى الإسناد إلى عطية عن أبى سعيد عن أم سلمة ، وقد بينا ضعف عطية ورواياته عن أبى سعيد .(1/342)
ثانياً :- في إسناد الرواية الثالثة " خالد بن مخلد " : وهو متكلم فيه : وثقة عثمان بن أبى شيبة وابن حبان والعجلى ، وقال ابن معين وابن عدى : لا بأس به ، وقال أبو حاتم ، يُكتب حديثه ، وقال الآجري عن أبى داود : صدوق ولكنه يتشيع ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : له أحاديث مناكير ، وقال ابن سعد : كان متشيعا منكر الحديث في التشيع مفرطاً ، وكتبوا عنه للضرورة . وقال صالح بن محمد جزرة : ثقة في الحديث إلا أنه كان متهماً بالغلو . وقال الجوزجانى : كان شتاماً معلناً لسوء مذهبه . وقال الأعين : قلت له : عندك أحاديث في مناقب الصحابة ؟ قال : قل في المثالب أو المثاقب ، يعنى بالمثلثة لا بالنون . وحكى أبوالوليد الباجى في رجال البخاري عن أبى حاتم أنه قال : لخالد بن مخلد أحاديث مناكير و'يكتب حديثه . وقال الأزدى : في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق . وذكره الساجى والعقيلى في الضعفاء (437????) .
من هنا نرى أن ما يرويه خالد عن مخلد متصلاً بمذهبه الشيعي لا يحتج به (438????).
وفى إسناد هذه الرواية كذلك يروى خالد عن موسى بن يعقوب ، وهو متكلم فيه أيضاً : وثقه ابن معين وابن حبان وابن القطان ، وقال الآجري عن أبى داود : هو صالح ، وقال ابن عدى : لابأس به عندي ولا برواياته . وقال على بن المديني : ضعيف الحديث : منكر الحديث .
وقال النسائي: ليس بالقوى - وقال أحمد : لا يعجبني .(1/343)
ثالثاً: في إسناد الرواية الرابعة عبدالرحمن بن صالح ، وهو من شيعة الكوفة ومتكلم فيه : وثقه أبو حاتم وابن حبان وغيرهما . وقال موسى بن هارون : كان ثقة وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآجري عن أبى داود : لم أر أن أكتب عنه ، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : وذكروه مرة أخرى فقال : كان رجل سوء . وقال ابن عدى : معروف مشهور في الكوفيين لم يُذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع (439????).
وفى الإسناد أيضاً محمد بن سليمان الأصبهانى : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم : لا بأس به . يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدى : مضطرب الحديث ، قليل الحديث ، ومقدار ماله قد أخطأ في غير شىء منه . وضعفه النسائي.
رابعاً: في سند الرواية الأخيرة عبد الله بن عبدالقدوس ، وهو شيعي متكلم فيه :
قال البخاري : هو في الأصل صدوق إلا أنه يروى عن أقوام ضعاف . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : ربما أغرب . وقال عبد الله بن أحمد : سألت ابن معين عنه قال : ليس بشىء ، رافضى خبيث . وقال محمد بن مهران الحمال : لم يكن بشىء كان يُسخر منه يشبه المجنون يصيح الصبيان في أثره . وقال أبو داود : ضعيف الحديث كان يرمى بالرفض ، قال وبلغنى عن يحيى أنه قال : ليس بشىء . وقال أبو أحمد الحاكم : في حديثه بعض المناكير وضعَّفه النسائي والدار قطنى(440????).
وفى سند الرواية كذلك ضعف آخر ، فالأعمش - وهو مدلس - لم يذكر ما يفيد سماعه من حكيم .
بعد النظر في أسانيد هذه الروايات يمكن القول بأنها ليست حجة يرد بها دلالة السياق ، والظاهر من الآيات الكريمة ، فكيف إذن يحتج بمثل هذه الروايات لإثبات أصل من أصول العقيدة ؟(441????)(1/344)
وذكر الترمذي رواية عن أم سلمة وفيها : وأنا معهم يا نبي الله ؟ قال:أنت على مكانك وأنت إلى خير . ثم عقب على الحديث بقوله : إنه غريب(442????) .
وفى أبواب العلل يتحدث عن الغريب فيقول:" أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان : رُب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد((.... ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث ، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه .... ، ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد " .
ومعنى الحديث يتفق مع ما ذكره مسلم ، فلعل الترمذي استغربه من أجل هذه الزيادة .
والحافظ ابن كثير ذكر الآية الكريمة وقال : (443[92]) إنها نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً : إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح.
وذكر روايات الطبري وروايات أخرى ، ثم ذكر رواية في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدُعى خما بين مكة والمدينة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : " أما بعد: " ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً " . فقال له حصين . ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال ومن هم ؟ قال : هم آل على ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، رضي الله عنهم .(1/345)
وذكر رواية مسلم الأخرى عن زيد أيضاً بنحو ما تقدم وفيها : فقلت له : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا . وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (444????).
ثم قال ابن كثير : هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى والأخذ بها أحرى . وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله ، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها ، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت ،فإن في بعض أسانيدها نظراً والله أعلم .
ويؤيد هذا الاحتمال الذي ذكره ابن كثير أن السؤال في الحديث الأول فيه من التبعيضية " أليس نساؤه من أهل بيته ؟ وفى رواية مماثلة عن زيد أيضاً في المسند : قال حصين : " ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " (445????) . فهنا تأكيد أن نساءه من أهل بيته .(1/346)
وقال ابن كثير بعد ذلك : الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلمداخلات في قوله تعالى : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" فإن سياق الكلام معهن ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ((... ("ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي أحق " ، وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال : " هو مسجدى هذا " ، فهذا من هذا القبيل ، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر ، ولكن إذا كان ذلك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك والله أعلم .وبمثل هذا قال ابن تيمية من قبل (446????).(1/347)
وقال القرطبى (447????) : قوله تعالى:" وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ " . هذه الألفاظ تعطى أن أهل البيت نساؤه ، وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت ، ومن هم ؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس : هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ " وقالت فرقة منهم الكلبى : هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة . وفى هذا أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام . واحتجوا بقوله تعالى " لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ " " بالميم " ولو كان للنساء خاصة لكان " عنكن ويطهركن " ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل . كما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ؟ أي امرأتك ونساؤك ، فيقول هم بخير ، قال تعالى : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ" ، الذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيره . وإنما قال " ويطهركم " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم ، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت . لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، يدل عليه سياق الكلام والله أعلم .(1/348)
ثم قال القرطبى : " فكيف صار في الوسط كلام منفصل لغيرهن ، وإنما هذا جرى في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية ، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بهاالأزواج ، فذهب الكلبى ومن وافقه فصيرها لهم خاصة ، وهى دعوة لهم خارجة من التنزيل .
وممن صير الآية لأهل الكساء خاصة أبو جعفر الطحاوي ، فقد انتهى إلى هذا في كتابه مشكل الآثار (448????) وبنى رأيه على مجرد احتمالات فقال : إن أم سلمة من أهله لأنها من أزواجه ، وأزواجه أهله ، كما قال في حديث الإفك : " من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ؛ والله ما علمت في أهلي إلا خيراً " ليحتمل أن يكون قوله لأم سلمة أنت من أهلي من هذا المعنى أيضاً لا أنها من أهل الآية المتلوة في هذا الباب . واستدل ببعض الروايات المذكورة عنها ، وفى بعضها : وما قال إنك من أهل البيت ، وفى أخرى : أنت من أزواج النبي ، وأنت على خير أو إلى خير .
وفى رواية : قلت يا رسول الله : ألستُ من أهلك ؟ قال : بلى (449????).
قالت : فأدخل في الكساء ؟ قلت : فدخلته بعد ما قضى دعاءه لابن عمه على وبنيه وبنته فاطمة رضي الله عنهم .
وأرى أن الرواية الأخيرة تدل على دخولها في الآية لا على خروجهامنها ، فالسؤال متصل بدخولها فيمن شملتهم الآية . والجواب يؤيده . ودخولها في الكساء بعدهم أليق بالأدب النبوي ، فما كان صلى الله عليه وسلم ليدخل زوجته في كسائه مع ابن عمه .(1/349)
وذكر الطحاوي الاعتراض بأنها في آيات نساء النبي وقال : جوابنا له : أن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ " الآية خطاب لأزواجه ثم أعقب ذلك بخطاب لأهله بقوله" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ" فجاء على خطاب الرجال.... فعقلنا أن قوله خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ليعلمهم تشريفه لهم ، ورفعه لمقدارهم ، أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى .
ولكن جواب الطحاوي - لو صح - لاقتصرت الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لأن الآيات في نساء النبي ، فكيف تشمل غيره من الرجال والبنين فضلاً عن النساء ؟ وقد مر من قبل الحديث عن التعبير بالمذكر في الآية الكريمة ، وبيان ضعف الروايات التي تمنع شمول الآية الكريمة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم .
والطحاوي على أية حال حاول ألا يخرج على السياق ولكن الغريب أن نجد من يقول :
" الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ، ولا متصلة بها ، وإنما وضعت بينها . إما بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة "(450[99]).
فكيف أن عجز آية ُيضم إلى صدرها و لا صلة بينهما ؟ ثم كيف يكون الصدر متصلاً بما قبله وما بعده ، والعجز يبعد عن هذا كل البعد ؟ وما الحكمة في وضعه هنا إذن ؟ والأشد غرابة ونكراً أن يوجد احتمال وضعه بدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الطبرسي : " متى قيل إن صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فالقول فيه أن هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم ، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ، والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم " (451[100]).
وهذا القول وإن كان ينقصه الدليل ، وبيان الحكمة المقتضية لمثل هذا ، وبالذات إذا كان الخروج إلى ما ليس له علاقة بالموضوع ، هذا القول لا ينزل إلى مستوى القول السابق .(1/350)
ونخرج من هذا بأن آية التطهير في نساء النبي وغيرهم من أهل البيت كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا كان لأحد أن يتكلم في شمولها لأمهات المؤمنين فليس هناك دليل على الإطلاق يخرج باقي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأي دليل يمنع شمولها لباقى بنات النبي ؟ ومفارقتهن للحياة قبل نزول الآية لا يعنى عدم إرادة تطهيرهن في حياتهن ، وما الذي يمنع دخول باقي ذرية الإمام على ؟ وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس ؟
وعلى القول بأنها منحصرة في الخمسة كيف تتعداهم إلى غيرهم من باقي الأئمة الاثنى عشر؟ ولماذا لم تشمل أئمة الزيدية مثلاً أو الإسماعيلية أو باقي فرق الشيعة التي جاوزت السبعين ؟
وننتقل بعد هذا إلى دلالة الآية الكريمة على العصمة . قال الطوسي(452[101]):
" استدل أصحبنا بهذه الآية أن في جملة أهل البيت معصوماً لا يجوز عليه الغلط وأن إجماعهم لا يكون إلا صواباً بأن قالوا : ليس يخلو إرادة الله لإذهاب الرجس عن أهل البيت بأن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصى ، أو يكون عبارة عن أنه أذهب عنهم الرجس بأن فعل لهم لطفاً اختاروا عنده الامتناع من القبائح ، والأول لا يجوز أن يكون مراداً لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكفلين ، فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيرهم ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم ؟ على أن لفظة إنما تجرى مجرى ليس ، فيكون تلخيص الكلام (ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد من أهل البيت ) ، فدل ذلك على أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم ، وذلك يدل على عصمتهم" (453[102])
وقد انفرد الجعفرية بهذا القول ، وخالفوا أهل التأويل جميعاً ، وما ذكروه فيه نظر لعدة أمور :
مخالفتهم لأهل التأويل جميعاً يجعل قولهم غير مقبول ما لم يؤيد بأدلة قوية تسنده .(1/351)
في الأحاديث السابقة ما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أهل الكساء ودعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً ،فإذا كان إذهاب الرجس قد حصل والتطهير قد تم فما الحاجة إلى الدعاء ؟
أية التطهير واقعة بين آيات فيها الأمر والنهى مما يؤيد إرادة فعل الطاعات ، واجتناب المعاصى ليؤدى ذلك إلى إذهاب الرجس وحدوث التطهير ، ويؤيده أيضاً ما روى من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فهنا يبدو الربط بين الأمر بالصلاة والآية الكريمة.
ويزيد ذلك تأييداً ما روى بسند صحيح عن على بن أبى طالب أنه قال :
" أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم وفاطمة ، وذلك من السحر ، حتى قام على الباب ، فقال : ألا تصلون ؟ فقلت مجيباً له : يا رسول الله ، إنما نفوسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا ، قال : فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إلى الكلام ، فسمعته حين ولى يقول ، وضر ب بيده على فخذه : وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (454[103]) ، وفى رواية أخرى عن الإمام أيضاً قال : " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل ، فأيقظنا للصلاة ، قال : ثم رجع إلى بيته فصلى هويّاً من الليل ، قال ، فلم يسمع لنا حساً ، قال : فرجع إلينا فأيقظنا ، وقال : قوما فصليا ، قال : جلست وأنا أعرك عينى وأقول : إنا والله ما نصلى إلا ما كتب لنا ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ويضرب بيده على فخذه : ما نصلى إلا ما كتب لنا ! ما نصلى إلا ماكتب لنا ! وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (455?????).(1/352)
فهنا يتضح حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إذهاب الرجس عن أهل بيته وتطهيرهم تطهيراً ، وغضبه لما بدر من زوج الزهراء رضي الله تعالى عنهما.
قال ابن تيمية :
أما الآية ( الأحزاب 33) " وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فليس فيها إخبار بذهاب الرجس وبالطهارة ، بل فيها الأمر لهم بما يوجبها ، وذلك كقوله تعالى :
"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ علَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ " (456?????)
" يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ " (457?????)
" يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ " (458?????)
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا ، ليست هي الملتزمة لوقوع المراد ، ولو كان كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته ، ثم أيد رأيه بدعائهصلى الله عليه وسلم لأصحاب الكساء (459?????) .
6.انتهينا إلى أن آية التطهير في نساء النبي ، وغيرهن من أهل البيت وهم: آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . ولا قائل بعصمة هؤلاء ، وتخصيص الخمسة يحتاج إلى دليل ،والأدلة التي وجدناها تمنع هذا التخصيص.
بقى بعد هذا ما ذكره الطوسي من أن حمل الإرادة على هذا المعنى لا يجوز لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكلفين . فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيره ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيه فضيلة ومزية على غيرهم ؟!
هذا هو الدليل الذي استند إليه الطوسي (460?????) ، وهو استدلال عقلى ، فهل يرد بمثل هذا الدليل ما ذكرناه من الأدلة ؟!(1/353)
ولو صح هذا القول لكانت آية التطير في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فقد اختصصن بمضاعفة الأجر ، وهذا يجعلهن أقرب إلى التطهير وإذهاب الرجس ، كما اختصصن بنزول الوحي في بيوتهن ، ولكنا نقول : إن إرادة التطهير وإن كانت حاصلة مع المكلفين ، إلا أن أهل البيت بها أخص فهم المقتدى بهم،ولأصحاب الكساء النصيب الأوفى . فهذا التأويل لا يمنع الفضيلة والمزية ، ولكنه لا يثبت العصمة .
والاستدلال بآية التطهير بعد هذا يصبح غير مسلم به ، فتخصيصها بالخمسة الأطهار غير ثابت ، وتأويلها بما يثبت العصمة لا دليل عليه ، وهم يرون ثبوت الإمامة لثبوت العصمة . على أن القول بعصمة الإمام نتحدث عنه عند مناقشة الدليل التالي .
*****
رابعا : عصمة الأئمة
ذكرت من قبل ما ذهب إليه الشيعة من القول بعصمة الأئمة ، فلا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم ، لافرق في ذلك بين سن الطفولة وسن النضج العقلى ، ولا يختص هذا بمرحلة الإمامة .
ومما استدلوا به قوله تعالى :- " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " .
قالوا : تدل هذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح ، لأن الله سبحانه وتعالى نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره ، فإن قيل : إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه ، فإذا تاب لا يسمى ظالماً ، فيصح أن يناله ، فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً . فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها . والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها ، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد (461?????) .(1/354)
ثم قالوا : إن الله سبحانه وتعالى عصم اثنين فلم يسجدا لصنم قط وهما : محمد بن عبد الله وعلى بن أبى طالب ، فلأحدهما كانت الرسالة ، وللآخر كانت الإمامة ، أما الخلفاء الثلاثة فلم يعصموا ، وهم ظالمون ليسوا أهلاً للإمامة .
ونلاحظ هنا :
1. في تأويل الآية الكريمة (462?????)" إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " يحتمل جعله رسولاً ُيقتدي به ، لأن أهل الأديان، مع اختلافهم ، يدينون به ، ويقرون بنبوته . ويحتمل إماماً من الإمامة والخلافة ، أو الإمامة والاقتداء ، فيقتدي به الصالحون . والعهد اختُلف في تأويله : فقيل الرسالة والوحي ، وقيل الإمامة ، وهو واضح من التأويل السابق ، ويؤيده عدة روايات . وعن ابن عباس قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته أنقضه ، وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حبان نحو ذلك. وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : ليس لظالم عهد . وقال عبدالرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : لا ينال عهد في الآخرة الظالمين ، وأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش ، وكذا قال إبراهيم النخعى وعطاء والحسن وعكرمة . وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه ، يقول لا ينال الظالمين ، ألا ترى أنه قال :
" وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ " (463?????)
يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق ، وكذا روى عن أبى العالية وعطاء ومقاتل بن حيان ، وقال جويبر عن الضحاك : لاينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني . وروى عن على بن أبى طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : " لا طاعة إلا في المعروف . فالآية الكريمة إذا اختلف في تأويلها ، والقطع بأن المراد هو ما ذهب إليه الجعفرية من التأويل ينقصه الدليل ، ورد باقي الأدلة .(1/355)
2. ولكن مع هذا فلا خلاف بأن الظالم لا يصلح لإمامة المسلمين ، قال الزمخشري : " وكيف يصلح لها من لايجوز حكمه وشهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سراً بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقى(464?????) وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على بنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد بنى عبد الله بن الحسن حتى قتل : فقال ليتنى مكان ابنك وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم "(465?????)
ا 3. لايمكن التسليم بأن غير المعصوم لابد أن يكون ظالماً ، أو أن غير الظالم لابد أن يكون معصوماً ، فبين العصمة وعدم الظلم فرق شاسع ، فالمخطئ قبل التكليف ليس ظالماً ولا يحاسب بالاتفاق ، ومن ندر ارتكابه للصغائر وأتبعها بالتوبة والاستغفار لا يكون ظالماً ، أما الخطأ والنسيان فمما لايحاسب عليه كما قال صلى الله عليه وسلم : " وُضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (466[115]). وكما يؤخذ من دراسة قوله تعالى :
" رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " (467?????)(1/356)
4. في رفض الآلوسى لما ذهب إليه الشيعة قال : استدل بها بعض الشيعة على نفى إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله عنهم ، حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك ، وإن الشرك لظلم عظيم ، والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة ، وأجيب بأن ( غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لايناله ، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم ) ، ثم قال : " ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر ، أو ظالم في لغة وعرف وشرع ، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفى غيره مجاز ، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً وإلا لجاز صبى لشيخ ونائم لمستيقظ وغنى لفقير وجائع لشبعان وحى لميت وبالعكس ، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حاف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل سنين متطاولة أن يحنث ، ولا قائل به " (468?????) .
5. ليس من المقطوع به أن الإمام عليا لم يسجد لصنم قط ، ولم أجد أثراً صحيحاً يؤيد هذا ، ولكن يرجحه أن الإسلام أدركه وهو صبى ، وأنه تربى في بيت النبوة ، واقتدى بابن عمه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وتخلق بخلقه ، ولهذا كان أول من أسلم بعد خديجة رضي الله تعالى عنهما .
والذين لم يسجدوا للأصنام كثيرون كالصحابة الذين عاشوا في بيئة إسلامية في صغرهم فنشئوا على الإسلام ، ثم الذين ولدوا في هذه البيئة ، فلا اختصاص لأمير المؤمنين هنا .(1/357)
6. العصمة من الخطأ كبيره وصغيره ، عمداً وسهواً ونسياناً من المولد إلى الممات أمر يتنافى مع الطبيعة البشرية ، فلا يقبله العقل إلا بالدليل قطعى من النقل . وهذه الآية الكريمة لا تثبته للأئمة عموماً فضلاً عن أئمة الجعفرية على وجه الخصوص ، على أن دلالة القرآن الكريم تتنافى مع مثل هذه العصمة حتى بالنسبة لخير البشر جميعاً الذين اصطفاهم الله تعالى للنبوة والرسالة . وقد أثبتُّ هذا من قبل في بحثى الذي نلت به درجة الماجستير (469?????) ، وسيأتي الحديث عن العصمة في الفصل الخامس من هذا الجزء .
7. الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، والذين مدحهم القرآن الكريم في أكثر من موضع ، ويبين أنهم .
" كُنتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (470?????)
كيف يستبيح مسلم لنفسه أن يصفهم بأنهم ظالمون ؟ وكيف يصدر هذا ممن يقول : الظلم اسم ذم ، ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله تعالى:
"أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (471?????)
وكيف يبين القرآن الكريم أنهم خير أمة أخرجت للناس ثم تؤول آية من آياته بأنهم ملعونون ؟
فعلى الجعفرية إذا أن يعيدوا النظر في تأويلهم ، وما بنوه على هذا التأويل.
والآية الكريمة على كل حال لا تدل على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب و لا على إمامة أحد بعينه .
*****
خامسا : الغدير(1/358)
ذكرت من قبل ما قاله الجعفرية من أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينص على على وينصبه علماً للناس ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم امتثل للأمر - بعد تردد! وبلغ المسلمين عند غدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع . وبحث ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في الغدير يتعلق بالسنة ، ولكنهم ذكروا أن ثلاث آيات تتصل بهذه الحادثة ، آيتان من سورة المائدة ، وأول سورة المعارج كما بينت عند ذكر أدلتهم من القرآن الكريم . وآية التبليغ هي قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (472?????)
ولم يكتف بعضهم بذكر أنها نزلت في على ، ولكن ذكر الأقوال المختلفة في أسباب النزول ، قال الطوسي (473?????) :
قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال :
أحدها : قال محمد بن كعب القرظى وغيره : إن أعرابياً هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه .
الثانى : أن النبي صلى الله عليه وسلم كلن يهاب قريشاً ، فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة . وقيل : كان للنبي صلى الله عليه وسلم حراس بين أصحابه ، فلما نزلت الآية قال : ألحقوا بملاحقكم ، فإن الله تعالى عصمنى من الناس .
الثالث : قالت عائشة : إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي للتقية .
الرابع : قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام : إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف علياً كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه .(1/359)
ولم يناقش الطوسي ما قيل ، ولم يذكر ما يرجح أحد هذه الأقوال ، ولكن كثيراً من طائفته استدلوا بروايات على أنها استخلاف على(474?????) ، وظاهر النص لا يدل على هذا ، والروايات كلها أقصى ما تبلغه لا تصل إلى مرتبة السنة ، فليس فيها ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنا لم نجد رواية واحدة صحيحة عن طريق الجمهور تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية ، ولننظر إلى ما ذهب إليه المفسرون .
قال الطبري في تفسير الآية الكريمة :-
" هذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمداً بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة ، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم إياه ، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم ، وسائر المشركين وغيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم ، والإزراء عليهم ، والتقصير بهم والتهجين لهم ، وما أمرهم به وما نهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله ، و لاجزعاً من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لايتقى أحداً في ذات الله ، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه ، ودافع عنه مكروه كل من يبغى مكروهه ، وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شئ مما يبلغ إليه إليهم ، فهو في تركة تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئاً . وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل " (475[124]) .
والذى ذهب إليه أهل التأويل هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة ، ومع تكملة الآية ذاتها . والخروج على السياق وفصل صدر الآية عن عجزها لا يجوز بغير أدلة صحيحة .(1/360)
والطبرى بعد أن ذكر اتفاق أهل التأويل في المراد من الآية الكريمة ، ذكر أنهم اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت ، فقال بعضهم نزلت بسبب أعرابى كان هُّم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفاه الله إياه ، وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشاً ، فأومن من ذلك ، وذكر روايات القائلين بهذين القولين (476?????).
أما الحافظ ابن كثير فقد توسع في الحديث عن هذه الآية الكريمة ، حيث قال :
" يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله بذلك به وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك ، وقام به أتم القيام ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول :
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " الآية هكذا رواه ههنا مختصراً ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً ، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان ، والتزمذى والنسائى في كتاب التفسير من سننهما ، من طرق عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله تعالى عنها . وفى الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية :-
" وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ " (477?????)
وقال ابن أبى حاتم :
حدثنا أحمد بن منصور الرمادى ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناساً يأتونا يخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ، فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال :-(1/361)
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء وهذا إسناد جيد . وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبى جحيفة وهب بن عبد الله السوائى قال : قلت لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه : هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل (478?????) ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري :
قال الزهرى : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو أربعين ألفاً ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس إنكم مسئولون عنى فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول : " اللهم هل بلغت " . قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعنى ابن غزوان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام ، قال : " أي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام ، قال : " فأي شهر هذا " قالوا : شهر حرام ، قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا من شهركم هذا " مراراً قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عز وجل ، ثم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ولا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " . وقد روى البخاري عن على بن المديني ، عن يحيى بن سعيد ، عن فضيل بن غزوان به نحوه ، وقوله تعالى :(1/362)
" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " يعنى وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته ، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع ، " وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" يعنى إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته(479?????) . ا . هـ .
ثم استمر ابن كثير في تفسيره ليبين ما يتعلق بتتمة الآية الكريمة . وأشار إلى كيد المشركين وأهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله تعالى منهم ، وقال بعد أن ذكر شيئاً من كيدهم : " ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عن هذه الآية الكريمة " (480?129?) ، وذكر بعض روايات الطبري وغيره .
وهكذا نجد أن تفسير الآية الكريمة لا يتفق مع ما ذهب إليه الجعفرية .
وبالإضافة إلى ما ذكره المفسرون روى الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً بلغ والله ما أرسل به ، وما اختصنا دون الناس بشئ ليس ثلاثا ، أمرنا أن نسبغ الوضوء ، وأن لا نأكل الصدقة ، ولا ننزى حماراً على فرس " (481?130?).
وهذه رواية صحيحة السند ، ونصها يتعارض مع تأويل الجعفرية .(1/363)
على أن بعض المفسرين ناقش الشيعة فيما ذهبوا إليه ، وبين أنه قول لا يستقيم . قال الآلوسى عند تفسيره للآية الكريمة : ( أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ، ولا مسلمة لديهم أصلاً ) (482?????) وأيد هذا القول : ثم قال : ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة على كرم الله وجهه ، وأن الموصول فيها خاص كقوله تعالى : " وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فإن الناس فيه وإن كان عاماً إلا أن المراد بهم الكفار ، ويهديك إليه " إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " فإنه في موضع التعليل بعصمته عليه الصلاة والسلام (483?????): وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر ، أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك . ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة : بل لو قيل لم تصح ، لم يبعد ، لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - في تبليغ أمر الخلافة إنما هو من الصحابة. رضي الله تعالى عنهم - حيث إن فيهم - معاذ الله تعالى - من يطمع فيها لنفسه ، ومتى رأي حرمانه منها لم يبعد قصد الإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتزام القول - والعياذ بالله عز وجل - بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه ، مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله وجهه وهو هو ، أو نسبة الجبن إليه وهو أسد الله تعالى الغالب ، أو الحكم عليه بالتقية وهو الذي لا يأخذه في الله تعالى لومة لائم ، ولا يخشى إلا الله سبحانه (484?????).(1/364)
ولقد وفق الآلوسى في الاستدلال عن طريق ربط الآية بعضها ببعض وتأويله الآية كما ذهب إليه جمهور المفسرين لا يحتاج إلى دليل ، لأنه أخذ بظاهر النص وعمومه ، وبدلالة السياق ، ولكن تخصيصها باستخلاف على هو الذي يحتاج إلى أدلة أصح وأكثر قبولاً من أدلة الجمهور المذكورة ، وهذا ما لم نجده . وروايات الغدير تناقش تفصيلاً في بحث متصل بالسنة النبوية الشريفة .
والآية الكريمة الأخرى من سورة المائدة هي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " (485?????) وإختلف أهل التأويل في المراد بإكمال الدين ، فقال بعضهم : يعنى جل ثناؤه بقوله : " الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضى عليكم ، وحدودى وأمرى إياكم ونهى وحلالى وحرامى ، وتنزيلى من ذلك ما أنزلت منه في كتاب ، وتبيانى ما بينت لكم منه بوحيى على لسان رسولى ، والأدلة نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم.
وقال آخرون : إن الله عز وجل أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم - يوم أنزل هذه الآية على نبيه - دينهم ، بإفرادهم البلد الحرام ، وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون ، وهذا هو الذي اختاره الطبري وأيده (486?????).
والجعفرية لا يخرجون في تأويلهم عن القولين ، ولكنهم يزيدون أن الآية الكريمة نزلت بعد أن نصب النبي صلى الله عليه وسلم علياً علماً للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع ، ويروون هذا عن الإمامين الباقر والصادق ، ويرون أن الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى ، ثم لم ينزل بعدها فريضة (487?????).(1/365)
وفسر الطبرسي " وأتممت عليكم نعمتي " بولاية على بن أبى طالب ، وذكروا رواية عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزوله الآية الكريمة:الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي ، وولاية على بن أبى طالب من بعدى .
ولكن الطوسي لا يذكر مثل هذه الرواية ، ويفسر " وأتممت عليكم نعمتي " بقوله : " خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم ، بإظهارهم على عدوهم المشركين ونفيهم إياهم عن بلادهم ، وقطعه طمعهم من رجوع المؤمنين وعودهم إلى ملة الكفر ، وانفراد المؤمنين بالحج والبلد الحرام ، وبه قال ابن عباس وقتادة والشعبي" .
ولم يشر الطوسي إلى الولاية ، وما ذكره كأنما نقل عن شيخ المفسرين ، فقد قال الطبري في تفسيره : " يعنى جل ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي ، أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوى وعدوكم من المشركين ، ونفيي إياهم عن بلادكم ، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ماكنتم عليه من الشرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وروى عن ابن عباس أنه قال : كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً ، فلما نزلت براءة : فنفُى المشركون عن البيت ، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، فكان ذلك في تمام النعمة : " وأتممت عليكم نعمتي ".
وعن قتادة : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، وأخلص للمسلمين حجهم .
وعن الشعبي قال : نزلت هذه الآية بعرفات ، حيث هدم منار الجاهلية ، واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك .
وعن عامر قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات ، وقد أطاف به الناس ، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ، ولم يطف حول البيت عريان فأنزل الله :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " . وعن الشعبي بنحوه .(1/366)
إن روايات قتادة والشعبى التي ذكرها الطبري تعارض ما قيل من أن الآية الكريمة نزلت يوم الغدير . وهناك روايات أخرى صحيحة السند تثبت نزولها يوم عرفة يوم جمعة لا يوم الغدير . وذكر الطبري بعض هذه الروايات ، وروايات أخرى معارضة ، ثم قال : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ، ووهى أسانيد غيره .
وقال الحافظ ابن كثير : " قال الإمام أحمد : حدثنا أبى جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأي آية ؟(1/367)
قال : قوله " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " فقال عمر : والله إنى لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة (488?????) ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضاً مسلم والترمذى والنسائى أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية عن طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً . فقال عمر : إنى لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة . قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ، ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم . وقد روى هذا عن غير وجه من عمر " .(1/368)
وبعد هذه الروايات ذكر ابن كثير روايات الطبري التي صح سندها ، وهى تبين - كما سبق - أن الآية نزلت يوم الجمعة . ثم ذكر الروايات المعارضة ، وهى التي استوهاها الطبري ، وبين ضعفها ، ومنها ما روى عن الربيع بن أنس أنها نزلت في المسير في حجة الوداع ، وقال : وقد روى ابن مردويه عن طريق أبى هارون العبدى ، عن أبى سعيد الخدري ، أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلى : " من كنت مولاه فعلى مولاه " . ثم رواه عن أبى هريرة وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذى الحجة ، يعنى مرجعه عليه السلام من حجة الوداع ، ولايصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه و لامرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلى بن أبى طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبى سفيان ، (489?????) وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله .(1/369)
ومن هنا يظهر أن الروايات الصحيحة تعارض ما ذهب إليه الجعفرية من نزول الآية الكريمة يوم الغدير ، ولكن أحد كتابهم أيد ما ذهبوا إليه بقوله بأنه " يؤكده النقل الثابت في تفسير الرازى ( 3 ص 529 ) عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازى (3 ص 523 ) وذكره المؤرخون منهم : إن وفاته صلى الله عليه وسلم في الثانى عشر من ربيع الأول ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين والثمانين يوماً بعد إخراج يومى الغدير والوفاة ، وعلى أي فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة كما جاء في صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما (490?????) . لزيادة الأيام حينئذ ، على أن ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها " (491?????) .
أما النصوص الكثيرة التي يرى ألا محيص عن الخضوع لمفادها فقد سبق ذكر بعضها وبيان عدم الأخذ بها ، فهى روايات ضعيفة السند متعارضة مع روايات صحيحة بل متواترة كما ذكر الحافظ ابن كثير .
ومن الواضح البين أن رواية الرازى للأيام إذا تعارضت مع هذ الروايات وجب طرح رواية الرازى . وليس من البحث العلمي الصحيح أن رواية تأتى في أحد كتب التفاسير تسقط بها روايات متعددة كثيرة السند ، جاءت عن طريق الأئمة أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم .(1/370)
وأول النصوص الكثيرة التي يرى مؤلف الغدير ألا محيص عن الخضوع لمفادها نص ذكر أن الطبري رواه بإسناده عن زيد بن أرقم في كتاب الولاية ، وأشار إليه هنا حيث أثبته بالكامل عند استدلاله على آية التبليغ السابقة في غديره (492?????) ، وبالرجوع إلى النص نجد أمراً عجيباً ! فهو يكاد يجمع ما يتصل بعقيدة الإمامية وغلاتهم في الإمامة ، فهى لعلى بالنص ، ثم في أولاده إلى يوم القيامة إلى القائم المهدى ، وغيرهم أئمة يدعون إلى النار ، وهم وأتباعهم في الدرك الأسفل منها ، والله تعالى ورسوله بريئان منهم .... إلخ .
والمعروف أن شيخ المفسرين الطبري ليس شيعياً فضلاً عن غلاتهم ، ولكن صاحب الغدير بعد ذكر الرواية وروايات أخرى قال (493?????) بأن الطبري أول من عرفناه ممن ذكر أن آية التبليغ حول قصة الغدير .
وأخذ يناقش الروايات التي جاءت في تفسير الطبري ليبين أنها لا تتعارض مع الرواية المذكورة في كتابه عن الولاية ، مع أن الطبري متفق مع أهل التأويل كما ذكرنا من قبل عند مناقشة الآية الكريمة ، أفكل أهل التأويل جعفريون ؟!
وعند الحديث عن آية الإكمال هذه ذكر رواية الطبري وأشار إلى كتابه في الولاية ، ولم يشر إلى تفسيره ، ويتضح سر هذا وقد عرفنا الرأي الذي اختاره الطبري حيث استوهى الروايات المخالفة لرواية عمر بن الخطاب . إذن لسنا في حاجة إلى بيان ضلال الباحث عندما يسيره هواه ، ولكن أحب أن أقول هنا بأن كتاب الولاية في ضوء ما سبق إما أنه ألف ونسب إلى الطبري زورا وانتصارا لمذهب ، وإما أن الطبري جمع ما وجده من الولاية بغير نظر إلى مصادر الروايات : وفى كلتا الحالتين الكتاب لا وزن له ، ولا يبين رأي الطبري (494?????) .(1/371)
وإذا كانت آية التبليغ السابقة نزلت قبل آية الإكمال هذه - كما قال الجعفرية أنفسهم - فإن الروايات السابقة تدل على أن آية التبليغ نزلت قبل الغدير ، مما يؤيد ما ذهب إليه جمهور المفسرين في تأويلها ، ويعارض ما قاله الجعفرية من أنها خاصة بالاستخلاف يوم الغدير ، وهذا دليل آخر يضاف إلى أدلة الجمهور .
ومما سبق رأينا أن آية الإكمال نزلت يوم عرفة ، ولكن لو فرضنا أنها نزلت يوم الثامن عشر من ذى الحجة يوم الغدير فإنها لا تعتبر دليلاً على استخلاف على ، لأن هذا مبنى على أساس أن آية التبليغ خاصة بالاستخلاف وهذا غير ثابت كما بينت من قبل .
ويبقى بعد هذا ما يتعلق بأول سورة المعارج " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " .
والسورة الكريمة " مكية " بالاتفاق ، وما ذكره بعضهم (495?????) يستلزم أن تكون مدنية بل من أواخر ما نزل بالمدينة بعد حجة الوداع قبيل الوفاة : وشيخ طائفتهم الطوسي لم يقع في هذا الخطأ ، ولذا قال : سورة المعارج مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما . وفسرها بما يتفق مع جمهور المفسرين ، ولم يشر إلى أن التكذيب كان بالولاية ، ولا أن جزءاً من هذه السورة نزل بالمدينة فضلاً عن كونه بعد حجة الوداع (496?????).(1/372)
وفى مجمع البيان ذكر الطبرسي مثل هذا التفسير، ثم زاد رواية عن جعفر ابن محمد عن آبائه ، قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام يوم غدير خم ، وقال : من كنت مولاه فعلى مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن الحرث الفهرى فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة ففعلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلى مولاه : فهذا شىء منك أو أمر من عند الله ؟ فقال : والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله ، فولى النعمان ابن الحرث وهو يقول : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى: " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ" .
ولكن هذه الرواية تتعارض مع ما ذكره الطبرسي نفسه حيث قال: "سورة المعارج مكية ، وقال الحسن : إلا قوله " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ"(497?????) .
وفى موضع آخر ذكر روايات تبين ترتيب نزول سور القرآن الكريم ، وبحسب هذا الترتيب نجد سورة المعارج مكية ، وبعدها سبع سور مكية أخرى ، ثم ذكر السور المدنية . وفى إحدى هذه الروايات : " وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة " .
ومعنى هذا أن سورة المعارج مكية وبالأخص فاتحتها ، والطبرسي في تفسيره الآخر " جوامع الجامع " الذي كتبه بعد أن اطلع على تفسير الكشاف للزمخشرى وأعجب به (498?????) ، ذكر أن سورة المعارج مكية ، وفسرها بما يتفق مع مكيتها ، ولم يشر للرواية المنسوبة للإمام الصادق . وفى تفسير الآية الخامسة وهى" فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " قال : فاصبر يتعلق بسأل سائل لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيباً بالوحي(499?????) .(1/373)
فالطبرسي هنا لم يأخذ بالرواية المنسوبة للإمام الصادق ، وما ذكره الطوسي موافقاً به جمهور المفسرين فيه ما يكفى لرد ما ذهب إليه بعض الجعفرية.
*****
تعقيب
بعد المناقشة السابقة نقول :-
ظهر أن عقيدة الإمامة عند المذهب الجعفرى لا تستند إلى شىء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تنبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شئ من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلاً يؤيد مذهبهم .
قال أحد مفسرى الجعفرية عن أسباب النزول :
" ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية ، بمعنى أنهم يردون غالباً الحوادث التاريخية ، ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول ، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة ،أو آيات ذات سياق واحد ، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقر وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها . وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول (500[149]).
وما ذكره هذا المفسر الجعفرى يكاد ينطبق على جميع الآيات الكريمة التي استدلوا بها .
ومن قبل قال الإمام أحمد بن حنبل :
ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير والملاحم والمغازى (501[150]).
ويروى " ليس لها أصل " أي إسناد ، لأن الغالب عليه المراسيل .
يرى الجعفرية أن الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثنى عشر ركن من أركان الإيمان، والقرآن الكريم - تبيان كل شيء - كيف لا يبين هذا الركن بنصوص ظاهرة من آياته البينات .
غلاة الجعفرية لم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة ، ووضع الروايات كأسباب للنزول ، وإنما أقدموا على ما هو أشنع من هذا وأشد جرماً ، ذلك أنهم قالوا بتحريف القرآن الكريم ، وحذف اسم على منه في أكثر من موضع ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في بحث التفسير عندهم في الجزء الثانى من هذه الموسوعة ، والذي جرفهم إلى هذه عقيدتهم في الإمامة ، وجعلهم إياها ركناً من أركان الإيمان .
*****
الفصل الثالث(1/374)
الإمامة في ضوء السنة
أولا : خطبة الغدير والوصية بالكتاب والسنة
أخبار الغدير تعتبر المستند الأول من السنة عند الجعفرية ، فهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند غدير خم ، بعد منصرفه من حجة الوداع ، بين للمسلمين أن وصيه وخليفته من بعده على بن أبى طالب ، وذكرت من قبل أن كاتباً جعفرياً ألف كتاباً يقع في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة حديث وشهرته ، وهذا الكتاب الذي أشرت إليه عنوانه " الغدير في الكتاب والسنة والأدب" ! فالتأليف إذن كان من أجل واقعة الغدير ، وإذا لم يثبت في القرآن الكريم شئ مما أراده المؤلف لم يبق إلا السنة ، أما الأدب فلا حاجة لنا به في هذا المجال !
وقبل النظر في كتب السنة الثمانية التي حددت في منهجى الرجوع إليها ، وهى : الموطأ ، والمسند والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، نسترشد بما جاء في سيرة محمد بن إسحاق (502[151]) التي جمعها ابن هشام .
تحت عنوان موافاة على في قفوله من اليمن رسول الله في الحج ورد ما قاله ابن إسحاق عما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم علياً من أمور الحج (503?????). ثم ورد ما يأتي :
" قال ابن اسحاق : وحدثنى يحيى بن عبد الله بن عبدالرحمن بن أبى عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن ركانة ، قال : لما أقبل على رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على رضي الله عنه . فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم ، فإذا عليهم الحلل قال : ويلك ؟ ما هذا ؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس . قال : ويلك ! انزع قبل أن تنتهى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . قال : فانتزع الحلل من الناس ، فردها في البز ، قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم .(1/375)
قال ابن اسحاق : فحدثنى عبد الله بن عبدالرحمن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً ، فسمعته يقول : أيها الناس ، لا تشكوا عليا ، فوالله إنه لأخشن في ذات الله ، أو في سبيل الله ، من أن يشكى .
خطبة الرسول في حجة الوداع
قال ابن اسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :(1/376)
أيها الناس ، اسمعوا قولى : فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا الموقف أبداً ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكن لكم رءوس أموالكم ، لا تظَلمون ولا تظُلمون . قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله ، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ، وكان مسترضعاً في بنى ليث ، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية . أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، أيها الناس : إن النسىء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، ورجبمضر (504?????) ، الذي بين جمادى وشعبان.(1/377)
أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقاً ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف . واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان (505?????). لايملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولى ، فإنى قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً ، أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه ، أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم ، اللهم هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد (506?????) .
وغير ما ذكره ابن اسحق من سبب تلك الشكوى ، نجد سبباً آخر يذكر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً ، واستعمل عليهم على بن أبى طالب ، فمضى في السرية فأصاب جارية ، فأنكروا عليه ، ونجد رواية أخرى أنه أصاب الجارية عندما كان على جيش وخالد بن الوليد على جيش آخر ، فأرسل خالد للرسول صلى الله عليه وسلم يخبره لما فعله أبو الحسن .
والروايات كلها تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن زوج الزهراء عليهما السلام ، والأقوال مختلفة ، وسنبين الصحيح منه إن شاء الله تعالى .
وخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي ذكرها ابن اسحاق ، نرى معناها مبثوثاً في كتب السنة ، ففي صحيح البخاري نجد شيئاً منها في باب الخطبة أيام منى من كتاب الحج ، وفى آخر الباب " فطفق النبي صلى الله عليه وسلم " يقول : اللهم اشهد وودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع " .(1/378)
ونجد كثيراً منها في باب حجة النبيصلى الله عليه وسلم من كتاب الحج في صحيح مسلم . وهذه الحجة يرويها الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله تعالى عنهم ، كما أخرجها أيضاً غيرالإمام مسلم (507?????) .
وقد بينت في الفصل السابق أنه في يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " ومن قبله : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " ويرى الجعفرية أن استخلاف الإمام على كان يوم الغدير في الثامن عشر من ذى الحجة ، وهنا يأتي تساؤل وهو : أفيمكن أن يترك ركن من أركان الإيمان لا يذكر ، وقد أكمل الله تعالى دينه ، وخطب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وودع الناس في حجة الوداع ؟
أظن هذا مستبعداً ، ولكن ليس مستحيلاً !
ولم يَدُر جدل بين الجمهور والجعفرية حول معنى من معانى الخطبة كما ذكرها ابن إسحاق إلا في قوله صلى الله عليه وسلم : " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ، أمراً بينا ، كتاب الله وسنة نبيه ". فالجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتمسك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير ، وأنه ترك الثقلين كتاب الله تعالى وأهل بيته .
وليس معنى هذا أن الجعفرية يرون عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليس بمسلم من يرى هذا ، ولكنهم يرون أن الأئمة معصومون ، وأقوالهم كأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهى تعتبر عندهم من السنة ، فلابد من الرجوع إليهم حتى لا تضل الأمة !
وننظر في مفتاح كنوز السنة فنجده يذكر وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنة رسوله عن عشرة مراجع منها : الصحيحان ، والمسند ، والترمذى ، والنسائى ، وابن ماجه (508?????) .(1/379)
وفى صحيح البخاري نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء في هذا الكتاب " وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوا إلى غيره ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفى الموطأ يروى الإمام مالك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة نبيه " (509?????).
ونجد في بعض هذه المراجع العشرة الوصية بكتاب الله تعالى دون ذكر السنة ، من ذلك ما جاء في سنن الدارمى : حدثنا محمد بن يوسف ، عن مالك بن مغول ، عن طلحة بن مصرف اليامى ، قال : " سألت عبد الله بن أبى أوفى : أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قلت : فكيف كتب على الناس الوصية ، أو أمروا بالوصية ؟ فقال : أوصى بكتاب الله " . (انظر كتاب الوصايا . باب من لم يوص ج 2 ص 290-291)
وفى سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث ، وقال السيوطى في شرحه: " أوصى بكتاب الله أي بدينه ، أو به وبنحوه ليشمل السنة " . (انظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ج6 ص 240).
وفى غير المراجع العشرة نجد مثلاً في كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة " ويحتوى الباب على ثمانية أخبار.
وفى المسند لأبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى حدث المصنف قال : ثنا سفيان قال : ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبى أوفى : " هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يوصى فيه . قلت : وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله " . ( انظر المجلد الثانى - حديث رقم 722) .(1/380)
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ، نجد رواية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتى ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض " .
ومما قاله المناوى في شرحه :
إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ، ولا هدى إلا منهما ، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما . واعتصم بحبلهما ، وهما الفرقان الواضح ، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما ، والمبطل إذا خلاهما ، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة .
(راجع الجزء الثالث ص 240-241 ، حديث رقم 3282 وشرحه ، وانظر صحيح الجامع الصغير للشيخ ناصر الدين الألبانى جـ 2 ، حديث رقم 2934) .
ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا ، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام بالقرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة .
والخلاف حول شىء من السنة مرده إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة ، أما ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان واضح الدلالة ، فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه ، فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى : " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (510?????)
وقوله عز وجل : " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ " (511?????)
وقوله سبحانه وتعالى :" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (512?????)
إلى غير ذلك من آيات الله البينات التي بينت أن من لم يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد ابتعد عن الإيمان . وضل ضلالاً بعيداً .(1/381)
من الواضح إذن أن عصمة الأمة وعدم ضلالها في التمسك بما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز ، وبما بينه جل شأنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة ، دون حاجة إلى الرجوع إلى أئمة الجعفرية ، أو غيرهم من فرق الشيعة، ولكنا نجد روايات أخرى تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الكتاب والعترة ، وفى بعضها الأمر بالتمسك بهما حتى لا نضل .
ثانيا : روايات التمسك بالكتاب والعترة
من هذه الروايات ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وسبق ذكره عند الحديث عن آية التطهير ، وفى تلك الروايات الحث على التمسك بكتاب الله تعالى ، ثم قوله صلى الله عليه وسلم : " أذَّكركم الله في أهل بيتي " ، وقول زيد : " إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " وقال " هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس " . وهذه الروايات تحثنا معشر المسلمين على أن نرعى حقوق آل البيت ، بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ، فنحبهم ونوقرهم وننزلهم منازلهم ، فحبنا لرسولنا الأعظم يدفعنا لحبنا لآله الأطهار ، وعلينا أن نصلهم ، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال : " والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى"(513?????) ، وقال " ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته " (514?????).
وبالطبع لا تدل هذه الروايات على وجوب الإمامة لآل البيت ، ولا لأحد بعينه ، فلا صلة بين التذكير بأهله والنص على خلافة بعضهم .
وأما باقي الروايات فإنها جاءت في المسند ، وفى سنن الترمذي . وروايات المسند هي :-
1. حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل يعنى إسماعيل بن أبى إسحق الملائى ، عن عطية ، عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/382)
" إنى تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/14).
2.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد يعنى ابن طلحة ، عن الأعمش ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنى أوشك أن أدعى فأجيب ، وإنى تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله عز وجل ، وعترتى ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظرونى بم تخلفونى فيهما ؟ " (3/17) .
3.حدثنا عبد الله ، حدثنا أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك يعنى ابن أبى سليمان ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/26).
4.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك بن أبى سليمان ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى : الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي . ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/59) .
5.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا الأسود بن عامر ، ثنا شريك ، عن الركين، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يرد ا على الحوض " (5/181/182) .(1/383)
6.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا أحمد الزبيرى ، ثنا شريك عن الركين ، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض جميعاً " ( 5/189-190).
والترمذى أخرج روايتين هما (515?????):- حدثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطى ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس ، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " (حسن غريب ) .
-حدثنا على بن المنذر كوفى ، حدثنا محمد بن فضيل قال ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبى سعيد ، والأعمش عن حبيب بن أبى ثابت ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ،أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " . (حسن غريب) .
مناقشة الروايات
هذه هي روايات التمسك بالكتاب والعترة ، و بالنظر فيها نجد ما يأتي :-
عن أبى سعيد الخدري خمس روايات ، الأربع الأولى من المسند ، والثانية من سنن الترمذي ، وهذه الروايات كلها يرويها عطية عن أبى سعيد .
وعطية هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى " والإمام أحمد نفسه - صاحب المسند - تحدث عن عطية وعن روايته عن أبى سعيد فقال بأنه ضعيف الحديث ، وأن الثوري وهشيما كانا يضعفان حديثه ، وقال : بلغنى أن عطية كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير ، وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد فيوهم أن الخدري .(1/384)
وقال ابن حبان : سمع عطية من أبى سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبى ، فإذا قال الكلبى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، فيحفظه ، وكناه أبا سعيد ، وروى عنه ، فإذا قيل له : من حدثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد ، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري ، وإنما أراد الكلبى ، قال : لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب.
وقال البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير ، وقال أيضاً : كان هشيم يتكلم فيه . وقد ضعفه النسائي أيضاً في الضعفاء ، وكذلك أبو حاتم . ومع هذا كله وثقه ابن سعد فقال : " كان ثقه إن شاء الله ، وله أحاديث صالحة ، ومن الناس من لا يحتج به " . وسئل يحيى بن معين : كيف حديث عطية ؟ قال : صالح (516?????)
وما ذكره ابن سعد وابن معين لا يثبت أمام ما ذكر من قبل . وقد يقُال هنا : إذا كان الإمام أحمد يرى ضعف حديث عطية فلماذا روى عنه ؟
والجواب أن الإمام إنما روى في مسنده ما اشتهر ، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم . ويدل على ذلك أن ابنه عبد الله قال : قلت لأبى : ما تقول في حديث ربعى بن خراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبدالعزيز بن أبى رواد ؟ قلت : نعم ، قال الأحاديث بخلافه ، قلت : فقد ذكرته في المسند ؟ قال : قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لن أرو من هذا المسند إلا الشئ اليسير . وقد طعن الإمام أحمد في أحاديث كثيرة من المسند ، ورد كثيراً مما روى ، ولم يقل به ، ولم يجعله مذهباً له (517?????).(1/385)
وعندما عد ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرحها الإمام أحمد في مسنده ، وثار عليه من ثار ، ألف ابن حجر العسقلانى كتابه " القول المسدد في الذب عن المسند " ، فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي ، ثم أجاب عنها ، ومما قال : " الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شئ من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام ، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع ، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا . وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا . وهكذا حال هذه الأحاديث (518?????).
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسك بالعترة .
الرواية الثانية للترمذى رواها عن على بن المنذر الكوفي ، عن محمد بن فضيل ، ثم انقسم السند إلى طريقين : انتهى الأول إلى عطية عن أبى سعيد ، والثانى إلى زيد بن أرقم ، ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل . وإذا نظرنا إلى الروايات الأربع السابقة التي رواها عطية عن أبى سعيد نجد توافقاً تاماً في المعنى وفى كثير من اللفظ بينها وبين هذه الرواية ، مما يرجح أن هذا الطريق هو الأصل ، وهو المذكور أولاً في الإسناد ، ومن قبل تحدثنا عما رواه الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم بطرق متعددة وفى تلك الروايات ذكر قوله صلى الله عليه وسلم " وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " (519?????).
وهذا يتفق بعض الشئ مع رواية الترمذي ، لكن بينهما اختلاف كبير يستوجب عدم الجمع ، مما يجعلنا نطمئن إلى ضم رواية الترمذي إلى الروايات الأربع التي رواها عطية عن أبى سعيد ، واستبعادها عن روايات زيد بن أرقم إلا في موضع الاتفاق .(1/386)
والذى جمع بين الطريقين في هذا الإسناد على بن المنذر الكوفي أو محمد بن فضيل ، ولكن الثانى روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة عن زيد بن أرقم ، فيُستبعد الجمع عن طريقه . فلم يبق إلا على بن المنذر ، وهو من شيعة الكوفة . قال ابن أبى حاتم : سمعت منه مع أبى ، وهو صدوق ثقة . وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن نمير : هو ثقة صدوق . وقال الدار قطنى : لا بأس به ، وكذا قال مسلمة بن قاسم ، وزاد : كان يتشبع .
وقال الإسماعيلى : في القلب منه شىء لست أخيره . وقال ابن ماجه : سمعته يقول : حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً (520?????).
وما سمعه منه ابن ماجه يجعلنا نتردد كثيراً في الاحتجاج بقوله : فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً ؟ ليس من المستبعد إذن أن يجمع راوٍ شيعي كهذا روايتين في مناقب أهل البيت تتفقان في شىء وتختلفان في شىء آخر ، وهذا يجعلنا نزداد اطمئناناً إلى ما انتهينا إليه من جعل هذه الرواية مع الروايات الأخرى لعطية عن أبى سعيد ، وفصلها عن روايات زيد بن أرقم .
على أن هذه الرواية فيها ضعف آخر . وهو الانقطاع في موضعين ، فالأعمش وحبيب بن أبى ثابت مدلسان . وهما يرويان بالعنعنة . فلم يثبت سماع كل منهما هنا .
والأعمش وحبيب من الثقات . وثبت سماع الأعمش من حبيب ، وسماع حبيب من زيد بن أرقم . إلا أن في هذه الرواية لم يثبت السماع ، والأعمش فيه تشيع وهو كوفى ، وحبيب كوفى أيضاً ، وفى بيئة الكوفة يمكن أن تشيع مثل هذه الأحاديث دون دقة أو تمحيص .
وحبيب نفسه قال لابن جعفر النحاس : إذا حدثني رجل عنك بحديث ، ثم حدثت به عنك كنت صادقاً (521?????).
فحبيب كان صادقاً ليس بكاذب ، إلا أنه أبان عن رأيه ، فليس من الكذب عنه أن يسمع من راوٍ عن آخر ، فيروى عن الآخر مباشرة بما لايفيد السماع منه .(1/387)
وفى المستدرك روى الحاكم (522?????) هذا الحديث بما يفيد سماع الأعمش من حبيب . وهذا ما يحتاج إلى مراجعة الإسناد الذي ذكره ، وما أكثر رجاله . غير أننا لسنا مضطرين إلى بذل هذا الجهد ، فإن ثبت سماع الأعمش بقى أكثر من موطن ضعف . والحاكم ذكر الحديث بروايتين :-
إحداهما في إسنادها الإمام أحمد بن حنبل ، وسيأتي أنه هو نفسه ضعف الحديث كما ذكر ابن تيمية ، والأخرى بين الذهبي وهَىْ إسنادها (523?????).
القاسم بن حسان العامرى الكوفي روى الروايتين الخامسة والسادسة من المسند عن زيد بن ثابت ، ورجح المرحوم الشيخ أحمد شاكر توثيقه وقال :
" وثقة أحمد بن صالح ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وذكر البخاري في الكبير اسمه فقط ، ولم يذكر عنه شيئاً ، وترجمه ابن أبى حاتم في الجرح والتعديل فلم يذكر فيه جرحاً ، ثم نقل عن المنذرى أن البخاري قال : القاسم بن حسان سمع من زيد بن ثابت ، وعن عمه عبدالرحمن بن حرملة ، وروى عنه الركين بن الربيع ، لم يصح حديثه في الكوفيين " .
ثم عقب شاكر على هذا بقوله " والذى نقله المنذرى عن البخاري في شأن القاسم بن حسان لا ادرى من أين جاء به ، فإنه لم يذكر في التاريخ الكبير إلا اسمه فقط كما قلنا ، ثم لم يترجمه في الصغير ، ولم يذكره في الضعفاء ، وأخشى أن يكون المنذرى وهم فأخطأ ، فنقل كلام ابن أبى حاتم بمعناه منسوباً للبخاري ، وأنا أظن أن قول البخاري في عبدالرحمن بن حرملة " لا يصح حديثه " إنما مرده إلى أنه لم يعرف شيئاً عن القاسم بن حسان ، فلم يصح عنده لذلك حديث عمه عبدالرحمن " (524?????)
وفى توثيق القاسم بن حسلن نظر ، فابن حبان ذكره أيضاً في أتباع التابعين ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت ، وقال ابن القطان : لايعرف حاله (525?????).(1/388)
والبخاري ذكر اسمه فقط في التاريخ الكبير ، وليس في هذا توثيق و لا تضعيف . وفى الجرح والتعديل حقيقة لم يذكر فيه جرحاً ،ولكن لم يذكر فيه كذلك تعديلاً . وإذا كان الظن بأن البخاري ضعف عبدالرحمن بن حرملة من أجل القاسم، فمن باب أولى أن يدخل القاسم في الضعفاء ، ويبقى هنا الإشكال وهو أن البخاري لم يذكره في الضعفاء ، ولم يذكر فيه جرحاً في كتبه الأخرى المذكورة ، فمن أين جاء المنذرى بما نقله عن البخاري ؟
لعل المرحوم الشيخ شاكراً كان يتردد فيما كتب لو عرف أن البخاري له كتاب كبير في الضعفاء يقع في تسعة أجزاء ، وهو مخطوط و لا يوجد منه نسخ في مصر ، فلم لا يكون المنذرى نقل منه (526?????) ؟ وفاته كذلك أن يقرأ ترجمة القاسم في ميزان الاعتدال ، فقد نقل الذهبي عن البخاري أن القاسم بن حسان حديثه منكر و لا يعرف (527?????) ، وهذا قول لا يحتمل الوهم . فلا شك أن المنذرى والذهبي قد رجعا لما لم يتيسر لنا الرجوع إليه ، وأغلب الظن - إن لم يكن من المؤكد - أنهما نقلا عن كتاب الضعفاء الكبير للبخاري .
لم يبق إذن إلا الرواية الأولى للترمذى ، وفى سندها زيد بن الحسن الأنماطى الكوفي ، الذي روى عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله ، قال أبو حاتم عن زيد هذا : كوفى قدم بغداد ، منكر الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات (528?????).
وخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع رواها مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر ، وليس فيها " وعترتى أهل بيتي " (529?????)، وهذه الخطبة رويت عن جابر بطرق متعددة في مختلف كتب السنة ، وليس فيها جميعاً ذكر لهذه الزيادة (530?????) .
الاختلاف حول الحديث
رأينا فيما سبق ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وهذا لا خلاف حول صحته .(1/389)
ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث ، وظهر ما بها من ضعف . وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة . وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير .
ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة ، وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد ، ومعجم الطبرانى رواية عن زيد بن ثابت ، وصحح الحديث السيوطى والمناوى ، وقال المناوى : " قال الهيثمى : رجاله موثقون ، ورواه أيضاً أبو يعلى بسند لا بأس به ، والحافظ عبدالعزيز بن الأخضر وزاد أنه قال : في حجة الوداع ، ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي . قال السمهودى : وفى الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة " ا . هـ .
وتحدثنا من قبل عما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت ، وبينا ضعف الإسناد ، وبالنظر فيما رواه الطبرانى نجد موطن الضعف نفسه . فهو من رواية القاسم بن حسان ، فقول الهيثمى يعنى توثيق القاسم .
وما ذكره عن حجة الوداع هنا بيناه من قبل . فالتصحيح إذن غير مقبول ، غير أننا قد نوافق على عدم جعل الحديث من الموضوعات ، ومع هذا فابن الجوزي قد يكون له ما يؤيد رأيه ، فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفى النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك ، ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، بل إلى سبعين غير أنه لو صح عن صحابى واحد لكفى إلا أن يكون ممن لا يستحق شرف الصحبة .
ولعل من المهم هنا أن نذكر أن الإمام أحمد بن حنبل ، وهو ممن أخرج الحديث ، ذكر أنه ضعيف لا يصح ، فهو إذن غير صحيح بالنسبة إلى أي من الصحابة الكرام .(1/390)
وشيخ الإسلام ابن تيمية رفض هذا الحديث وقال : " وقد سئل عنه أحمد ابن حنبل فضعفه ، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا : لا يصح " (531?????).
وفى عصرنا وجدنا العلامة المحقق الشيخ ناصر الدين الألبانى - رحمهالله - يذهب إلى تصحيح رواية التمسك بالكتاب والسنة التي أشرنا إليها من قبل ، ويوافق السيوطى والمناوى هنا أيضاً فيصحح حديث الثقلين الذي يأمر بالتمسك بالكتاب والعترة ، فيذكره في صحيح الجامع الصغير لا في ضعيفه (532?????).
وعندما سعدت بلقائه في زيارته الأخيرة لدولة قطر ، دار نقاش حول هذا الحديث ، وذكرت مواطن الضعف في الروايات التي جمعتها ، فقال - زاده الله علماً وفضلاً - إن ضعف هذه الروايات لا يعنى ضعف الحديث ، فقد يكون مروياً من طرق أخرى صحيحة لم تصل إليك (533?????)، ثم أشار إلى كتابين أخرجا الحديث ولم يكونا من المصادر التي اعتمدت عليها قبل هذا البحث .
أحدهما :معجم الطبرانى ، فنظرنا فيه ووجدنا في الإسناد القاسم بن حسان ، فالرواية إذن غير صحيحة .
والثانى :مستدرك الحاكم وفيه ما يفيد سماع الأعمش من حبيب ، ولكن يبقى أيضاً مواطن الضعف الأخرى (534?????). ولم يتذكر لماذا صحح الحديث ، ولم يتمكن من الرجوع إلى ما كتب نظراً لإبعاده عن داره ومكتبته ، وبعد سفره قرأت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلما أبلغ به طلب تصوير الصفحات .
والشيخ الجليل في تصحيحه للحديث أشار إلى تخريج المشكاة ، فرأيت الرجوع إليها عسى أن أقف على حجته في التصحيح .
في الجزء الثالث في مشكاة المصابيح ( ص 1735) جاءت روايتان للحديث هما رقم 6143، 6144.
قرأت الروايتين والتخريج فكانت المفاجأة مذهلة . وأثبت هنا ما جاء في الكتاب بالنص :
الرواية رقم 6143 :(1/391)
عن جابر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس : إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله ،وعترتي أهل بيتي " (رواه الترمذي ).
والرواية الأخرى نصها كما يلى :
وعن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " .(رواه الترمذي ) .
هاتان هما الروايتان ، أما التخريج فهو كما يلى :
الرواية الأولى : " وقال - أي الترمذي - : حديث حسن غريب .
قلت - أي الألبانى - : وإسناده ضعيف "
الرواية الثانية : " وقال : حديث حسن غريب قلت : وإسناده ضعيف أيضاً ، لكنه شاهد للذى قبله " .
هذا ما قرأته ، ونقلته بنصه ، والضعيف الذي يشهد للضعيف لا يرفعه لمرتبة الصحيح ، بل قد لا يزيده إلا ضعفاً ، فمن أين جاء تصحيح الشيخ إذن ؟
وبعد لقائى بالشيخ الجليل تتبعت روايات الطبراني للحديث في المعجم الكبير ، فوجدت خمس عشرة رواية :
تسع منها عن زيد بن أرقم ، وهى الرواية رقم 2681 بالجزء الثالث ، وفى الجزء الخامس الروايات الثمانية وأرقامها : 4980، 4981 ، 4982 ، 5025 ، 5026 ، 5027 ، 5028 ، 5040 وعرفنا ما صح عن زيد بن أرقم ، فلا حاجة للنظر في هذه الروايات .
أما الروايات الستة الباقية فهى كما يلى :
روايتان يرويهما عطية عن أبى سعيد ، وهما رقم 2678 ، 2679 بالجزء الثالث .
وروايتان يرويهما زيد بن الحسن الأنماطى ، وهما رقم 2680 ، 2683 ، وهما بالجزء الثالث أيضاً .
وروايتان يرويهما القاسم بن حسان ، وهما رقم 4922 ، 4923، وهما بالجزء الخامس .(1/392)
ومن هذا التتبع نرى أن الضعف في هذه الروايات لا يخرج عما ذكرته من قبل في مناقشة روايات مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ،ويؤكد عدم استبعاد أن يكون الحديث كوفي النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك . كما يزيدنا اطمئنانا إلى صحة المنهج الذي بدأت به ، واكتفيت بالرجوع إلى الكتب السبعة والموطأ . فالرجوع إلى غير هذه الكتب لم يضف إلينا جديدا .
فقه الحديث
مما سبق نرى أن حديث الثقلين التي صح سندها صح متنها ، وأن الروايات الثمانية التي تأمر بالتمسك بالعترة إلى جانب الكتاب الكريم لم تخل واحدة منها من ضعف في السند (535?????)، وفى متن هذه الروايات نجد الإخبار بأن الكتاب وأهل البيت لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل هذا وجب التمسك بهما . ولكن الواقع يخالف هذا الإخبار ، فمن المتشيعين لأهل البيت من ضل وأضل ، وأكثر الفرق التي كادت للإسلام وأهله وجدت من التشيع لآل البيت ستاراً يحميها ، ووجدت من المنتسبين لآل البيت من يشجعها لمصالح دنيوية ، كأخذ خمس مايغنمه الأتباع ، وفرق الشيعة التي زادت على السبعين كل فرقة ترى أنها على صواب ، وأن غيرها قد ضل إن لم يكن قد كفر! ولسنا في حاجة إلى إثبات هذا القول ، فالكتب التي تبحث في الفرق ، وكتب الفرق ذاتها تبين هذا ، والجعفرية مثلاً عندما يشترطون للإيمان عقيدتهم في الأئمة الاثنى عشر يخرجون الأمة كلها من الإيمان ! وعقيدتهم هذه لا يسندها نص واحد من كتاب الله تعالى كما رأينا ، فإذا أمرنا بالتمسك بأهل البيت فبمن نتمسك ؟ أبكل من ينتسب لأهل البيت ! وإن تركوا كتاب الله وسنة نبيه ! بالطبع لا .
إذن عدم الضلال يأتي من التمسك بالكتاب والسنة ، وإذا تمسك أهل البيت بهما كان لهم فضل الانتساب مع فضل التمسك واستحقوا أن يكونوا أئمة هدى يقتدي بهم كما قال تعالى:-(1/393)
"وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"أي أئمة نقتدى بمن قبلنا ، ويقتدي بنا من بعدنا(536?????) ، ولا يختص هذا بأهل البيت ولكن بكل من يعتصم بالكتاب والسنة .
فالروايات التي ضعف سندها لا يستقيم متنها كذلك ، وهذا ضعف آخر ، ومع هذا كله فلو صحت هذه الروايات فإنها لا تدل على وجوب إمامة الأئمة الاثنى عشر وأحقيتهم للخلافة .
وللننظر في فقه روايات الحديث الكوفية .
قال العلامة المناوى في فيض القدير (3/14): " إن ائتمرتم بأوامر كتابه ، وانتهيتم بنواهيه ، واهتديتم بهدى عترتى ، واقتديتم بسيرتهم ، اهتديتم فلم تضلوا .
قال القرطبى : وهذه الوصية ، وهذا التأكيد العظيم ، يقتضى وجوب احترام أهله ، وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم ، وجوب الفروض المؤكدة التي لاعذر لأحد في التخلف عنها " .
ثم قال المناوى بعد هذا (3/15): لن يفترقا : أي الكتاب والعترة ، أي يستمرا متلازمين حتى يردا على الحوض : أي الكوثر يوم القيامة .(1/394)
زاد في رواية : كهاتين ، وأشار بأصبعيه ، وفى هذا مع قوله أولاً : " إنى تارك " تلويح بل تصريح بأنهما كتوأمين ، خلفهما ووصى أمته بحسن معاملتهما ، وإيثار حقهما على أنفسهما ، واستمساك بهما في الدين ، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية ، والأسرار والحكم الشرعية ، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق . وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين ، فطيب العنصر يؤدى إلى حسن الأخلاق ، ومحاسنها تؤدى إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته . قال الحكيم : " والمراد بعترته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن . أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام ، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلى بالفضائل ، والتخلى عن الرذائل ، فإن كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائناً ما كان ، ولا يعارض حثه هنا على اتباع عترته حثه في خبر على اتباع قريش ، لأن الحكم على فرد من أفراد العام بحكم العام لا يوجب قصر العام على ذلك الفرد على الأصح ، بل فائدته مزيد الاهتمام بشأن ذلك الفرد ، والتنويه يرفعه قدره . ثم قال الشريف : هذا الخبر يفهم منه وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به ، كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض ، فإن ذهبوا ذهب أهل الأرض " ا . هـ.
وقال ابن تيمية بعد أن بيَّن أن الحديث ضعيف لا يصح : " وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة . قالوا : ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضى أبو يعلى وغيره " .
وقال أيضاً : " إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع ، والعترة بعض الأمة ، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة " .
بالنظر في هذه الأقوال ، وبتدبر متن الحديث ، نقول :(1/395)
يجب ألا يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت ، فكثير من الفرق التي رزئ بها الإسلام والمسلمون ادعت أنها هي التابعة لأهل البيت .
أهل البيت الأطهار لا يجتمعوا على ضلالة ، تلك حقيقة واقعة ، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الإسلام لم يجتمعوا على شىء يخالف باقي الأمة ، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية .
إذا نظرنا إلى أهل البيت كأفراد يتأسى بهم ، فمن يتأسى به منهم ، ونتمسك بسيرته ، لابد أن يكون متمسكاً بالكتاب والسنة ، فإن خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت .
وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فعند الخلاف نطبق قول الله :-
" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " (537?????)
لو كان ما ذكره الشريف من الفقه اللازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن ، فالأيام أثبتت بطلانه ، وإلا فمن الذي نؤمر باتباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال ؟
أبإحدى الفرق التي تنتسبب آل ؟ أم بجميع الفرق وكل فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره ؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق ؟ !
5. فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسك بهم ، فالعطف على الصغير ، ورعاية اليتيم ، والأخذ بيد الجاهل ، غير الأخذ عن العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا : روايات أخرى متصلة بالغدير
هناك روايات أخرى متصلة بالغدير منها في المسند عن الإمام على سبع روايات هي (538?????):-
حدثنا ابن نمير ، حدثنا عبدالملك ، عن أبى عبدالرحيم الكندى ، عن زاذان أبى عمر قال : سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس : من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال ؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : من كنت مولاه فعلى مولاه .(1/396)
حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا الربيع يعنى ابن أبى صالح الأسلمى ، حدثني زياد بن أبى زياد : سمعت على بن أبى طالب ينشد الناس فقال : أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال ؟ فقام اثنا عشر بدرباً فشهدوا .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن الحكيم الأودى ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن سعيد بن وهب ، عن زيد بن يثُيع قالا : نشد على الناس في الرحبة : من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام ؟ قال : فقام من قبل سعيد ستة ، ومن قبل زيد ستة ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين ؟ قالوا : بلى ، قال : اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن حكيم ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن عمرو ذى مر ، بمثل حديث أبى إسحق ، يعنى عن سعيد وزيد ، وزاد فيه: وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني عبد الله بن عمر القوايرى ، حدثنا يونس بن أرقم ، حدثنا يزيد بن أبى زياد ، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى قال : شهدت علياً في الرحبة ينشد الناس :
أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد ؟
قال عبدالرحمن : فقام اثنا عشر بدرياً ، كانى أنظر إلى أحدهم ، فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم وأزواجى أمهاتهم ؟ فقلنا : بلى يا رسول الله ، قال : فمن كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .(1/397)
قال عبد الله بن أحمد : حدثنا أحمد بن عمر الوكيعى ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الوليد بن عقبة بن نزار العنسى ، حدثني سماك بن العبيد ابن الوليد العبسى قال : دخلت على عبدالرحمن بن أبى ليلى ، فحدثنى أنه شهد علياً في الرحبة قال : أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهده يوم غدير خم إلا قام ، ولا يقوم إلا من قد رآه ؟ فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا : قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، فقام إلا ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم ، فأصابتهم دعوته .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا شبابة ، حدثني نعيم بن حكيم ، حدثني أبو مريم ورجل من جلساء على عن على : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه ، قال : فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه .
مناقشة الروايات
هذه هي الروايات السبع ، والرواية الأولى سندها ضعيف ، إلا أن متنها صحيح وهو : " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، والروايات الأخرى تؤيده ، كما أنه روى بطرق مختلفة عن غير الإمام على ، حتى عده بعض رجال الحديث من المتواتر أو المشهور (539?????).
وفى الروايتين الثالثة والخامسة نجد زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " . وفى الرابعة " وانصر من نصره ، واخذل من خذله " ولكن نجد في السابعة " فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه " .
فهذه الرواية تنص على أن الزيادة ليست من قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
والإشكال هنا أن هذه الروايات الأربع صحيحة السند ، وفى المسند كذلك عن زيد بن أرقم عدة روايات في بعضها زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " ، وفى بعضها إنكار لهذه الزيادة (540?????) ، وهذا يجعلنا نتوقف فلا نستطيع الحكم بأن هذا قول النبي الكريم أو زيادة الناس بعد إلا بمزيد من البحث للترجيح .(1/398)
والمهم هنا دلالة المتن مع الزيادة أو بدونها ، أيعتبر هذا نصاً في أن الخلافة يجب أن تكون للإمام على ؟
سبق بيان أن الولى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وبمعنى الناصر والخليل ، والقرآن الكريم عندما أمر بمولاة أقوام ، أو نهى عن موالاة آخرين جاءت الموالاة بمعنى النصرة والمحبة ، ولم تأت حالة واحدة بمعنى الولاية العامة على المؤمنين ، وهذه الروايات تأمر بموالاة الإمام على ونصرته وتنهى عن معاداته وخذلانه ، وهذا لا يخرج عن الاستعمال القرآنى كما هو واضح ، فإذا كان النهى عن المعاداة والخذلان ، فالأمر بالمحبة وهى الموالاة والنصرة ، ولا مكان للخلافة هنا ، ولو أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان التعبير بنص صريح لا يحتمل تأويلاً يخرجه عن معناه ، ولكانت القرائن كذلك تؤيده .
ومما يدل على أن المراد بالموالاة المحبة والنصرة لا الخلافة ، أن الإمام نشد الناس في الكوفة بعد أن آلت الخلافة إليه ، وأهل الكوفة - ومن ذهب معه إليها - بايعوه بلا خلاف ، ولكن أكثرهم خذلوه ولم ينصروه كما هو معلوم مشهور(541?????) ولو كان المراد بالموالاة الخلافة لاحتج بهذا على الخلفاء الراشدين السابقين وعلى من بايعهم ، وهذا لم يثبت على الإطلاق ، ولم أجد في كتب السنة التي رجعت إليها رواية واحدة تذكر مثل هذا الاحتجاج .(1/399)
وفى الفصل الأول ذكرت ما رواه البخاري ومسلم عن بيعة أبى الحسن للصديق ، وليس فيها ذكر لشىء عن الغدير ، ولم ينكر الإمام على أحقية الصديق و لا فضله ، وسر المسلمون بذلك الموقف وقالوا لعلى : أصبت وأحسنت ، وكانوا إليه قريباً حين راجع المعروف ، أي حين بايع ، ولو نشد المسلمين هنا لشهد المئات ممن حضر الغدير ، ومنهم من شهد بعد ذلك بالفعل في الكوفة ، ولكنه بين سبب تأخره عن البيعة بقوله لأبى بكر : " إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً " . وعند البيعة أمام المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر وتشهد ، وعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ، ولا إنكاراً للذى فضله الله به ، " ولكننا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علنا ، فوجدنا في أنفسنا " .
فالإمام على قد وجد في نفسه لأنه لم يشرك في أمر الخلافة واستبد بهغيره ، وله ما يؤيد وجهة نظره ، فأمر خطير كهذا لا يُقضى دون مشورة أبى الحسنين ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء ، إلى جانب فضله وسبقه وعلمه . وعذر أبى بكر وعمر وسائر الصحابة كان واضحاً - كما يقول النووى - لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ،ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لأنها كانت أهم الأمور ، كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله ، أو الصلاة عليه أو غير ذلك ، وليس لهم من يفصل الأمور ، فرأوا تقديم البيعة أهم الأشياء .
فلو كانت الموالاة تعنى الخلافة لاحتج بها على الصديق ومن بايعه ، ولما تمت البيعة أصلاً .(1/400)
والشكوى التي من أجلها دافع الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبى الحسن توضح أن المراد بالموالاه شىء آخر غير الخلافة ، أو على أقل تقدير لا ترجح أن الخلافة هي المراد .
وتبين الشكوى كذلك السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا في خطبته الجامعة يوم عرفة في حجة الوداع ، فلو كان المراد الخلافة لكان من الأرجح - إن لم يكن من المؤكد - أن يقال هذا في تلك الخطبة لا أن يقال بعد الشكوى(542?????).
قال الآلوسى :
" ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدى ، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد . ولا يتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة " (543?????).
وإذا كان عدم التقييد بلفظ بعدى في جميع الروايات السابقة يؤيد ما ذهب إليه الآلوسى ، فإنى وجدت روايات فيها التقييد ،وربما يستدل بها على أن المراد بالولاية أولوية التصرف ، ويحمل المطلق على المقيد حينئذ ، وهذه الروايات نجدها في المسند وسنن الترمذي ، ففيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن علياً منى وأنا منه ، وهو ولى كل مؤمن بعدى" (544?????) وزاد الترمذي : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من جعفر بن سليمان " . وجعفر هذا نجده في رواية الإمام أحمد كذلك ، ثم انفرد برواية أخرى عن طريق غير جعفر وفيها : " وإنه منى وأنا منه ، وهو وليكم بعدى " (545[194]).
وجعفر بن سليمان من شيعة البصرة ، وهو متكلَّم فيه : وثقة ابن معين وعباس وابن حبان والبزار . قال ابن سعد : كان ثقة وبه ضعف ، وكان يتشيع .
وقال أبو طالب عن أحمد : لا بأس به . قيل له : إن سليمان بن حرب يقول لا يكتب حديثه ؟ فقال : إنما كان يتشيع ، وكان يحدث بأحاديث في فضل على ، وأهل البصرة يغلون في على . قلت عامة حديثة رقاق ؟ قال :(1/401)
نعم ، كان قد جمعها وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه ، وكان يستضعفه . وكان عبدالرحمن بن مهدى يستثقل حديثه .
وقال البخاري : يقال كان أميّاً ، وقال في الضعفاء ، يخالف في بعض أحاديثه . وقال ابن المديني : هو ثقة عندنا ، وقال أيضاً : أكثر عن ثابت ، وبقية أحاديثه مناكير .
وقال ابن شاهين في المختلف فيهم : إنما تكلم فيه لعلة المذهب ، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار يقول : جعفر بن سليمان ضعيف .
وبغير ترجيح لتوثيق جعفر بن سليمان أو تضعيفه يمكن القول بأن حديثاً ينفرد به ويتصل بمذهبه لا يرقى إلى مرتبة الاحتجاج .
والرواية الأخرى للإمام أحمد نجد في سندها الأجلح الكندى (546[195]) ، وهو من شيعة الكوفة ، ومتكلَّم فيه أيضاً ، وثقه ابن معين والعجلى وابن عدى ، وقال يعقوب بن سفيان : ثقة حديثة لين .
وقال أحمد : روى الأجلح غير حديث منكر .
وقال القطان : في نفسى منه شىء . وقال أيضاً : ما كان يفصل بين الحسين ابن على وعلى بن الحسين ، يعنى أنه ما كان بالحافظ . وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول ، جعل أبا سفيان أبا الزبير .
وضعفه أبو داود والنسائى وأبو حاتم ، وقال ابن سعيد : كان ضعيفاً جداً ، بل وصمه الجوزجانى بالافتراء . إذن فهذه الرواية التي انفرد بها أحمد عن الأجلح لا يحتج بها ، ولا توجد روايات فيها تقييد بلفظ بعدى ، وبذا يظل ما ذكره الآلوسى صحيحاً .
رابعا : روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
بعد هذا كله نقول : إن الروايات السابقة هي جميع ما يتصل بالغدير عمدة أدلة الشيعة ، ومن عرضها ومناقشتها تبين لنا أنها لا تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية
من القول في الإمامة ، وتوجد روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم ، نعرض أهمها ونناقشها بشىء من الإيجاز .(1/402)
1-خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ؟ فقال : " أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدى " .
هذا الحديث الشريف رواه الشيخان وغيرهما (547?????) ، وهو بلا شك يدل على فضل الإمام كرم الله وجهه ، وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة آخرين(548?????) ، فهذا الاستخلاف ليس خاصاً بأبى الحسن ، ومثل هذا الاستخلاف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لايقتضى الخلافة في الأمة بعد مماته ، ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الخلافة العظمى لقالها ، فما يمنعه صلى الله عليه وسلم ولقال ذلك للمسلمين ، ووجب عليهم السمع والطاعة وإن ولى عليهم عبد حبشى مجدع الأطراف . وواضح من شكوى الإمام في جعله مع الخوالف من النساء والصبيان أن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ترضية لنفسه وتهدئة لخواطره ، فموسى استخلف هارون عليهما السلام عندما توجه إلى الطور ، ولكن الجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم " أنزله منه منزلة هارون من موسى ، ولم يستثن من جميع المنازل إلا النبوة ، واستثناؤها دليل على العموم " (549?????).(1/403)
وقولهم فيه نظر ، فمثلاً كان هارون أخاً لموسى وأفصح منه لساناً ، وهذا ينقض العموم ، لأن هاتين المنزلتين لا تتحققان لعلى . بل إن التطابق لا يتحقق في الاستخلاف ذاته ، فموسى استخلف أخاه على بنى إسرائيل وذهب هو للمناجاة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف ابن عمه على المدينةوليس فيها إلا من لم يخرج للقتال من النساء ، والصبيان والعجزة ، أما عامة المسلمين فكانوا الجيش الذي خرج للقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن " هارون لم يل أمر بنى إسرائيل بعد موسى عليهما السلام ، وإنما ولى الأمر بعد موسى رضي الله عنه يوشع بن نون فتى موسى وصاحبها الذي سافر معه لطلب الخضر عليهما السلام ، كما ولى الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (550?????).
2-روى الإمام البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" يكون اثنى عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبى : إنه قال : كلهم من قريش (551?????) " .
وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبى على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : " إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة ، قال : ثم تكلم بكلام خفى على قال : فقلت لأبى ما قال ؟ قال : كلهم من قريش " .
وفى رواية أخرى " لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً " وفى إحدى الروايات كذلك " لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثنى عشر خليفة " (552?????) ، وفى رواية لأبى داود " كلهم تجتمع عليه الأمة " (553?????).
وتحديد الخلفاء باثنى عشر هو الذي جعل الاثنى عشرية يحتجون بهذه الروايات ، ولكن من الواضح أن هذه الروايات تشير إلى المدة التي يظل فيها عزة الإسلام والدين ، وصلاح حال المسلمين . وعلى قول الجعفرية تظل هذه العزة وهذا الصلاح إلى يوم القيامة كما يظهر من قولهم في الإمام الثانى عشر !(1/404)
وواقع الأمر ودلالة الروايات يدلان على غير هذا . ومن الواضح كذلك أن الأمة لم تجتمع على أئمة الجعفرية ، بل لم يتولوا الخلافة أصلاً باستثناء الإمام على.
3-أخرج البخاري(554[203]) عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم قال : وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدى. قال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله . واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال : قوموا عنى .
قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .
وعن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ؟ اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : إئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً . فتنازعوا ، ولاينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا : ماشأنه أهجر؟ استفهموه ، فذهبوا يردون عليه فقال : دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه ، وأوصاهم بثلاث ، قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيتها (555?????).(1/405)
وفى رواية للإمام أحمد (556[205]) : حدثنا سفيان عن سليمان بن أبى مسلم خال ابن أبى نجيح ، سمع سعيد جبير يقول : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بل دمعه - الحصى ، قلنا يا أبا العباس ، وما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : ائتونى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا ما شأنه ؟ أهجر ؟ قال سفيان : يعنى هذى ، استفهموه ، فذهبوا يعيدون عليه ، فقال : دعونى ، فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه ، وأمر بثلاث ، وقال سفيان مرة أوصى بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت سعيد عن الثالثة ، فلا أدرى أسكت عنها عمداً ، وقال مرة أو نسيها ؟ وقال سفيان مرة : وإما أن يكون تركها أو نسيها .
ووردت هذه الروايات كذلك في صحيح مسلم (557?????).(1/406)
ولا تبدو صلة بين هذه الروايات وبين الإمامة ، ولكن الوصية الثالثة - التي نسيت أو تركت - كانت المدخل للجدال ! فوجدنا من الجعفرية من يقول بأن الصحابة " علموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد توثيق العهد بالخلافة ، وتأكيد النص بهذا علَى علىّ خاصة ، وعلى الأئمة من عترته عامة ، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثانى في كلام دار بينه وبين ابن عباس ، وأنت إذا تأملت في قوله صلى الله عليه وسلم " ائتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده " ، وقوله في حديث الثقلين : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " ، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد ، وأنه صلى الله عليه وسلم أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين " - كتاب المراجعات ص 284 ، وفى ص 255 قال : " ومع ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا ثلاث : أن يولوا عليهم علياً ، وأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزه ، لكن السلطة والسياسة يومئذ ما أباحتا للمحدثين بوصيته الأولى ، فزعموا أنهم نسوها " .
ولسنا في حاجة إلى الحديث عن كبار الصحابة ، رضوان الله عليهم . وعن تنزيههم عن مثل هذه المفتريات ، ولكن يكفى أن نقول : بأن هذه الروايات ليست دليلاً قائماً بذاته وإنما يحتاج إلى أدلة أخرى لترجيح احتمالات الوصية الثالثة وما أريد كتابته ، ولذلك احتج بحديث الثقلين للاستدلال ، وهذا الحديث لم يصح له إسناد كما ثبت من قبل ، والذى صح حديث التمسك بالكتاب والسنة ، فلعله هو المراد من الوصية الثالثة .(1/407)
على أن ذلك من باب الترجيح لا الجزم (558?????) . واتهام المحدثين بأنهم زعموا النسيان خوفاً من السلطة وميلاً مع السياسية ، وهم يعلمون أن الوصية خاصة بخلافة على ، هذا الاتهام لو صح فإنه يوجه إلى سعيد بن جبير ، ويكفى لرده أن يعرف تاريخ سعيد ، وشجاعته أمام الحجاج ، وأن نقرأ ما كتب عنه في كتب الجعفرية أنفسهم (559?????) .
وإن تعجب فعجب قولهم بأن الفاروق اعترف بأن الكتاب أريد به توثيق العهد بالخلافة لعلى والأئمة من عترته ، وأنه هو وكبار الصحابة صدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ! (560?????) .
وسيأتي بعد قليل رواية الصحيحن عن عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف .
خامسا : روايات لها صلة بموضوع الإمامة
مما سبق نرى أن السنة النبوية - كما روتها الكتب الثمانية وغيرها أيضاً مما رجعنا إليه - ليس فيها ما يؤيد عقيدة الشيعة الجعفرية في الإمامة ، وفى هذه الكتب وردت روايات أخرى لها صلة بموضوع الإمامة نعرضها ونناقشها فيمتا يأتي :-
من يؤمّر بعدك ؟
1- روى الإمام أحمد بسند صحيح (561?????) عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " قيل : يا رسول الله : من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا عليّاً ، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " .
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الإمامة بالاختيار لا بالتعيين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً ، وإنما جعل هذا للمسلمين ، وذكر ثلاثة يصلحون لخلافته (562?????).
الاستخلاف(1/408)
2- روى الشيخان بسندهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " قيل لعمر : ألا تستخلف ؟ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ؛ أبو بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى ، رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأثنوا عليه فقال : راغب راهب ، وددت أنى نجوت منها كفافاً لا لي ولا على ، لا أتحملها حياً وميتاً " (563?????) .
وفى رواية أخرى لمسلم بسند آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : " دخلت على حفصة فقالت : أعلمت أن أباك غير مستخلف ؟ قال : فقلت : ما كان ليفعل . قالت : إنه فاعل . قال : فحلفت أنى أكلمه في ذلك ، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه ، قال : فكنت كأنما أحمل بيمينى جبلاً حتى رجعت ، فدخلت عليه ، فسألنى عن حال الناس وأنا أخبره ، قال : ثم قلت : إنى سمعت الناس يقولون فآليت أن أقولها لك ، زعموا أنك غير مستخلف ، وإنه لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد . قال : فوافقه قولى فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلىّ فقال : إن الله عز وجل يحفظ دينه ، وإنى لئن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف . قال : فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، وأنه غير مستخلف" (564?????).
وروى أحمد بسند صحيح عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " لتخضبن هذه من هذا ، فما ينتظر بى الأشقى ؟ قالوا : ياأمير المؤمنين ، فأخبرنا به نبير عترته ! قال : إذن تالله تقتلون بى غير قاتلى ، قالوا : فاستخلف علينا ، قال : لا ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال : اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك ، ثم قبضتنى إليك وأنت فيهم ، فإن شئت أصلحتهم ، وإن شئت أفسدتهم " .(1/409)
وفى رواية بسند آخر أن الإمام قال : " والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه ، قال الناس : فأعلمنا من هو ؟ والله لنبيرن عترته ! قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلى ، قالوا : إن كنت قد علمت ذلك استخلف إذن . قال لا ، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (565?????).
فهذه الروايات تدل على أن عمر وعلياً رضي الله عنهما لم يستخلفا أحداً تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهى تشترك مع الرواية الأولى في الدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحد لخلافته .
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن قيس بن عباد قال : " كنا مع على فكان إذا شهد مشهداً أو أشرف على أكمة أو هبط وادياً قال : سبحان الله ! صدق الله ورسوله ، فقلت لرجل من بنى يشكر : انطلق بنا إلى أمير المؤمنين حتى نسأله عن قوله صدق الله ورسوله ، قال : فانطلقنا إليه : فقلنا : يأأمير المؤمنين ، رأيناك إذا شهدت مشهداً ، أو هبطت وادياً ، أو أشرفت على أكمة ، قلت : صدق الله ورسوله ، فهل عهد رسول الله إليك شيئاً في ذلك ؟ قال : فأعرض عنا ، وألححنا عليه ، فلما رأي ذلك قال : والله ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً إلا شيئاً عهده إلى الناس ، ولكن الناس وقعوا على عثمان فقتلوه ، فكان غيرى فيه أسوأ حالاً وفعلاً منى ، ثم إنى رأيت أنى أحقهم بهذا الأمر فوثبت عليه ، فالله أعلم أصبنا أم أخطأنا (566?????).
وكذلك يؤيد ما سبق ما رواه الشيخان وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ولم يوص ، وقد روى هذا عن ابن عباس ، وعبد الله بن أبى أوفى ، والسيدة عائشة (567?????) .
يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر(1/410)
3- روى البخاري بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلوات الله عليه قال : " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد ، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ، ثم قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون " (568?????) .
وروى مسلم عنها أيضاً أنها قالت : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : ادعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (569?????) .
وأخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الشريف بسند صحيح كسند مسلم ، وبسندين آخرين (570?????).
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلافة لو كانت بالنص لكانت لأبى بكر الصديق ، فهو الأولى بها ، وتم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد أبى الله سبحانه والمؤمنون إلا أبا بكر .
وأرى أن الرسول صلوات الله عليه قد مهد لخلافة الصديق بعدة أمور ، منها : جعله أمير الحج في العام التاسع ، ولما أرسل أبا الحسن بسورة براءة لم يرسله أميراً ، بل جعله تحت إمرة الصديق .
ومنها خطبته صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبى سعيد الخدري قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ماعند الله . فبكى أبو بكر رضي الله عنه ، فقلت في نفسى : ما يُبكى هذا الشيخ ، إن يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ما عند الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد ، وكان أبو بكر أعلمنا .
قال : يا أبا بكر لا تبك ، إن أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتى لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " .(1/411)
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنه ليس من الناس أحد أمن على في نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة ، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل ، سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر " (571?????).
وروى الخطبة كلُُّ من أحمد والترمذى بسند صحيح (572?????).
ومما مهد كذلك لخلافة الصديق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤم المسلمين في الصلاة عندما اشتد المرض ولم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم ، واستمر المسلمون مأمومين خلف أبى بكر إلى أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى .
وروى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود ، وروى النسائي عنه أيضاً (573?????) قال : " لما ُقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر فقال : يا معشر الأنصار ، ألستهم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . فإمامة الصلاة إذن مما مهد للإمامة الكبرى (574?????).
ومما مهد لهذه الإمامة كذلك ما رواه الشيخان بأسانيدهما عن جبير بن مطعم قال : أتت النبيصلى الله عليه وسلم امرأة فكلمته في شئ فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : يا رسول الله ، أرأيت إن جئت ولم أجدك كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (575?????).
المهدى
4-أخرج أحمد في مسنده عن الإمام على قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهدى منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ".
وفى رواية أخرى " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منا ، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً " .(1/412)
وفى المسند أيضاً عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يلى رجل من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمى " .
وفى رواية ثانية : " لا تذهب الدنيا أو قال : لا تنقضى الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمى " ، ووردت هذه الرواية بأسانيد أخرى (576?????).
وأحاديث المهدى لم يرد منها شىء في الصحيحين ، ولكنها جاءت في المسند وكتب السنن ، وكثر حولها الجدل . والذى يعنينا هنا هو أن الأحاديث منها صحيحة الأسانيد بما لايدع مجالاً لرفضها (577?????) ومع هذا فإنها لا تدل على أنه المهدى الذي قالت به " الجعفرية " وإنما هو رجل من أهل البيت يُبعث قبيل الساعة ، وفى بعض الروايات أنه يحكم خمس سنين أو سبعاً أو تسعاً (578?????).
فلابد من أحاديث أخرى تبين أنه الإمام الثانى عشر المعين بالنص ، الذي بقى من القرن الثالث الهجرى إلى قيام الساعة (579?????) !
وهاذا ما لم نجده في كتب الحديث الثمانية التي التزمنا الرجوع إليها ، ولا في غيرها من الكتب التي رجعنا إليها ، بل وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً للخلافة من بعده كما ذكرنا من قبل ، والإمام الثانى عشر الذي قالت به الجعفرية تبع لقولهم في باقي الأئمة . ووجدنا كذلك في بعض الأحاديث ما ينقض قول الجعفرية ، ففيها " يؤاطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " . وفيها أن علياً نظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنهما فقال : إن ابنى هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الُخلق ولا يشبهه في الخْلق صلى الله عليه وسلم.... يملأ الأرض عدلاً (580?????)
وبعد : فتلك سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تشهد بصحة ما ذهب إليه جمهور المسلمين ، وتشهد بأن الإمامة ما كانت بنص ولا تعيين . فالحمد لله عز وجل الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله .
الفصل الرابع(1/413)
الاستدلال بالتحريف والوضع
رأينا في الفصول السابقة أن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية لا تستند إلى شيء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شيء من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلا يؤيد مذهبهم .كما رأينا أن السنة النبوية المطهرة لا تؤيد هذه العقيدة الباطلة ، بل تعارضها، وتثبت بطلانها بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة .
والإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ إنما يستمد من الكتاب العزيز والسنة المشرفة . وكان إذن يمكن الاكتفاء بما سبق والانتقال إلى موضوع آخر ، غير أننى رأيت أن كتبهم التي يحاولون بها إفساد المجتمع المسلم ، ونشر هذه العقيدة الباطلة ، رأيت هذه الكتب لا تكتفي بما سبق مما ناقشناه من الأدلة ، بل تلجأ إلى تحريف القرآن الكريم نصا ومعنى ، وجمع الروايات المختلفة للأحاديث الموضوعة والباطلة ، وتقدم كل هذا على أنه أدلة ثابتة أو يقينية متواترة تؤيد عقيدتهم . وغير أهل الاختصاص ، وهم الكثرة ، بل عامة الناس ، لا يستطيعون أن يميزوا بين الروايات الصحيحة وغير الصحيحة .
ولذلك كان من المناسب كشف هذا التضليل وبيان هذا الباطل . ومن الكتب القديمة التي حاولت إفساد المجتمع المسلم آنذاك كتاب " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " لابن المطهر الحلي وقد رد عليه بالتفصيل ممن عاصره شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه القيم الفذ " منهاج السنة النبوية " .
وفى عصرنا وجدنا كتابا طبع منه ملايين النسخ ، أو مئات الآلاف على أقل تقدير ، حاول مؤلفه أيضا أن يفسد المجتمع المسلم المعاصر ، وأن يشككه في عقيدته الصحيحة ، ويزين له باطل هذا الرافضي ، وهذا الكتاب المشهور هو كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، وقد رددت عليه بكتابي" المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " .(1/414)
وفى هذا الفصل أتناول شيئا من كتابى الرافضيين ، والرد عليهما ، وبيان بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال ، كما نبين منهج الرافضة في التضليل، والله عز وجل هو المستعان .
تحريف القرآن الكريم
للاستدلال بالقرآن الكريم على عقيدة الرافضة ، سلكوا كغيرهم من الفرق الضالة مسلك التحريف في النص والمعنى ، وسنرى هذا بوضوح وجلاء عند دراستنا لكتب تفسيرهم ، وبيان موقفهم من القرآن الكريم ، وكذلك عند عرضنا لكتابهم الأول ـ والأعلى عندهم ـ في الحديث ، وهو كتاب الكافى ، وذلك أثناء عرض الأبواب والأخبار المتصلة بالقرآن المجيد .
وعبد الحسين في كتابه نرى المراجعة الثانية عشرة تدور حول ما أسماه " حجج الكتاب " ، وذكر فيها كثيرا من الآيات الكريمة ، وحرف معناها حتى بدا القرآن الكريم كأي كتاب من كتب الفرق الضالة وليس " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" ، " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ " فعلى سبيل المثال جاء في هذه المراجعة أن الرافضة هم مراد الله تعالى فيمن ذكر أنهم أصحاب الجنة ، والمتقون ، وخير البرية ، ... إلى آخره ، أما خير أمة أخرجت للناس من الصحابة الكرام الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، فهؤلاء في زعم خليفة ابن سبأ هم أصحاب النار ، والفجار ، والكفار ، وكذلك خير البشر بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، حيث خصهما بمزيد من الطعن ؛ فهما في زعمه الجبت والطاغوت وأئمة الضلال . وهكذا يستمر هذا الرافضي اللعين في زندقته وضلاله مما يوجب إقامة الحد عليه .(1/415)
وما ذكره هذا الرافضي يردده غلاة الرافضة في كتبهم واستدلالاتهم . ومعظم ما ذكره هنا سبقه إليه ابن المطهر الحلى ، حيث جاء بأربعين آية كريمة ، وحرف معناها لتتفق مع ضلاله . وقد أثبتها كاملة شيخ الإسلام وأجاب عنها ، وفصل بطلان الاستدلال بها في الجزء السابع من منهاج السنة ( من بدايته إلى ص 297 ) ولولا الإطالة لنقلت تلك الصفحات ، ففيها إقناع وإمتاع ، وفضح للغلاة الرافضة . وسأكتفى هنا بذكر جزء جاء في بداية الرد على البرهان الأول ، وهو نفسه الدليل الأول الذي ذكرته في الفصل الثانى من هذا الباب ، وهو ما يتعلق بقوله تعالى " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ?"( 55 : المائدة ) بعد ذكر كلام الرافضي قال شيخ الإسلام :
والجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل ، من جنس السفسطة ، وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة ؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين ، كقوله تعالى:
" وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة البقرة : 111 ) .
وقال تعالى :
" أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة النمل : 64 ) .
فالصادق لابد له من برهان على صدقه ، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم .(1/416)
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب ، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة ، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل . وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها ، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس ، مع أنه قد يكون كذبا عليه ، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس . فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه ، وقد خالفه الأكثرون برهانا ، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض ، والبراهين لا تتناقض .
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين ، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر ، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه ، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق ، وأن القرآن حق ، وأن دين الإسلام حق ـ تناقض ما ذكره من البراهين ، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب ، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول .
وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين ، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام ، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام ، وروجوها على أقوام ، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل ، فقبلها لهواه ، ولم ينظر في حقيقتها . ومنهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام ، فقال بموجبها ، وقدح بها في دين الإسلام ، إما لفساد اعتقاده في الدين ، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام .
ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب ؛ فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلَّطوا به على الطعن في الإسلام ، وصارت شبها عند من لم يعلم أنها كذب ، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام .(1/417)
وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية ، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين ، وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث ، كأئمة العُبيْديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ، ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضُلاَّل ، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة ، إلى القدح في علىّ ، ثم في النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في الإلهية ، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر ، والناموس الأعظم . ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد .
ثم نقول : ثانيا : الجواب عن هذه الآية حق من وجوه : الأول : أنا نطالبه بصحة هذا النقل ، أو لا ُيذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبى ، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات ، الصادقين في نقلها ، ليس بحجة باتفاق أهل العلم ، إن لم نعرف ثبوت إسناده . وكذلك إذا روى فضيلة لأبى بكر وعمر ، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم .
فالجمهور ـ أهل السنة ـ لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته : لا حكما، ولا فضيلة ، ولا غير ذلك . وكذلك الشيعة .
وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها ، بطل الاحتجاج به . وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبى نُعيم أو الثعلبى أو النقاش أو ابن المغازلى ونحوهم .
الثانى : قوله : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " من أعظم الدعاوى الكاذبة ، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علىّ بخصوصه ، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة ، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع .(1/418)
وأما ما نقله من تفسير الثعلبى ، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبى يروى طائفة من الأحاديث الموضوعات ، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبى أمامة في فضل تلك السورة ، وكأمثال ذلك . ولهذا يقولون : " هو كحاطب ليل " .
وهكذا الواحدى تلميذه ، وأمثالهما من المفسرين : ينقلون الصحيح والضعيف .
ولهذا لما كان البغوى عالما بالحديث ، أعلم به من الثعلبى والواحدى ، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبى ، لم يذكر في تفسيره شيئا من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبى ، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبى ، مع أن الثعلبى فيه خير ودين ، لكنه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث ، ولا يمّيز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال .
وأما أهل العلم الكبار : أهل التفسير ، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقىّ بن مخلد ، وابن أبى حاتم ، وابن المنذر ، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، وأمثالهم ـ فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات .
دع من هو أعلم منهم ، مثل تفسير أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . بل ولا ُيذكر مثل هذا عند ابن حُميد ولا عبد الرزاق ، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ، ويروى كثيرا من فضائل علىّ ، وإن كانت ضعيفة ، لكنه أجل قدرا من أن يروى مثل هذا الكذب الظاهر .
وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد ، من جنس الثعلبى والنقَّاش والواحدى ، وأمثال هؤلاء المفسرين ، لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا ، بل موضوعا . فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى ، لم يجز أن نعتمد عليه ، لكون الثعلبى وأمثاله رووه ، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب ؟ !(1/419)
…وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يبيّن كذبه عقلا ونقلا ، وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله ، حيث قال : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " فيا ليت شعرى من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور ؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات ، وما فيها من إجماع واختلاف .
فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم ، لو ادّعى أحدهم نقلا مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه ، فكيف إذا ادّعى إجماعا ؟ !
الوجه الثالث : أن يقال : هؤلاء المفسرون الذين نقَلَ من كتبهم ، هم ـ ومن هم أعلم منهم ـ قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى ، والثعلبى قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول : نزلت في أبى بكر . ونقل عن عبد الملك : قال : سألت أبا جعفر ، قال : هم المؤمنون . قلت : فإن ناسا يقولون : هو علىّ . قال : فعلىُّ من الذين آمنوا . وعن الضحاك مثله .
وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا معاوية بن صالح ، حدثنا علىّ بن أبى طلحة ، عن ابن عباس في هذه ، قال: " كل من آمن فقد تولَّى الله ورسوله والذين آمنوا " . قال : وحدثنا أبو سعيد الأشجّ عن المحاربىّ ، عن عبد الملك بن أبى سليمان ، قال : سألت أبا جعفر محمد بن علىّ عن هذه الآية ، فقال : " هم الذين آمنوا " . قلت : نزلت في علىّ ؟ قال : علىّ من الذين آمنوا . وعن السدى مثله .
الوجه الرابع : أنّا نعفيه من الإجماع ، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح . وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبى إسناده ضعيف ، فيه رجال متهمون . وأما نقل ابن المغازلى الواسطى فأضعف وأضعف ، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلىَ من له أدنى معرفه بالحديث ، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا .
واستمر شيخ الإسلام إلى أن ذكر تسعة عشر وجها .(1/420)
والملاحظ أن ابن المطهر كان أكثر ترتيبا وتنظيما من خلفه رافضى المراجعات ، وأنه كان ضالا غاليا رافضيا خبيثا ، ومع هذا كله كان أقل فحشا وسوءا من عبد الحسين .
والملاحظ أيضا أن عبد الحسين ذكر المراجع التي رجع إليها ابن المطهر ، غير أنه أضاف إليها مراجع أخرى ، فأكثر من النقل من الصواعق المحرقة ، وسيأتي الحديث عنه لفضح منهج هذا الرافضي في نقله من الكتب ، كما نقل من مراجع تحتاج إلى وقفة خاصة .
من هذه المراجع صحيح البخاري !
ومن المسلم به بين جمهور الأمة أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ، فكيف يستدل به هذا الرافضي ؟ ! وما عهدناه يستدل بغير الموضوع والباطل . فلننظر ماذا أخذ من صحيح البخاري .
قال الرافضي : وقال ـ أي الله عز وجل فيهم وفى خصومهم :
" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ" ( 19 : الحج )
وقال في الحاشية : أخرج البخاري في تفسير سورة الحج بالإسناد إلى علي قال : أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة . ( قال البخاري ) : قال قيس : وفيهم نزلت : " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : على وصاحباه حمزة وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة وصاحباه عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .
قلت : نزول هذه الآية الكريمة في الذين بارزوا يوم بدر من المسلمين وكفار قريش أخرجه الإمام البخاري في التفسير وفى المغازي من صحيحه ، كما أخرجه غيره . والاختصام هنا واضح أنه بين المسلمين وغيرهم وهم الكفار، وبينت الآية الكريمة جزاء الذين كفروا ، وما سيلقونه في جهنم .(1/421)
ومن المعلوم أن الذين خرجوا للمبارزة أولا كانوا من الأنصار ، فرفض المشركون ، فخرج هؤلاء الثلاثة الكرام . وكان خلفهم جيش المسلمين بقيادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر الصديق في العريش ، وهو مركز القيادة ، وليس معه غيره . وممن شهد بدرا عمر وعثمان (581[230]) رضي الله عنهم جميعا . والرافضى جعل هذه المراجعة لحجج الكتاب التي تثبت ما عليه الرافضة من القول بإمامة على ومن بعده ، وتبطل ما عليه جمهور المسلمين من مبايعة أبى بكر بالخلافة ، ومن بعده من الخلفاء الراشدين . وهذا يعنى أن الرافضي ـ لعنة الله عليه ـ جعل الرافضة وحدهم هم المسلمين ، وجعل الخلفاء الراشدين الثلاثة ومن بايعوهم هم الذين كفروا ، وقطعت لهم ثياب من نار .
أي أن الآية الكريمة ـ بحسب فريته ـ لم تجعل الاختصام بين المسلمين وكفار قريش ، وإنما في أهل بدر أنفسهم ممن كانوا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأولهم من كان معه في العريش حيث كان أول الخلفاء الراشدين بعد ذلك .
فالرافضى أخذ الخبر الصحيح من البخاري ، ثم وضع أهل بدر ـ رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ بدلا من كفار قريش ! ! انظر كيف يفترى علىالكذب !( ومع كل هذا الكفر والفجور فسينسب للإمام البشرى إعجابه بحججه ، واتهامه لمن خالف هذا الرافضي ! ولذلك أثبت يقينا أن المراجعات المنسوبة لشيخ الأزهر البشرى ، علامة زمانه ، افتراها عليه الرافضي عبد الحسين )
هذا هو أحد خبرين أخذهما من صحيح البخاري .
وإليك الخبر الثانى :
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (56: الأحزاب )
نقل الرافضي عن البخاري ومسلم أيضا ما يأتي :(1/422)
" فقالوا : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، الحديث " ثم قالالرافضي : " فعلم بذلك أن الصلاة عليهم جزء من الصلاة المأمور بها في هذه الآية " . ا . هـ.
قلت : هذه رواية متفق على صحتها ، ولكن من الآل ؟
ذكرت عند آية التطهير أن طائفة من العلماء احتجوا على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء في الصحيحين عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل ابراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته . . . إلخ " فهذه الرواية مفسرة للرواية الأولى . ونحن نعرف موقف الرافضة من أمهات المؤمنين .
والرافضة يزعمون أن فرقتهم هي مذهب أهل البيت في الأصول والفروع ، وزعمهم يحتاج إلى وقفة من البداية لتجلية هذا الأمر ، وإزالة هذا اللبس والتلبيس ، فقد كان لهذا أثره على السذج من الناس الذين لا يعرفون حقيقةهذه الفرقة .
ومن المعروف أن عشرات الفرق من الشيعة ينازع بعضها بعضا في هذا الزعم ، بل إن عبد الله بن سبأ ـ الذي وضع فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبنتها فرق الغلاة ـ يزعم أنه هو نفسه من أتباع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحدد أولا المراد بالأهل :
جاء في المعجم الوسيط تحت مادة أهل :
أهل يأهل أهلا وأهولا : تزوج ، وأهل المكان أهولا : عمر بأهله ، وأهل فلانة : تزوجها .
والأهل : الأقارب والعشيرة والزوجة .
وأهل الدار ونحوها : سكانها .
وفى معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية قال في مادة أهل :أهل : يحدد معناه بما يضاف إليه .
فأهل الرجل : زوجه ، وعشيرته ، وذوو قرباه .
وأهل الدار : سكانها .
وأهل الكتاب ، وأهل الإنجيل ، وأهل القرية ، وأهل المدينة ، ... إلخ : من يجمعهم الكتاب ، أو الإنجيل ... إلخ .(1/423)
ثم أشار إلى الآيات الكريمة التي ورد فيها كلمة أهل .
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :
" بنى على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعيا ... فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك .. فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة (582[231]) .
من هذا نرى أن أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم : زوجاته أمهات المؤمنين ـ رضي الله تعالى عنهن ، وذريته وذوو قرباه ـ رضي الله تعالى عنهم : كعلى بن أبى طالب ، وابن عباس وأبيه ، وجعفر ، وغيرهم . وأهل السنة والجماعة يقدرون أهل البيت جميعا حق قدرهم ، وينزلون هؤلاء الأطهار منزلتهم ، ويأخذون بما صح عنهم من الأحاديث و الآثار ، وكتبنا تشهد بذلك : انظر مثلا ما روى عن فضائلهم في كتب السنة المشرفة ، وما روى عنهم من الأحاديث الشريفة والآثار .
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختص أحدا بعلم دون غيره ، وإنما علم صحابته الكرام ، وأهل بيته الأطهار ، وعلى الأخص زوجاته أمهات المؤمنين .
والصحابة الكرام جميعا ـ سواء منهم من كان من أهل البيت ومن كان من غيرهم من المهاجرين والأنصار ، هم خير أمة أخرجت للناس ، شهد لهم ربهم عز وجل في كثير من آيات كتابه البينات المحكمات ، وكفى بالله شهيدا ، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أعظم شهادة من لا ينطق عن الهوى ، المبلغ والمبين عن الله ـ سبحانه وتعالى .
وعن هؤلاء الصحابة الكرام ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، نقل إلينا كتاب ربنا العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة نبينا المطهرة ، وما يتصل بهما من البيان والأحكام ، فتم علينا نعمة الله ـ تبارك وتعالى .(1/424)
ولذلك اشتهر قول أبى زرعة الرازى :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعلم أنه زنديق . وذلك أن القرآن حق ، والرسول حق ، وما جاء به حق . وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
هذا موقف جمهور المسلمين من خير القرون ، فما موقف عبد الحسين وفرقته ؟
أما موقفهم من غير أهل البيت من الصحابة الكرام ، فليس موقف انتقاص فقط كما قال أبو زرعة ، وإنما سنجد في كتبهم التي قال عنها عبد الحسين في مراجعات تأتى فيما بعد : بأنها مقدسة ، ومتواترة ـ ما يشيب لهوله الولدان . سنجد الطعن والتفسيق ، بل التكفير والنفاق .. لمن ؟ لخير أمة أخرجت للناس !! وسيأتي هذا مفصلا في موضعه من كتابنا هذا .
وما موقفهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أمهات المؤمنين ، وهن أول المراد من أهل البيت ، فهن : الصديقة بنت الصديق ، عائشة ـ رضي الله عنهما ـ المعلوم منزلتها عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنزلتها العلمية وما استدركته على الصحابة ...إلخ ، غير أنها بنت خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى متواترا عن على رضي الله تعالى عنه ، وعن غيره ، وهذه الفرقة ترى أنه أول من اغتصب الخلافة ، وموقف أم المؤمنين من أمير المؤمنين على معروف ـ وإن نقل مشوها ، ولذلك فهم لا يأخذون شيئا من علمها الذي علمها إياه زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يعتبرونها ـ والعياذ بالله ـ كافرة لأنها اشتركت في الحرب ضد الإمام ، وهذا واضح فيما سبق من بيان عقيدة الإمامة عندهم .
وأم المؤمنين حفصة لم تسلم من طعن هذه الفرقة ، لموقفهم من أمير المؤمنين عمر الفاروق ـ رضي الله عنه : ففي قوله تعالى :(1/425)
" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا "(583[232]) نرى الطعن في تفسير هذه الفرقة :
يقول أحد علمائهم ، بل علامتهم المجلسى : " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض ، بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما !! " (584[233]) .
كما طعنوا في أمهات المؤمنين : أم حبيبة ، وصفية وسودة رضي الله تعالى عنهن (585[234]). ( انظر إلى ما ذكره عبد الحسين من الكتب المقدسة التي تحمل علم أهل البيت !! )
ولم يقف الأمر عند أمهات المؤمنين ، بل طعنوا في غيرهن من أهل البيت : فهذا مثلا عبد الله بن عباس ، حبر الأمة وترجمان القرآن ، وأبوه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا قالوا فيهما ؟
من أهم كتبهم وأقدمها التي يرى عبد الحسين وغيره أن كل ما جاء فيه صحيح : تفسير على بن إبراهيم القمي ، وستأتى دراسة مفصلة لهذا الكتاب ، ونجد القمي يروى أن ابن عباس ، وأباه ، نزل فيهما قوله تعالى : " وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (586[235]) ، وفى أبيه نزل قوله تعالى : " وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (587[236])
ولم يقف أمر هؤلاء القوم عند هذا الحد ، بل تجرءوا على بنات النبي صلى الله عليه وسلم غير السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن جميعا وأرضاهن ! أي والله بنات النبي نفسه صلى الله عليه وسلم !(1/426)
فقوم عبد الحسين لا يريدون أن يكون لأحد شرف مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم غيرعلى رضي الله تعالى عنه ، ولذلك الذين اجترءوا على القرآن الكريم وقالوا بتحريفه ، منهم من ذكر أن سورة الشرح أسقط الصحابة منها : وجعلنا عليا صهرك(588[237]) .
فإذا كان علي من أهل البيت ، وله شرف الزواج من إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن عثمان من أهل البيت أيضا(589[238]) ، وله شرف الزواج من اثنتين ـ لا واحدة فقط من بنات النبي الطاهرات صلى الله عليه وسلم ، فرقية تزوجها بعد إسلامه ، وهاجر بها إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة حيث ماتت بعد بدر بثلاثة أيام . وأصغر بنات الرسول صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم ، كانت لابن عمها عتبة بن أبى لهب ، وطلقها قبل أن يدخل بها ، وكانت هي التي لا تزال بغير زواج بعد أن تزوج على أختها فاطمة الزهراء ، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية عنده سنة ثلاث من الهجرة .
أما أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن جميعا ـ فهى زينب ، تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف . وهو ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة رضي الله عنها ، وهو كما نرى من نسبه يعد من أهل البيت .
هؤلاء هن بنات النبي الأربعة ، والأزواج الثلاثة ، فما موقف هذه الفرقة من هؤلاء السبعة ، وهم جميعا من أهل البيت ؟
رأينا من قبل عند بيان عقيدتهم في الإمامة كيف أنهم جعلوا فاطمة الزهراء وزوجها ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فوق الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ، فيعتبر هذا عندهم من ضروريات المذهب ، أي أن من لم يعتقد هذا فليس مؤمنا ، وواضح أن هذا من مقالات الغلاة وعقائدهم الباطلة وذو النورين بايع الشيخين ، وتولى الخلافة بعدهما ، فهو في زعمهم ممن اغتصب هذا المنصب الإلهي ، ولذلك فإن كتبهم ـ التي أشار إليها عبد الحسين واعتبرها مقدسة متواترة ـ تجعله من الكفار والمنافقين والعياذ بالله .(1/427)
وأبو العاص ولدت له زينب ابنته أمامه التي جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم حملها وهو يصلى . وتزوج على أمامه هذه بعد موت خالتها فاطمة . ومات أبو العاص في خلافة أبى بكر الصديق في ذى الحجة سنة اثنتى عشرة(590[239]).
أما أخوات الزهراء الطاهرات فماذا قالوا عنهن ؟
قال أحد علمائهم : " رقية وزينب كانتا ابنتى هالة أخت خديجة ، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى . وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما "(591[240]) . ا . هـ .
ومعلوم أن زينب بنت خير البشر صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها عثمان ، ولم يمت زوجها قبلها ، فقد مات في خلافة أبى بكر ـ كما ذكر من قبل ـ زوجها أبو العاص . أما هي فقد ماتت في أول سنة ثمان من الهجرة . وأخرج مسلم في الصحيح بسنده عن أم عطية قالت : لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اغسلنها وترا ، ثلاثا أو خمسا ، واجعلن في الآخرة كافورا " .
وزوجها أبو العاص ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة ، فهل تزوج أخته بنت أمه هالة ؟ !
أفيعتبر هذا المفترى الكذاب من أتباع أهل البيت ؟ ! أم أن أهل البيت الأطهار منه براء ، ومن أمثاله سائر الغلاة الروافض ؟
أما الطاهرتان رقية و أم كلثوم فهما اللتان تزوجهما ذو النورين . وفى كتاب منهاج الشريعة ، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، جاء الحديث عن أختى الزهراء ـ رضي الله عنهن ـ في أكثر من موضع .
ومما قاله : " ما زعمه ـ أي ابن تيمية ـ من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه ، من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " (592[241]) وقال : " لم يرد شىء من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض النسوة " (593[242]).(1/428)
وقال : " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل ـ صلى الله عليه وسلم وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (594[243]).
أهؤلاء إذن أتباع مذهب أهل البيت ؟ أم أعداء أهل البيت الأطهار ؟ وما الفرق بينهم وبين دعوى ابن سبأ وحقيقته ؟
ولتأكيد أن الرافضة كاذبون في زعمهم حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نذكر شيئا من سيرة آل البيت الأطهار يفضح هؤلاء الرافضة :
زوج على ابنته عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ، وهذا يؤكد معنى طيبا يجمع بين الخليفتين الراشدين يفهمه أي عاقل ، فإذا بالرافضة يقولون : " ذاك فرج غصبناه " !! ويفترون روايات تذكر أن عليا زوج ابنته خوفا من عمر وتهديده له !! ( انظر وسائل الشيعة 14 / 433 ـ 434 ) .
وهذا ليس إساءة إلى عمر وحده كما يظهرون ، وإنما هو إساءة أشد إلى على الذي يسلبه ما عرف عنه من شجاعة وإقدام ، فيبدو ذليلا جبانا !! وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجزء الرابع عند الحديث عن النكاح .
ونترك هذا ونأتى إلى ما يبين مدى حب آل البيت الأطهار للخلفاء الراشدين الثلاثة الذين عرفنا موقف الرافضة منهم ، وسأترك كتب جمهور المسلمين وآتى إلى كتاب من كتب الشيعة ألفه السيد أبو القاسم الخوئى الذي كان المرجع الأعلى للشيعة بالعراق ، وهو كتاب معجم رجال الحديث :
ونقرأ في هذا الكتاب الأرقام الآتية للتراجم وهى :
( 7618 ، 8729 ، 8731 ، 8787 ، 8788 ، 14000 ، 14002 ) .
هذه التراجم لسبعة رجال فمن هم ؟
كلهم من آل البيت الأطهار ، وكلهم أبو بكر أو عمر أو عثمان .. تأمل ! فأما الإمام على فقد اختار أسماء إخوانه الثلاثة جميعا فسمى بهم أبناءه ، منهم أبو بكر و عثمان اللذان قتلا مع أخيهما الحسين في واقعة الطف . وقتل أيضا عمر مع أبيه الحسين ، وأبو بكر بن الحسن مع عمه الحسين ، وعمر بن الحسن مع عمه الحسين.(1/429)
هؤلاء آل البيت الأطهار : على والحسن والحسين ، وأولادهم أبو بكر وعمر وعثمان ، فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وتدبروا سيرة آل البيت الأطهار ، وبراءتهم من الرافضة الفجار .
وفى كتاب كشف الأسرار ( ص 17 ،18) يقول السيد حسين الموسوي تحت عنوان :
الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت : "إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة ، اختصاصنا بأهل البيت ، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت - حسب رأينا - إذ الولاء والبراء مع العامة - وهم أهل السنّة - بسبب أهل البيت ، والبراءة من الصحابة ، وفى مقدمتهم الخلفاء الثلاثة ، وعائشة بنت أبى بكر بسبب الموقف من أهل البيت ، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، ذَكَرهم وأنثاهم ، أنّ الصحابة ظلموا أهلّ البيت ، وسفكوا دماءهم واستباحوا حرماتهم .
وإن أهل السنّة ناصبوا أهل البيت العداء ، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب ، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد رضي الله عنه ولكن كُتبنا المعتبرة عندنا تُبيّن لنا الحقيقة ، إذ تذكر لنا َتذمُّرَ أهلِ البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم ، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت ، وتذكر لنا من الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام ، ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم .
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " لو ميزت شيعتى لما وجدتهم إلا واصفة ، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ، ولو تمحّصتهم لما خلص من الألف واحد " " الكافى / الروضة " (8/338)(1/430)
وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " ياأشباه الرجال و لا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال ، لّوددت ُ أنّى لم أركم ولم أعرفكم ، معرفةُ جرّت والله ندماً وأعقبت سَدَماً (595?????)... قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً ، وجرَّعتمونى نغب التهمام أنفاسا ، وافسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ، حتى لقد قالت قريش : إن ّ ابن أبى طالب رجل شجاع ولكن لا علم َ له بالحرب ، ولكن ْ لا رأي َ لمن لا يطاع " . " نهج البلاغة " ( ص 70، 71)
وقال لهم موبّخاً : منيت بكم بثلاث ، واثنتين : " صُمُّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعُمْى ذوو أبصار ، لا أحرار وصُدُق' عند اللقاء ، ولا إخوان' ثقة عند البلاء ... قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراجَ المرأة عن قُبُلها " . " نهج البلاغةَّ " ( ص 142)
قال لهم ذلك بسبب تخاذلهم وغدرهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه ، وله فيهم كلام كثير .
وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته : " اللهم إنْ متَّعهم إلى حين ففرقهم فرقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا تُرْضِ الولاة عنهم أبداً ، إنَّهم دَعَوْنا لينصرونا ثم عَدَْوا علينا فقتلونا " . " الإرشاد المفيد " ( ص 241).
وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم ، فكان مما قال :
" لكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدباء ، وتهافتم كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها ، سفهاً وبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونَبَذَةِ الكتاب ، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا ، ألا لعنةُ الله على الظالمين " . " الاحتجاج " (2/24).
وهذه النصوص تبيّن لنا مَنْ هم قتلةُ الحسين الحقيقيون ، إنهم شيعة أهل الكوفة، أي أجدادنا ، فلماذا نُحَمل أهلَ السنة مسؤولية مقتل الحسين رضي الله عنه ؟!(1/431)
ولهذا قال السيد محسن الأمين : " بايع الُحسَيْنَ من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه " . " أعيان الشيعة " ( القسم الأول)
وقال الحسن رضي الله عنه: " أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء ، يزعمون أنّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلى وأخذوا مالى ، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقنُ به من دمى ، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلونى ، فيضيع أهل بيتي ، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقى حتى يدفعوا بى إليه سلماً ، والله لأن أُسالمه وأنا عزيز خيرُ من أن يقتلنى وأنا أسير " . " الاحتجاج " (2/10).
وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة : " هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبى وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق ، ثم قاتلتموه وخذلتموه ... بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول لكم : قاتلتم عترتى ، وانتهكتم حرمتى ؛ فلستم من أمتى " . " الاحتجاج " (2/32)
وقال أيضاً عنهم : " إن هؤلاء يبكون علينا فَمَنْ قتلَنا غيرُهم ؟ " . " الاحتجاج " (2/29).
وقال الباقررضي الله عنه : " لو كان الناس كلّهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً ، والربع الآخر أحمق " . " رجال الكشّي " (ص 79).
وقال الصادق رضي الله عنه" أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثى ما استحللت ُ أن أكتمهم حديثاً " . " أصول الكافى " (1/496). انتهى . هذا بعض ما قاله العالم الشيعي .
بعد بيان موقف الرافضة من أهل البيت الأطهار نعود مرة أخرى للنظر في المراجع :
ومن المراجع التي ذكرها عبد الحسين تفسير مجاهد ، ومجاهد كما نعلم تلميذ حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وذكرت من قبل طعن الرافضة فيهما .
قال الرافضي :
عن تفسير مجاهد ويعقوب بن سفيان عن ابن عباس في قوله تعالى :(1/432)
" وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا "، أن دحية الكلبى جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة ، فنزل عند أحجار الزيت ، ثم ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه، فنفر الناس إليه ، وتركوا النبي ?صلى الله عليه وسلم قائما يخطب على المنبر إلا عليا والحسن والحسين وفاطمة وسلمان وأباذر والمقداد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد نظر الله إلى مسجدى يوم الجمعة ، فلولا هؤلاء لأضرمت المدينة على أهلها نارا ، وحصبوا بالحجارة كقوم لوط . وأنزل الله فيمن بقى مع رسول الله في المسجد قوله تعالى :
" يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ" الآية .
قلت : نظرت في تفسير مجاهد ، وهو مطبوع ، فلم أجد ما سبق . ثم نظرت في الدر المنثور ( 6 / 220 ـ 221 ) فوجدت الروايات المختلفة التي ذكرت من بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تنص على أبى بكر وعمر . وأول هذه الروايات هي ما روى عن جابر بن عبد الله ، وفيها : " لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا : أنا فيهم ، وأبو بكر ، وعمر " .
والحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه لحديث جابر الذي أورده البخاري في كتاب الجمعه من صحيحه ، وفيه . " ما بقى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا " قال ابن حجر :
وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال : " أنا فيهم " وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر " .
ثم قال : وروى العقيلى عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار " .
وليس في أي رواية من الروايات كلها ذكر للحسن أو الحسين .
أما الآية الأخيرة وهى رقم 36 من سورة النور فلم يذكر في تفسيرها وأسباب النزول ما ذكره الرافضي من أن الرافضة هم رجال التسبيح !! فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما:-(1/433)
" فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ " الآية قال : هي المساجد تكرم ونهى عن اللغو فيها "وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" يتلى فيها كتابه " يُسَبِّحُ " يصلى " لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ " صلاة الغداة " وَالْآصَالِ " صلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة ، وأحب أن يذكرهما ، ويذكرهما عباده. ( الدر المنثور 5 / 50 ) .
وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك في قوله تعالى:- " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " قال : هم في أسواقهم يبيعون ويشترون، فإذا جاء وقت الصلاة لم يلههم البيع والشراء عن الصلاة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس"? رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ...." قال : عن شهود الصلاة المكتوبة . وأخرج الفريابى عن عطاء مثله .
…وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ، ثم دخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيهم نزلت " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " ( الدر المنثور 5 /52 ) .
ولم أجد في جميع الروايات أن آية سورة النور نزلت فيمن بقى يوم الجمعة . ولو أنها نزلت فيهم فأولهم بلا ريب الصديق والفاروق كما جاء في الأخبار الصحيحة .
قال الرافضي : أخرج المحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عباس في قوله تعالى : " الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً " ( 274 : البقرة )
قال : نزلت في على بن أبى طالب .(1/434)
قلت : أصحاب الكتب ذكروا عليا وغيره ، فقالوا : نزلت في أصحاب الخيل، فيمن يربطها في سبيل الله لا رياء ولا سمعة . ولا خيلاء ، وقالوا : نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة . ( انظر أصحاب هذه الكتب ورواياتهم في الدر المنثور 1 / 363 ) وما أكثر الصحابة الكرام الذين كانوا ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ! ومثل على ما كان ليبخل لو كان عنده مال ، لكنه لم يكن كثير المال كما هو معلوم ، وأصحاب الأموال الذين كانوا ينفقونها في سبيل الله مشهود لهم ، وأولهم أبو بكر الصديق ، الذي نزل فيه قول الله تعالى :
"وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىوَلَسَوْفَ يَرْضَى".
والمحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب لم يذكروا أحدا آخر غير أبى بكر الصديق . ( انظر جميع الروايات في الدر المنثور 6 / 359 ـ 360 ) ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر " وقال : " وواسانى بنفسه وماله " ( راجع صحيح البخاري ـ كتاب فضائل الصحابة تجد الحديثين الشريفين وغيرهما من فضائل الصديق ، وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن شهد له الله ـ عزوجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، يأتي هذا الرافضي فيقول بكفره ، وأنه الجبت ، وكفر الأمة الإسلامية التي أقرت بيعته ، وبعد هذا العداء للإسلام وأهله ينسب الرافضي اللعين نفسه لأهل البيت الأطهار !! ثم يفترى الكذب على الإمام الأكبر شيخ الأزهر فينسب له أنه وافقه بل أعجب بهذا التكفير !! ) .
قال الرافضي :
وفى جميل بلائهم وجلال عنائهم قال الله تعالى: ?وَمِنَ الناسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ? (596[245])(1/435)
ثم قال : أخرج الحاكم ( 3 ، 4 ) عن ابن عباس قال : " شرى على نفسه ولبس ثوب النبي " الحديث . وأخرج أيضا عن على بن الحسين قال : " إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله على بن أبى طالب إذ بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم " . ا . هـ .
قلت : لا شك أن عليا رضي الله تعالى عنه قد شرى نفسه حتى ولو لم يصح الخبر عن ابن عباس ، لكن الروايات كلها لم تخصه بسبب النزول ، لا عند الحاكم ولا عند غيره ، بل إن الحاكم في الجزء نفسه ذكر أن الآية الكريمة نزلت في صهيب ، وصحح الخبر ، ولم يتعقبه الذهبي ( 3 / 398 ) .
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أحب أن أصفع هذا الرافضي وأمثاله بحديث شريف أخرجه الحاكم الذي عرف عنه التشيع وهو ما رواه بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تبارك وتعالى اختارنى ، واختار لي أصحابا ، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا . فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل " .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ( جـ 3 ص 632 )
إذن عندما نلعن هذا الرافضي فإننا ننفذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد سب الصحابة الكرام وعلى الأخص خيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو أبو بكر الصديق ، فعمر الفاروق ، بل قال بأنهما الجبت والطاغوت ، والصحابة الذين بايعوهما كفار آمنوا بالجبت والطاغوت !
فمن كان عدوا لهؤلاء فهو عدو لله ولرسوله وملائكته ، يستحق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من اللعنة والخسران يوم القيامة .(1/436)
إذن يجب أن نضع الأمور في نصابها ، ونزنها بميزان الشرع وحكم الله تعالى ورسوله الكريم ، حتى لا يأتىأحد ويقول : كيف تلعن مسلما ؟ وأين أنت من دعوة التقريب ؟ ! أقول : قد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لا نلعنه ؟ أما التقريب فهذا الرافضي له كتاب عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، انتهى إلى وجوب أن ترتد الأمة كلها فتصبح رافضة مثله ! !
فالتقريب إذن لا يكون مع مثل هذا الرافضي اللعين ، عدو الإسلام والمسلمين ، وإنما يكون مع الشيعة من غير الرافضة .
الاستدلال بالأحاديث الموضوعة
بعد تحريف القرآن الكريم لجأ الرافضة إلى الأحاديث الموضوعة ، سواء أكانت من وضعهم وأكاذيبهم أم من وضع غيرهم .
وعندما نأتى إلى دراسة كتب السنة عندهم وتدوينها فسيتضح جليا أنها مبنية على الكذب والافتراء ، وموضع هذه الدراسة في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
ولكننا نقف هنا عند بعض الأحاديث التي ذكرها الرافضيان : ابن المطهر وعبد الحسين ، أحدهما أو كلاهما ، ونثبت جواب شيخ الإسلام ابن تيمية ، مع إضافة بعض ما كتبته في ردى على المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى، والتى افتراها عبد الحسين . ونبدأ بالدليل الأول الذي ذكره ابن المطهر ، وجواب شيخ الإسلام .
حديث الدار
هذا هو الدليل الأول عن ابن المطهر حيث قال :
" المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة ، المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهى اثنا عشر .
الأول : ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله تعالى :(1/437)
" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "( سورة الشعراء : 214) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى عبد المطلب في دار أبى طالب ، وهم أربعون رجلا ، وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعا من اللبن ، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد ، ويشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام ، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا ، ولم يتبين ما أكلوه ، فبهرهم ( النبي صلى الله عليه وآله ) بذلك ، وتبين لهم آية نوبته ، فقال : يا بنى عبد المطلب ، إن الله بعثنى بالحق إلى الخلق كافة ، وبعثنى إليكم خاصة ، فقال : "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ، ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ، ووصيي ووارثي ، وخليفتى من بعدى . فلم يجبه أحد منهم. فقال أمير المؤمنين : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : اجلس. ثم أعاد القول مرة ثانية فصمتوا. فقال على : فقمت فقلت مثل مقالتى الأولى ، فقال : اجلس ثم أعاد القول ثالثة ، فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقمت فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر . فقال : اجلس فأنت أخي ووزيرى ، ووصيى ووارثى ، وخليفتى من بعدى. فنهض القوم وهم يقولون لأبى طالب : ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميرا عليك " . ا. هـ
قال شيخ الإسلام :(1/438)
والجواب من وجوه : الأول : المطالبة بصحة النقل . وما ادعاه من نقل الناس كافة من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث ، فإن هذا الحديث ليس في شىء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل : لا في الصحاح ولا في المساند والسنن والمغازى والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به ، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف ، مثل تفسير الثعلبى والواحدى والبغوى ، بل وابن جرير وابن أبى حاتم ، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء ، دليلا على صحته باتفاق أهل العلم ؛ فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف ، فلابد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف .
وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والثمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة ، مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبى حاتم والثعلبى والبغوى ، ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا ، مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية ، فإنهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ، ولكن هؤلاء المفسرين ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة . والضعيفة ، ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال ، ليذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها ، وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب ، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات ، وترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك ـ كان هذا من أفسد الحجج ، كمن احتج بشاهد يشهد له ولم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، وقد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته، أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، ويدع روايات كثيرين عدول ، وقد رووا ما يناقض ذلك .(1/439)
بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة ، وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك ، لوجب النظر في الروايتين : أيهما أثبت وأرجح ؟ فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضة لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة ، بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر ، وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل .
الثانى :
أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين : إما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع ، ولو أنه مسألة فرعية ، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم . فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع ، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم أنه مسند إسناداً تقوم به الحجة، أو يصححه من يرجع إليه في ذلك . فأما إذا لم يعلم إسناده ، ولم يثبته أئمة النقل ، فمن أين يعلم ؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها ، ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسألة ، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه ؟!
الثالث :
أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث ، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع ، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات ، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب .
وقد رواه ابن جرير والبغوى بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد ، أبو مريم الكوفي ، وهو مجمع على تركه ، كذبه سماك بن حرب وأبو داود ، وقال أحمد : ليس بثقة ، عامة أحاديث بواطيل . قال يحيى : ليس بشئ . قال ابن المديني: كان يضع الحديث . وقال النسائي وأبو حاتم : متروك الحديث . وقال ابن حبان البستى : كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر ، وهو مع ذلك يقلب الأخبار ، لا يجوز الاحتجاج به ، وتركه أحمد ويحيى .(1/440)
ورواه ابن أبى حاتم ، وفى إسناده عبد الله بن عبد القدوس ، وهو ليس بثقة . وقال فيه يحيى بن معين : ليس بشئ رافضى خبيث . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال الدارقطنى : ضعيف .
وإسناد الثعلبى أضعف ، لأن فيه من لا يعرف ، وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في أقل مسألة .
الرابع :
أن بنى عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية ؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر . ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن بنى عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة : العباس ، وأبو طالب ، والحارث ، وأبو لهب . وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة ، وهم بنو هاشم، ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة : العباس ، وحمزة ، وأبو طالب ، وأبو لهب ، فآمن اثنان ، وهما حمزة و العباس ، وكفر اثنان ، أحدهما نصره وأعانه ، وهو أبو طالب ، والآخر عاداه وأعان أعداءه ، وهو أبو لهب .
وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين : طالب ، وعقيل، وجعفر ، وعلى . وطالب لم يدرك الإسلام ، وأدركه الثلاثة ، فآمن على وجعفر في أول الإسلام ، وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة عام خيبر .
وكان عقيل قد استولى على رباع بنى هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ، ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته : " ننزل غدا في دارك بمكة " قال : " وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ "(1/441)
وأما العباس فبنوه كلهم صغار ، إذ لم يكن فيهم بمكة رجل . وهب أنهم كانوا رجالاً فهم : عبد الله ، وعبيد الله ، والفضل . وأما قثم فولد بعدهم ، وأكبرهم الفضل ، وبه كان يكنى . وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ، ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله، وأما سائرهم فولدوا بعده.
وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل . والحارث كان له ابنان: أبو سفيان وربيعة ، وكلاهما تأخر إسلامه ، وكان من مسلمة الفتح .
وكذلك بنو أبى لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح ، وكان له ثلاثة ذكور ، فأسلم منهم اثنان : عتبة ومغيث ، وشهد الطائف وحنينا ، وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب ، فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً. فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا ، فأين الأربعون ؟ !
الخامس :
قوله : " إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن " فكذب على القوم ، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا .
السادس :
أن قوله للجماعة : " من يجيبنى إلى هذا الأمر ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ووصيى وخليفتى من بعدى " كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز نسبته إليه . فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله ؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين ، وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته ، وفارقوا أوطانهم ، وعادوا إخوانهم ، وصبروا على الشتات بعد الألفة ، وعلى الذل بعد العز ، وعلى الفقر بعد الغنى ، وعلى الشدة بعد الرخاء ، وسيرتهم معروفة مشهورة ، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له .(1/442)
وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه ـ أو أكثرهم أو عدد منهم ـ فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده ؟ أيعين واحدا بلا موجب ؟ أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد ؟ وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة ، إلا بأمر سهل ، وهو الإجابة إلى الشهادتين، والمعاونة على هذا الأمر . وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة ، إلا وله من هذا نصيب وافر ، ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق ، فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي َصلى الله عليه وسلم ؟ !
السابع :
أن حمزة وجعفرا وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه على من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر ؛ فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر . بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبى الأرقم ، وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ، ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة ، فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب .
الثامن :(1/443)
أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا . ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبى هريرة ـ واللفظ له ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا ، فخص وعم فقال : " يابنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها " .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال: " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا . يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا . سلانى ما شئتما من مالى " . وخرجه مسلم من حديث ابن المخارق وزهير بن عمرو ومن حديث عائشة وقال فيه : " قام على الصفا " .
وقال في حديث قبيصة : " انطلق إلى رضمة من جبل ، فعلا أعلاها حجرا ، ثم نادى : يا بنى عبد مناف إنى لكم نذير . إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله ، فخشى أن يسبقوه ، فجعل يهتف : يا صباحاه " .(1/444)
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال : " لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه " فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه ، فجعل ينادى : " يا بنى فلان ، يا بنى عبد مناف ، يا بنى عبد المطلب " وفى رواية : " يا بنى فهر ، يا بنى عدى ، يا بنى فلان " لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو ، فاجتمعوا فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقى ؟ " قالوا : ما جربناعليك كذبا . قال : " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد " قال : فقال أبو لهب : تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا ؟ فقام فنزلت هذه السورة : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " ( سورة المسد : 1 ).
وفى رواية: " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقونى؟ " قالوا : " بلى ".
فإن قيل : فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل، كالثعلبى والبغوى وأمثالهما والمغازلى .(1/445)
قيل له : مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث ؛ فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع ، وفيها شئ كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب ، بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب . والثعلبى وأمثاله لا يتعمدون الكذب ، بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك ، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ، ويروون ما سمعوه ، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث ، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدى ، وأحمد بن حنبل ، وعلى بن المديني ، ويحيى بن معين ، وإسحاق ، ومحمد بن يحيى الذهلى ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى داود ، والنسائى ، وأبى حاتم وأبى زرعة الرازيين ، وأبى عبد الله ابن منده ، والدار قطنى ، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم من نقلة العلم .
وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسماءهم ، وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه ، ومن أخذ عنهم . مثل كتاب " العلل وأسماء الرجال " عن يحيى القطان ، وابن المديني ، وأحمد ، وابن معين ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى زرعة ، وأبى حاتم ، والنسائى ، والترمذى ، وأحمد بن عدى ، وابن حبان ، وأبى الفتح الأزدى ، والدارقطنى وغيرهم .
وتفسير الثعلبى فيه أحاديث موضوعة وأحاديث صحيحة . ومن الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور : سورة سورة .
وقد ذكر هذا الحديث الزمخشري والواحدى ، وهو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث . وكذلك غير هذا .(1/446)
وكذلك الواحدى تلميذ الثعلبى ، والبغوى اختصر تفسيره من تفسير الثعلبى والواحدى ، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه ، والواحدى أعلم بالعربية من هذا وهذا ، والبغوى أتبع للسنة منهما .
وليس كون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق ، كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا ، بل الاعتبار بميزان العدل .
وقد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم : في الأصول ، والأحكام ، والزهد ، والفضائل . ووضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة ، وفضائل معاوية .
ومن الناس من يكون قصده رواية كل ما روى في الباب ، من غير تمييز بين صحيح وضعيف ، كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء ، وكذلك غيره ممن
صنف في الفضائل . ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبى الفوارس ، وأبو على الأهوازى وغيرهما من فضائل معاوية . ومثل ما جمعه النسائي في فضائل على ، وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل على وغيره ، فإن هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفه ، فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم .
وأما من يذكر الحديث بلا اسناد من المصنفين في الأصول والفقه والزهد والرقائق ، فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة ، ويذكر بعضهم أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة ، كما يوجد ذلك في كتب الرقائق والرأي وغير ذلك . ا. هـ.
قلت : وهذا الحديث ذكره بنصه السابق عبد الحسين ، وقال بأن الإمام أحمد أخرجه في المسند ، وذكر اسناده ، ونسب للشيخ سليم البشرى موافقته على ثبوت الحديث وصحته .(1/447)
وما جاء في المسند ( 1 / 111 ) هو ما يأتي : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عباد ابن عبد الله الأسدي ، عن على ، قال : لما نزلت هذه الآية " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ". قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا . قال : فقال لهم : من يضمن عنى دينى ومواعيدى ، ويكون معى في الجنة ، ويكون خليفتى في أهلي ؟ فقال رجل لم يسمه شريك : يا رسول الله ، أنت كنت بحرا ، من يقوم بهذا ! قال : ثم قاله الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال على : أنا .( انتهى الخبر ) .
هذا هو نص المسند الذي ذكر الرافضي إسناده ، وقال : " كل واحد من سلسلة هذا المسند حجة عند الخصم ، وكلهم من رجال الصحاح بلا كلام " .
قلت : لننظر في الاسناد ثم في المتن :
أما الاسناد ففيه ما يأتي :
1- الأعمش ثقة لكنه مدلس ، ولا يقبل حديث المدلس إذا عنعن ، " .... الأعمش ( عن ) المنهال ... "
2 - المنهال هو ابن عمرو الكوفي :
وثقه ابن معين والعجلى والنسائى وقال أحمد بن حنبل : أبو بشر أحب إلى من المنهال وأوثق . وقال الحاكم : غمزه يحيى بن سعيد ، وتكلم فيه ابن حزم ، وكان يضعفه . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبى يقول : ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد .
وقال الحافظ ابن حجر في هدى الساري ( ص 446 ) :
ماله في البخاري سوى حديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين من رواية زيد بن أبى أنيسة عنه ، وحديث آخر في تفسير حم فصلت ، اختلف فيه الرواة هل هو موصول أو معلق . ( انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال ، وهدى الساري ص 445 : 446 ) .
3 - عباد بن عبد الله الأسدي :(1/448)
قال الرافضي : هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدي ، احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما . سمع أسماء وعائشة بنتى أبى بكر . وروى عنه في الصحيحين ابن أبى مليكة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وهشام بن عروة .
قلت : هذا من كذب الرافضي وتضليله ! فمن ذكره الرافضي مدني ، وصاحبنا كوفي !
والاثنان مترجم لهما في صفحة واحدة في تهذيب التهذيب ، وكذلك في كتاب الجرح والتعديل ، فهما اثنان : والمدني لا خلاف حول توثيقه ، أما صاحبنا فقال ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب : عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي . روى عن على . وعنه المنهال بن عمرو . قال البخاري : فيه نظر . وذكره ابن حبان في الثقات . قلت ( أي ابن حجر ) : وقال ابن سعد : له أحاديث . وقال على بن المديني ضعيف الحديث . وقال ابن الجوزي : ضرب ابن حنبل على حديثه عن على : أنا الصديق الأكبر ، وقال : هو منكر . وقال ابن حزم : هو مجهول . ا . هـ
ولم يترجم له ابن حجر في هدى الساري كما ترجم للمنهال وأمثاله ، لأنه ليس من رجال الصحيحين كما ذكر الرافضي ، والبخاري نفسه ضعفه حين قال : فيه نظر .
وفى ميزان الاعتدال نجد ترجمة عباد الكوفي ولا نجد ترجمة عباد المدني . قال الذهبي في الميزان :
عباد بن عبد الله الأسدي . عن على . قال البخاري : سمع منه المنهال بن عمرو . فيه نظر .
قلت ( أي الذهبي ) : روى العلاء بن صالح ، حدثنا المنهال ، عند عباد بن عبد الله ، عن على ، قال : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديق الأكبر ، وما قالها أحد قبلى ، ولا يقولها إلا كاذب مفتر ، ولقد أسلمت وصليت قبل الناس بسبع سنين .
قلت ( أي الذهبي ) : هذا كذب علَى علىّ .
قال ابن المديني : ضعيف الحديث . وذكره ابن حبان في الثقات ، له في خصائص على . ا . هـ .
والذهبي ذكره أيضا في كتابه المغنى في الضعفاء .(1/449)
هذه ثلاث علل في الإسناد وليست علة واحدة ، ومع كل هذه العلل ينسب للعلامة شيخ الأزهر أنه قال :
"راجعت الحديث في ص 111 من الجزء الأول من مسند أحمد ، ونقبت عن رجال سنده ، فإذا هم ثقات أثبات حجج " !
وكأن شيخ الأزهر لا يعرف شيئا عن الحديث وعلومه ورجاله !! ولا يفرق بين عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي ، وهو من الضعفاء ، وبين عباد بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي المدني ، وهو من الثقات !حاشا لعلامة زمانه أن يكون كذلك !
ونأتى إلى ما هو أوضح ولا يحتاج إلى عالم ليميز كلام الرافضي من حديث المسند ، بل يدركه كل من يحسن القراءة !
فنص المسند :
" ويكون خليفتى في أهلي " ، فأين الإمامة العامة هنا ؟! ونهاية الخبر " فقال على : أنا " ، وليس فيه الزيادة الباطلة المفتراة : " إن هذا أخي ووصيى وخليفتى فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ...." فكيف تنسب هذه الزيادة للمسند ، وهو موضع الاستدلال ؟ وفى رواية أخرى في المسند أيضا :
".. يابنى عبد المطلب ، إنى بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعنى على أن يكون أخي وصاحبى ؟ قال : فلم يقم إليه أحد . قال ( أي على ) : فقمت إليه ، وكنت أصغر القوم ، قال : فقال : اجلس، قال : ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس ، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدى " . انتهى الخبر .
( انظر المسند بتحقيق شاكر 2 / 352 ـ رواية رقم 1371 ) وواضح من الخبر أن عليا لم يكن هو المقصود ، ولذلك أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلوس ، ولما لم ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطر إلى زجره أو تنبيهه بالضرب على يده في المرة الثالثة .(1/450)
فكيف تتخذ مثل هذه الأخبار في هدم الإسلام ، والطعن في نقلة الكتاب والسنة ، وتكفير خير جيل عرفته البشرية لعدم أخذهم بمبدأ ابن سبأ في الوصي بعد النبي ، ومبايعتهم للصديق خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
قال الرافضي في المراجعة ( 20 ) بعد ذكر الخبر :
" أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية " وقد رأينا كذبه فيما نسبه لمسند الإمام أحمد ، وكان الكذب في الإسناد والمتن .
وأحب أن أبين طريقة أخرى من طرق الرافضي في التضليل :
ذكر الرافضي أن أبا الفداء الحافظ ابن كثير أخرج هذا الخبر بهذه الألفاظ في تاريخه . فنظرت في البداية والنهاية فوجدت الخبر مع إشارة للزيادة : " إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا " . قال ( أي على ) : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبى طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! ( جـ3 ص40 ) .
فأين التضليل هنا إذن ما دام الخبر يتفق مع ماذكره الرافضي ؟ التضليل ـ أيها المسلمون ـ هو أن الرافضي لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير بعد إيراده الخبر مباشرة ، حيث قال ما نصه :
" تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم ، وهو كذاب شيعي ، اتهمه على بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الباقون ".
المراجعة الثامنة وأحاديثها
في هذه المراجعة يظهر لنا بوضوح أن عبد الحسين رافضى ، بل من أخبث الروافض ، فهو ينتهى إلى القول بضلال الأمة و كفرها بدءا بخير أمة أخرجت للناس، وخير قرن عرفته البشرية ، خير الناس الصحابة الكرام الذين بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة فهم في زعم هذا الرافضي خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يجعلوا الوصي بعده مباشرة على بن أبى طالب ، وهو القول الذي اخترعه لأول مرة اليهودى عبد الله بن سبأ.(1/451)
وهذا الطعن يشمل الإمام عليا نفسه لأنه ممن بايع كما بينا من قبل ،وممن فضل الصديق والفاروق على باقي الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت بالتواتر من ثمانين طريقا .
وهذا الرافضي يضيف إلى هذا الطعن العام طعنا خاصاً ، فيصف الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم " أبناء الوزغ " :
والوزغ دويبة يقال لها سام أبرص ، ويوصف بها الرجل إذا كان ضعيفا جبانا رزلا رديئا لا مروءة له .
( راجع معاجم اللغة : والمجموع المغيث في غريبى القرآن والحديث 409 ـ 410 ) لو كان هذا الرافضي في عهد الإمام على كرم الله وجهه ـ لكان موقفه منه كموقفه من ابن سبأ سواء بسواء .
ولننظر في الأحاديث التي ذكرها في هذه المراجعة لينتهى منها إلى الحكم بضلال وكفر الصحابة الكرام وخير أمة أخرجت للناس .
استند أساسا إلى حديث الثقلين ، وفيما سبق جمعت كل روايات هذا الحديث ، وبينت الصحيح منها وغير الصحيح ، وتحدثت عن فقه الحديث الصحيح وعدم صلته بالخلافة على الإطلاق . أما الروايات غير الصحيحة ، سواء أكانت ضعيفة أم موضوعة مكذوبة ، فإنها ليست حجة في شرع الله تعالى ، ويعارضها ويسقطها الصحيح الصريح من الأحاديث الشريفة .
والملاحظ أنه ترك الروايات الصحيحة ، كرواية صحيح مسلم وغيره ، وذكر الروايات الأخرى .
وأثناء الروايات جاء ذكر " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، وقد سبق الحديث عنه . وأكثر هنا من النقل من كتاب " الصواعق المحرقة " ، ومن أجل مثل هذه النقول ستكون الوقفة الطويلة مع هذا الكتاب .
وبعد حديث الثقلين ذكر حديثين آخرين استدل بهما على ضلال وكفر خير أمة أخرجت للناس !! هكذا ظهر خليفة ابن سبأ .
فلننظر إلى هذين الحديثين
الحديث الأول :
" ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق "
وقال الرافضي : أخرجه الحاكم بالإسناد إلى أبى ذر .
وذكر رواية أخرى للحديث ، وهى :(1/452)
" إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بنى إسرائيل من دخله غفر له " .
وقال : أخرجه الطبرانى في الأوسط عن أبى سعيد .
الحديث الثانى :
" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتى من الاختلاف ( في الدين ) ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ( يعنى في أحكام الله عز وجل ) اختلفوا فصاروا حزب إبليس " .
وقال الرافضي: أخرجه الحاكم عن ابن عباس ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قلت : الحديث الأول أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3 / 151) ، وتعقبه الذهبي وبين وهى الإسناد ، والحديث الثانى في المستدرك ( 3 / 149 ) ، وصححه الحاكم كما ذكر الرافضي ، ولكنه لم يذكر تعقيب الذهبي حيث قال : بل موضوع .
والحديث الأول في إسناده المفضل بن صالح الكوفي . قال البخاري عنه : منكر الحديث ، وهذا الجرح عند البخاري يعنى أنه لا يحل الرواية عنه . وقال مثل هذا أيضا أبو حاتم ، وغيره (597[246]) .
والحديث الثانى بين الذهبي أنه موضوع ، وأن الوضع بسبب راويين اثنين وليس راويا واحدا . وذكر الشيخ الألبانى الحديث بلفظ " أهل بيتي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، وبين أنه موضوع ، وقال : وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب، وقد وقفت عليها (598[247]). وذكره أيضا ابن عراق في كتابه " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة : 1 / 419 " ، وقال بأنه من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط ، وترجم له من قبل في مقدمة الكتاب ( ص 25 ) ، فقال : " كذاب ، حدث عن أبيه عن جده بنسخة فيها بلايا " .(1/453)
ومن قبل عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة ، وهو حديث الثقلين ، أشرت إلى أن أصحاب الحديث أنكروا على الحاكم كثيرا من الأحاديث ، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه . وذكرت قول ابن حجر في لسان الميزان عند ترجمة الحاكم : إمام صدوق ، ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك ،فما أدرى هل خفيت عليه ؟ فما هو ممن يجهل ذلك . وإن علم فهو خيانة عظيمة . ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين . والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء . ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره . وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له ، وقطع بترك الرواية عنهم ، ومنع من الاحتجاج بهم ، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها. إذن تصحيح الحاكم ليس بحجة ، مع إمامته وصدقه كما بين الحافظ ابن حجر .
ونأتى بعد هذا إلى رواية الطبرانى في الأوسط التي ذكرها الرافضي ، وبالبحث نجد أن هذه الرواية إضافة إلى ثلاث روايات أخرى أخرجها الطبرانى في المعجم الكبير : في الجزء الثالث ( ص 45 ، 46 ) ثلاث روايات :
الأولى
هي رقم 2636 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر : وهو متروك ، وعلى بن زيد ابن جدعان : وهو ضعيف .
والثانية
رقم 2637 ، وفى سندها عبد الله بن داهر : وهو متروك . وعبد الله بن عبد القدوس : بينت عدم الاحتجاج به عند الحديث عن آية التطهير ، والأعمش : وهو مدلس ، وهنا عنعن .
والرواية الثالثة
رقم 2638 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر الموجود في الرواية الأولى . وهو أيضا في الرواية الرابعة ، وهى في الجزء الثانى عشر ص 34 ، ورقمها 12388.
فروايات الطبرانى كلها لم تخل من المتروكين ، فكيف يحتج بمثلها ؟ ! ( انظر تخريج الروايات في المواضع المذكورة من المعجم الكبير ) بقى أن نقول بأن استدلال الرافضي بهذه الأحاديث الثلاثة ليس جديدا !(1/454)
فقد وجدنا ابن المطهر الحلى يستدل بهذه الأحاديث نفسها ، وهو الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام ، وأبطل احتجاجه بهذه الأحاديث وغيرها . بل إن ابن المطهر استدل بحديث السفينة نقلا عن شيخه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672 هـ (599[248]).
والطوسى هذا هو أبو جعفر ـ أو أبو عبد الله ـ محمد بن محمد بن الحسن، ويعرف بالمحقق وبالخواجه . " اتصل بهولاكو وأصبح مقربا عنده ، وأشار عليه بقتل المستعصم وذبح المسلمين في بغداد (600[249]).
وتحدث ابن القيم عنه فقال :" ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد ، وزير الملاحدة ، النصير الطوسي وزير هولاكو ، شفا إخوانه نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه ، فعرضهم على السيف ، حتى شفا إخوانه من الملاحدة ، واشتفى هو ، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين ، واستبقى الفلاسفة ، والمنجمين ، والطبائعيين والسحرة . ونقل أوقاف المدارس والمساجد ، والربط إليهم ، وجعلهم خاصته وأولياءه ، ونصر في كتبه قدم العالم ، وبطلان الميعاد ، وإنكار صفات الرب جل جلاله : من علمه ، وقدرته ، وحياته ، وسمعه وبصره ، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ، وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة ، واتخذ للملاحدة مدارس " (601[250]) ثم قال :
" وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله ، وملائكته، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر " (602[251]) .
وقال أيضا :
" وكان هؤلاء زنادقة ، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض ، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا ، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران ، لا يحرمون حراما ، ولا يحلون حلالا (603[252]) .(1/455)
وهذا الملحد يلقبه أهل السنة بشيطان الطاق ، ولكن الرافضة يطلقون عليه مؤمن الطاق ! والرافضى في مراجعاته يلقبه بمؤمن الطاق (604[253]) ، ولا عجب ، فهدفهما واحد . ووجدنا من الرافضة من يعتبر مجدد المائة السابعة الخواجه نصير الدين الطوسي كما صرح شهاب الدين الحسينى المرعشى النجفي في كتابه غاية الآمال ( ص : خ ) الذي جعله مقدمة لكتاب بهجة الآمال لرافضى مثله !!
المراجعة التاسعة
وجرأة الرافضي على الكذب والافتراء
مرت المراجعة الثامنة بما فيها من البلايا والرزايا ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأثبتت المراجعة أن صاحبها ليس رافضيا فقط بل من أخبث الروافض أتباع عبد الله بن سبأ .
وتأتى المراجعة التاسعة لتثبت من جديد قول الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " . ولتبين أن هذا الرافضي من أكثرهم جرأة على الكذب والافتراء . لو أن شيخ الأزهر والمالكية عرض عليه المراجعة الثامنة لعاقب هذا الرافضي عقوبة تتناسب مع جريرته وجريمته .
ووضوح الكذب بجلاء في المراجعة كلها من بدايتها إلى نهايتها :
فكيف يرحب الشيخ البشرى بتكفير الصحابة وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، ويطلب المزيد بقوله : أطلق عنان القلم .... ؟ !
يصف ما سبق بأنه من جوامع الكلم ، ونوابغ الحكم ، وضوال الحكمة ؟!
والشيخ بمكانته وعلمه وقد بلغ الثانية والثمانين من عمره قبيل وفاته ببضع سنوات لم يستحى هذا الرافضي أن ينسب له منكرا من القول وزورا : " وأنا في أخذ العلم عنك على جمام من نفسى و ..... إلخ " ؟! .........." فزدنى منه لله أبوك زدنى " ؟!
والعلم هنا من كتب أهل السنة والجماعة وليس من كتب الروافض ! فبعد الثمانين جاء رافضى يعلمه ما في كتبنا !!(1/456)
والأحاديث التي بينا ما فيها ينسب الرافضي للعالم العلامة أنه رحب بها ، وطلب المزيد منها ، ووصفها بأنها أدلة وبينات !! إن الطالب الذي حصل شيئا من العلم يستطيع الرجوع إلى منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمى ، ليبين بطلان وضلال ما جاء في المراجعة الثامنة.
لكن هذا الرافضي الطريد أراد ـ دون خجل أو استحياء ـ أن يجعل شيخ الأزهر العالم الثبت تلميذا صغيرا جاهلا يتلقى العلم لأول مرة على يديه !
المراجعة العاشرة و أحاديثها
بعد أن جعل المراجعة السابقة تأييدا لباطله ، بل إعجابا بهذا الباطل ، ونسب للشيخ البشرى أنه طلب المزيد من النصوص دون أن يعترض على نص واحد ، أو يشير إلى ضعفه فضلا عن وضعه ، كما لم يعترض على تكفير الصحابة وخير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، وغير ذلك من البلايا والرزايا ، بعد هذا تأتى المراجعة العاشرة بمزيد من الأحاديث الموضوعة المكذوبة ، وكل الأحاديث بلا استثناء أخذت من مراجع يعلم من له أدنى دراية بالحديث وعلومه أنها مراجع لا يكفى نسبة الأحاديث إليها لتكون حجة في الفروع ، فكيف إذا كان يستدل بها على عقيدة الرافضي ، والحكم على الأمة كلها بالضلال ؟! وإذا كان الباحث عادة يبدأ بأقوى الأدلة في نظره ، فإن هذا يعنى أنه يرى أن أحاديث المراجعة الثامنة أقوى من أحاديث هذه المراجعة. فإذا لم يثبت هناك أي حديث فمن باب أولى ألا يثبت هنا حديث واحد .
ولننظر في الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، أي أقوى الأحاديث في نظره .
وقد أغنانا عن البيان الشيخ الألبانى حيث ذكر هذه الأحاديث في الجزء الثانى من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وبين أنها موضوعة وليست ضعيفة فقط، وأشار إلى هذا الرافضي ، ومنهجه في كتابه المراجعات .
ولذلك فإننى أنقل كلامه هنا تاما غير منقوص ، وأرقامها في كتابه هي : 892 ، 893 ، 894 .
وهذه هي الأحاديث بأرقامها في الكتاب(1/457)
892 ( من أحب أن يحيا حياتى ، ويموت موتتى ، ويسكن جنة الخلد التي وعدنى ربى عزوجل ، غرس قضبانها بيديه ، فليتول على بن أبى طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) .
موضوع : رواه أبو نعيم في " الحلية " ( 4 / 349 ـ 350 ) والحاكم ( 3 / 128 ) وكذا الطبرانى في " الكبير " وابن شاهين في " شرح السنة " ( 18 / 65 / 2 ) من طرق عن يحيى بن يعلى الأسلمى قال : ثنا عمر بن رزيق عن أبى إسحاق عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ـ زاد الطبرانى : وربما لم يذكر زيد بن أرقم ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره . وقال أبو نعيم: " غريب من حديث أبى إسحاق ، تفرد به يحيى " .
قلت : وهو شيعي ضعيف ، قال ابن معين : " ليس بشئ " . وقال البخاري : " مضطرب الحديث " . وقال ابن أبى حاتم ( 4 / 2 / 196 ) عن أبيه : " ليس بالقوى ، ضعيف الحديث " .
والحديث قال الهيثمى في " المجمع" ( 9 / 108 ): " رواه الطبرانى ، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمى ، وهو ضعيف " .
" قلت : وأما الحاكم فقال : صحيح الإسناد " ! فرده الذهبي بقوله : " قلت : أنى له الصحة والقاسم متروك . وشيخه ( يعنى الأسلمى ) ضعيف . واللفظ ركيك ، فهو إلى الوضع أقرب " .
وأقول : القاسم ـ وهو ابن شيبة ـ لم يتفرد به ، بل تابعه راويان آخران عند أبى نعيم ، فالحمل فيه على الأسلمى وحده دونه .
نعم للحديث عندي علتان أخريان :
الأولى : أبو إسحاق ، وهو السبيعى فقد كان اختلط مع تدليسه ، وقد عنعنه .
الأخرى : الاضطراب في إسناده منه أو من الأسلمى ، فإنه يجعله تارة من مسند زيد بن أرقم ، وتارة من مسند زياد بن مطرف ، وقد رواه عنه مطين والباوردى وابن جرير وابن شاهين في " الصحابة " كما ذكر الحافظ بن حجر في " الإصابة " وقال :" قال ابن منده : " لا يصح " : قلت : في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى . وهو واه " .(1/458)
قلت : و قوله " المحاربى " سبق قلم منه . وإنما هو الأسلمى كما سبق ويأتى .
( تنبيه ) لقد كان الباعث على تخريج هذا الحديث ونقده . والكشف عن علته. أسباب عدة ، منها أنني رأيت الشيخ المدعو بعبد الحسين الموسوي الشيعي قد خرج الحديث في ( مراجعاته ) ( ص 27 ) تخريجا أوهم به القراء أنه صحيح كعادته في أمثاله . واستغل في سبيل ذلك خطأ قلميا وقع للحافظ ابن حجر رحمه الله . فبادرت إلى الكشف عن إسناده ، وبيان ضعفه ، ثم الرد على الإيهام المشار إليه ، وكان ذلك منه على وجهين . فأنا أذكرهما ، معقبا على كل منهما ببيان ما فيه فأقول :
الأول : أنه سابق الحديث من رواية مطين و من ذكرنا معه نقلا عن الحافظ من رواية زياد بن مطرف ، وصدره برقم ( 38 ) . ثم قال :
" ومثله حديث زيد بن أرقم .... " فذكره، و رقم له بـ ( 39 ). ثم علق عليهما مبينا مصادر كل منهما ، فأوهم بذلك أنهما حديثان متغايران إسنادا ! والحقيقة خلاف ذلك ، فإن كل منهما مدار إسناده على الأسلمى ، كما سبق بيانه غاية ما في الأمر أن الراوى كان يرويه تارة عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ، وتارة لا يذكر فيه زيد بن أرقم ويوقفه على زياد بن مطرف ، وهو مما يؤكد ضعف الحديث لاضطرابه في إسناده كما سبق .
والآخر : أنه حكى تصحيح الحاكم للحديث دون أن يتبعه بيان علته ، أو على الأقل دون أن ينقل كلام الذهبي في نقده . وزاد في إيهام صحته أنه نقل عن الحافظ قوله في " الإصابة " . " قلت في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى وهو واه " .
فتعقبه عبد الحسين ( ! ) بقوله : " أقول : هذا غريب من مثل العسقلانى ، فإن يحيى بن يعلى المحاربى ثقة بالاتفاق ، وقد أخرج له البخاري ... ومسلم .... " .(1/459)
فأقول : أغرب من هذا الغريب أن يدير عبد الحسين كلامه في توهيمه الحافظ في توهينه للمحاربى ، وهو يعلم أن المقصود بهذا التوهين إنما هو الأسلمى وليس المحاربى ، لأن هذا مع كونه من رجال الشيخين ، فقد وثقه الحافظ نفسه في " التقريب " وفى الوقت نفسه ضعف الأسلمى ، فقد قال في الترجمة الأولى :
" يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربى الكوفي ثقة ، من صغار التاسعة مات سنة ست عشرة " . وقال بعده بترجمة :
" يحيى بن يعلى الأسلمى الكوفي شيعي ضعيف ، من التاسعة " .
وكيف يعقل أن يقصد الحافظ تضعيف المحاربى المذكور وهو متفق على توثيقه ، ومن رجال " صحيح البخاري " الذي استمر الحافظ في خدمته وشرحه وترجمة رجاله قرابة ربع قرن من الزمان ؟! كل ما في الأمر أن الحافظ في " الإصابة " أراد أن يقول : " .... الأسلمى وهو واه " فقال واهما : " المحاربى وهو واه " .
فاستغل الشيعي هذا الوهم أسوأ الاستغلال . فبدل أن ينبه أن الوهم ليس في التوهين . وإنما في كتب " المحاربى " مكان الأسلمى . أخذ يوهم القراء عكس ذلك وهو أن راوى الحديث إنما هو المحاربى الثقة وليس الأسلمى الواهى ! فهل في صنيعه هذا ما يؤيد من زكاه في ترجمته في أول الكتاب بقوله:
" ومؤلفاته كلها تمتاز بدقة الملاحظة .. و أمانة النقل " .
أين أمانة النقل يا هذا وهو ينقل الحديث من " المستدرك " وهو يرى فيه يحيى ابن يعلى موصوفا بأنه " الأسلمى " فيتجاهل ذلك ، ويستغل خطأ الحافظ ليوهم القراء أنه المحاربى الثقة . وأين أمانته أيضا وهو لا ينقل نقد الذهبي والهيثمى للحديث بالأسلمى هذا ؟! فضلا عن أن الذهبي أعله لمن هو أشد ضعفا من هذا كما رأيت ، ولذلك ضعفه السيوطى في " الجامع الكبير " على قلة عنايته فيه بالتضعيف فقال : " وهو واه " .
وكذلك وقع في " كنز العمال " رقم ( 2578 ) ، ومنه نقل الشيعي الحديث دون أن ينقل تضعيفه هذا مع الحديث ، فأين الأمانه المزعومه أين ؟!(1/460)
( تنبيه ) أورد الحافظ ابن حجر الحديث في ترجمة زياد بن مطرف في القسم الأول من " الصحابة " وهذا القسم خاص كما قال في مقدمته ، " فيمن وردت صحبته بطريق الروايه عنه أو عن غيره ، سواء كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة ، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان ، وقد كنت أولا رتبت هذا القسم الواحد على ثلاثة أقسام ، ثم بدا لي أن أجعله قسما واحدا ، وأميز ذلك في كل ترجمة " .
قلت : فلا يستفاد إذن من إيراد الحافظ للصحابى في هذا القسم أن صحبتة ثابتة ، ما دام أنه قد نص على ضعف إسناد الحديث الذي صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو هذا الحديث ، ثم لم يتبعه بما يدل على ثبوت صحبته من طريق أخرى ، وهذا ما أفصح بنفيه الذهبي في " التجريد " بقوله : ( 1 / 199 ) : " زياد بن مطرف ، ذكره مطين في الصحابة ، ولم يصح " .
وإذا عرفت هذا فهو بأن يذكر في المجهولين من التابعين أولى من أن يذكر في الصحابة المكرمين وعليه فهو علة ثالثة في الحديث .
ومع هذه العلل كلها في الحديث يريدنا الشيعي أن نؤمن بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عابئ بقوله صلى الله عليه وسلم : " من حدث عنى بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " . رواه مسلم في مقدمة " صحيحة " فالله المستعان .
وكتاب " المراجعات " للشيعى المذكور محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل على رضي الله عنه ، مع كثير من الجهل بهذا العلم الشريف، والتدليس على القراء والتضليل عن الحق الواقع . بل والكذب الصريح. مما لا يكاد القارئى الكريم يخطر في باله أن أحدا من المؤلفين يحترم نفسه يقع في مثله . من أجل ذلك قويت الهمة في تخريج تلك الأحاديث ـ على كثرتها ـ وبيان عللها وضعفها . مع الكشف عما في كلامه عليها من التدليس والتضليل . وذلك ما سيأتي بإذن الله تعالى برقم ( 4881 ـ 4975 ) .(1/461)
893 ( من سره أن يحيا حياتى ، ويموت ميتتى ، ويتمسك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده ، ثم قال لها " كونى فكانت " فليتول على بن أبى طالب من بعدى).
موضوع : رواه أبو نعيم ( 1 / 86 و 4 / 174 ) من طريق محمد بن زكريا الغلابى : ثنا بشر بن مهران : ثنا شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة مرفوعا . وقال : " تفرد به بشر عن شريك "
قلت : هو ابن عبد الله القاضى وهو ضعيف لسوء حفظه .
وبشر بن مهران قال ابن أبى حاتم : " ترك أبى حديثه " . قال الذهبي : " قد روى عنه محمد بن زكريا الغلابى ، لكن الغلابى متهم " . قلت : ثم ساق هذا الحديث . والغلابى قال فيه الدارقطنى : " يضع الحديث " . فهو آفته .
والحديث أورده ابن الجوزي في " الموضوعات"( 1 / 387 ) من طرق أخرى ، وأقره السيوطى في " اللآلئ " ( 1 / 368 ـ 369 ) ، وزاد عليه طريقين آخرين أعلهما ، هذا أحدهما وقال : " الغلابى متهم " .
وقد روى بلفظ أتم منه ، وهو :
894 " من سره أن يحيا حياتى ، ويموت مماتى ، ويسكن جنة عدن غرسها ربى فليوال عليا من بعدى ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدى . فإنهم عترتى ، خلقوا من طينتى ، رزقوا فهما وعلما ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتى ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم الله شفاعتى " .
موضوع : أخرجه أبو نعيم ( 1 / 86 ) من طريق محمد بن جعفر بن عبد الرحيم : ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم : ثنا عبد الرحمن بن عمران ابن أبى ليلى ـ أخو محمد بن عمران ـ : ثنا يعقوب بن موسى الهاشمى عن ابن أبى رواد عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا . وقال:
" وهو غريب " .(1/462)
قلت : وهذا إسناد مظلم ، كل من دون ابن أبى رواد مجهولون . لم أجد ذكرهم . غير أنه يترجح عندي أن أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم إنما هو ابن مسلم الأنصارى الأطرابلسى المعروف بابن أبى الحناجر ، قال ابن أبى حاتم ( 1 / 1 / 73 ) : " كتبنا عنه وهو صدوق " . وله ترجمة في " تاريخ ابن عساكر" (2 / ق 113 ـ 114 / 1 ) .
وأما سائرهم فلم أعرفهم ، فأحدهم هو الذي اختلق هذا الحديث الظاهر البطلان والتركيب ، وفضل على رضي الله عنه أشهر من أن يستدل عليه بمثل هذه الموضوعات ، التي يتشبث الشيعه بها ، ويسودون كتبهم بالعشرات من أمثالها مجادلين بها في إثبات حقيقة لم يبق اليوم أحد يجحدها ، وهى فضيلة على رضي الله عنه .
ثم الحديث عزاه في " الجامع الكبير " ( 2 / 253 / 1 ) للرافعى أيضا عن ابن عباس ، ثم رأيت ابن عساكر أخرجه في " تاريخ دمشق " ( 12 / 120 / 2 ) من طريق أبى نعيم ثم قال عقبه :
" هذا حديث منكر ، وفيه غير واحد من المجهولين " .
قلت : وكيف لا يكون منكرا ، وفى مثل ذاك الدعاء ! " لا أنالهم الله شفاعتى " الذي لا يعهد مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتناسب مع خلقه صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته بأمته ؟
وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها صاحب " المراجعات " عبد الحسين الموسوي نقلا عن كنز العمال ( 6 / 155 و 217 ـ 218 ) موهما أنه في مسند الإمام أحمد ، معرضا عن تضعيف صاحب الكنز إياه تبعا للسيوطى ...... .
وكم في هذا الكتاب " المراجعات " من أحاديث موضوعات ، يحاول الشيعي أن يوهم القراء صحتها وهو في ذلك لا يكاد يراعى قواعد علم الحديث حتى التي هي على مذهبهم إذ ليست الغاية عنده التثبت مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في فضل على رضي الله عنه ، بل حشر كل ما روى فيه ! وعلى رضي الله عنه كغيره من الخلفاء الراشدين والصحابة الكاملين أسمي مقاما من أن يمدحوا بما لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/463)
ولو أن أهل السنة والشيعة اتفقوا على وضع قواعد في " مصطلح الحديث " يكون التحاكم إليها عند الاختلاف في مفردات الروايات ، ثم اعتمدوا جميعا على ما صح منها ، لو أنهم فعلوا ذلك لكان هناك أمل في التقارب والتفاهم فهيهات هيهات أن يمكن التقارب والتفاهم معهم . بل كل محاولة في سبيل ذلك فاشلة . والله المستعان .
انتهى كلام الشيخ العلامة ، حفظه الله تعالى ونفعنا بعلمه .
هذه هي الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، وكلها موضوعة مكذوبة ، وما يأتي بعدها ليس بأحسن حالاً منها ، وعددها ثلاثة عشر ، وبالنظر إلى مراجعه التي جمع منها هذه الأحاديث نجد الآتى :
خمسة أحاديث من كتاب الصواعق المحرقة ، وابن حجر الهيثمى أثبت بطلان عقيدة الرافضة ، ولهذا ألف كتابه الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة . وقد بين في كتابه عدم صحة ما يستدلون به ، وأنه معارض بالمتواتر والصحيح . والرافضى ينقل غير الصحيح الذي يؤيد باطله ، متجاهلا ما يعارضه . ولذلك سأقف وقفة طويلة تغنينا عن الرجوع لما ينقل من كتاب الصواعق .
ونقل ثلاثة أحاديث من كنز العمال لم يصح منها شيء .
وباقى مراجعه هي : إسعاف الراغبين ، والشرف المؤبد ، والشفا ، وإحياء الميت ، والأربعين للنبهانى ، وتفسير الثعلبى ، وتفسير الزمخشري . وأخذ الأحاديث من هذه المراجع يدل على جهل أو تجاهل الرافضي للحديث وعلومه ، والمنهج العلمى في الاستدلال بالسنة المطهرة .
فهذه الكتب كلها ليست من الكتب المعتمدة للسنن والآثار ، فضلا عن أن تكون من الصحاح . بل إن هذه الكتب يكثر فيها الأخبار الباطلة مثل هذه الأخبار المنقولة .
*****
باب مدينة العلم
من الأحاديث التي استدل الرافضيان " أنا مدينة العلم وعلى بابها " ، وأثبت هنا رد شيخ الإسلام على ابن المطهر .
قال رحمه الله تعالى :(1/464)
وحديث : " أنا مدينة العلم وعلى بابها " أضعف وأوهى ، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات ، وإن رواه الترمذي ، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة ، والكذب يعرف من نفس متنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ، ولم يكن لها إلا باب واحد ، ولم يُبلّغ عنه العلم إلا واحد ، فَسَدَ أمر الإسلام ، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا ، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر ، الذي يحصل العلم بخبرهم للغائب .
وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن ، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة .
وإذا قالوا : ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره .
قيل لهم : فلابد من العلم بعصمته أولا . وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته ، فإنه دَوْر ، ولا تثبت بالإجماع ، فإنه لا إجماع فيها . وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة ، لأن فيهم الإمام المعصوم ، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه ، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره .
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو ، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين ، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا ، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام ، إذ لم يبلغه إلا واحد .
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر ؛ فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير على . أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر ، وكذلك الشام والبصرة ؛ فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلا ، وإنما كان غالب علمه في الكوفة ، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان ، فضلا عن علىّ .(1/465)
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر ، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من على . ولهذا روى أهل اليمن عن مُعاذ بن جبل أكثر مما رووا عن على ، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل . ولما قدم على الكوفة كان شريح فيها قاضيا . وهو وعبيدة السلمانى تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم على الكوفة .
وقال ابن حزم : " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما ". قال : " وهذا كذب ، وإنما يعرف علم الصحابى بأحد وجهين لا ثالث لهما : أحدهما: كثرة روايته وفتاويه . والثانى : كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له . فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له . وهذه أكبر شهادة على العلم وسعته ، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته ، وجميع أكابر الصحابة حضور ، فعمر وعلى وابن مسعود وأبى وغيرهم ، فهذا بخلاف استخلافه عليا إذا غزا ، لأن ذلك على النساء وذوى الأعذار فقط ، فوجد ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها ، وأعلم المذكورين بها ، وهى عمود الإسلام . ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات كالذى عند غيره من علماء الصحابة ، لا أقل ، وربما كان أكثر ، إذ قد استعمل غيره ، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه ، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة .
وبرهان ما قلناه من تمام علم أبى بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها ، والذى يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبى بكر ، ثم الذي من طريق عمر . وأما من طريق على فمضطرب ، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة ، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه .(1/466)
وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج ، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج . وهذه دعائم الإسلام .
ثم وجدناه قد استعمله على البعوث ، فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث ، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل ، فعند أبى بكر من علم الجهاد كالذى عند على وسائر أمراء البعوث لا أقل .
وإذا صح التقدم لأبى بكر علَى علىّ وغيره في العلم بالصلاة والزكاة والحج ، وساواه في الجهاد ، فهذه عمدة للعلم .
ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر ، فشاهد أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة على لها ، فصح ضرورة أنه أعلم بها ، فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق ؟ أو المشارك الذي لا يسبق ؟ فبطلت دعواهم في العلم ، والحمد لله رب العالمين .(1/467)
وأما الرواية والفتيا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ، ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة ، ولم يرو عن على إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة ، يصح منها نحو خمسين حديثا . وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة ، فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده ، لذهاب جمهور الصحابة ، وكثر سماع أهل الآفاق ، منه مرة بصفين ، وأعواما بالكوفة ، ومرة بالبصرة ، ومرة بالمدينة ، فإذا نسبنا مدة أبى بكر من حياته ، وأضفنا تفرى على البلاد بلدا بلدا ، وكثرة سماع الناس منه ، إلى لزوم أبى بكر موطنه ، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه ، وفتاويه من فتاويه ، علم كل ذى حظ من علم أن الذي عند أبى بكر من العلم أضعاف ما كان عند على منه .
وبرهان ذلك أن مَنْ عُمّر من الصحابة عُمرا قليلا قلّ النقل عنه ، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس . وقد عاش على بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر ، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا ، يصح منها نحو خمسين ، كالذى عن على سواء ، فكل ما زاد حديث علىّ علَى حديث عمر تسعة و أربعون حديثا في هذه المدة ، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان .(1/468)
وفتاوى عمر موازية لفتاوى على في أبواب الفقه ، فإذا نسبنا مدة من مدة ، وضربا في البلاد من ضرب فيها ، وأضفنا حديثا إلى حديث ، وفتاوى إلى فتاوى ، علم كل ذى حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند على ، ووجدنا مسند عائشة ألفى مسند ومائتى مسند وعشرة مسانيد ، وحديث أبى هريرة خمسة آلاف مسند ، وثلثمائة مسند ، وأربعة وسبعون مسندا ، ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ، ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما ، أزيد من ألف وخمسمائة ، ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا ، ولكل من ذكرنا ـ حاشا أبى هريرة وأنس ـ من الفتاوى أكثر من فتاوى على أو نحوها ، فبطل قول هذا الجاهل " .
إلى أن قال : " فإن قالوا : قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن ؟ قلنا : نعم ، لكن مشاهدة أبى بكر لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند على وهو باليمن ، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس ، فقد ساوى علمه علم على في حكمها بلا شك ، إذ لا يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عالما بما يستعمله عليه ، وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ذلك ، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع على معاذا وأبا موسى الأشعرى ، فلعلىّ في هذا شركاء كثير ، منهم أبو بكر وعمر ، ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم " .
نظرة في الكتب التي ينقل منها الرافضيان(1/469)
أشار شيخ الإسلام الى بعض الكتب التي نقل منها الرافضي ابن المطهر الحلى ، وبين خطأ منهجه في النقل . وعبد الحسين كسلفه الرافضي نقل من تلك الكتب بالمنهج الخاطئ هو نفسه ، غير أنه في مراجعاته نقل نقولا كثيرة من كتابين هما : نهج البلاغة ، والصواعق المحرقة ، مما يستدعى أن نقف وقفة أمام كل منهما لنرى القيمة العلمية لما ينقل من نهج البلاغة ، ومنهج التضليل والتلبيس في النقل من الصواعق : وتكفينا وقفة قصيرة بالنسبة للكتاب الأول ، أما الثانى فيحتاج إلى وقفة طويلة تفضح هذا الرافضي وأمثاله .
أولا : نهج البلاغة
كتاب نهج البلاغة كتاب بغير إسناد ، فسواء أكان من تأليف وجمع الشريف الرضى المتوفى سنة 406 هـ ، أم أخيه الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ ، فليس متصل الإسناد إلى الإمام على ـ رضي الله عنه ـ بل كان التأليف والجمع بعد ما يقرب من أربعة قرون ، وكما قال عبد الله بن المبارك وابن سيرين وغيرهما : " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " .
وروى الإمام الحاكم بسنده عند عبد الله بن المبارك قال : " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، ثم قال بعد هذا ـ وهو شيعي لكنه غير رافضى : " فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له ، وكثرة مواظبتهم على حفظه ، لدرس منار الإسلام ، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث ، وقلب الأسانيد ، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا " .
وروى أن ابن أبى فروة ذكر أحاديث بغير إسناد فقال له الزهرى : " قاتلك الله يا بن أبى فروة ، ما أجرأك على الله ! لا تسند حديثك ؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة " ! .
( انظر كتابه معرفة علوم الحديث ص 6 ) .
فكتاب نهج البلاغة إذا بغير خطم ولا أزمة ، ولا وزن له من الناحية العلمية . وفى ضوء المنهج العلمى لا يعتبر حجة في أي فرع من فروع الشريعة فضلا عن أصول العقيدة .(1/470)
وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضى ـ كما سيأتي ـ فإن هذا الشاعر رافضى جلد لا يحتج بروايته كما هو معلوم من ترجمته ، وهذا يعنى أن نهج البلاغة لو كان مسندا عن طريقه فلا يجوز الإحتجاج بما جاء فيه . فلو كان مسندا فليس بحجة ، فما بالك إذا خلا تماما عن الإسناد ؟ !
وفى عام 1406 هـ ( 1986 م ) ظهرت طبعة جديدة للكتاب ، وجاء تحت العنوان ما يأتي :
نسخة جديدة محققة وموثقة ، تحوى ما ثبت نسبته للإمام على رضي الله عنه وكرم الله وجهه من خطب ورسائل وحكم . تحقيق وتوثيق دكتور صبرى إبراهيم السيد ، تقديم العلامة المحقق الأستاذ عبد السلام محمد هارون .
فلننظر في هذه النسخة لنرى ماذا قال أستاذنا رحمه الله في تقديمه ، ولنرى نتيجة التحقيق والتوثيق . قال أستاذنا في التقديم :
إنها قضية ذات كتاب : أو كتاب ذو قضية . فكتابنا هذا " نهج البلاغة "يعد في طليعة أمهات كتب الأدب العربى . ولا تكاد مكتبة أديب حفى بالتراث العربى تخلو من الظفربه أو اقتنائه .
وكنا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه : أولاهما : من هو صانع هذا الكتاب ؟ أهو الشريف الرضى ، أم هو أخوه المرتضى ؟ والأخرى : مدى صحة هذا الحشد الهائل من الخطب والرسائل والحكم ، أو بعبارة أدق : ما مدى توثيق هذا الكم الضخم ونسبته إلى الإمام على كرم الله وجهه ؟ من ذا الذي يقضى في هذه المسائل ؟ فإن كثيرين من علماء القرن السادس الهجرى يزعمون أن معظم هذه النصوص لا يصح إسناده إلى الخليفة الإمام ، وإنما هو من صناعة قوم من فصحاء الشيعة ، صنعوه ليزيدوا الناس يقينا بما عرفوه من فصاحة الإمام واقتداره، مع أن فصاحة وبلاغة وسمو بيانه لا تحتاج إلى دليل ، أو تفتقر إلى برهان ، وزعموا أيضا أن الشريف الرضى أو غيره من الشيعة نظموا أنفسهم في سلك هؤلاء الأقوام .(1/471)
وقالوا : إنه مما يحير هذا الشك ويقويه ، ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة في غير ما موضع : وإن السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي .
قالوا : إن فيه من دقة الوصف ، وغرابة التصوير ما لم يكن معروفا في آثار الصدر الأول الإسلامي ، كما أنه يطوى في جنباته كثيرا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس بعد أن شاعت علوم الحكمة ، كالأين والكيف ، إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية ، والعد ، وكلام الخالق ، ومالم يكن معهودا كذلك من التقسيمات الرياضية ذات النظام .
وقالوا : إن الكتاب مشتمل على ادعاء المعرفة بالغيبيات ، وهو الأمر الذي يجل قدر الإمام على بن أبى طالب وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس له أو اصطناعه .
وأن في الكتاب تكرارا للمقاطع بالتطويل تارة ، وبالإيجاز أخرى ، وأن كثيرا من نصوصه لم يظهر فيما أثر من كتب الأدب والتاريخ التي صنعت قبل الشريف الرضى أو أخيه ، وأن فيه تطويلا يتجاوز حد الغلو في بعض نصوصه ، كعهده إلى الأشتر النخعى . دع عنك ما يسرى فيه من مظاهر التشيع المذهبى ، والتعصب الشيعي التي يعلو قدر الإمام عنها .
وأمر آخر يريب : وهو أن جامع هذه النصوص لم يسجل في صدر كتابه أو أثنائه شيئا من مصادر التوثيق والرواية ، كما هو المألوف في أمثال هذه الكتب التي ينظر إليها بعين خاصة ، وهذه كلها شبهات تعلو ، ومسائل تطفو ، تحمل الباحث على كثير من التأمل ، وطويل من الدرس . شبهات ومسائل كانت تحيك في صدر كل دارس لهذا الكتاب الخالد ، ويود لو أن قد تفرغ لدراستها من يزيل عنها تلك الأوضار ، ليظهر من بينها يقين التحقيق .
لهذا كله كانت غبطتى بهذا البحث الذي تولاه باحث أعرف فيه الدقة والصبر، وأعرف فيه خلة التأنى ، فقد استطاع الدكتور صبرى أن يحقق نسبة الكتاب إلى الشريف الرضى بما لا يدع مجالا للشك .(1/472)
ويمكن من تحقيق نسبة النصوص في هذا الكتاب بمختلف ضروبها من خطب ورسائل وحكم إلى أصحابها ، ومن بينها ما صحت نسبته إلى الإمام على في جملتها وتفصيلها ، أو في تفصيلها فقط دور جملتها . وهذا أمر يحدث للمرة الأولى بين الباحثين في هذا الكتاب بهذا الأسلوب المنهجي الفريد " ا . هـ
وبعد هذا التقديم نأتى إلى نتائج التوثيق التي انتهى إليها الدكتور صبرى ، حيث قال :
وهكذا أجد نفسى ـ بعد هذه الجولة التوثيقية ـ أمام مستويات خمسة من النصوص :
1- نصوص ثبتت نسبتها إلى الإمام علي.
2- نصوص رواها الشيعة وحدهم .
3- نصوص لم يروها أحد .
4- نصوص مشكوك في صحة نسبتها لأسباب خاصة .
5- نصوص ثبتت نسبتها لآخرين .
( انظر ص 81 : 97 )
والذى يعنينا هو المستوى الأول فقط . وكيف استطاع المحقق إثبات نسبتها إلى الإمام على ؟
بين المحقق منهجه في التوثيق حيث قال : ( ص 65 )
" وهأنذا أحاول استكشاف ما في بطون الكتب الأدبية والتاريخية من نصوص أوردها صاحب النهج ، ملتزما في ذلك باعتماد أقوال من سبقوا الشريف الرضى ، أو عاصروه ، واستبعاد من جاءوا بعده أو لم يعاصروه " .
وقبل أن ننظر في مراجع المحقق نراه هنا يذكر أنها كتب أدبية وتاريخية،وهذه الكتب كما نعلم ليست حجة في أي فرع من فروع الشريعة ، فما بالك بأصول العقيدة ؟ !
بعد نتائج التوثيق انتقل المحقق إلى تحقيق النصوص وتوثيقها ، وبدأها بتوثيق الخطب :(1/473)
أثبت الخطبة الأولى من أولها إلى قوله : " ولا وقت معدود " ، ومرجعه العقد الفريد لابن عبد ربه . ( انظر ص 101 ) وهى هنا خمسة أسطر فقط ، وفى الأصل أكثر من خمسين ومائة سطر . والثانية نصف سطر ، وقال المحقق ( ص 101 ) : الكلمة موجودة في تاريخ اليعقوبى . والثالثة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة ( ص 102 ) ـ قلت : الكتاب غير صحيح النسبة لابن قتيبة . وهكذا نجد مراجع المحقق من هذا النوع من الكتب التي لا تعتبر إطلاقا مراجع معتمدة في مجال الشريعة . وفى ص 297 : 309 ذكر مراجع البحث والتوثيق . وبالنظر فيها نراها كما ذكر المحقق من كتب الأدب والتاريخ ما عدا مسند الإمام أحمد ، وقد سبق جمع ما في المسند ودراسته ، إذن لا يجوز ذكر شىء مما جاء في نهج البلاغة ليحتج به في أي مجال من مجالات الشريعة ، ولسنا بعد هذا في حاجة إلى مناقشة ما يذكره هذا الرافضي ، وبيان أن ما جاء به من طعن في الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وخيرهم الشيخان ، يتعارض مع كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ثبت متواترا وصحيحا عن الإمام على هو نفسه، رضي الله عنه.
ثانيا : الصواعق المحرقة
كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيتمى المكى ، المتوفى سنة 974 هـ .
والكتاب كما يظهر من عنوانه إنما هو للرد على هذه الفرقة وأمثالها ، ولذلك قال في بداية الكتاب :
" سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق ، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجانب ، فجاء بحمد الله أنموذجا لطيفا ، ومنهاجا شريفا ، ومسلكا منيفا . ثم سئلت قديما في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة . . إلخ " ( ص 9 ) .(1/474)
فالكتاب إذن لبيان بطلان مذهب الشيعة والرافضة و نحوهما ، فكيف يستدل عبد الحسين بما جاء في هذا الكتاب لبيان صحة مذهبه لا بطلانه ؟
لننظر إلى ما جاء في الصواعق أولا ، ثم نبين مسلك عبد الحسين .
بدأ ابن حجر الهيتمى بثلاث مقدمات ، ومما جاء فيها : بيان وجوب تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ما افتراه الرافضة عليهم من الروايات . ثم إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام بعد عصر النبوة . وأخيرا طريق ثبوت الخلافة .
وقسم الكتاب إلى أحد عشر بابا :
جعل الباب الأول في بيان كيفية خلافة الصديق ، والاستدلال على حقيتها بالنقل والعقل ، وقسم الباب إلى خمسة فصول :
الأول : في بيان كيفيتها : وبدأه بقول : " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ، اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به ، أن عمر رضي الله عنه ـ خطب الناس مرجعه من الحج .. " وذكر ما يتصل ببيعة الصديق، وأثبتها من قبل .
وقال بعد هذا ( ص 20 ) .
" وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه : عن ابن مسعود قال : لما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر ابن الخطاب ، فقال : يا معشر الأنصار : ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ، وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . ثم قال بعد هذا ( ص 21 ) :(1/475)
وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والحاكم ، وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال : خطب أبو بكر فقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، لقد قلدت أمرا عظيما مالى به من طاقة ، ولا يد إلا بتقوية الله . فقال على والزبير : ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة ، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها ؛ إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف شرفه وخيره ، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بين الناس وهو حى " .
وقال أيضا :
وأخرج أحمد أن أبا بكر لما خطب يوم السقيفة لم يترك شيئا أنزل في الأنصار ، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم إلا ذكره ، وقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار ، وقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تابع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم . فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعدا أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقى الله ـ ( انظر ص 21 : 22 ) .
وجعل الفصل الثانى في بيان انعقاد الإجماع على ولاية أبى بكر ، فقال :
قد علم مما قدمناه أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك ، وأن ما حكى من تخلف سعد بن عبادة عن البيعة مردود .(1/476)
ومما يصرح بذلك أيضا ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا ، فهو عند الله سيئ . وقد رأي الصحابة جميعا أن يستخلف أبو بكر ، فانظر إلى ما صح عن ابن مسعود ، وهو من أكابر الصحابة ، وفقهائهم ومتقدميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعا على خلافة أبى بكر ، ولذا كان هو الأحق بالخلافة عند جميع أهل السنة والجماعة في كل عصر منا إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وكذلك عند جميع المعتزلة ، وأكثر الفرق ، وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنه أهل لها مع أنها من الظهور بحيث لا تخفى . فلا يقال إنها واقعة يحتمل أنها لم تبلغ بعضهم ، ولو بلغت الكل لربما أظهر بعضهم خلافا . على أن هذا إنما يتوهم أن لو لم يصح عن بعض الصحابة المشاهدين بذلك الأمر من أوله إلى آخره حكاية الإجماع ، وأما بعد أن صح عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلهم ، فلا يتوهم ذلك أصلا، سيما وعلى كرم الله وجهه ممن حكى الإجماع على ذلك أيضا ، كما سيأتي عنه أنه لما قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مبايعته هو وبقية الصحابة لأبى بكر ، وأنه لم يختلف عليه منهم اثنان .(1/477)
وأخرج البيهقي عن الزعفرانى قال سمعت الشافعى يقول : أجمع الناس على خلافة أبى بكر ، وذلك أنه اضطرب الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبى بكر فولوه رقابهم . وأخرج أسد السنة عن معاوية بن قرة قال: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله ، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلالة . وأيضا فالأمة اجتمعت على حقية إمامة أحد الثلاثة أبى بكر وعلى والعباس ، ثم إنهما لم ينازعاه بل بايعاه ، فتم بذلك الإجماع له على إمامته دونهما . إذ لو لم يكن على حق لنازعاه كما نازع على معاوية مع قوة شوكة معاوية عدة وعددا على شوكة أبى بكر ، فإذا لم يبال على بها ، ونازعه ، فكانت منازعته لأبى بكر أولى وأحرى ، فحيث لم ينازعه دل على اعترافه بحق خلافته ، ولقد سأله العباس في أن يبايعه ، فلم يقبل ، ولو علم نصا عليه لقبل سيما ومعه الزبير مع شجاعته وبنو هاشم وغيرهم . ومر أن الأنصار كرهوا بيعة أبى بكر وقالوا منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر بخبر : الأئمة من قريش ، فانقادوا له وأطاعوه ، وعلى أقوى منهم شوكة وعدة وعددا وشجاعة، فلو كان معه نص لكان أحرى بالمنازعة ، وأحق بالإجابة ، ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر على والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد ، ومنها أنهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا ، لا للقدح في خلافة الصديق. هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة ، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة ، ولكن وقى الله شرها .(1/478)
ويوافق ما مر عن الأولين من الاعتذار ، ما أخرجه الدار قطنى من طرق كثيرة أنهما قالا عند مبايعتهما لأبى بكر : إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها . إنه لصاحب الغار وثانى اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وكبره ، وفى آخرها أنه اعتذر إليهم ، فقال " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة ، ولا كنت فيها راغبا ، ولا سألتها الله عزوجل في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما " ، إلى آخر ما مر ، فقبلوا منه ذلك ، وما اعتذر به . ( انظر ص 23 : 25 ) .
وعقب على ما سبق وعلى رواية للبخاري ، بقوله :
فتأمل عذره وقوله : لم ننفس على أبى بكر خيرا ساقه الله إليه ، وأنه لا ينكر ما فضله الله به ، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الحديث تجده بريئا مما نسبه إليه الرافضة ونحوهم ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم ! ( ص 26 ) .
أما الفصل الثالث ففي النصوص السمعية الدالة على خلافة أبى بكر من القرآن والسنة ، وبدأ بالنصوص القرآنية فقال :
فمنها قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"
أخرج البيهقي عن الحسن البصري أنه قال : هو والله أبو بكر ، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام , وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال : لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب ، فذكر قتال أبى بكر لهم إلى أن قال : فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه . " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وشرح ثم قال :(1/479)
وأخرج الدار قطنى عن ابن عمر قال : لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ على بزمامها وقال : إلى أين يا خليفة رسول الله ، أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : شمر سيفك ولا تفجعنا بنفسك ، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا . ( انظر 27 : 28 ) .
واستمر في ذكر الآيات الكريمة ، ومما قاله :
ومن الآيات الدالة على خلافته أيضا قوله تعالى :" قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".
أخرج ابن أبى حاتم عن جويبر أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة ، ومن ثم قال ابن أبى حاتم وابن قتيبة وغيرهما : هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا إلى قتالهم ، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة : سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول : الصديق في القرآن في هذه الآية . قال : لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبى بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة . قال : فدل ذلك على وجوب خلافة أبى بكر ، وافتراض طاعته إذ أخبر الله أن المتولى عن ذلك يعذب عذابا أليما . قال ابن كثير : ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم ، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم ، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان وهما فرعا الصديق .(1/480)
فإن قلت : يمكن أن يراد بالداعى في الآية النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلت : لا يمكن ذلك مع قوله تعالى : " قُل لَّن تَتَّبِعُونَا " ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة في حياته صلى الله عليه وسلم إجماعا كما مر ، وأما على فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلا بل لطلب الإمامة ، ورعاية حقوقها ، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة ، وعندهم كفار ، فتعين أن ذلك الداعى الذي يجب باتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب الأليم أحد الخلفاء الثلاثة ، وحينئذ فالألزم عليه حقية أبى بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها الناشئان عنها والمترتبان عليها .
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى : "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
قال ابن كثير : هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق ، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهرى قال : إن ولاية أبى بكر وعمر في كتاب الله . يقول الله تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ".
ومنها قوله تعالى :" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ".(1/481)
وجه الدلاله : أن الله تعالى سماهم صادقين ، ومن شهد له سبحانه وتعالى بالصدق لا يكذب ، فلزم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبى بكر خليفة رسول الله صادقون فيه ، فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته . أخرجه الخطيب عن أبى بكر ابن عياش وهو استنباط حسن ، كما قاله ابن كثير ، ( انظر ص 31 : 32 ) .
وبعد أن انتهى صاحب الصواعق من ذكر الآيات الكريمة ، وبيان دلالتها على خلافة أبى بكر ، انتقل إلى السنة المطهرة . فقد جمع كثيرا من الأحاديث التي تدل على خلافتة ، والأحاديث التي تدل على فضله ، وهى تزيد على المائة ، وذكرها في أبواب متفرقة .
وأثبت هنا بعض الأحاديث التي بين أنها تدل على خلافة أبى بكر .
1 ـ أخرج أحمد وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وأخرجه الطبرانى من حديث أبى الدرداء والحاكم من حديث ابن مسعود . وروى أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن حذيفه : إنى لا أدرى ما قدر بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وتمسكوا بهدى عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوا . والترمذى عن ابن مسعود والرويانى عن حذيفة وابن عدى عن أنس :
اقتدوا باللذين من بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر ، واهتدوا بهدى عمار ، وتمسكوا بعهد ابن مسعود .(1/482)
2 ـ أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله ، فبكى أبو بكر وقال : بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمنّ الناس علَىَّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبى بكر ، وفى لفظ لهما : لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبى بكر ، وفى آخر لعبد الله بن أحمد : أبو بكر صاحبى ومؤنسى في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر للبخاري : ليس في الناس أحد أمنّ على في نفسى ومالي من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل . سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر لابن عدى : سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبى بكر . وطرقه كثيرة منها عن حذيفة وأنس وعائشة وابن عباس ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله تعالى عنهم .
قال العلماء : في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له في الصلاة بهم وغيرها .
3 ـ أخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : بعثنى بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك ، فأتيته فسألته ، فقال : إلى أبى بكر . ومن لازم دفع الصدقة إليه كونه خليفة إذ هو المتولى قبض الصدقات .(1/483)
4 ـ أخرج مسلم عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. وأخرجه أحمد وغيره من طرق عنها . وفى بعضها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبى بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد ، ثم قال : دعيه معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبى بكر ، وفى رواية عن عبد الله بن أحمد : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر .
5 ـ أخرج الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . قالت عائشة ؛ يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف ! فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفى رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها قالت لحفصة : قولى له يأمر عمر ، فقالت له ، فأبى حتى غضب وقال: أنتن أو إنكن أو لأنتن صواحب يوسف ! مروا أبا بكر .(1/484)
واعلم أن هذا الحديث متواتر ، فإنه ورد من حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد وعلى بن أبى طالب وحفصة. وفى بعض طرقه عن عائشة : لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به ، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبى بكر . وفى حديث ابن زمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة ، وكان أبو بكر غائبا ، فتقدم عمر ، فصلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، لا، لا ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، فيصلى بالناس أبو بكر ، وفى رواية عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له : اخرج وقل لأبى بكر يصلى بالناس ، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر ، فقال يا عمر : صل بالناس ، فلما كبر وكان صيتا وسمع صلى الله عليه وسلم صوته قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر . وفى حديث ابن عمر : كبر عمر فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره فأطلع رأسه مغضبا ، فقال : أين ابن أبى قحافة ؟ قال العلماء : في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق ، وأحقهم بالخلافة ، وأولاهم بالإمامة .
قال الأشعرى :(1/485)
قد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصديق أن يصلى بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) . فدل على أنه كان أقرأهم أي أعلمهم بالقرآن . انتهى . وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة ، منهم عمر، ومر كلامه في فضل المبايعة . ومنهم على، فقد أخرج ابن عساكر عنه : لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس ، وإنى لشاهد وما أنا بغائب ، وما بى مرض ، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا .
قال العلماء : وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال : كان قتال بين بنى عمرو بن عوف ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم ، فقال يابلال: إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس ، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة . ثم أمر أبا بكر فصلى . ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته بالخلافة ؛ لأن القصد الذاتى من نصب الإمام العالم إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن ، وإماتة البدع ، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقها ودفع الظلم ، ونحو ذلك فليس مقصودا بالذات ، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمن على الأنفس ، والأموال ، ووصول كل ذى حق إلى حقه ، فلذلك رضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الدين ، وهو الإمامة العظمى ، أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ، كما ذكرنا ومن ثم أجمعوا على ذلك كما مر .(1/486)
وأخرج ابن عدى عن أبى بكر بن عياش قال : قال لي الرشيد : يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق ؟ قلت : يا أمير المؤمنين : سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون . قال والله وما زدتنى إلا عماء ، قلت : يا أمير المؤمنين مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام ، فدخل عليه بلال ، فقال يا رسول الله : من يصلى بالناس ؟ قال : مر أبا بكر يصلى بالناس ، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل عليه (605[254])، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله ، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعجبه فقال : بارك الله فيك .
6 ـ أخرج ابن حبان عن سفينة : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا ، قال لأبى بكر : ضع حجرك إلى جنب حجرى ، ثم قال لعمر : ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر ، ثم قال لعثمان : ضع حجرك إلى جنب حجر عمر ، ثم قال : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال أبو زرعة : إسناده لا بأس به ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك ، وصححه ، والبيهقى في الدلائل ، وغيرهما . وقوله لعثمان ما ذكر يرد على من زعم أن هذا إشارة إلى قبورهم . على أن قوله آخر الحديث : هؤلاء الخلفاء بعدى صريح فيما أفاده الترتيب الأول أن المراد به ترتيب الخلافة (606[255]).
هذه بعض الأحاديث التي ذكر أنها تنص على إمامة أبى بكر . وأراد بعد هذا أن يبين أن الموضوع محل خلاف ، ولذلك جعل عنوان الفصل الرابع " في بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم هل نص على خلافة أبى بكر ؟
وقال ( ص 42 وما بعدها ) :(1/487)
اعلم أنهم اختلفوا في ذلك . ومن تأمل الأحاديث التي قدمناهاعلم من أكثرها أنه نص عليها نصا ظاهرا . وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحق ، وقال جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج : لم ينص على أحد ، ويؤيدهم ما أخرجه البزار في مسنده عن حذيفة قال : قالوا يا رسول الله : ألا تستخلف علينا ؟ قال : إنى إن أستخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب . وأخرجه الحاكم في المستدرك لكن في سنده ضعف . وما أخرجه الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ( يعنى أبا بكر ) ، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما أخرجه أحمد والبيهقى بسند حسن عن على أنه لما ظهر على يوم الجمل قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر ، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن نستخلف عمر ، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضى الله فيها . والجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب بجرانه الشئ أي استقر وثبت .(1/488)
وأخرج الحاكم وصححه أنه قيل لعلى : ألا تستخلف علينا ؟ فقال : ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ، ولكن إن يرد الله الناس خيرا فسيجمعهم بعدى على خيرهم . وما أخرجه ابن سعد عن على أيضا قال : قال على : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر . وقول البخاري في تاريخه : روى عن ابن جمهان عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر وعثمان : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال البخاري : ولم يتابع على هذا لأن عمر وعليا وعثمان قالوا لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى ، ومر أن هذا الحديث ، أعنى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى ، صحيح ولا منافاة بين القول بالاستخلاف والقول بعدمه لأن مراد من نفاه أنه لم ينص عند الموت على استخلاف أحد بعينه ، ومراد من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم نص عليه وأشار إليه قبل ذلك . ولا شك أن النص على ذلك قبل قرب الوفاة يتطرق إليه الاحتمال ، وإن بعد بخلافه عند الموت ، فلذلك نفى الجمهور كعلى وعمر وعثمان الاستخلاف ، ويؤيد ذلك قول بعض المحققين من متأخرى الأصوليين : معنى لم ينص عليها لأحد لم يأمر بها لأحد . على أنه قد يأخذ مما في البخاري عن عثمان أن خلافة أبى بكر منصوص عليها ، والذى فيه في هجرة الحبشة عنه من جملة حديث أنه قال : وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته ووالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله ، ثم استخلف الله أبا بكر ، فوالله ما عصيته ولا غششته ، ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته . الحديث . فتأمل قوله في أبى بكر : ثم استخلف الله أبا بكر ، وفى عمر : ثم استخلف عمر ، تعلم دلالته على ما ذكرته من النص على خلافة أبى بكر ، وإذا أفهم كلامه هذا ذلك مع ما مر عنه من أنها غير منصوص عليها تعين الجمع بين كلاميه(1/489)
بما ذكرناه . وكان اشتمال كلاميه على ذلك مؤيدا للجمع الذي قدمناه ، وعلى كل فهو صلى الله عليه وسلم كان يعلم لمن هي بعده بإعلام الله له ، ومع ذلك فلم يؤمر بتبليغ الأمة النص على واحد بعينه عند الموت ، وإنما وردت عنه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله له أنها لأبى بكر ، فأخبر بذلك كما مر ، وإذا أعلمها فإما أن يعلمها علما واقعا موافقا للحق في نفس الأمر أو أمرا واقعا مخالفا له ، وعلى كل حال لو وجب على الأمة مبايعة غير أبى بكر لبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة ما لزمهم ، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعى على نقله دل على أنه لا نص . . وتوهم أن عدم تبليغه لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره فلا فائدة فيه باطل ، فإن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه ، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد مع الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عليه ؟ واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سرا ـ واحدا واثنين ـ ونقل كذلك لا يفيد ؛ لأن سبيل مثله الشهرة لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا ، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا كما مر ، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنة . واحتمال أنه بلغه مشتهرا ولم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضا، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض لتوفر الدواعى على نقل مهمات الدين ، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص ، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم لا لعلى ولا لغيره ، فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسودوا به أوراقهم من نحو خبر : أنت الخليفة من بعدى وخبر سلموا على على بإمرة المؤمنين ، وغير ذلك مما يأتي . إذ لا وجود لما نقلوه فضلا عن اشتهاره ، كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها ، إذ لم يصل علمه لأئمة الحديث(1/490)
المثابرين على التنقيب عنه كما اتصل لهم كثير مما ضعفوه . وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحة تلك الآحاد مع أنهم لم يتصفوا قط برواية ولا بصحبة محدث ؟ ويجهل تلك الآحاد مهرة الحديث وسباقه الذي أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده قليلا منه ؟ فلذلك قضت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص علَى علِىّ صح آحادا عندهم مع عدم اتصافهم برواية حديث ولا صحبة لمحدث كما تقرر . نعم روى آحادا خبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى . وخبر : من كنت مولاه فعلى مولاه . وسيأتي الجواب عنهما واضحا مبسوطا ، وأنه لا دلالة لواحد منهما على خلافة على لا نصا ولا إشارة ، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة ،فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهال قاطع بأن ما توهموه من هذين الحديثين غير مراد . أن لو فرض احتمالهم لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي . فظهر أن ما سودوا به أوراقهم من تلك الآحاد لا تدل لما زعموه ، واحتمال أن ثم نصا غير ما زعموه يعلمه على أو أحد المهاجرين أو الأنصار باطل أيضا . وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ .(1/491)
وقولهم : ترك على إيراده مع علمه تقية باطل إذ لا خوف يتوهمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقل شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلا على ما يقوله ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلا عن أن يقتل . فبان بطلان هذه التقية المشؤومة عليهم سيما وعلى قد علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو فعل مع أن دعواه لا دليل عليها ، ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبه لعلى وقومه ، وأيضا فيمتنع عادة من مثلهم أنه يذكره لهم ولا يرجعون إليه كيف وهم أطوع الله وأعمالهم بالوقوف عند حدوده وأبعد عن اتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح : خير القرون قرنى ، ثم الذين يلونهم . وأيضا ففيهم العشرة المبشرون بالجنة . ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما صح من طرق ، فلا يتوهم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنهم يتركون العمل بما يرويه لهم من تقبل روايته بلا دليل أرجح يعولون عليه . معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة إذ هو خيانة في الدين وإلا لارتفع الأمان في كل ما نقوله عنه من القرآن والأحكام . ولم يجزم بشئ من أمور الدين مع أنه بجميع أصوله وفروعه إنما أخذ منهم ، على أن في نسبة على إلى الكتم غاية نقص له لما يلزم عليه من نسبته ، وهو أشجع الناس، إلى الجبن والظلم . ولهذا التوهم كفره بعض الملحدين كما يأتي فعلم مما تقرر جميعه أنه لا نص على إمامة على حتى ولا بالإشارة ، وأما أبو بكر فقد علمت النصوص السابقة المصرحة بخلافته ، وعلى فرض أن لا نص عليه أيضا ففي إجماع الصحابة عليها غنى عن النص إذ هو أقوى منه ؛ لأن مدلوله قطعى ومدلول خبر الواحد ظنى ، وأما تخلف جمع كعلى والعباس والزبير والمقداد عن البيعة وقت عقدها فمر الجواب عنه مستوفى . وحاصله مع الزيادة : أن أبا بكر أرسل إليهم بعد فجاءوا فقال للصحابة : هذا على ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره . ألا فأنتم(1/492)
بالخيار جميعا في بيعتكم إيأي ، فإن رأيتم لها غيرى فأنا أول من يبايعه ، فقال على : لا نرى لها أحدا غيرك ، فبايعه هو وسائر المتخلفين .
ونرى صاحب الصواعق بعد هذا يذكر الشبه التي أثارها الروافض ويدحضها، وهذه الشبه كرر ذكرها صاحب المراجعات ، فهى إذن في صلب موضوعنا ، غير أننا إذا أثبتناها كاملة يطول النقل كثيرا ، ولذلك أكتفى بذكر بعضها :
الشبهة السابعة
زعموا أنه ظالم لفاطمة لمنعه إياها مخلف أبيها ، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث ، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين . وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " . وخبر : " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم ، فتكون معصومة ، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث .(1/493)
وجوابها : أما عن الأول ، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن ، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات . وأما عن الثانى ، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت ، ولسن بمعصومات اتفاقا ، فكذلك بقية أهل البيت . وأما بضعة منى : فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى : فيما يرجع للخير والشفقة ، ودعواها أنه صلى الله عليه وسلم نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة ، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء ، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها ، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة ، وسيأتي عن الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم ، أنه صوب ما فعله أبو بكر ، وقال : لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به . وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قالت : أعطانى فدك ، فقال : هل لك بينة ، فشهد لها على وأم أيمن ، فقال لها : فبرجل وأمرأة تستحقينها . ثم قال زيد : والله ، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه . وعن أخيه الباقر أنه قيل له : أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا ؟ فقال : لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة .(1/494)
وأخرج الدارقطنى ، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى ؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر ، وكان يكره أن يخالفهما .
وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث ، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به . فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب ، فلا يشكل عليك ذلك ، وتأمله فإنه مهم . ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري ، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو : عن الزهرى ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى ، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم فلبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلى يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير ، فاستب على وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ، قالوا : قد قال ذلك . فأقبل عمر على على وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإنى أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها ، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله(1/495)
مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : فأنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر ، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتنى يعنى عباسا ، فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت ، وألا فلا تكلمانى ، فقلتما ادفعه إلينا بذلك ، فدفعته إليكما ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه . قال ، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير ، فقال : صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا أردهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن . قال ، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا ، فغلبه عليها ، ثم كانت بيد(1/496)
الحسن بن على رضي الله عنهما ، ثم بيد الحسين بن على ، ثم بيد على بن الحسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم ، وهى صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا . ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى.(1/497)
فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث ، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته ، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها ، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين ، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنة أبى بكر ، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق ، فصدقاه على ذلك . فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة ؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث ، أن للعباس فيه حصة ، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس ، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس ، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة ، وليس بإرث ، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الرافضة ، ونحوهم ، فلا يتصور بهم ذنب ، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث ، وهذا عين مدعانا ، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ثمنهن أيضا ، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده ، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم .(1/498)
وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا ! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث ، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً ، ثم استحضره الباقون ، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وسلم: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ( ص 57 : 60 ) .
الشبهة الثانية عشرة
زعموا أنه من النص التفصيلى على على قوله صلى الله عليه وسلم له لما خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة : أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى . قالوا : ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابته لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلى من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا لما صح الاستثناء ، ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافه عنه لو عاش بعده إذ كان خليفة في حياته ، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه ، وهو غير جائز على الأنبياء ، وأيضا فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده ، فوجب ثبوت ذلك لعلى إلا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حق على ، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملا بالدليل بأقصى ما يمكن .(1/499)
وجوابها : أن الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدى فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمة الحديث والمعول في ذلك ليس إلا عليهم ، كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يروونه حجة في الإمامة ، وعلى التنزيل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة . وقوله : اخلفنى في قومى ـ لا عموم له حتى يقتضى الخلافة عنه في كل زمن حياته وزمن موته ، بل المتبادر منه ما مر أنه خليفة مدة غيبته ، وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى رضي الله عنه ، إنما هو لقصور اللفظ عنه لا لعزله كما لو صرح باستخلافه في زمن معين ، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت، وأن عدم بقاء خلافته بعده عزل له ، لم يستلزم نقصا يلحقه ؛ بل إنما يستلزم كمالاً له أي كمال لأنه يصير بعده مستقلا بالرسالة والتصرف من الله تعالى ، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكاً في الرسالة . سلمنا أن الحديث يعم المنازل كلها لكنه عام مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخاً نبياً ، والعام المخصوص غير حجة في الباقى أو حجه ضعيفه على الخلاف فيه ، ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه ، وقد نفيت النبوة هنا لاستحالة كون على نبيا، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر، فعلم مما تقرر أنه ليس المراد من الحديث ـ مع كونه آحادا لا يقاوم الإجماع ـ إلا إثبات بعض المنازل الكائنه لهارون من موسى ، والحديث وسببه سياق يبينان ذلك البعض لما مر أنه إنما قاله لعلى حين استخلفه ، فقال على كما في الصحيح : أتخلفنى في النساء والصبيان ؟ كأنه استنقص تركه وراءه فقال له : ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى ؟ يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور ، إذ قال له : اخلفنى في قومى وأصلح ، وأيضاً فاستخلافه على المدينة(1/500)
لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كل معاصريه افتراضاً ولا ندباً بل كونه أهلاً لها في الجملة ، وبه نقول ، وقد استخلف صلى الله عليه وسلم في مرار أخرى غير على كابن أم مكتوم ، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده .
الشبهة الثالثة عشرة
زعموا أيضا أن من النصوص التفصيلية الدالة على خلافة على قوله صلى الله عليه وسلم لعلى: أنت أخي ووصيى وخليفتى وقاضى دينى ـ أي بكسر الدال ، وقوله : أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وقوله : سلموا على على بإمرة الناس.(2/1)
وجوابها : مر مبسوطا قبيل الفصل الخامس ومنه أن هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه صلى الله عليه وسلم ألا لعنة الله على الكاذبين ، ولم يقل أحد من أئمة الحديث أن شيئا من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها بل كلهم مجمعون على أنها محض كذب وافتراء ، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبه على الله ورسوله وعلى أئمة الإسلام ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم ، قلنا لهم هذا محال في العادة إذ كيف تتفردون بعلم صحة تلك مع أنكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدث ، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقه الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده شيئاً منه حتى جمعوا الأحاديث ونقبوا عنها وعلموا صحيحها من سقيمها ، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير ، وكيف والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فجزاهم الله خير الجزاء وأكمله إذ لولا حسن صنيعهم هذا لاستولى المبطلون والمتمردون المفسدون على الدين وغيروا معالمه وخلطوا الحق بكذبهم حتى لم يتميز عنه ، فضلوا وأضلوا ضلالاً مبيناً ، لكن لما حفظ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شريعته من الزيغ والتبديل بل والتحريف ، وجعل من أكابر أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة البطلة الجهلة ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: تركتكم على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحه الدالة صريحاً على خلافة أبى بكر كخبر : اقتدوا باللذين من بعدى وغيره من الأخبار الناصة على خلافته التي قدمتها مستوفاة في الفصل الثالث قالوا: هذا خبر واحد فلا يغنى فيما يطلب فيه(2/2)
التعيين ، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة على أتوا بأخبار تدل لزعمهم كخبر من كنت مولاه ، وخبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى مع أنها آحاد وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنه البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد ، فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح ، لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد ، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق ، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد ، وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر رواته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحق ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم !
الشبهة الرابعة عشرة
زعموا أنه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم أقيلونى أقيلونى لأن الإنسان لا يستقيل من الشىء إلا إذا لم يكن أهلاً له .
وجوابها : منع الحصر فيما عللوا به ، فهو من مفترياتهم ، وكم وقع للسلف والخلف التورع عن أمورهم لها أهل وزيادة ، بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلا بالإعراض عما تأهل له المعرض ، وأما مع عدم التأهل فالإعراض واجب لا زهد، ثم سببه هنا أنه إما خشى من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له ، أو أنه قصد بذلك استبانة ما عندهم ، وأنه هل فيهم من يود عزله فأبرز ذلك كذلك ، فرآهم جميعهم لا يودون ذلك لو أنه خشى من لعنه صلى الله عليه وسلم لإمام قوم وهم له كارهون ، فاستعلم أنه هل فيهم أحد يكرهه أو لا ـ والحاصل أن زعم ذلك يدل على عدم أهليته غاية في الجهالة والغباوة والحمق فلا ترفع بذلك رأساً .
الشبهة الخامسة عشرة
زعموا أيضاً أن علياً إنما سكت عن النزاع في أمر الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً ..(2/3)
وجوابها : أن هذا افتراء كذب وحمق وجهالة مع عظيم الغباوة عما يترتب عليه ، إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق ؟ ولو كان ما زعموه صحيحاً لما سل على السيف في حرب صفين وغيرها ، ولما قاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته وجالد وبارز الألوف منهم وحده وأعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً فكيف يتعقلون أنه صلى الله عليه وسلم يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم يجاهرون بأقبح أنواع الكفر مع ما أوجبه الله من جهاد مثلهم.(2/4)
قال بعض أئمة أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : وقد تأملت كلماتهم فرأيت قوماً أعمى الهوى بصائرهم ، فلم يبالوا بما ترتب على مقالاتهم من المفاسد . ألا ترى إلى قولهم : إن عمر قاد علياً بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت ، فأسقطت ولدا اسمه المحسن ، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة والغباوة التي أورثتهم العار والبوار والفضيحة وإيغار الصدور على عمر رضي الله عنه ، ولم يبالوا بما يترتب على ذلك من نسبة على رضي الله عنه الى الذل والعجز والخور بل ونسبة جميع بنى هاشم وهم أهل النخوة والنجدة والأنفة إلى ذلك العار اللاحق بهم الذي لا أقبح منه عليهم ، بل ونسبة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك، وكيف يسع من له أدنى ذوق أن ينسبهم إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته حتى قاتلوا وقتلوا الآباء والأبناء في طلب مرضاته لا يتوهم إلحاق أدنى نقص أو سكوت على باطل بهؤلاء العصابة الكمل الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص على لسان نبيه في الكتاب والسنة ، كما قدمته في المقدمة الأولى أول الكتاب ـ بواسطة صحبتهم له صلى الله عليه وسلم وموته وهو عنهم راض وصدقهم في محبته واتباعه إلا عبداً أضله الله وخذله فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار ، وأحله الله تعالى نار جهنم وبئس القرار . نسأل الله السلامة آمين . ( ص 73 : 77 ).
وبعد أن دحض شبهات الرافضة انتقل إلى الباب الثانى ( ص 78 ) وجعل عنوانه :
" فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين ليعلم براءتهما مما يقول الشيعة والرافضة من عجائب الكذب والافتراء ، وليعلم بطلان ما زعموه من أن عليا إنما فعل ما أثر عنه تقية ومداراة وخوفاً ، وغير ذلك من قبائحهم ".
ويقع هذا الباب في ثمان صفحات ، يحسن قراءتها ، ولولا الإطالة لنقلتها كاملة، وأكتفى هنا بما ختم به هذا الباب ( ص 85 ) حيث قال :(2/5)
" فهذه أقاويل المعتبرين من أهل البيت رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الأحاديث والآثار ، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة ، فكيف يسمح المتمسك بحبل أهل البيت ، ويزعم حبهم أن يعدل عما قالوه من تعظيم أبى بكر وعمر واعتقاد حقية خلافتهما ، وما كانا عليه . وصرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك يرى أن ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم حتى قال زين العابدين على بن الحسين رضي الله تعالى عنهما : أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فوالله ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً ، وفى رواية حتى نقصتمونا إلى الناس . أي بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه ، فلعن الله من كذب على هؤلاء الأئمة ورماهم بالزور والبهتان"أهـ
واستمر صاحب الصواعق فجعل الباب الثالث عنوانه :
" في بيان أفضلية أبى بكر على سائر هذه الأمة ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم ، على ، وفى ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده أو مع عمر أو مع الثلاثة أو مع غيرهم . وفيه فصول " .
وجعل عنوان الفصل الأول :
" في ذكر أفضليتهم على هذا الترتيب ، وفى تصريح على بأفضلية الشيخين على سائر الأمة ، وفى بطلان ما زعمه الرافضة الشيعة من أن ذلك منه قهر وتقية " .(2/6)
وقال : " اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر . ثم اختلفوا ، فالأكثرون : ومنهم الشافعى وأحمد وهو المشهور عن مالك أن الأفضل بعدهما عثمان ، ثم على ، وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل على على عثمان ، وقيل : بالوقف عن التفاضل بينهما ، وهو رواية عن مالك ، فقد حكى أبو عبد الله المازرى عن المدونة : أن مالكاً رحمه الله سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم ؟ فقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم قال : أو في ذلك شك ؟ فقيل له : وعلى وعثمان ؟ فقال : ما أدركت أحدا ممن اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر . انتهى ، وقوله رضي الله عنه : أو في ذلك شك ؟ يريد ما يأتي عن الأشعرى أن تفضيل أبى بكر ، ثم عمر على بقية الأمة قطعى ، وتوقفه هذا رجع عنه ، فقد حكى القاضى عياض عنه : أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان . قال القرطبى : وهو الأصلح إن شاء الله تعالى ... إلخ" ( ص 286 ) .
واستمر ابن حجر في حديثه بإثبات ما جعله عنواناً لهذا الفصل ، وقال :
" إن أفضلية أبى بكر ثبتت بالقطع حتى عند غير الأشعرى أيضاً بناء على معتقد الشيعة والرافضة ، وذلك لأنه ورد عن على ـ وهو معصوم عندهم والمعصوم لا يجوز عليه الكذب ـ أن أبا بكر وعمر أفضل الأمة . قال الذهبي : وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسى مملكته وبين الجم الغفير من شيعته . ثم بسط الأسانيد الصحيحه في ذلك ، قال : ويقال رواه عن على نيف وثمانون نفساً . وعدد منهم جماعة ، ثم قال : فقبح الله الرافضة ما أجهلهم ! انتهى .(2/7)
ومما يعضد ذلك ما في البخاري عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ، ثم رجل آخر . فقال ابنه محمد بن الحنفيه : ثم أنت، فقال : إنما أنا رجل من المسلمين ، وصحح الذهبي وغيره طرقاً أخرى عن على بذلك ، وفى بعضها : ألا وإنه بلغنى أن رجالاً يفضلونى عليهما ، فمن وجدته فضلنى عليهما فهو مفتر ، عليه ما على المفترى . ألا ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت ، ألا وإنى أكره العقوبة قبل التقدم .
وأخرج الدار قطنى عنه : لا أجد أحداً فضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى . وصح عن مالك ، عن جعفر الصادق ، عن أبيه الباقر ، أن عليا رضي الله عنه وقف على عمر بن الخطاب وهو مسجى ، وقال : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أحداً أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى ( ص 90 ـ 91 ) .(2/8)
ثم قال : ومما يلزم من المفاسد والمساوئ والقبائح العظيمة على ما زعموه من نسبة على إلى التقية أنه كان جباناً ذليلاً مقهوراً . أعاذه الله من ذلك ، وحروبه للبغاة لما صارت الخلافة له ومباشرته ذلك بنفسه ومبارزته للألوف من الأمور المستفيضه والتي تقطع بكذب ما نسبه إليه أولئك الحمقى والغلاة ؛ إذ كانت الشوكة من البغاة قوية جدا ، ولا شك أن بنى أمية كانوا أعظم قبائل قريش شوكة وكثرة جاهلية وإسلاما ، وقد كان أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو قائد المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب وغيرهما ، وقد قال لعلى لما بويع أبو بكر ما مر آنفا فرد عليه ذلك الرد الفاحش . وأيضا فبنو تميم ثم بنو عدى قوما الشيخين من أضعف قبائل قريش ، فسكوت على لهما مع أنهما كما ذكر وقيامه بالسيف على المخالفين لما انعقدت البيعة له مع قوة شكيمتهم أوضح دليل على أنه كان دائراً مع الحق حيث دار ، وأنه من الشجاعة بالمحل الأسنى ، وأنه لو كان معه وصيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر القيام على الناس لأنفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان السيف على رأسه مسلطاً ، لا يرتاب في ذلك إلا من اعتقد فيه ـ رضي الله عنه ـ ما هو بريء منه .
ومما يلزم أيضا على تلك التقيه المشؤومة عليهم أنه رضي الله عنه لا يعتمد على قوله قط ؛ لأنه حيث لم يزل في اضطراب من أمره ، فكل ما قاله يحتمل أنه خالف فيه الحق خوفا وتقية . ذكره شيخ الإسلام الغزالى . قال غيره : بل يلزمهم ما هو أشنع من ذلك ، وأقبح ؛ كقولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين الإمامة إلا لعلى ، فمنع من ذلك وقال : مروا أبا بكر تقية ! فيتطرق احتمال ذلك إلى كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ، ولا يفيد حينئذ إثبات العصمة شيئاً .(2/9)
وأيضا فقد استفاض عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يبالى بأحد حتى قيل للشافعى رضي الله عنه ما نفر الناس عن على إلا أنه كان لا يبالى بأحد ، وقال الشافعى : أنه كان زاهداً لا يبالى بالدنيا وأهلها ، وكان عالماً والعالم لا يبالى بأحد ، وكان شجاعاً والشجاع لا يبالى بأحد ، وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد. أخرجه البيهقي .
وعلى تقدير أنه قال ذلك تقية ، فقد أبقى مقتضيها بولايته ، وقد مر عنه من مدح الشيخين فيها وفى الخلوة وعلى منبر الخلافة مع غاية القوة والمنعة ما تلى عليك قريباً فلا تغفل .(2/10)
وأخرج أبو ذر الهروى والدار قطنى من طرق ، إن بعضهم مر بنفر يسبون الشيخين فأخبر عليا ، وقال : لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك ، فقال على : أعوذ بالله ، رحمهما الله ، ثم نهض فأخذ بيد ذلك المخبر وأدخله المسجد ، وصعد المنبر ، ثم قبض على لحيته وهى بيضاء ، وجعلت دموعه تتحادر على لحيته ، وجعل ينظر البقاع حتى اجتمع الناس ، ثم خطب خطبة بليغة من جملتها : ما بال أقوام يذكرون أخوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدى قريش وأبوى المسلمين ، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب ، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد والوفاء والجد في أمر الله ، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حباً لما يرى من عزمهما في أمر الله ، فقبض وهو عنهما راض ، والمسلمون راضون ، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره في حياته وبعد موته ، فقبضا على ذلك فرحمهما الله ، فوالذى فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقى مارق . حبهما قربة وبغضهما مروق . ثم ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر بالصلاة وهو يرى مكان على ، ثم ذكر أنه بايع أبا بكر ، ثم ذكر استخلاف أبى بكر لعمر ، ثم قال : ألا ولا يبلغنى عن أحد أنه يبغضهما إلا جلدته حد المفترى ، وفى رواية : وما اجترءوا على ذلك أي سب الشيخين ـ إلا وهم يرون أنك موافق لهم منهم عبد الله بن سبأ (607[256])، وكان أول من أظهر ذلك ، فقال على : معاذ الله أن أضمر لهما ذلك . لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ، وسترى ذلك إن شاء الله ، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا يساكننى في بلدة أبدا ، قال الأئمة : وكان ابن سبأ هذا يهوديا فأظهر الإسلام وكان كبير طائفة من الروافض وهم الذين أخرجهم على رضي الله عنه لما(2/11)
ادعوا فيه الألوهية .
وأخرج الدارقطنى من طرق أن علياً بلغه أن رجلاً يعيب أبا بكر وعمر فأحضره وعرض له بعيبهما لعله يعترف ففطن ، فقال له : أما والذى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق أن لو سمعت منك الذي بلغنى أو الذي نبئت عنك وثبت عليك ببينة لأفعلن بك كذا وكذا .
إذا تقرر ذلك ، فاللائق بأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في ذلك ، والإعراض عما يوشيه إليهم الرافضة وغلاة الشيعة من قبيح الجهل والغباوة والعناد ، فالحذر الحذر عما يلقونه إليهم من أن كل من اعتقد تفضيل أبى بكر علَى علِىّ رضي الله عنهما كان كافراً ، لأن مرادهم بذلك أن يقرروا عندهم تكفير الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم ، وأنه لا مؤمن غيرهم ، وهذا مؤد إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته وأهل بيته ؛ إذ الراوي لجميع آثارهم وأخبارهم وللأحاديث بأسرها بل والناقل للقرآن في كل عصر من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هلم ، هم الصحابة والتابعون وعلماء الدين . إذ ليس لنحو الرافضة رواية ولا دراية يدرون بها فروع الشريعة ، وإنما غاية أمرهم أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي أو نحوه . والكلام في قبولهم معروف عند أئمة الأثر ونقاد السنة ، فإذا قدحوا فيهم قدحوا في القرآن والسنة وأبطلوا الشريعة رأسا ، وصار الأمر كما في زمن الجاهلية الجهلاء ، فلعنة الله وأليم عقابه وعظائم نقمته على من يفترى على الله وعلى نبيه بما يؤدى إلى إبطال ملته وهدم شريعته ... إلخ " .
ويأتى الفصل الثانى من هذا الباب وعنوانه :" في ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده وفيه آيات وأحاديث " ( ص 98 ) . ويذكر اثنتى عشرة آية كريمة( ص 98: 102)، ثم قال:" وأما الأحاديث:فهى كثيرة مشهورة " وأثبت عشرات الأحاديث الشريفة .(2/12)
ويطول الأمر كثيرا إذا أردنا أن نثبت ما جاء في هذا الكتاب متصلا بموضوعنا ، إذن لنقلناه كله أو جله ، ولهذا أكتفى هنا بإثبات آخر باب جعله قبل خاتمة الكتاب ، وعنوان الباب هو " في التخيير والخلافة " ( 372 ) وتحت العنوان جاء ما يأتي:
وكان خير الناس بعده وبعد المرسلين أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تواترت بذلك الأحاديث المستفيضه الصحيحة التي لا تعتل ، المرويةٍ في الأمهات والأصول المستقيمة ، التي ليست بمعلولة ولا سقيمه . قال سبحانه : "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ " فنعته بالفضل . ولا خلاف أن ذلك فيه رضوان الله عليه ، وقال سبحانه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ" فشهدت له الربوبيه بالصحبة وبشره بالسكينه وحلاه بثانى اثنين . كما قال على كرم الله وجهه: من يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما . وقال سبحانه : " وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ " ، لا خلاف وهو قول جعفر الصادق رضوان الله عليه ، وقول على كرم الله وجهه ، إن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذى صدق به أبو بكر . وأي منقبه أبلغ من هذا ، ولما أخبرنا سبحانه وتعالى : أنه لا يستوى السابقون ومن بعدهم بقوله سبحانه وتعالى : " لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "والخبر في البخاري مسطور : أن عقبة بن أبى معيط وضع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه وخنقه به ، فأقبل أبو بكر يعدو حول الكعبة ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ؟ قال : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر فضربوه حتى لم يعرف أنفه من وجهه ، فكان أول من جاهد وقاتل ونصر دين الله، وأنه الشخص الذي به قام الدين وظهر ، وهو أول القوم(2/13)
إسلاما ، وذلك ظاهر جلى. وقال جابر بن عبد الله الأنصارى : كنا ذات يوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر الفضائل فيما بيننا إذ أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفيكم أبو بكر ؟ قالوا: لا ، قال : لا يفضلن أحد منكم على أبى بكر ، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة .
وخبر أبى الدرداء المشهور قال : رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشى أمام أبى بكر ، وقال : يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو خير منك ؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر . ومن وجه آخر : أتمشى بين يدى من هو خير منك ؟ فقلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ؟ قال : ومن أهل مكة جميعاً ، قلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل مكة جميعاً؟ قال : ومن أهل المدينة جميعاً ، قلت : يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل الحرمين ؟ قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين والمرسلين خيرا وأفضل من أبى بكر .
ونذكر في كثير منها تخيير عمر بعده ثم عثمان ثم على .
فمن ذلك خبر أبى عقال قد رواه مالك ، وقد سأل عليا كرم الله وجهه وهو على المنبر : من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا ، وإلا فصمت أذنأي إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فعميت وأشار إلى عينيه إن لم أكن رأيته ـ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ما طلعت الشمس ولا غربت على رجلين أعدل ولا أفضل ـ وروى ولا أزكى ولا خيراً ـ من أبى بكر وعمر .
وقد روى محمد بن الحنفية قال : سألت والدى علياً وأنا في حجره ، فقلت: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، ثم حملتنى حداثة سنى قلت : ثم أنت يا أبتى ؟ قال : أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم .(2/14)
وخبر أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض ، وخير الأولين ، وخير الآخرين إلا النبيين والمرسلين . وقال صلى الله عليه وسلم: على وفاطمة والحسن والحسين أهلي ، وأبو بكر وعمر أهل الله وأهل الله خير من أهلي . وقال صلى الله عليه وسلم : لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح .
وخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور قال : قلت يا رسول الله : أخبرني عن فضائل عمر . فقال : يا عمار لقد سألتنى عما سألت عنه جبريل عليه السلام ، فقال لي يا محمد : لو مكثت معك ما مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً أحدثك في فضائل عمر ما نفذت ، وإن عمر لحسنة من حسنات أبى بكر ، وقال : قال لي ربى عز وجل : لو كنت متخذا بعد أبيك إبراهيم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ولو كنت متخذاً بعدك حبيبا لاتخذت عمر حبيباً . نقل ذلك من تفسير القرآن العظيم للبغوى رحمه الله تعالى في آخر سورة الحشر في قوله تعالى :
" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ " يعنى التابعين ، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة فقال : "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا " -غشاً وحسداً وبغضاً ـ " لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل : المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من أقسام المؤمنين .(2/15)
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحى ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبى ، أنبأنا عبد الله بن جليد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سليمان ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبى ، عن إسماعيل ابن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسببتموهم ، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " .
قال مالك بن معرور ، قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ؛ سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ فقالت: أصحاب موسى رضي الله عنه، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : حوارى عيسى رضي الله عنه ، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم !! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم حجة ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حججهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
قال مالك بن أنس : من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فىء ، ثم تلا :
" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" حتى أتى هذه الآية :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ " "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ " " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ" إلى قوله " رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
نقل البغوى رحمه الله في قوله : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر : أنت صاحبى في الغار وصاحبى على الحوض .(2/16)
قال الحسن بن الفضيل : من قال إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن ، وفى سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً .
*****
تعقيب
أطلت إلى حد ما في النقل من كتاب الصواعق المحرقة ليستبين منهج الرافضي صاحب المراجعات ، وجرأته على الباطل وتزييف الحقائق ، فصاحب الصواعق إنما أراد أن يحرق أمثاله ، فإذا به يأخذ من الصواعق لإحقاق باطله وإبطال ما أجمعت عليه الأمة ، وثبت بالنصوص القاطعة ، وذلك بمنهج ليس له أدنى صلة بالمنهج العلمى .
ولذلك لسنا في حاجة بعد هذا للوقوف أمام نقوله الكثيرة من هذين الكتابين:
فنهج البلاغة بغير إسناد ولشاعر رافضى جلد هو نفسه غير ثقة لو أسند . فكيف بانقطاع أربعة قرون ؟! ، كما أن في الكتاب ما يتعارض مع النصوص القطعية الثابتة عن على رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، ومالا يمكن أن يصدر إلا من الرافضة !
وأما الصواعق المحرقة فصاحب الكتاب أفاض وأسهب في بيان بطلان ما ذهب إليه الشيعه والرافضة ، فهو يبطل إذن ما أراده صاحب كتاب المراجعات بالقرآن المجيد ، والسنة المطهرة الثابتة .
وأثبت في هذا التعقيب ما ذكره ابن حجر في الصواعق ( ص 69 ) ، وهو ما أخرجه البيهقي عن الإمام الشافعى قال :
" ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
أما أهل السنة فمنهجهم يوضحه الإمام أحمد بن حنبل بقوله :
" إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا " .
وإذا نظرنا في مسند الإمام أحمد نجد تساهله لا ينزل عن درجة الضعيف إلا في الأخبار القليلة المختلف فيها ، حيث عدها ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة، ورد عليه الحافظ ابن حجر العسقلانى .(2/17)
أما ابن حجر الهيتمى في صواعقه فقد أكثر من ذكر أسباب النزول والأحاديث والآثار ، ومنها الصحيح والضعيف والموضوع ومالا أصل له ، ومنها الصريح وغير الصريح في الدلاله . وقد بين أن الأحاديث الصحيحة التي يحتج بها الشيعة والرافضة ليست صريحة ، ويعارضها الصريح من الصحيح ، بل المتواتر أحيانا . أما الروايات الصريحة التي يحتجون بها فليس منها ما يصل إلى درجة الصحيح أو الحسن ، ومعظمها روايات باطلة موضوعة مكذوبة ، وقد نجد فيها ما يصل إلى درجة الضعيف ، وكل هذا يعارضه ما سبق ذكره من المتواتر والصحيح.
ومنهج الشيعي الرافضي في مراجعاته أن يذكر من كتاب الصواعق ما يحتج به الروافض متجاهلا بطلانه ، وتواتر وصحة ما يعارضه كما بين صاحب الصواعق هو نفسه ! ثم ينسب زورا للشيخ البشرى إقراره بل إعجابه بهذا الباطل !
أكرر هنا ما قاله الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
وجاء في حاشية ص 43 من الصواعق : ذكر الفخر الرازى أنه لم ينقل عن على ذكر النص في شئ من خطبه ، ولا نعرفه إلا عن الكذابين ، ولو كان موجودا لعلمناه ولاشتهر .
الطرق التي يعلم بها كذب المنقول
في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للرافضى ابن المطهر الحلى بين بيانا شافيا الطرق التي يعلم بها كذب المنقول ، وذلك في الجزء السابع من كتابه (ص437 : 479 ) وما ذكره شيخ الإسلام في غاية الأهمية ، وعلى الأخص بالنسبة لغير علماء الحديث والمتخصصين ، ولهذا رأيت أن أجعل كلامه القيم ختاما لهذا الفصل . قال رحمه الله تعالى وأنزله الفردوس الأعلى :
فصل
في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول .(2/18)
منها : أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة ، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة ، واتبعه طوائف كثيرة من بنى حنيفة ، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب ، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا ، وأن الهرمزان كان مجوسيا أسلم ، وأن أبا بكر كان يصلى بالناس مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه ، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف ، والتى لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها ، وما نزل من القرآن في الغزوات ، كنزول الأنفال بسبب بدر ، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ، ونزول أولها بسبب نصارى نجران ، ونزول سورة الحشر بسبب بنى النضير ، ونزول الأحزاب بسبب الخندق ، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك ، وغيرها وأمثال ذلك .(2/19)
فإذا روى في الغزوات ـ وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلاف الواقع ، علم أنه كذب ، مثل ما يروى هذا الرافضي ، وأمثاله من الرافضة وغيرهم ، من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات ، كما تقّدم التنبيه عليه ، ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان ، كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة ، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف و الكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة ، وأن المعراج كان بمكة ، وأن الصفٌةَّ كانت بالمدينة ، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين ، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين ، وممن دخل فيهم سعد بن أبى وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحى المؤمنين ، وكالعريين الذين ارتدوا عن الإسلام ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة يستسقون ، فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة .
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب .
ومن الطرق التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعى على نقله ؛ فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد لبلد عظيم بقدر بغداد والشام والعراق لعلمنا كذبه في ذلك ، لأنه لو كان موجودا لأخبر به الناس .(2/20)
وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان ، أو تولّى بين عثمان وعلى ، أو أخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في العيد ، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء ، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة ، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد ، أو أنه كان يصلى العيد بمنى يوم العيد ، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه ، أو أنه كان يجمع بين الصلاتين بمنى كما كان يقصر ، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان ، أو أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل ، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة ، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه ، ونحو هذه الأمور ـ لكنا نعلم كذب هذا الكاذب ، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها ، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعى على نقلها عامة لبنى آدم ، وخاصة لأمتنا شرعا ، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم ، فضلا عن أن تتواتر ، علم أنها كذب .
ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علىّ ، فإنّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة ؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد ( من أهل العلم ) بإسناد صحيح ، فضلا عن أن يكون متواترا ، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء ، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة ، وحين موت عمر ، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون ، لكان من المعلوم بالضرورة أنه لابد أن ينقله الناس نقل مثله ، وأنه لابد أن يذكره لكثير من الناس ، بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر ، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم ، ونظائر ذلك كثيرة .(2/21)
ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق ، وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه ، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه .
والكلام مع الشيعة أكثره مبنى على النقل ، فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقينى علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إماماتهما ، وكذب ما تدعيه الرافضة .
ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله ، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ، ممن يدّعى نصاً خفياً ، وأن عليا كان أفضل من الثلاثة ، أو يتوقف في التفضيل ؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركّب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار .
فصل
واعلم أنه ثم أحاديث أُخر لم يذكرها هذا الرافضي ، لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده ، وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره ، لكنها كلها كذب .
والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم ، لكن المكذوب في فضل على أكثر ، لأن الشيعة أجرأ على الكذب من النواصب .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : " فضائل علىّ الصحيحة كثيرة ، غير أن الرافضة لم تقتنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع ، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل " .
قال : " فاعلم أن الرافضة ثلاثة أصناف : صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا . وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ، ويقولون : قال جعفر ، وقال فلان . وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ " .(2/22)
فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص على من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا العلاء ابن صالح ، عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال : قال علىّ رضي الله عنه : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديقِّ الأكبر ، لا يقولها بعدى إلا كاذب ، صليت قبل الناس سبع سنين " ورواه أحمد في " الفضائل " وفى رواية له : " ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين " .
ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال عن عباد .
قال أبو الفرج : " هذا حديث موضوع والمتهم به عباد بن عبد الله . قال على بن المديني : كان ضعيف الحديث " . وقال أبو الفرج : " حماد الأزدى : روى أحاديث لا يتابع عليها . وأما المنهال فتركه شعبه . قال أبو بكر الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث علىّ : " أنا عبد الله وأخو رسول الله " فقال : اضرب عليه فإنه حديث منكر " .
قلت : وعباد يروىُ من طريقه عن علىّ ما يُعلم أنه كذب عليه قطعا ، مثل هذا الحديث ؛ فإنّا نعلم أن عليا كان أبرَّ وأصدق وأتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام ، الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضروره أنه كذب . وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه ، فقد علمنا أن علياً لم يقله ، لعلمنا بأنه أتقى لله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح ، وأنه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه ، فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط ، وليس قدح المبغض لعلى من الخوارج والمتعصبين لبنى مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه ، كما أنه ليس قدح الرافضة في أبى بكر وعمر ، بل وقدح الشيعة في عثمان ، لا يشككنا في العلم بصدقهم وبرهم وتقواهم ، بل نحن نجزم بأن واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا هو فيما دون ذلك .
فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله ، وقد علمنا أنه كذب ، جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا .(2/23)
مثل ما رواه عبد الله في " المناقب " : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن على . وحدثنا أبو خثيمة ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي عن على قال : لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "? ( سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من أهل بيته : إن كان الرجل منهم لآكلا جذعة ، وإن كان شاربا فرقا ... إلى آخر الحديث .
وهذا كذب علَى علىّ رضي الله عنه لم يروه قط ، وكذبه ظاهر من وجوه .
وهذا حديث رواه أحمد في " الفضائل " : حدثنا عثمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبى صادق ، عن ربيعة بن ناجز ، عن على ، وهؤلاء يعلم أنهم يروون الباطل .
وروى أبو الفرج من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل ، عن حبة بن جوين ، قال : سمعت عليا يقول : أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين " قال أبو الفرج : " حبة لا يساوى حبة فإنه كذاب . قال يحيى : ليس بشيء قال السعدى : غير ثقة . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث . وأما الأجلح فقال أحمد : قد روى غير حديث منكر . قال أبو حاتم الرازى : لا يحتج به . وقال ابن حبان : كان لا يدرى ما يقول "
قال أبو الفرج : " ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبى بكر وزيد ، وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا ، فكيف يصح هذا ؟ " .
وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا الصديق الأكبر " " وهو مما عملته يد أحمد ابن نصر الذراع ، فإنه كان كذابا يضع الحديث " .(2/24)
وحديثا فيه : " أنا أولهم إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية " قال : " وهو موضوع ، والمتهم به بشر بن إبراهيم . قال ابن عدى وابن حبان : كان يضع الحديث على الثقات " . ورواه الأبرازى الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهرى ، عن مأمون عن الرشيد . قال : وهذا الأبرازى كان كذابا .
وذكر حديثا : " أنت أول من آمن بى ، وأنت أول من يصافحنى يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، أو يعسوب الظلمة " .
قال : " وهذا حديث موضوع . وفى طريقه الأول : عباد بن يعقوب . قال ابن حبان : يروى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، وفيه علىّ بن هاشم . قال ابن حبان : كان يروى المناكير عن المشاهير . ، وكان غاليا في التشيع . وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى : ليس بشئ . وأما الطريق الثانى ففيه أبو الصلت الهروى كان كذابا رافضيا خبيثا ، فقد اجتمع عباد وأبو الصلت في روايته ، والله أعلم بهما أيهما سرقه من صاحبه " .
قلت : لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله .
وروى عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر . قال ابن معين : ليس بشئ لا يكتب عنه إنسان فيه خير . قال أبو الفرج بن الجوزي : " كان غاليا في الرفض " .
فصل
وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة ؛فإن كثيرا من الخاصة ـ فضلا عن العامة ـ يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره . وإنما يعرف ذلك علماء الحديث ، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها ، وسلكوا طريقا آخر .(2/25)
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث ، العالمين بما بعث الله به رسوله . ولكن نحن نذكر طريقاً آخر فنقول : نقدِّر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد ، أو لم يُعلم أيها الصحيح ، ونترك الاستدلال بها في الطرفين ، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر ، وما يٌعلم من العقول والعادات ، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها .
فنقول : من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة ، الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة : لا برغبة ولا برهبة ، لا بذل فيها ما يرغّب الناس به ، ولا شهر عليهم سيفاً يرهبهم به ، ولا كانت له قبيلة ولا موالٍ تنصره وتقيمه في ذلك ، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ، ولا طلبها أيضا بلسانه ، ولا قال : بايعونى ، بل أمر بمبايعة عمر وأبى عبيدة ، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ، ولا أكرهه على المبايعة ، ولا منعه حقا له ، ولا حرك عليهم ساكنا . وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة . .
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وهم السابقون الأّولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .
وأما علىّ وسائر بنى هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه ، لكن تخلف من كان يريد الإمرة لنفسه ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا ، وشرع في قتال فارس والروم ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق ، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم بشئ ، ولا أمّر له قرابة .(2/26)
ثم وَلِىَ عمر بن الخطاب ، ففتح الأمصار ، وقهر الكفّار ، وأعزّ أهل الإيمان، وأذلّ أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولَّى أحداً من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد .
وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقرّ قبله بسكينة وحلٍ ، وهدى ورحمة وكرم ، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطُمع فيه بعض الطمع ، وتوسّعوا في الدنيا ، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا ، وضعف خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ـ ما أوجب الفتنة ، حتى قُتل مظلوما شهيداً.
وتولىّ علىُّ علَىَ إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطّخ بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه ، المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه ، المبغضون لغيره من الصحابة ؛ فإن علياّ لم يُعِن على قتل عثمان ولا رضى به ، كما ثبت عنه ـ وهو الصادق ـ أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفا ، وجانب من حاربه إلا قوة ، والأمة إلا افتراقاً ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يُطلب منه الكفّ .(2/27)
وضعفت خلافة ( النبوة ) ضعفاً أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور : " تكون نبوّة ورحمة ، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية ، فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ، وعلى آخر الخلفاء الراشدين ، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين ، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين ، لكن إذا جاء القادح فقال في أبى بكر وعمر : إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ، وإنهما ـ ومن أعانهما ـ ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة ، مع ما قد عُرف من سيرتهما ـ كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غُلب ، وسُفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ، لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة .
وإذا كنا ندفع من يقدح في علىّ من الخوارج ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في أبى بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى ..
وإن جاز أن يظن بأبى بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل ، مع أنه لم يُعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل عَلَى الولاية ـ ولم يحصل له مقصودة ـ أولى وأحرى .
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامى مسجد ، وشيخى مكان ، أو مدرسى مدرسة ـ كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير .(2/28)
فإذا كنا نظن بعلىّ أنه كان قاصدا للحق والدين ، وغير مريد علواً في الأرض ولا فسادا ، فظنُّ ذلك بأبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أولى وأحرى.
وإن ظن ظان بأبى بكر أنه كان يريد العلوّ في الأرض والفساد ، فهذا الظن بعلىّ أجدر وأولى .
أما أن يقال : إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد ، وعلىُّ لم يكن يريد علوّا في الأرض ولا فسادا ، مع ظهور السيرتين ـ فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبى بكر أفضل .
ولهذا كان الذين ادّعَوْا هذا لعلىّ أحالوا على ما لم يُعرف ، وقالوا : ثَمَّ نص على خلافته كُتم ، وثَمَّ عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها مُنع حقه .
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما عُلم وتيقن وتواتر عن العامة والخاصة ، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهى مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر .
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رُويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يُغنى من الحق شيئا ؟ !
فالمعلوم المتيقَّن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلىّ فضلا عن علىّ وحده ، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده ، فضلا عن على ، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة ، وأن ولايته الأمة خير من ولاية على ، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة على ، رضي الله عنهم .
وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل ، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزاً عنه ، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه ، وأنه لم يكن مريداً للعلوّ في الأرض ولا الفساد ـ كان هذا الاعتقاد بأبى بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى .(2/29)
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص ، كالنقل لفضائل على ، ولما يقتضى أنه أولى بالإمامة ، أو أن إمامته منصوص عليها .وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة ـ الذين هم أصدق وأكثر ـ لفضائل الصديق التي تقضى أنه أولى بالإمامة ، وأن النصوص إنما دلت عليه .
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسنى حجة من جنسها أولى منها ؛ فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل ، فما من حجة يسلكها كتابى إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها .
قال تعالى : " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " ( سورة الفرقان : 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة ، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه .
قال تعالى : "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" ( سورة المؤمنون : 71 ) .
وهنا طريق آخر . وهو أن يُقال : دواعى المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق ، وليس لهم ما يصرفهم عنه ، وهم قادرون على ذلك ، فإذا حصل الداعى إلى الحق ، وانتفى الصارف مع القدرة ، وجب الفعل.
فعُلم أن المسلمين اتّبعوا فيما فعلوه الحق . وذلك أنهم خير الأمم ، وقد أكمل الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة . ولم يكن عند الصديق غرض دنيوى يقدّمونه لأجله ، ولا عند علىّ غرض دنيوى يؤخرونه لأجله ، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدَّموا علياً . وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتّبع رجلا من بنى هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بنى تيم . وكذلك عامة قبائل قريش ، لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؛ فإن طاعتهم لمنافى كانت أحب إليهم من طاعة تيمى لو اتبعوا الهوى . وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقدم علىّ .(2/30)
وقد روى أن أبا سفيان طلب من علىّ أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما . وقد قال أبو قحافة ، لما قيل له أن ابنك تولى ، قال : " أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؟ " قالوا : نعم . فعجب من ذلك ، لعلمه بأن بنى تيم كانوا من أضعف القبائل ، وأن أشراف قريش كانت من تلك القبيلتين .
وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ، لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ؛ فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب ، وأبو بكر كان أتقاهم .
وهنا طريق آخر ، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة خير الأمم كما دل عليه الكتاب والسنة .
وأيضا فإنه من تأمّل أحوال المسلمين في خلافة بنى أمية ، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين ، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيراً وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر . فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم ، وولوا فاسقا وظالما ، ومنعوا عادلا عالما ، مع علمهم بالحق ، فهؤلاء من شر الخلق ، وهذه الأمة شر الأمم ، لأن هذا فعل خيارها ، فكيف بفعل شرارها ؟ !
وهنا طريق آخر . وهو أنه قد عُرف بالتواتر ، الذي لا يخفى على العامة والخاصة ، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به ، وصحبة له ، وقرباإليه ، واتصالا به ، وقد صاهرهم كلهم ، وما عُرف عنه أنه كان يذمهم ولايلعنهم ، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثنى عليهم .(2/31)
وحينئذ : فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا ، في حياته وبعد موته. وإما أن يكونوا بخلاف ذلك ، في حياته أوبعد موته . فإن كانوا على غير الاستقامة ، مع هذا التقرب ، فأحد الأمرين لازم : إما عدم علمه بأحوالهم ، أو مداهنته لهم . وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل :
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة وإن كنت تدر فالمصيبة أعظم
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه . ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك ، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولّى مثل هذا أمرها ؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله ، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين ؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول ، كما قال مالك وغيره : إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل : رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلا صالحاً لكان أصحابه صالحين .
ولهذا قال أهل العلم : إن الرافضة دسيسة الزندقة ، وإنه وضع عليها.وطريق آخر أن يقال : الأسباب الموجبة لعلىّ ـ إن كان هو المستحق ـ قوية ، والصوارف منتفية ، والقدرة حاصلة ، ومع وجود الداعى والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ، وذلك أن علياً هو ابن عم نبيهم ، ومن أفضلهم نسبا ، ولم يكن بينه وبين أحدٍ عداوة : لا عداوة نسب ولا إسلام ، بأن يقول القائل : قتل أقاربهم في الجاهلية .(2/32)
وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار ؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم ، ولهم الشوكة ، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا ، والقبائل التي قتل منها ، كبنى عبد مناف ، كانت تواليه ، وتختار ولايته ، لأنه إليها أقرب . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته ، أو كان هو الأفضل المستحق لها ، لم يكن هذا مما يخفى عليهم ، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته ، إذا لم يكن هناك صارف يمنع ، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى ، ولا معارض لها ولا صارف أصلا .
ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل ، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه ، بل هو قادرون على ولايته . ولو قالت الأنصار : علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ، وقام أكثر الناس مع علىّ ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم ، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما ، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون ، إلا كما يبغضون أمثاله . بخلاف عمر ، فإنه كان شديدا عليهم ، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر .
ولهذا لما استخلفه أبو بكر ، كره خلافته طائفة ، حتى قال له طلحة : ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا ؟ فقال : أبا لله تخوفنى ؟ أقول : وليت عليهم خير أهلك .
فإذا كان أهل الحق مع علىّ ، وأهل الباطل مع علىّ ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه ؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا ، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال ؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد ؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد ، فمن يكون فيهم المحق ؟(2/33)
ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق ؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك ، ولم يّدع داع إلى علىّ : لا هو ولا غيره ، واستمر الأمر على ذلك ، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان ، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا ، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى ، لا لوجود المانع ، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق ، فضلا عن نص جلى ، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه ، مع وجود المانع .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير ، لو كان لعلىّ حق . فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه ، ولا أرغب ولا أرهب ، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان ، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله ، وبعضهم يقول : خذله . وكان قتلة عثمان في عسكره ، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته .
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر ، فكان جنده أعظم ، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر ، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة ، وليس هناك داع قوى يدعو إلى منعه ، كما كان بعد مقتل عثمان ، ولا جند يجمع على مقاتلته ، كما كان بعد مقتل عثمان .(2/34)
وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، فلو تبين أن الحق لعلىّ ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر : إما أن يُسلم إليه ، وإما أن يجامله ، وإما أن يعتذر إليه . ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق ، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم ، لو كان الأمر كذلك ، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية ، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع ، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق ، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد ، لو كان ظالما .
لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا ، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله ، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ، ولو كان لبعضهم هوى مع الغير .
وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين ، الذي يحبه الله ويرضاه.
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة ، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه ، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا ، وكلاهما ممتنع عادة ودينا ، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها ، فكيف إذا علم كذبها ؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها ، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ؟ ومقاييس لا نظام لها ، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى .(2/35)
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف ، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم ، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء ، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم ، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك ، لو تعرض لم تثبت . وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات ، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك . فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه ، فقد سلك مسلك السفسطة ، فإن السفسطة أنواع : أحدها : النفى والجحد والتكذيب : إما بالوجود وإما بالعلم به .
والثانى : الشك والريب ، وهذه طريقة اللاأدرية ، الذين يقولون : لا ندرى ، فلا يثبتون ولا ينفون ، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم ، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به .
والثالث : قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد ، فيقول : من اعتقد العالم قديما فهو قديم ، ومن اعتقده محدثا فهو محدث ، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح ، فإن هذا هو اعتقاده . لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج .
وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة ، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة ، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة ، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه ، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً .
ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ ، وسفسطتهم أكثر ؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة ، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية .(2/36)
ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ومما يُظهر أنه رسول حق ، ليس ملكا من الملوك ؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه : أحدهما : محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته . والثانى : لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي ، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه ، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم ، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار .
ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا ، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم ، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم .
وكذلك ملوك الطوائف ، كبنى بويه ، وبنى سلجق ، وسائر الملوك بالشرق والغرب ، والشام ، واليمن ، وغير ذلك .
وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم ، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك ، ويقولون : هذا من العظم ، وهذا ليس من العظم ، أي من أقارب الملك .
وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم ، ودون سائر بنى عبد مناف : كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف ، الذين كانوا أجل قريش قدراً ، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأنه ليس ملكا ؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً : لا بقرب نسب منه ، ولا بشرف بيته ، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى .(2/37)
ودل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره ، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك . فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً .
وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك ؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا ، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته . فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال ، وإن كان ذلك مباحا ، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء ، بل كان عبد الله ورسوله .
كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " .
وقال : " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا ، فقلت : بل عبدا رسولا " .
وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء ، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم . ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة .
وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر ؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب ، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم ، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى ، وضعف قلوب أهل الأمصار ، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم .(2/38)
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين ، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم ، فقهرهم وفتح بلادهم . وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك .
فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل علىّ أو عثمان ، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا ؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا ، مع قوة الإسلام في زمانه ، وعلىّ كان أعجز من عثمان ، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما ، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما ، ومع هذا فلم يقهر عدوه ، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم ، مع قلة الأعوان وقوة العدو ؟!
وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر ، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الناس بعده ، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا ، إما لعدم القدرة ، وإما لعدم الإرادة.
فإنه إذا قيل : لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة ؟ فلابد أن يكون سبب ذلك : إما عدم كمال القدرة ، وإما عدم كمال الإرادة . وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له ، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله .
وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل ، وإرادتهما أفضل . فبهذا نصر الله بهما الإسلام ، وأذل بهما الكفر والنفاق ، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا .(2/39)
والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض ، فضّل بعض الخلفاء على بعض . فلما لم يؤت ما أوتيا ، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا ، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز ؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع : إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه .
فيقال : إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه ، فكيف يطيعه من لم يبايعه ؟ وإذا قيل : لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر .
فيقال : قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما ، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر ، ولم يفعل ما يشبه فعلهما ، فضلا عن أن يفعل أفضل منه .
وإذا قال القائل : إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك .
قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة ؛ فإنهم يقولون : إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا .
وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على ، دل ذلك على أنهما أفضل منه .
وإن قالوا : إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه.
قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة : إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما ، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم ، كانوا من أشر الناس ، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار .
وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك : إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .(2/40)
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .
وهذا بين لمن تدبره ؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم .
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان . وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه ، كسعد بن أبى وقاص ، وأسامة بن زيد ، وبن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبى هريرة ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .
ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين .
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلو معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ، لأن عليا كان موجودا على عهدالثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره ، كما تقول الرافضة ، أو كان أفضل وأحق بها ، كما يقوله من يقوله من الشيعة ، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .(2/41)
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل . وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة .
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار ، الذي تواترت به الأخبار ، وعلمته البوادى والحضار ؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله .
وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة ، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة ، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .
وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين . فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام ، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن ؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار .
ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود والنصارى خير منهم ، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد . وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين .(2/42)
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم ، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب ، هجرتين : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( سورة الحشر : 8 ) .
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم ، لم يكرههم عليه مكره ، ولا ألجأهم إليه أحد ؛ فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر ، فلم يسلم أحد إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره.
ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء : إنه لم يكن من المهاجرين من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج ، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين .
كما قال تعالى :
" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " ( سورة التوبة : 101 )(2/43)
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم .
وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة ، من أعظم البهتان ، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود ؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه ، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم ، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله .
وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً ؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة . ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام ، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟!
وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع ، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله ، طوعا غير إكراه ، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟!
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضى للمعاداة ، لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله ، معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوى المقتضى للموالاه ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً ؟(2/44)
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى ، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى ، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن . ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضى للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف . ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته .
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم ، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف ، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد ، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد ، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو .
وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، ثم رأوا ظهور الإسلام ، فأسلموا مغلوبين ، فهموا بالردة ، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص .
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون منهم والأنصار ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه ، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ، وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء . انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه .
الفصل الخامس(2/45)
عقائد تابعة
رأينا فيما سبق عقيدتهم في الإمامة ، وأثبتنا بطلانها بأدلة صحيحة صريحة، بل قطعية يقينية . وهذه العقيدة الباطلة هي الطامة الكبرى التي دفعتهم إلى كل غلو وضلال ، وقد رأيت هذا واضحاً جليا منذ عشرات السنين عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير، وكان عنوان الرسالة " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ... " ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه تحت عنوان " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " وإن كنا في غنى عن مناقشة ما تبع عقيدة الإمامة من عقائد أخرى ، فما بنى على باطل فهو باطل ، غير أننا آثرنا توضيح أهم العقائد التابعة ، وستكون المناقشة موجزة كل الإيجاز ، وهذه العقائد أهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية.
أولا : عصمة الأئمة
يرى الشيعة الاثنى عشرية وجوب عصمة الإمام " بحيث يحصل للمكلفين القطع بأنه حجة الله ، وأن قوله قول الله تعالى ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكمه وجوب طاعته والتسليم له ، والرد إليه على جهة القطع. (608?????)
وأهم أدلتهم على وجوب هذه العصمة ما يأتي :-
1.وجوب وجود الإمام لطف من الله سبحانه ، فبه يتم ارتفاع القبيح وفعل الواجب ، وفعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم ، فلابد على هذا من أن يكون الإمام معصوماً ، فهو مكان النبي ، متصف بكل صفاته إلا النبوة .
2.الإمام مقتدى به في جميع الشريعة ، فلو كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله مما يدعونا إليه أن يكون قبيحاً ، ويجب علينا موافقته من حيث وجب الاقتداء به ، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح ، فإذا لم يجز ذلك عليه تعالى دل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا يصدر منه فعل القبيح ولا يكون كذلك إلا المعصوم .(2/46)
3.إذا ثبت لنا عصمته في الظاهر ، فلابد من عصمته في الباطن ، إذ لا يحسن من الحكيم تعالى أن يولى الإمامة ـ وهى منصب يقتضي التعظيم والتبجيل ـ من يجوز أن يكون مستحقا للعنة والبراءة في باطنه .
4.لابد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى التنفير عنه، وعدم الاطمئنان إليه(609?????) .
وهم يرون كذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيهما ما يؤيد اعتقادهم ، فكريمة قوله تعالى : " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبرها جيدا(610?????).
" ومن ذلك مثل قوله تعالى ? " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"(2/47)
وجه الاستدلال العقلى من دليل الموعظة الحسنة أنه سبحانه أخبرهم بأن من يهدى إلى الحق أولى بالاتباع ، ومن فعل الذنب لا يكون هادياً إلى الحق حال معصيته ولا بفعله ، أما حال معصيته فلا يقبل منه ولا تؤثر موعظته في القلوب ، بل تنكر عليه ، وذلك موجب لخلاف دعوته إلى الحق ، وأما بفعله ففعله ذنب والذنب باطل يدعو إلى الباطل ، وأما في غير تلك الحال فالعقول تجوز عليه حالاً لمعصيته لما فيها من شائبة النفرة ، فلا يتم له هدايته إلى الحق ، ولو فرض أنها لا تجوز عليه حال الطاعة حال المعصية ، لم يستحق أحقية الاتباع المطلقة المستمرة التي هي مراد في الآية الشريفة ، ولو فرض الاستحقاق والحال هذه في الجملة ، أو بقول مطلق ، لم يكن في الاستحقاق للأتباع مثل إن لم يقع منه ذنب مطلقا ، فإذا كان الاتباع إنما هو للهداية للحق والصواب الموجبة للنجاة من عذاب الله وسخطه ، وجب في العقل اتباع من لم يجوز عليه العقل شيئاً من المعاصي بالقطع بحصول النجاة في اتباعه ، دون من وقع منه الذنب ، لعدم القطع بحصول النجاة فياتباعه " (611?????) .
ومعنى هذا أن الإمام غير المعصوم عندما يعصى ويفعل الذنب لا يصلح للدعوة إلى الحق ، وفي غير حال المعصية لا يصلح كذلك ، لأن العقول تجوز وقوع المعصية منه . وإذا فرض أنها لا تجوز ذلك في حال طاعته فإن غير المعصوم ـ مع هذا ـ ليس أهلا لأن يتبع الاتباع المطلق المستمر .
وأما السنة الشريفة فهى ـ في رأيهم ـ مستفيضة في الدلالة على العصمة ، بل إنه " ما نشأ القول بعصمة الأئمة إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله " (612?????).(2/48)
وهم يرون كذلك أن ما ورد في القرآن الكريم من العتابات المروية في حق الأنبياء عليهم السلام ليست مقصودة على ما هو المعروف عند سائر الناس ، " فإن المعروف عندهم أن الشخص إذا عاتب آخر ، والسيد إذا عاتب عبده ، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته ، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه ، لأنه عاص له ، قادم على مخالفة أمره ، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل ؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته ، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء ، وداعي أمر الله هو العقل . وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان . وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد " .
والنبي أو الولي " قد يقع منه خلاف الأولى لأنه ينافي الكمال ، ولا يستلزم النقصان ، لأنه بتلك الصفات الحميدة تام قائم في مقامه ومرتبته التي وضعه الله فيها ، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العقاب والذم من رب الأرباب لعلم ذلك الولي أنه مرجوح لا ينبغى له أن يفعله ، فإذا فعله مع علمه بذلك عرف من نفسه التقصير واستحقاق العتاب ، لأن الله سبحانه أقامه مقام القدس الذي هو محل الخلافة والسفارة المقتضى لأن يجرى على الحكمة التي هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله ، فإذا ورد عليه الذم والعتاب انكسر وأناب ، فاستحق بانكساره وذله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية " (613?????).
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم ، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم ، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب ، وإنما هو تكميل على تكميل ، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " (614?????).(2/49)
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل : " عَفَا اللّهُ عَنكَ "، فقالوا تفسيرا للعفو: " هذا يستعمل من لطيف المعاتبة ، وإن كان العتاب على فعل جائز مثل المراد في هذه الآية ، وليس للعفو متعلق إلا التلطف في العتاب " (615?????).
وقوله تعالى : " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ "
خرجوا معنى الآية الكريمة على أنه " محمول على ترك الأولى كما تقدم " . وقيل : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك بشفاعتك ، وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال بينه وبينهم .
وعن الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال ما كان له ذنب ولا هم بذنب ، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له ..
وفي رواية ابن طاووس عنهم عليهم السلام أن المراد : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند أهل مكة وقريش ، يعنى ما تقدم قبل الهجرة وبعدها ، فإنك إذا فتحت مكة بغير قتل لهم ولا استيصال ، ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال ، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبا لك عندهم متقدماً أو متأخراً ، وما كان يظهر من عداوته لهم في مقابلة عداوتهم له . فلما رأوه قد تحكم وتمكن ، وما استقصى ، غفروا ما ظنوه من الذنوب ، ونقل أنه صلى الله عليه وسلم وآله حين كسر الأصنام قالوا: ما كان أحد أعظم ذنباً من محمد ، كسر ثلثمائة وستين إلهاً ، فقال تعالى :" إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ " من عبادتها " وَمَا تَأَخَّرَ"بكسرك إياها ، تهكما بهم واستهزاء (616?????).
وفي واقعة آدم رضي الله عنه " لا يقال إنه عصى من حيث هو معصوم ـ كما هو حال ما نحن بصدده ـ بل إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة ليتم مقادير الله عز وجل " (617?????).(2/50)
وتفسير العصيان بأنه راجع إلى ترك الأولى ، وهو ليس بذنب في الحقيقة . نعم يسمى معصية وذنباً وسيئة إذا صدر من أصحاب المراتب العالية في القرب من الله عز وجل كالنبيين ، ولهذا ورد : حسنات الأبرار سيئات المقربين(618?????).
وفي قصة داود رووا عن الرضا أنه قال : " إن داود رضي الله عنه إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله عز وجل إليه ملكين فتسورا المحراب . فقالا له : خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب . فعجل داود رضي الله عنه على المدعى عليه فقال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، ولم يسأل المدعى البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم حكم " (619?????).
هذا هو رأي الإمامية في مسألة العصمة ، والذي دفعهم إلى كل هذا نظرتهم إلى الإمام على أنه مكان النبي تماما بفارق واحد هو مسألة النبوة ! فلولا وجود الإمام لضلت الأمة ، وهذا الذي يعصم الأمة من الضلال لابد أن يكون معصوماً .
وإن كان هؤلاء الغلاة يقصدون أئمتهم على وجه الخصوص دون غيرهم من سائر أئمة المسلمين ، فإن أي إمام من الأئمة في الإسلام كائنا من كان منفذ للشرع وليس مشرعا ، والذي يعصم الأمة الإسلامية من الضلال هو القرآن الكريم الذي تعهد الله سبحانه بحفظه " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (620?????) ثم من بعد ذلك السنة النبوية الشريفة . وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين ، فإنها تعمل عقلها وتجتهر فيما يعرض لها ، فإنها لا تجمع على ضلالة بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم (621?????) ، وهى التي تعصم الإمام من الخطأ ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام ، أما الأمة فهى أحقٍ بأن تصيب .(2/51)
وعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن ، فوضه في أن يجتهد بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة ، ومعاذ ليس معصوماً ، فلو وجبت العصمة للإمام لوجبت هنا لنفس الأدلة التي ساقوها : من فعل القبيح وترك الواجب ، واتباع الناس له ، إلى غير ذلك .
ولو وجبت العصمة للإمام ، لوجب نصب إمام معصوم لكل بلد ، لأن الإمام الواحد لا يكفي ، ولوجب استمرار وجود هؤلاء الأئمة المعصومين في كل زمان ومكان وهذا ـ كما يسلم الجميع ـ لم يحدث .
فاللطف من الله سبحانه إذا ليس في وجود الإمام المعصوم ، وإنما في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنزال القرآن الكريم وحفظه لهداية الناس .
ونحن إذا تمسكنا بالقرآن الكريم ، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلن نضل أبدا كما قال نبينا صلوات الله عليه في حجة الوداع : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا . كتاب الله وسنة نبيه (622?????).
ويقول تعالى في سورة النساء :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
( فلم يقل : وأطيعوا أولى الأمر ، ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا ، إذ اندراج طاعة الرسول في طاعة الله أمر معلوم ، فلم يكن تكرير لفظ الطاعة مؤذنا بالفرق ، بخلاف ما لو قيل : أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم ، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال " إنما الطاعة في المعروف " ، وقال : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ، وقال : " على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .(2/52)
ولهذا قال سبحانه بعد ذلك : " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر ... ولو كان غير الرسول معصوماً أو محفوظاً فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع (623?????).
فإذا أمر الإمام بالقبيح فليس على الأمة أن تطيعه وتقتدى به ؛ لأن ذلك لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يعقل أن أمة لا تستطيع أن تميز القبيح من غير القبيح ، في حين يستطيع ذلك الإمام وحده حتى لو كان طفلا !
قال ابن تيمية (624?????)، معقبا على القول بعصمة الإمام الثانى عشر : أجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة : أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد ، كما قال تعالى : (625?????)" وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ "
وليس في القرآن الكريم ، ولا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذه العصمة.
فقوله تعالى : (626?????)" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "(2/53)
ليس فيه معنى العصمة ، فهناك فرق كبير بين الظلم وعدم العصمة ، فغير المعصوم إذا أخطأ فلم يصر على هذا الخطأ وتاب وأناب إلى الله تعالى فليس بظالم. ثم أين هذا من السهو والنسيان الذي لا يحاسب عليه الإنسان ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ؟ (627[276]) وقوله تعالى (628?????)" أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى "
جزء من آية كريمة جاءت في سياق الاستدلال على إبطال دعوى المشركين فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد . قال تعالى: (629?????) " قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
فالله سبحانه يهدى للحق وهو أحق أن يتبع ، والمشركون ضالون فيما أشركوا بالله ، فأين وجوب العصمة للإمام هنا ؟!
وبصفه عامة كل من يدعو للحق أحق أن يتبع سواء أكان إماماً أم غير إمام ، ومن دعا إلى الضلال أحق ألا يتبع .
ويقول تعالى في سورة السجدة : (630?????) " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ "
فإذا كانت العصمة واجبة للأئمة ، فهل هؤلاء جميعا ـ الذين ذكرتهم الآية الكريمة ـ معصومون ؟!(2/54)
إن القرآن الكريم يبين أن لا عصمة لبشر ، فهذا آدم رضي الله عنه أبو البشر قد عصى ربه فغوى كما يبين القرآن الكريم ، قال تعالى : (631?????)" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"
وفي سورة الأعراف : (632?????). " فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
وفي سورة طه (633?????) : " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى"
فهذه الآيات الكريمة تذكر أن آدم رضي الله عنه قد أطاع الشيطان وعصى الله تعالى فغوى ، وظلم نفسه . فلو كان معصوماً كالعصمة التي تدعى للأئمة ما فعل ذلك .(2/55)
وكونه " إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة " (634?????) يمكن أن يقال مثله عن أي إنسان ، فكل إنسان معصوم إذن . وإنما يخطئ عندما يصرف عنه وجه العصمة ! وليس الأمر كذلك ! وإذا لم يكن ذلك ذنبا من آدم ـ كما قيل ـ فلم حاسبه الله تعالى وعاقبه ثم تاب عليه وهداه ؟ ولم عد ذلك الذي فعله ظلماً وخسراناً وغياً ؟
يقول ابن تيمية : " من زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله ، ولم يكن ذلك ذنبا ، فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله " . (635?????)
ويقول فخر الدين الرازى ـ وهو يدافع عن مبدأ عصمة الأنبياء ـ إن ما نسب لآدم رضي الله عنه كان قبل النبوة . وأورد رأي أولئك الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة ولكنه لم يستطع أن يسلم بهذا الرأي ، وانتهى إلى قوله بلزوم أن يكون اطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب (636?????) .
إن تلك الآيات الكريمة واضحة الدلالة في عدم العصمة ، ويزيد ذلك وضوحا لا لبس فيه قول الله تعالى :
" وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(637?????)
فقتل موسى للرجل ، واعتبار ذلك من عمل الشيطان ، واعترافه بظلم نفسه، وطلبه المغفرة من الله تعالى ، واستجابة الله له ، كل هذا لا تتحقق معه عصمة.
وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم لم يقر الرسول صلى الله عليه وسلم على أخطاء وقع فيها .
ففي سورة الأنفال : (638?????)(2/56)
" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
وفي سورة التوبة : (639?????) " لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"
وفي سورة الأحزاب (640?????) "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ "
وفي سورة عبس : (641?????) "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى "
وفي آيات كريمة أخرى ذكر أن له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذنوباً : قال تعالى : (642?????) "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"
وقال عز وجل : (643?????) "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ"(2/57)
وقال سبحانه : (644?????) " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"
وقال تعالى : (645?????) " وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"
وتخريج هذه الآيات الكريمة على أنها من باب ترك الأولى لا يتفق مع دعوى العصمة المطلقة .
وما روى عن الصادق في الآية الثانية من سورة الفتح أنه قال : " ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له " . (646?????) يعد مبدأ خطيرا يتنافي مع مبادئ الإسلام كلية ، فأين هذا من قوله تعالى : (647?????)
"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"
ومن قوله سبحانه : (648?????) " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"
فالقرآن الكريم إذن ينفي وجوب هذه العصمة المطلقة لخير البشر أجمعين وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم ، وإنما عصمتهم مقيدة محددة ، فمثلا " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه ، فلا يقرون على سهو فيه ، وبهذا يحصل المقصود من البعثة " . (649?????)
قال الإمام فخر الدين الرازى بعد نقل الآراء المختلفة في القول بعصمة الأنبياء : " والذى نقول :
إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد . أما على سبيل السهو فهو جائز . (650?????)(2/58)
فالرازى وقد كتب رسالته ـ كما يقول (651?????) ـ في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه ، لم يدع لهم عصمة كتلك التي ادعيت للأئمة .
وبالطبع لا يمكن أن تتعارض السنة الشريفة مع هذا المبدأ . لكن الإمامية يستدلون على عصمة الأئمة بكثير من الأحاديث ، بعضها صحيح وبعضها لا يمكن الأخذ به ، وقد رأينا فيما سبق نظرة الشيعة إلى الإمام ونحن لا يمكن بحال أن نأخذ بها ، فهى ترفعه فوق الأنبياء والبشر جميعا !
فما وجه الاستدلال في الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها ؟
من الأحاديث التي استدلوا بها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى : " أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى " . وقوله صلى الله عليه وسلم : " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ثم أعطاها علياً .
وهذا الحديثان الشريفان ورد معناهما في البخاري ومسلم .(652?????)
أما الحديث الأول فقد ذكر مسلم بإسناده عن سعد بن أبى وقاص قال : " خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ، فقال : أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي من بعدى " .
فالإمام على كرم الله وجهه يشبه هارون رضي الله عنه في الاستخلاف (653?????)، وقد استخلف غيره أيضا . وهذا الحديثان الشريفان يبينان مكانة ! على رضي الله عنه ، وما أسماها من مكانة ولكنهما لو كانا يوجبان عصمة لوجبت لكل الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فكلهم يحبون الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحبهم الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولوجبت العصمة كذلك لكل من استخلف على المدينة ، فهم جميعا بمنزلة هارون من موسى في الاستخلاف ، ولوجبت أيضا لكثيرين غير من ادعيت لهم ، مثال ذلك ما جاء في حق أبى بكر الصديق رضي الله عنه من الأحاديث الصحيحة .(2/59)
روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أمن الناس على في صحبته ، وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " (654?????) .
وأكثر من هذا صراحة ما روياه أيضاً بإسنادهما أن أمرأة أتت النبيصلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه . قالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول الموت . قال عليه الصلاة والسلام : إن لم تجدينى فأتى أبا بكر " (655?????) .
وبمنطق الشيعة نقول : إذا جاءت المرأة ولم تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها مأمورة بأن تسأل أبا بكر ، وتتبعه فيما يقوله لها ، فإذا لم يكن معصوماً فربما دلها على قبيح فتتابعه عليه ، وهذا غير جائز فلابد إذن أن يكون معصوماً ! أظن هذا أكثر منطقية واستدلالاً من استدلال الإمامية ، ولكن أحدا لم يقل به ، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بشر كسائر البشر ، يصيب ويخطئ ، والمرأة مأمورة بأن تتبعه فيما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وأبو بكر - كغيره - منفذ للشرع وليس مشرعاً . وغير هذا كثير فيما ورد عن فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (656?????).
نخرج من كل هذا إلى أن عصمة الأنبياء ليست مطلقة ، فهم بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان ، ولكنهم ? عليهم السلام - لا يقرون على هذا الخطأ " بل لابد من التوبة والبيان ، والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر ، فأما المنسوخ ، والمنهى عنه ، والمتوب عنه ، فلا قدوة فيه بالاتفاق ، فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها ، فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك" (657?????) أما باقي البشر فهى أدنى من هذا بكثير جداً .(2/60)
ودعوى العصمة للأئمة ليس لها سند من الشريعة والعقل ، فإنها ترفعهم فوق مستوى الأنبياء عليهم السلام . ولا نقول إن الأئمة جميعاً لا يصلون إلى درجة الأنبياء ، فهذا مسلم به ، وإنما نقول : إن جميع الأئمة ليس فيهم من يصل إلى منزلة الصديق والفاروق رضي الله عنهما باعتراف الإمام على نفسه كرم الله وجهه، فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بسنده عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : " قلت لأبى : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر " . (658?????)
قال ابن تيمية : " قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقاً ، وهو متواتر عنه " (659?????).
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة ، مثال ذلك أن الحسن رضي الله عنه هادن مع كثرة أنصاره ، والحسين رضي الله عنه حارب مع قلة من أنصاره (660?????). فلو كان أحدهما مصيباً ، كان الآخر مخطئاً ، أي غير معصوم ، ولا يمكن أن يكون الاثنان مصيبين . فلعل في هذا كله ما يكفى لدحض دعوىالعصمة ، والله سبحانه يهدينا سواء السبيل .
ثانياً : البداء
البداء : الظهور والانكشاف ، تقول : بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة ، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد ، تقول : بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة : نشأ له فيه رأي .(661?????)
وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم ، الأول في مثل قوله تعالى : " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " (662?????).
وقوله سبحانه وتعالى : (663?????) " وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" .
والثانى في قوله تعالى :(664?????) " ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين " .(2/61)
والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه ، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى ، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله ؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي ، فرفضوا القول بالبداء ، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين ، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل . (665?????) …
ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض ? ُيخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام ، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ ،وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون ، وذكر لما يثبت وما يمحى" يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة .(666?????)
وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي(667?????) عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".
وقال : " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قيل : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله ؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق (668?????).
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء : " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه ، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه ، معاذ الله ، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة ؟
بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم ، وقولنا ( بدا لله ) أي بدا حكم لله ، أو شأن لله " (669?????).(2/62)
فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء ، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين ، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري : فقد روى عن أبى هريرة?رضي الله عنه ? أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ثلاثة في بنى إسرائيل ، أبرص وأقرع وأعمى ، بدا لله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص... " إلى آخر الحديث الشريف (670?????).
فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة ؟ ينافحون عنه ، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا : " ما عبد الله بشئ مثل البداء " ، " ما عظم الله بمثل البداء " (671?????).
إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا ، فهم يقولون : إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته ، أو رسله المقربين بحادثة ما ، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة ، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال : مثال هذا : أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره ، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه ، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله ، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال : بدا لله فيه أن يمد في أجله ، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع (672?????).
وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع ، فما الحكمة من هذا البداء ؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة ؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين المضلين ؟ (673?????).
إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم ، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل ، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب ، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع ، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء !(2/63)
وأول من نادى به المختار الثقفى ، لأنه كان يدعى علم الغيب ، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال : قد بدا لربكم ! (674?????).
وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين ،وقال لقومه : قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف . ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم ، ولا تخل فيكم : فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة ، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له : ما ترى ما يحل بنا من القوم ، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر ، وقد عمل سلاحهم فينا ، وقتل من ترى منا ، فقال لهم : إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي ؟ (675?????)
ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله : " إن لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " (676?????).
وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369):
" إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا : صدق الله ، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين " .
وعلق صاحب الحاشية بقوله : " مرة للتصديق ، وأخرى للقول بالبداء "
فالقول بالبداء ، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب ، فإذا حدث غير ما أخبروا ، فإنما قد بد الله ! ومصدق الكذب يؤجر مرتين !
والمسلمون قاطبة ? عدا الشيعة ? يرفضون هذا القول ، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى : (677?????)
" وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "
وأمره سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : (678?????) " وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ "(2/64)
" قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ " (679?????)
على أن من الشيعة أنفسهم من ينكر علم الأئمة للغيب ، بل ينكر نسبة ذلك إلى الشيعة ! يقول الشيخ محمد جواد مغنية : وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب ، وهم يؤمنون بكتاب الله ، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه : "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ " ،وقوله : " إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ"، وقوله : " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ".
وذكر قول الشيخ الطبرسي المفسر : لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق .
ثم قال : وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين . ثم ذكر عن الشيعة أنهم لا يدعون لأئمتهم علم الغيب ، ولا الإيحاء والإلهام ، وأن من نسب إليهم شيئاً من ذلك فهو جاهل متطفل ، أو مفتر كذاب(680?????) .
وفى قول الشيخ مغنية ما يبين افتراء من يستجيز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، ولكنه بعد عن الواقع عندما ذكر أن الشيعة لا يستجيزون هذا ، فما أكثر الشيعة القائلين بأن الأئمة يعلمون الغيب ! (681?????) ولولا هذا لما قيل بالبداء.
ثالثاً : الرجعة
يعتقد الإمامية الاثنا عشرية أن إمامهم الثانى عشر محمدا المهدى ، سيرجع بعد غيبته الكبرى ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ورأينا أنهم ينتظرون خروجه حتى الآن ، رغم مضى أكثر من ألف عام ! وبسطنا بعض حججهم وأثبتنا بطلانها ، وهذه العقيدة من جوهر الإمامة التي أجمعت عليها هذه الفرقة .(2/65)
والإمامية ليست أول من قال برجوع الإمام بعد غيبته ، فأكثر فرق الشيعة رأت أن بعض الأئمة سيعودون بعد موتهم أو غيبتهم ، ولهم تفصيلات في ذلك يعحب الباحثون لوجود مثلها بين فرق من المسلمين (682?????).
وللإمامية عقيدة أخرى خاصة بالرجعة ، وهى رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته قبل يوم القيامة ، وكذلك رجعة أعدائهم ومن اغتصبوهم حقهم بحسب زعمهم ليقتصوا منهم ، ولهم في ذلك خرافات كثيرة : كظهور جسد أمير المؤمنين على ابن أبى طالب في قرص الشمس ، يعرفه الخلائق ، وينادى مناد باسمه في السماء، وينادى جبريل أن الحق مع على وشيعته (683?????).
وألف في موضوع الرجعة كثير من الرافضة ، وأطالوا الحديث عنها ، وعن إمكانها ، وعن أدلة إثباتها ، والرد على من ينكرها . كما نرى الحديث عن الرجعة في كتب التفسير والحديث عندهم ، والكتب التي تتناول موضوعات عامة .
ونضرب مثلا هنا بكتاب : " الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة " لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هـ .
نرى في مقدمة الكتاب ذكر تسعة وعشرين كتاباً في موضوع واحد هو إثبات الرجعة !!
وفى مراجع المؤلف نرى كثيراً من كتب التفسير والحديث وغيرها .
والكتاب كله مثل للغلو والضلال ، بل يصل إلى الكفر والزندقة . ولا نرى حاجة للوقوف أمام هذا الكتاب وأمثاله ، ويكفى ما بيناه من قبل من بطلان عقيدتهم في الإمامة ، وإثبات ضلال القائلين بها . والرجعة إنما هي تابعة لعقيدتهم في الإمامة ، وهى من أشد أقوالهم غلواً وضلالاً .
ووجدنا من الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم من ينكر هذه العقيدة الخرافية(684?????).
فهى إذن ليست من المبادئ المجمع عليها ، ونحن نرى أن الصواب مع أولئك الذين أنكروها ، وأن من قال بها فقد أدخل على الإسلام ما هو منه براء (685?????) .
رابعاً : التقية(2/66)
نقول : اتقيت الشئ وَتقَيْته أتَّقِيته وأتقْيٍةٍ تُقىّ وتقَّية وِتقاء : أي : حِذَرْته(686?????) ومنها قوله تعالى (687?????) :
" لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً "
وفى قراءة : " تقية " (688[337])
ومعنى هذا أن الله سبحانه قد أباح للمؤمنين : إذا خافوا شر الكافرين أن يتقوهم بألسنتهم ، فيوافقوهم بأقوالهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان .
وقد اتخذت الشيعة التقية مبدأ من مبادئها ، و" معنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك ، أو مالك ، أو لتحتفظ بكرامتك ، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين ، وقد بلغوا الغاية في التعصب، بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إضرارك والإساءة إليك . فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك ، وتدفع الأذى عنك ، لأن الضرورة تقدر بقدرها " (689[338]).
واستدلوا على صحة هذا المبدأ بالآية الكريمة السابقة ، وبقوله تعالى : (690[339])
" إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ "
وبقصة عمار ، فقد أخذه المشركون ولم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، ولم يؤثر ذلك في إيمانه ، إلى غير ذلك من الأدلة التي تبيح للمؤمن أن يظهر غير ما يضمر حفاظاً على حياته أو عرضه (691?????).
والتقية في هذه الصورة لا تتعارض ومبادئ الإسلام ، فلا ضرر ولا ضرار ، والضرورات تبيح المحظورات .
ومن يرجع إلى التاريخ ير من الأهوال التي نزلت بالشيعة ما تقشعر منه الأبدان ، وتأباه النفوس المؤمنة .
ونذكر على سبيل المثال : كتاب مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى ، فقد ترجم فيه لنيف ومائتين من شهداء الطالبين !(2/67)
فمن العبث إذن أن يعرض الإنسان حياته للهلكة دون أن يكون من وراء ذلك وصول إلى هدف مقدس ، أو غاية شريفة .
ويرى الإمامية أن " العمل بالتقية له أحكامه الثلاثة "
فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة ، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع تقوية له ، فله أن يضحى بنفسه ، وله أن يحافظ عليها .
وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل ، وإضلال الخلق، وإحياء الظلم والجور " (692?????)
والعمل بالتقية في ظل هذه الأحكام لا تنفرد به الإمامية ، فلماذا إذن اختصوا بهذا المبدأ ، وهوجموا من أجله ؟
أرى أن ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية :
الأول : أنهم غالوا في قيمة التقية ، مع أنها رخصة لا يقدم عليها المؤمن إلا اضطراراً . من ذلك ما جاء في كتاب الكافى :
عن أبى عبد الله في قوله تعالى : " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا " قال: بما صبروا على التقية ." وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِئَةَ ". قال : الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة . ( فهذا تحريف لمعانى القرآن الكريم ) .
وعن أبى عبد الله : " إن تسعة أعشار الدين التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ! ".
وعنه عن أبيه : " لا والله ما على وجه الأرض شىء أحب إلى من التقية(693?????) . وعن أبى جعفر : " التقية من دينى ودين آبائى ، ولا إيمان لمن لا تقية له " .
فمثل هذه الأخبار تنزل التقية منزلة غير المنزلة ، فمن ارتآها كذلك فإنما تخلق منه إنساناً جباناً كذوباً، وأين هذا من الإيمان ؟!
والسبب الثانى : أنهم وقد أحلوها هذه المكانة ، فلم يتمسكوا بأحكامها ، وتعلقوا بها تعلق المؤمن بإيمانه ، وطبقوها في غير حالاتها (694?????)، ولنضرب لذلك الأمثال :(2/68)
يرون في التيمم مسح الوجه والكفين ، وورد عن أحد أئمتهم أنه سئل عن كيفية التيمم ، فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين . وقالوا : إن ذلك محمول على ضرب من التقية (695?????). فما الذي يدعو إلى هذه التقية ؟ إن كثيراً من المسلمين يرون رأيهم في التيمم ، فلا ضير عليهم ، ولا ضرورة تلجئهم لترك ما يرون صحته ويطبقونه فيما بينهم ، والتعبد بما يرونه باطلاً
وهم لا يشترطون للجمعة المصر ، وروى نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعى والليث ومكحول وعكرمة والشافعى وأحمد (696?????).ورووا عن الإمام على أنه قال : لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحدود . وقالوا : إن هذا الخبر قيل تقية (697?????).
ومن الواضح أنه لا حاجة إلى هذه التقية ، ثم من الذي يتقى ؟ أعلى كرم الله وجهه ؟ وهو الشجاع الذي يأبى التقية إباءه للضيم ، واستشهد من أجل مبادئه ، وكان لفتاواه الدينية قيمتها عند المسلمين ، أمن روى عنه ؟ وكيف إذن يتعمدون الكذب على أمير المؤمنين وليست هناك رقاب ستقطع أو أعراض تنتهك بله أدنى ضرر؟!
وفى صلاة الجنازة يرون رفع اليدين في كل تكبيرة ، ويوافقون في ذلك ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والشافعى وأحمد وغيرهم(698?????).
ولكنهم رووا عن الإمام جعفر عن أبيه قال : كان أمير المؤمنين يرفع يديه في أول التكبير على الجنازة ، ثم لا يعود حتى ينصرف .
ورووا أيضاً عن أبى عبد الله عن أبيه أن الإمام عليا لا يرفع يديه في الجنازة إلا مرة ، يعنى في التكبير .
وعقب شيخ طائفتهم الإمام الطوسي على هاتين الروايتين بقوله : " يمكن أن يكونا وردا مورد التقية لأن ذلك مذهب كثير من العامة " (699?????) .(2/69)
وأشد من هذا عجبا رواياتهم في أكثر أيام النفاس ، فهم يرون أن أيام النفاس مثل أيام الحيض ، ويتعارض ذلك مع روايات لهم كثيرة مثل ما رووه عن الإمام على قال : النفساء تقعد أربعين يوما . وعن أبى عبد الله : سبع عشرة ، وثمانى عشرة ، وتسع عشرة ، وثلاثين أو أربعين إلى الخمسين ، وبين الأربعين إلى الخمسين ! وعن أبى جعفر : ثمانى عشرة .
فجوز إمامهم الطوسي حمل هذه الأخبار على ضرب من التقية ، وقال : لأنها موافقة لمذهب العامة ، ولأجل ذلك اختلفت كاختلاف العامة في أكثر أيام النفاس ، فكأنهم أفتوا كلا منهم بمذهبه الذي يعتقده (700?????).
بمثل هذا تكون التقية تضييعاً للعلم ، وإخفاء للحق ، وترويجاً للكذب .
يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله - : " لا يصح أن تكون التقية لإخفاء الأحكام ومنعها ، فإن ذلك ليس موضوع التقية وليس صالحاً لأن يتسمى بها ، بل له اسم آخر ، وهو كتمان العلم ـ ويوصف معتنقه بوصف لا يوصف به المؤمن " (701[350])
والسبب الثالث : أنهم جعلوا من التقية منفذاً للغلو والانحراف ، مثال هذا أن بعضهم حكم بكفر كثير من الصحابة لعداوتهم للإمام على ، وقالوا بنجاستهم تبعاً لذلك ، وعللوا مخالطة الشيعة لهم بأن طهارتهم مقرونة إما بالتقية ، أو الحاجة ، وحيث ينتفيان فهم كافرون قطعاً ! (702?????).
ويرون أن الصلاة لا تصح خلف من ليس إمامياً ، فكيف إذن كان يصلى الإمام على مثلاً خلف الخلفاء الثلاثة ؟ هذا من الأسئلة التي امتنع السيد كاظم الكفائى ان يجيب عنها ، وقال : " أبو بكر وعمر أتريد أن يكفرونا ؟ " ومثل هذا الغلو الذي أجمعوا عليه يجد التقية أسهل مخرج .
فالتقية إذن بهذه الصورة تعد مبدأ ينفرد به الشيعة الاثنا عشرية .
الجزء الثالث
دراسة مقارنة في الحديث وعلومه وكتبه
ملحق الجزء الثالث
السنة بيان الله تعالي علي لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
بحث نشر في مجلة مركز السيرة والسنة بجامعة قطر
القسم الأول(2/70)
الحديث وعلومه عند الجمهور
القسم الثاني
الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة
مقدمة
الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، والحمد لله الذى لا يؤَّدى شكرُ نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدِّى ماضي نعمه بأدائها : نعمة حادثة يجب عليه شكره بها . ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذى هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه .
أحمده حمداً كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله ، وأستعينه استعانة من لاحول له ولا قوة إلا به ، وأستهديه بهداه الذى لا يضل من أنعم به عليه ، وأستغفره لما أزلفت وأخرت . استغفار من يقر بعبوديته ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو . وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله(703[1]).
وبعد :
فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا الذى يبين حقيقة الشيعة الاثنى عشرية ، حيث كان الجزء الأول دراسة مقارنة في عقيدة الإمامة والعقائد التابعة ، وكان الجزء الثانى في التفسير المقارن وأصوله ، وجاء هذا الجزء ليتناول الحديث وعلومه وكتبه ، وقسمت هذا الجزء إلى قسمين :
القسم الأول : في الحديث وعلومه عند الجمهور
القسم الثانى : في الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة
والقسم الأول يضم عشرة فصول :
الفصل الأول : وضحت فيه ما جاء في القرآن الكريم بينا لا يحتاج إلى بيان ، وما جعل بيانه للرسول صلى الله عليه وسلم ، فكان الفصل تحت عنوان " بيان الكتاب والسنة " .
والفصل الثانى عنوانه " السنة وحى " ، وقد أثبت هذا .
والفصل الثالث لبيان " اعتصام السلف بالسنة " ، فذكرت من الأخبار الصحيحة ما يبين هذا الاعتصام .(2/71)
والفصل الرابع عن " تدوين السنة " وبينت فيه أن من السنة المشرفة ما وصلنا مدوناً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما دون في عهد الصحابة رضى الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى أن بدأ التدوين الرسمى بأمر خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز ـ- رضى الله تعالى عنه . ثم جاء عصر التدوين في منتصف القرن الثانى الهجرى ، ووصلنا من كتب القرن الثانى بعض الكتب ، ثم كان القرن الثالث العصر الذهبى لتدوين السنة المطهرة ، وكثير مما دون في القرنين الأول والثانى مما لم يصلنا جاءنا عن طريق ما دون في القرن الثالث .
وفى الفصل الخامس تحدثت عن " الجرح والتعديل " ، فبينت الأسس العلمية التي قام عليها الجرح والتعديل عند جمهور المسلمين ، ونقلت آراء الأئمة الأعلام ، وما جاء في أول كتب ألفت في هذا الموضوع ، وبينت موقف الجمهور من الفرق المختلفة .
وفى الفصل السادس نقلت " حوار الإمام الشافعى لفرقة ضلت " حيث أنكرت العمل بالسنة المطهرة ، والاكتفاء بالقرآن الكريم ، وشككت في حجية السنة ، وانتهى الحوار بإبطال شبهات هذه الفرقة ، وتسليم من حاوره الإمام الشافعى بصحة ما قاله الإمام .
وفى الفصل السابع أشرت إلى ضلال الطاعنين في السنة الذين جاءوا " بعد الإمام الشافعي " ، وعلى الأخص في القرنين الثالث والرابع .
ولم أرد استقصاء واستيعاب حركات التشكيك والتضليل في كل العصور ، فهذا أمر يطول جداً ، ويكفى فيه النماذج ، ولذلك جعلت الفصل الثامن لما وجد " في عصر السيوطى " ، حيث تحدث الإمام السيوطى عن الطاعنين في عصره من الزنادقة والرافضة ، فألف كتابه " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " للرد على هؤلاء الضالين المضلين .
ثم جعلت الفصل التاسع تحت عنوان " الطاعنون في العصر الحديث " فبينت أصناف هؤلاء الضالين ، ومدى خطر كل طائفة .(2/72)
وختمت هذا القسم بالفصل العاشر ، أشرت فيه إلى راوية الإسلام ، وأحفظ من روى الحديث في دهره ، وهو " أبو هريرة " . رضى الله تعالى عنه ، حيث وجدنا المستشرقين ، وتلامذتهم من العلمانيين ، وكذلك الزنادقة والرافضة ، كل هؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام من أساسه أخذوا يطعنون في هذا الصحابى الجليل الذى حفظ لنا سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم وتركت الحديث عنه للبحث الملحق بهذا الجزء ، وهو بحث : السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم انتقلت إلى القسم الثانى الذى تناول الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة ، ويضم ستة فصول
في الفصل الأول تحدثت عن " التدوين عند الشيعة " ، فبينت انقسام الشيعة إلى عدة فرق عند موت كل إمام ، وكل فرقة كانت تضع من الأحاديث ما تؤيد به عقيدتها ، وما كانت أية فرقة تستطيع أن تضع أحاديث في إمام لم يولد بعد ، فإنها لا تعلم الغيب مهما زعم الزاعمون من غلاة وزنادقة هذه الفرق . وعند موت الإمام الحسن العسكرى ، وهو الحادى عشر ، ولم يعرف له ولد ، ولم يترك عقبا ، وقسمت تركته ، انقسم الشيعة عندئذ إلى أكثر من عشر فرق ، وكلها وضعت عقيدتها على أساس عدم وجود ولد للحسن العسكرى ما عدا فرقة واحدة مع فرقة الشيعة الاثنى عشرية ، حيث زعمتا أن له عقبا ، وقالت الاثنا عشرية مقالتها في الإمام الثانى عشر ، وهو ما بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب .
انتهيت من هذا الفصل إلى أن جميع الأخبار التي تذكر أسماء الأئمة الاثنى عشر كلها وضعت واختلقت بعد موت الإمام العسكرى ، ووجدت أن الواقع العملى يؤيد ما انتهيت إليه حتى بالنسبة لما يعرف عندهم بالأصول الأربعمائة ، وهى تسبق كتبهم الأربعة التي ألفت في القرنين الرابع والخامس .
وانتقلت إلى الفصل الثانى ، وعنوانه " الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة " ، وأردت من هذا العنوان أن نفرق بين معتدلى الشيعة وغلاة الرافضة .(2/73)
فمن أوائل الكتب كتاب " علوم الحديث " للحاكم المعروف بتشيعه ، وبالنظر في الكتاب وجدنا الحاكم يتفق مع جمهور المسلمين ، ومثله من الشيعة النسائى صاحب السنن ، وابن عبدالبر ، وغيرهم .
أما الرافضة ، الذين رفضوا الإمام زيد بن على بن الحسين لثنائه على الشيخين أبى بكر وعمر ،واعترافه بإمامتهما ، هؤلاء الرافضة تأثروا بعقيدتهم الباطلة في الإمامة فربطوا الجرح والتعديل بموقف الرواة من عقيدتهم ، ولذلك جرحوا وفسقوا جمهور الصحابة الكرام ، بل وصل الأمر إلى تكفير خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق ، وتكفير أمة الإسلام التي اعترفت بإمامتهما واقتدت بسنتهما بعد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكرت من كتب الجرح والتعديل عند هؤلاء الرافضة ما يبين ضلالهم ، بل كفرهم وزندقتهم.
والفصل الثالث تناول " مفهوم السنة عندهم " ، وهو يختلف عما أجمعت عليه الأمة ، حيث إنهم أشركوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره من أئمتهم ، وجعلوا أقوالهم وأفعالهم كالمعصوم صلى الله عليه وسلم دون أدنى فرق ، فهم يرونهم معصومين كالرسول صلى الله عليه وسلم ، سواء أكان من اعتبروه إماماً كبيراً أم صغيراً ، أم لا يزال طفلا في الخرق يلهو ويعبث كما يلهو الأطفال ويعبثون ، فلهوه وعبثه سنة تشريعية ملزمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كالقرآن الكريم !! " انظر كيف يفترون على الله الكذب " !!
والفصل الرابع تحدثت فيه عن " مراتب الحديث " ، وهى عندهم أربعة : الصحيح والحسن والموثق والضعيف ، وكلها مبنية على آرائهم الضالة في الجرح والتعديل .(2/74)
والفصل الخامس تحدثت فيه عن " التعارض والترجيح " ، وهو يوضح أسباب ابتعاد هذه الفرقة الضالة عن الأمة الإسلامية ، حيث يرجحون ما خالف الأمة وإن وافق الكتاب والسنة ، ويعتبرون الأخذ بما خالف جمهور المسلمين رشداً ، بل من علامات الإيمان ! وبينت من قبل مفهوم الإيمان والكفر عند هؤلاء الرافضة أتباع عبدالله بن سبأ لعنه الله تعالى ، وسيأتى لهذا مزيد بيان في هذا الجزء والجزء الذى يليه .
أما الفصل السادس ، وهو الفصل الأخير في هذا القسم فتحدثت فيه عن " الكتب الأربعة " ، أى المعتمدة عندهم ، وهى : الكافى للكلينى ، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق ، والتهذيب والاستبصار للطوسى .
ولما كان الكافى هو الكتاب الأول عندهم أشبه بصحيح البخارى عند المسلمين ، وهو يشتمل على الأصول والفروع ، ويقع في ثمانية أجزاء ، أما الكتب الثلاثة الأخرى فتقتصر على الفروع فقط دون الأصول ، فلذلك رأيت أن يكون الحديث أولاً عن الجزء الأول من أصول الكافى ، وثانياً عن الجزء الثانى من أصول الكافى ، وثالثاً عن روضة الكافى ، ثم أخيراً يكون الحديث عن فروع الكافى والكتب الثلاثة الأخرى .
وهذه الكتب الأربعة كتبت بعد عصر الأئمة الاثنى عشر في ظلمات عقيدتهم الباطلة ، وقد بينت الدراسة ما في هذه الكتب من باطل وزيغ وضلال وعلى الأخص كتابهم الأول حيث سلك الكلينى منهج شيخه على بن إبراهيم القمى في تحريف القرآن الكريم ، وتكفير الصحابة الكرام ، وعلىالأخص أبو بكر وعمر خير البشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن تولاهما ورضى بخلافتهما الراشدة.
والقارئ لهذا القسم يعجب أشد العجب لوجود مثل هذا الزيغ والضلال والزندقة لفرقة تنتمى إلى الإسلام ، وتبذل أقصى ما تستطيع لنشر هذا الفساد بين المسلمين .(2/75)
وبقراءة هذا الجزء بقسميه يبدو واضحاً جلياً بيناً الفرق بين المنهج العلمي للجمهور في الحديث وعلومه ومنهج غلاة الرافضة وزنادقتهم ، ويشترك مع الجمهور معتدلو الشيعة من غير الرافضة .
ويبقى بعد هذا أصول الفقه وهو ما نتحدث عنه في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى .
" سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين " .
الفصل الأول
بيان الكتاب والسنة
نزل القرآن الكريم مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة ، قال تعالى في سورة الإسراء : ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً( (704???)
والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقرأ القرآن الكريم على الناس فإنما يقرأ ويبين مراد الله تعالى . وكان منهج الصحابة رضى الله تعالى عنهم كما قال ابن مسعود " كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما بهن ونعمل بهن فتعلمنا العلم والعمل جميعاً " ، وكانوا يأخذون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخفى عليهم من هذا العلم .
وفى العهد المكى الذى نزلت فيه سورة الإسراء نزل قوله تعالى في الآية التاسعة والثمانين من سورة النحل : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ( .
وفى الآية الرابعة والأربعين من سورة النحل أيضاً نزل قوله عز وجل : (أنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ( ، فما البيان الذى جاء به القرآن الكريم؟ و ما بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وما العلاقة بين البيانين ؟(2/76)
أولاً: من القرآن ما جاء البيان نصا لا يحتاج إلى بيان آخر : كقوله تبارك وتعالى : ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ((705[3]).
فحرف الواو كما يأتى للجمع قد يأتى للإباحة ، فيحتمل أن يكون المتمتع مخيراً بين صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، فمنع هذا الاحتمال بمزيد من البيان " تلك عشرة كاملة " ومثل هذه الآية الكريمة ما يعرف في أصول الفقه : بالمحكم أو المفسر إذا كان التفسير من القرآن الكريم نفسه وهو كثير ، وما كان قطعى الدلالة لا يحتمل التأويل وهو أكثر .
ثانياً : في الآية الكريمة السابقة الذكر ذكر العمرة والحج ، ولكن كيف نؤديهما ؟ وفى قوله عز وجل ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ( بيان أن الصلاة مفروضة ، وأن الزكاة مفروضة ولكن ما عدد الصلوات المفروضة ؟ وكيف تؤدى ؟ وما مواقيتها ؟ إلى غير ذلك مما يتعلق بالصلاة ، وكذلك ما يتعلق بالزكاة . كل هذا بينه الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله -ـ عز وجل ـ الذكر بإحكام الفرض وترك للرسول صلى الله عليه وسلم بيان ما أنزل . وهذا أمر واضح جلى لا يحتاج إلى وقفة فلا يستطيع أحد أن ينكره .
ومثل هذا بيان ما كان ظنى الدلالة محتملاً للتأويل : كمطلق يقيد وعام يخصص إلى غير ذلك مما هو معلوم مشهور .(2/77)
ثالثاً : جاءت السنة المطهرة بما ليس فيه نص من كتاب الله تبارك وتعالى ، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو عن الله تعالى ، فقد بين القرآن الكريم وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم " فكل من قبل عن الله فرائضه فى كتابه : قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه ، وأن ينتهوا إلى حكمه . ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته . فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن الله وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبل بها عنهما " (706[4]).
والآيات الكريمة التي تبين وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنها من طاعة الله عز وجل ، وتحذر من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآيات كثيرة نكتفى هنا بذكر بعضها .
القرآن الكريم يأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ويحذر من معصيته .
قال الله سبحانه وتعالى :
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ( " الحشر : 7 "
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( " النساء : 59 "
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ( " الأحزاب : 36 "
( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ( " النساء : 80 "
( إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( " الفتح : 10 "(2/78)
( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ( " النساء : 65 "
( لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( " النور : 63 "
( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( " النور : 51 ، 52 "
فهذه الآيات الكريمة فرضت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم : مقرونة بطاعة الله عز وجل ، ومذكورة وحدها ، وحذرت من يعصى أمر رسول الله وحكمت عليه بالضلال المبين وبعدم الإيمان ، فطاعة الرسول الكريم طاعة الله تبارك وتعالى . إذن بيان السنة من بيان كتاب الله العزيز .
السنة وحي
ولا يكون مثل هذا للرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان معصوماً لا ينطق عن الهوى ، وهو ما بينه القرآن الكريم حيث قال:( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ( (3 - 4:النجم ).وقال: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ ( ( 52 - 53 : الشورى ) .
وفى آيتين كريمتين إحداهما تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والأخرى تخاطب المؤمنين جاء البيان بأن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب والحكمة ،وسيأتى في كلام للإمام الشافعى إثبات أن الحكمة هي السنة ، والآيتان هما قوله تعالى :(2/79)
( وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( ( 113 : النساء) ، وقوله عز وجل : ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ( (231 : البقرة ) . وإذا كان القرآن الكريم وحياً منزلا أمرنا باتباعه والتعبد به وتلاوته فإن السنة المطهرة من الوحى المنزل الذى أمرنا باتباعه دون التعبد والتلاوة .
وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يبين وجوب طاعته ويحذر من معصيته .
فقد روى أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجة والحاكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " وفى رواية لهم أيضاً " يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثى فيقول :
بينى وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه . وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " (707[5]) .
وفى خطبته الشريفة في حجة الوداع حث على التمسك بالكتاب والسنة حيث قال : " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً أمرا بينا كتاب الله وسنة نبيه (708[6]) .
وروى أبو داود في مراسيله عن حسان بن عطية قال : " كان جبريل رضي الله عنه ينزل على رسول صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن " (709[7]) .
وروى الدارمى عن محمد بن كثير عن الأوزاعى عن حسان قال : " كان جبريل ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن " (710[8]) .ورواه الخطيب البغدادى في الكفاية ( ص12 ) بسنده عن حسان بن عطية أيضاً .
اعتصام السلف بالسنة
كان السلف الصالح متمسكاً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تمسكهم بالقرآن الكريم ، فالكل وحى واجب الاتباع .(2/80)
ففى صحيح البخارى نجد كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، ومما جاء في هذا الكتاب : " وكانت الأئمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم " .
ويوضح ما سبق ما رواه الإمام الدارمى في باب التورع عن الجواب فيما ليس في كتاب ولا سنة :
من هذه الروايات أن أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى به ، فأن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال : أتانى كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء فيقول أبو بكر : الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ عن نبينا . فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به .
وموقف الصديق من ميراث الجدة معلوم مشهور حيث توقف " لا أجد لك في كتاب الله شيئاً " إلى أن بلغه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس .
من روايات سنن الدارمى أيضاً أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى شريح : إذا جاءك شئ في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به .
ومنها أن ابن عمر لقى جابر بن زيد فقال له : يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية ، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت .(2/81)
ومنها أن عبدالله بن مسعود قال : أتى علينا زمان لسنا نقضى ولسنا هناك ، وأن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون ، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله ، فإن جاءه ما ليس فى كتاب الله ولم يقض به رسول الله فليقض بما قضى به الصالحون .
ومما يبين ما جاء في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخارى ما رواه هو ومسلم وأحمد وغيرهم أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : أذكر الله امرأ سمع من النبى صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا ؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال : كنت بين جارتين لى -ـ يعنى ضرتين ـ فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ، فألقت جنينا ميتا ، فقضى فيه رسول صلى الله عليه وسلم بغرة ، فقال عمر : لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره . وقال غيره : إن كدنا أن نقضى في مثل هذا برأينا .
وروى الإمام الشافعى بسنده عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة وإلى التي تليها بعشر ، وفى الوسطى بعشر ، وفى التي تلى الخنصر بتسع ، وفى الخنصر بست .
ثم قال الشافعى : لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبى قضى في اليد بخمسين ، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع ، نزلها منازلها ، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف ، فهذا قياس على الخبر .
فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم ، فيه : أن رسول الله قال : " وفى كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل " صاروا إليه .
ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله .
وفى الحديث دلالتان :
أحدهما : قبول الخبر، والآخر : أن يقبل الخبر في الوقت الذى يثبت فيه ، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبرالذى قبلوا .
ودلالة على أنه لو مضى أيضاً عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبر عن النبى صلى الله عليه وسلم يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله .(2/82)
ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده .
ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار ، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم ، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله وترك كل عمل خالفه .
ولو بلغ عمر هذا صار إليه ، إن شاء الله كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله ، بتقواه لله ، وتأديتة الواجب عليه ، في اتباع أمر رسول الله وعلمه ، وبأن ليس لأحد مع رسول الله أمر ، وأن طاعة الله فى اتباع رسول الله .
ثم أيد الإمام الشافعى قوله السابق فروى بسنده أن عمر بن الخطاب كان يقول : الدية للعاقلة ، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا ، حتى أخبره الضحاك ابن سفيان أن رسول الله كتب إليه : أن يورث امرأة أشيم الضبابى من ديته ، فرجع إليه عمر (711[9]) .
ولمكانة السنة عند الصحابة الكرام وجدنا منهم من يرحل لطلب حديث واحد :
روى البخارى في الأدب المفرد بسنده عن ابن عقيل ، أن جابر بن عبدالله حدثه أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، فابتعت بعيرا ، فشددت إليه رحلى شهرا حتى قدمت الشام ، فإذا عبدالله بن أنيس ، فبعث إليه أن جابرا بالباب . فرجع الرسول فقال : جابر بن عبدالله ؟ فقلت : نعم . فخرج فاعتنقنى . قلت : حديث بلغنى لم أسمعه ، خشيت أن أموت أو تموت .. إلخ (712[10]).(2/83)
وروى الحميدى في مسنده ( 1 / 189 ) وبسنده عن عطاء بن أبى رباح: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يبق أحد سمعه من رسول صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة . فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصارى وهو أمير مصر ، فأخبر به ، فعجل وخرج إليه فعانقه ، ثم قال : ما جاء بك يا أبا أيوب ؟ فقال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرى وغير عقبة ، فابعث من يدلنى على منزله . فقال : فبعث معه من يدله على منزل عقبة ، فأخبر عقبة به ، فعجل فخرج إليه فعانقه وقال : ما جاء بك يا أبا أيوب ؟ فقال حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق أحد سمعه غيرى وغيرك في ستر المؤمن .
فقال عقبة : نعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ستر مؤمنا في الدنيا على خزيه ستره الله يوم القيامة " .
فقال له أبو أيوب : صدقت ، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة فما أدركته جايزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر .
هذان مثلان فيهما من الدلالة ما يكفى ويغنى ، والرحلة في طلب الحديث معلومة مشهورة .
تدوين السنة
من المعلوم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة أحاديثه الشريفة ، وأنه كذلك أباح ، وأمر بمثل هذه الكتابة ، وبالطبع لا يمكن أن يجتمع النهى والإباحة والأمر مع اتحاد الزمان والأحوال . والمتتبع لهذا يجد أن النهى صدر في أول الأمر حتى لا يختلط شىء بكتاب الله تعالى كما يبدو ، أو لأية حكمة أخرى .(2/84)
والصحيح في النهى ينحصر في حديث واحد رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد من صحيحه ، تحت باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم ، ورواه بسنده ، عن أبى سعيد الخدرى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكتبوا عنى ، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه ، وحدثوا عنى ولا حرج ، ومن كذب على - قال همام : أحسبه قال متعمداً : فليتبوأ مقعده من النار " .
وقال الإمام النووى في شرح الحديث الشريف :
قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه " قال القاضى : كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم : فكرهها كثيرون منهم ، وأجازها أكثرهم .
ثم أجمع المسلمون على جوازها ، وزال ذلك الخلاف . واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهى ، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب ، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لايوثق بحفظه ، كحديث " اكتبوا لأبى شاه " ، وحديث صحيفة على رضى الله عنه ، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذى فيه الفرائض والسنن والديات ، وحديث كتاب الصدقة ، ونصب الزكاة الذى بعث به أبو بكر رضى الله عنه أنسا رضى الله عنه حين وجهه إلى البحرين ، وحديث أبو هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب ، وغير ذلك من الأحاديث ، وقيل : إن حديث النهى منسوخ بهذه الأحاديث ، وكان النهى حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة . وقيل : إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة والله أعلم " (713[11]) .(2/85)
والأحاديث التي أشار إليها الإمام النووى جاءت بعد حديث النهى عن الكتابة ، ومن هنا قيل بالنسخ ، ولذلك عندما ورد الحديث في مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذرى عقب الشيخ الألبانى بقوله : " هذا منسوخ بأحاديث كثيرة فيها الأمر بكتابة الحديث النبوى " (714[12]) . والرامهرمزى الذى ولد في النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى ، وتوفى سنة 360 هـ ، تحدث عن التدوين في كتابه المحدث الفاصل بين الراوى والواعى ( ص 363 : 402 ) تحت عنوان " باب الكتاب " وذكر بإسناده ستة أحاديث . أولها عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد كان قبلى ، وإنما أحلت لى ساعة من نهار ، وأنها لا تحل لأحد كان بعدى ، لا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفتدى ، وإما أن يقتل فقال العباس : إلا الأذخر يا رسول الله ، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا ، فقال : " إلا الأذخر " . فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال : اكتبه لى يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اكتبوا لأبى شاه " . قال المديد : قلت للأوزاعى : ما قوله اكتبوا لأبى شاه ؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول صلى الله عليه وسلم .
أما باقى الأحاديث فكلها عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضى الله تعالى عنهما ، وهى :
1 ـ قلت : يا رسول الله ، أقيد العلم ؟ قال : " نعم " ، قلت : وما تقييده ؟ قال : " الكتاب " .
2 ـ قلت : يا رسول الله ، أكتب ما أسمعه منك ؟ قال " نعم " قلت : في الغضب والرضا ؟ قال : " نعم ، فإنى لا أقول إلا حقا "
3 ـ قلنا : يا رسول الله ، إنا نسمع منك أشياء لا نحفظها ، أفلا نكتبها ؟ قال: " بلى فاكتبوها " .(2/86)
4 ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " قيدوا العلم بالكتاب " .
5 ـ قلت : يا رسول الله ، إنى أسمع منك الشئ أفأكتبه ؟ قال : " نعم فاكتبه " قلت : إنك تغضب وترضى ؟ قال : " إنى لا أقول في الرضا والغضب إلا حقا"(715[13]).
والحديث الأول ـ حديث أبى هريرة ـ أخرجه الإمام البخارى في كتاب العلم ، باب كتابة العلم ، وفيه أخرج ثلاثة أحاديث أخرى ، أحدها عن أبى جحفة قال : قلت لعلى : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة . قال : قلت : فما فى هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر .
وأخرج عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه قوله : ما من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه منى ، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو ، فإنه كان يكتب و لا أكتب .
والحديث الرابع في الباب جاء عن ابن عباس -رضى الله عنهما - قال : لما اشتد بالنبى صلى الله عليه وسلم وجعه قال : " ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده " .
ومن المعلوم المشهور كتابة عبدالله بن عمرو التي أشار إليها أبو هريرة ، وصحيفته " الصادقة " التي أخذها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفى أحاديث عبدالله بن عمرو من مسند الإمام أحمد نجد أربع روايات صحيحة تثبت هذه الكتابة ، منها قوله : كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أريد حفظه ، فنهتنى قريش ، فقالوا : إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر ، يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اكتب ، فوالذى نفسى بيده ما خرج منى إلا حق "(716[14])
وفى رواية : " ما خرج منه إلا حق " (717[15]).
وفى رواية ثالثة : " فإنه لا ينبغى لى أن أقول في ذلك إلا حقاً " (718[16]).(2/87)
وفى الأخيرة من الروايات الصحيحة : ".... فإنى لا أقول فيهما إلا حقا "(719[17])
وعقب الشيخ أحمد شاكر على الحديث الأول ببيان صحته ، وذكر ما يتصل بتخريجه ، ثم انتقل للحديث عن الكتابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاكتفى بإثبات ما قاله ابن القيم في تعليقه على اختصار المنذرى لسنن أبى داود ، وهو ما يأتى :-
" قد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم النهى عن الكتابة والإذن فيها . والإذن متأخر ، فيكون ناسخا لحديث النهى ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال في غزاة الفتح : اكتبوا لأبى شاه ، يعنى خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها ، وأذن لعبدالله بن عمرو في الكتابة ، وحديثه متأخر عن النهى ، لأنه لم يزل يكتب ، ومات وعنده كتابته وهى الصحيفة التي كان يسميها الصادقة . ولو كان النهى عن الكتابة متأخرا لمحاها عبدالله ، لأمر النبى صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن . فلما لم يمحها وأثبتها دل أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهى عليها ، هذا واضح والحمد لله .
وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم في مرض موته : ائتونى باللوح والدواة والكتف ، لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا . وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره ، وإذنه . وكتب النبى صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتابا عظيما ، فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها . وكتبه في الصدقات معروفة مثل كتاب عمر بن الخطاب ، وكتاب أبى بكر الصديق الذى دفعه إلى أنس رضى الله عنه . وقيل لعلى : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ ؟ فقال : لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا ما في هذه الصحيفة ، وكان فيها العقول ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر . وإنما نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام ، لئلا يختلط القرآن بغيره ، فلما علم القرآن وتميز ، وأفرد بالضبط والحفظ ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط ، أذن في الكتابة .(2/88)
وقد قال بعضهم : إنما كان النهى عن كتابة مخصوصة ، وهى أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة ، خشية الالتباس . وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقا . وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ ، فإذا حفظ محاها . وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها . ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل ا . هـ .
وفى مقدمة ابن الصلاح ( ص 87 ) جاء عنوان : " في كتاب الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده " .
وقال : " اختلف الصدر الأول - رضى الله عنهم - في كتابة الحديث ، فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم ، وأمروا بحفظه ، ومنهم من أجاز ذلك . وممن روينا عنه كراهة ذلك : عمر ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى ، وأبو سعيد الخدرى في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين " .
وذكر حديث أبى سعيد الخدرى ، وقال : " وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله : على ، وابنه الحسن ، وأنس ، وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أجمعين . ومن صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على جواز ذلك حديث أبى شاه ... إلخ " .
ثم قال ( ص 88 ) : " ثم إنه زال ذلك الخلاف ، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته ، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة والله أعلم " (720[18]) .
وفى الباعث الحثيث ( ص 132 ) سلك الحافظ ابن كثير منهج ابن الصلاج ، وذكر قوله فيما رواه عن الصحابة رضى الله تعالى عنهم ، ثم قال : " وقد حكى إجماع العلماء في الأعصار المتأخرة على تسويغ كتابة الحديث وهذا مستفيض شائع ذائع ، من غير نكير " .
وفى التعليق على ما ذكره الحفاظ بين الشيخ أحمد شاكر أن القول الصحيح هو ما ذهب إليه أكثر الصحابة من جواز الكتابة ، وذكر حديث أبى سعيد في النهى ، ثم قال : إن النهى منسوخ بأحاديث أخرى دلت على الإباحة ، وذكر عددا من هذه الأحاديث ، وقال :(2/89)
" وهذه الأحاديث ، مع استقرار العمل بين أكثر الصحابة والتابعين ، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك على جوازها : كل هذا يدل على أن حديث أبى سعيد منسوخ ، وأنه كان في أول الأمر حيث خيف اشتغالهم عن القرآن ، وحين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن . وحديث أبى شاه في أواخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، وكذلك إخبار أبى هريرة ، وهو متأخر الإسلام ، أن عبدالله بن عمرو كان يكتب ، وأنه هو لم يكن يكتب يدل على أن عبدالله كان يكتب بعد إسلام أبى هريرة ، ولو كان حديث أبى سعيد في النهى متأخراً عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز ، لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحاً . ثم جاء إجماع الأمة القطعى يعد قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير ، وهو إجماع ثابت بالتواتر العملى ، عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضى الله عنهم أجمعين " . ا . هـ
مما سبق نرى أن تدوين السنة بدأ في حياة الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما كتب بأمره وبين يديه صلى الله عليه وسلم .
ومن المعلوم أن الاتجاه العام إلى جمع السنة المشرفة وتدوينها في الدولة الإسلامية إنما كان في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز رضى الله تعالى عنهم ، وكانت مبايعته بالخلافة في صفر سنة تسع وتسعين ، ووفاته فى رجب سنة إحدى ومائة ، وهذا يعنى أن الجمع كان لكل من المكتوب منها والمحفوظ ، مع مراعاة الإسناد الذى شرفت به وانفردت خير أمة أخرجت للناس . فالجمع إذن لم يكن للمحفوظ وحده ، كما لم يكن لهذا المحفوظ قيمة علمية بغير الإسناد المتصل المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال الجزائرى في توجيه النظر إلى أصول الأثر ( ص 7 : 8 ) .(2/90)
قال البخارى في صحيحه فى كتاب العلم : " وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبى بكر بن حزم : انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه ، فإنى خفت دروس العلم ، وذهاب العلماء " ، وابو بكر هذا كان نائب عمر بن عبدالعزيز في الإمرة والقضاء على المدينة . روى عن السائب بن يزيد ، وعباد بن تميم ، وعمرو بن سليم الزرقى . وروى عن خالته عمرة ، وعن خالدة ابنة أنس ، ولها صحبة . قال مالك : لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبى بكر ابن حزم .. وكتب إليه عمر بن عبدالعزيز أن يكتب له من العلم ما عند عمرة والقاسم فكتبه له . وأخذ عنه معمر ، والأوزاعى ، والليث ، ومالك وابن أبى ذئب ، وابن إسحق ، وغيرهم . وكانت وفاته فيما قاله الواقدى وابن سعد وجماعة سنة عشرين ومائة ،وأول من دون الحديث بأمر عمر بن عبدالعزيز محمد بن مسلم ابن عبيد الله بن عبدالله بن شهاب المدنى ، أحد الأئمة الأعلام ، وعالم أهل الحجاز والشام . أخذ عن ابن عمر ، وسهل بن سعد ، وأنس بن مالك ، ومحمود بن الربيع ، وسعيد بن المسيب ،وأبى أمامة ابن سهل ، وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين ، وأخذ عنه معمر ، والأوزاعى ،والليث ، ومالك ، وابن أبى ذئب وغيرهم . ولد سنة خمسين وتوفى سنة أربع وعشرين ومائة . قال عبد الرزاق : سمعت معمرا يقول : كنا نرى أناقد أكثرنا عن الزهرى حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه يقول من علم الزهرى ، ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقة الزهرى . ولوقوع ذلك في كثير من البلاد وشيوعه بين الناس اعتبروه الأول فقالوا : كانت الأحاديث في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة فلما انتشر العلماء في الأمصار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين .(2/91)
وأول من جمع ذلك ابن جريج بمكة ، وابن إسحق أو مالك بالمدينة : والربيع ابن صبيح أو سعيد بن أبى عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثورى بالكوفة والأوزاعى بالشام ، وهشيم بواسط ، ومعمر باليمن ، وجرير بن عبدالحميد بالرى ، وابن المبارك بخراسان . وكان هؤلاء في عصر واحد ، ولا يدرى أيهم سبق . قال الحافظ ابن حجر : " إن ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى الجمع في الأبواب ، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبى ، فإنه روى عنه قال : هذا باب من الطلاق جسيم ، وساق فيه أحاديث".(2/92)
وتلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة إفراد أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم خاصة وذلك على رأس المائتين ، فصنف عبيد الله بن موسى العبسى الكوفى مسندا ، وصنف مسدد البصرى مسندا ، وصنف أسد بن موسى مسندا ، وصنف نعيم بن حماد الخزاعى مسندا ، ثم اقتفى الحفاظ آثارهم : فصنف الإمام أحمد مسندا ، وكذلك إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبى شيبة ، وغيرهم . ولم يزل التأليف في الحديث متتابعا إلى أن ظهر الإمام البخارى وبرع في علم الحديث وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة ، فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال ، فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبين له صحته . وكانت الكتب قبله ممزوجا فيها الصحيح بغيره بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث ، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه . فإن لم يتيسر له ذلك بقى ذلك الحديث مجهول الحال عنده ، واقتفى أثر الإمام البخارى في ذلك الإمام مسلم ابن الحجاج . وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه ، فألف كتابه المشهور ، ولقب هذان الكتابان بالصحيحين ، فمعظم انتفاع الناس بهما ، ورجعوا عند الاضطراب إليهما ، وألفت بعدهما كتب لا تحصى ، فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها .
هذا وقد توهم أناس مما ذكر آنفا أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شىء غير الكتاب العزيز ، وليس الأمر كذلك ، فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في علم الفرائض ، وذكر البخارى في صحيحه أن عبدالله بن عمرو كان يكتب الحديث... إلخ . ا . هـ(2/93)
والتوهم الذى أشار إليه صاحب توجيه النظر أنه ليس له أساس علمى ، وكان المنهج العلمي والواقع العملى يستلزمان إزالة هذا التوهم ، فلم يقف الأمر عند ثبوت الكتابة عن طريق الأخبار الصحيحة ، بل وصل إلينا بعض ما كتب ، وطبع وانتشر : مثال هذا صحيفة همام بن منبه التي كتبها سماعا من راوية الإسلام الأول أبى هريرة رضى الله تعالى عنه ، نقلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد نشرها المجمع العلمي العربى بدمشق ، وطبعت عدة مرات بتحقيق الدكتور محمد حميد الله ، وأخرجها من قبل الإمام أحمد في مسنده ( حـ 2 ص 312 : 318 ) ، وعندما قام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله .. بتحقيق وشرح المسند طبع خمسة عشر جزءا ، وتوفى قبل طبع الجزء السادس عشر ، وهو الذى يبدأ بصحيفة همام ....
وفى المسند أيضاً أحاديث كثيرة من صحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص ، كما طبع تفسير مجاهد بن جبر ، تلميذ ابن عباس رضى الله عنهم ، وصلة التفسير بالسنة واضحة معلومة .
بل إن كتب النبى صلى الله عليه وسلم وصلنا كثيرمن نصوصها ، وعثر على بعض النسخ الأصلية التي كتبت في حياته صلى الله عليه وسلم : ففى كتاب الأموال لأبى عبيد - على سبيل المثال - يوجد " باب كتب العهود التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأهل الصلح " ( ص 244 ) ، ويروى أبو عبيد بإسناده تحت هذا الباب نصوص سبعة كتب ، وفى كتاب الأموال لابن زنجوية يوجد " كتاب العهود التي كتبها رسول الله ... صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأهل الصلح " ( 2 / 449 ) ، وهو قريب مما ذكره أبو عبيد .
وجمع الدكتور محمد حميد الله ما استطاع من كتب الرسول صلى الله عليه وسلم فأثبت نصوصها ، وبين مصادرها ، وذكر ما يوجد من أصولها وعرض صوراً لكتبه صلى الله عليه وسلم إلى كل من : النجاشى ، وهرقل ، والمقوقس ، وكسرى ، وغيرهم(721[19]).(2/94)
بعد هذا كله كيف يبقى أى توهم ، أو أدنى شك في ثبوت الكتابة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام من بعده ؟!
كان الواجب إذن أن يزال هذا التوهم ، ولا يبقى أى شك أو لبس ، ولكن العجيب الغريب أن الأمر زاد واستشرى ، طعنا في السنة المشرفة ، وتشكيكا في صحتها ، والذين تولوا كبره المستشرقون وتلامذتهم الذين اتخذوهم أربابا من دون الله ، والجهلة بمكانة السنة المطهرة وحجيتها وعلومها . وقد صنفت كتب عديدة في الرد على هؤلاء الطاعنين . وحتى لا يطول بنا الحديث عن التدوين أكتفى بالإشارة إلى كتاب واحد وبعض ما جاء فيه ، وذلك هو " دراسات في الحديث النبوى وتاريخ تدوينه " للدكتور محمد مصطفى الأعظمى ، جعل المؤلف الباب الثالث حول كتابة الأحاديث النبوية ( ص 71 : 83 ) ، وانتهى منه إلى نتيجة وهى أن المسلمين كانت قد أصبحت لديهم إمكانيات واسعة تمكنهم من كتابة الأحاديث النبوية ، ولم يكن ثمة عائق خارجى يقف في وجه تقييد العلم .
وجعل عنوان الباب الرابع " تقييد الحديث من عصر النبى صلى الله عليه وسلم إلى منتصف القرن الثانى الهجرى على وجه التقريب " ، وهذا الباب يقع في مائتين واثنتين وأربعين صفحة ( 84 : 325 ) ، وقسمه إلى أربعة فصول :
الفصل الأول لكتابة الصحابة والكتابة عنهم :
ذكر فيه اثنين وخمسين من الصحابة الذين كتبوا أو كتب عنهم الأحاديث النبوية ، ورد على الشبه التي تشكك فيما انتهى إليه ، وعلى سبيل المثال ذكر أسماء عشرة كتاب كتبوا عن أبى هريرة ، ومنهم همام بن منبه صاحب الصحيفة التي وصلتنا كاملة ، وأشرت إليها من قبل ،وأربعة عشر كتبوا عن جابر بن عبد الله ، وهو نفسه من المؤلفين الأوائل ، وتسعة كتبوا عن ابن عباس ، أما هو فكانت كتبه حمل بعير ، وهكذا .
والفصل الثانى عنوانه : " تابعيو القرن الأول وكتاباتهم والكتابة عنهم " ، وأثبت من هؤلاء ثلاثة وخمسين .(2/95)
والفصل الثالث جعله المؤلف لكتابة صغار التابعين والكتابة عنهم ، وذكر من هؤلاء التابعين تسعة وتسعين .
أما الفصل الأخير من هذا الباب فكان لكتابة بعض صغار التابعين وأتباع التابعين والكتابة عنهم ، وبلغ عدد من ذكرهم هنا اثنين وخمسين ومائتين .
وبهذا يتضح بدء الكتابة في عصر النبوة ، واتصالها واتساعها دون توقف حتى ما جاء ما عرف بعصر التدوين في القرن الثانى الهجرى .
وقبل هذا الباب قال المؤلف (ص 76 ) : " في ضوء دراستنا هذه نستطيع أن نقول أن كل من نقل عنه كراهية كتابة العلم فقد نقل عنه عكس ذلك أيضاً ، ما عدا شخصاً أو شخصين ، وقد ثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم ، كما يتضح ذلك بمراجعة الباب الرابع من هذا الكتاب "
وممن نقل عنهم كراهية كتابة العلم ، وتحدث المؤلف عنهم في هذا الباب ، ليثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم :
1 ـ أبو سعيد الخدرى (722[20]) .
2 ـ أبو موسى الأشعرى (723[???) .
3 ـ زيد بن ثابت (724[22]) .
4 ـ عبدالله بن مسعود (725[23]) .
5 ـ عمر بن الخطاب : وقد أفاض في الحديث عنه ، وذكر سبع قضايا نقلت عن عمر وأسىء فهمهما ، واستدل بها على عدم أخذه بالسنة النبوية ، ورد المؤلف على هذا كله ، وذكر من الأدلة ما هو كاف شاف ، ثم تحدث عن جهود عمر لنشر السنة ، وعن كتابته للسنة (726[24]).
الجرح والتعديل
تكفلت كتب علوم الحديث ببيان ما يتصل بالجرح والتعديل ، ولعل أول كتاب ألف في علوم الحديث هو المحدث الفاصل بين الراوى والواعى للرامهرمزى ، المتوفى سنة 360 هـ . ولكن قبل هذا بكثير كان لبعض الأئمة الأعلام ما يتصل بالجرح والتعديل من أحكام عامة ، وبيان لمن تقبل روايتهم ومن ترد وذكر لأسماء كثير من هؤلاء الرواة . وتوسع بعضهم في ذكر هذه الأسماء فيما يعرف بكتب الرجال ، ومن أقدمها وأنفعها ما كتبه الإمام البخارى في تاريخه الكبير ، وفى الضعفاء ، وكان أثره واضحاً ، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبى حاتم المتوفى سنة 327 هـ .(2/96)
وكتب علوم الحديث حفظت لنا آراء الأئمة من الجرح والتعديل ، ولكن قبل أن ننظر في هذه الكتب أريد أن أثبت هنا بعض ما جاء في غيرها سابقا لها ، وأكتفى ببعض ما كتبه ثلاثة من الأئمة :
أولهم الإمام الشافعى ، صاحب كتاب الرسالة ، الذى يعد أول ما صنف في أصول الفقه ، وفى هذا الكتاب ، تحدث الإمام عن خبر الواحد فقال :
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها : أن يكون من حدث به ثقة في دينه ، معروفا بالصدق في حديثه ، عاقلا لما يحدث به ، عالما بما يحيل معانى الحديث من اللفظ ، وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمع ، لا يحدث به على المعنى ، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام ، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث ، حافظا إن حدث به من حفظه ، حافظا لكتابه إن حدث من كتابه . إذ شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم ، بريا من أن يكون مدلسا : يحدث عن من لقى ما لم يسمع منه ، ويحدث عن النبى ما يحدث الثقات خلافه عن النبي. ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه ، حتى ينتهى بالحديث موصولا إلى النبى أو إلى من انتهى به إليه دونه ، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه ، ومثبت على من حدث عنه ، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت . (ص 370 : 372 ).
ثم قال بعد هذا : ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته . وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه ، ولا النصيحة في الصدق ، فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق . فقلنا : لا نقبل من مدلس حديثاً حنى يقول فيه " حدثنى " أو " سمعت " ( ص 379 : 380 ) .
وقال أيضاً : ومن كثر غلطه من المحدثين ، ولم يكن له أصل كتاب صحيح ، لم نقبل حديثه ، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته .
وأهل الحديث متباينون :(2/97)
فمنهم المعروف بعلم الحديث ، بطلبه وسماعه من الأب والعم وذوى الرحم والصديق ، وطول مجالسة أهل التنازع فيه . ومن كان هكذا كان مقدما في الحفظ ، إن خالفه من يقصر عنه ، كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه من أهل التقصير عنه .
ويعتبر أهل الحديث بأن إذا اشتركوا في الحديث عن الرجل بأن يستدل على حفظ أحدهم بموافقة أهل الحفظ ، وعلى خلاف حفظه بخلاف حفظ أهل الحفظ له .
وإذا اختلفت الرواية استدللنا عن المحفوظ منها والغلط بهذا ، ووجوه سواه ، تدل على الصدق والحفظ والغلط . ( الرسالة : ص 382 : 383 ) .
ونأتى بعد الإمام الشافعى إلى الإمام مسلم ، حيث تحدث في مقدمة صحيحه عن حال بعض الرواة وبين طبقاتهم . وبعد أن بين من تقبل أحاديثهم قال ( ص 45 ) : " فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون ، أو عند الأكثر منهم ، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم " . وسمى بعضهم وقال : " وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار ، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط ، أمسكنا أيضا عن حديثهم .
وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم ، أو لم تكد توافقها . فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا نستعمله " ( ص : 46 ) .
ويأتى بعد هذا باب النهى عن الرواية عن الضعفاء ، والاحتياط في تحملها ، ثم باب بيان أن الإسناد من الدين ، وبين فيه وجوب عدم الأخذ إلا عن الثقة الثبت ، ونبه إلى أمر هام حيث روى عن أبى الزناد قوله : " أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله " (727[25]).
وعن يحيى بن سعيد القطان قال : " لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث " ، وفسر الإمام مسلم هذا بقوله : يجرى الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب .(2/98)
وقال النووى في شرحه : معناه ما قاله مسلم أنه يجرى الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدون ذلك ، لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث ، فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه ، ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب . وقد قدمنا أن مذهب أهل الحق أن الكذب هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو : عمدا كان أو سهوا أو غلطا (728[26]).
وفى الكشف عن معايب رواة الحديث أورد مسلم بعض الأخبار التي تذكر أسماء بعض الكذابين والوضاعين ، ومن هؤلاء جابر بن يزيد الجعفى ، وروى عن غير واحد أن جابرا كان يؤمن بالرجعة ، وفسرها النووى بقوله : معنى إيمانه بالرجعة هو ما تقوله الرافضة وتعتقده بزعمها الباطل أن عليا ـ كرم الله وجهه ـ في السحاب ، فلا نخرج - يعنى مع من يخرج من ولده حتى ينادى من السماء : أن اخرجوا معه ، وهذا نوع من أباطيلهم ، وعظيم من جهالاتهم اللائقة بأذهانهم السخيفة وعقولهم الواهية ( ص : 85 ) .
ومما رواه مسلم أيضاً أن جابرا قال : إن عندى لخمسين ألف حديث ، ما حدثت منها بشئ . ثم حدث يوما بحديث فقال : هذا من الخمسين ألفا ، وفى خبر زاد أنها عن النبى صلى الله عليه وسلم .
وفى خبر أيضاً قال جابر : عندى سبعون ألف حديث عن أبى جعفر عن النبى صلى الله عليه وسلم كلها .
وروى عن الإمام سفيان بن عيينه أنه قال : سمعت رجلا سأل جابرا عن قوله - عز وجل :
( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( (729[27]) ، فقال جابر : لم يجئ تأويل هذه الآية . قال سفيان : وكذب .فقلنا لسفيان : وما أراد بهذا ؟ فقال : لإن الرافضة تقول أن عليا في السحاب ، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادى مناد من السماء ، يريد عليا أنه ينادى : اخرجوا مع فلان . يقول جابر : فذا تأويل هذه الآية ، وكذب ، كانت في إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم .(2/99)
وروى عن سفيان أيضاً قال : سمعت جابرا يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث ، ما أستحل أن أذكر منها شيئا وأن لى كذا وكذا (730[28]).
ثم ذكر الإمام مسلم عدداً غير قليل ممن لا تقبل روايتهم (731[29])، ثم قال:" وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمى رواة الحديث ، وأخبارهم عن معايبهم ، كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه ، وفيما ذكرنا غاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا . وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلى الأخبار ، وأفتوا بذلك حين سئلوا ، لما فيه من عظيم الخطر ، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتى بتحليل أو تحريم ... إلخ .(732[30])
وللإمام مسلم في بيان علل الحديث كتاب التمييز :
بين فيه الدواعى إلى الجرح والتعديل ، ثم أورد باب ما جاء في الترقى في حمل الحديث وأدائه والتحفظ من الزيادة فيه والنقصان ( ص 127 ) . وبعد هذا أخذ يبين علل بعض الأخبار والروايات كالخطأ أو الوهم في الإسناد أو المتن ، أو فيهما معا ، وأشار إلى شىء من التصحيف ، وما يدفعه الأخبار الصحاح ، ثم قال بعد هذا كله ( ص 171 ) :
" واعلم رحمك الله ، أن صناعة الحديث ، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة ، لأنهم الحفاظ لروايات الناس ، العارفين بها دون غيرهم ، إذ الأصل الذى يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة ، من عصر إلى عصر من لدن النبى صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا ، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس ، وخالفهم في المذهب ، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار ، من نقال الأخبار وحمال الآثار .(2/100)
وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح . وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكى ننبه من جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه على تثبيت الرجال وتضعيفهم فيعرف ما الشواهد عندهم ، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله ، أو سقطوا من أسقطوا منهم . والكلام في تفسير ذلك يكثر ، وقد شرحناه في مواضع غير هذا ، وبالله التوفيق ، في كل ما نؤم ونقصد " .
وبعد الإمامين الشافعى ومسلم نأتى إلى الثالث وهو ابن أبى حاتم في كتابه الجرح والتعديل الذى أشرت إليه من قبل ، حيث جعل لكتابه مقدمة بدأها ببيان مرتبة النبى صلى الله عليه وسلم ، ثم بمعرفة السنة وأئمتها ، ثم تحدث عن التمييز بين الرواة وبيان طبقاتهم ، فقال ( ص 5 : 7 )
التمييز بين الرواة : قال أبو محمد : فلما لم نجد سبيلاً إلى معرفة شئ من معانى كتاب الله ولا من سنن رسوله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة النقل والرواية ، وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم ، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة .
ولما كان الدين هو الذى جاءنا عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة حق علينا معرفتهم ، ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم ، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية مما يقتضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته ، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم ، علماء بدينهم ، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه ، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل لا يشوبهم كثير من الغفلات ، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه ، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات .(2/101)
وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه ، ليعرف به أدلة هذا الدين وأمناء الله في أرضه على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم هؤلاء أهل العدالة ، فيتمسك بالذى رووه ، ويعتمد عليه ،ويحكم به ، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ ، فيكشف عن حالهم وينبأ عن الوجوه التي كان مجرى روايتهم عليها ، إن كذب فكذب ، وإن وهم فوهم ، وإن غلط فغلط ، وهؤلاء هم أهل الجرح فيسقط حديث من وجب منهم أن يسقط حديثه ولا يعبأ به ولا يعمل عليه ،ويكتب حديث من وجب كتب حديثه منهم على معنى الاعتبار ، ومن حديث بعضهم الآداب الجميلة والمواعظ الحسنة والرقائق والترغيب والترهيب هذا أو نحوه.
طبقات الرواة : ثم احتيج إلى تبيين طبقاتهم ومقادير حالاتهم وتباين درجاتهم ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجهبذة والتنقيب والبحث عن الرجال والمعرفة بهم - وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح.
ويعرف من كان منهم عدلا في نفسه من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والإتقان فيه - فهؤلاء هم أهل العدالة . ومنهم الصدوق فى روايته الورع فى دينه الثبت الذى يهم أحياناً وقد قبله الجهابذة النقاد ـ فهذا يحتج بحديثه أيضاً .
ومنهم الصدوق الورع المغفل الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط - فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب ، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام .
ومنهم من قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ـ ممن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب ، فهذا يترك حديثه ويطرح روايته ويسقط ولا يشتغل به .
وبعد هذا تحدث ابن أبى حاتم عن الصحابة الكرام فقال ( ص 7 : 8 )(2/102)
الصحابة : فأما أصحاب رسول الله فهم الذين شهدوا الوحى والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل . وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه ، فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاما وقدوة ، فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب ، ووعوه وأتقنوه ، ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده - بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله عز وجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة ، فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز ، وسماهم عدول الأمة فقال عز ذكره في محكم كتابه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( ففسر النبى صلى الله عليه وسلم عن الله عز ذكره قوله " وسطا " قال : عدلا . فكانوا عدول الأمة ، وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة .
وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجرى على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ( الآية (733????) .
ووجدنا النبى صلى الله عليه وسلم قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة ، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها ، منها أن دعا لهم فقال : نضر الله امرأ سمع مقالتى فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره . وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته : فليبلغ الشاهد منكم الغائب . وقال : بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عنى ولا حرج .(2/103)
ثم تفرقت الصحابة رضى الله عنهم في النواحى والأمصار والثغور وفي فتوح البلدان والمغازى والإمارة والقضاء والأحكام ، فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذى هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكموا بحكم الله عز وجل ، وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل ، وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله عز وجل رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين .
وبعد الصحابة قال عن التابعين ( ص 8 : 9 ) .
التابعون : فخلف بعدهم التابعون الذين اختارهم الله عز وجل لإقامة دينه وخصهم بحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه وأحكامه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم وآثاره ، فحفظوا عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نشروه وبثوه من الأحكام والسنن والآثار وسائر ما وصفنا الصحابة به رضى الله عنهم ، فأتقنوه وعلموه وفقهوا فيه فكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله عز وجل ونهيه بحيث وضعهم الله عز وجل ، ونصبهم له إذ يقول الله عز وجل : ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( " الآية "
حدثنا عبدالرحمن محمد بن يحيى ، أنا العباس بن الوليد الترسى ، نايزيد بن زريع ، ثنا سعيد ، عن قتادة قوله عز وجل : ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ( التابعين .(2/104)
فصاروا برضوان الله عز وجل لهم وجميل ما أثنى عليهم بالمنزلة التي نزههم الله بها عن أن يلحقهم مغمز ، أو تدركهم وصمة ، لتيقظهم وتحرزهم وتثبتهم ، ولأنهم البررة الأتقياء الذين ندبهم الله عز وجل لإثبات دينه وإقامة سنته وسبله ، فلم يكن لاشتغالنا بالتمييز بينهم معنى ، إذ كنا لا نجد منهم إلا إماما مبرزا مقدما في الفضل والعلم ووعى السنن وإثباتها ولزوم الطريقة واحتبائها ، رحمة الله ومغفرته عليهم أجمعين - إلا ما كان ممن ألحق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس يلحقهم ، ولا هو في مثل حالهم : لا في فقه ولا علم ولا حفظ ولا إتقان ، ولا ثبت ممن ذكرنا حالهم وأوصافهم ومعانيهم في مواضع من كتابنا هذا ، فاكتفينا بها وبشرحها في الأبواب مستغنية عن إعادة ذكرها مجملة أو مفسرة في هذا المكان.
وفى ص 9 ، 10 جاء الحديث عن أتباع التابعين ومراتبهم :
أتباع التابعين : ثم خلفهم تابعو التابعين وهم خلف الأخيار وأعلام الأمصار في دين الله عز وجل ، ونقل سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه وإتقانه ، والعلماء بالحلال والحرام ، والفقهاء في أحكام الله عز وجل وفروضه وأمره ونهيه ، فكانوا على مراتب أربع .
مراتب الرواة : فمنهم الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ الناقد للحديث - فهذا الذى لا يختلف فيه ويعتمد على جرحه وتعديله ، ويحتج بحديثه وكلامه في الرجال .
ومنهم العدل في نفسه ، الثبت في روايته ، الصدوق في نقله ، الورع في دينه ، الحافظ لحديثه المتقن فيه ، فذلك العدل الذى يحتج بحديثه ، ويوثق في نفسه .
ومنهم الصدوق الورع الثبت الذى يهم أحيانا وقد قبله الجهابذة النقاد - فهذا يحتج بحديثه .
ومنهم الصدوق الورع المغفل ، الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو - فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب و لا يحتج بحديثه في الحلال والحرام .(2/105)
وخامس قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس من أهل الصدق والأمانة ، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولى المعرفة منهم الكذب -- فهذا يترك حديثه ويطرح روايته . انتهى المنقول من كلام ابن أبى حاتم .
وننتقل بعد هذا إلى كتب علوم الحديث :
وأولها المحدث الفاصل للرامهرمزى المتوفى سنة 360هـ . ومما جاء في موضوعنا ما أثبته تحت عنوان : " القول فيمن يستحق الأخذ عنه " بدأه بما يبين رأى الإمام مالك حيث قال :
القول فيمن يستحق الأخذ عنه :
حدثنا عبدالله بن الصقر السكرى ، ثنا إبراهيم بن المنذر الجزامى ، ثنا معن - وقال مرة محمد بن صدقة الفدكى أحدهما أو كلاهما - قال : سمعت مالك بن أنس يقول : لا يؤخذ العلم عن أربعة ، ويؤخذ ممن سوى ذلك : لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ، ولا من سفيه معلن بالسفه وإن كان من أروى الناس ، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث . قال الحزامىّ : فذكرت ذلك لمطرف بن عبدالله فقال : ما أدرى ما تقول ، غير أنى أشهد لسمعت مالكا يقول : أدركت ببلدنا هذا - يعنى المدينة - مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة ، يحدثون ، فما كتبت عن أحد منهم حديثا قط . قلت : لم يا عبدالله ؟
قال : لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يحدثون . قال : وقال مالك : كنا نزدحم على باب ابن شهاب ( ص 403 : 404 ) .
وانتقل المؤلف بعد هذا إلى الإمام الشافعى ، حيث نقل عنه ما ذكرته من قبل ، ثم قال :
قال الشافعى : وكان ابن سيرين والنخعى وغير واحد من التابعين يذهبون إلى ألا يقبلوا الحديث إلا عن من عرف .
قال الشافعى : وما لقيت أحدا من أهل العلم يخالف هذا المذهب ( ص 405 ) .
وجاء بعد هذا بآراء آخرين غير مالك والشافعى .(2/106)
وبعد الرامهرمزى يأتى كتاب علوم الحديث للحاكم المعروف بتشيعه ، ولكنه لم يكن رافضيا ، ولذلك أترك النقل منه هنا وأبقيه عند الحديث عن الجرح والتعديل عند الشيعة الاثنى عشرية ليتضح الفرق بين الشيعة والرافضة .
ومن الكتب المتقدمة فى علوم الحديث الكفاية في علم الرواية ، لأبى بكر أحمد بن على بن ثابت ، المعروف بالخطيب البغدادى ، والمتوفى سنة 463 هـ .
وتحدث عن الرواية عن أهل الأهواء والبدع فقال ( ص 125 ) :
والذى يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل ، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب ، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال ، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة ، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم ، فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج ، وعمرو بن دينار ، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع وكان عكرمة إباضياً ، وابن أبى نجيح وكان معتزليا ، وعبدالوارث بن سعيد وشبل بن عياد ، وسيف بن سليمان ، وهشام الدستوائى ، وسعيد بن أبى عروبة وسلام بن مسكين ، وكانوا قدرية وعلقمة بن مرثد ، وعمرو بن مرة ، ومسعر بن كدام ، وكانوا مرجئة ، وعبيد الله بن موسى وخالد بن مخلد ، وعبد الرزاق بن همام وكانوا يذهبون إلى التشيع ، في خلق كثير يتسع ذكرهم ، دوّن أهل العلم قديما وحديثاً رواياتهم واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم ، وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب .
باب ذكر بعض المنقول
عن أئمة أصحاب الحديث في جواز الرواية عن أهل الأهواء والبدع قد اسلفنا الحكاية عن أبى عبد الله الشافعى في جواز قبول شهادة أهل الأهواء غير صنف من الرافضة خاصة ، ويحكى نحو ذلك عن أبى حنيفة إمام أصحاب الرأى وأبى يوسف القاضى .(2/107)
وبعد هذا ذكر عدة روايات منها :
بسنده عن حرملة بن يحيى قال : سمعت الشافعى يقول : لم أر أحدا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ( ص : 126 ) .
وعن أبى يوسف قال : أجيز شهادة أهل الأهواء أهل الصدق منهم إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون أن الله لا يعلم الشئ حتى يكون .
وعن ابن المبارك قال : سأل أبو عصمة أبا حنيفة : ممن تأمرنى أن أسمع الآثار ؟ قال : من كل عدل في هواه إلا الشيعة ، فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن أتى السلطان طائعا ، أما إنى لا أقول إنهم يكذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغى ولكن وطأوا لهم حتى انقادت العامة بهم . فهذان لا ينبغى أن يكونا من أئمة المسلمين ( ص : 126 ) .
وعن عبدالرحمن بن مهدى قال : من رأى رأيا ولم يدع إليه احتمل ، ومن رأى رأيا ودعا إليه فقد استحق الترك ( ص : 127 ) .
وقيل لأحمد بن حنبل : يا أبا عبدالله سمعت من أبى قطن القدرى ؟
قال : لم أره داعية ، ولو كان داعية لم اسمع منه .
قلت ـ أى الخطيب البغدادى : إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة خوفا أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيها على وضع ما يحسنها كما حكينا في الباب الذى قبل هذا عن الخارجى التائب قوله : كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا ( ص : 128 ) .
وعن أبى داود قال : ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج ، ثم ذكر عمران بن حطان ، وأبا حسان الأعرج ( ص : 130) .
حوار الإمام الشافعي لفرقة ضلت
إذا كان السلف الصالح متمسكاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسكهم بكتاب الله العزيز ، فإن فرقة شذت في عصر الإمام الشافعى فردت سنة رسول صلى الله عليه وسلم ، ورأت أنها لا تقوم على الكتاب الذى أنزله الله تبياناً لكل شئ . وأشار الإمام الشافعى إلى هذه الفرقة ، وذكر حواره مع واحد منها في كتاب جماع العلم في الجزء السابع من كتابة الأم .
وقد بدأ الإمام كتاب جماع العلم بقوله :(2/108)
لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتسليم لحكمه ، بأن الله عز وجل لم يجعل لمن بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد ، لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى .
ثم قال رحمه الله وجزاه خيراً :
باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها
قال الشافعى رحمه الله تعالى :
قال لى قائل يُنسب إلى العلم بمذهب أصحابه... ..
وذكر الشافعى قوله بأن القرآن نزل تبياناً لكل شىء ، بلسان عربى مبين ، وأن الأحاديث تعتمد على من يجوز عليهم الكذب ، والخطأ ، والنسيان ، والغلط .
فبين الإمام أن السنة وحى ، لا يمكن الاستغناء عنها ؛ فلا يستقيم أمر الدين بغيرها ، ولا نعرف أحكام العبادات والمعاملات وغيرها إلا بها . وأنه يحتاط فى قبولها أكثر مما يحتاط فى قبول الأقوال التى تستباح بها الدماء والأموال والأعراض . واستمر الإمام فى حواره الممتع المقنع حتى اهتدى ذاك الضال . وهذا الحوار نقلته تاماً فى بحث " السنة بيان الله على لسان رسوله " وهو ملحق بهذا الجزء ، ولذلك أكتفى به ، وأحيل عليه .
بعد الإمام الشافعى(2/109)
هذا هو حوار الإمام الشافعى الذى هدى من حاوره بعد ضلال ، ولكن هداية هذا الرجل لا تعنى عدم ضلال الطائفة . ويأتى القرن الثالث ، الذى توفى الإمام الشافعى في العام الرابع من بدايته ، ليكون العصر الذهبى لجمع السنة وتنقيتها وتدوينها ، حيث دون مسند الإمام أحمد ، والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، وغيرها من الكتب الآخرى : كسنن سعيد بن منصور ، والدارمى ، ومسانيد إسحاق بن راهويه ، وبقى بن مخلد ، والبزار ، وأبى يعلى .
غير أن ذاك القرن ضم أيضاً من حاول هدم السنة المطهرة .
ننظر مثلا إلى كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ . فنراه جعل كتابه في الرد على أعداء أهل الحديث ، والجمع بين الأخبار التي ادعوا عليها التناقض والاختلاف ، والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأى . ولا يكتفى ابن قتيبة بالرد على الشبه ، وبيان سوء فهم من أثاروا تلك الشبه ، وإنما يتحدث عن الأشخاص أنفسهم الذين أثاروها حتى يعرف القارئ سبب عدائهم لأهل الحديث .
فيذكر منهم النظام ويقول : وجدنا النظام شاطرا من الشطار ، يغدو على سكر ، ويروح على سكر ، ويبيت على جرائرها ، ويدخل في الأدناس ، ويرتكب الفواحش والشائنات ... إلخ
وذكر أن النظام خرج على إجماع الأمة ، وطعن في أبى بكر وعمر وعلى وابن مسعود وأبى هريرة ، ثم عقب ابن قتيبة بعد هذا بقوله : هذا هو قوله- أى النظام - في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضى عنهم ، كأنه لم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم " محمد رسول الله والذين معه " إلى آخر السورة ، ولم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم " محمد رسول الله والذين معه " إلى آخر السورة ، ولم يسمع بقوله تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ[ (734[32]) .(2/110)
وبعد حديثه عن النظام ، ورده عليه يقول : ثم نصير إلى قول أبى هذيل العلاف فنجده كذابا أفاكا ... إلخ وهكذا استمر ابن قتيبة في كتابه .
وكان أسوأ وأشد خطرا من هؤلاء الذين تحدث عنهم الرافضة الذين اتخذوا لأنفسهم سنة خاصة تختلف عن مفهوم السنة عند الأمة ، فأشركوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في العصمة ووجوب الاتباع أشخاصاً اعتبروهم أئمة طائفتهم ، ووضعوا الأخبار في ظلمات هذا المفهوم ، وفى ظلماته أيضاً كتبوا في الجرح والتعديل .
شهد القرن الثالث ثلاثة من كتب التفسيرهي تفاسير العسكرى والقمى والعياشى التي تحدثنا عنها من قبل في الجزء الثانى ، وبالرجوع إليها وجدنا أنها تطعن في خير الناس : صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رضى الله عنهم ورضوا عنه ، وتذكر أن القرآن الكريم حرف نصا ومعنى ، وجاء الطعن والقول بالتحريف في روايات مفتريات اعتبروها صحيحة بمقياسهم .
وألف كتاب رابع وهو الكافى للكلينى تلميذ القمى ، واعتبر هذا الكتاب الكتاب الأول في الحديث عندهم ، وعندما قرأته وجدت صاحبه قد ضل ضلالاً بعيداً ، ووضع من المفتريات ما لايستطيع أن يتصوره أى مسلم ، وسيأتى الحديث عنه بالتفصيل .
وعندما رجعت لكتب الجرح والتعديل عندهم وجدت آثار هذه الظلمات : فصاحب الكتاب الرابع ثقة الإسلام ! وشيخه ليس ثقة فحسب ، بل كل من وثقهم وروى عنهم فهم ثقات ، ولا يعتبر الحديث صحيحا إلا إذا كان الرواة كلهم جميعا من طائفتهم ، والجرح عندهم سيئ للغاية ، وسيتضح هذا جليا في الفصول التالية .
*****
في عصر السيوطي(2/111)
وفى هذه العجالة التي لاتهدف إلى الحصر والاستقصاء ، ننتقل من القرن الثالث إلى القرن التاسع ، فنرى الإمام السيوطى يؤلف كتابا تحت عنوان " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " ، وبين سبب تأليف كتابه فقال : اعلموا - يرحمكم الله - أن من العلم كهيئة الدواء ، ومن الأراء كهيئة الخلاء ، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة ، وإن مما فاح ريحه في هذا الزمان وكان دارساً - بحمد الله تعالى - منذ أزمان ، وهو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية - زادها الله علواً وشرفاً - لا يحتج بها ، وأن الحجة في القرآن خاصة ، وأورد على ذلك حديث " وما جاءكم عنى من حديث فاعرضوه على القرآن ، فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به وإلا فردوه " (735[33])
(736????) هكذا سمعت الكلام بجملته منه ، وسمعه منه خلائق غيرى ، فمنهم من لايلقى لذلك بالاً ، ومنهم من لايعرف أصل هذا الكلام ، ولا من أين جاء ، فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك ، وأبين بطلانه ، وأنه من أعظم المهالك .
فاعلموا - رحمكم الله - أن من أنكر حديث النبى صلى الله عليه وسلم - قولا كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول - حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى ، أو مع من يشاء الله من فرق الكفرة .
روى الإمام الشافعى - رضى الله عنه - يوما حديثا ، وقال أنه صحيح ، فقال له قائل : أتقول به يا أبا عبدالله ؟ فاضطرب وقال : يا هذا ! أرأيتنى خارجا من كنيسة ؟ أرأيت في وسطى زنارا ؟ أروى حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به ؟(2/112)
وأصل هذا الرأى الفاسد أن الزنادقة وطائفة من الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن ، وهم في ذلك مختلفو المقاصد ، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلى ، وأن جبريل - رضي الله عنه - أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً ، ومنهم من أقر للنبى صلى الله عليه وسلم بالنبوة ، ولكن قال : إن الخلافة كانت حقا لعلى ... إلخ .
ثم قال السيوطى بعد ذلك : وهذه آراء ما كنت استحل حكايتها ، لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذى كان الناس في راحة منه من أعصار .
وقد كان أهل هذا الرأى موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم ، وتصدى الأئمة الأربعة وأصحابهم في دروسهم ومناظراتهم للرد عليهم ، وسأسوق إن شاء الله جملة من ذلك والله الموفق (737[35]) .
والكتاب طبع في ستين ومائة صفحة ، فارجع إليه .
تعقيب
قد يقال : كيف ذكر السيوطى أن الرافضة تنكر الاحتجاج بالسنة وعندها أربعة كتب معتمدة في السنة ؟
والجواب أن الرافضة أرادوا هدم السنة المشرفة التي بين أيدى المسلمين حتى لا يبقى إلا كتبهم التي يتداولونها فيما بينهم والتي وضعت لتأييد عقيدتهم الباطلة كما سيتضح من دراستها ، والله تعالى أعلم .(2/113)
ومنهم من جعل عقله حكما لرفض أحاديث صحت سندا ومتنا ، بل في أرقى مراتب الصحاح ، كالأحاديث الثابتة المتعلقة بالغيبيات مثل الجنة والنار ، وعلامات الساعة ، والملائكة والجن . ومن المعلوم أن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم ، ولكن كيف نقيس الغائب على الشاهد ،وكيف نحكم العقل في أمور لا نعرف شيئا عنها إلا بالنقل الصحيح ؟ فمتى ثبت النقل لزم التسليم . أحيانا ترى جاهلا مغروراً يقف أمام حديث متفق عليه ويقول : هذا مرفوض عقلا ! وكان عليه أن يسأل نفسه : أكان البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم بلا عقول ؟ بل أعاشت الأمة أربعة عشر قرناً بغير عقل حتى جاء بعقله ليستدرك عليها ؟
ومن أسوأ الطاعنين في عصرنا المستشرقون ، وأشد منهم خطراً تلامذتهم المقلدون التابعون لهم : والمستشرقون طعنوا في القرآن الكريم نفسه كما أشرت من قبل ، أما السنة فقد أنكروا وجود سنة يتصل سندها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ،وقالوا بأن أقصى اتصال الأسانيد ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول .
ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعتبر اختراعاً من اختراعات المسلمين المتأخرين ، أرادوا أن يثبتوا أحكاما فنسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم . ثم لم ينسوا أن يطعنوا فيمن كان لهم دور كبير في السنة ، فمثلا طعنوا في أبى هريرة الصحابى الجليل رضى الله عنه ، الذى روى عنه أكثر من ثمانمائة من الصحابة والتابعين ، وهو كما قال الشافعى " أثبت من روى الحديث فى دهره " . وطعنوا في ابن شهاب الزهرى ، الإمام الحجة الثبت ، أول من استجاب لعمر بن عبدالعزيز في جمع السنة ... وهكذا .
ثم ظهر اتجاه آخر عندهم ، اعتبره بعضهم هدما للفكر الاستشراقى ، ولذلك ثاروا على القائلين به ، مع أنه في النهاية يصل إلى البهتان نفسه .(2/114)
ويقوم هذا الاتجاه الخبيث على الاعتراف أولا بأن السنة لها أصل ، وذلك حتى يضلل جهلة المسلمين بالتظاهر بأنه لا ينكر وجود أصل للسنة ، ولكن بعد هذا الاعتراف تأتى محاولة الهدم ، فيقولون : إن المدارس الإسلامية الأولى لم تستطع أن تحدد ما يعتبر من أقوال محمد وما لا يعتبر من أقواله ، لأن السند لم يكن معروفا عندهم ، فكانت كلمة سنة تعنى الرأى المقبول لدى جمهور علماء المدرسة ، ثم نسبوا هذه الأقوال المقبولة لدى المدرسة إلى الصحابة حتى تكون أكثر قبولا ، ثم نسبوها بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (738[36]).
ومعنى هذا أنهم يريدون أن يصلوا في النهاية إلى التشكيك في السنة كلها.
هؤلاء القوم لا يعرفون الإسناد ، فكتبهم المقدسة ذاتها بغير إسناد ، ولذلك فهى محرفة مزورة ، ولكن لا شك أنهم قرءوا عن جمع السنة وتنقيتها ، وشروط رجال الحديث ، وعرفوا أن الأمة الإسلامية فاقت الخلق جميعا بهذا الإسناد ، ولكن ماذا تنتظر من مستشرق يهودى أو صليبى حاقد على الإسلام وأهله ، مريد هدمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاّ ؟
فلا تنتظر من أعداء الإسلام إلا مثل هذه المحاولات . وإن كنا مطمئنين تماما إلى أنهم لن يصلوا إلى ما يريدون ، فالله عز وجل لم يترك حفظ القرآن الكريم كما ترك غيره للأحبار والرهبان فضيعوه ، وإنما تعهد بحفظه ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ، كما تعهد ببيانه ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( ، ومن تمام حفظ القرآن الكريم حفظ السنة المطهرة ، وهى المبينة له .
أبو هريرة رضى الله تعالي عنه
في عصرنا وجدنا المستشرقين من الصليبيين والصهيونيين ، ومعهم العلمانيون والرافضة ، يجترءون على راوية الإسلام الأول سيدنا أبى هريرة - رضى الله تعالى عنه وأرضاه .(2/115)
وهؤلاء جميعا ليس بينهم وبين الصحابى الجليل عداء خاص ، وإنما العداء للسنة المشرفة التى كان الصحابى الجليل أحفظ من رواها في دهره كما قال الإمام الشافعى ، والعداء للإسلام نفسه ، فلا يقوم بغير السنة المطهرة
وفى المؤتمر الثانى لجمعية إحياء التراث الإسلامى الذى عقد بالكويت في شوال سنة 1405 ، وخصص للسنة المطهرة ، ألقيت محاضرة عن منزلة السنة وشبهات حول الحديث ، وبعد المحاضرة ظهر أثر حملات التشكيك في أسئلة الحاضرين ، وظهرت الحيرة فيما يتصل بهذا الصحابى الجليل .
ولا أستطيع هنا أن أقدم ترجمة له ، فسيرته العطرة أفردها أكثر من عالم في كتاب أو أكثر ، ويكفى ذكر بعض الحقائق من باب الذكرى ، فإنها تنفع المؤمنين ، حتى يعرف القارئ الكريم من قال فيهم الإمام ابن خزيمة " إنما يتكلم في أبى هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معانى الأخبار ".
وما أريد أن أثبته هنا كتبته في بحث " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم " . وهذا البحث نشر في مجلة مركز السيرة والسنة بجامعة قطر ، ثم رأيت أن ألحقه بهذا الجزء الثالث ، وبذلك يمكن الرجوع إليه ، ولا حاجة للتكرار .
التدوين عند الشيعة
تحدثنا من قبل عن تدوين السنة المطهرة ، وأثبتنا أن التدوين بدأ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم تتابع التدوين بعد ذلك وظل متصلا دون توقف حتى جاء ما عرف بعصر التدوين في القرن الثانى الهجرى .
وكتب السنة التي بين أيدينا يرجع بعضها إلى القرن الأول الهجرى ، ووصلنا الكثير مما دون في القرن الثانى ، أما القرن الثالث فيعتبر العصر الذهبى لتدوين السنة المشرفة .
والفرق التي ظهرت في تاريخ الإسلام ، ولها عقائد خاصة بها ، لم تظهر كتبها إلا بعد استقرار عقائدها ، ووضوحها لدى معتنقيها . وهذا أمر بدِهى ، أن الكتب إنما توضع لتأييد هذه العقائد ، والدعوة لها ، فلابد أن تسبق العقائد هذه الكتب .(2/116)
بل إن هناك مرحلة تلى العقائد وتسبق الكتب ، وهى وضع الأخبار وتناقلها والاحتجاج بها قبل أن تجمع في كتاب ، وقبل أن يوضع كتاب مرة واحدة .
فبالنسبة للشيعة مثلا وجدنا بعد موت كل إمام حدوث تفرق جديد ، فكانت كل فرقة تحتج بأخبار تؤيد ما انتهت إليه في تلك المرحلة ، إلى أن تصل إلى الإمام الأخير الذى تستقر عنده آراؤها ، وما كانت أى فرقة لتضع أخباراً في إمام إلا بعد ولادته ، لأنها لا تعلم الغيب في واقع الأمر ، وإن زعم منها من زعم أنه يعلم مثل هذا العلم .
وللبيان أثبت بعض ما جاء في كتاب من كتب الشيعة أنفسهم ، وهو كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختى ، وسعد بن عبدالله القمى ، والاثنان عاشا في القرن الثالث ، وأدركا بداية القرن الرابع .
يبين الكتاب تفرق الشيعة بعد موت الإمام جعفر الصادق ، ومما جاء فيه : لما توفى أبو عبدالله بن محمد ، افترقت بعده شيعته ست فرق وكانت وفاته بالمدينة في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة ، وهو ابن خمس وستين سنة ، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين ، ودفن في القبر الذى دفن فيه أبوه وجده في البقيع ، وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة إلا شهرين ، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر بن قحافة .
ففرقة منها قالت : إن جعفر بن محمد حى لم يمت ، ولا يموت حتى يظهر ويلى أمر الناس ، وهو القائم المهدى ، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال : إن رأيتم رأسى قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوا فإننى أنا صاحبكم ، وأنه قال لهم : إن جاءكم من يخبركم عنى أنه مرضنى وغسلنى وكفننى ودفننى فلا تصدقوه ،فإنى صاحبكم ، صاحب السيف ، وهذه الفرقة تسمى الناووسية ، وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس .(2/117)
وفرقة زعمت : أن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه ، وقالوا : كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس ، لأنه خاف فغيبه عنهم ، وزعموا : أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض ، ويقوم بأمور الناس ، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده ، وقلدهم ذلك له ، وأخبرهم أنه صاحبهم والإمام لا يقول إلا الحق ، فلما أظهر موته علمنا أنه قد صدق ، وأنه القائم لم يمت . وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة . وأم إسماعيل وعبدالله ابنى جعفر بن محمد هي فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن على بن أبى طالب . وأمها أسماء بنت عقيل بن أبى طالب .
وفرقة ثالثة زعمت : أن الإمام بعد جعفر هو ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، وأمه أم ولد ، وقالوا إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه ، فلما توفى قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل ، وكان الحق له ، ولا يجوز غير ذلك لأن الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين ، ولا تكون إلا في الأعقاب ، ولم يكن لأخوى إسماعيل عبدالله وموسى في الإمامة حق ، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية فيها حق مع على بن الحسين . وأصحاب هذه المقالة يسمون المباركية ، برئيس لهم كان يسمى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر .(2/118)
فأما الإسماعيلية الخالصة فهم الخطابية أصحاب أبى الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدى الأجدع . وقد دخلت منهم فرقة في فرقة محمد بن إسماعيل ، وأقروا بموت إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه ، وهم الذين خرجوا في حياة أبى عبدالله جعفر بن محمد فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبدالله بن العباس ، وكان عاملا على الكوفة ، فبلغه عنهم أنهم أظهروا الإباحات ، ودعوا إلى نبوة " أبى الخطاب " ، وأنهم مجتمعون في مسجد الكوفة قد لزموا الأساطين يرون الناس أنهم لزموها للعبادة ، فبعث إليهم رجلا من أصحابه في خيل ورجال ليأخذهم ويأتيه بهم ، فامتنعوا عليه وحاربوه ، وكانوا سبعين رجلاً ، فقتلهم جميعاً فلم يفلت منهم إلا رجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى فعد فيهم ، فلما جن الليل خرج من بينهم فتخلص ، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبى خديجة . وذكر بعد ذلك أنه قد تاب ورجع ، وكان ممن يروى الحديث ، فحارب عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين التي كانت مع أتباعه ، وجعلوا القصب مكان الرماح ، وقد كان أبو الخطاب قال لهم : قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف ، ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لايضركم ولا يعمل فيكم ، ولا يحتك في أبدانكم ، فجعل يقدمهم عشرة عشرة للمحاربة ، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلا ، قالوا له ياسيدنا ، ما ترى ما يحل بنا من القوم ؟ وما ترى قصبنا لا يعمل فيهم ولا يؤثر ، وقد يكسر كله ، وقد عمل سلاحهم فينا وقتل من ترى منا ؟ فذكر رواة العامة أنه قال لهم إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبى ؟(2/119)
وقال رواة الشيعة أنه قال لهم : يا قوم قد بليتم وامتحنتم ، وأذن في قتلكم وشهادتكم ، فقاتلوا على دينكم واحسابكم ، ولا تعطوا بلدتكم فتذلوا مع أنكم لا تتخلصون من القتل ، فموتوا كراما أعزاء واصبروا فقد وعد الله الصابرين أجراً عظيما ، وأنتم الصابرون . فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم ، وأسر أبو الخطاب ، فأتى به عيسى بن موسى ، فأمر بقتله فضربت عنقه في دار الرزق على شاطئ الفرات وأمر بصلبه وصلب أصحابه فصلبوا ، ثم أمر بعد مدة بإحراقهم فأحرقوا ، وبعث برءوسهم إلى المنصور ، فأمر بها فصلبت على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام ، ثم أحرقت .
فلما فعل ذلك قال بعض أصحابه : إن أبا الخطاب لم يقتل ، ولا قتل أحد من أصحابه ، وإنما لبس على القوم وشبه عليهم ، وإنما حاربوا بأمر أبى عبدالله جعفر ابن محمد ، وخرجوا متفرقين من أبواب المسجد ولم يرهم أحد ، ولم يجرح منهم أحد ، وأقبل القوم يقتل بعضهم بعضا على أنهم يقتلون أصحاب أبى الخطاب ، وإنما يقتلون أنفسهم ، حتى جن عليهم الليل ، فلما أصبحوا نظروا في القتلى فوجدوهم كلهم منهم ، ولم يجدوا من أصحاب أبى طالب قتيلا ولا جريحا ، ولا وجدوا منهم أحدا . وهذه الفرقة هي التي قالت : إن أبا الخطاب كان نبياً مرسلاً ، أرسله جعفر بن محمد ، ثم إنه صيره بعد ذلك حين حدث هذا الأمر من الملائكة - لعن الله من يقول هذا . ثم خرج بعد ذلك من قال بمقالته من أهل الكوفة وغيرهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد قتل أبى الخطاب ، فقالوا بإمامته وأقاموا عليها .
وصنوف الغالية افترقوا بعده على مقالات كثيرة ، واختلفوا في رئاسات أصحابهم ومذاهبهم ، حتى تراقى بعضهم إلى القول بربوبيته ، وأن الروح التي صارت في آدم ومن بعده من أولى العزم من الرسل صارت فيه .(2/120)
وقالت فرقة منهم : إن روح جعفر بن محمد تحولت عن جعفر في أبى الخطاب ، ثم تحولت بعد غيبة أبى الخطاب في محمد بن إسماعيل بن جعفر ، ثم ساقوا الإمامة على هذه الصفة في ولد محمد بن إسماعيل .
وتشعبت منهم فرقة من المباركية ممن قال بهذه المقالة ، تسمى القرامطة ، وإنما سميت بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يلقب بقرمطويه ، وكانوا في الأصل على مقالة المباركية ثم خالفوهم وقالوا لا يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم وآله إلا سبعة أئمة : على بن أبى طالب وهو إمام رسول ، والحسن والحسين ، وعلى بن الحسين ، ومحمد بن على ، وجعفر بن محمد ، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الإمام القائم المهدى ، وهو رسول . وزعموا أن النبى صلى الله عليه وسلم وآله انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذى أمر فيه بنصب على بن أبى طالب رضي الله عنه للناس بغدير خم ، فصارت الرسالة في ذلك اليوم إلى أمير المؤمنين وفيه ، واعتلوا في ذلك بخبر تأولوه ، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله : من كنت مولاه فعلى مولاه ، وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة ، وتسليم منه ذلك لعلى بن أبى طالب بأمر الله عز وجل ، وأن النبى صلى الله عليه وسلم وآله بعد ذلك صار مأموما لعلى بن أبى طالب ، محجوجا به ، فلما مضى على رضي الله عنه صارت الإمامة في الحسن ، ثم صارت من الحسن في الحسين ، ثم صارت في على بن الحسين ، ثم في محمد بن على ، ثم كانت في جعفر بن محمد ، ثم انقطعت عن جعفر في حياته فصارت في إسماعيل بن جعفر كما انقطعت الرسالة عن محمد صلى الله عليه وآله في حياته . ثم إن الله عز وجل بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل فصيرها في محمد بن إسماعيل ، واعتلوا في ذلك بخبر رووه عن جعفر بن محمد أنه قال : ما رأيت مثل بداء لله في إسماعيل ، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حى لم يمت وأنه غائب مستتر في بلاد الروم ، وأنه القائم المهدى ، ومعنى القائم عندهم أنه(2/121)
عندهم أنه يبعث بالرسالة ، وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وآله ، وأن محمد بن إسماعيل من أولى العزم ، وأولو العزم عندهم سبعة : " نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم ، وعلى رضي الله عنه ، ومحمد بن إسماعيل " على معنى أن السموات سبع ، وأن الأرضين سبع ، وأن الإنسان بدنه سبع : يداه ورجلاه ، وظهره ، وبطنه ، وقلبه ، وأن رأسه سبع : عيناه وأذناه ، ومنخراه ، وفمه وفيه لسانه وفمه بمنزلةصدره الذى فيه قلبه ، والأئمة سبع كذلك وقلبهم محمد بن إسماعيل ، واعتلوا في نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وآله وتبديلها ، بأخبار رووها عن أبى عبدالله جعفر بن محمد أنه قال : لو قام قائمنا علمتم القرآن جديداً " وأنه قال : إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء " ، ونحو ذلك من أخبار القائم ، وزعموا أن الله تبارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم ، ومعناها عندهم الإباحة للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا ،وهو قول الله عز وجل( وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ( (البقرة : 35 ) يعنى محمد بن إسماعيل وأباه إسماعيل ، ( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ( (البقرة : 35 ) أى موسى بن جعفر بن محمد ،وولده من بعده ، ومن ادعى منهم الإمامة ، وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذى حكاه الله عز وجل في كتابه ، وأن الدنيا اثنتا عشرة جزيرة في كل جزيرة حجة ، وأن الحجج اثنا عشر ، ولكل حجة داعية ، ولكل داعية يد ، يعنون بذلك أن اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها كدلائل الرسل ، ويسمون الحجة الأب ، والداعية الأم ، واليد الابن يضاهئون قول النصارى في ثالث ثلاثة ، أن الله الأب والمسيح الابن ، وأمه مريم ، فالحجة الأكبر هو الرب ، وهو الأب ، والداعية هي الأم ، واليد هو الابن -- كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيداً ، وخسروا خسرانا مبينا . وزعموا أن جميع الأشياء(2/122)
التي فرضها الله تعالى على عباده ، وسنها نبيه صلى الله عليه وسلم وآله ، وأمر بها ظاهر وباطن ، وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة ، أمثال مضروبة ، وتحتها معان هي بطونها ، وعليها العمل ، وفيها النجاة ، وأن ما ظهر منها هي التي نهى عنها ، وفى استعمالها الهلاك والشقاء وهى جزء من العقاب الأدنى ، عذب الله بهم قوما ، وأخذهم به ليشقوا بذلك ، إذ لم يعرفوا الحق ، ولم يقوموا به ولم يؤمنوا .
وهذا أيضاً مذهب عامة أصحاب أبى الخطاب - ومع ذلك استحلوا استعراض الناس بالسيف وسفك دمائهم ، وأخذ أموالهم ، والشهادة عليهم بالكفر والشرك على مذهب البيهسية والأزارقة من الخوارج ، في قتل أهل القبلة وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالكفر ، واعتلوا في ذلك بقول الله تعالى عز وجل ( فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( ( التوبة : 5 ) قالوا : إن قتلهم يجب أن يكون بمنزلة نحر الهدى وتعظيم شعائر الله ، وتأولوا في ذلك قول الله ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب ((الحج : 32) . ورأوا سبى النساء وقتل الأطفال ، واعتلوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى ( لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( ( نوح : 26 ) ، وزعموا أنه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالإمامة ممن ليس على قولهم ، وخاصة من قال بإمامة " موسى بن جعفر " وولده من بعده ، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى (قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ( ( التوبة : 123) ، فالواجب أن يبدأوا بهؤلاء ثم بسائر الناس ، وعددهم كثير إلا أنه لا شوكة لهم ولا قوة ، وكانوا كلهم بسواد الكوفة واليمن أكثر ، ونواحى البحر واليمامة وما والاها ، ودخل فيهم كثير من العرب فقووا بهم وأظهروا أمرهم ، ولعلهم أن يكونوا زهاء مائة ألف .(2/123)
وقالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبى عبدالله جعفر بن محمد : إن الإمام بعد جعفر ابنه محمد ، وأمه أم ولد يقال لها حميدة ، وهو موسى وإسحق بنو جعفر بن محمد لأم واحدة . وتأولوا في إمامته خبرا ، وزعموا أن بعضهم روى لهم أن محمد بن جعفر دخل ذات يوم على أبيه وهو صبى صغير ، فدعاه أبوه فعدا إليه فكبا في قميصه ، ووقع لحر وجهه ، فقام إليه جعفر وقبله ، ومسح التراب عن وجهه ، ووضعه على صدره ، وقال : سمعت أبى يقول : إذا ولد لك ولد يشبهنى ، فسمه باسمى ، فهو شبيهى وشبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وعلى سنته ، فجعل هؤلاء الإمامة في محمد بن جعفر ، وفى ولده من بعده . وهذه الفرقة تسمى السميطية ، وتنسب إلى رئيسهم يقال له " يحيى بن أبى السميط " ، وقال بعضهم هم الشميطية لأن رئيسهم كان يقال له يحيى بن أبى شميط .
والفرقة الخامسة منهم قالت : الإمامة بعد جعفر في ابنه عبدالله بن جعفر الأفطح ، وذلك أنه كان عند مضى جعفر أكبر ولده سنا ، وجلس مجلس أبيه بعده ، وادعى الإمامة بوصية أبيه ، واعتلوا أى الأفطحية بحديث يروونه عن أبيه وعن جده أنهما قالا : الإمامة في الأكبر من ولد الإمام : فمال إلى عبدالله والقول بإمامته جل من قال بإمامة أبيه ، غير نفر يسير عرفوا الحق وامتحنوا عبدالله بالمسائل في الحلال والحرام والصلاة والزكاة والحج وغير ذلك فلم يجدوا عنده علما ، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبدالله بن جعفر هي " الفطحية" وسموا بذلك لأن عبدالله كان أفطح الرأس ، وقال بعضهم كان أفطح الرجلين ، وقال بعض الرواة أنهم نسبوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبدالله بن فطيح . ومال إلى هذه الفرقة عامة مشايخ الشيعة وفقهائها ، ولم يشكوا في أن الإمامة في عبدالله بن جعفر وفى ولده من بعده .(2/124)
فلما مات عبدالله ولم يخلف ذكراً ، ارتاب القوم واضطربوا وأنكروا الروايات الكثيرة عن على بن الحسين ومحمد بن على وجعفر بن محمد من أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسنين ، ولا تكون إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى انقضاء الدنيا ، فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته سوى قليل منهم ، إلى القول بإمامة موسى بن جعفر . وقد كانت جماعته من شيعة عبدالله قد رجعوا في حياته عن إمامته لروايات وقفوا عليها رووها عن جعفر أنه قال " إن الإمامة بعدى في ابنى موسى ، وأنه دل عليه ، وأشار إليه ، وأعلمهم في عبدالله أمورا لا يجوز أن تكون في الإمام ولا يصلح من كانت فيه للإمامة ، وروى بعضهم أن جعفر قال لموسى : يابنى إن أخاك سيجلس مجلسى ويدعى الإمامة بعدى فلا تنازعه ولا تتكلمن فإنه أول أهلى الذين لحقوا بى .
فلما توفى عبدالله رجعت شيعته عن القول به ، وثبتت طائفة على القول بإمامته ثم بإمامة موسى بن جعفر من بعده . وعاش عبدالله بعد أبيه سبعين يوما أو نحوها .
وقالت الفرقة السادسة منهم : إن الإمام هو موسى بن جعفر بعد أبيه ، وانكروا إمامة عبدالله ، وخطأوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الإمامة . هذا هو التفرق الذى حدث بعد موت الإمام جعفر الصادق .
وأضيف هنا ما جاء في الكتاب عن تفرق الشيعة بعد الإمام الحادى عشر ، وهو الحسن العسكرى :
قال المؤلفان في بيان هذا التفرق :
وتوفى ولم ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر ، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه ، وهى أم ولد يقال لها عسفان ، ثم سماها أبوه حديثا ، فافترق أصحابه من بعده فرقا :(2/125)
ففرقة منها قالت : إن الحسن بن على حى لم يمت ، وإنما غاب ، وهو القائم ، ولا يجوز أن يموت الإمام ولا ولد له ، ولا خلف معروف ظاهر ، لأن الأرض لا تخلو من إمام ، وقد ثبتت إمامة الحسن بن على ، والرواية قائمة أن للقائم غيبتين فهذه الغيبة إحداهما ، وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى ، وذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الواقفة على موسى بن جعفر . وإذا قيل لهذه الفرقة : ما الفرق بينكم وبين الواقفة ؟ قالوا إن الواقفة أخطأت في الوقوف على موسى لما ظهرت وفاته لأنه توفى عن خلف قائم أوصى إليه وهو الرضا رضي الله عنه ، ولأنه رحمه الله عليه توفى عن بضعة عشر ذكرا ، كل إمام ظهرت وفاته كما ظهرت وفاة آبائه وله خلف ظاهر معروف فهو ميت لا محالة ، وإنما القائم المهدى الذى يجوز الوقوف على حياته من ظهرت له وفاة عن غير خلف ، فيضطر شيعته إلى الوقوف عليه إلى أن يظهر ، لأنه لا يجوز موت إمام بلا خلف ، فقد صح أنه غاب .(2/126)
وقالت الفرقة الثانية : إن الحسن بن على مات وعاش بعد موته ، وهو القائم المهدى ، واعتلوا في ذلك برواية اعتلت بها فرقة من واقفة موسى بن جعفر رووها عن جعفر بن محمد ، أنه قال : إنما سمى القائم قائما لأنه يقوم بعدما يموت ، فالحسن بن على قد مات ولا شك في موته ، ولا خلف له ، ولا وصى موجود ، فلا شك أنه القائم ، وأنه حى بعد الموت ، لأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر ، فهو رضي الله عنه غائب مستتر ، وسيظهر ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا . وإنما قالوا إنه حى بعد الموت ، وأنه مستتر خائف لأنه لا يجوز عندهم أن تخلو الأرض من حجة قائم على ظهرها ، عدل حى ظاهر أو خائف مغمور ، للخبر الذى روى عن على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال في بعض خطبه : " اللهم إنك لا تخلى الأرض من حجة لك ظاهر أو مغمور ، لئلا تبطل حججك وبيناتك " . فهذا دليل على أنه عاش بعد موته . وليس بين هذه الفرقة والفرقة التي قبلها فرق أكثر من أن هذه صححت موت الحسن بن على رضي الله عنه ، وأن الأولى قالت إنه غاب وهو حى وأنكرت موته ، وهذه أيضاً شبيهة بفرقة من الواقفة على موسى بن جعفر رضي الله عنه . وإذا قيل لهم : من أين قلتم هذا ، وما دليلكم عليه ، رجعوا إلى تأول الروايات .(2/127)
وقالت الفرقة الثالثة : إن الحسن بن على توفى ولا عقب له ، والإمام بعده أخوه ، جعفر ، وإليه أوصى الحسن ، ومنه قبل جعفر الوصية وعنه صارت إليه الإمامة . فلما قيل لهم إن الحسن وجعفر ما زالا متهاجرين متصارعين متعاديين طول زمانهما ، وقد وقفتم على صنايع جعفر ومخلفى الحسن ، وسوء معاشرته له في حياته، ولهم من بعد وفاته في اقتسام مواريثه ، قالوا : إنما ذلك بينهما في الظاهر ، فأما في الباطن فكانا متراضيين ، متصافيين ، لا خلاف بينهما ، ولم يزل جعفر مطيعا له ، سامعا منه ، فإذا ظهر فيه شىء من خلافه فعن أمر الحسن ، فجعفر وصى الحسن ، وعنه أفضت إليه الإمامة . ورجعوا إلى بعض قول الفطحية في عبدالله وموسى وزعموا أن موسى بن جعفر إنما كان إماما بوصية أخيه عبدالله إليه ، وعن عبدالله صارت إليه الإمامة لا عن أبيه ، وأقروا بإمامة عبدالله بن جعفر وثبوتها بعد إنكارهم لها وجحودهم إياها ، وأوجبوا فرضها على أنفسهم ليصححوا بذلك مذهبهم . وكان رئيسهم والداعى لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة من المتكلمين يقال له على الطاحى الخزار ، وكان مشهورا في الفطحية ، وهو ممن قوى إمامة جعفر وأمال الناس إليه ، وكان متكلما محجاجا ،وأعانته على ذلك أخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزوينى ، غير أن هذه أنكرت إمامة الحسن بن على رضي الله عنه ، وقالت إن جعفرا أوصى أبوه إليه لا إلى الحسن .(2/128)
وقالت الفرقة الرابعة : إن الإمام بعد الحسن هو جعفر ، وأن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه ، لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن . ولم يكن محمد إماما ، ولا الحسن أيضاً ، لأن محمدا توفى في حياة أبيه ، وتوفى الحسن ولا عقب له ، وكان مدعيا مبطلا ، والدليل على ذلك أن الإمام لا يموت حتى يوصى ويكون له خلف ، والحسن قد توفى ولا وصى له ، ولا ولد ، فادعاؤه الإمامة باطل ، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهر معروف مشار إليه ، ولا يجوز أيضاً أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر لقول أبى عبدالله جعفر بن محمد وغيره من آبائه صلوات الله عليهم أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر ، وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه .(2/129)
أما الفرقة الخامسة : فإنها رجعت إلى القول بإمامة محمد بن على المتوفى في حياة أبيه ، وزعمت أن الحسن وجعفر ادعيا ما لم يكن لهما ، وأن أباهما لم يشر إليهما بشىء من الوصية والإمامة . ولا روى عنه في ذلك شىء أصلا ، ولا نص عليهما بشىء يوجب إمامتهما ، ولا هما في موضع ذلك وخاصة جعفر : فإن فيه خصالا مذمومة ، وهو بها مشهور ، ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل . وأما الحسن فقد توفى ولا عقب له ، فعلمنا أن محمدا كان الإمام ، قد صحت الإشارة من أبيه إليه ، والحسن قد توفى ولا عقب له ، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف ، ثم رأينا جعفر في حياة الحسن وبعد مضيه ، ظاهر الفسق ، غير صائن لنفسه ، معلنا بالمعاصى ، وليس هذا صفة من يصلح للشهادة على درهم ، فكيف يصلح لمقام النبى صلى الله عليه وسلم وآله ، لأن الله عز وجل لم يحكم بقول شهادة من يظهر الفسق والفجور ، فكيف يحكم له بإثبات الإمامة مع عظم فضلها وخطرها وحاجة الخلق إليها . وإذ هي السبب الذى يعرف به دينه ويدرك رضوانه ، فكيف تجوز في مظهر الفسق ، وإظهار الفسق لا يجوز تقية ، هذا ما لايليق بالحكيم عز وجل ، ولا يجوز أن ينسب إليه تبارك وتعالى ، فلما بطل عندنا أن تكون الإمامة تصلح لمثل جعفر ، وبطلت عمن لا خلف له ، لم يبق إلا التعلل بإمامة أبى جعفر محمد بن على أخيهما ، إذ لم يظهر منه إلا الصلاح والعفاف ، وإن له عقبا قائما معروفا ، مع ما كان من أبيه من الإشارة بالقول مما لا يجوز بطلان مثله ، فلابد من القول بإمامته وأنه القائم المهدى ، أو الرجوع إلى القول ببطلان الإمامة أصلا ، وهذا مما لايجوز.(2/130)
وقالت الفرقة السادسة : إن لحسن بن على ابنا سماه محمدا ، ودلعليه ، وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفى ولا خلف له ، وكيف يكون إمام قد ثبتت إمامته ووصيته ، وجرت أموره على ذلك ، وهو مشهور عند الخاص والعام ، ثم توفى ولا خلف له ، ولكن خلفه قائم وولد قبل وفاته بسنين ، وقطعوا على إمامته وموت الحسن ، وأن اسمه محمد ، وزعموا أن أباه أمر بالاستتار في حياته مخافة عليه ، فهو مستتر خائف في تقية من عمه جعفر وغيره من أعدائه وأنها إحدى غيباته ، وأنه هو الإمام القائم ، وقد عرف في حياة أبيه ونص عليه ، ولا عقب لأبيه غيره ، فهو الإمام لا شك فيه .
وقالت الفرقة السابعة : بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر ، والذين ادعوا له ولدا في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم ، لأن ذلك لو كان ، لم يخف كما لم يخف غيره ، ولكنه مضى ولم يعرف له ولد ، ولا يجوز أن يكابر في مثل ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف . وقد كان الحبل فيما مضى قائماً ظاهراً ثابتا عند السلطان ، وعند سائر الناس ، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك ، فقد ولد له ابن بعد وفاته بثمانية أشهر ، وقد كان أمر أن يسمى محمداً . وأوصى بذلك وهو مستور لا يرى . واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبر يروى عن أبى الحسن الرضا رضي الله عنه ، أنه قال : ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع ، فهذا هو .(2/131)
وقالت الفرقة الثامنة : أنه لا ولد للحسن أصلاً ، لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه وفتشنا عنه سرا وعلانية وبحثنا عن خبره في حياة الحسن بكل سبب فلم نجده ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن بن على وقد توفى ولا ولد له ظاهر معروف أن له ولدا مستوراً لجازت مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف ، ولجاز مثل ذلك في النبى صلى الله عليه وآله ، أن يقال خلف ابنا نبيا رسولا ، ولجاز أن تدعى الفطحية أن عبدالله بن جعفر بن محمد خلف ولدا ذكرا إماما ، وأن أبا الحسن الرضا رضي الله عنه خلف ثلاثة بنين غير أبى جعفر ، أحدهم الإمام ، لأن مجىء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب ، كمجىء الخبر بأن النبى صلى الله عليه وسلم وآله لم يخلف ذكرا من صلبه ولا خلف عبدالله بن جعفر ابنا ولا كان للرضا أربعة بنين ، فالوالد قد بطل لا محالة . ومع ذلك فهناك حبل قائم ... فإنه لا يجوز أن يمضى الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجة .
واحتج أصحاب الولد على هؤلاء بالخبر الذى روى عن جعفر أن القائم يخفى على الناس حمله وولادته ، وقالوا أنكرتم علينا أمرا وقلتم بمثله قلتم إن هناك حبلا قائما . فإن كنتم اجتهدتم في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك فقد طلبنا معرفة الحبل وتصحيحه أشد من طلبكم ، واجتهدنا فيه أشد من اجتهادكم ، فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده ، فنحن في الولد لذلك أصدق منكم ، لأنه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد مستور لا يعرف في الظاهر ثم يعرف بعد ذلك ويصح نسبه .
وقال المنكرون : الأمر الذى ادعيتموه منكر شنيع ينكره عقل كل عاقل ، ويدفعه التعارف والعادة مع ما فيه من كثرة الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين ، أن الحبل لا يكون أكثر من تسعة أشهر ، وقد مضى للحبل الذى ادعيتموه سنون ، وأنكم على قولكم بلا صحة ولا بينة .(2/132)
وقالت الفرقة التاسعة : إن الحسن بن على قد صحت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطؤ الأخبار التي لايجوز تكذيب مثلها ، وكثرة المشاهدين لموته وتواتر ذلك عن الولى له والعدو ، وهذا ما لا يجب الارتياب فيه ، وصح بمثل هذه الأسباب أنه لا خلف له فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن ابن على ، وأن الإمامة انقطعت وذلك جائز في المعقول والقياس والتعارف ، كما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد ، فلا يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم وآله نبى ، فكذلك جاز أن تنقطع الإمامة لأن الرسالة والنبوة أعظم خطراً وأجل والخلق إليها أحوج ، والحجة بها ألزم ، والعذر بها أقطع ، لأن معها البراهين الظاهرة والأعلام الباهرة ، ومع ذلك فقد انقطعت ، فكذلك يجوز أن تنقطع الإمامة . واعتلوا في ذلك بخبر يروى عن الصادق أن الأرض لا تخلو من حجة ، إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم ، فيرفع عنهم الحجة إلى وقت ، فهذا عندنا ذلك الوقت ، والله يفعل ما يشاء ، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة . وهذا أيضاً جائز من وجه آخر كما جاز أن لا يكون قبل النبى صلى الله عليه وسلم وآله فيما بينه وبين عيسى رضي الله عنه نبى ، ولا وصى ، ولما رويناه من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات ، ورووا ثلاثمئة سنة وروى مائتا سنة ، ليس فيها نبى ولا وصى ، وقد قال الصادق رضي الله عنه : إن الفترة هي الزمان الذى لا يكون فيه رسول ولا إمام ، والأرض اليوم بلا حجة ، إلا أن يشاء اللع فيبعث القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم وآله ، فيحيى الأرض بعد موتها ، كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وآله على حين فترة من الرسل ، فجدد ما درس من دين عيسى ودين الأنبياء قبله صلى الله عليهم ، فكذلك يبعث القائم إذا شاء عز وجل والحجة علينا إلى أن يبعث القائم - وظهوره : الأمر والنهى المتقدمان والعلم الذى في أيدينا مما خرج عنهم إلينا ، والتمسك بالماضى ، مع الإقرار بموته ، كما(2/133)
كان أمر عيسى رضي الله عنه ونهيه ، وما خرج من علمه واعلم أوصيائه ، والتمسك بالإقرار بنبوته وبموته ، والإقرار بمن ظهر من أوصيائه ، حجة على الناس قبل ظهور نبينا صلى الله عليه وسلم وآله .
وهذه الفرقة لا توجب قيام القائم ، ولا خروج مهدى ، وتذهب في ذلك إلى بعض معانى البداء .
وقالت الفرقة العاشرة : إن محمد بن على ، الميت في حياة أبيه ، كان الإمام بوصية من أبيه ، وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وعينه ، ولا يجوز أن يشير إمام قد ثبتت إمامته وصحت على غير إمام ، فلما حضرت الوفاة محمدا لم يجز أن يوصى ولا يقيم إماما ، ولا يجوز له أن يوصى إلى أبيه ، إذ إمامة أبيه ثابتة عن جده ولا يجوز أيضاً أن يأمر مع أبيه وينهى ويقيم من يأمر معه ويشاركه . وإنما ثبتت له الإمامة بعد مضى أبيه ، فلما لم يجز إلا أن يوصى فقد أوصى إلى غلام لأبيه صغير كان في خدمته يقال له نفيس ، وكان عنده ثقة أمينا ، ودفع إليه الكتب والوصية ، وأمره إذا حدث به حدث الموت أن يؤدى ذلك كله إلى أخيه جعفر ، ما فعل الحسين بن على بن أبى طالب رضي الله عنه ، لما خرج إلى الكوفة ، فقد دفع كتبه والوصية وما كان عنده من السلاح وغيره إلى أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم وآله واستودعها ذلك كله ، وأمرها أن تدفعه إلى على بن الحسين الأصغر إذا رجع إلى المدينة ، فلما انصرف على بن الحسين من الشام إليها ، دفعت إليه جميع ذلك ، وسلمته له ، فهذا بتلك المنزلة في الإمامة لجعفر بوصية " نفيس " إليه عن محمد أخيه ، فإن نفيسا لما خاف على نفسه لما علم أهل الدار قصته وأحسوا بأمره وحسدوه ، ونصبوا له وبغوه الغوائل ، وخشى أن تبطل الإمامة وتذهب الوصية دعا جعفرا وأوصى إليه ، ودفع إليه جميع ما استودعه أخوه الميت في حياة أبيه ، ودفع إليه الوصية على نحو ما أمره ، وهكذا ادعى جعفر أن الإمامة صارت إليه من قبل محمد أخيه ، لا من قبل أبيه وهذه الفرقة تسمى النفيسية .(2/134)
وقالت فرقة من النفيسية أنكروا إمامة الحسن رضي الله عنه : لم يوص أبوه إليه ، ولا غير وصيته إلى محمد ابنه ، وهذا عندهم جائز صحيح ، فقالوا بإمامة جعفر من هذا الوجه وناظروا عليها . وهذه الفرقة تتقول على أبى محمد الحسن بن على رضي الله عنه تقولا شديداً ، وتكفره وتكفر من قال بإمامته ، وتغلو في القول في جعفر ، وتدعى أنه القائم ، وتفضله على أمير المؤمنين على ابن أبى طالب رضي الله عنه وتقدمه على الحسن والحسين وجميع الأئمة ، وتعتل في ذلك : أن القائم أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله . وأخذ نفيس ليلا وألقى في حوض كان في الدار كبير فيه ماء كثير ، فغرق فيه فمات وهذه الفرقة هي النفيسية الخالصة .(2/135)
وقالت الفرقة الحادية عشرة منهم : لما سئلوا عن ذلك وقيل لهم ما تقولون في الإمام : أهو جعفر أم غيره ؟ قالوا : لا ندرى ما نقول في ذلك أهو من ولد الحسن أم من إخوته فقد اشتبه علينا الأمر ولسنا نعلم أن للحسن بن على ولدا أم لا ، أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد ، وقد كثر الاختلاف ، إلا أنا نقول إن الحسن بن على كان إماما مفترض الطاعة ثابت الإمامة ، وقد توفى رضي الله عنه وصحت وفاته ، وأن الأرض لا تخلو من حجة ، ونحن نتوقف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده إذ لم يصح عندنا أن له خلفا وخفى علينا أمره حتى يصح لنا الأمر ويتبين ، ونتمسك بالأول كما أمرنا أنه إذا هلك الإمام ، ولم يعرف الذى بعده فتمسكوا بالأول حتى يتبين لكم الآخر ، فنحن نأخذ بهذا ونلزمه ، ولا ننكر إمامة أبى محمد ، ولا ننكر موته ، ولا نقول إنه رجع بعد موته ، ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره ولا ننتميه حتى يظهر الله الأمر إذا شاء ويكشفه ويبينه لنا ، وهذه الفرقة لا تثبت لجعفر بن على إمامة أحد من ولده ولا من غيره ، بوجه من الوجوه ولا تثبت إمامة إمام إلا بوصية أبيه إليه ، ووصية ظاهرة ، ولم تثبت لجعفر وصية ظاهرة ولا باطنة ، وكل إمام اختلف المؤتمون به في مخرج إمامته ممن هي ، وممن أوصى إليه ، ومن أقامه فهى باطلة لا تثبت ، وأصحاب جعفر يختلفون في إمامة جعفر ومخرجها ، فبعضهم يقول إنها له بوصية أبيه إليه وإقامته ، وبعضهم يدعيها له من قبل أخيه محمد الميت في حياة أبيه ، وبعضهم يدعيها له عن أخيه .(2/136)
وقالت الفرقة الثانية عشرة : منهم وهم الإمامية : ليس القول كما قال هؤلاء كلهم ، بل الله عز وجل في الأرض حجة من ولد الحسن بن على بن محمد ابن على الرضا ، وأمر الله بالغ ، وهو وصى لأبيه قائم بالأمر بعده هاد للأمة مهدى على المنهاج الأول والسنن الماضية ، ولا تكون الإمامة في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجوز ذلك ، ولا تكون إلا في عقب الحسن بن على بن محمد إلى فناء الخلق وانقطاع أمر الله ونهيه ورفعه التكليف عن عباده متصلا ذلك ما اتصلت أمور الله . ولو كان في الأرض رجلان ، لكان أحدهما الحجة ، ولو مات أحدهما لكان الآخر الحجة ما اتصل أمر الله ، ودام نهيه في عباده وتكليفه قائما في خلقه . ولا يجوز أن تكون الإمامة في عقب من لم تثبت له إمامة ، ولم تلزم العباد به حجة ممن مات في حياة أبيه ، ولا في ولده ولا في وصى له من أخ ولا غيره ، ولو جاز ذلك لصح مذهب أصحاب إسماعيل بن جعفر ابن محمد ولثبتت إمامة ابنه محمد بن إسماعيل بعد مضى جعفر بن محمد ، وكان من قال بها من المباركية والقرامطة محقا مصيبا في مذهبه ، وهذا الذى ذكرناه هو المأثور عن الأئمة الصادقين مما لا دفع له بين هذه العصابة من الشيعة الإمامية ، ولا شك فيه عندهم ولا ارتياب لصحة مخرج الأخبار المروية فيه وقوة أسبابها ، وجودة أسانيدها وثقة ناقليها . ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة ، ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها ولا يجوز شئ من مقالات هذه الفرق كلها ، فنحن متمسكون بإمامة الحسن بن على ، مقرون بوفاته ، معترفون بأن له خلفا من صلبه ، وأن خلفه هو الإمام من بعده ، حتى يأذن الله عز وجل له فيظهر ويعلن أمره ، كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه ، إذ الأمر لله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ، ويأمر بما يريد من ظهور وخفاء ، ونطق وصموت ، كما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وآله في حال نبوته بترك إظهار أمره ، والسكوت والإخفاء من أعدائه والاستتار(2/137)
وترك إظهار النبوة التي هي أجل وأعظم وأشهر من الإمامة ، فلم يزل كذلك سنين إلى أن أمره بإعلان ذلك ، وعند الوقت الذى قدره تبارك وتعالى ، فصدع بأمره وأظهر الدعوة لقومه ، ثم بعد الإعلان بالرسالة ، وإقامة الدلائل المعجزة والبراهين الواضحة اللازمة بها الحجة وبعد أن كذبته قريش وسائر الخلق من عرب وعجم ، وما لقى من الشدة ولقيه أصحابه من المؤمنين ، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة ، وأقام هو مع قومه حتى توفى أبو طالب فخاف على نفسه وبقية أصحابه ، فأمره الله عند ذلك بالهجرة إلى المدينة ، وأمره بالاختفاء في الغار والاستتار من العدو ، فاستتر أياما ، خائفا مطلوبا ، حتى أذن الله له وأمره بالخروج ، وكما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : اللهم إنك لا تخلى الأرض من حجة لك على خلقك ظاهراً معروفا ، أو خافياً مغموداً كيلا تبطل حجتك وبيناتك . وبذلك أمرنا ، وبه جاءت الأخبار الصحيحة المشهورة عن الأئمة الماضين ، وليس للعباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقفوا أثر ما لا علم لهم به ، ويطلبوا إظهاره ، فستره الله عليهم وغيبه عنهم وقال الله عز وجل لرسوله ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( ( الإسراء : 36 ) ، فليس يجوز لمؤمن ولا مؤمنة طلب ما ستره الله ، ولا يجوز ذكر اسمه ولا السؤال عن مكانه حتى يؤمر بذلك ، إذ هو رضي الله عنه مغمود خائف مستور بستر الله تعالى ، وليس علينا البحث عن أمره ، بل البحث عن ذلك وطلبه محرم ولا يحل ، لأن في طلب ذلك وإظهار ما ستره الله عنا وكشفه وإعلان أمره والتنويه باسمه معصية لله والعون على سفك دمه رضي الله عنه ودماء شيعته وانتهاك حرمته ، أعاذ الله من ذلك كل مؤمن ومؤمنة برحمته وفى ستر ذلك والسكون عنه حقنها وصيانتها وسلامة ديننا والانتهاء إلى أمر الله وأمر وأئمتنا وطاعتهم . وفقنا الله وجميع المؤمنين بطاعته ومرضاته بمنه ورأفته ، ولا يجوز لنا ولا لأحد من المؤمنين أن يختار إماما برأيه ومعقوله(2/138)
واستدلاله ، وكيف يجوز هذا وقد حظره الله جل وتعالى على رسله وأنبيائه وجميع خلقه ، فقال في كتابه إذ لم يجعل الاختيار إليهم في شىء من ذلك ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ( ( الأحزاب : 36 ) ، وقال ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (( القصص : 68 ) ، وإنما اختيار الحجج والأئمة إلى الله عز وجل وإقامتهم إليه فهو يقيمهم ويختارهم ويخفيهم إذا شاء ويظهرهم ويعلن أمرهم إذا أراد ويسترهم إذا شاء فلا يبديهم ، لأنه تبارك وتعالى أعلم بتدبيره في خلقه وأعرف بمصلحتهم ، والإمام أعلم بأمور نفسه وزمانه وحوادث أمور الله منا . وقد قال أبو عبدالله الصادق رضي الله عنه : " وهو ظاهر الأمر ، معروف المكان ، لا ينكر نسبه ولا تخفى ولادته وذكره شائع مشهور في الخاص والعام : من سمانى باسم فعليه لعنة الله " ولقد كان الرجل من شيعته يلقاه في الطريق فيحيد عنه ولا يسلم عليه تقية ، فإذا لقيه أبو عبدالله شكره على فعله وصوب له ما كان منه وحمده عليه ، وذم من تعرف إليه وسلم عليه وأقدم عليه بالمكروه من الكلام . وكذلك وردت الأخبار عن أبى إبراهيم موسى بن جعفر رضي الله عنه من منع تسميته مثل ذلك ، وكان أبو الحسن الرضا يقول : لو علمت ما يريد القوم منى لأهلكت نفسى عندى بما لايوثق دينى ، بلعب الحمام والديكة وأشباه ذلك ، هذا كله لشدة التستر من الأعداء ولوجوب فرض استعمال التقية فكيف يجوز في زماننا هذا ترك استعمال هذا مع شدة الطلب وجور السلطان وقلة رعايته لحقوق أمثالهم ، ومع ما لقى رضي الله عنه من " صالح بن وصيف " لعنه الله ، وحبسه إياه ولأهل بيته ، والأمر بقتله ، وطلب الشيعة ، وما نالهم منه من الأذى والتعنت ، وتسميته من لم يظهر خبره ولا اسمه وخفيت ولادته . وقد رويت أخبار كثيرة : أن القائم تخفى(2/139)
على الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يعرف اسمه ولا يعلم مكانه ولا يعرف إلا أنه لا يقوم حتى يظهر ويعرف أنه إمام ابن إمام ، ووصى ابن وصى ، يؤتم به قبل أن يقوم ، ومع ذلك فإنه لابد من أن يعلم أمره ثقاته وثقات أبيه ، وإن قالوا ، لأن الإشارة بالوصية من إمام إلى إمام بعده لا تصح ولا تثبت إلا بشهود عدول من خاصة الأولياء أقل ذلك شاهدان فما فوقهما ، إلا أن لا يكون للإمام الماضى إلا ولد واحد فيستغنى بذلك عن الإشارة إليه على ما يروى عن أبى جعفر محمد بن الرضا . ومع هذا فإن الرضا لم يدع الإشارة إليه ، والوصية والإشهاد على ذلك لأنه لابد منه ، إذ السنة جارية من رسول الله بذلك ، ومن الأئمة من بعده ، وإذ قد فعله أمير المؤمنين بالحسن وفعله الحسن بالحسين مع وصية رسول الله وإشارته إليه أن الإمامة في عقب الحسن بن محمد ما اتصلت أمور الله ولا ترجع إلى أخ ، ولا عم ، ولا ابن عم ، ولا ولد ولد مات أبوه في حياة جده ، ولا يزول عن ولد الصلب ، ولا يكون أن يموت إمام إلا ولد له لصلبه وله ولد . فهذه سبيل الإمامة ، وهذا المنهاج الواضح والفرض الواجب اللازم الذى لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية الصحيحة التشيع عليه ، وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن على رضوان الله عليه .(2/140)
وقالت الفرقة الثالثة عشرة : مثل مقالة الفطحية ، والفقهاء منهم أهل الورع والعبادة ، مثل عبدالله بن بكير بن أعين ونظرائه ، فزعموا : أن الحسن بن على توفى ، وأنه كان الإمام بعد أبيه بوصية أبيه إليه ، وأن جعفر بن على هو الإمام بعده ، كما كان موسى بن جعفر إماما بعد عبدالله بن جعفر ، للخبر الذى روى : أن الإمامة فى الأكبر من ولد الإمام إذا مضى ، وأن الخبر الذى روى عن الصادق رضي الله عنه : أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام صحيح لا يجوز غيره ، وإنما ذلك إذا كان للماضى خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه ، بل تثبت في خلفه ، وإذا توفى ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة ، لأن هذا معنى الحديث عندهم ، وكذلك قالوا في الحديث الذى روى : أن الإمام لا يغسله إلا إمام ، وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره ، وأقروا أن جعفر بن محمد رضي الله عنه غسله موسى ، وادعوا أن عبدالله أمره بذلك لأنه كان الإمام بعد عبدالله ، فلذلك جاز أن يغسله موسى ، فهذه الأخبار بأن الإمام لا يغسله إلا الإمام صحيحة جائزة على هذا الوجه ، فهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلف ولدا ، والإمام عندهم " جعفر بن على " على هذا التأويل ضرورة ، وعلى هذه الأخبار والمعانى التي وصفناها ...
مما سبق نلاحظ ما يأتى :-
1 ـ عندما وقفت الناوسية عند الإمام الصادق ، واعتبرته القائم المهدى ، بدأت في وضع الأخبار التي تؤيد عقيدتها ، ولم تستطع أن تقوم بهذا قبل موته .
2 ـ والإسماعيلية الخالصة قامت بمثل هذا بالنسبة لإسماعيل بن جعفر .
3 ـ والمباركية جعلت الإمامة لمحمد بن إسماعيل بن جعفر ، ويذكر التاريخ تفرقها بعد ذلك لعدة فرق ، ومنهم القرامطة الذين زعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين ، واستباحوا المحارم وجميع ما خلقه الله !! ومع وضوح كفرهم استدلوا بما يؤيد عقيدتهم .(2/141)
4 ـ والفرقة الرابعة التي قالت بإمامة محمد بن جعفر ، وفى ولده من بعده ، وضعت من الأخبار ما يدل على إمامته ، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتى بعده .
5 ـ والفرقة الخامسة وضعت أيضاً من الأخبار ما يدل على إمامة عبدالله بن جعفر ، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتى بعده . فلما مات ولم يخلف ذكرا حدث التفرق المذكور ، وأنكر القوم ما أنكروا من الروايات ، ووضعوا روايات جديدة تتفق مع العقيدة الجديدة ، وانظر مثلا إلى هذه الرواية:
قال جعفر لموسى : " يا بنى إن أخاك - يقصد عبدالله - سيجلس مجلسى ، ويدعى الإمامة بعدى ، فلا تنازعه ولا تتكلمن ، فإنه أول أهلى الذين لحقوا بى " .
فهذه الرواية التي ذكرت للاستدلال على إمامة موسى بن جعفر لم توضع قبل موت عبدالله بن جعفر ، لأن الوضاعين من هؤلاء الشيعة لم يكونوا يعرفون من الذى سيموت قبل الآخر .
6 ـ والفرقة السادسة التي قالت بإمامة موسى بن جعفر بعد أبيه صارت بعد وفاته خمس فرق .
ولعل في هذا ما يكفى لبيان ما أردت بيانه .
فالشيعة الاثنا عشرية التي نتحدث عنها كانت انبثاقا من إحدى الفرق الخمس السابقة ، وخمس الفرق كلها كانت إحدى الفرق الست السابقة . وكل فرقة من الفرق الخمسة افترقت بعد ذلك عدة فرق . وإذا واصلنا المسيرة نجد أن الشيعة اتباع الحسن العسكرى - الإمام الحادى عشر عند الاثنى عشرية - انقسمت بعد موته إلى ما يقرب من عشرين فرقة ، وكل فرقة تضع من الأخبار ما يؤيد عقيدتها الجديدة ، ولا يمكن وضع هذه الأخبار قبل وفاة الإمام .
ونلحظ أن كل هذه الفرق أكدت أن الحسن العسكرى لا خلف له ما عدا فرقة مع فرقة الإمامية .
ومعنى هذا أن الشيعة الاثنى عشرية لم تبدأ في وضع الأخبار التي تتصل بالاثتى عشر إماما إلا بعد الحسن العسكرى ، أى في النصف الثانى من القرن الثالث . وبعد هذا تبدأ مرحلة الكتب .(2/142)
والواقع العملى يؤيد ما بينته هنا ، فكتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم أولها ظهر في القرن الرابع ، وهو الكافى ، ثم جاء بعده باقى الكتب .
الأصول الأربعمائة
قال مؤلف كتاب " دراسة حول الأصول الأربعمائة " ص 7 :
بلغ الرواة عنه - أى الإمام الصادق - أربعة آلاف رجل ، وانصرفت طائفة كبيرة من هؤلاء لضبط ما رووه عن الإمام سماعاً في كتاب خاص في مواضيع الفقه والتفسير والعقائد وغيرها ، وقد اصطلح التاريخ الشيعى على تسمية هذه الكتب بالأصول ، كما حصرها في أربعمائة أصل ، وهذا ما نعنيه بالأصول الأربعمائة . ا . هـ
وتحدث المؤلف بعد هذا مباشرة عن الاختلاف حول تحديد مفهوم الأصل ، ثم ذكر أسماء أصحاب الأصول ، ولكن عددهم لم يبلغ الثمانين ، ثم قدم دراسة حول الأصول بصفة عامة ، ثم تعريفاً مقتضباً للأصول الموجودة كاملة ، أو الموجود قسم منها ، وبلغ العدد ثمانية وعشرين .
وانتهى بعد ذلك إلى نتيجة البحث فقال :-
" وقد توصلنا من هذا البحث إلى النتائج التالية " :
أولاً : أن الأصل مما اصطلح عليه علماء الشيعة في القرن الخامس الهجرى .
ثانياً : أن المحدثين ذكروا في تحديد مفهوم الأصل أقوالاً كانت في الغالب مجرد حدس وتخمين كما صرح بذلك السيد محسن الأمين .
وأن لكلمة الأصل معنيين :
الأول : المعنى الاصطلاحي وهو عبارة عن الحاوى للحديث المروى سماعاً من الإمام الصادق ( ع ) غالبا ومن تأليف رواته (ع ) وقد استشهدنا لذلك بنصوص المتقدمين ، وأن أغلب من ذكرهم الطوسى والنجاشى في أصحاب الأصول هم من أصحاب الإمام الصادق ( ع ) ودراسة الأصول الموجودة .
الثانى : المعنى اللغوى بمعنى المصدر والمرجع - كما في عصرنا - وذلك حيث تستعمل في غير كتب الحديث من العلوم المختلفة أو تستعمل قبل القرن الخامس الهجرى .
ثالثاً : تحديد زمن التأليف بعصر الإمام الصادق ( ع ) أى من روى عنه ( ع ) وينافى ذلك أن يروى عن أبيه الباقر ( ع ) أو ابنه الكاظم ( ع ) .(2/143)
رابعاً : إن أريد من الأصل مفهومه اللغوى فأصول أحاديث الشيعة عدداً ستة آلاف وستمائة - تقريباً .
وإن أريد مفهومه الاصطلاحى المذكور فلا يزيد على المائة عددا والمذكور منها في فهرستى الطوسى والنجاشى لا تزيد على نيف وسبعين أصلاً .
خامساً : أن أعيان الأصول قد أهملت نظراً لاحتواء الكتب الأربعة وجوامع الحديث لهذه الأصول وغيرها من مصادر أحاديث الشيعة ، ولأجل ذلك استغنى المحدثون عن الأصول بأعيانها لوجود مضامينها ورواياتها في هذه الكتب المتأخر تأليفها زمناً عن زمن تأليف الأصول ولم أقف - حسب تتبعي - للأصول التي ذكرها الشيخ الطوسى على اكثر من ثلاثة أصول موجودة اليوم ، ومن الكتب التي وصفت بأنها أصول على أكثر من سبعة وعشرين كتاباً ، وعسانى أوفق للاطلاع عليها في المستقبل .
ويقول الشهيد الثانى بهذا الصدد : كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولاً فكان عليها اعتمادهم ، وتداعت الحال إلى أن ذهب معظم تلك الأصول ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول ، وأحسن ما جمع منها الكافى والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه . انتهى كلام المؤلف.
ولو صح كلامه فإنه يعنى أن التدوين كان للآراء والاجتهادات الفقهية وغيرها ، كما كان للأحاديث التي رواها الإمام الصادق ، والشيعة يرون أن كل ما صدر عنه يعتبر من السنة ، ولكن الإمام الصادق نفسه لا يمكن أن يرى العصمة لنفسه أو حق التشريع ، ويندر أن يوجد في عصره من يرى عصمته إلا الغلاة .(2/144)
فما يصح نقله عن الإمام الصادق لا يختلف عما ثبت عن الأئمة الأربعة : أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد ، وغيرهم من الأئمة الأعلام إلا فيما نراه من الاختلاف بين هؤلاء الأئمة المجتهدين أنفسهم . أما ما يدون في عصر الإمام الصادق افتراء عليه فإن الافتراء لا يتجاوز عصره والعصور السابقة ، ولا يمكن أن يتصل بمن يأتى بعده مما يعد في علم الغيب . ولسنا هنا في حاجة إلى دراسة هذه الأصول ، أو البحث عن أصحابها ، ولكن الذى يعنينا هو أن ما يخص الشيعة الاثنى عشرية لم يظهر في هذا العصر حتى يدون ، ولذا عجبت كل العجب من عنوان أحد هذه الأصول ، وقد ذكره المؤلف في ص 47 ، والعنوان :
" مقتضب الأثر في الأئمة الاثنى عشر " ! ... ومن غير الممكن على الإطلاق أن يوضع هذا العنوان فى عصر الإمام الصادق ، فما كان أحد في وقته يعرف أسماء من يأتى بعده ، حيث لا يعلم الغيب إلا الله ، ولكن يمكن أن يوضع هذا العنوان بعد الإمام الحادى عشر ، وتنسب الأقوال المفتراة إلى الصادق أو غيره ، هذا هو الواقع الذى يمكن أن يكون . فلو نسب هذا العنوان إلى من عاش في عصر الصادق فإن هذا يعنى أن واضع العنوان يفتري على من عاش في عصر الإمام .
وعلى كل حال بعد قراءة العنوان جاء ما يلي :
" تأليف أحمد بن محمد بن عياش الجوهرى ، المتوفى سنة 401 هـ " .
إذن عاش المؤلف بعد الإمام الحادى عشر ، بل بين وفاة كل منهما قرن ونصف ، فهذا هو الذى يتفق مع ما سبق بيانه .
الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة
رأينا من قبل الجرح والتعديل عن الجمهور ، والموقف من الرواية عن أهل البدع ، وما يتصل بالعدالة والضبط .(2/145)
والصحابة الكرام ، خير أمة أخرجت للناس ، شهد لهم ربهم عز وجل وكفى بالله شهيدا ، وشهد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم ، وما أعظمها من شهادة ! ولذلك فهم ليسوا في حاجة إلى شهادة بعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وعدالتهم أمر معلوم مسلم به عند جمهور المسلمين . ومن طعن فيهم ممن ينتسب إلى الإسلام كاد أن يخرج عن الملة إن لم يكن قد خرج بالفعل . وتبعاً للجرح والتعديل عند الفرق يحكم على الأحاديث ، وتؤلف الكتب .
وقبل أن أبين الجرح والتعديل عند سلف عبدالحسين ، وأثر هذا في كتبهم التي قال إنها مقدسة ، وصحاح متواترة ، أردت أن أوضح موقف الحاكم ـ كما جاء في كتابه معرفة علوم الحديث ، وهو شيعى لكنه غير رافضى ، حتى لا نخلط بين موقف الشيعة وموقف الرافضة .
تحدث الحاكم عن أصح الأسانيد فقال ( ص 55 ) :
إن أصح أسانيد أهل البيت : جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على إذا كان الراوى عن جعفر ثقة .
وأصح أسانيد الصديق : إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن أبى بكر .
وأصح أسانيد عمر : الزهرى عن سالم عن أبيه عن جده .
وأصح أسانيد المكثرين من الصحابة لأبى هريرة : الزهرى عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة ، ولعبدالله بن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر ، ولعائشة عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، عن القاسم بن محمد ابن أبى بكر ، عن عائشة .
سمعت أبا بكر أحمد بن سلمان الفقية يقول : سمعت جعفر بن أبى عثمان الطيالسى يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب .
ومن أصح الأسانيد أيضاً محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن زهرة القرشى عن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشى عن عائشة .
وأصح أسانيد عبدالله بن مسعود : سفيان بن سعيد الثورى عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم بن يزيد النخعى عن علقمة بن قيس النخعى عن عبدالله بن مسعود .(2/146)
وأصح أسانيد أنس : مالك بن أنس عن الزهرى عن أنس .
وأصح أسانيد المكيين : سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر .
وأصح أسانيد اليمانيين : معمر عن همام بن منبه عن أبى هريرة .
ومما ذكره الحاكم نرى أنه لا يختلف عن جمهور المسلمين في نظرته للصحابة الكرام ، وفى التوثيق بصفة عامة على خلاف ما نراه عند الرافضة .
وفى ص 56 يقول : إن أوهى أسانيد أهل البيت : عمرو بن شمر ، عن جابر الجعفى ، عن الحارث الأعور ، عن على .
وفى ص 63 تحدث عن معرفة فقه الحديث فقال : " فأما فقهاء الإسلام ، أصحاب القياس والرأى والاستنباط والجدل والنظر ، فمعروفون في كل عصر وأهل كل بلد . ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث ، إذ هو نوع من أنواع هذا العلم .
فمن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهرى " وذكر الحاكم بإسناده بعد هذا عن مكحول قال : " ما رأيت أحداً أعلم بسنة ماضية من الزهرى " .
وفى ص 240 بدأ الحديث عن النوع التاسع والأربعين فقال : " هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة ، والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب " .
وأول من ذكرهم من هؤلاء الأئمة الإمام الزهرى . وفى عصرنا وجدنا الرافضة والمستشرقين - لهدف واحد خبيث - يطعنان في هذا الإمام الجليل . ومن الأئمة الأعلام الذين ذكرهم : الإمام سفيان الثورى ( ص 245 ) ، وسيأتى في نماذج من الجرح والتعديل ما قاله الرافضة في هذا الإمام .
ومستدرك الحاكم معروف مشهور ، وسبق الإشارة إليه ، غير أنه جمع الصحيح والحسن والضعيف والموضوع .(2/147)
وممن عرف بالتشيع كذلك النسائى ، صاحب السنن ، أحد الكتب الستة المعتمدة عند جمهور المسلمين ، و عبدالرزاق صاحب المصنف ، وابن عبدالبر ، صاحب الكتب الكثيرة النافعة . ( انظر منهاج السنة لابن تيمية ج 7 ص 13 ، 373 ) ، ومنهج هؤلاء في الجرح والتعديل يعتبر من منهج الجمهور .
أما أسلاف عبدالحسين فإن منهجهم تأثر بعقيدتهم في الإمامة ، فكما رفضوا الخلافة الراشدة للشيخين وذى النورين ، رفضوا ما ثبت عنهم من أخبار ، وطعنوا فيهم وفيمن لم يقل بقول عبدالله بن سبأ في الوصى بعد النبى ، ولذلك طعنوا وجرحوا من شهد لهم ربهم عز وجل والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم . وفى ظلمات هذه الجهالة ألفت كتبهم .
نماذج من الجرح والتعديل
الجرح والتعديل عند هؤلاء القوم - كما رأينا - يرتبط بعقيدتهم الباطلة في الإمامة ، ووضعت كتبهم - كما سنرى - لتأييد هذه العقيدة . وكتب الرجال عندهم طعنت في خير جيل عرفته البشرية وجرحت صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورضى عن الصحابة الكرام البررة . ولم يسلم من الطعن إلا من اشتهر في التاريخ بولائه لعلى ابن أبى طالب . وقولهم بعصمة الأئمة جعلهم لا ينظرون إليهم على أنهم رواة ثقات بل جعلوهم مصدرا للتشريع ، فأقوالهم سنة واجبة الاتباع كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون أدنى فرق ، وأشرت إلى هذا من قبل . وسأكتفى هنا ببيان بعض النماذج مما جاء في كتب الرجال عندهم . وأصول هذه الكتب الرجالية خمسة هي : رجال البرقى ، ورجال الكشى ، ورجال الشيخ الطوسى ، وفهرسته ، ورجال النجاشى . وقد رجع إلى هذه الأصول وغيرها عبدالله الماماقانى في كتابه " تنقيح المقال في علم الرجال " . والمؤلف يلقبونه بالعلامة الثانى آية الله ، أما علامتهم الأول فهو ابن المطهر الحلى الذى رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية . كما أشرت من قبل ، وكتاب تنقيح المقال من أكبر الكتب حجماً ومكانة عندهم .(2/148)
وإليك بعض النماذج مما جاء في هذا الكتاب .
1 ـ على بن ابى طالب :
أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام ، مناقبه وفضائله لا يسع البشر عدها وإحصاءها ، قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربى . وقد ورد أنه لو كان البحر مداداً ، والأشجار أقلاماً وأوراق الأشجار قرطاساً ، والجن والإنس كتاباً ، لما أحصوا مناقبه !! ( جـ 2 ص 264 ) .
2 ـ محمد بن أبى بكر بن أبى قحافة:
جليل القدر عظيم المنزلة من خواص على رضي الله عنه وحوارييه . أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس لا من قبل أبيه . من أنجب النجباء ، من أهل بيت سوء . بايع أمير المؤمنين على البراءة من أبيه ، ومن الخليفة الثانى ، وقال له : أشهد أنك إمام مفترض الطاعة ، وأن أبى في النار ... إلخ .
( انظر ترجمته في ملحق الجزء الثانى ص 57 ، 58 وينسب الرافضة هذه الأقوال للإمامين الباقر والصادق ، وحاشاهما - رضى الله تعالى عنهما - أن ينطقا بمثل هذا الكفر الذى لا يقوله إلا عبدالله بن سبأ وأمثاله وأتباعه )
3 ـ عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوى خليفة العامة :
بالغت العامة في مدحه ، ومن لاحظ ترجمته المتفرقة وأمعن النظر فيها لم يعتمد على خبره ... إلخ ( 2/ 201 )
4 ـ عبدالله بن عمرو بن العاص :
كان كأبيه في الرأى والنفاق ، والكذب على الله ورسوله ، والخروج مع معاوية بصفين ، وكفى بذلك جرحا ... إلخ ( 2 / 200، وفى ترجمته أخذ الرافضى يلعنه ويلعن أباه ! ) .
5 ـ عبدالرحمن بن عوف :
في ترجمته اتهام له ولذى النورين عثمان بن عفان - رضى الله تعالى عنهما ، وفى نهاية الترجمة قال : لا أعتمد على روايته ، لأن من خان في الأصول لا يوثق به في الفروع ( 2/146 : 147 )
6 ـ خالد بن الوليد :(2/149)
تعاقد مع أبى بكر على قتل على رضي الله عنه ، ثم ندم أبو بكر خوفاً من الفتنة ، سماه العامة سيف الله ، والأحق بتسميته سيف الشيطان ... زنديق ، أشهر من كفر إبليس في العداوة لأهل البيت .. إلخ . ( اقرأ ترجمته 1 / 394 تجد هذا الكفر والضلال والمفتريات وغيرها ) .
7 ـ أنس بن مالك :
جاء في ترجمته أنه كان من المنحرفين عن على رضي الله عنه ، الكاتمين لمناقبه حباً للدنيا ، فدعا عليه بالعمى فكف بصره ، وأنه كان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ! . ( انظر أكاذيب وأباطيل هؤلاء الرافضة في ترجمته 1 /154 : 155 ) .
8 ـ النعمان بن بشير :
كان منحرفا عن على رضي الله عنه ، وعدواً له ، فزندقته لا شك فيها .. إلخ ( 3 / 272 ، وفى الترجمة غير هذا من التكفير واللعن لهذا الصحابى الجليل ولغيره من الكرام البررة ) .
9 ـ معاذ بن جبل :
في ترجمته أنه مالأعدو الله أبا بكر وعمر ، على ولى الله على بن أبى طالب ، والبشرى بالنار له ولأبى بكر وعمر وأبى عبيدة وسالم ، وأن الصحابة هلكوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا أربعة .. إلى غير ذلك مما لا يصدر إلا عن الكفار والضالين . ( انظر هذا الضلال في ترجمته 3 / 220 : 221 ).
10 ـ سفيان الثورى :
إذا كان هؤلاء القوم قد طعنوا وكفروا خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم الصحابة الكرام ،وخيرهم جميعا الشيخان الصديق والفاروق ، رضى الله تعالى عنهم جميعاً ، إذا كان الأمر قد انحط إلى هذا الدرك الأسفل ، فلا نعجب بعد هذا إذا طعنوا في أئمة المسلمين بعد الصحابة .
ففى ترجمة الإمام سفيان الثورى يذكرون أكاذيب ينسبونها إلى الإمام الصادق افتراء على الله تعالى وعلى الصادق رضى الله عنه ، ثم يعقبون عليها بما يأتى :
يتبين أمران :-
أحدهما : أن سفيان الثورى كذاب خبيث مدلس معاند يهودى ، قد آثر دنياه على آخرته على علم منه بذلك بنص الصادق .(2/150)
والآخر : أن مذهب العامة ـ أى جمهور المسلمين ـ مبنى على الأكاذيب !! من بدايته إلى نهايته ، أعاذنا الله تعالى من ذلك ، ولا جمع الله بيننا وبينهم في الدنيا ولا الآخرة . ( انظر 2/37 : 38 ) .
وبعد ....
فلعل هذه التراجم ـ مع قلتها ـ كافية لبيان منهج الرافضة في الجرح والتعديل ، واجترائهم على الله عز وجل ، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الصحابة الكرام ، وعلى أئمة المسلمين سواء أكانوا من أهل البيت الأطهار أم من غيرهم . وإذا جئنا إلى التطبيق العملى فإنا نرى هذا المنهج مطبقا في كتبهم التي قال عنها الرافضى عبدالحسين إنها مقدسة ، متواترة صحيحة ، وما هي إلا هدم للإسلام أصوله وفروعه ، وامتداد لمآرب عبدالله بن سبأ .
وفى الجزء الرابع في خاتمة الكتاب سنجد مثل هذه التراجم عندما نتحدث عن أبى القاسم الخوئى المرجع الأعلى للشيعة في العراق ، وعن كتابه معجم رجال الحديث ، مما يبين استمرار غلو الرافضة وزندقتهم حتى عصرنا إلا من عصم ربى من معتدلى الشيعة غير الرافضة .
مفهوم السنة عندهم
قال أحد علمائهم المعاصرين :-
" السنة في اصطلاح الفقهاء : قول النبى أو فعله أو تقريره " ثم قال : " أما فقهاء الإمامية بالخصوص - فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجرى قوله مجرى قول النبى ، من كونه حجة على العباد واجب الاتباع - فقد توسعوا في اصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره ، فكانت السنة باصطلاحهم : قول المعصوم أو فعله أو تقريره .(2/151)
والسر في ذلك أن الأئمة من آل البيت - عليهم السلام - ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبى والمحدثين عنه ، ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية ، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبى لتبليغ الأحكام الواقعية ، فلا يحكون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي ، وذلك من طريق الإلهام كالنبى من طريق الوحى أو من طريق التلقى من المعصوم قبله كما قال مولانا أمير المؤمنين رضي الله عنه : علمنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم ينفتح لى من كل باب ألف باب .(739[37])
وعليه فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها ، ولا من نوع الاجتهاد في الرأى والاستنباط من مصادر التشريع بل هم أنفسهم مصدر للتشريع ، فقولهم ( سنة ) لا حكاية السنة . وأما ما يجىء على لسانهم أحياناً من روايات وأحاديث عن نفس النبى صلى الله عليه وسلم ، فهى إما لأجل نقل النص عنه كما يتفق في نقلهم لجوامع كلمه ، وإما لأجل إقامة الحجة على الغير ، وإما لغير ذلك من الدواعى .
وأما إثبات إمامتهم ، وأن قولهم يجرى مجرى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو بحث يتكفل به علم الكلام " (740[38]) .
وما أظننا بحاجة إلى بيان أثر الإمامة هنا ، فهى أوضح من أن يطال فيها الحديث ، فجعلوا الإمام كالنبى المرسل : العصمة لهم جميعاً ، والسنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره يستوى في هذا أن يكون المعصوم هو الرسول الكريم وأن يكون أحد أئمة الجعفرية . ولذلك رأينا من قبل أنهم جعلوا للإمام ما للنبى المصطفى من بيان القرآن الكريم وتقييد مطلقة ، وتخصيص عامة . ورأينا كذلك أن الإخباريين منعوا العمل بظاهر القرآن الكريم لأنهم لا يستمدون شريعتهم إلا مما ورد عن أئمتهم . وحتى يكون الإمام مصدراً للتشريع قائماً بذاته جعل له الإلهام مقابلاً للوحى بالنسبة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم .(2/152)
وهذا العالم الجعفرى ـ مع شططه ـ يمثل جانب الاعتدال النسبى ، فقد رأينا غيره يذهب إلى بقاء الوحى مع الأئمة وإن لم ينزل بقرآن جديد . وما ذكره هذا العالم لا يصح إلا بما أشار إليه في الفقرة الأخيرة من إثبات إمامة الأئمة ، وأن قولهم يجرى مجرى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو ما أثبتنا خلافه في الجزء الأول .
مراتب الحديث
الإخباريون من الجعفرية ـ وهم قلة قليلة ـ لا علم لهم بمصطلح الحديث ، فهم يتلقون بالقبول كل ما ورد عن أئمتهم في كتب الحديث المعتمدة عندهم ، بل يرون تواتر " كل حديث وكلمه بجميع حركاتها وسكناتها الإعرابية والبنائية وترتيب الكلمات والحروف " (741[39]) وكتب الحديث هذه أربعة ظهرت في القرنين الرابع والخامس ، وأصحابها يرون صحة ما أثبتوا في كتبهم .
والجعفرية الاثنا عشرية ظلوا قرابة ثلاثة قرون بعد ظهور هذه الكتب لا يفترقون كثيراً عن النزعة الإخبارية ، فأول من وضع مصطلح الحديث وبين مراتبه عندهم هو الحسن بن المطهر الحلى الملقب بالعلامة الذى توفى سنة 726 هـ (742[40]).
والحديث عند جمهور الجعفرية ينقسم إلى متواتر وأخبار آحاد . وأثر عقيدتهم الباطلة يظهر في المتواتر باشتراطهم " أن لا يكون ذهن السامع مشوباً بشبهة أو تقليد يوجب نفى الخبر ومدلوله " (743[41]) وندرك الأثر هنا عندما نراهم يقولون : " بهذا الشرط يندفع احتجاج مخالفينا في المذهب على انتفاء النص على أمير المؤمنين رضي الله عنه - بالإمامة " (744[42]) فإذا ما نقل بالتواتر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد من بعده فالاتهام يوجه إلى السامعين ، وبذلك يصلون إلى هدفهم بعدم حجية هذا النقل . وعلى العكس من هذا نراهم يذهبون إلى تواتر حديث الثقلين والغدير (745[43]) .
فعقيدة الإمامة توجههم في رفض الأخذ بالتواتر أو رفع غيره إلى مرتبته ، ما دام الخبر متعلقاً بهذه العقيدة .(2/153)
وأخبار الآحاد عندهم تنقسم إلى أربع مراتب ، هي أصول الأقسام وإليها يرجع كل تقسيم آخر ، وهذه المراتب هي : الصحيح ، والحسن ، والموثق ، والضعيف . فأما الصحيح عندهم فهو " ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامى عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة " (746[44]).
وزاد بعضهم في التعريف أن يكون العدل ضابطاً ، ورأى صاحب مقباس الهداية أن قيد العدل يغنى عن ذلك ، فمن ليس ضابطا فليس بعدل (747[45]) أى أنهم متفقون على أن شروط الصحة هي :-
1. اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع .
02 أن يكون الرواة إماميين في جميع الطبقات .
03 وأن يكونوا كذلك عدولا ضابطين .
وأثر الإمامة هنا يبدو إلى جانب تحديد المعصوم - في اشتراط إمامية الراوى ، فالحديث لا يرقى لمرتبة الصحيح ما لم يكن الرواة من الجعفرية الاثنى عشرية في جميع الطبقات .
وأول واضع لأقسام الحديث عندهم يوضح سبب هذا الاشتراط بقوله : " لا تقبل رواية الكافر ، وإن علم من دينه التحرز عن الكذب ، لوجوب التثبت عند الفاسق ، والمخالف من المسلمين ، إن كفرناه فكذلك ، وإن علم منه تحريم الكذب - خلافاً لأبى الحسن لاندراجه تحت الآية ، وعدم علمه لا يخرجه عن الاسم ، ولأن قبول الرواية تنفيذ الحكم على المسلمين ، فلا يقبل كالكافر الذى ليس من أهل القبلة . احتج أبو الحسن بأن أصحاب الحديث قبلوا أخبار السلف كالحسن البصرى وقتادة وعمر بن عبيد ، مع علمهم بمذهبهم ، وإنكارهم على من يقول بقولهم ، والجواب المنع من المقدمتين ، ومع التسليم فنمنع الإجماع عليه وغيره ليس بحجة . والمخالف غير الكافر لا تقبل روايته أيضاً لاندراجه تحت اسم الفاسق " (748[46]) .
ويقول الماماقانى (749[47]) : " الموافق للتحقيق هو أن العدالة لا تجامع فساد العقيدة وأن الإيمان شرط في الراوى " . ويقول أيضاً : " وهو الذى اختاره العلامة في كتبه الأصولية وفاقاً للأكثر لقوله تعالى :-(2/154)
( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [(750[48]) ولا فسق أعظم من عدم الإيمان ، والأخبار الصريحة في فسقهم بل كفرهم لا تحصى كثرة " .
يستفاد مما سبق : أن الإيمان شرط في الراوى ، وخبر الفاسق يجب التأكد من صحته ، وغير الجعفرى كافر أو فاسق ، فخبره لا يمكن بحال أن يكون صحيحاً ، وهنا لا يبدو أثر الإمامة فحسب بل يظهر التطرف والغلو والزندقة .
ويأتى بعد الصحيح : الحسن : ، وهو " ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامى ممدوح مدحاً مقبولا معتداً به ، غير معارض بذم ، من غير نص على عدالته ، مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقة ، أو في بعضها . (751[49])
ويستفاد من هذا النص أنهم يشترطون للحسن :
1. اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع .
2. أن يكون جميع الرواة إماميين .
3. وأن يكون ممدوحين مدحاً مقبولاً معتداً به ، دون معارضة بذم ، وبالطبع الذم غير المقبول لا يعتد به .
4. ألا ينص على عدالة الراوى ، فلو كان الرواة عدولاً لأصبح الحديث صحيحا كما عرفنا من دراستنا للصحيح .
5. تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه ، أو في بعضها . يفهم من هذا أن جميع الرواة غير ثابتى العدالة ، أو بعضهم كذلك والآخرين عدول ، فالمعروف أن الحديث يحمل على أدنى مرتبة في الرواة - فلو فقد شرطا آخر غير العدالة لما أصبح حسناً .
ويقول صاحب ضياء الدراية ( ص 24 ) :
" ألفاظ المدح على ثلاثة أقسام " :
* ما له دخل في قوة السند ، مثل صالح وخير .
* ما له دخل في قوة المتن لا في السند ، مثل فهيم وحافظ .
* ما ليس له دخل فيهما ، مثل شاعر وقارئ .
فالأول يفيد في كون السند حسنا أو قويا ، والثانى ينفع في مقام الترجيح ، والثالث لا عبرة له في المقامين ، بل هو من المكملات " .
ويقول عن الجمع بين القدح والمدح ( الصفحة ذاتها ) :
" القدح بغير فساد المذهب قد يجامع المدح لعدم المنافاة بين كونه ممدوحاً من جهة ، ومقدوحاً من جهة أخرى " .(2/155)
وأثر عقيدة الإمامة في هذا النوع يبدو فيما يأتى :
1. اشتراط إمامية الراوى .
2. قبول رواية الإمامى غير ثابت العدالة ، ورفض رواية غير الإمامى كائناً من كان ، وبالغاً ما بلغ من العدالة والتقوى والورع .
3. قبول رواية الإمامى الممدوح المقدوح أحياناً بشرط ألا يكون القدح بفساد المذهب ، وفساد المذهب يعنى الخروج عن الخط الجعفرى : فهذا قدح لا يغتفر (752[50]).
ويأتى بعد الحسن الموثق ، وهو : " ما اتصل سنده إلى المعصوم بمن نص الأصحاب على توثيقه ، مع فساد عقيدته ، بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية ، وإن كان من الشيعة ، مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح " (753[51]).
وهذا التعريف يفيد اشتراط ما يأتى :
1. اتصال السند إلى المعصوم .
2. أن يكون الرواة غير إماميين ، ولكنهم موثقون من الجعفرية على وجه الخصوص .
3. أو يكون بعضهم كذلك ، والآخرون من رجال الصحيح ، حتى لا يدخله ضعف آخر ، فيكفى أن دخل في الطريق من ليس بإمامى .
وأثر عقيدة الإمامة هنا يبدو فيما يأتى :-
1. جعل الموثق بعد الصحيح والحسن لوجود غير الجعفرية في السند .
2. التوثيق لا يكون إلا من الجعفرية أنفسهم ، ولذلك قال صاحب ضياء الدراية : (754[52]) " توثيق المخالف لا يكفينا ، بل الموثق عندهم ضعيف عندنا ، والمدار في الموثق إنما هو توثيق أصحابنا " .
ويوضح المامقانى توثيق أصحابه بقوله :
" يمكن معرفة غير الإمامى الموثق بأن يكون الإمام قد اختاره لتحمل الشهادة أو أدائها ، في وصية ، أو وقف ، أو طلاق ، أو محاكمة ، أو نحوها ، أو ترحم عليه أو ترضاه ، أو أرسله رسولاً إلى خصم له أو غير خصمه ، أو ولاه على وقف أو على بلدة ، أو اتخذه وكيلاً ، أو خادماً ملازماً ، أو كاتباً ، أو أذن له في الفتيا والحكم أو أن يكون من مشايخ الإجازة (755[53]) أو تشرف برؤية الإمام الثانى عشر الحجة المنتظر أو نحو هذا " (756[54]) .(2/156)
فالتوثيق إذن لا يخرج عن النطاق الجعفرى الاثنى عشرى .
3. مع هذا النوع من التوثيق لا يدخل السند مع الموثقين إلا رجال الصحيح ، وعلى الرغم من ذلك يبقى هذا القسم في المرتبة الثالثة .
وبعد الموثق يأتى : الضعيف ، وهو " ما لم يجتمع فيه شرط أحد الأقسام السابقة ، بأن اشتمل طريقة على مجروح بالفسق ونحوه ، أو على مجهول الحال ، أو ما دون ذلك كالوضاع " (757[55]) .
وفى الحديث عن الصحيح رأينا كيف أنهم اعتبروا غير الجعفرى كافراً أو فاسقاً فروايته ضعيفة غير مقبولة . ولا تقبل من غير الجعفرى إلا من نال توثيق الجعفرية .
وعلى هذا الأساس يرفضون الأحاديث الثابتة عن الخلفاء الراشدين الثلاثة وغيرهم من أجلاء الصحابة ، والتابعين ، وأئمة المحدثين والفقهاء ، ما داموا لا يؤمنون بعقيدة الإمامية الاثنى عشرية . فالروايات التي يدخل في سندها أى من هؤلاء الصديقين الصالحين الأئمة الأعلام الأمناء ، تعتبر روايات ضعيفة في نظر هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثا (758[56]) .
التعارض والترجيح
روى الكلينى في أصول الكافى عن عمر بن حنظلة قال :
" سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان ، وإلى القضاة ، أيحل ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً ، وإن كان حقاً ثابتاً له ، لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به قال تعالى : ( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ( (759[57]) قلت : فكيف يصنعان ؟ قال ينظران إلى ما كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً فإنى قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله .(2/157)
قلت : فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما : اختلفا في حديثكم ؟
قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر .
قال - قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر ؟
قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذى حكما به المجمع عليه من أصحابك فيأخذ به من حكمنا . ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند أصحابك .
قلت : فإن كان الخبران عنكما (760[58]) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟
قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة ، وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة .
قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأى الخبرين يؤخذ ؟
قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد .
فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟
قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكامهم وقضاتهم ، فيترك ، ويؤخذ بالآخر .
قلت : فإن وافق حكامهم الخبران جميعاً ؟
قال : إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (761[59]) .
هذه الرواية يسميها الجعفرية الرافضة مقبولة ابن حنظلة ، وفى باب الترجيح عندهم هى " العمدة في الباب ، المقبولة التي قبلها العلماء بأن راويها صفوان بن يحيى الذى هو من أصحاب الإجماع ، أى الذين أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم : كما رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم " (762[60]) .(2/158)
ويقول المظفر : " من الواضح أن موردها التعارض بين الحاكمين ، لا بين الراويين ، ولكن لما كان الحكم والفتوى في الصدر الأول يقعان بنص الأحاديث ، لا أنهما يقعان بتعبير من المحاكم أو المفتى كالعصور المتأخرة استنباطاً من الأحاديث تعرضت هذه المقبولة للرواية والراوى ، لارتباط الرواية بالحكم . ومن هنا استدل بها على الترجيح للرواية المتعارضة " (763[61]) .
ثم يقول بعد بيان انحصار دليل مخالفة العامة في هذه المقبولة : والنتيجة أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة : الشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة . وهذا ما استفاده الشيخ الكلينى في مقدمة الكافى (764[62]).
وهذه المقبولة التي اعتبرت العمدة في باب الترجيح بصفة عامة ، والدليل الوحيد على مخالفة العامة ـ-أى جمهور المسلمين ـ- بصفة خاصة ، أقول : هذه المقبولة مرفوضة من وجهة نظرنا لما يأتى :
1. أنها اعتبرت كل حاكم أو قاض غير جعفرى اثنى عشرى طاغوتاً أمرنا أن نكفر به بنص القرآن الكريم .
2. أنها اعتبرت أخذ الحق الثابت سحتاً ما دام أخذه عن طريق هؤلاء الحكام والقضاة .
3. أنها جعلت حكم الحكم الجعفرى الرافضى كحكم الله تعالى ، ومن لم يقبله فكأنما أشرك بالله سبحانه .
4. أنها تدعو إلى مخالفة جمهور المسلمين حتى عند ظهور موافقتهم للكتاب والسنة .
فالإمام الصادق أعمق إيماناً ، وأرفع شأنا من أن يصدر منه هذه الجهالة ، وإنما تصدر هذه الرواية عن غال ، يفترى على الأئمة ، يريد لأمة الإسلام أن تفترق ولا تتحد .
وبعد هذا نرى أثر عقيدة الإمامة في باب الترجيح عند الجعفرية يظهر فيما يأتى :
1. جعلوا المشهور عندهم مقدما على غيره ، حتى قدموه على ما وافق الكتاب والسنة ، فالمشهور الجعفرى المخالف للكتاب والسنة مقدم على غيره الموافق للكتاب والسنة .(2/159)
ثم " إنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوى الغير أعدل وأصدق " (765[63]) وهذا مما جعل غلاة الجعفرية يسيرون إلى أهدافهم من طريق ممهد ، ولنضرب لهذا مثلا لعله كاف لما أردنا توضيحه .
صاحب كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " قال عن الروايات التي يرى أنها تثبت - على حد افترائه - تحريف القرآن الكريم :" الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفى حديث ، وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد، والمحقق والداماد ، والعلامة المجلسى وغيرهم " (766[64]) فهذه روايات جعفرية مشهورة مستفيضة ، فلما تعارضت مع كتاب الله تعالى : حيث أخبر سبحانه بأنه الحافظ لكتابه العزيز ولا تبديل لكلماته ، حرفوا معناه كما رأينا من قبل في الجزء الثانى ، فهؤلاء القوم لم يناقضوا أنفسهم هنا ، فهم غلاة في المبدأ وغلاة في التطبيق . ولكن الذين يمثلون جانب الاعتدال النسبى عند الجعفرية أبوا أن يهدم الإسلام من أساسه فرفضوا الأخذ بهذه الروايات ، وكان عليهم إذن أن يغيروا المبدأ حتى لا يناقضوا أنفسهم عند التطبيق . فهم يتفقون مع الغلاة في تقديم المشهور ، واختلفوا معهم عندما جاء المشهور الجعفرى لتقويض البناء الإسلامى .
2. جعلوا من المرجحات مخالفة العامة ، أى عامة المسلمين ، فما خالف الأمة الإسلامية أولى بالقبول عندهم مما وافقهم ، استناداً إلى المقبولة المرفوضة فهى مستندهم الوحيد ، وهى التي تزعم أن الإمام الصادق قال : ما خالف العامة ففيه الرشاد .
ولعل هذا من أخطر المبادئ التي جعلت بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية هوة ـ- سحيقة عميقة ـ- فابتعد الجعفرية كثيراً عن الخط الإسلامى الصحيح ، لأنهم استقروا " على تقديم مخالف العامة على موافقهم ، من غير ملاحظة المرجحات السندية وجوداً وعدماً ، حتى لو كان الخبر مستفيضاً يحملونه على التقية عند التعارض " (767[65]) .(2/160)
والحمل على التقية هنا يعنى أن الخبر في ذاته لا يحمل قرائن التقية لأنهم يقولون : " الذى يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية ، والذى يكون مرجحاً ، مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن التقية " (768[66]) .
وهم يعودون بهذا المبدأ الهدام إلى عصر الصحابة الكرام : فيقولون : " بأن الرشد في خلافهم ، وأن قولهم في المسائل مبنى على مخالفة أمير المؤمنين رضي الله عنه فيما يسمعونه منه " (769[67]) .
ثم يقولون : " التعليل بأن الرشد في خلافهم محتمل لوجوه :
الأول - أن يكون إصابة الواقع غالباً في مخالفتهم ، فهم غالباً في ضلالة وبعد عن الواقع .
والثانى - أن يكون نفس مخالفتهم رشداً ، فالمخالفة لهم حسن ذاتاً .
والثالث - أن يكون ذلك من جهة صدور الخبر الموافق تقية ، فيكون الأخذ بالخبر المخالف رشداً من باب تمامية وجه صدوره بخلاف الموافق " (770[68]) .
وبعد : فإنا لا نعجب عندما ينفث غلاة الجعفرية الرافضة وزنادقتهم سمومهم بمثل هذه الأقوال ، ولكن لا ندرى كيف يصبح هذا المبدأ مقبولا عند الجعفرية جميعاً ؟ وكنا ننتظر ، من معتدليهم نسبياً ودعاة التقريب منهم ، أن يقفوا موقفاً يتفق مع اعتدالهم الظاهرى ، ودعوتهم للتقريب بين المذاهب الإسلامية .
ونضرب مثلا هنا - والأمثلة جد كثيرة - يبين كيف تمكن واضعو هذا المبدأ من توجيه المذهب الجعفرى وجهة بعيدة عن أمة الإسلام في كثير من الأحكام ، وبالطبع على غير أساس من الحق ، والمثل هو ما رواه الكلينى :(2/161)
" عن زرارة بن أعين ، عن أبى جعفر قال : سألته عن مسألة فأجابنى ، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابنى ، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابنى وأجاب صاحبى ، فلما خرج الرجلان قلت يا بن رسول الله ، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه ، فقال : يا زرارة : إن هذا خير لنا ، وأبقى لنا ولكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم " (771[69]).
فهنا إذن ثلاث فتاوى تعطى أحكاماً مختلفة لمسألة واحدة ، ولا أساس لهذا الاختلاف سوى عدم اجتماع الشيعة على حكم واحد ، حتى لا يكشف أمرهم ، فيصبحوا عرضة للقتل . ولكن هذه الفتاوى عند الجعفرية الاثنى عشرية سنة ومصدر تشريع ، فعند الترجيح يؤخذ بما خالف الأمة الإسلامية ، ويترك ما وافقها ، حتى إذا كان المتروك موافقاً للكتاب والسنة : على أن هذا ما حضره زرارة ويمكن أن يأتى آخرون ، فتكثر الروايات ، وتختلف الأحكام بغير دليل شرعى ، والترجيح لما خالف جمهور المسلمين .
الكتب الأربعة
للجعفرية الاثنى عشرية كتب كثيرة تروى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم وكذلك عن أئمتهم ، ولكن الذى يعنينا هنا الكتب المعتمدة لديهم ، فغير المعتد ليس بحجة لهم أو عليهم .
وهذه الكتب المعتمدة أربعة :
أولها ( الكافى ) لأبى جعفر محمد بن يعقوب الكلينى ، الملقب بحجة الإسلام وثقته ، المتوفى سنة 329 هـ .
والثانى ( فقيه من لا يحضره الفقيه ) لمحمد بن بابويه القمى ، الملقب بالصدوق ، المتوفى سنة 381 هـ .
والآخران هما ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) ، وكلاهما لمحمد بن الحسن الطوسى شيخ الطائفة ، المتوفى سنة 460 هـ .(2/162)
والكافى له المقام الأعلى عند الجعفرية ، يقول عبدالحسين المظفر في مقدمته لأصول الكافى : " ولما كان البحث يدور حول كتابنا هذا ، فقد عرفت ما سجله على صفحاته مؤلفه من الأحاديث التي يبلغ عددها زهاء سبعة عشر ألف حديث ، وهى أول موسوعة إسلامية استطاع مؤلفها أن يرسم بين دفتيها مثل هذا العدد من الأحاديث ، وقد كلفته هذه المجموعة أن يضحى من عمره عشرين سنة قضاها في رحلاته متنقلا من بلدة إلى أخرى ، لا يبلغه عن أحد مؤلف ، أو يروى حديثا ، إلا وشد الرحال إليه ، ومهما كلفه الأمر فلا يبرح حتى يجتمع به ، ويأخذ عنه ، ولذلك تمكن من جمع الأحاديث الصحيحة . وهذه الأحاديث التي جاءت في الكافى جميعها ذهب المؤلف إلى صحتها ، ولذلك عبر عنها بالصحيحة " (772[70]) .
ويقول : " ويعتقد بعض العلماء أنه عرض على القائم رضي الله عنه ( يعنى الإمام الثانى عشر ) فاستحسنه وقال : كاف لشيعتنا " (773[71]) .
" وقد اتفق أهل الإمامة ، وجمهور الشيعة على تفضيل هذا الكتاب ، والأخذ به والثقة بخبره ، والاكتفاء بأحكامه . وهم مجمعون على الإقرار بارتفاع درجته وعلو قدره ، على أنه القطب الذى عليه مدار روايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان إلى اليوم ، وعندهم أجل وأفضل من جميع أصول الأحاديث " (774[72]) .
فلا خلاف إذن بين الجعفرية حول مكانة الكافى ، ولكنا ذكرنا من قبل أن مراتب الحديث المعروفة عند متأخرى الجعفرية ظهرت على يد علامتهم الحلى ، أى بعد الكلينى بقرابة أربعة قرون ، والكلينى يذهب إلى أن كل ما جمعه في الكافى صحيح ، فماذا يعنى بالصحيح هنا ؟
يوضح هذا أحد كتابهم فيقول : " إن الصحيح عند المتقدمين هو الذى يصح العمل به والاعتماد عليه ، ولو لم يكن من حيث سنده مستوفياً للشروط التي ذكرناها ، والصحيح في عرف المتأخرين هو الجامع لتلك الشروط " (775[73]) .(2/163)
ثم يقول بعد حديث عن الكلينى وكتابه : " المتحصل من ذلك أن الذين اعتمدوا على الكافى ، واعتبروا جميع مروياته حجة عليهم فيما بينهم وبين الله سبحانه ، هؤلاء لم يعتمدوا عليها إلا من حيث الوثوق والاطمئنان بالكلينى الذى اعتمد عليها ، وكما ذكرنا فإن وثوق الكلينى بها لم يكن مصدره بالنسبة إلى جميعها عدالة الرواة ، بل كان في بعضها من جهة القرائن التي تيسر له الوقوف عليها نظراً لقرب عهده بالأئمة عليهم السلام ، ووجود الأصول المختارة في عصره .
هذا بالاضافة إلى عنصر الاجتهاد والذى يرافق هذه البحوث في الغالب . يؤيد ذلك أن الكلينى نفسه لم يدع بأن مرويات كتابه كلها من الصحيح المتصل سنده بالمعصوم بواسطة العدول ، فإنه قال في جواب من سأله تأليف كتاب جامع يصح العمل به ، والاعتماد عليه ، قال : وقد يسر لى الله تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت . وهذا الكلام منه كالصريح في أنه قد بذل جهده في جمعه وإتقانه ، معتمدا على اجتهاده وثقته بتلك المجاميع والأصول الأربعمائة التي كانت مرجعاً لأكثر المتقدمين عليه ، ومصدراً لأكثر مرويات كتابه " (776[74]) .
ويقول الحسنى أيضا : " والشئ الطبيعى أن تتضاءل تلك الثقة التي كانت للكافى - على مرور الزمن بسبب بعد المسافة بين الأئمة عليهم السلام وبين الطبقات التي توالت مع الزمن بمجئ دور العلامة الحلى : انفتح باب التشكيك في تلك الروايات على مصراعيه بعد أن صنف الحديث إلى الأصناف الأربعة ، فتحرر العلماء من تقليد المتقدمين فيما يعود إلى الحديث ، وعرضوا مرويات الكافى وغيره على أصول علم الدراية وقواعده ، فما كان منها مستوفياً للشروط المقررة أقروا العمل به والاعتماد عليه ، وردوا ما لم تتوفر فيه الشروط المطلوبة . وعلى هذا الأساس ، توزعت أحاديث الكافى التي بلغت ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثاً على النحو التالي :(2/164)
الصحيح منها خمسة آلاف واثنان وسبعون حديثاً ، والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً ، الموثق ألف ومائة وثمانية وعشرون حديثاً ، القوى (777[75]) ثلاثمائة وحديثان والضعيف تسعة آلاف وأربعمائة وخمسة وثمانون حديثاً (778[76]) .
ومما تجدر الإشارة إليه أن اتصاف هذا المقدار من روايات الكافى بالضعف لا يعنى سقوطها بكاملها عن درجة الاعتبار ، وعدم جواز الاعتماد عليها في أمور الدين ، ذلك لأن وصف الرواية بالضعف من حيث سندها ، وبلحاظ ذاتها لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في أحد الأصول الأربعمائة ، أو بعض الكتب المعتبرة ، أو موافقتها للكتاب والسنة ، أو لكونها معمولاً بها عند العلماء وقد نص أكثر الفقهاء أن الرواية الضعيفة إذا أشتهر العمل بها والأعتماد عليها تصبح كغيرها من الروايات الصحيحة وربما تترجح عليها في مقام التعارض (779[77]) .
والكافى يقع في ثمانية أجزاء تضم الأصول والفروع : فالأصول وهى التي تتصل بالعقائد ، تقع في الجزأين الأول والثانى . والفروع في الفقه تقع في خمسة أجزاء ، أما الجزء الأخير وهو الروضة ، فيقول عنه الدكتور حسين على محفوظ : لما أكمل الكلينى كتابه هذا ، وأتم رد مواده إلى فصولها ، بقيت زيادات كثيرة من خطب أهل البيت ، ورسائل الأئمة وآداب الصالحين وطرائف الحكم وألوان العلم مما لاينبغى تركه ،فألف هذا المجموع الأنف ، وسماه ( الروضة ) لأن الروضة منبت أنواع الثمر ، ومعدن ألوان الزهر . والروضة على كل حال مرجع قيم وأصل شريف ... إلخ (780[78]) .(2/165)
هذا هو الكافى ، الكتاب الأول عند الجعفرية ، أما الكتب الثلاثة الأخرى فإنها تقتصر على الروايات المتصلة بالأحكام الفقهية ، أى أنها تلتقى مع الفروع من الكافى . ولذلك عندما نبحث عن أثر عقيدة الإمامة في الكتب الأربعة سندرس أولاً الأصول مع الروضة ، ثم نجعل الفروع من الكافى مع بقية الكتب الأربعة . وأصحاب هذه الكتب سبق الحديث عنهم في الجزء الثانى عندما عرضنا ما دار بين الجعفرية حول تحريف القرآن الكريم ونقصه ، فالغلاة الضالون الذين ذهبوا إلى وقوع التحريف والنقص استندوا إلى روايات من الكافى كتلك التي ذكرها زاعماً نسبتها إلى الإمام الصادق وهى " إن القرآن الذى جاء به جبرئيل رضي الله عنه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية " ، أى أن أكثر من عشرة آلاف آية أسقطت من كتاب الله تعالى : وكذلك ألصقت التحريف بكثير من آى القرآن الكريم ، كما استندوا إلى روايات مشابهة جاءت في غير الكافى كما بينا . وعندما بحثنا عن الغلاة الضالين الذين قاموا بحركة التشكيك في كتاب الله تعالى وجدنا القول عندما ضاق انحصر في على بن إبراهيم القمى الذى تحدثنا عنه وعن تفسيره وفى تلميذه الكلينى ، وكلما اتسع أضيف إليهما غيرهما ، أى الكلينى من أوائل الغلاة الذين قادوا حركة التضليل والتشكيك في كتب الله العزيز . وعندما بحثنا عمن تصدى لهذه الحركة الضالة وجدنا الصدوق والطوسى من الأوائل الذين سبقوا إلى هذا الفضل (781[79]) والإشارة هنا إلى ما سبق الحديث عنه تغنى عن الخوض في هذا الموضوع خوضا نجتنبه قدر الإمكان إلا ما دعت الضرورة إليه ، فالكافى مملوء بهذا الضلال المضل ، وعلى الأخص في الأصول والروضة ، وهى الأجزاء التي نبدأ الآن الحديث عنها ، وبيان ما بها من ضلال وزيع تأثراً بعقيدة الرفض الباطلة ، وبما نادى به ابن سبأ اللعين .
أولا : الجزء الأول من أصول الكافى(2/166)
عندما ننظر فى الجزء الأول من أصول الكافى نجد أن أكثر من ثلثيه يقع تحت عنوان ( كتاب الحجة ) ، قال الكلينى فى خطبة الكافى " ووسعنا قليلاً كتاب الحجة ، وإن لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها ، وأرجو أن يسهل الله ـ جل وعز ـ إمضاء ما قدمنا من النية ، إن تأخر الأجل صنفنا كتاباً أوسع وأكمل منه ، نوفيه حقوقه كلها " ( ص 9) .
والكتاب كما يبدو من عنوانه يتعلق بالحجة أى الإمام ، فالكتاب نفسه إذن أثر من آثار عقيدة الإمامة الباطلة ! وننظر فى أبواب كتاب الحجة هذا فنرى " باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث " ( ص 167 ) .
والرواية الأولى : عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل وكان " رسولاً نبياً " ما الرسول وما النبي ؟ قال النبي الذي يرى في منامه ، ويسمع الصوت ولا يعاين الملك . والرسول الذي يسمع الصوت ، ويرى في المنام ويعاين الملك . قلت " الإمام ما منزلته ؟ قال : يسمع الصوت ولا يرى ، ولا يعاين الملك ، ثم تلا هذه الآية ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ [ولا محدث(782[80]) .
وضم الباب ثلاث روايات أخرى (783[81]) .
وذكر الكلينى بعد هذا ثلاث روايات بأن " الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف " .
وفى " باب أن الأرض لا تخلو من حجة " ( ص 178 -179 ) ذكر الكلينى ثلاث عشرة رواية منها :
عن أبى عبدالله : أن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمه لهم (784[82]) .
وعنه : أن الله أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل .
وعنه أيضاً : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت .
وعن أبى جعفر : لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله .(2/167)
وفى " باب أنه لو لم يبق فى الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة " ( 179-180) ذكر خمس روايات منها : " عن أبى عبدالله : لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام وقال : إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل - أنه تركه بغير حجة لله عليه ". وذكر الكلينى أربع عشرة رواية فى " باب معرفة الإمام والرد إليه " ( ص 180-185) منها :
" عن أبى حمزة عن أبى جعفر قال : إنما يعبد الله من يعرف الله فأما من لايعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً .
قلت : جعلت فداك فما معرفة الله ؟ قال : تصديق الله عز وجل ، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وموالاة على والائتمام به وأئمة الهدى والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم ، هكذا يعرف الله عز وجل " (785[83]) .
وعن أبى عبدالله : " كان أمير المؤمنين إماماً ثم كان الحسن إماما ثم كان الحسين إماماً ، ثم كان على بن الحسين إماماً ثم كان محمد بن على إماماً ، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى : ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم " (786[84]) .
وترى الكلينى بعد هذا يحرف معانى بعض آي القرآن الكريم ليؤيد ما سبق وليصل إلى الافتراء بأن أصحاب الثلاثة ضلوا أى أصحاب الخلفاء الراشدين الثلاثة.
وفى " باب فرض طاعة الأئمة " يذكر سبع عشرة رواية ، منها ما نسبه للإمام الصادق : " نحن الذين فرض الله طاعتنا ، لا يسع الناس إلا معرفتنا ، ولا يعذر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمناً ، ومن أنكرنا كان كافراً ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً " (787[85]) .
وفى " باب فى أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه " ( ص 190 - 191) يذكر خمس روايات ويحرف معانى بعض آيات القرآن الكريم ، ليجعل أئمة الجعفرية الرافضة هم الشهداء على الناس .(2/168)
وفى " باب أن الأئمة هم الهداة " ( 191 - 192) يذكر أربع روايات ، ويحرف معنى الآية السابعة من سورة الرعد " إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" فيؤول كلمة هاد بأنها الإمام على ، ثم أئمة الشيعة الجعفرية من بعده .
وفى " باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه " ( ص 192-193) يذكر ست روايات منها:
عن أبى جعفر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال تبارك وتعالى : " استكمال حجتى على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية على والأوصياء من بعدك ، فإن فيهم سنتك وسنة الأنبياء من قبلك ، وهم خزانى على علمى من بعدك " . ثم قال الرسول : " لقد أنبأنى جبريل رضي الله عنه بأسمائهم وأسماء آبائهم " .
وفيها : " عن أبى عبدالله إن الله عز وجل خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا خزانه فى سمائه وأرضه ، ولنا نطقت الشجرة ، وبعبادتنا عبدالله عز وجل ، ولولانا ما عبدالله " .
وفى " باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل فى أرضه وأبوابه التى منها يؤتى " ( ص 193-194) يذكر الكلينى ثلاث روايات ويذكر أن الأئمة المراد من قول الله تعالى : ] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [ ( 55: النور ) .
وفى " باب أن الائمة نور الله عز وجل " ( ص 194-196) يذكر هذه الروايات : عن أبى خالد الكابلى ، عن أبى جعفر : ] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [ (788[86]) .(2/169)
قال : يا أبا خالد ، النور والله نور الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، وهم والله نور الله الذى أنزل ، وهم نور الله فى السموات والأرض . والله يا أبا خالد لنور الإمام فى قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار ، وهم والله ينورن قلوب المؤمنين ، ويحجب الله عز وجل نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ، والله يا أبا خالد لا يحبنا عبد ويتولانا حتى يطهر الله قلبه ، ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلماً لنا ، فإذا كان سلماً لنا سلمه الله من شديد الحساب ، وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر " .
وعن أبى عبدالله فى تفسير النور فى ( الآية 157) من الأعراف " النور في هذا الموضع على أمير المؤمنين والأئمة " .
وعن أبى جعفر فى ] نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [ ( الحديد : 28) يعنى إماماً تأتمون به.
وعن صالح بن سهل الهمدانى قال : قال أبو عبدالله فى قول اللهتعالى :] اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ[. فاطمة عليها السلام ] فِيهَا مِصْبَاحٌ [الحسن ] الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [الحسين ] الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [ فاطمة كوكب درى بين نساء أهل الدنيا ] يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ( إبراهيم رضي الله عنه ( لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ( لا يهودية ولا نصرانية ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [يكاد العلم ينفجر بها ] وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ [ إمام منها بعد إمام ] يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء [يهدى الله للأئمة من يشاء ]وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ [ (789[87]) .(2/170)
قلت : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ[ قال : الأول وصاحبه ( يَغْشَاهُ مَوْجٌ [الثالث ] مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ [الثانى ( بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [ معاوية لعنه الله وفتن بين أمية ] إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ[ المؤمن فى ظلمه فتنتهم ] لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا [ إماماً من ولد فاطمة عليها السلام ]فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ[ إمام يوم القيامة(790[88]) .
وقال فى قوله تعالى ] يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم [(791[89]) أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة . وعن على بن جعفر عن أخيه موسى مثله .
وعن أبى الحسن ] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [ ، (792[90]) قال : يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم ... " والله متم نوره : والله متم الإمامة ، والإمامة هي النور وذلك قوله عز وجل : ] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا[(793[91]) قال : النور هو الإمام .(2/171)
وفى " باب أن الأئمة هم أركان الأرض " (196-198) يروى الكاينى : عن أبى عبدالله : ما جاء به على آخذ به ، وما نهى عنه أنتهى عنه ، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد - صلى الله عليه وسلم ، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - الفضل على جميع من خلق الله عز وجل ، المتعقب عليه في شىء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله ، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله . كان أمير المؤمنين باب الله الذى لا يؤتى إلا منه ، وسبيله الذى من سلك بغيره هلك ، وكذلك يجرى لأئمة الهدى واحداً بعد واحد ، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها ، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى ، وكان أمير المؤمنين كثيراً ما يقول : أنا قسيم الله بين الجنة والنار ، وأنا الفاروق الأكبر ، وأنا صاحب العصا والميسم ، ولقد أقرت لى جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمدرضي الله عنه ، ولقد حملت على مثل حمولته وهى حمولة الرب ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى فيكسى ، وأدعى فأكسى ، ويستنطق وأستنطق فأنطق على حد منطقه ، ولقد أعطيت خصالاً ما سبقنى إليها أحد قبلى : علمت المنايا والبلايا والأنساب ، وفصل الخطاب ، فلم يفتنى ما سبقنى ، ولم يعزب عنى ما غاب عنى ، أبشر بإذن الله وأؤدى عنه ، كل ذلك من الله مكننى فيه بعلمه (794[92]).
وذكر الرواية السابقة أيضاً بطريق آخر ، وذكر مضمونها بطريق ثالث ، وفيها أن الأئمة " جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بهم ، والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى " .
ثم ذكر رواية مماثلة عن أبى جعفر ، وفيها أن الإمام علياً قال : " وإنى لصاحب الكرات (795[93]) ودولة الدول ، وإنى لصاحب العصا والميسم ، والدابة التي تكلم الناس " .(2/172)
وفى " باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته " ( ص 198-205) يذكر الكلينى فيما يرويه : إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل رضي الله عنه بعد النبوة ... فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله تعالى النبى صلى الله عليه وسلم فقال جل وتعالى ] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ[ (796[94]) فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وسلم علياً بأمر الله تعالى على رسم مما فرض الله . فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى ] وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ [(797[95]) فهى في ولد على خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبى بعد محمد ، فمن أين يختار هؤلاء الجهال الإمام المطهر من الذنوب ، والمبرأ من العيوب ، المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم ، نظام الدين ، وعز المسلمين ، وغيظ المنافقين ، وبوار الكافرين . الإمام واحد دهره ، لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضل الوهاب ، فمن ذا الذى يبلغ معرفة الإمام ، أو يمكنه اختياره .. راموا إقامة الإمام بعقول حائرة ناقصة ، وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلا بعداً ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ، ولقد راموا صعباً ، وقالوا إفكاً وضلوا ضلالاً بعيداً ، ووقعوا في الحيرة ، إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين .(2/173)
رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل بيته إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم ] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[ (798[96]) وقال عز وجل : ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [ (799[97]) وقال : ] مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ [إلى ] إِن كَانُوا صَادِقِينَ [(800[98]) .
وأن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدر لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يعى بعده بجواب ، ولا يحير فيه عن الصواب ، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار .
وفى " باب أن الأئمة ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عز وجل " ( ص 205 - 206 ) يذكر الكلينى خمس روايات منها :(2/174)
إن الإمام الباقر سئل عن قول الله تعالى : ] أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [ (801[99]) فكان جوابه : ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [ ، يقولون لأئمة الضلالة والدعاة إلى النار : هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا ] أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا . أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ [ يعنى الإمامة والخلافة . ]فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [ نحن الناس الذين عنى الله. ...] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [ (802[100]) نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين .
وفى " باب أن الأئمة هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه " ( ص 206 -- 207 ) يذكر ثلاث روايات .
وفى " باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة " ( ص 207 ) يذكر ثلاث روايات ، يحرف بها معانى بعض آى القرآن الكريم كما فعل في الباب السابق .
وفى " باب ما فرض الله - عز وجل ، ورسوله - صلى الله عليه وسلم . من الكون مع الأئمة" ( ص 208 - 210) ، يذكر سبع روايات ، روايتين أن الأئمة هم مراد الله تعالى من قوله : ] اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ[ (803[101]) .
وينسب خمساً من الروايات للرسول -صلى الله عليه وسلم ، فيزعم أنه قال : من سره أن يحيا حياتى ، ويموت ميتتى ، ويدخل الجنة . فليتول على بن أبى طالب وأوصياءه من بعده . وفى بعضها : لقد أتانى جبرائيل بأسمائهم ، وأسماء آبائهم ، وأحبائهم والمسلمين لفضلهم .(2/175)
وفى رواية أخرى : إلى الله أشكو أمر أمتى ، المنكرين لفضلهم ، القاطعين فيهم صلتى ، وأيم الله ليقتلن ابنى ، لا أنا لهم الله شفاعتى .
ونجد تحريف الكلينى لمعانى بعض آيات القرآن المجيد في الأبواب التالية " باب أن الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة " (ص 210-212) ثلاث روايات .
" باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هو الأئمة " ( ص 212 ، روايتان ) .
" باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة " ( ص 213 ، ثلاث روايات ) .
" باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم " ( ص 213 - 214خمس روايات ) .
" باب في أن من اصطفاه الله من عباده ، وأورثهم كتابه هم الأئمة " ( ص 214 -215 ، أربع روايات ) .
" باب أن القرآن يهدى للإمام " ( ص 216 ، روايتان ) .
" باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة " (ص 217، أربع روايات ) .
" باب أن المتوسمين الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه هم الأئمة والسبيل فيهم مقيم " ( ص 218-219، خمس روايات ) .
ويذكر الكلينى روايتين في " باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان : إمام يدعو إلى الله ، وإمام يدعو إلى النار " ( ص 215-216) وأولى الروايتين هي :
عن أبى حعفر : لما نزلت هذه الآية " ] يَوْمَ نَدْعُو كلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [ (804[102]) قال المسلمون : يا رسول الله ، ألست إمام الناس كلهم أجمعين ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ، ولكن سيكون من بعدى أئمة على الناس من الله من أهل بيتى ، يقدمون فى الناس فيكذبون ، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم ، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو منى ومعى وسيلقانى ، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس منى ولا معى ، وأنا منه برىء .
وفى" باب عرض الأعمال على النبى صلى الله عليه وسلم والأئمة " ( ص 219- 220) يذكر ست روايات منها :(2/176)
عن عبدالله بن أبان الزيات ، وكان مكينا عند الرضا قال : قلت للرضا : ادع الله لى ولأهل بيتى ، فقال : أو لست أفعل ؟ والله إن أعمالكم لتعرض على في كل يوم وليلة قال : فاستعظمت ذلك ، فقال لى : أما تقرأ كتاب الله عز وجل ] وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [ (805[103]) قال : هو والله على بن أبى طالب (806[104]) .
وفى " باب أن الطريقة التي حث على الاستقامة عليها ولاية على " ( ص 220) ، يذكر روايتين .
وفى " باب أن الأئمة معدن العلم ، وشجرة النبوة ومختلف الملائكة " ( ص 221 ) يذكر ثلاث روايات .
وفى " باب أن الأئمة ورثة العلم ، يرث بعضهم بعضاً العلم " ( ص 221 ـ 223 ) يذكر ثمانى روايات .
وفى " باب أن الأئمة ورثوا علم النبى وجميع الأنبياء والأوصياء ، الذين قبلهم " ( ص 223- 226) يذكر سبع روايات ، منها :
كتب الرضا : أما بعد ، فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان أمين الله في خلقه ، فلما قبض صلى الله عليه وسلم كنا أهل البيت ورثته ، فنحن أمناء الله في أرضه عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ، ومولد الإسلام (807[105]) ، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان ، وحقيقة النفاق . وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق ، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا ، ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم ... ] كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ [ ( من أشرك بولاية على ) ] مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [ ( من ولاية على ) إن الله ( يا محمد ) ] وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ[ (808[106]) . من يجيبك إلى ولاية على .(2/177)
عن أبى الحسن الأول (809[107]) أن الله يقول : ] وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [ (810[108]) ، ثم قال :] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [ (811[109]) فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل ، أورثنا هذا الذى فيه تبيان كل شىء (812[110]) .
وفى " باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها " ( ص 227 - 228) يذكر روايتين تفيدان معنى الباب .
ويذكر الكلينى ست روايات في " باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة ، وأنهم يعلمون علمه كله " ( ص 228-229) . والجزء الأول من الباب يتفق مع ما ذكرناه من ذهاب الكلينى إلى وقوع النقص في كتاب الله تعالى ، والجزء الأخير يذكرنا بما قلنا عن القرآن الناطق (813[111]) .
وفى " باب ما أعطى الأئمة من اسم الله الأعظم " ( ص 230) يذكر ثلاث روايات تفيد أن الذى أحضر عرش بلقيس كان عنده حرف واحد من اسم الله الأعظم ، وهو ثلاثة وسبعون حرفا ، على حين أن أئمة الجعفرية عندهم اثنان وسبعون ، واستأثر الله سبحانه بحرف واحد .
وفى " باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء " (ص 231-232) يذكر خمس روايات هي : عن أبى جعفر : كانت عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب ، ثم صارت إلى موسى بن عمران ، وإنها لعندنا ، وإن عهدى بها آنفا وهى خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرتها ، وإنها لتنطق إذا استنطقت ، أعدت لقائمنا يصنع بها ما كان يصنع موسى ، وإنها لتروع وتلقف ما يأفكون ، وتصنع ما تؤمر به ، إنها حيث أقبلت تلقف ما يأفكون . يفتح لها شعبتان : إحداهما في الأرض والأخرى في السقف وبينهما أربعون ذراعا ، تلقف ما يأفكون بلسانها .
وعن أبى عبدالله : ألواح موسى عندنا ، وعصا موسى عندنا ، ونحن ورثة النبيين .(2/178)
وعن أبى عبدالله : قال أبو جعفر : إن القائم إذا قام بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه : ألا لا يحمل أحد منكم طعاما ولا شرابا ، ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير ، فلا ينزل منزلا إلا انبعث عين منه ، فمن كان جائعا شبع ، ومن كان ظامئا روى ، فهو زادهم حتى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة.
وعن أبى جعفر : خرج أمير المؤمنين ذات ليلة بعد عتمة وهو يقول : همهمة همهمة وليلة مظلمة ، خرج عليكم الإمام وعليه قميص آدم ، وفى يده خاتم سليمان ، وعصا موسى .
والرواية الأخيرة تبين أن قميص يوسف جاء إبراهيم من الجنة ، فحماه من النار ، وأن هذا القميص عندهم من الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفى " باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتاعه " ( ص232-237) يذكر تسع روايات تفيد أن الأئمة عندهم كل ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم. وفى بعض الروايات أن من هذا المتاع ما هو من الجنة ، وفى رواية عن أمير المؤمنين أن رسول صلى الله عليه وسلم كلمه حماره قائلاً : " بأبى أنت وأمى : إن أبى حدثنى ، عن أبيه عن جده ، عن أبيه ، أنه كان مع نوح في السفينة ، فقام إليه نوح فمسح على كفله ، ثم قال : يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم . فالحمد لله الذى جعلنى ذلك الحمار " (814[112]) .
وفى " باب أن مثل سلاح رسول الله مثل التابوت في بنى إسرائيل " ( ص 238) ذكر أربع روايات ، وهى تفيد أن أى أهل بيت وجد التابوت على بابهم أوتوا النبوة ، ومثلهم من صار إليه السلاح ، فإنه يؤتى الإمامة .
وفى " باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة " ( ص 238 ـ 242) ذكر الكلينى ثمانى روايات هي :(2/179)
1- عن أبى بصير قال : دخلت على أبى عبدالله رضي الله عنه فقلت له : جعلت فداك إننى أسألك عن مسألة ، ههنا أحد يسمع كلامى ؟ قال : فرفع أبو عبدالله رضي الله عنه سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال : يا أبا محمد سل عما بدا لك . قال : قلت : جعلت فداك إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم عليا رضي الله عنه باباً يفتح له منه ألف باب ؟ قال : فقال يا أبا محمد ، علم رسول صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ألف باب يفتح من كل باب ألف باب . قال : قلت هذا والله العلم . قال : فنكث ساعة في الأرض ثم قال : إنه لعلم وما هو بذاك .
قال : ثم قال : يا أبا محمد ، وإن عندنا الجامعة ، وما يدريهم ما الجامعة ؟ قال : قلت : جعلت فداك وما الجامعة ؟ قال : صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإملائه من فلق فيه ، وخط على بيمينه ، فيها كل حلال وحرام وكل شىء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش . وضرب بيده إلى فقال : تأذن لى يا أبا محمد ؟ قال : قلت : جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت ، قال : هذا والله العلم ، قال : إنه لعلم وليس بذاك .
ثم سكت ساعة ثم قال : وإن عندنا الجفر ، وما يدريهم ما الجفر ؟ قال : قلت : ومال الجفر ؟ قال وعاء من أدم ، فيه علم النبيين والوصيين ، وعلم العلماء الذين مضوا من بنى إسرائيل ، قال : قلت إن هذا هو العلم ، قال : إنه لعلم وليس بذاك . ثم سكت ساعة ثم قال : وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة رضي الله عنه ؟ قال : قلت : وما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال : قلت هذا والله العلم ، قال : إنه لعلم وما هو بذاك .
ثم سكت ساعة ثم قال : إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، قال : قلت : جعلت فداك هذا والله أعلم . قال : إنه لعلم وليس بذاك .(2/180)
قال : قلت : جعلت فداك فأى شئ العلم ؟ قال : ما يحدث بالليل والنهار ، الأمر من عبدالأسر ، والشىء بعد الشىء إلى يوم القيامة .
2- عن حماد بن عثمان قال : سمعت أبا عبدالله رضي الله عنه يقول : تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة ، ذلك أننى نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام قال : قلت : وما مصحف فاطمة ؟ قال : إن الله تعالى لما قبض نبيه عليه الصلاة والسلام دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لايعلمه إلا الله عز وجل ، فأرسل الله إليها ملكا يسلى غمها ويحدثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال : إذ أحسست بذلك وسمعت الصوت ، فقولى لى . فأعلمته بذلك ، فجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا . قال : ثم قال : أما إنه ليس فيه شىء من الحلال والحرام ، ولكن فيه علم ما يكون .
3-عن الحسن بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول : إن عندي الجفر الأبيض: قلت : فأي شىء فيه ؟قال: زبور داود،وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى، ومصحف إبراهيم رضي الله عنه، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلي أحد، حتى فيه الجلدة، ونصف الجلدة ، وربع الجلدة، وأرش الخدش .
وعندى الجفرالأحمر، قال: قلت: وأي شئ في الجفر الأحمر؟ قال السلاح، وبذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل . فقال له عبد الله بن أبي يعفور : أصلحك الله أيعرف هذا بنو الحسن؟ فقال : أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل ، والنهارأنه نهار ، ولكنهم يحملهم الحسد على الجحود والإنكار ، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيراً لهم .(2/181)
4- عن سليمان بن خالد قال: قال أبوعبدالله : إن في الجفرالذين يذكرونه لما يسوؤهم، لأنهم لا يقولون الحق(815[113]) والحق فيه، فليخرجوا قضايا على وفرائضه إن كانوا صادقين، وسلوهم عن الخالات والعمات ، وليخرجوا مصحف فاطمة عليها السلام، فإن فيه وصية فاطمة عليها السلام ، ومعه سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم?وإن الله عز وجل يقول: ( فأتوا بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( (816[114]) .
5-عن أبى عبد الله :هو(آي الجفر) جلد ثور مملوء علما، قال له فالجامعة ؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضية إلا وهى فيها ، حتى أرش الخد ش.
إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وسبعين يوما ، وكان داخلها حزن شديد على أبيها ، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها ، ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها ، وكان على يكتب ذلك،فهذا مصحف فاطمة.
6-عن أبى عبدالله قال : إن عندنا كتابا إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلموخط على صحيفة فيها كل حلال وحرام.
7-عبدالملك بن أعين قال لأبى عبدالله : إن الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبدالله فهل له سلطان ؟ فقال : والله إن عندى لكتابين فيهما تسمية كل نبى وكل ملك يملك الأرض ، لا والله مامحمد بن عبدالله في واحد منهما.
8-كتاب فاطمة : ليس من ملك يملك الأرض إلا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه، وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا .
وفي" باب في أن الأئمة يزدادون في ليلة يوم الجمعة " (ص 253-254 ) يذكر ثلاث روايات عن أبى عبدالله منها :
إذا كان ليلة الجمعة وافي رسول الله صلى الله عليه وسلم - العرش ووافي الأئمة معه ووافينا معهم ، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأفقدنا .(2/182)
وفي " باب لولا أن الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم " ( ص254 -255) يذكرأربع روايات . ويذكر أربع روايات كذلك تحت " باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التى خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل " (ص 255-256 )
وفى "باب نادر فيه ذكر الغيب " ( 256 -257) يذكر أربع روايات ، منها رواية تعجب لوجودها في هذا الكافى ، وهى :
عن أبى عبدالله : " يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل . لقد هممت بضرب جاريتى فلانة فهربت منى ، فما علمت في أى بيوت الدار هي " .
كلمة حق جرى بها قلم لا يعرف الحق ، لذا كان عجيبا ، ولكن سرعان ما زال هذا العجب ، فالراوية التالية عن نفس الإمام أنه سئل " الإمام يعلم الغيب ؟ فقال : لا ولكن إذا أراد أن يعلم الشئ أعلمه الله ذلك "
فالكلينى إذن لم يذكر الراوية الأولى للأخذ بها ، ولكن ليهدم هذا المعنى المستقر في أخلاد المؤمنين ببيان أن الأئمة لا يعلمون الغيب إلا بإرادتهم عن طريق الله سبحانه ، فما أهون أن يعلم مكان الجارية إذا أراد ! والأبواب التالية توضح ما أراده الكلينى :
" باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا " ( ص 158) فيه ثلاث روايات .
" باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم " ( ص 258 -260) فيه ثمانى روايات .
" باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون ، وأنه لا يخفى عليهم الشىء " ( ص 260-262) فيه ست روايات .
" باب جهات علوم الأئمة " ( ص264) فيه ثلاث روايات تفيد أن هذه الجهات هي الوارثة والإلهام .
" باب أن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه " ( ص 264-265) فيه روايتان .
وفى " باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه علما إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم " ( ص362) يذكر ثلاث روايات .
وفى " باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى الأئمة في أمر الدين ( ص 265-268) يذكر عشر روايات .(2/183)
وفى " باب في أن الأئمة بمن يشبهون ممن مضى ، وكراهية القول فيهم بالنبوة " (817[115]) (ص 268-270) ، يذكر سبع روايات .
وفى " باب أن الأئمة محدثون مفهمون " ( ص 270-271) يذكر خمس روايات .
وفى " باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة " (ص 271- 272) يذكر ثلاث روايات تفيد أن هذه الأرواح خمس : روح الإيمان وروح القوة ، وروح الشهوة ، وروح الحياة ، والخامسة روح القدس وهى خاصة بالأنبياء " فإذا قبض النبى صلى الله عليه وسلم - انتقل روح القدس فصار إلى الإمام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو ، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو وروح القدس كان يرى به " (818[116]) .
وفى " باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة " ( ص 273-274) يذكر ست روايات ، منها أن الإمام الصادق قال عن قوله تعالى ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [ (819[117])
قال : " خلق من خلق الله - عز وجل - أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعده "
ومنها أن الإمام الصادق قال : ما سبق أيضاً عن قوله تعالى ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ (820[118]) وأنه كذلك قال : منذ أنزل الله عز وجل ذلك الروح على محمد صلى الله عليه وسلم ما صعد إلى السماء وأنه لفينا .
وفي " باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الذي كان قبله " (ص274-275) يذكر ثلاث روايات .
وفي " باب أن الأئمة في العلم والشجاعة والطاعة سواء"(ص275) يذكر ثلاث روايات ويحرف معنى آية كريمة .(2/184)
وفي " باب أن الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده، وأن قول الله تعالى ] إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ (821[119]) فيهم عليهم الصلاة والسلام نزلت " ( ص 276 ـ 277 ) يذكر سبع روايات ، ويحرف معنى آيات أخريات :
وفى " باب أن الإمامة عهد من الله عزوجل معهود من واحد إلى واحد " ( ص 277 ـ 279 ) ، يذكر أربع روايات منها :
عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله فذكر الأوصياء وذكرت إسماعيل فقال :لاوالله يا أبا محمد ، ما ذاك إلينا ، وما هو إلا إلي الله عز وجل ، ينزل واحد بعد واحد(822[120]) .
وفي " باب أن الأئمة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلا بعهد من الله عز وجل ، وأمر منه لا يتجاوزونه "(ص279-284) يذكر أربع روايات مطولة ، والكلينى هنا يخرج لنا بطريقة جديدة في الافتراء على الله عز وجل ، فالروايات تفيد أن جبرئيل - رضي الله عنه - نزل على محمد- صلى الله عليه وسلم - بكتاب كل إمام يفك خاتما ، وينفذ ما بالجزء الذى يخصه من الكتاب .
ومن هذه الروايات :
عن أبي عبد الله : أن الوصية نزلت من السماء على محمد كتابا(823[121]) لم ينزل على محمد كتاب مختوم إلا الوصية ، فقال جبرئيل : يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أى أهل بيتى يا جبرئيل ؟ قال : نجيب الله منهم وذريته ، ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم رضي الله عنه ، وميراثه لعلى وذريتك من صلبه . قال : وكان عليها خواتيم ، قال ففتح على الخاتم الأول ومضى لما فيها ، ثم فتح الحسن الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها ، فلما توفي الحسن فتح الحسين الخاتم الثالث فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتقتل واخرج بأقوام للشهادة ،لا شهادة لهم إلا معك ، قال : ففعل ... إلخ .(2/185)
ومنها ... وأن الحسين قرأ صحيفته التى أعطيها ، وفسر له ما يأتى بنعى وبقى فيها أشياء لم تقض ، فخرج للقتال ..وكانت تلك الأمور التى بقيت أن الملائكة سألت الله تعالى في نصرته فأذن لها، ومكثت تستعد للقتال وتتأهب لذلك حتى قتل ، فنزلت وقد انقضت مدته وقتل ، فقالت الملائكة : يارب أذنت لنا في الانحدار وأذنت لنا في نصرته ، فانحدرنا وقد قبضته ، فأوحى الله إليهم : أن الزموا قبره حتى تروه قد خرج فانصروه ، وابكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته ، فإنكم قد خصصتم بنصرته وبالبكاء عليه ، فبكت الملائكة تعزيا وحزنا على ما فاتهم من نصرته ، فإذا خرج يكونون أنصاره .
وفي " باب الأمور التى توجب حجة الإمام (ص284-285) يذكر ست روايات تفيد أن الأمور هي : الفضل ، والوصية والسلاح وأن يكون الإمام أكبر ولد أبيه ما لم يكن فيه عاهة كإسماعيل بن جعفر . ومن هذه الروايات : الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ، ولا طير ولا بهيمة ،ولا شئ فيه الروح ، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام . وفي " باب ثبات الأمانة في الأعقاب ، وأنها لاتعود في أخ ولا عم ولا غيرهما من القرابات (ص285-286) يذكر خمس روايات ، ويستثنى الحسين من عدم العودة في الأخ .
وفي " باب ما نص الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على الأئمة واحدا فواحدا " (ص 286-292) يذكر سبع روايات وفي إحداها إبطال إمامة محمد بن الحنفية .
وفي " باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين "(ص292-297) يذكر تسع روايات ، وفيها تحريف لبعض آى القرآن الكريم نصا ومعنى ، وفيها تخطئة وإنكار لنص آيه كريمة ، وتعريض بالشيخين : الصديق والفاروق رضى الله تعالى عنهما ، وبأنهما ارتدا.. إلخ .(2/186)
ويعقد الكليني بعد هذا أحد عشر بابا كل باب للإشارة والنص على أحد الأئمة بحسب الترتيب الزمني إلى أن يصل إلي الإمام الثاني عشر في باب الإشارة والنص إلي صاحب الدار في(ص329) ويضمن هذه الأبواب ثلاثة وتسعين رواية ؟ !
وبعد الباب الأخير يأتي " باب في تسمية من رآه " (ص329-332) يذكر خمس عشرة رواية لتسمية من رأى إمامهم الأخير .
وباب في النهى عن الاسم (ص332-333) يذكر أربع روايات وفيها : لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه .
" وباب نادر في حال الغيبة " (ص333-335) فيه ثلاث روايات .
" وباب في الغيبة "(ص335-343) يذكر الكليني فيه إحدى وثلاثين رواية يستفاد منها أن إمامهم الثاني عشر يشهد المواسم ويرى الناس ولا يرونه . وأن له غيبتين ...إلخ . وفي بعض الروايات تحريف لمعاني آيات من القرآن الكريم ، وفي بعض التحريف تحديد لزمن الغيبة ، ففي قوله تعالى " فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس" (824[122]) يروى روايتين أن المراد هو " إمام يخنس سنة ستينومائتين " (825[123]) .
وفي" باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة " (ص343 - 367 ) يذكر تسع عشرة رواية منها :
رواية بطريقين عن أبي جعفر : أن محمد بن على المسمى بابن الحنفية طلب من على بن الحسين بعد استشهاد أبيه الحسين ألا ينازعه في الإمامة لأنه أحق بها. ولكن عليا خوف عمه من عقاب الله تعالى ، وطلب الاحتكام للحجر الأسود ، فسأل ابن الحنفية الحجر فلم يجبه ، فقال على بن الحسين لو كنت إماما لأجابك ، ثم سأل على الحجر فتحرك حتى كاد أن يزول عن موضعه ، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين ، وشهد بأن الوصية لعلى(826[124]) .
وفي رواية عن موسى بن جعفر أنه أثبت إمامته لمن طلب الإثبات بأن أمر شجرة لتأتيه ، فجاءت تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه ، ثم أشار إليها فرجعت (827[125]) .
وعن محمد بن على الرضا : أن عصا في يده نطقت وقالت : إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة (828[126]).(2/187)
وفي " باب كراهية التوقيت " ( ص 368-369) يذكر سبع روايات ، الأولى هي :-
عن أبي جعفر: إن الله تبارك وتعالى قد كان وقت هذا الأمر في السبعين ، فلما أن قتل الحسين اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة ، فحدثناكم فأذعتم الحديث ، فكشفتم قناع الستر ، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب .
وفي رواية : إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله ، وإذا حد ثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين (829[127]) .
وفي " باب التمحيص والامتحان " (ص369-371) يذكر ست روايات .
وفي " باب من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر" (ص371-372) يذكر سبع روايات وفي" باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ، ومن جحد الأئمة أو بعضهم ، ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل " (ص372-374) يذكر اثنتي عشرة رواية ، وهذه الروايات يستفاد منها أن غير أئمة الجعفرية الرافضة كفار وإن كانوا فاطميين علويين ، ومن تبعهم كان مشركا بالله. وفي الروايات تحريف لمعانى آيات ذكرت ، وتكفير لفلان وفلان ، أي الصديق والفاروق - ومن والاهما ، وقاعدة عامة لظاهر القرآن وباطنه " وأن القرآن له ظهر وبطن ، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق " .
وفي " باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى " (ص376-377) يذكر أربع روايات تفيد أنه يموت ميتة جاهلية .
وفي " باب فيمن عرف الحق من أهل البيت ومن أنكر " (ص377-378) يذكر أربع روايات منها :
عن الرضا: الجاحد منا له ذنبان، والمحسن له حسنتان .
وفي " باب ما يجب على الناس عند مضى الإمام ( ص 378-380 ) يذكر ثلاث روايات .
وفي " باب أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه " (ص380-382) يذكر ست روايات .(2/188)
وفي " باب حالات الأئمة في السن "(ص382-384) يذكر ثماني روايات .
وفي " باب أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة " (830[128]) (ص384-385) يذكر ثلاث روايات .
وفي " باب مواليد الأئمة (ص385-389) يذكر ثماني روايات منها : عن أبي عبد الله : إن الله تبارك وتعالى إذا أحب أن يخلق الإمام أمر ملكا فأخذ شربة من ماء تحت العرش فيسقيها أباه ، فمن ذلك يخلق الإمام ، فيمكث أربعين يوما وليله في بطن أمه لا يسمع الصوت . ثم يسمع بعد ذلك الكلام ، فإذا ولد بعث ذلك الملك فيكتب بين عينيه : " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " ( 115: الأنعام ) فإذا مضى الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق فبهذا يحتج الله على خلقه (831[129])
وفي الباب أكثر من راوية تفيد هذا المعنى باختلاف في مكان الكتابة .
وفي " باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم وقلوبهم "(ص389-390) يذكر أربع روايات منها :
عن أبي جعفر : إن الله خلقنا من أعلى عليين ، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا ، وخلق أبدانهم من دون ذلك ، فقلوبهم تهوى إلينا لأنها خلقت مما خلقنا ، ثم تلا هذه الآية :] كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [ (832[130]) وخلق عدونا من سجين ، وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلك ، فقلوبهم تهوى إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ، ثم تلا هذه الآية ] كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ [ (833[131]) .
وفي " باب التسليم وفضل المسلمين " أى للأئمة (ص390-392) ، يذكر ثماني روايات .
وفي " باب أن الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم ، أن يأتوا الإمام فيسألون عن معالم دينهم ، ويعلمونه ولا يتهم ومودتهم له " (ص392-393) يذكر ثلاث روايات منها :(2/189)
نظر أبو جعفر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال : هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية ، إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا يعلمونا ولا يتهم ومودتهم ، ويعرضوا علينا نصرتهم .
ومنها أنه نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حلق في المسجد فقال : هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين ، إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم ، فجال الناس فلم يجدوا أحدا يخبرهم عن الله تبارك وتعالى ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي " باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم ، وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار " (ص393-394) ، يذكر أربع روايات .
وفي " باب أن الجن يأتيهم : فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم " (ص394-397) يذكر سبع روايات تفيد معنى الباب ، وأن بعض الناس رأوا الجن يخرجون من عند الأئمة ، وفي رواية : إن ثعبانا جاء وأمير المؤمنين يخطب ، فأمر بعدم قتله ، وصعد الثعبان إليه فقال أمير المؤمنين من أنت ؟ فقال الثعبان : عمرو بن عثمان خليفتك على الجن ، وإن أبي مات ، وأوصاني أن آتيك فأستطلع رأيك ..إلخ .
وفي " باب في الأئمة أنهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود(834[132]) ولا يسألون البينة " ص (397-398) يذكر خمس روايات .
وفي " باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد صلى الله عليه وسلم " (ص398-399) يذكر روايتين .
وفي " باب أنه ليس شىء من الحق في يد ا لناس إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شىء لم يخرج من عندهم فهو باطل " (ص399-400 ) .
يذكر ست روايات .
وفي " باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستعصب " (ص401-402 ) يذكر خمس روايات .
وفي " باب ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لأئمة المسلمين ، و اللزوم لجماعتهم ومن هم ؟ " (ص403-405) يذكر خمس روايات تؤيد فرقته الرافضة .(2/190)
وفي " باب ما يجب من حق الإمام على الرعيه وحق الرعيه على الإمام " (ص405-407) يذكر سبع روايات .
وفي " باب أن الأرض كلها للإمام " (407-410) يذكر ثماني روايات تفيد معنى الباب ، وأن الله تعالى أورث أئمة الجعفرية الأرض كلها ، فأداءالخراج يجب أن يكون لهم .
ومما جاء في " باب نادر" (ص411-412) : عن جابر عن أبي جعفر قال : قلت له : لم سمى أمير المؤمنين ؟ قال : الله سماه وهكذا أنزل في كتابه :
] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ[ وأن محمداً رسولى وأن علياً أمير المؤمنين ؟ (835[133]) .
وفي " باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية " (ص412-436) ، يذكر الكلينى اثنتين وتسعين رواية : ويبدو من العنوان أن الكلينى أراد هنا أن يخضع كتاب الله لهواه ، فيحرف معناه ليؤيد عقيدته في الإمامة ، أراد إذا أن يجعل آيات الله تعالى تتحدث عن أئمة الجعفرية . ولكن الكلينى لم يكتف بهذا فسلك مسلك شيخه على بن إبراهيم القمي صاحب التفسير الضال المضل الذي تحدثنا عنه ، ولذا ترى الكلينى هنا يحرف نصوص آيات قرآنية ، ويطعن في الصحابة الكرام بصفة عامه ، فيصمهم بالكفروالردة والنفاق ، ويطعن في الخلفاء الراشدين الثلاثة بصفة خاصة باعتبار أنهم - كما يفتري - اغتصبوا الولاية من أمير المؤمنين ، ويطعن في الشيخين بصفة أخص.
والروايات التى تحمل تحريف نصوص الآيات الكريمة هي الروايات أرقام 8، 23، 25، 26، 27، 28، 31، 32، 43، 47، 48، 58، 59، 60، 62، 63، 64، 91 .
والطعن في الصحابة الكرام البررة في أكثر الروايات ، أما الروايات التي تطعن في الخلفاء الراشدين الثلاثة فهي أرقام :17، 42، 73، 83 .
والروايات التى تطعن في أبي بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما -هي :3 ، 14، 43، 79 .
ونكتفى هنا بذكر رواية واحدة من روايات الباب ، وهي الرواية رقم 91 (ص442-435) وهي :(2/191)
عن محمد بن الفضيل عن إمامهم الحادى عشر :
قال : سألته عن قول الله عز وجل ] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [ قال : يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم . قلت ] وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [قال : والله متم الإمامه لقوله عز وجل ] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [ فالنور هو الإمام : قلت ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [ قال : هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هي دين الحق ، قلت: ] لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ قال: يظهر على جميع الأديان عند قيام القائم ، قال الله : ] وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [ولاية القائم ] وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[بولاية على ، قلت : هذا تنزيل ؟ قال : نعم أما هذا الحرف فتنزيل وأما غيره فتأويل .
قلت : ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [ قال : إن الله تبارك وتعالى سمى من لم يتبع رسوله في ولاية وصيه منافقين ، وجعل من جحد وصية إمامته كمن جحد محمدا ، وأنزل بذلك قرآنا : يا محمد ] إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ [ ( بولاية وصيك ) قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين ( بولاية على) لكافرون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ( والسبيل هو الوصي) إنهم ساء ما كانوا يعملون . ذلك بأنهم آمنوا ( برسالتك) وكفروا ( بولاية وصيك ) فطبع( الله ) على قلوبهم فهم لا يفقهون " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله " قال: وإذا قيل لهم ارجعوا إلى ولاية على يستغفر لكم النبي من ذنوبكم " لووا رءوسهم " قال الله " ورأيتهم يصدون : (عن ولاية على ) وهم مستكبرون " عليه . ثم عطف القول من الله بمعرفته بهم فقال .(2/192)
] سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [ يقول الظالمين لوصيك .
قلت : ] أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ قال : إن الله ضرب مثل من حاد عن ولاية على كمن يمشي على وجهه لا يهتدى لأمره وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم ، والصراط المستقيم أمير المؤمنين .
قال : قلت : ] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ[ قال يعنى جبرئيل عن الله في ولاية على قال : قلت : ] وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [ قال : قالوا : إن محمدا كذاب على ربه وما أمره الله بهذا في على فأنزل الله بذلك قرآنا فقال (إن ولاية على ) تنزيل من رب العالمين . ولو تقول علينا(محمد) بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " ثم عطف القول فقال : إن( ولاية على ) لتذكرة للمتقين ( العالمين ) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإن (عليا) لحسرة على الكافرين . وإن( ولايته) لحق اليقين . فسبح ( يا محمد) باسم ربك العظيم " يقول اشكر ربك العظيم الذي أعطاك هذا الفضل .
قلت : قوله : ] لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [ قال الهدى الولاية ، آمنا بمولانا فمن أمن بولاية مولاه ] فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا [ قلت : تنزيل قال : لا تأويل قلت : قوله ] لَا أَمْلِكُ لكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [ قال إن رسول الله دعا الناس إلى ولاية على فاجتمعت إليه قريش فقالوا : يا محمد اعفنا من هذا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2/193)