مضامين عقدية في قوله تعالى
ژ ک ک ک ک ژ
د. سليمان بن سالم السّحيمي
كلية الدّعوة وأصول الدين -الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
مقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد؛ فإن الله قد أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وقد رفع الله ذكره فلا يُذكر إلاّ ذُكر معه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وحباه الله وامتن عليه، وأكرمه بخصائص في الدنيا والآخرة دلت على علو شأنه ورفعة مكانته، فله الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود، وقد شرف الله قدره على سائر الخلائق، فهو سيد ولد آدم، وخير الخلق أرسل لخير أمة أخرجت للناس، فمن حق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن يعظم ويوقر ويجل، ولا يتم الإيمان إلا بذلك.
وما نسمعه بين الفينة والفينة من الاستهزاء به - صلى الله عليه وسلم - من أعداء الدين، فليس بغريب؛ فكم أُسيء إليه - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وأوذي، وليس ببدع من الرسل في ذلك، فقد كُذّبت الرسل وأُوذيت، واستُهزئ بهم وسُخر منهم، وهم صفوة الخلق؛ ليكون ذلك رفعاً لدرجاتهم، وعلوّاً لمنْزلتهم، وهذا أمر مشترك بين الرسل عليهم السلام من أعدائهم.
قال تعالى: ژ ٹ ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (يس: 30).
وقال تعالى: ژ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ژ (الحجر: 11).
وهذا التطاول على الجانب الشريف هو امتداد لنهج أسلافهم من الكفرة الملحدين السابقين، قال تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ژ (البقرة: 118).
والله منتقم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومنتصر له ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، قال تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ٹ ژ (الأنعام: 10)، وقال تعالى: ژ ? ٹ ٹ ژ (الحجر: 95).(1/1)
وإن مما غاظ المسلمين وآلمهم ما كتب في بعض صحف بعض بلاد الغرب، وما خطته بعض أيديهم الآثمة مما فيه استهزاء وسخرية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذه الوقاحة وهذه الشناعة في حقه - صلى الله عليه وسلم - قد استنكرها المسلمون عامة، مما يدلّ على أنّ محبّة النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقرّة في النفوس، وأنهم على استعداد تام لفداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنفس والمال والولد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( ولا ريب أن من أظهر سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم، وأخذ أموالهم، فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله ))(1).
ولسان حالهم يردد قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ....... ... وعند الله في ذاك الجزاء ..........
هجوتَ مباركاً برّاًحنيفاً .......... ... أمين الله شيمته الوفاء .............
فإن أبي ووالده وعرضي ........... ... لعرض محمد منكم وقاء(2) .........
وقد أيقظ هذا الفعل -مع ألمه في قلوب الأمة -الغيرة والحمية والوحدة والعزة، قال تعالى: ژ پ پ ? ?? ? ? ? ? ژ (النور: 11).
وإن من تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وتوقيره: نصرته والذب عنه؛ ((فإن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرض علينا؛ لأنه من التعزير المفروض، ولأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله))(3).
ولذا أحببت أن أشارك بجهد المقلّ في بيان حال من طعن أو تنقص الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من خلال قوله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ (الكوثر: 3).
__________
(1) الصارم المسلول (20).
(2) ديوان حسان بن ثابت (1/18).
(3) الصارم المسلول (209).(1/2)
وكما يقول السبكي رحمه الله: ((وليس لي القدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون، والله يعلم إني كاره منكر، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ههنا، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم، وأسأل الله عدم المؤاخذة))(1).
وقد أسميته: مضامين عقدية في قوله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ.
? أولاً: معنى الشانئ
جاء في اللسان: شنأ: الشَّنَاءَة مثل الشناعة البغض. شَنِئَ الشيءَ وشنَأَه: أبغضه.
يقال: شَنأً وشُنأً وشِنأً، وشَنْأة، ومَشْنأً ومشنأةً وشنَآناً وشنْآناً، بالتحريك والتسكين: أبغضه.
ورجل شَناءَةٌ وشنائية: مُبغَض سيئ الخُلُق، وشُنِئَ الرجل فهو مشنوء: إذا كان مُبغَضاً.
وتشانؤوا أي: تباغضوا، وفي التنْزيل: ژ ک ک ک ک ژ، قال الفراء: قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ژ ک ک ژ أي: مُبغِضك وعدوّك هو الأبتر.
والشانئ: المبغض، والشَّنء والشِّنء: البِغضة.
وفي قوله تعالى: ژ ? ? ? ? ژ (المائدة: 2)، يقال: الشّنَآن-بتحريك النون – والشّنْآن -بإسكان النون -: البِغضة(2).
ويكون في معنى الشناءة والبغض: الطعن والسب والاستهزاء.
فالطعن: الضرب بالرمح، واستعير للوقيعة(3)، يقال: طعن فيه وعليه أي: عابه(4).
والسب: الشتم وهو قبيح الكلام(5)، ووصف الغير بما فيه ازدراء(6).
والاستهزاء: السخرية؛ يقال: هزي به، ومنه، وهزأ يهزأ، وتهزأ، واستهزأ به: سخر(7).
__________
(1) السيف المسلول (91-92).
(2) انظر: لسان العرب مادة (شنأ)، وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي (3/348).
(3) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (483).
(4) انظر: لسان العرب مادة (طعن).
(5) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/330)، ولسان العرب مادة (سب) و(شتم).
(6) التوقيف للمناوي (395، 424)، والتعريفات للجرجاني (125).
(7) انظر: لسان العرب مادة (هزأ).(1/3)
يقول ابن حزم رحمه الله: ((وكذلك علمنا بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم مستخف بالمشتوم، مستهزئ به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد)) (1).
ولا يكون الطعن والسب والاستهزاء إلا من مبغض عدو خبيث.
قال الغزالي رحمه الله: ((إن السبّ والفحش وبذاءة اللسان مذموم ومنهي عنه، ومصدره الخبث واللؤم ... والباعث عليه إما قصد الإيذاء، وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق، وأهل الخبث، واللؤم، ومن عادتهم السب))(2).
فالشانئ: المبغض والعدوّ، وكل ساب، أو شاتم، أو طاعن، أو مستهزئ فهو شانئ ٌ مبغض.
? ثانياً: معنى الأبتر
الأبتر: من البَتْر، وهو: استئصال الشيء قطعاً.
يقال: بَتَرتُ الشيءَ بتراً: قطعته قبل الإتمام، والانبتار: الانقطاع.
وقيل: كل قطع بَتْر، يقال: بَتَرَه يَبتُره بَتْراً فانبتَر وتبتّر، والباتر: السيف القاطع.
والأبتر: المقطوع الذَّنَب -من أي موضع كان -من جميع الدواب(3)، ثم أجري قطع العقب مجراه فقيل: فلان أبتر، إذا لم يكن له عقب يخلفه.
ورجل أبتر: انقطع ذكره عن الخير، ورجل باتر: يقطع رحمه(4).
وقيل: خطبة بتراء: إذا لم يُذكر اسم الله تعالى فيها، ولا صُلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لحديث: ((كل أمر لا يُبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر))(5).
وقال الفيروز آبادي: الأبتر: المقطوع الذنب، وحيّة خبيثة... والمعدوم، والذي لا عقب له، والخاسر... وكل أمر منقطع من الخير(6).
وجاء في اللباب: قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال: من لا ولد له، ومن الدواب: الذي لا ذنب له، وكل من انقطع من الخير أثره فهو أبتر(7).
__________
(1) المحلى لابن حزم (11/412).
(2) إحياء علوم الدين للغزالي (3/130-131).
(3) لسان العرب مادة (بتر)، وانظر القاموس المحيط مادة (بتر).
(4) التوقيف للمناوي (113).
(5) مسند الإمام أحمد (2/359) .
(6) القاموس المحيط مادة (بتر).
(7) اللباب في علوم الكتاب لابن عادل الحنبلي (20/523).(1/4)
فالبتر إذاً: القطع، والأبتر: المنقطع الذي لا عقب له، أو الذي لا خير في أثره، أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته.
لقد ورد في سبب نزول قوله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ خمسة أقوال(1):
أحدها: أنّها نزلت في العاص بن وائل السهمي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في العاص بن وائل، لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب المسجد فوقف يحدثه حتى دخل العاص المسجد، وفيه أناس من صناديد قريش، فقالوا: من الذي كنت تحدث؟ قال: ذاك الأبتر، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر، فأنزل الله عز وجل هذه السورة(2).
وروى ابن إسحاق بسنده عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل السهمي إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوه فإنّما هو رجل أبتر لا عقب له، لو هلك انقطع ذكره، واسترحتم منه، فأنزل الله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ إلى آخر السورة(3).
وممن ذهب إلى أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي: سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وأكثر الروايات تنص على ذلك(4).
قال الرازي رحمه الله: ((وهذا قول ابن عباس، ومقاتل، والكلبي، وعامة أهل التفسير)) (5).
الثاني: أنّها نزلت في أبي جهل.
__________
(1) زاد المسير لابن الجوزي (8/332).
(2) انظر: أسباب النّزول للواحدي (399)، وتفسير الطبري (12/724).
(3) السيرة لابن هشام (1/393)، وانظر: أسباب النّزول للواحدي (400).
(4) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (8/333)، وتفسير الطبري (12/724-725).
(5) تفسير الفخر الرازي (32/132)، وانظر: فتح القدير للشوكاني (5/504).(1/5)
فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا: بتر فلان، فلما توفي إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج أبو جهل لأصحابه فقال: بتر محمد، فأنزل الله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ يعني أبا جهل))(1).
الثالث: أنّها نزلت في أبي لهب، قاله عطاء(2).
الرابع: أنّها نزلت في عقبة بن أبي معيط، قاله شمر بن عطية(3).
الخامس: أنّها نزلت في جماعة من قريش.
__________
(1) انظر تفسير القرطبي (20/151)، وتفسير الفخر الرازي (32/133)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/333)، واللباب في علوم الكتاب (20/524)، وفتح الباري لابن حجر (8/732).
(2) نكت القرآن للقصاب (4/556)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/133)، وانظر: تفسير الفخر الرازي (32/32)، وفتح القدير للشوكاني (5/503).
(3) انظر: تفسير الطبري (12/724-725)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/333)، وانظر: اللباب في علوم الكتاب (20/524)، وتفسير الفخر الرازي (32/133)، وتفسير القرطبي (20/151)، وفتح الباري لابن حجر (8/732).(1/6)
فقد روى ابن جرير الطبري بسنده وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة أتوه، فقالوا له: نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الصنبور(1) المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، فقال: بل أنتم خير منه، فنَزلت عليه: ژ ک ک ک ک ژ قال: وأنزلت عليه: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ژ إلى قوله: ژ ? ژ (النساء: 51 -52)(2).
وفي رواية عن عكرمة قال: لما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت قريش بتر محمد منا، فنَزلت: ژ ک ک ک ک ژ (3).
فهذه جملة الأقوال الواردة في سبب نزول قوله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ، ولا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك؛ فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك، ولعل العاص بن وائل أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه(4).
والآية عامة في أن من أبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المتصف بتلك الصفة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
__________
(1) الصنبور: هو الرجل الفرد الذي لا ولد له ولا أخ، وأصل الصنبور: سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض، وقيل: هي النخلة المنفردة التي يدق أسفلها، أرادوا أنه إذا قلع انقطع ذكره كما يذهب أثر الصنبور، لأنه لا عقب له، النهاية لابن الأثير (3/55).
(2) تفسير الطبري (12/725)، وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/593) من رواية البزار بهذا الإسناد، وقال إسناده صحيح، وانظر: السيوطي في الدرّ المنثور (2/306)، والصارم المسلول لابن تيمية (80)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/133).
(3) تفسير الطبري (12/725)، وتفسير القرطبي (20/151)، وتفسير الفخر الرازي (32/133).
(4) تفسير الفخر الرازي (32/133).(1/7)
قال الطبري رحمه الله بعد أن ساق الأقوال: ((وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن مبغض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأقل الأذل المنقطع، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص)) (1).
ويقول الشوكاني رحمه الله عند تفسيره للآية: ژ ک ک ک ک ژ: أي مبغضك هو المنقطع عن الخير على العموم، فيعم خيري الدنيا والآخرة، أو الذي لا عقب له، أو الذي لا يبقى ذكره بعد موته، وظاهر الآية العموم، وإن هذا شأن كل من يبغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينافي كون سبب النّزول هو العاص بن وائل، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب))(2).
وجاء في معنى ژ ک ژ قال الإمام البخاري: ((قال ابن عباس: (شانئك) عدوك)) (3).
فمعنى الآية: أن عدوك ومبغضك هو الأقل والأذل المنقطع دابره(4)، والمقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة(5).
((وقد اشتملت الآية على معان بليغة وأساليب بديعة:
منها: جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف والعياذ بالله بهذه الصفة القبيحة، وإن كان المراد به شخصاً معيناً لعيّنه الله.
ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفة به، من غير أن يؤثر فيه شيئا البتة؛ لأنّ من شنأ شخصاً قد يؤثر فيه شنؤه.
ومنها: تعريف الأبتر بـ(أل) المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة، كأنه قيل الكامل في هذه الصفة)) (6).
__________
(1) تفسير الطبري (12/726).
(2) فتح القدير للشوكاني (5/503).
(3) صحيح البخاري مع الفتح (8/732).
(4) معالم التنْزيل للبغوي (4/534).
(5) تفسير القرطبي (20/151).
(6) اللباب في علوم الكتاب (20/525).(1/8)
يقول الفخر الرازي رحمه الله: ((اعلم أنه تعالى لما بشره بالنعم العظيمة وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهوراً، لا جرم وعده بقهر العدو فقال: ژ ک ک ک ک ژ وفيه لطائف:
أحدها: كأنه تعالى يقول: لا أفعله لكي يرى بعض أسباب دولتك وبعض أسباب محنة نفسه فيقتله الغيظ.
وثانيها: وصفه بكونه شانئاً، كأنه تعالى يقول: هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك، والمبغض إذا عجز عن الإيذاء، فحينئذ يحترق قلبه غيظاً وحسداً، فتصير العداوة من أعظم أسباب حصول المحنة لذلك العدو.
وثالثها: أن هذا الترتيب يدل على أنه إنما صار أبتراً؛ لأنه كان شانئاً مبغضاً، والأمر بالحقيقة كذلك فإن من عادى محموداً فقد عادى الله تعالى، ولاسيما من تكفل الله بإعلاء شأنه وتعظيم مرتبته.
ورابعها: أن العدو وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بالقلة والذلة ونفسه بالكثرة والدولة، فقلب الله الأمر عليه، وقال: العزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فالكثرة والكوثر لمحمد عليه السلام، والأبترية والدناءة والذلة للعدو، فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف))(1).
__________
(1) تفسير الفخر الرازي (32/134).(1/9)
فكل من أبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أبغض ما جاء به من الهدي ودين الحق فله نصيب من البتر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسول الله من كل خير فيبتر ذكره، وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحاً لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً، ولا عوناً، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعماً، ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها، وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ورده لأجل هواه، أو متبوعه، أو شيخه، أو أميره، أو كبيره... وكل من شنأه له نصيب من الانبتار على قدر شناءته له، فهؤلاء لما شنؤوه وعادوه جازاهم الله بأن جعل الخير كله معادياً لهم، فبترهم منه، وخص نبيه - صلى الله عليه وسلم - بضد ذلك)) (1).
وذلك أن الشانئ مبغض وساب، وقد بين الله سبحانه و تعالى أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد، فيجب أن يبتر ويقطع، وهذا هو الجزاء المستحق لمن أظهر الشنآن كما يدل عليه ظاهر الآية.
__________
(1) مجموع الفتاوى (16/526-527)، والتفسير الكبير (7/45-46).(1/10)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وتحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانتبار على شنآنه، والاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلاً على أن المشتق منه علة لذلك الحكم، فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره، وذلك أخصّ ممّا تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد، والانبتار يقتضي وجوب قتله، بل يقتضي انقطاع العين والأثر... يوضح ذلك أن العقوبات التي شرعها الله نكالاً مثل قطع السارق ونحوه لا تسقط بإظهار التوبة، إذ النكال لا يحصل بذلك، فما شرع لقطع صاحبه وبتره ومحقه كيف يسقط بعد الأخذ؛ فإن هذا اللفظ يشعر بأن المقصود اصطلام صاحبه، واستئصاله واجتياحه، وقطع شنآنه، وما كان بهذه المثابة كان عما يسقط عقوبته أبعد من كل أحد، وهذا بيّن لمن تأمله)) (1).
قلت: وفي السب والشتم أذية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأذيته وتنقصه كفر، وقد جاء الوعيد الشديد والعذاب المهين لمن آذى الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ژ (الأحزاب: 57).
قال القاضي عياض رحمه الله في الحجة على إيجاب قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه: ((فمن الكتاب العزيز لعنة الله لمؤذيه في الدنيا والآخرة، وقرانه تعالى أذاه بأذاه، ولا خلاف في قتل من سب الله، وأنّ اللعن إنّما يستوجبه من هو كافر، وحكم الكافر القتل)) (2).
__________
(1) الصارم المسلول (457-458).
(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (407)، وانظر: الصارم المسلول لابن تيمية (42)، والسيف المسلول على من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للسبكي (105).(1/11)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: ((لما أمر الله تعظيم رسوله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أذيته، وتوعد عليها، فقال: ژ ? ? ? ? ? ژ وهذا يشمل كل أذية قولية أو فعلية من سب وشتم، أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعود عليه بالأذى؛ ژ ? ? ژ أي أبعدهم وطردهم، ومِنْ لَعِْنهِم في الدنيا، أنه يتحتم قتل من شتم الرسول، وآذاه؛ ژژ ژ ڑ ڑ ک ژ جزاء له على أذاه، أن يؤذى بالعذاب الأليم، فأذية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست كأذية غيره؛ لأنه لا يؤمن العبد بالله حتى يؤمن برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وله من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان ما يقتضي ذلك أن لا يكون مثل غيره)) (1).
والبغض والشتم لا يصدر إلا من حاقد مستهزئ، قال تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?چ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ژ (التوبة: 64 – 66).
وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر، وقد دلت الآية على كفر من تنقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جادّاً أو هازلاً فقد كفر (2).
قال القاضي عياض رحمه الله: ((قال أهل التفسير (كفرتم) بقولكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))(3).
وقد دلت السنة على قتل من سب أو تنقص النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ ومنها:
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (6/246).
(2) الصارم المسلول (31)، وانظر: الاستهزاء بالدين أحكامه وآثاره للقرشي (366).
(3) الشفا (408).(1/12)
ماجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنْزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتشتمه، فأخذ المغول(1)، فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ماهناك بالدم، فلما أصبح ذُُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمع الناس فقال: ((أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام)).
فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنْزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك، وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا اشهدوا أن دمها هدر))(2).
__________
(1) المغول شبه المشمل، نصله دقيق ماض، والمشمل: السيف القصير، سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل، أي يغطيه بثوبه، واشتقاق المغول من غاله الشيء واغتاله إذا أخذه من حيث لم يدر. انظر: معالم السنن للخطابي (3/296)، والصارم المسلول (68).
(2) سنن أبي داود (4/528-529)، ح(4361)، وسنن النسائي (7/107)، ح(3533)، والطبراني في المعجم الكبير (11/351)، ح(11984)، والحاكم في المستدرك (4/394) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال السبكي في السيف المسلول (274): وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3/824) ح(3665) وقال في إرواء الغليل (5/92) وإسناده صحيح على شرط مسلم.(1/13)
قال السندي رحمه الله: ((قوله: وكانت له أم ولد، أي: غير مسلمة، ولذلك كانت تجترئ على ذلك الأمر الشنيع... وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله))(1).
وعن علي - رضي الله عنه - : «أن يهودية كانت تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمها»(2).
وهذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودليل على قتل الرجل الذمي، وقتل المسلم والمسلمة إذا سبّا بطريق الأولى؛ لأن هذه المرأة كانت موادعة مهادنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة، ولم يضرب عليهم جزية، وهذا مشهور عند أهل العلم بمنْزلة المتواتر بينهم)) (3).
ومن الأدلة: قصة قتل كعب بن الأشرف اليهودي، كما في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من لكعب بن أشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ...)) الحديث(4).
ووجه الدلالة من القصة: أن كعب بن الأشرف كان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من أصحابه، ويتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به فقتله الصحابي الجليل محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - ، وقد كانت لكعب بن الأشرف مكائد عديدة:
__________
(1) حاشيته على سنن النسائي (7/108).
(2) سنن أبي داود (4/529-530)، ح(4362)، والسنن الكبرى للبيهقي (9/200)، وقال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (61): وهذا الحديث جيد، وقال الألباني في إرواء الغليل (5/91): أخرجه أبو داود وعنه البيهقي، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3) الصارم المسلول (62)، وانظر: السيف المسلول للسبكي (268).
(4) صحيح البخاري مع الفتح (6/184) ح(3031)، وصحيح مسلم مع النووي (12-403، 405).(1/14)
منها: تأليبه على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتهييج الكفار على قتاله.
ومنها: رثاؤه لقتلى المشركين.
ومنها: أنه أخبر عند ما زار الكفار في مكة بأن دينهم خير من دينه - صلى الله عليه وسلم - (1).
ولم يعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل كعب بن الأشرف من ذلك سوى أذيته لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واستعلانه بعداوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: ((فإنه لما ذهب إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى قتله، فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله، والحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث، فعلم أن ذلك الهجاء والأذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده ولقتله)) (2).
وقال أيضاً: ((قد دلّ هذا الحديث على أن أذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد، فيكون علة أخرى غير مجرد الكفر والردة، فإن ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على أنه علة، والأذى لله ورسوله يوجب القتل، ويوجب نقض العهد، ويوجب الردة)) (3).
وقال القاضي عياض رحمه الله عند استدلاله بهذا الحديث: ((وعلل قتله بأذاه له فدل أنه قتله إياه لغير الإشراك بل للأذى)) (4).
وقال السبكي رحمه الله بعد أن ساق روايات قصة ابن الأشرف: ((ووجه الاستدلال بها من وجوه:
__________
(1) انظر ذلك في فتح الباري (7/392)، والصارم المسلول (80)، والسيف المسلول للسبكي (248)، والاستهزاء بالدين للقرشي (37).
(2) الصارم المسلول (75-76).
(3) المصدر السابق (403).
(4) الشفا (409).(1/15)
أحدها: الاقتصار على ما في الصحيحين من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله)) وهو يقتضي التعليل بالأذى، فكل من آذاه وظهر أذاه يقتل، ولا شك أن الأذى أخص من الكفر كما قال تعالى: ژ ? ? ? ? ژ (التوبة: 61) فالتعليل في الحديث يقتضي أن كل من آذى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتل)) (1).
وقد نص ابن المنذر على القصة واستدل بهذا الحديث على وجوب قتل الساب(2).
والناظر في الأدلة من السنة يجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتل الساب لمجرد كونه كافراً غير معاهد، وإنما قتله لأجل السب مع كون السب مستلزماً للكفر والعداوة والمحاربة، وهذا القدر موجب للقتل حيث كان(3).
قال السبكي رحمه الله: ((والآيات والأحاديث دالة على قتل من يؤذيه مطلقاً من غير تفصيل بين المسلم والكافر)) (4).
__________
(1) السيف المسلول (245).
(2) الإشراف لابن المنذر (3/160).
(3) الصارم المسلول (169).
(4) السيف المسلول (291).
لكن قد يشكل على البعض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عفى عن بعض من سبه وآذاه، ولم يقم الحد على من تولى كبر حادثة الإفك مثلاً، والجواب من وجوه:
1- ... أنه كان محض حقه - صلى الله عليه وسلم - فله أن يعفو عنه، ولا يؤاخذ من أساء إليه، أو آذاه.
2- ... أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعفو عمّن أساء إليه؛ تأليفاً للقلوب على الإسلام، لئلاّ يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه.
3- ... أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعفو عمن ظلمه أو ينتقم، كل ذلك تبعاً للمصلحة، إلا أن العفو كان قبل (براءة) أكثر منه بعدها، أما بعد براءة فقد نسخ الحكم بالعفو والصبر، وأمر بجهاد الكفار والمنافقين، والإغلاظ عليهم.
انظر ذلك في: الشفا (411-413)، والصارم المسلول (153، 226-237)، والسيف المسلول (111-116)، والاستهزاء بالدين للقرشي (381).(1/16)
والنقول عن الأئمة متوافرة في كفر وقتل من شتم أو طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال القاضي عياض رحمه الله: ((اعلم -وفقنا الله وإياك -أن جميع من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه، أو نسبه، أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرض به، أو شبهه بشيء عن طريق السب له، أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب يقتل ... وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنّى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه عن طريق الذم، أو العيب في جهته العزيزة بسخف من الكلام، وهجر، ومنكر من القول وزور، أو غيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلمّ جرا)) (1).
وقال ابن المنذر رحمه الله ((وأجمع عوام أهل العلم على وجوب القتل على من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قول مالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن تبعهم)) (2).
وقال أيضاً: ((وأجمعوا على أن على من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل)) (3).
وقال محمد بن سحنون رحمه الله: ((أجمع العلماء على أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر)) (4).
__________
(1) الشفا (404).
(2) الإقناع لابن المنذر (2/584)، وانظر: الشفا (404)، والمحلى لابن حزم (11/415)، والصارم المسلول (3)، والسيف المسلول (96).
(3) الإجماع (153).
(4) الشفا (405)، وانظر: الصارم المسلول (4)، والسيف المسلول (96-97).(1/17)
وقال الجصاص الحنفي رحمه الله: ((قال أصحابنا فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه وكان مسلماً فقد صار مرتداً)) (1).
وقال ابن القاسم عن مالك رحمه الله: ((من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو شتمه، أو عابه، أو تنقصه فإنه يقتل، وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق))(2).
وقال عبد الله بن عبد الحكم رحمه الله: ((من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب))(3).
وقال عبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله: ((سمعت أبي يقول فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تضرب عنقه)) (4).
وروى حنبل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ((كل من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تنقصه مسلماً كان أو كافراً فعليه القتل)) (5).
ففي هذه النقول الكفاية لمعرفة شناعة وجرم من طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ((وقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفر مبيح للدم)) (6).
__________
(1) مختصر اختلاف العلماء للجصاص (3/504)، وانظر: الصارم (527).
(2) الشفا (405).
(3) المصدر نفسه (406).
(4) مسائل الإمام أحمد برواية عبد الله (3/1292)، والصارم المسلول (512).
(5) أهل الملل والردة من كتاب الجامع للخلال (2/339)، والصارم المسلول (525)، وانظر: السيف المسلول (103).
(6) الصارم المسلول (527 ) ، وقد أُفردت مصنفات مستقلّة في هذا الباب؛ مثل: الصارم المسلول لابن تيمية، والسيف المسلول على من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للسبكي، والسيف المسلول في سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن كمال باشا، وتنبيه الولاة والحكام على شاتم خير الأنام لابن عابدين، وغيرها، فضلا ًعن المصنفات التي ذكرت هذه المسألة ضمناً. وانظر: مقدمة السيف المسلول (33-36)، فقد ذكر جملة من الكتب المصنفة في هذا الباب.(1/18)
وإن فاعله مستحق للبتر والقطع والاستئصال لفساده وإفساده لأن الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - طعن في الأمة وفي دينها.
ولا يغيب عن الأذهان في هذا الشأن قاعدة التعامل مع أعداء الإسلام في حال الضعف والقوة، وأن هذه القاعدة لا تختص بعهد النبوة وصدر الإسلام فحسب؛ بل هي عامة في كل زمان يجري على الأمة الإسلامية ظروف الذلة والهوان، وعلو شأن أعدائها، فتعود إذاً إلى العمل بقوله تعالى: ژ ? ? ژ (الأحزاب: 48)، وألا يترتب على إنكار المنكر منكر أعظم منه، فيه ضرر على الإسلام والمسلمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنّما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)) (1).
لقد دلت الآية على أن الله جل وعلا قد تولى الإجابة على الكفار عندما طعنوا في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبين سبحانه وتعالى أن الذلة والخسران على من شنأه، أو أبغضه - صلى الله عليه وسلم - ، وإن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة القبيحة.
يقول الرازي رحمه الله عند تفسير الآية: ((الكفار لما شتموه فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة، فقال: إن شانئك هو الأبتر، وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم في حبيبه تولى بنفسه جوابه، فهاهنا تولى الحق سبحانه جوابهم، وذكر مثل ذلك في مواضع حين قالوا: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? پ پژ (سبأ: 7 -8)، فقال سبحانه: ژ پ ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (سبأ: 8)، ولما قالوا لست مرسلاّ أجاب فقال: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (يس: 1 -3)، فما أجل هذه الكرامة))(2).
__________
(1) الصارم المسلول (221).
(2) تفسير الفخر الرازي (32/134).(1/19)
والله منتقم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ممن طعن عليه وسبه وهي سنة من سنن الله في الذين ارتكبوا مثل هذه الشناعة تحقيقاً لقوله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ.
قصة كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يُسلم، لكن قيصر أكرم كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأكرم رسوله، فثبت ملكه، وكسرى مزق كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستهزأ برسول الله فمزق الله ملكه بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1).
((وهذا -والله أعلم -تحقيق لقوله تعالى: ژ ک ک ک ک ژ، فكل من شنأه وأبغضه، وعاداه فإن الله يقطع دابره، ويمحق عينه وأثره))(2).
بل حتى الأرض ترفض وتتنكر لمن آذى وطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كان رجل نصرانياً فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعاد نصرانياً، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ماكتبت له، فأماته الله، فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه»(3).
__________
(1) انظر: صحيح البخاري مع الفتح (8/126) ح(4424).
(2) الصارم المسلول (165).
(3) صحيح البخاري مع الفتح (6/624)ح(3617)، وصحيح مسلم مع شرح النووي (17/131-132) ح(2781).(1/20)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فهذا الملعون الذي افترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مراراً، وهذا أمر خارج عن العادة يدلّ كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرّد الارتداد، إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه، ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد))(1).
ويقول السبكي رحمه الله: ((فانظر عناية الله تعالى بإظهار كذب من افترى على نبيه، وعدم قبول الأرض له، حتى يظهر للناس أمره، وإلا فكثير من المرتدين ماتوا ولم تلفظهم الأرض، ولكن الله أراد أن يفضح هذا الملعون، ويبين كذبه للناس))(2).
__________
(1) الصارم المسلول (116-117).
(2) السيف المسلول (113).(1/21)
والحيوانات أيضاً تنتقم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن سبه أو تنقصه؛ فقد ذكر ابن حجر رحمه الله: أنه عندما كان النصارى ينشرون دعاتهم بين قبائل المغول من أجل تنصيرهم، وقد مكن لهم الطاغية هولاكو طريق الدعوة بسبب زوجته الصليبية، وذات مرة توجه جماعة من كبار النصارى لحضور حفل مغولي كبير، عقد لسبب تنصير أحد أمراء المغول، فجعل واحد منهم يتنقص النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسبه، وكان هناك كلب صيد مربوط، فلما أكثر الصليبي الخبيث من ذلك زمجر الكلب ووثب عليه فخمشه، فخلصوه منه بعد جهد، فقال بعض من حضر: هذا بكلامك في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: كلا؛ بل هذا الكلب عزيز النفس رآني أشير بيدي فظن أني أريد أن أضربه، ثم عاد إلى ما كان فيه من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأطال فوثب الكلب مرة أخرى على عنق الصليبي، وقلع زوره فمات من حينه، فأسلم بسبب ذلك نحو أربعين ألفاً من المغول))(1).
والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير(2).
((وقد جرت أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسننه وسيره على قتل الساب، وكذلك سنة الله تعالى أنه يهلك من سبه - صلى الله عليه وسلم - ولا يؤخره، وهكذا عرف واشتهر في حصار القلاع أنه متى وقع منهم السب أخذوا عاجلاً حتى صار ذلك معروفاً بين المسلمين يعلمون به قرب النصرة إذا تعرض الكفار لذلك))(3).
((وكل من نقصه - صلى الله عليه وسلم - قلامة ظفر فإن ذلك التنقص يظهر على فاعله قبل موته في الدنيا، ثم يعذبه الله العذاب الشديد))(4).
((
__________
(1) الدرر الكامنة لابن حجر (2/203).
(2) انظر: الصارم المسلول (164)، والسيرة لابن هشام (1/408-410).
(3) السيف المسلول (290)، وانظر: الصارم المسلول (117).
(4) رد الأذهان إلى معاني القرآن - أبو بكر جومي (824).(1/22)
ولا يوجد من شنأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بتره الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته، قيل لأبي بكر بن عياش أنّ بالمسجد قوماً يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة، فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم))(1).
وبهذا تتبين دلالة الآية على دفاع الله عن نبيه وحبيبه وخليله - صلى الله عليه وسلم - وهي تنتظم ضمن سلسلة الآيات القرآنية الكريمة الواردة في حفظ الله ونصرته لنبيه - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى: ژ ژ ژ ڑ ڑ ژ (المائدة: 67).
وقوله تعالى: ژ ک ک گ گ گ گ ? ? ? ?? ? ? ?ں ں ? ? ژ (الأنفال: 30). وقوله تعالى: ژ ? ہ ہ ہ ہ ژ (التوبة: 40). وقوله تعالى: ژ ? ٹ ٹ ژ (الحجر: 95).
إن الشنآن هو البغض، ويقابله الحب، فالحب نقيض البغض، فمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إيمان، وبغضه كفر وخذلان، وبضدها تتميز الأشياء.
فالمحبة تعظيم وإجلال، والشنآن والبغض تحقير وإذلال، فمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل من أصول الإيمان وعليها يقوم، فالطعن فيه - صلى الله عليه وسلم - يناقض هذا الأصل، وبهذا يتبيّن تضمّن الآية لوجوب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد أوجب الله عز وجل هذه المحبة في غير ما آية، وجعلها مقدمة على محبة الإنسان لنفسه وماله وأهله والناس أجمعين، قال تعالى: ژ چ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ?? ? ? ? ? ?ژ (التوبة: 24).
فالآية نصّت على وجوب محبة الله ورسوله، وأن تلك المحبة يجب أن تكون مقدمة على كل محبوب، ولا خلاف في ذلك بين الأمة(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/173-174).
(2) انظر: تفسير القرطبي (8/95)، وحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته لمحمد التميمي (1/301).(1/23)
يقول القاضي عياض رحمه الله: ((كفى بهذه الآية حضّاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على لزوم محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم - ، إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: ژ گ گ گ گ ? ژ ، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضلّ ولم يهده الله))(1).
وقال تعالى: ژ ? ? ? ? ? ژ (الأحزاب: 6) فالآية دليل على أن من لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها، فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم، وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه(2).
وجاء في السنة ما يؤكد وجوب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقديمها على سائر المحاب، ففي الصحيح من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يارسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((الآن ياعمر))(3).
__________
(1) الشفا (248).
(2) انظر: الرسالة التبوكية لابن القيم (29)، وحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته (1/304)، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الاتباع والابتداع عبد الرؤوف محمد عثمان (44).
(3) صحيح البخاري مع الفتح (11/523) ح(6632).(1/24)
وفي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))(1).
فقوله: «لا يؤمن أحدكم» ((أي: لا يحصل له الإيمان الواجب، ولا يكون من أهله))(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فمن قال إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي (الكمال الواجب) الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد أنه نفي (الكمال المستحب) فهذا لم يقع قط في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ))(3).
والتعبير بـ(أحب) دليل صريح على أنّ المحبة المطلوبة شرعاً هي المحبة الراجحة، وأن الإيمان الكامل متوقف على رجحان هذه المحبة في القلب على ما سواها من محبة سائر المخلوقين(4).
وهذه المحبة لها علامات ودلائل تظهر على الجوارح ليتسنى من خلالها معرفة صادق الدعوى في محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مدعيها، ولعلني أشير إلى أهم هذه العلامات إجمالاً(5):
? طاعته - صلى الله عليه وسلم - واتباعه والأخذ بسنته والسير على نهجه.
? الإكثار من ذكره - صلى الله عليه وسلم - والصلاة عليه.
? كثرة تذكره - صلى الله عليه وسلم - وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه.
? محبة قرابته - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته وأزواجه وصحابته.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح (1/58) ح(15)، وصحيح مسلم مع شرح النووي (2/374-375) ح(69).
(2) تيسير العزيز الحميد (529).
(3) مجموع الفتاوى (7/15).
(4) انظر: محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الاتباع والابتداع (45).
(5) انظر حول هذه العلامات: الشفا للقاضي عياض (52-55)، السيف المسلول للسبكي (429-432)، محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الاتباع والابتداع (65-68)، حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته (1/323-366)، الاستهزاء بالدين للقرشي (49-52)، المهذب من الشفا للشامي (312-315).(1/25)
? محبة سنته - صلى الله عليه وسلم - والداعين إليها.
? تعليم القرآن الكريم وتلاوته والعناية به، وتعظيمه.
? النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
? بغض من أبغضه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعاداة من عاداه.
إن تعظيم الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو ما يقتضيه مقام النبوة والرسالة من كمال الأدب، وتمام التوقير وهو من أعظم مظاهر حبه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن آكد حقوقه - صلى الله عليه وسلم - على أمته، كما أنه من أهم واجبات الدين(1).
والطعن والشتم أو الاستهزاء يناقض التعظيم والتوقير ويقدح في مقام النبوة والرسالة، وهو مناف للدين، ومن هذا الوجه تضمنت الآية ژ ک ک ک ک ژ وجوب تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((أما انتهاك عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه مناف لدين الله بالكلية، فإن العرض متى انتهك سقط الاحترام والتعظيم، فسقط ما جاء به من الرسالة، فبطل الدين، فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله، وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن انتهك عرضه، والانتصار له بالقتل؛ لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله))(2).
وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله، وتوقيره شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة؛ بل إن منْزلتها ورتبتها فوق منْزلة ورتبة المحبة(3).
وقد أوجب الله على الأمة كلها تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتوقيره، فقال عز وجل: ژ ? ? ? ? ? ژ (الفتح: 9)، والتعزير هو النصرة، والتوقير هو التعظيم.
__________
(1) انظر: محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الاتباع والابتداع (67).
(2) الصارم المسلول (211).
(3) انظر: المنهاج في شعب الإيمان للحليمي(2/124)، وحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته (2/423).(1/26)
قال ابن جرير رحمه الله: ((ومعنى التعزير التقوية بالنصر والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال، وأما التوقير فهو التعظيم والإجلال والتفخيم))(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده، ومنعه من كل ما يؤذيه. والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار))(2).
وقال تعالى: ژ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ?? ں ں ? ژ (الأعراف: 157).
فأبان عز وجل أن حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمته أن يكون معزراً موقراً مهيباً.
وأخبر سبحانه أن الفلاح إنما يكون لمن جمع بين الإيمان به وتعزيره، ولا خلاف في أن التعزير هاهنا التعظيم(3).
وفي الجمع الحاصل في الآيتين بين الإيمان به وتعظيمه تنبيه وإرشاد إلى أن القيام بحقوقه - صلى الله عليه وسلم - يعدّ من الإيمان الواجب الذي لا يتم إيمان العبد إلا به(4).
ومن أعظم النصر والتوقير حماية عرضه ممن يؤذيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((إن الله فرض علينا تعزير رسوله وتوقيره، وتعزيره: نصره ومنعه، وتوقيره: إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق؛ بل ذلك أول درجات التعزير والتوقير))(5).
وقد أفصح عز وجل وأبان في كتابه العزيز عن وجوه الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه، وما ينبغي على المسلم أن يتأدب به مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك في آيات شتى وبأساليب متنوعة، فقال تعالى: ژ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ژ (الحجرات: 1).
__________
(1) تفسير الطبري (26/75).
(2) الصارم المسلول (422).
(3) انظر: المنهاج في شعب الإيمان (2/125).
(4) حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته (2/424).
(5) الصارم المسلول (209).(1/27)
وقال تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ??? ? ????? ? ?ژ(الحجرات: 2 – 4).
وقال تعالى:ژچ چ ? ? ? ???ژ (النور: 63).
((فمما يجب له - صلى الله عليه وسلم - توقيره وبره، وأن لا يتقدم بين يديه، ولا نرفع الأصوات فوق صوته، ونغض الصوت عنده، ولا نجعل دعاءه كدعاء بعضنا بعضاً، وتعزيره بالمبالغة في تعظيمه ونصرته وإعانته... وحرمته - صلى الله عليه وسلم - بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان في حياته، وذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته))(1).
وتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون بالقلب واللسان والجوارح.
فالتعظيم بالقلب: هو ما يستلزم اعتقاد كونه رسولا ً، اصطفاه الله برسالته، وخصه بنبوته، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضله على سائر الخلق أجمعين، كما يستلزم تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
وأما التعظيم باللسان: فيكون بالثناء عليه بما هو أهله، مما أثنى به على نفسه، أو أثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، ويدخل في ذلك الصّلاة والسلام عليه، كما يشمل الأدب في الخطاب معه والحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - .
وأما التعظيم بالجوارح: فيشمل العمل بطاعته، وتجريد متابعته، وموافقته في حب ما يحبه وبغض ما يبغضه، والسعي في إظهار دينه، ونصرة شريعته، والذب عنه، وصون حرمته(2).
فنسأله عز وجل أن يرزقنا تعظيم نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره، ومحبته ونصرته ظاهراً وباطناً في قلوبنا وعلى ألسنتنا وجوارحنا، وأن يستعملنا في طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الخاتمة
__________
(1) السيف المسلول للسبكي (431).
(2) انظر: المصدر السابق (88-89)، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الاتباع والابتداع (68)، وحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته (470-471).(1/28)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد.. فهذه أهم نتائج البحث:
1. أن الشنآن معناه البغض والعداوة، ويدخل في هذا المعنى الطعن والسب والاستهزاء.
2. أن البتر هو القطع، والأبتر: المنقطع من كل خير.
3. أن الله عز وجل أخبر أن مبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأقل الأذل المنقطع من كل خير، وأن هذه صفة كل من أبغضه - صلى الله عليه وسلم - وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
4. دلت الآية على كفر من طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن في ذلك أذية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والأذية كفر.
5. دلت الآية على قتل شانئه ومبغضه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الله سبحانه رتب الانبتار على شنآنه، والانبتار يقتضي وجوب قتله؛ بل يقتضي انقطاع العين والأثر، وهذا ما أكدته الأدلة من الكتاب والسنة وما نقل عن السلف.
6. دلت الآية على دفاع الله عز وجل ونصرته لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تولى سبحانه وتعالى الإجابة على الكفار عند ما شتموه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: ژ ک ک ک ک ژ، فيا لها من مكرمة ومنْزلة.
7. قطع دابر من طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يغار لنبيه وينتقم من متنقصه، إذا لم يتمكن المسلمون من إقامة الحد عليه، وقد دلت الشواهد على ذلك، وهو من السنن المعروفة في هذا الشأن، ولعله تحقيقاً لقوله تعالى: ژک ک ک ک ژ، وقوله تعالى: ژ ? ٹ ٹ ژ .
8. تضمن الآية لوجوب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه، وذلك أن الدين مبني على التعظيم والمحبة، فالشنآن والبغض ينافي ذلك.
وأخيراً فيجب على الأمة معرفة ما ينبغي له صلوات الله وسلامه عليه من المحبة والتعظيم والنصرة والتوقير، وأن أس ذلك تصديقه - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر وطاعته في ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
المصادر والمراجع(1/29)
1. الإجماع- لابن المنذر، تحقيق أبو حماد صغير أحمد، ط1، دار طيبة، الرياض 1402هـ-1982م.
2. إحياء علوم الدين-للغزالي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1406هـ -1986م.
3. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل- للشيخ ناصر الدين الألباني، ط1، المكتب الإسلامي 1399هـ - 1979م.
4. أسباب النّزول- للواحدي، دراسة وتحقيق د.السيد الجميلي، ط3، دار الكتاب العربي، بيروت 1410هـ -1990م.
5. الاستهزاء بالدين أحكامه وآثاره- لأحمد بن محمد القرشي، ط1، دار ابن الجوزي، الدمام 1426هـ - 2005م.
6. الإشراف على مذاهب أهل العلم- لابن المنذر، قدم له وخرج أحاديثه عبد الله البارودي، نشر مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة.
7. الإقناع- لابن المنذر، تحقيق د.عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، ط1، مطابع الفردوس الرياض 1408هـ.
8. أهل الملل والرد على الزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتاب الجامع- للخلال، تحقيق د.إبراهيم بن حمد السلطان، ط1، مكتبة المعارف، الرياض 1416هـ - 1996م.
9. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز-لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، تحقيق محمد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت.
10. تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن)- لابن جرير الطبري، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت 1420هـ - 1999م.
11. تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير ومفاتيح الغيب)، ط3، دار الفكر العربي، بيروت 1405هـ - 1985م.
12. تفسير القرآن العظيم- لابن كثير، ط دار المعرفة، بيروت 1402هـ.
13. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ-1988م.
14. التفسير الكبير- لابن تيمية، تحقيق وتعليق د.عبد الرحمن عميرة، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ - 1988م.
15. التوقيف على مهمات التعاريف- لمحمد عبد الرءوف المناوي، تحقيق د.محمد رضوان الداية، ط1، دار الفكر، دمشق 1410هـ-1990م.(1/30)
16. تيسير العزيز الحميد في شرح الكتاب التوحيد- للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت.
17. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان- للشيخ عبد الرحمن السعدي، ط مركز صالح ابن صالح الثقافي، عنيزة 1407هـ - 1987م.
18. حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته في ضوء الكتاب والسنة، تأليف د. محمد بن خليفة التميمي، ط1، مكتبة أضواء السلف، الرياض 1418هـ -1997م.
19. الدر المنثور في التفسير بالمأثور-لجلال الدين السيوطي، ط دار المعرفة.
20. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة- لابن حجر العسقلاني، ط دار الجيل، بيروت.
21. ديوان حسان بن ثابت-حققه د.وليد عرفات، دار صادر بيروت 1974م.
22. رد الأذهان إلى معاني القرآن- لأبي بكر محمود جومي رئيس قضاة نيجيريا، طبع على نفقة الحاج آدم دان رئيس شركة أمنشي بلاجوسي.
23. الرسالة التبوكية- لابن القيم، مراجعة الشيخ عبد الظاهر أبي السمح، ط1، المطبعة السلفية، مكة المكرمة 1347هـ.
24. زاد المسير في علم التفسير-لابن الجوزي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1414هـ-1994م.
25. السنن الكبرى-للبيهقي، ط1، دائرة المعارف العثمانية، الهند.
26. السنن الكبرى-للنسائي، تحقيق د.عبد الغفار البنداري وسيد كسروي حسن، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ - 1991م.
27. السنن- لأبي داود السجستاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
28. السيرة النبوية لابن هشام، دار الفكر القاهرة.
29. السيف المسلول على من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتقي الدين السبكي، تحقيق سليم الهلالي، ط1، دار ابن حزم، بيروت 1426هـ - 2005م.
30. شرح صحيح مسلم- للنووي، راجعه الشيخ خليل الميس، ط1، دار القلم، بيروت 1407هـ -1987م.
31. الشفا بتعريف حقوق المصطفى- للقاضي عياض، ط1، دار ابن حزم، بيروت 1423هـ - 2002م.(1/31)
32. الصارم المسلول على شاتم الرسول- لابن تيمية، حققه وعلق حواشيه محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت.
33. صحيح سنن أبي داود- للشيخ ناصر الدين الألباني، ط1، مكتبة التربية العربية لدول الخليج، الرياض 1409هـ - 1989م.
34. فتح الباري شرح صحيح البخاري- لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت.
35. فتح القدير- للشوكاني، دار المعرفة، بيروت.
36. القاموس المحيط- للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
37. اللباب في علوم الكتاب- لأبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1419هـ - 1998م.
38. لسان العرب- لابن منظور، دار صادر بيروت.
39. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ط مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، بالمدينة 1416هـ - 1995م.
40. محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الاتباع والابتداع- لعبد الرءوف محمد عثمان، ط الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض 1414هـ.
41. المحلى- لابن حزم، دار الفكر .
42. مختصر اختلاف العلماء-لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص، تحقيق د.عبد الله نذير أحمد، ط1، دار البشائر الإسلامية 1416هـ -1995م.
43. مسائل الإمام أحمد، برواية ابنه عبد الله، تحقيق ودراسة د.علي بن سليمان المهنا، ط1، مكتبة الدار، المدينة المنورة 1406هـ -1986م.
44. المستدرك على الصحيحين-للحاكم، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1411هـ-1990م.
45. معالم التنْزيل- للحسين بن مسعود البغوي، ط2، دار المعرفة، بيروت 1407هـ -1987م.
46. معالم السنن- للخطابي، ط2، منشورات المكتبة العلمية، بيروت 1404هـ -1981م.
47. المعجم الكبير- لأبي القاسم الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط1، الدار العربية بغداد.
48. المنهاج في شعب الإيمان- لأبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي، تحقيق حلمي محمد فودة، دار الفكر.(1/32)
49. المهذب من الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لصالح الشامي، ط1، دار القلم، بيروت 1424هـ - 2003م.
50. نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام- لمحمد بن علي الكرجي القصاب، تحقيق د.شايع الأسمري، ط1، دار ابن القيم للنشر، الدمام 1424هـ - 2003م.
51. النهاية في غريب الحديث والأثر- لابن الأثير، تحقيق طاهر الزواوي ومحمود الطناجي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
-(1/33)