محمد قطب
مذاهب فكرية معاصرة
الديمقراطية
الشيوعية
العلمانية
العقلانية
القومية والوطنية
الإنسانية
الإلحاد
موقع الصحوة
http://www.sahwah.net
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [سورة الأنعام 6/153]
صدق الله العظيم
مقدمة
تسيطر اليوم أوروبا " 1 " بكل قوتها على العالم كله.
ومع السيطرة تتسرب مجموعة من الأفكار والمذاهب والمعتقدات، بل الخرافات كذلك- كخرافة الطبيعة الخالقة، والمادة الأزلية الأبدية المتطورة - فتنصب فى أذهان الشعوب التى غلبت عليها أوروبا ، إما عن طريق التسرب التلقائى الذى ينشأ من تقليد المغلوب للغالب ليضمن تبعيته له وعدم خروجه على طاعته .
ولم تكن سيطرة أوروبا - بكل قوتها - هى السبب الوحيد فى الحقيقة لهذا التسرب التقائى أو ذلك الغزو الفكرى، إنما كان هناك سبب لا يقل أهمية عن هذه السيطرة إن لم يكن- فى نظرنا- أهم، هو غياب البديل الذى يمكن أن يأخذ مكان هذه الأفكار والمذاهب والخرافات إذا تبين عدم جدارتها بالاتباع، بل الذى يحول أصلاً دون التوجه إليها واتباعها فى حالة وجوده، ونعنى به الإسلام .. ذلك أن غيابه يعطى هذه المذاهب والأفكار فى نفوس الناس حجية الأمر الواقع وثقل الأمر الواقع . أى أنها تصبح فى حس الناس جديرة بالاتباع لا لجدارتها الذاتية، ولا لأنها فى ذاتها صحيحة، ولكن فقط لأنها موجودة بالفعل، والبديل غري موجود !(1/1)
ولن نتعرض فى هذا الكتاب لأسباب غياب هذا البديل، ولا للنتائج الخطيرة التى نتجت عن غيابه بالنسبة للمسلمين وبالنسبة للعالم كله " 2 ". إنما أردنا فى هذا الكتاب أن نتعرض لهذه الأفكار والمذاهب ذاتها، فنعرضها عرضاً موضوعياً نبين فيه ما تحتوى عليه من حقائق وما تحتوى عليه من أباطيل، ونبين فيه- أهم من ذلك - الظروف التى أدت إلى نشأتها وتشكلها على هذه الصورة، فإن كثيراً من الناس الذين يأخذونها على أنها أمر واقع، لا يسألون أنفسهم كيف نشأت، وما الظروف التى جعلتها تأخذ هذه الصورة، كأنهم يعتقدون- من ثقلة الأمر الواقع على حسهم - أنها ذات وجود طبيعى، وأن الصورة التى هى عليها هى الصورة الطبيعية لهذا المذهب أو ذاك، ولا يضعون فى حسابهم أن ظروفاً محلية بحتة فى أوروبا هى التى جعلت الفكر الأوروبى يتجه هذه المتجهات، ويسلك هذه المسالك، وأنه لو كانت هناك ظروف مختلفة، لاعتنقت أوروبا أفكاراً ومذاهب من نوع آخر .
بعبارة أخرى إن هذه الأفكار والمذاهب هى انعكاس لظروف محلية بحتة فى أوروبا ، وليست كما هى فى حس الأوروبيين ومن يدور فى فلكهم من الشعوب المغلوبة " قيما " قائمة بذاتها، ولا أفكاراً " إنسانية " تنبع نبعاً ذاتياً من كيان " الإنسان " بوصفه إنساناً . ولم يكن من الحتم أن تعتنقها أوروبا ذاتها- لو أتيحت لها ظروف أفضل - وليس من الحتم أن يعتنقها أحد فى خارج أوروبا ما دامت ظروفه غير ظروف القوم هناك .
وهذا الكتاب لم يكتب للمسلمين وحدهم، وإن كان المسلمون يستطيعون أن يفيدوا منه مزيداً من المعرفة بدينهم، على قول الفاروق عمر رضى الله عنه : " لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية ! " فمعرفة المسلمين بانحرافات الجاهلية المعاصرة تزيدهم معرفة بكمال الدين المنزل من عند الله .(1/2)
ولكنى كتبته لكل من يرغب أن يعرف شيئاً عن هذه المذاهب المنتشرة فى الأرض اليوم، وأسباب نشأتها وتشكلها على هذه الصورة . ولم أقصد به أن يكون دراسة متخصصة، ولكنى حاولت أن أضع فيه القدر المناسب من المعلومات، الذى يلقى ضوءاً معقولاً على هذه المذاهب والأفكار .
ولم أتحدث عن كل المذاهب المعاصرة، فلم يكن قصدى الاستقصاء، إنما رضت لأبرز هذه المذاهب وأكثرها انتشاراً فى عالمنا المعاصر، فاخترت منها : الديمقراطية والشيوعية والعلمانية والعقلانية والقومية والوطنية والإنسانية الإلحاد .
فإن كنت قد قصرت فيما بذلت من الجهد فهذا هو العجز البشرى، وأن كنت قد وفقت فمن الله التوفيق .
محمد قطب
التمهيد الأول
الدين والكنيسة
نبذة تاريخية
أولاً : تحريف الدين :
لم تعرف أوروبا قط دين الله المنزل على حقيقته الربانية .
إنما عرفت صورة محرفة من صنع الكنيسة الأوروبية لا صلة لها بالأصل المنزل، الذى أرسل المسيح ليبلغه لبنى إسرائيل : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ...} [سورة آل 3/49]
وإذا استثنينا أفراداً قلائل، متناثرين على طول التاريخ المسيحى من بعثة عيسى عليه السلام إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الجماهير الأوروبية ظلت تستقى دينها من رجال الدين من البابوات والكرادلة، ومن المجامع المقدسة وشراح الأناجيل المحرفة، وتعتبرهم مرجعاً لا يرقى إليه الشك ولا يجوز أن يناقش ! فاتخذوهم- على الحقيقة لا على المجاز - أرباباً من دون الله :
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [سورة التوبة 9/31](1/3)
وفى القرون الثلاثة الأولى من ميلاد المسيح كان الأباطرة وثنيين لا يؤمنون بدين منزل، فكانوا يضطهدون النصارى من صح اعتقاده منهم ومن انحرف وحرف، يسومونهم سوء العذاب، ويشردونهم فى الأرض، حتى اتخذ فريق منهم الأديرة والملاجئ فى أطراف الأرض فراراً من العذاب .
وفى القرن الرابع تغير الأمر حين اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وفرضها على الإمبراطورية . ولكن الدين الذى فرضه قسطنطين هو- باعتراف المؤرخين والمفكرين الغربيين أنفسهم- شئ آخر غير الدين الذى بشر به المسيح .
يقول درابر الأمريكى فى كتابه " الدين والعلم "
" ودخلت الوثنية والشرك فى النصرانية بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية فى الدولة الرومية بتظاهرهم بالنصرانية . ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام .. وكذلك كان قسطنطين .. فقد قضى عمره فى الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً فى آخر عمره (سنة 337م) .
" إن الجماعة النصرانية، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع جرثومتها . وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء .. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية إذ قضى على منافسه " الوثنية " قضاء باتا، ونشر عقائده خالصة بغير غش ..
" وإن هذا الإمبراطور الذى كان عبداً للدنيا، والذى لم تكن عقائده الدنين تساوى شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين - النصرانى والوثنى - أن يوحدهما ويؤلف بينهما، حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة . ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ! وسيخلص الدين النصرانى عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها " 3"
ويقول فشر المؤرخ الانجليزى :(1/4)
" إن حكمة الكنيسة المسيحية هدت آباءها الأولين إلى قبول ما لم يستطيعوا له منعاً من قديم العادات والتقاليد والمعتقدات " !! " بدليل استقبال الكنيسة لمبدأ تعدد الآلهة الراسخ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط، وتطويع ذلك المبدأ لما تقتضيه عقائدها " 4 " !!
ويقول رينان الفيلسوف الفرنسى :
" إنه ينبغى لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقى كما كان يفهمه هو أن نبحث فى تلك التفاسير والشروح الكاذبة التى شوهت وجه التعليم المسيحى حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام . ويرجع بحثنا إلى أيام بولس الذى لم يفهم تعليم المسيح بل حمله على محمل آخر ثم مزجه بكثير من تقاليد الفريسين وتعاليم العهد القديم . وبولس كما لا يخفى كان رسولاً للأمم، أو رسول الجدال والمنازعات الدينية، وكان يميل إلى المظاهر الخارجية الدينية كالختان وغيره ن فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحى فأفسده . ومن عهد بولس ظهر التلمود المعروف بتعاليم الكنائس . وأما تعليم المسيح الأصلى الحقيقى فخسر صفته الإلهية الكمالية، بل أصبح احدى حلقات سلسلة الوحى التى أولها منذ ابتداء العالم وآخرها فى عصرنا الحالى، والمستمسكة بها جميع الكنائس، وإن أولئك الشراح والمفسرين يدعون المسيح إلها دون أن يقيموا على ذلك الحجة، ويستندون فى دعواهم على أقوال وردت فى خمسة أسفار : موسى والزبور، وأعمال الرسل ورسائلهم، وتأليف أباء الكنيسة، مع أن تلك الأقوال لا تدل أقل على أن المسيح هو الله " 5 "
ويقول برنتن :
" إن المسيحية الظافرة فى مجمع نيقية - وهى العقيدة الرسمية فى أعظم إمبراطورية فى العالم - مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين فى الجليل " 6 " ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائى عن العقيدة المسيحية لخرج من ذلك قطعاً لا بأن مسيحية القرن الرابع تختلف عن المسيحية الأولى فحسب، بل بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتا " 7 "(1/5)
ويقول المؤرخ الإنجليزى ويلز :
" وظهر لوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من الثقات العصريين المؤسس الحقيقى للمسيحية وهو شاول الطرطوسى أو بولس .. والراجح أنه كان يهودى المولد، وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك، ولا مراء فى أنه تعلم على أساتذة من اليهود بيد أنه كان متبحراً فى لاهوتيات الإسكندرية الهلينية .. وهو متأثر بطرائق التعبير الفلسفى للمدارس الهلنستية ن وبأساليب الرواقيين، كان صاحب نظرية دينية ومعلماً يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصرى بزمن طويل .. ومن الراجح جداً أنه تأثر بالمثرائية إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرانية . ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تظهر قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم، ألا وهى فكرة الشخص الضحية الذى يقدم فرباناً لله كفارة عن الخطيئة . فما بشر به يسوع كان ميلاداً جديداً للروح الإنسانية . أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة . ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء لاسترضاء الإله " 8 "
ويقول أيضاً :
" وفى أثناء ذلك الأمد غير المحدد كان يحدث فيما يبدو قدر جسيم من ضرب بعينه من الثيوكرازيا (أى التوحيد والمطابقة بين الىلهة المختلفة) بين النحلة المسيحية والعقيدة المثرائية التى تكاد تضارعها فى سعة انشترها بين سواد الشعب، ونحلة سيرابيس إيزيس حورس ...
" على أن ما أسهمت به نحلة الاسكندرية فى الفكر المسيحى والطقوس المسيحية كان أعظم قدراً أو يكاد .. إذ كان طبيعياً أن يجد المسيحيون فى شخصية حورس (الذى كان ابناً لسيرابيس وهو سيرابيس فى نفس الوقت) شبيهاً مرشداً لهم فيما يبذلون من جهود عنيفة لتفهم ما خلفه لهم القديس بولس من خفايا ... " " 9 "(1/6)
وتكفينا هذه الشهادات من مؤرخى الغرب ومفكريه، لندرك مدى التحريف والتشويه الذى أدخله بولس والمجامع المقدسة من بعده على العقيدة الصحيحة التى جاء بها رسول الله عيسى ابن مريم عليه السلام .
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [سورة المائدة 5/116-117]
صدق الله العظيم
على أن التحريف الذى وقع فى العقيدة من جعل الإله الواحد ثلاثة أقانيم، وتأليه عيسى عليه السلام وادعاء بنوته لله تعالى، وتأليه مريم وروح القدس جبريل عليه السلام، واختراع قصة الصلب والفداء، وعبادة الصليب وعبادة التماثيل والأوثان .. الخ ... الخ .. هذا التحريف على بشاعته لم يكن هو التحريف الوحيد الذى أدخلته الكنيسة والمجامع المقدسة على دين الله المنزل، بل أضافت الكنيسة انحرافاً آخر لا يقل سوءاً ولا تشويهاً للدين المنزل من عند الله، وذلك بعزل العقيدة عن الشرعة واتخاذ الدين عقيدة فقط، وترك القانون الرومانى يحكم الحياة .
إن الدين المنزل من عند الله كان دائماً عقيدة وشريعة فى ذات الوقت : عقيدة فى الله الواحد الفرد الصمد، الذى لا شريك له ولا ولد، وتنظيمات تنظم حياة الناس فى الأرض فى إطار أوامر الله ونواهيه .(1/7)
فأما العقيدة فقد جاءت واحدة ى جميع الرسالات السماوية لأنها- بطبيعتها - غير قابلة للتغيير ولا التبديل . فالله سبحانه واحد . وكل الرسل المرسلين من عند اله جاءوا بعقيدة التوحيد- عقيدة الحق - فقالوا لأقوامهم كما يحكى القرآن الكريم عنهم : " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " أما الشريعة وما تخويه من تنظيمات فقد تغيرت-بحسب أحوال الأقوام الذين أرسل المرسلون إليهم، وانحرافاتهم الخاصة التى كانوا واقعين فيها- حتى اكتمل الدين فى الوحى المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزل قوله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة 5/3] ولكنها - أى الشريعة - كانت دائماً هناك ! كانت موجودة فى كل رسالة أنزلت على رسول من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً . وقد أشار القرآن إلى بعض تفصيلاتها فى مثل قوله تعالى:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا " 10" أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ" 11 "} [سورة هود 11/84-87](1/8)
وقوله : {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)} [سورة الشعراء 26/123-131]
وقوله : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)} [سورة الشعراء 26/160-166]
وما كانت الرسالة المنزلة على عيسى ابن مريم بدعا من الرسالات فى هذا الشأن . بل ينص القرآن الكريم نصاً صريحاً على أن عيسى ابن مريم جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة - وهى حافلة بالتشريعات التفصيلية فى كثير من شؤون الحياة - وليحل لبنى إسرائيل بعض الذى كان قد حرم عليهم من باب العقوبة على ما اجترحوا من السيئات :
{وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)} [سورة آل 3/50](1/9)
كما ينص على أن الله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، وأمر كل قوم أن يحكموا بمقتضى الشرع الذى نزل عليهم وإلا فهم كافرون وظالمون وفاسقون، حتى يأنتى الرسول الأخير صلى الله عليه وسلم فيحتكموا جميعاً إلى شريعته .
{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ(1/10)
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/44-50]
ورغم أن وجوب تحاكم النصارى إلى ما جاء فى التوراة والإنجيل من تشريعات واضح تمام الوضوح فى الكتب المتداولة بين أيديهم بالرغم من كل ما حدث فيها من تحريف، فإن الكنيسة زعمت أن القانون الرومانى - قانون قيصر - له شرعية تبيح اتباعه وهو يحكم بغير ما أنزل الله، ونسبت هذا الزعم إلى السيد المسيح، كما نسبت إليه من قبل أنه قال إنه إله وإنه ابن اله .. سواء بسواء !
جاء فى أناجيلهم هذه القصة :
" ذهب الفريسيون وتشاوروا لكى يصطادوه (أى السيد المسيح) بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين : يا معلم ؟ إنك صادق وتعلم طريق اله بالحق ولا تبالى بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس فقل لنا ماذا تظن ؟ أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا ؟ فعلم يسوع خبثهم وقال : لماذا تجربوننى يا مراءون ؟ أرونى معاملة الجزية . فقدموا له ديناراً فقال لهم : لمن هذه الصورة والكتابة ؟ قالوا له : لقيصر ؟ فقال لهم : أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله ؟ فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا " 12"(1/11)
وليس لنا من سبيل إلى الجزم فى أمر هذه القصة، هل حدثت بهذه الصورة أم يغيرها أم لم تحدث على الإطلاق . وإن كنا أقرب إلى الشك فيها منا إلى إثباتها . ولكنا نفترض جدلاً أن القصة حدثت على هذا النحو، وأن المسيح تكلم بهذه الألفاظ، فهل يمكن أن يكون قصده منها هو إعطاء الشرعية لأمر قيصر الذى لا يؤمن بالله ورسوله ولا يتحاكم إلى شريعة الله، وقسمة شؤون الحياة بين قيصر وبين الله سبحانه وتعالى بحيث يكون لقيصر نطاق يتصرف فيه على هواه ويطاع فيما يأمر به، وتكون بقية الشؤون - التى لا يهتم بها القيصر - هى النطاق المتروك لله ؟!
وما الشرك إذن فى أجلى صوره ؟!
إن هذا المعنى يستحيل أن يخطر فى بال المؤمن العادى الذى يؤمن بلا إله إلا الله . فكيف بنبى مرسل من عند الله ؟!
إن أقصى ما يمكن أن تدل عليه القصة - على فرض صحتها جدلاً - أن المسيح عليه السلام يقول لهم : إننا لم نؤمر الآن بقتال قيصر، فإذا فرض عليكم الجزية - ولا قبل لكم اليوم برد سطوته عنكم - فادفعوا له الجزية حتى يأتى اليوم الذى يؤذن لكم فيه بالقتال لإخضاع قيصر لشريعة الله . وهذا كما قيل للمؤمنين فى مكة : {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة النساء 4/77] حتى جاءهم الإذن بالقتال فى قوله تعالى : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [سورة الحج 22/39] ثم جاء الأمر بالقتال لإخضاع الأرض كلها لشريعة الله : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39](1/12)
ولكن الكنيسة حملت هذه القصة - على فرض صحتها - فوق ما تحتمل، وزعمت أن معناها أن من حق قيصر أن يحكم عالم الأرض على أن يحكم الله عالم السماء، أو أن الأبدان لقيصر يفعل بها ما يشاء فى الحياة الدنيا، ولله الأرواح فى الآخرة ! وهكذا سمحت للعالم المسيحى أن يحكمه القانون الرومانى فى كل شؤونه ما عدا " الأحوال الشخصية " من زواج وطلاق .. الخ .. وأن ينحصر سلطان الله على عباده فى مشاعر الخشوع والتقوى والشعائر التعبدية .. والأحوال الشخصية التى لا يهتم بها قيصر إذا ما تركت لشريعة الله ! ... وتم بذلك فصل العقيدة عن الشريعة، وتم المسخ الكامل لدين الله !
هذا الدين - بهذه الصورة - لم يكن صالحاً للحياة .
فما يلح دين تشوه عقيدته على هذا النحو، ثم تفصل الشريعة فيه عن العقيدة وتحصر فى أضيق نطاق.
إن الدين يأتى لإصلاح الأرض وإقامة حياة الناس بالقسط .
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)} [سورة الأعراف 7/85]
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56)} [سورة الأعراف 7/55-56]
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25](1/13)
وهذا الإصلاح الذى يقيمه الدين فى الأرض ينشأ من انصياع الناس لحقيقة ضخمة هى حقيقة التوحيد، بكل أبعادها وكل مقتضياتها، فتنضبط بها حركة النفس وحركة الحياة البشرة على السواء .
التوحيد هو " الميزان " الذى يضبط النفس والحياة .
فالإنسان عابد بفطرته ..
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
وقد تهتدى النفس بميثاق الفطرة وقد تضل . ولكنها - بما أودع فى فطرتها - تظل دائماً تبحث عن الإله ... تبحث عن " المعبود " 13"
ومن ثم فإن الإنسان لابد أن يعبد .. يعبد الله أو يعبد شيئاً غير الله .
وليس الفارق بين إنسان وإنسان أن هذا يعبد وهذا لا يعبد . إنما الفارق فى المعبود : أهو الله سبحانه وتعالى، المستحق للعبادة، أم غيره من الآلهة التى لا واقع لها فى الحقيقة .
وتتعدد المعبودات من دون الله وتختلف باختلاف الزمان والمكان، واختلاف مبلغ الجاهلية من " العلم " الأرضى وتتوحد عبادة الله فلا تتغير طبيعتها باختلاف الزمان والمكان " 14 " .
كان الناس فى جاهلياتهم المختلفة يعبدون " الأب " أو يعبدون " الطوطم " أو يعبدون " قوى الطبيعة " المختلفة من رعد وبرق وريح ومطر، ويعبدون الأفلاك من شمس وقمر ونجوم، أو يعبدون الأصنام والأوثان، أو يعبدون البشر من الأنبياء والقديسين والأحبار والرهبان، أو يعبدون الطبيعة .. ثم عبد الإنسان ذاته فى الجاهلية المعاصرة، ثم تعددت المعبودات فصار اسمها الوطن أو الدولة أو القومية أو المذهب أو الحزب أو الزعيم ... أو الجنس أو الإنتاج المادى أو الدولار " 15 " !
كلها معبودات يتخذها الناس أرباباً من دون الله، وتتحكم فى حياتهم فيسيرون على مقتضى ما تأمرهم به فى الوهم أو الحقيقة .
وفى جميع تلك الأحوال يكون الناس عابدين لأربابهم وخاضعين لما تأمرهم به تلك الأرباب .(1/14)
أما فى حالة الهدى فيعبد الناس اله وحده بلا شريك، ويتبعون أوامره ونواهيه، أى : يحكمون بما أنزل الله .
ويختلف الأمر اختلافاً بيناً ما بين هذه العبادة وتلك، أمر النفس وأمر الحياة سواء .
فأما النفس فما أبعد الفارق بين أن تعبد الوهم وأن تعبد الحقيقة !
{وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [سورة فاطر 35/19-22]
هل يستوى من يخبط فى الظلمات خبط عشواء يبحث عن شئ يظنه ظناً ولا وجود له فى الحقيقة، ومن يمشى على النور إلى وجهة يعلمها ويتوخاها ويسير قاصداً إليها ؟
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} [سورة الملك 67/22]
أيهما أضبط حركة وأيسر مسيراً ؟!
أيهما أروح نفساً وأكثر طمأنينة ؟!
ثم إن النفس البشرية فى رحلتها على الأرض لتواجه أسئلة ترد - لا محالة - على الفطرة وتلطب الجواب .
من خالق هذا الكون ؟
من أين جئنا ؟
إلى أين نذهب بعد الموت ؟
من يدير الكون وينشئ الأحداث ؟
لأى شئ نعيش ؟
أفمن يملك دليل الرحلة يدله إلى معالم الطريق أهدى أم من يخبط خبط عشواء بلا دليل ؟
أيهما أضبط حركة وأكثر طمأنينة .. من له غاية موحدة يهدف إليها يحدوه حاد واحد إليها، أم من له غايات متعددة متضاربة يحدوه إليها حداة مختلفون كل يدعو إلى طريق ؟
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [سورة الزمر 39/29]
{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} [سورة يوسف 12/39]
ثم .. أيهما كثر أكثر أاااأأاأكثر كرامة ؟!(1/15)
من يعبد الله الحق، ويتحرر - من ثم - من عبادة الأرباب الزائفة كلها . ويستعلى عليها، ويحس بوجوده الإيجابى تجاهها، سواء كانت بشراً طاغين فى الأرض بغير الحق، أو كانت " قوى " مادية أو معنوية، أو كانت " حتميات " زائفة كالحتمية المادية أو الحتمية الاقتصادية أو الحتمية التاريخية، أو كانت أهواء وشهوات ذاتية .. أم من يعبد هذه الأرباب الزائفة المتفرقة ويخضع لسلطانها فتستعبده بذلك السلطان ؟!
ثم .. أيهما أكثر كرامة ؟!
من يعبد الإله الذى يكرمه ابتداء ويمنحه الوجود ويمنحه المكانة العالية .
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
أم من يعبد الآلهة التى تستعبد أصحابها فتذلها وتسلبها الإرادة وتسلبها الوجود ؟
ذلك أمر " النفس " مع عقيدة التوحيد .
الاستبصار والأمن والكرامة وتوحد الهدف وتوحد الطريق .
وإن النفس التى تعبد الله الحق، وتطمئن بذكره وعبادته، وتعرف دليل رحلتها على الأرض، من أين وإلى أين، لتتوحد طاقتها وتترتب ذراتها كما تترتب ذرات الحديد فى قطعة المغناطيس، فتصبح طاقة كونية هائلة بدلاً من أن تصبح بدداً ضائعاً فى التيه .
أما الحياة البشرية - حياة المجموع البشرى - فميزانها كذلك هو التوحيد .
من الذى يرسم للبشرية منهج الحياة ؟ من الذى يقول هذا حلال وهذا حرام ؟ هذا مباح وهذا غير مباح ؟ هذا حسن وهذا قبيح ؟ هذا طيب وهذا خبيث ؟!
إنه - من جهة - حق الإله الحقيقى على عباده، وليس حق الآلهة المدعاة، فبما أنه هو الخالق فهو - سبحانه - صاحب الأمر : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54](1/16)
ثم أنه - من جهة أخرى - حق العليم الخبير، وليس حق الجهال المحدودى الأفاق : {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)} [سورة البقرة 2/216]
وفى عقيدة التوحيد تكون الحاكمية - أى حق التحليل والتحريم والإباحة والمنع - لله وحده دون شريك .
وفى الجاهلية تكون الحاكمية للبشر، مع الله، بخلط شئ من التشريع الإلهى مع شئ من التشريع البشرى، أو من دون الله، بنبذ التشريع الربانى جملة واتخاذ شرائع كلها من صنع البشر، سواء كان البشر فرداً حاكماً بأمره، أو فرداً حاكماً بمشورة طائفة غيره من البشر، أو كانوا كل البشر على السواء ..
وكل ذلك إشراك مع الله وكفر بالله " 16 ":
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21]
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف 7/3]
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
ويختلف الأمر اختلافاً بيناً ما بين عقيدة التوحيد، التى تجعل الحاكمية لله، وعقائد الشرك والكفر التى تجعل الحاكمية للبشر مع الله أو من دون الله .
يختلف أولاً من ناحية الكرامة البشرية، ويختلف ثانياً من ناحية الواقع البشرى . فأما من ناحية الكرامة البشرية ففى عقيدة التوحيد، التى تجعل الحاكمية لله، يكون الناس عبيداً لله وحده - وهو الكريم المركم - متحررين من كل عبودية لغير الله، مستعلين بوجودهم على الطواغيت . وفى عقائد الشرك والكفر، التى تجعل الحاكمية للبشر مع الله أو من دون الله، يكون بعض البشر أرباباً وهم المالكون المسيطرون المشرعون، وبعضهم عبيداً لأولئك الأرباب . وهم الذين يقع عليهم سلطان الطواغيت .(1/17)
وأما من ناحية الواقع البشرى فالعدل والرشد هو طابع الحياة فى ظل عقيدة التوحيد التى تجعل الحاكمية لله، والظلم والتخبط هو طابع الحياة فى ظل عقائد الشرك والكفر التى تجعل الحاكمية للبشر مع الله أو من دون الله .
فأما الظلم فينشأ - دائماً - فى الجاهلية من كون الذين يشرعون - سواء كانوا فرداً أو طبقة " 17 " يشرعون لمصلحتهم الخاصة على سحاب مصالح الآخرين .
وأما التخبط فينشأ من عجز البشر عن الإحاطة بالأمر سمن كل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والمادية والروحية .. الخ، وعجزهم عن رؤية النتائج المستقبلة المترتبة على أعمالهم الحاضرة فمهما قدروا وتخيلوا فإن الواقع العملى يأتى دائماً مخالفاً لما قدروه وتخيلوه فى بعض جوانبه أو فى كل جوانبه، وتنبت دائماً مشاكل جديدة من الحلول المبتسرة التى يواجهون بها مشاكلهم، لم تكن فى حسبان الذين وضعوا هذه الحلول . وهكذا تظل الحلقة المفرغة : مشكلات قائمة، وحلول مبتسرة تنبت منها مشكلات جديدة توضع لها حلول مبتسرة جديدة وهذا إذا أحسنا الظن بواضعى الحلول وافترضنا أنهم مخلصون فى وضع ما يضعون من حلول وأنهم لا يخططون لإيقاع البشرية فى الخبال لغايات شريرة " 18 "
بينما تقوم شريعة الله على العدل، لأن الله -س سبحانه - ليست له مصلحة ذاتية يطلبها من وراء تلك الشريعة، وهو الغنى الحميد، مالك الملك كله الذى لا تنفد خزائنه . إنما يريد الله الخير لعباده والبر بهم والزكاة والطهر والنظافة والارتفاع .
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)} [سورة النساء 4/27](1/18)
كما أن شريعة الله تتسم بالرشد، لأن منزلها - سبحانه - هو اللطيف الخبير، الذى يعلم حقيقة النفس البشرية التى خلقها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14] ويعلم ما يصلحها وما يصلح لها، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة الذى لا يند عن علمه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، والذى يحيط علمه بالماضى والحاضر والمستقبل فى كل لحظة من لحظات هذا الوجود كله، فينزل التشريعات التى يعلم - سبحانه - أنه يتحقق منها الخير ولا يقع منها الشر، والتى تكون فى كل لحظة مناسبة لما نزلت من أجله .
والتوحيد يشمل ذلك كله .. يشمل العقيدة التى تستقيم بها النفس، والشريعة التى تستقيم بها الحياة .
إذ التوحيد - الذى يقوم عليه الدين المنزل من عند الله - هو توحيد الله فى ذاته وتوحيده فى صفاته وأفعاله . ومن صفاته التى ينفرد بها - سبحانه - أنه صاحب الخلق وصاحب الأمر كما مر بنا فى آية الأعراف .
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]
وأن الحكم - أى الحاكمية - له وحده فى كل شئ .
{إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [سورة يوسف 12/40]
أما الشرك - المقابل للتوحيد - فهو يقع إما فى العبادة - بمعنى التوجه لغير الله بالشعائر التعبدية مع الله أو من دون الله - وإما فى الاتباع - بمعنى التحريم والتحليل والمنع والإباحة من دون الله وبغير إذن من الله - أو فيهما جميعاً كما فى آية النحل :
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35]
والتوحيد هو الذى يصلح الأرض، والشرك هو الذى يحدث الفساد الذى ينهى الله عباده عنه :(1/19)
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56)} [سورة الأعراف 7/56]
إذا علمنا ذلك لكه، وهو من بديهيات الدين المنزل من عند الله، استطعنا أن ندرك مدى التحريف البشع الذى أحدثته الكنيسة فى دين الله المنزل على عيسى ابن مريم، سواء فى تشويه العقيدة بقضية التثليت وتأليه عيسى عليه السلام، أو بفضل العقيدة فى ذلك الدين عن الشريعة، وتقديمه للناس عقيدة منفصلة خلواً من التشريع إلا القليل، واستطعنا أن ندرك مدى الشرك - فى العقيدة والاتباع معاً - الذى أدخلته الكنيسة على دين التوحيد الذى يلتقى فيه الرسل جميعاً من أولهم إلى خاتمهم عليه الصلاة والسلام.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى 42/13]
ذلك الشرك الذى أشار القرآن إلى أحد طرفيه فى هاتين الآيتين :
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة 5/72]
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [سورة المائدة 5/73]
وأشار إلى طرفيه معاً فى هاتين الآيتين :
{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [سورة التوبة 9/30-31](1/20)
وأخيراً نستطيع أن ندرك أن ذلك الدين - بصورته المشوهة تلك - لم يكن صالحاً للحياة .
ومع ذلك فإن الكنيسة ورجالها لم يكتفوا بهذه الخطيئة الكبرى فى حق الدين السماوى، إنما أضافت إليها خطايا أخرى ومنكرات !
ثانياً: طغيان الكنيسة ورجال الدين :
حولت الكنيسة دين الله المنزل إلى روحانيات صرفة أو روحانيات غالبة بقصره على شعائر التعبد ومشاعر التبتل والخشوع والتقوى، وإبعاد الجانب الذى يحكم الحياة العملية - أى الشريعة - إلا قليلاً منه، وترك هذا الجانب لقيصر، ويتصرف فيه بمقتضى القانون الرومانى غير متقيد بما أنزل الله .
وكان المظنون أن تكون مهمتها تعميق الجانب الروحى - الذى قصرت الدين عليه - وأن تكون وسيلتها إلى ذلك هى التربية الروحية التى تربط القلوب بالله، لتحبه وتخشاه .
ولكن الكنيسة لم تكتف بهذا الجانب - المنطقى مع تصورها وتصويرها للدين - بل مارست سلطاناً " دنيوياً" هائلاً يتنافى مع هذا التصور، ولا يفسره شئ فى حقيقة الواقع إلا رغبة الطغيان !
بل إنها - حتى فى الجانب الروحى البحت - قد مارست طغيانها الهائل، فأبت أن تتصل قلوب المؤمنين بربهم مباشرة بلا وسيط، وأصرت أن تكون هى وحدها - ولا سواها - الواسطة التى تتصل القلوب عن طريقها بالله !
ويجدر بنا أن نفصل هذا الطغيان إلى أبوابه المختلفة التى مارستها الكنيسة على العقول والأرواح والأبدان، مستغلة سلطانها على القلوب، الذى يصاحب الجانب الروحى عادة فى حياة الناس .
ونحتاج فى هذا الشأن أن نتحدث أولاً عن " رجال الدين " ثم نتحدث بعد ذلك عن طغيان رجال الدين، الذى اتخذ مظاهر متعددة أهمها :
الطغيان الروحى .
الطغيان العقلى والفكرى .
الطغيان المالى .
الطغيان السياسى .
الطغيان العلمى .
(1) رجال الدين :(1/21)
لكل دين - سماوى أو غير سماوى - رجال يقومون بتلقين الدين للناس، وتعليمهم إياه، ويكونون - فى نظر الناس على الأقل - ألصق بأمور الدين وأعرف بها من سواد الناس الذين يكتفون - عادة - بممارسة ما يتلقونه من أولئك المعلمين دون تعمق فيه . وإذا كان هذا شأن كل دين - سماوى أو غير سماوى - فإن الدين المنزل من عند الله يفترق فى هذا الشأن عن الأديان المصنوعة على يد البشر فى خصلتين اثنتين على أقل تقدير .
الأولى : أن يكون الذين يعلمون الدين للناس أقرب فى سلوكهم إلى حقيقة هذا الدين ومقتضياته أى أكثر وعياً وأكثر إخلاصاً وأقرب إلى الله، كما كان المهاجرون والأنصار بالنسبة للجيل الأول من المسلمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
والثانية : أن يكونوا متفقهين فى أمر الدين ليجيبوا الناس على أسئلتهم التى تخطر لهم بشأنه، سواء فى الجانب التعبدى المتصل بالعقيدة والشعائر، أو الجانب العملى المتصل بالشريعة .
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [سورة التوبة 9/122](1/22)
وأمر طبيعى أن يكون مثل هؤلاء الرجال موضع التقدير والاحترام من بقية الناس، ولكنهم - بحكم طبيعة الدين المنزل من عند الله - لا يكونون موضع التقديس . أولاً : لأنهم يعلمون الدين الحق، والدين الحق يجعل التقديس لله وحده وليس لأحد من البشر، وثانياً : لأنهم يعلمون الدين بجانبيه : ما يتعلق منه بالعقيدة والشعائر وما يتعلق بتنظيم أمور الحياة الدنيا بمقتضى الشرع الربانى، فيخاطبون فى الناس جانبهم الروحى وجانبهم العقلى والعملى التطبيقى، فيظل ارتباط الناس بهم ارتباطاً واعياً لا سحر فيه ولا غموض ولا أسرار . ومن ثم لا يصبحون - فى حس الناس - وسطاء بينهم وبين الله، وإنما وسطاء بينهم وبين المعرفة الصحيحة بأمور الدين . وفرق بين الوساطتين كبير !
ومن ثم فلا يوجد فى الدين المنزل من يطلق عليهم " رجال الدين " إنما يوجد رجال صالحون من جهة، وعلماء وفقهاء فى الدين من جهة أخرى . وليس لهؤلاء ولا هؤلاء على الناس سلطان إلا سلطان المحبة والتقدير، ومكان القدوة الصالحة فى النفوس .
وحقيقة أن موسى عليه السلام - بوحى من ربه - قد ناط بكل سبط من أسباط بنى إسرائيل الاثنى عشر أعمالا معينة يتوارثونها بينهم، ومن بينها إقامة الشعائر والنسك مما أوجد فيهم كهانة وكهانا .. ولكن هذا كان أمرا تنظيميا فيما بين الأسباط لربط بنى إسرائيل بعضهم ببعض حتى لا يتفرقوا ولا يختلفوا فيما بينهم، ولم تكن كهانة للدين ذاته، أى وساطة بين بنى إسرائيل وبين الله .
أما الأديان الموضوعة فلها شأن آخر ..
إنها أولا أديان موضوعة لا تعرف الله الحق ولا تعرف الناس به . ومن ثم فإن مفهومها الدينى ليس هو المفهوم الصحيح، والقداسة فيها ليست وقفا على الله وحده كما ينبغى فى الدين الحق .(1/23)
وهى ثانيا تتكئ على الجانب الروحى : جانب العقيدة والشعائر والنسك، أكثر بكثير من الجانب العقلى والعملى التطبيقى - إن اهتمت بهذا الأمر على الإطلاق - ومن ثم يصبح ارتباط الناس بهم ارتباطا روحيا ووجدانيا خاليا تقريبا من الوعى، أو - عند البسطاء من الجماهير - خاليا من الوعى على الإطلاق .
ومن هنا يصبح فى هذه الأديان كهان أو رجال دين يمارسون سلطانا روحيا هائلا على الجماهير، وتحيط بهم هالة من الغموض والأسرار .. ويصبحون هم الوسطاء بين الناس وإلههم الذى يعبدون !
وقد كان هذا هو شأن المسيحية المحرفة التى وضعتها الكنيسة الأوروبية .
إنها دين وضعى وإن تمسح بالمسيح عيسى ابن مريم وبالوحى الربانى . وزعم أنه من عند الله .
ومن ثم كانت له كهانة، وكان له رجال دين .. وكان هؤلاء الكهان - والبابا على رأسهم - وسطاء بين الناس وبين الله !
لقد حاولت الكنيسة أن تسند وجودها وسلطانها إلى المسيح عليه السلام، إما بتأويل كلمات قالها بالفعل تأويلا يناسب أهدافها، وإما باختراع كلمات لم يقلها وإلصاقها به، كما فعلت فى قضية البنوة والتألية، وإعطاء قانون قيصر شرعية كشريعة الله .
تزعم الكنيسة أن المسيح قال لبطرس كبير الحواريين : أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة ابنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها . وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا فى السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا فى السموات " 19" وأنه قال : " أنى أهب سلطانى لكنيستى "
ورتبت الكنيسة على هذا لزعم أن المكان الذى مات فيه بطرس - وهو روما - لابد أن يكون مقرا للنفوذ الدينى الذى يبسط ذراعيه على الأرض كلها ممثلا فى الكنيسة، وإن ما تقوله الكنيسة - ولعلى رأسها البابا - واجب الطاعة لأنه من أمر الله .
ولكن القضية كلها قائمة على أساسين واهبين هاويين :(1/24)
قائمة على أساس أن المسيح عليه السلام ذو طبيعتين إحداهما لاهوتية والأخرى ناسوتية، ومن ثم فهو إله وبشر فى ذات الوقت، وهو على هذه الهيئة وسيط بين البشر ذوى الطبيعة الناسوتية الخالصة والإله ذى الطبيعة اللاهوتية الخالصة !! فهو ليس رسولا يبلغ وحى الله للناس - كما هو فى الحقيقة - إنما هو حلقة وسيطة تمر بها مشاعر الناس وأعمالهم لكى تصل إلى الله، كما تمر من خلاله كلمة الله إلى الناس !
وقائمة - من بعد - على أساس أن الكنيسة هى وريثة المسيح، ومن ثم فإن لها ذات الوضع وذات السلطان الذى كان للمسيح، فهى مقدسة، و" قداسة " البابا - ومن يكل الأمر إليهم من الكرادلة وغيرهم - هم الوسطاء الذين تمر بهم مشاعر الناس وأعمالهم لكى تصل إلى الله، كما تمر من خلالهم كلمة الله إلى الناس !!
وكلا الأمرين لا يقوم على أساس فى دين الله ..
فالرسل فى دين الله هم رسل فحسب .
{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)} [سورة الإسراء 17/93]
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [سورة آل 3/144]
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَي} [سورة الأنعام 6/50]
{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [سورة الأعراف 7/188]
وعيسى ابن مريم عبد الله ورسوله :(1/25)
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (173)} [سورة النساء 4/171-173]
إنما وقع الخلط عندهم من أنهم قالوا : " فى البدء كان الكلمة . والكلمة كان الله " .. فجعلوا كلمة الله هى اله ! وعلى هذا الأساس يمكن أن يكون آدم كذلك هو الله - نستغفر الله - لأنه كلمة الله : {قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [سورة آل 3/59] ولأن الله نفخ فيه من روحه : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/72](1/26)
أما القولة التى نسبوها إلى المسيح وأولوها على هواهم فهى لا تعنى أن تكون هناك كنيسة بالمعنى الذى صار إليه الأمر فى الكنيسة الأوروبية ولا رجال دين لهم وجود متميز وسلطان على المؤمنين بذلك الدين . إنما هى على فرض صحتها لا تعنى أكثر من قول الله عن المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون 63/8] فهى عزة يمنحها الله للمؤمنين بدينه، يعتزون بها فى الأرض على الكفار والمنافقين، وليست سلطانا ذاتيا يمارسونه على المؤمنين ! ولكن على هذا الفهم الخاطئ والتأويل المعوج سارت الأمور فى المسيحية المحرفة فصار لها كنيسة ورجال دين " 20" يرأسهم " قداسة " البابا ويرسمهم ذلك البابا أى يضعهم فى مناصبهم، وصار لهم على الناس ذلك السلطان المعروف فى التاريخ الأوروبى الذى لم يكن سلطانا عاديا، وإنما وصل إلى حد الطغيان المتعدد الألوان .
(2) طغيان رجال الدين :
(أ) الطغيان الروحى :
أشرنا من قبل إلى أن الطغيان الروحى هو من طبيعة الأديان الموضوعة التى تركز على الجانب الروحى . كذلك كان الأمر مع سحرة فرعون . وهم كهنته فى ذات الوقت .. الذين يروى القرآن عنهم .
{أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [سورة الأعراف 7/116]
وكذلك كان الأمر مع كهنة الديانات الوضعية القديمة كلها . فالكاهن محوط بالأسرار والغموض، على أساس أن له صلة خفية بالإله المعبود، ومن ثم ففيه عنصر إضافى غير بقية البشر العاديين يتيح له لك السلطان المرهوب على القلوب، لأنه يملك - فى حسهم - أن يستنزل رضا الرب وغضبه على السواء ..! وبعد قليل يصبح غضبه - فى حسهم - كأنما هو غضب الرب، وكذلك رضاه !(1/27)
وإذا كان الأمر لم يصل فى المسيحية المحرفة إلى صورة السحر المادى لأن لها أصلا سماويا على أى حال، فقد كان دور رجال الدين فيها قريبا من دور الكهنة فى الديانات الوثنية الخالصة " 21 " وكان لهم سلطان روحى طاغ على الناس بوصفهم الوسطاء بينهم وبين الله . فالطفل لا يعد مسيحيا حتى يعمد . والتعميد لا يتم إلا على يد الكاهن . ومن ثم تبدأ حياة المسيحى بتلك الوساطة الكهنونية التى تدخله - ابتداء - فى الدين . ثم يظل حياته كلها مرتبطا بالكاهن . هو الذى يزوجه، وهو الذى يصلى به صلاة الأحد فى الكنيسة ن وهو الذى يتقبل اعترافه بخطاياه ويتقبل توبته (وإلا فلا توبة ومن ثم لا غفران !) ثم هو الذى يصلى عليه فى النهاية حين يموت . فهو من مولده إلى مماته مرتبط بالكاهن ذلك الرباط الذى يمثل فى حسه الكوة المفتوحة على عالم الغيب، والصلة التى تصل قلبه بالله ! ولا يستطيع مهما كانت حرارة وجدانه أن يعقد صلة مباشرة بالله بعيدة عن سلطان الكاهن أو غير معرضة لتدخله فى أى وقت من الأوقات !
فإذا كان هذا سلطان الشماس الصغير فى القرية (الأبرشية) فما بالك بالأسقف وما بالك بالكردينال !؟
ثم ما بالك برئيس هؤلاء جميعا الذى يجلس على عرش البابوية هناك فى مقر السلطان ؟!
أو تعجب إذن إذا قيل لك إنه " قداسة " - البابا - وإنه المتحدث باسم الرب الإله فى الأرض .. وإنه مقدس الذات ومقدس الكلمات ؟!
ثم هل تعجب - من جهة أخرى - إذا رأيت رجال الدين قد طغوا فى الأرض بغير الحق، وقد أوتوا على القلوب ذلك السلطان ؟!(1/28)
إن السلطان بطبيعته يطغى : {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [سورة العلق 96/6-7] ولا يحد من هذا الطغيان إلا تقوى الله وصدق الإيمان به : {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)} [سورة الحج 22/41]
فإذا فرغت القلوب من التقوى .. فما الذى يمنع الطغيان ؟
ولقد كانت قلوب أكثرهم خالية من التقوى كما يشهد كتابهم ومؤرخوهم . عباد دنيا .. عباد مال ونساء وشهوات .. لذلك كان الدين بالنسبة إليهم حرفة يحترفونها، وسبيلا يلجونه ليوصلهم إلى المناصب ذات المكانة الرفيعة فى المجتمع وذات السلطان .
ولذلك كان طغيانهم من أبشع ألوان الطغيان فى التاريخ .. وكان حقا على أوروبا - حين تنورت - أن تخلع هذا السلطان الطاغى وتنسلخ منه، إحساسا بالكرامة وفرارا من الذل والهوان ..وإن كانت قد تحركت - فى هذا الأمر وفى غيره - حركات هوجاء بعيدة عن المنطق والرشد، أخرجتها من ضلال إلى ضلال .
يصف تشارلس ديكنز فى قصة المدينتين التى يتحدث فيها - بطريقة روائية - عن مقدمات الثورة الفرنسية والأحوال التى هيأت لقيامها، مشهدا من مشاهد ذلك الإذلال الروحى الذى كان يمارسه رجال الدين على الناس، أو الذل الروحى الذى كان يمارسه الناس لرجال الدين - وكلاهما سواء فى دلالته - فيصف شارعا من شوارع باريس وهى يومئذ غيرها اليوم .. والمطر ينهمر بقوة، والشارع مملوء بالطين والأقذار والوحل، وموكب الكاردينال على حصانه يمر فى الطريق، والناس محتشدة على الصفين ترقب ذلك المشهد بقلوب خائفة واجفة، وتنتظر اللحظة الهائلة التى يحاذى الموكب فيها رؤوسهم، فتهوى هذه الرؤوس خشوعا - أو مذلة !! - للموكب الموقر، وتظل تهوى حتى تلتصق بالأرض .. فى الوحل والطين والقاذورات !
بأبى أنت وأمى يا رسول الله !(1/29)
" لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم " " 22"
" إنما أنا ابن إمرأة من مكة كانت تأكل القديد " " 23"
ولم يكن ذلك هو الباب الوحيد للطغيان الروحى الذى مارسته الكنيسة ورجال الدين .. فى صلب العقيدة المسيحية كانت هناك أبواب للطغيان ..
فهناك " الأسرار " التى لا يعلم تأويلها إلا الراسخون .. لا فى العلم ولكن فى الكهنوت !
أسرار التثليت .. والعشاء الربانى الذى يتحول فيه جسد المسيح إلى خبز ودماؤه إلى خمر ! وما إلى ذلك من معتقدات وطقوس .
ولئن كانت هذه القضية داخله فى الطغيان العقلى والفكرى - من حيث حظر التفكير فيها ومناقشتها، ووجوب التسليم الأعمى بها، وسنتكلم عنه بهذه الصفة هناك - فإننا نتحدث هنا عن جانبها الروحى . ذلك أنها عندهم من صلب العقيدة .. والمفروض فى العقيدة أن تكون خالصة بين القلب البشرى وبين الله لا يعترضها فى الطريق معترض، لأنها هى الصلة المباشرة التى تربط قلب المؤمن بالله .. إنما ينزل الله كلماته على رسله لتبين للناس حقيقة الألوهية .. ثم ينعقد الإيمان فى داخل القلب البشرى فيتجه مباشرة إلى الله .
وبصرف النظر عما فى تلك " العقيدة " من زيف ما أنزل الله به من سلطان، فإنها - عندهم - هى العقيدة ! بل هى العقيدة الصحيحة التى لا يقبل من أحد سواها ! وليس المفروض فى العقيدة الصحيحة أن تحتوى على أسرار مغلفة لا يعرف حقيقتها إلا فئة معينة من الناس محدودة العدد محدودة الذوات ! إنما كان يحدث هذا فى الديانات الوثنية السالفة، حيث الأوهام بديل من الحق، وحيث الأسرار تحيط بالأوهام، ليظل الناس خاضعين لها لا يفيقون من سحرها، ولا يتمردون على كهنتها الذين فى أيديهم - وحدهم - وصل القلوب بالأسرار، بطريقة خفية لا تدركها الأفهام ولا الأبصار !(1/30)
وإذ كانت مسيحية الكنيسة فى حقيقتها دينا من صنع الكنيسة، أو من صنع بولس الذى قدمها لأوروبا فقد احتوت شيئا من طبيعة تلك الدينات الوثنية التى وضعها البشر من قبل، فتضمنت تلك الأسرار التى لا يملك مفتاحها إلا أصحاب القداسة العليا .. أو هكذا يقولون للناس ! فما يملك مفتاحها أحد فى الحقيقة لأنها وهم لا وجود له على الإطلاق !
ومارست الكنيسة طغيانها الروحى كاملا فى هذا الجانب، فقالت للناس : لن تؤمنوا بالله حتى تؤمنوا بتلك الأسرار .. ثم قالت لهم إن مفتاح تلك الأسرار عندنا نحن ولن نعطيه إلا لمن نختار !!
(ب) الطغيان العقلى والفكرى :
إذا عدنا لتلك الأسرار ذاتها، وموقف الكنيسة منها، وجدنا هذا الموقف ينطوى على لون آخر من الطغيان غير الطغيان الروحى .. مارسته الكنيسة لا على أرواح الناس هذه المرة ولكن على عقلوهم وأفكارهم، حين فرضت عليهم هذه الأسرار فرضا ومنعتهم من مناقشتها، واعتبرت المناقش فيها أو الشاك فى أمرها كافرا مهرطقا وجبت عليه اللعنة الأبدية .. وخرج من رضوان البابوية فخرج - من ثم - من رضوان اله !
ولقد كانت تلك الأسرار كلها منافية للمنطق ومنافية للعقل . ولا شك أن واضعيها كانوا يعلمون ذلك أو يحسونه على أقل تقدير، ويحسون أنها لو نوقشت - بالعقل والمنطق - فلن تصمد للنقاش ! وإذ كانوا يصرون عليها، وعلى أنها هى الحقيقة - تضليلا بوعى أو ضلالا منهم بغير وعى - فلك يكن أمامهم إلا أن يستخدموا سلطانهم الطاغى لمنع المناقشة فى هذه الأمور لكى لا تنكشف عن وهم لا وجود له إلا فى أذهان واضعيه أو لا وجود له حتى فى أذهان واضعيه !
ويذكرنى هذا بحق الاعتراض " الفيتو " الذى تمارسه الدول " الكبرى " فى الجاهلية المعاصرة ! فما إن تشعر إحدى تلك الدول أن نقاشا ما سيحرجها أو يكشف زيف موقفها وبعده عن الحق، حتى تبادر بإسكات الألسنة باستخدام " الفيتو " فيسكت المناقشون صاغرين !(1/31)
ولئن كان هذا طغيانا تمارسه القوى الطغيانية التى تسمى نفسها الدول العظمى فى الجاهلية المعاصرة فقد كان طغيان الكنيسة فى جاهلية القرون الوسطى - المظلمة فى أوروبا " " 24" - أنكى وأشد، فقد كانت تمارسه فى أمر يمس العقيدة وهى ضرورة بشرية لا غنى عنها للبشر، الذين خلقوا - بفطرتهم - عابدين، والذين تظل فطرتهم - بما أودع الله فيها - تبحث عن الله لتتجه إليه بالعبادة وتقدسه فى علاه .
وحين كان أى عقل مفكر يتجرأ فيسأل - مجرد سؤال - عن ماهية هذه الأسرار، ولو كان سؤاله من أجل الإيمان بها أو الاطمئنان الذى يزيد الإيمان، كانت الكنيسة تسارع إلى زجره عن هذا الإثم الذى يهم به، والذى يوقعه لا شك فى المهالك ! وتقول له إن هذا أمر خارج عن نطاق العقل . إنما يسلم المؤمن به تسليما بغير نقاش !
وهنا وقفة ربما كانت ضرورية فى هذا الشأن .
فقد يخطر على البال قوله تعالى : " هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وآخر متشابهات . فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله . والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يكر إلا أولوا الألباب " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله " " 25 "
وقد تعرض هذه القضية من أساسها : هل الدين من شأن العقل أم من شأن الوجدان ؟ وما دور العقل فيه إن كان له دور على الإطلاق ؟ وهل عليه - من أجل الإيمان - أن يسلم تسليما أعمى بكل ما يأتيه عن طريق " الدين " أم له أن يناقش ويطلب الدليل ؟(1/32)
ونبدأ أولا بالنص القرآنى فنجد فيه إشارة إلى المحكم والمتشابه . ويجمع المفسرون والعلماء على أن أصول العقيدة - وكذلك أحكام الشريعة - هى من المحكم الذى لا يدخل التشابه فيه . وأن الأمور المتشابهة - التى لم تحددها الآية، والتى اختلف المفسرون فى تحديدها، والتى منها على سبيل المثال الصورة المفصلة لأحوال الجنة وأحوال النار، وصفة العرش وما إلى ذلك من الأمور - وهم ليسوا فئة محددة كفئة رجال الكهنوت - لا يزعمون أن عندهم تأويلها، ولا أن تأويلها سر خاص بهم يحتجزونه عن الناس ثم يطالبونهم بالإيمان به بلا دليل . بل تنص الآية على أن الله وحده هو الذى يعلم تأويلها - أى حقيقتها - لأنه - سبحانه - هو العليم الخبير الذى يعلم كل شئ على إطلاقه، إنما الراسخون فى العلم يسلمون فقط بأن الآيات كلها - محكمها ومتشابهها - من عند الله، ويعلمون أن علم هذه المتشابهات هو عند الله وحده فيؤمنون بها على إطلاقها لأنها منزلة من عند الله، ولكنهم لا يزعمون لأنفسهم خصوصية فى التأويل، ولا يحتجزون لأنفسهم شيئا من العلم يحجبونه عن الناس .
وهذا أمر يختلف تمام الاختلاف عن موقف الكنيسة الأوروبية فى قضايا العقيدة . فقد جعلت تلك الأسرار من أصول العقيدة، ثم زعمت أن عندها وحدها مفاتيحها .. ثم قالت للناس : لن نعطيكم المفتاح ! ولكن عليكم أن تؤمنوا بها كما نقدمها لكم دون سؤال ولا نقاش ! وإلا فأنتم زائغو العقيدة مهرطقون .. وعليكم اللعنة إلى يوم الدين!(1/33)
إن الكنيسة هنا وضعت نفسها فى موضع الإله، بل افترضت لنفسها على الناس ما لم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يفترضه لنفسه على عباده رحمة بالناس ! فالله - وحده - هو الذى يحق له أن يتعبد عباده بأمور ليس من الضرورى أن يدركوا حكمتها، ليعلم - سبحانه - من يطيعه بالغيب . ولكنه - من رحمته - قد جعل ذلك فى أمور التعبد وليس فى أمور العقيدة التى جعلها الله سهلة وميسرة ومفتوحة بلا ألغاز ولا غموض، ليستوعبها كل قلب ويطمئن إليها كل قلب . أما الكنيسة فجعلت ذلك فى أمور العقيدة، وجعل لنفسها حقوقا أكثر مما افترض الله على العباد !
ثم نعرج على الحديث الشريف فنجد أن فيه نصيحة للبشر أن يتعرفوا على الله سبحانه من خلال آياته الدالة على وحدانيته، والدالة على تفرده فى كل شئ بلا شريك . وألا يحاولوا أن يتفكروا فى ذات الله لكيلا يضلوا ولا يهلكوا .
هل هو حجر على العقل البشرى أن يبحث وأن يناقش وأن يعرف ؟
كلا ! فالدعوة إلى التفكر واردة فى أول الحديث . " تفكروا فى آيات الله " إنما هو بيان لمنهج الصحيح للتفكير، ودعوة إلى صيانة العقل البشرى أن تتبدد طاقته فيما لا طائل وراءه !
فماذا يملك العقل البشرى أن يحيط به من ذات الله التى لا يحدها زمان ولا مكان ولا بدء ولا انتهاء ؟
وإلى أى شئ وصل العقل البشرى فى أمر الذات الإلهية حين خالف النصيحة ومضى يخبط فى الظلمات ؟ إلى أى شئ وصلت الفلسفة فى القديم أو الحديث، وإلى أى شئ وصل علم الكلام بعد المعاظلات الذهنية التى لا تؤدى إلى شئ إلا إجهاد الذهن بلا نتيجة ؟!
إن العقل ليعجز عن إدراك " الكنه " حتى فى أمور الكون المادى، فيكتفى بتسجيل الظواهر دون الدخول فى الكنه، فكيف بالخالق الذى لا تحده الحدود ؟
كلا ! إنها الصيانة وليست الحجر .. ومن خالف النصيحة فليضرب فى التيه !
أما العقيدة فمن ذا الذى حرج على العقل أن يدلى فيها بدلو ويكون فيها له نصيب ؟(1/34)
فأما الإسلام فقد دعا العقل دعوة صريحة إلى التفكير والتدبر ليصل فى أمر العقيدة إلى اليقين .. بل نعى على الذين يرفضون التفكير، اتباعا للهوى، أو اتباعا لما ورثوه من عقائد الآباء والأجداد، أو إغلاقا للحس والبصيرة، عن التأمل والتفكير :
{بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الروم 30/29]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)} [سورة البقرة 2/170]
وجاء فى وصف عباد الرحمن نفى للصفة الذميمة عنهم وهى إغلاق الحس والبصيرة ن التفكير :
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً (73)} [سورة الفرقان 25/73]
أى لم يوصدوا عقولهم عن التفكير الذى يؤدى إلى معرفة الحق .
كذلك يوصف المؤمنون بأنهم " أولو الألباب " وأنهم هم الذين يتفكرون فى خلق السماوات والأرض فيهديهم التفكر إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وخلق السماوات والأرض بالحق لا بالباطل :
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [سورة آل 3/190-191]
كما ينبغى على الذين لا يتدبرون القرآن ولا يتفكرون فيما يحويه من الآيات :
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [سورة محمد 47/24](1/35)
والأدلة العقلية والجدل العقلى كثير فى القرآن :
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 21/22]
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [سورة المؤمنون 23/91]
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35)} [سورة الطور 52/35]
ويشهد الترايخ أن " العقل " فى ظل الإسلام قد قام بنشاط فكرى ضخم فى كل اتجاه، ولكننا نعود فنسأل، لنحدد بالضبط جريمة الكنيسة الأوروبية فى الحجر على الفكر البشرى : ما دور الوجدان وما دور العقل فى قضية الإيمان ؟ وهل هناك أمور يختص بها الوجدان وليس للعقل فيها إلا التسليم ؟
إن الدين - كما نعرف صورته فى الوحى المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم - يخاطب الإنسان كله: وجدانه وعقله فى آن . وقد يكون الوجدان أوسع الأوعية البشرية التى تستوعب أمر العقيدة وقضية الإيمان . ولذلك فإن الخطاب الوجدانى هو الغالب فى السور المكية التى يتركز الحديث فيها على العقيدة . والقرآن يستثير الوجدان البشرى بالطرق على جميع نوافذ القلب والتوقيع على جميع أوتاره، ثم - بعد استثارته - يلقى إليه الحقيقة المتعلقة بالعقيدة، فينفعل بها القلب، وتصل منه إلى القرار .. ويكفينا مثال واحد من سورة الأنعام :(1/36)
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/95-99]
ولكن هذا ليس معناه أن الوجدان يستقل بأمر العقيدة .. وليس معناه أن الدين يفرض على العقل - فى شأن العقيدة - أمورا لا يستسيغها ولا يتقبلها، ويطلب منه أن يسلم بها تسليما أعمى بل دليل .
فأما ما يتصل بالذات الإلهية فنعم .. لا يملك العقل أن يستوعب . والوجدان أقدر على الاستيعاب من العقل المقيد فى تصوره بحدود الزمان والمكان والبدء والانتهاء .(1/37)
ولكن الدين لم يطالب الإنسان - من أجل أن يؤمن بالله - أن يتفكر فى الذات الإلهية التى يعجز عن الإحاطة بها، إنما طالبه بالتفكر فى آيات الله التى تستجيش النفس بدلالاتها الواضحة على تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية والربوبية، فيؤمن الإنسان بالله الواحد الذى لا شريك له، ثم تستقيم حياته بمقتضى ذلك الإيمان .
ومن ثم يشترك العقل والوجدان معا فى أمر العقيدة، كل يؤدى دوره على طريقته .. وفى النهاية يستقر الإيمان فى القلب، ويصبح حقيقة واقعة فى كيان الإنسان، تتبدى فى فكره وشعوره وسلوكه على السواء .
وإذن فادعاء الكنيسة أن العقل لا ينبغى له أن يسأل وأن يناقش فى أمر العقيدة، وإنما عليه أن يسلم تسليما أعمى ويترك الأمر للوجدان، وهو ادعاء ليس من طبيعة " الدين " كما أنزله الله . إنما كان هذا من مستلزمات الأديان الوثنية التى تحوى أوهاما لا يمكن أن يسيغها العقل لو فكر فيها، فتسكت صوت العقل وتمنعه من التفكير، بالسحر تارة، وبالتهديد بغضب الآلهة المدعاة تارات !
وإذا كان هذا الأمر - وهو إسكات صوت العقل ومنعه من التفكير - غير مستساغ حتى فى بداوة الإنسان أو ضلالة البشرية، فهو من باب أولى غير مستساغ فى دين تزعم الكنيسة أنه هو الدين المنزل من عند الله، وأنه يمثل مرحلة راشدة فى تاريخ البشرية !
ولو كانت هذه الأسرار من الدين حقا، ولو كانت من أمور العقيدة التى يلزم الإيمان بها، ما منع الله الناس أن يناقشوها بعقولهم ليتبينوا ما فيها من الحق ويؤمنوا به ! فإن الله لا يقول للناس - فى وحيه المنزل - آمنوا بى دون أن تفكروا وتعقلوا . ولا يقول لهم : إنى سأضع لكم الألغاز التى لا تسيغها عقولكم ثم أطالبكم أن تخروا عليها صما وعميانا لا تتفكرون ن وإلا طردتكم من رحمتى !(1/38)
إنما يقول الله للناس من خلال القول الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } [سورة سبأ 34/46]
ويندد بهم حين لا يتفكرون ولا يتدبرون : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [سورة محمد 47/24]
ويناقش شبهاتهم، ويطالبهم بوضعها على محك المنطق السليم وأن يأتوا عليها بالبرهان .. حتى يتحصل لهم من الوعى ما ينفى كل شبهة ويجعل العقيدة مستقرة على يقين لا مجال فيه للتردد ولا للشك : {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)} [سورة النمل 27/59-64](1/39)
ويرتب الإيمان على مجئ " البينات " وهى الأدلة الواضحة التى تبين الحق وتزيل الشك : {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي } [سورة غافر 40/66]
ويقيم الحجة على الناس قبل أن يطالبهم بالإيمان : {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء 4/165]
كلا ! لا يطلب الله من عباده التسليم الأعمى، إنما يطلب منهم التسليم البصير : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف 12/108]
إنما كان الأرباب المزيفون - فى المجامع المقدسة وعلى " عرش " البابوية - هم الذين حرموا على العقل أن يفكر، وفرضوا عليه أن يسلم تسليما أعمى بأمور لا يستسيغها ولا يعقلها، وإلا كان من الكافرين !
ولم يكن للناس بد تحت هذا التهديد الطاغى ممن فى أيديهم - وحدهم - الوساطة بين الله وعباده - كما يزعمون ! - أن يسلموا تسليما أعمى بأسطورة التثليت وأسطورة العشاء الربانى وأسطورة الأب الذى صلب ولده فداء لخطيئة آدم .. وغيرها من الأساطير المفروضة عليهم، لكى يأمنوا غضب الوسطاء، المؤدى - فى وهمهم - إلى غضب الله، وأن يلتزموا بهذا الحجر البشع على العقول والأفكار عدة قرون .
ولكن ..هل كان من الممكن أن يستمر ذلك إلى الأبد دون أن تتمرد العقول المكبوتة وتدعو إلى حرية التفكير ؟!
(جـ) الطغيان المالى :(1/40)
لم يكن " رجال الدين " من أهل التقوى والزهد كما يتوقع من القوم الذين حولوا الدين إلى روحانية غالبة ورهبانية وأمروا الناس أن يكتفوا بعيش الكفاف لكى يدخلوا الجنة ويجلسوا عن يمين الرب فى الآخرة ! وأبلغتهم أنه "من أراد الملكوت فخبز الشعير والنوم فى المزابل مع الكلاب كثير عليه " وأن " مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله " " 26" وأن " لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا فى مناطقكم، ولا فرودا لطريق، ولا ثوبين " " 27 " ولا أحذية ولا عصا " 28 " !
إنما كانت الكثرة منهم ممن فتنوا بالدنيا ونسوا الآخرة .
يقول " كرسون " فى كتاب " المشكلة الأخلاقية " .
" كانت الفضائل المسيحية كالفقر والتواضع والقناعة والصوم والورع والرحمة، كل ذلك كان خيرا للمؤمنين وللقسيسين وللقديسين وللخطب والمواعظ . إما أساقفة البلاط والشخصيات الكهنوتية الكبيرة فقد كان لهم شئ آخر : البذخ والأحاديث المتأنقة مع النساء والشهرة فى المجالس الخاصة والعجلات والخدم والأرباح الجسيمة والموارد والمناصب " " 29"
ويقول " ول ديورانت " :
" أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضى وأكبر السادة الإقطاعيين فى أوروبا . فقد كان دير " فلدا " مثلا يمتلك خمسة عشر ألف قصر صغير، وكان دير " سانت جول " يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان " ألكوين فيتور" " 30 " سدا لعشرين ألفا من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذى يعين رؤساء الأساقفة والأديرة وكانوا يقسمون يمين الولاء كغيرهم من الملاك الإقطاعيين، ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية .. وهكذا أصبحت الكنيسة جزءا من النظام الإقطاعى .
" وكانت أملاكها الزمنية، أى المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحى متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين، ومصدرا للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات " " 31 "(1/41)
وكانت مصادر تلك الأملاك متعددة، فمنها الأوقاف، ومنها العشور، ومنها الهبات ومنها الضرائب، ومنها السخرة .
فأما الأوقاف فقد كانت الكنيسة تستولى على أراض زراعية واسعة وتوقفها على نفسها لتنفق منها على الأديرة والكنائس وتجهيز الجيوش للحروب الصليبية أو الحروب التأديبية التى تقوم بها ضد الملوك والأباطرة الخارجين على سلطانها . وفى ذلك يقول ويكلف وهو من أوائل الذين ثاروا على الفساد الكنسى وطالبوا بالإصلاح الشامل : " إن الكنيسة تملك ثلث أراضى إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقى " " 32 "
كما فرضت الكنيسة على اتباعها أن يدفعوا إليها عشر أموالهم ضريبة سنوية لا يملكون التملص منها تحت وطأة التهديد بالحرمان وغضب الرب !
يقول ويلز :
" كانت الكنيسة تجبى الضرائب . ولم يكن لها ممتلكات فسيحة ولا دخل عظيم من الرسوم فحسب، بل فرضت ضريبة العشور على رعاياها، وهى لم تدع إلى هذا الأمر بوصفه عملا من أعمال الإحسان والبر، بل طالبت به كحق " " 33 " !
وفرض البابا يوحنا الثانى والعشرون بالإضافة إلى ذلك ضريبة جديدة سميت " ضريبة السنة الأولى " وهى دخل السنة الأولى لأية وظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية يدفع إلى الكنيسة بطريق الإجبار !
أما الهبات فهى هبات فى ظاهر الأمر فقط ! ولكنها تؤخذ بالإحراج والتوريط، والترغيب والترهيب ! وخاصة الهبات التى تمنح للكنيسة فى الوصايا التى يكتبها الناس قبل موتهم . فقد فرضت الكنيسة على الناس ألا يكتبوا وصاياهم إلا على يد القسيس ! وما دام القسيس حاضرا وقت كتابة الوصية فقد اصبح الواجب - من باب " المجاملة " على الأقل _ أن يهب الوصى شيئا من ماله للكنيسة حتى لا يكون مجافيا للذوق ! أو حتى يتحاشى ما هو أخطر من ذلك : غضب الأرباب المؤدى إلى غضب رب الأرباب !!(1/42)
أما السخرة فقد كانت الكنيسة تفرضها على رعاياها بالعمل يوما واحدا فى الأسبوع بالمجان فى أراضى الكنيسة الواسعة . فيعمل التعساء ستة أيام فى الأسبوع ليجدوا خبز الكفاف لهم ولأسرهم، ثم يعملون اليوم السابع - يوم الراحة - سخرة فى أراضى الكنيسة لكى توفر الأخيرة أجور العمال التى كان المفروض أن تدفعها لقاء زراعة إقطاعياتها الواسعة وجنى حاصلاتها وتزداد بذلك اكتنازا وضراوة فى لطب المزيد من المال !
لقد كان من السهل على الكنيسة أن تمارس ذلك الطغيان المالى وهى تملك ذلك النفوذ الطاغى على أرواح الناس وعقولهم . فما هى إلا أن تصدر الأمر فيطيع العبيد صاغرين !
(د) الطغيان السياسى :
زعمت الكنيسة أن المسيح عليه السلام قد أعطى قيصر وحكمه شرعية الوجود، حين وضعت على لسانه هذه الكلمات : " إذن أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله " وفسرتها - عمليا - بترك القانون الرومانى يحكم العالم المسيحى بدلا من شريعة الله .
ورغم أن هذا تفسير خاطئ لدين اله المنزل على عيسى ابن رميم رسول الله، فقد كان مقتضاه - المنطقى - أن تتفرغ الكنيسة لشؤون الآخرة وشؤون الروح، وتترك قيصر يحكم عالم الأرض وعالم الأبدان .
ولكنها لم تكن فى شئ من سلوكها العملى منطقية مع الذى تقوله بأفواهها أو تعلنه من مبادئها . فقد ادعت لنفسها سلطة دنوية (أو زمنية Temporal كما يسمونها فى التاريخ الأوروبى) نازعت بها الأباطرة والملوك وأخضعتهم لسلطانها .
ونحن المسلمين لا ننكر - من حيث المبدأ - أن يكون لمن يقوم على أمر الدين فى الأرض سلطان على الباطرة والملوك، وإن كنا لا ت=نعرف - فى الإسلام - شيئا يمكن أن يسمى " الكنيسة " ولا شيئا يمكن ان يسمى " رجال الدين " إنما هم علماء الدين وفقهاؤه . إنما نقصد أننا لا ننكر على الذين يقع على عاتقهم مراقبة إقامة الدين فى الأرض أن يكون لهم على ذوى السلطان سلطة النصيحة والتوجيه والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .(1/43)
ولكن ... لأى شئ تكون هذه السلطة وعلى أى شئ تدور ؟!
إنها - فى دين اله المنزل - تكون لتنفيذ شريعة الله ومراقبة الأمور كلها لكى تكون خاضعة لشريعة الله .
فهل من أجل هذا طالبت الكنيسة بأن تكون لها على الأباطرة والملوك سلطان ؟! بل ذلك أبعد شئ عن الحقيقة .
إن الكنيسة - وهى تطالب بسلطانها الطاغى على الأباطرة والملوك - أو حين مارست هذا السلطان بالفعل - لم تطالبهم قط بالانصياع إلى شريعة اله وتطبيق أحكامها على الناس (فيما عدا قانون الأحوال الشخصية) الذى لم يجد معارضة من الحكام من قبل !) إنما كانت تطلب - وتمارس - سلطانا شخصيا بحتا، وأرضيا بحتا، هو أن يطأطئ الملوك والأباطرة لها الرؤوس وأن يعلنوا أنهم خاضعون لسلطانها !
إن الكنيسة - بذلك - قد أجرمت فى حق دين الله جريمتين مزدوجتين : الأولى أنها عزفت عن تطبيق شريعة الله، واجبها الأول، والمبرر الأكبر لوجودها إن كان لوجودها مبرر على الإطلاق، بينما كانت تملك سلطة تطبيق هذه الشريعة بما كان لها على قلوب الجماهير من سلطان من جهة، وبما صار لها من سلطان على الملوك والأباطرة فيما بعد ...
والثانية أنها استخدمت سلطانها الذى حاربت من أجل الحصول عليه وأراقت الدماء فى إخضاع الناس جميعا، ملوكهم ورعاعهم، لهواها هى، وجبروتها هى، فجعلت من رجالها أربابا من دون الله، وعبدت الناس لهم من دون الله حتى حق عليهم قول الله فيهم : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة 9/31]
إنها جريمة بشعة - أو جرائم بشعة متراكب بعضها على بعض - من أى زاوية نظرت إليها .(1/44)
فمن ناحية الدين المنزل شوهته بفصل العقيدة عن الشريعة وتقديمه للناس عقيدة صرفا بلا تشريع أى مسخا مشوها لا يمثل دين الله الحقيقى .. ثم ادعت للناس أن هذا هو الدين ! وزرعت فى عقول الناس تصورا خاطئا بأن الدين علاقة خاصة بين العبد والرب، محلها القلب نولا علاقة له بواقع الأرض .. فسهلت على الشياطين - فيما بعد- اقتلاع آثاره من واقع الحياة، لأنه لم يكن عميق الجذور فى واقع الحياة ! " 34"
ومن ناحية الواقع أسهمت فى إفساد الأرض بتعطيل شريعة الله، والسماح للجاهلية الرومانية أن تحكم العالم المسيحى - فى صورة قوانين وتنظيمات - ومنعت الإصلاح الذى أراده الله للناس حين نزل عليهم الدين، فنشأت عن ذلك مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية تمثلت فى نظام الإقطاع الذى ساد العالم اللأوروبى - فى ظل الكنيسة - أكثر من عشرة قرون ! وسهل على الشياطين - فيما بعد - اقتلاع آثار الدين وتحطيمه باسم الإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى !
فضلا عما أثارته من المنازعات مع الأباطرة والملوك، مما أدى بهم - فيما بعد - إلى الانسلاخ من سلطان الكنيسة الذى يحمل عنوان الدين بالحق أو بالباطل، وتعميق مفهوم الفصل بين الدين والسياسة الذى كان قائما من قبل بالفعل بتعطيل شريعة الله، ليصبح عداء كاملا بين الدين والسياسة فى أى صورة من صور السياسة وأى صورة من صور الدين !
يروى التاريخ الكثير عن قصة النزاع بين الكنيسة وبين الأباطرة والملوك .
اصدر البابا " نقولا الأول " بيانا قال فيه :
" أن ابن اله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها . وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس فى تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاما كانوا أو محكومين " " 35 "(1/45)
وفى القرون الوسطى مارست الكنيسة ذلك السلطان بالفعل على الحكام والمحكومين، مع وجود فترات من الصراع المتبادل، حيث يتمرد بعض الملوك والأمراء على سلطة البابا، ويشتد آخرون فى حربهم للبابوات حتى إنهم ليعزلون البابا أو ينفونه أو يسجنونه ! ولكن السلطة الغالبة كانت للكنيسة، تستمدها من سلطانها الروحى الطاغى على قلوب الناس، ومن جيوشها الكثيفة ومن أموالها التى تضارع ما يملكه الملوك وأمراء الإقطاع !
يروى " فيشر " قصة الصراع بين البابا هلدبراند وهنرى الرابع إمبراطور ألمانيا فيقول : " .. ذلك أن خلافا نشب بينهما (بين البابا والإمبراطور) حول مسألة " التعيينات " أو ما يسمى " التقليد العلمانى " فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا ورد البابا بخلع الإمبراطور وحرمه وأحل اتباعه والأمراء من ولائهم له وألبهم عليه، فعقد الأمراء مجمعا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد، فوجد الإمبراطور نفسه كالأجرب بين رعيته، ولم يكن فى وسعه أن ينتظر وصول البابا، فضرب بكبريائه عرض الحائط واستجمع شجاعته وسافر مجتازا جبال الألب والشتاء على أشده، يبتغى المثول بين يدى البابا بمرتفعات كانوسا فى تسكانيا، وظل واقفا فى الثلج فى فناء القلعة ثلاثة أيام وهو فى لباس الرهبان متدثرا بالخيش حافى القدمين عارى الرأس يحمل عكازه مظهرا كل علامات الندم وأمارات التوبة حتى تمكن من الظفر بالمغفرة والحصول على رضا البابا العظيم " " 36"(1/46)
كما يروى التاريخ قصة مماثلة عن ملك إنجلترا هنرى الثانى الذى أصدر دستورا يلغى فيه كثيرا من امتيازات رجال الدين، الذين كانوا يملكون الكثير، ولا يدفعون شيئا من الضرائب التى يدفعها الشعب، بل يفرضون هم لأنفسهم ضرائب خاصة .. فحرمته الكنيسة فأصبح غريبا فى وسط شعبه لا يطاع له أمر .. فأعلن ندمه وتوبته، وسار إلى مقر رئيس الأساقفة فى كنتر برى يسترضيه، ومشى على الأرض الصلبة الثلاثة الأميال الأخيرة من رحلته حافى القدمين حتى نزف الدم منهما، وطلب من الرهبان - وقد استلقى على الأرض - أن يضربوه بالسياط حتى يرضى عنه الغاضبون !
ولكن سلطان الكنيسة ظل يتداعى فى نهاية القرون الوسطى حتى قام الملوك يعلنون أنهم هم الحكام فى الأرض بمقتضى " الحق الالهى المقدس " وأنه ليس للبابوات عليهم سلطان إلا السلطان الروحى وحده .
فاستبدلت أوروبا فى الحقيقة طغيانا بطغيان مع فارق واحد، أن الطغيان الجديد يبعد تدريجيا ويبعد الناس معه عن سلطان الدين ! وفضلا عن ذلك فقد كان انشقاق الملوك عن سلطان البابا يتخذ شكلا قوميا متزايدا، تسانده العوامل الأخرى - السياسية والاقتصادية - التى أحاطت بأوروبا وشجعت على ظهور القوميات، اتلى كان لها دور كبير فى بروز الصراعات الحادة فى أوروبا أولا، ثم فى العالم لكله فى صورة حروب استعمارية فيما بعد، بالإضافة إلى ما أثبتناه من قبل من تعميق الفصل بين السياسة والدين .
(هـ) الطغيان العلمى :
كان المفروض أن يأتى الحديث عن الطغيان العلمى بعد الحديث عن الطغيان العقلى والفكرى فإنه وثيق الصلة به . ولكنا أخرنا الحديث عنه باعتبارين .(1/47)
الأول أنه جاء متأخرا فى الترتيب الزمنى إذ حدث فى القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين بينما كانت ألوان الطغيان الروحى والعقلى والمالى والسياسى قائمة فى العالم المسيحى قبل ذلك بعدة قرون، والثانى أنه فى الحقيقة لون جديد من الطغيان غير الطغيان العقلى الذى كان سائدا من قبل بمنع المناقشة والتفكير فى أمر الأسرار المقدسة المتصلة بالعقيدة، فقد كان هذا الطغيان الجديد يفرض على العقول ألا تفكر فى أمور الكون المادى بما تقتضيه الملاحظات والمشاهدات العلمية، وأن تلتزم بالتفسيرات الكنسية لما جاء من إشارات فى التوراة عن شكل الأرض وعمر الإنسان، ولو خالفت هذه التفسيرات كل حقائق العلم النظرية والعملية على السواء !
بدأت القصة، أو بدأت الزوبعة حين قال العلماء إن الأرض كروية وإنها ليست مركز الكون ! ويعرف التاريخ الأوروبى من أبطالها ثلاثة أسماء شهيرة غير الأسماء الأخرى التى لم تلمع على صفحات التاريخ، وهؤلاء هم كوبرنيكوس وجردانوبرونو وجاليليو
الأول عالم فلكى بولندى عاش ما بين 1473 و 1543م .
والثانى فيلسوف إيطالى عاش ما بين 1548 و 1600م .
والثالث عالم فلكى إيطالى عاش ما بين 1564 و 1642م .
وقد قامت قيامة الكنيسة عليهم وعلى غيرهم فأحرقت من أحرقت، وعذبت من عذبت، وهددت من هددت بالتعذيب والحرق فى النار إن لم يكفوا عن هذه " الهرطقة " التى تقول إن الأرض كروية وإنها ليست مركز الكون ! " 37" بحجة أن التوراة قالت إن الأرض مستوية (أى مسطحة) وإنها هى مركز الكون، والإنسان مركز الوجود !
ويقول التاريخ الأوروبى إن الكنيسة قد فزعت فزعتها تلك حفاظا على كيانها، الذى يقوم على الخرافة ويستند إلى انتشار الجهل بين الجماهير،وإنها خشيت على هذا الكيان أن يتصدع وينهار إذا انتشر العلم، وتبين الناس أن ما تقوله الكنيسة ليس هو الحقيقة المطلقة فى كل شئ .
ولا شك أن هذا - فى جملته - صحيح .(1/48)
ولكن هذه المقالة تغفل شيئين مهمين فى هذا الشأن، أولهما عن غفلة والثانى عن قصد !
أما الأول فهو أن آباء الكنيسة ورجالها كانوا مخلصين فى صيحتهم - فى أول الأمر على الأقل - لأنهم كانوا يتصورون أن ما جاء فى التوراة حقيقة، وأن تفسيرهم له هو الصحيح . وسبب ذلك هو الجهالة التى كانت مخيمة على أوروبا كلها، وعلى رجال الدين فيها بصفة خاصة، فقد كانوا من أقل الناس ثقافة ومن أبعدهم عن تعلم العلم الصحيح - إن وجد - اكتفاء بالمجد الروحى والسلطان الطاغى والأموال الطائلة التى يتمتعون بها بوصفهم " رجال الدين " !
إنما يجوز بالفعل أن يكونوا قد استمروا فى حرب العلم - عن وعى وعمد - فيما بعد خوفا على سلطانهم أن يتصدع حين يكتشف الناس أن شيئا مما يقولونه كاذب لا أساس له، فيكون وجودهم كله عرضة لأن يوضع موضع التساؤل والمساءلة .. فينهار !
أما الأمر الثانى الذى يغفله المؤرخون الأوروبيون عن عمد - رغم ظهوره - فهو أن هذا العلم الذى قامت الكنيسة بحربه كان ىتيا من مصادر إسلامية، وكان يحمل معه خطر انتشار الإسلام فى أوروبا ، ومن ثم انهيار الكنيسة ذاتها حين ينهار الدين الذى تمثله وتدعى حمايته !
يقول " ألفارو A;varo " وهو كاتب مسيحى أسبانى عاش فى القرن التاسع الميلادى .(1/49)
" يطرب إخوانى المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها بل للحصول على أسلوب عربى صحيح رشيق . فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة ؟ وأين ذلك الذى يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل ؟ وا أسفا ! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأى أدب ولا لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون فى كل مكان بمدح تراث العرب . وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون فى زراية - إذا ذكرت الكتب المسيحية - بأن تلك المؤلفات غير جديرة باحترامهم" " 38"
وظاهر من هذا النص إلى أى مدى كان تأثير الإسلام على المسيحيين من أهل الأندلس، ونستطيع أن ندرك منه كذلك كيف كان تأثير الإسلام على المبتعثين الأوروبيين إلى بلاد الإسلام .(1/50)
ذلك أنه حين استيقظت أوروبا وبدأت تنهض كان لابد لها أن تتعلم . ولم يكن ثمت علم إلا ما كان عند المسلمين، وفى مدارسهم .. ومن ثم أرسلت أوروبا أبناءها ليتعلموا فى مدارس المسلمين فى الأندلس والشمال الإفريقى وصقلية وغيرها من أماكن العلم .. فتعلموا هناك الطب والهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء علىايدى الأساتذة المسلمين فتأثروا بهم، وتأثروا بالإسلام كذلك، فجن جنون الكنيسة من تأثير الإسلام الزاحف على أوروبا مع حركة العلم .. ومن ثم قامت تضع السدود بين الإسلام وبين أوروبا ، وكلفت كتابها أن يهاجموا الإسلام ويشوهوا صورته فى نفوس الأوروبيين ، وأن يهاجموا الرسول صلى اله عليه وسلم وينعتوه بكل نعت قبيح، لمقاومة ذلك " الغزو الفكرى " المتسرب مع المبتعثين العائدين من بلاد الإسلام . وكذلك كانت الحرب المعلنة ضد العلم " المستورد " من البلاد الإسلامية جزءاً من هذه الحرب الشاملة ضد الإسلام، وإن كانت قد خصت قضية كروية الأرض بأشد الحرب لأنها وجدت نصا مقدسا فى التوراة تستطيع أن تصعد به المعركة إلى حد الحرق والتعذيب!
وأيا كان السبب فقد وقفت الكنيسة من العلم والعلماء ذلك الموقف الشائن الذى ترتبت عليه - كلك خطايا الكنيسة وأخطائها - نتائج بعيدة المدى فى الحياة الأوروبية حتى اللحظة الراهنة .. فقد بدأ منذ تلك اللحظة الفصام الأحمق بين العلم والدين، الذى ما يزال يغشى بدخانه الأسود حياة أوروبا حتى اليوم .
إن جريمة الكنيسة - فوق تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه، الذى تلتقى عنده وتنتهى إليه كل جرائمها - أنها تفصل بين نزعتين فطريتين سويتين متكاملتين - نزعة التعلم ونزعة العبادة - وتنشئ بينهما عداوة لا وجود لها فى أصل الفطرة، وصداما لا ينبغى أن يوجد فى النفس السوية، فتمزق النفس الواحدة مزقا وتثير فى داخلها القلق والاضطراب .
لقد خلق الله الإنسان مفطورا على حب المعرفة كما خلقه مفطورا على العبادة :(1/51)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة 2/31]
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/3-5]
وفى نفس السوية تتجاوز النزعتان وتتكاملان بلا تصادم ولا تضاد . فالفطرة تتطلع إلى ربها لتعبده، والفطرة تتطلع إلى الكون من حولها تحب أن تتعرف عليه، وأدواتها هى الحس والعقل :
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
وتلتقى نزعة الإيمان بالغيب والإيمان بما تدركه الحواس، وتؤديان مهمتهما معا فى تشكيل إنسانية الإنسان على الصورة التى أرادها الله له، وكرمه بها وفضله على كثير من الخلق .
وكلن الكنيسة بموقفها الأحمق - أيا كانت الأسباب التى دفعتها إليه - راحت تفصل بين هاتين النزعتين الفطريتين المتكاملتين، وتقول للناس : إن أردتم الدين فاتركوا العلم .. ومن أراد العلم فقد خرج على الدين ! فتخير الناس بين حاجتين فطريتين لا تغنى إحداهما غناء الأخرى، ولا يسد إشباع أيهما جوعة الثانية !
وهل كانت هناك نتيجة منتظرة نمن هذا الموقف إلا أن يترك الناس ذلك الدين الذى يحجبهم عن العلم ويحجر عليه، وأن يسيروا مع العلم فى تياره الزاخر الذى يأتى كل يوم جديد، وإن كانوا مع ذلك لا ينجون من القلق والاضطراب ؟!!
على أن الشر لم يقف عند هذا الحد - وهو بشع فى ذاته - لم يقف عند هجر الدين من أجل العلم، بل وصل إلى كراهية الدين والنفور منه، ونفيه نفيا باتا من مجال البحث العلمى على وجه الخصوص .(1/52)
لا تجد فى الجاهلية المعاصرة حقيقة علمية واحدة تسند بإرجاعها إلى أصل دينى ! بل على العكس . مجرد ذكر الدين أو الله - سبحانه وتعالى - فى مجال البحث العلمى الكفيل - عندهم - بالشك فى الحقيقة العلمية، أو باستهجان المنهج على الأقل، لأنه منهج غير علمى !! كفيل بإثارة الامتعاض فى جميع الأحوال !
وصدق الله العظيم : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [سورة الزمر 39/45]
وإقامة التصور - فى أى مجال من مجالات البحث - على أساس المفهوم الدينى هو عندهم هدم للمنهج العلمى وتشويه له، وإعطاء حصيلة محوطة بالشك ولو كانت كل الأدلة تؤيدها ! وخذ مثالا لهذا الموقف المعادى لدين ولو كانت الحقائق العلمية متفقة معه ومركدة له قول جوليان هكسلى فى كتاب " الإنسان فى العالم الحديث " Man in the Modern World
" وهكذا يضع العلم الحديث الإنسان فى مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد المخلوقات كما تقول الأديان .. ولم تكن وجهة النظر الدينية صحيحة فى تفاصيلها أو فى كثير مما تضمنته .. ولكن كان لها أساس جيولوجى متين""39"! كذلك نفى القصد والغاية من أى شئ فى هذا الكون نفيا " علميا " !!
وراح " العلماء " ! يتذرعون بشتى الذرائع لإبعاد الحديث عن القصد والغاية من مجال البحث العلمى، كقوهم إن هذا من شأن الفلسفة، أما العلم فمهمته تسجيل " الحقائق ! " كما هى دون إعطاء تفسير مسبق لها . أو قولهم إن هذا شأن " الميتافيزيقا " (أى ما وراء الطبيعة) ولكن العلم محصور فى ظواهر الطبيعة يسجلها ويحاول أن يفسرها تفسيرا " علميا ! " أى فى حدود ما تدركه الحواس ..(1/53)
والحقيقة من وراء ذلك هى إبعاد كل ظل للدين من البحث العلمى انتقاما من موقف الكنيسة التى حاربت العلم باسم الدين !! ذلك أن الحديث عن " الغاية " هو حديث عن الله سبحانه وتعالى وغايته من خلق هذا الكون على الصورة التى خلقه عليها . ثم إنه يتضمن التزاما معينا تجاه اله سبحانه وتعالى، وهو التزام الغاية التى من أجلها خلق الله الإنسان فى هذا الكون .. والعلم الذى نشأ فى ظل العداء مع الدين لا يريد أن يلتزم بشئ ألبتة تجاه الدين وتجاه الله ! لأن الالتزام - عندهم - لا يجرى إلا من خلال الكنيسة، والكنيسة هى الطغيان !
بل بلغ الأمر إلى نفى القصد لا إبعاده عن مجال البحث العلمى فحسب ! وخرجت نظريات " علمية !! " تقول إن الكون وجد بالصدفة ! وإن الحياة ظهرت على سطح الأرض بالصدفة !
بل حين أسند الخلق إلى " الطبيعة " بدلا من الله نفى القصد عن الطبيعة وقال قائلهم " دارون " إن الطبيعة تخبط خبط عشواء ! Nature Works Haphazardly
وهذه " الطبيعة " ذاتها، وتأليهها ونسبة الخلق إليها .. لقد كانت إحدى الخطايا المترتبة على الخطيئة التى اقترفتها الكنيسة من قبل بوقوفها موقف العداء من العلم والعلماء ..
إن تأليه الطبيعة - سواء فى مجال العلم أو الفن أو أى مجال آخر - لهو المهرب الوجدانى الذى لجأت إليه أوروبا لتهرب من إله الكنيسة الذى تستعبد الناس باسمه فى كل مجالات الحياة : الروحية والفكرية والمالية ولاسياسية والعلمية .. الخ، وتخترع إلها آخر له معظم صفات الله الخالق البارئ المصور، ولكن ليست له كنيسة وليست له التزامات !
وإلا فما " الطبيعة " فى مجال البحث العلمى على الخصوص ؟
ومن أين لها صفة الخلق ؟ والخلق بهذه الدقة المعجزة التى يتحدثون عنها سواء فى الفلك أو الكيمياء أو الفيزياء أو الطب أو علم وظائف الأعضاء أو علم الحياة ؟!(1/54)
ثم إذا كانت - كما يقول دارون - تخلق دون قصد معين ولا تدبير، فكيف خلقت الإنسان الذى يتصف بالقصد والتدبير ؟ أى بعبارة أخرى : كيف يخلق الخالق من هو أعلى منه وأكمل وأدق ؟!
ألا إنها أسطورة " علمية ! " ضخمة فى عصر العلم ! ومع ذلك فهى العملة السارية فى كل كتب العلم الغربى بلا استثناء ! اقرأ فى أى كتاب علمى تجد " الطبيعة " Nature مشارا إليها على أنها الخالق الفعال لما يريد، الذى لا يسأل عما بفعل وهم يسألون !
إنها المهرب الوجدانى الذى لجأت إليه أوروبا لتهرب من إله الكنيسة وتجد ما تتعبده فى ذات الوقت، إذ الإنسان مفطور على العبادة سواء فى ضلاله أو هداه .. أما أن يتحدث عنها الذين يسمون أنفسهم " علماء ! " وبصيغة الجد لا الهزل .. فمهزلة لا يفسرها شئ إلا حقيقة واحدة، هى أن الإنسان حين ينتكس فى جاهليته - بعيدا عن الهدى الربانى - يمكن أن يصدر عنه أى شئ على الإطلاق .. مهما كان بعيدا عن المنطق وبعيدا عن المنطق وبعيدا عن المعقول .
ولكن الجريمة الكبرى فى هذا الشأن تقع على عاتق الكنيسة بادئ ذى بدء، التى أقامت ذلك الحاجز من العداء بين الدين والعلم، الذى ظل يتفاقم حتى وصل - على يد الشياطين - إلى استخدام العلم ذريعة إلى القضاء على الدين .
ثالثاً : فساد رجال الدين :
المفروض فى " رجال الدين " - إن كان ثمة مبرر لوجود رجال دين على الإطلاق - أن يكونوا قدوة صالحة لمؤمنين بالدين، ونموذجا يحتذى فى الفكر والشعور والسلوك .
ولكن رجال الدين الكنسى فى أوروبا البابوية لم يكونوا يؤمنون بشئ من ذلك ولا يحتفظون به !
بل كانت حياة الغالبية منهم حياة ترف وملذات وشهوات !
يقول الله ليحذر المؤمنين :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)} [سورة الصف 61/2-3](1/55)
كبر مقتا لأنه صد عن سبيل الله .. وأى جريمة أكبر من الصد عن سبيل الله ؟
إن الناس قد يتقلبون من الشخص العادى أن يكذب أو يغش أو يلتوى فى سلوكه .. أو يقع فريسة للشهوات .
أما أن يقع ذلك ممن ينصب نفسه قدوة للناس، أو ممن يدعو الناس إلى التمسك بالفضيلة والبعد عن الرذيلة .. فهذا الذى لا يستسيغه الناس من جهة، والذى يصدهم عن القيم الرفيعة من جهة أخرى، لأنه ييئسهم من قيام تلك القيم فى عالم الواقع، ويشعرهم أنها مجرد شعارات معلقة فى الفضاء . ويهون لهم من جهة أخرى ارتكاب الرذيلة بكل أنواعها، لأنه إذا كان دعاة الفضيلة يفعلون ذلك، فما بالهم هم، الذين لم يزعموا لأنفسهم ذات يوم أنهم من أصحاب الفضيلة ؟!
لذلك كبر مقتا عند الله أن يقول المؤمنون بألسنتهم ما يخالفونه فى سلوكهم الواقعى .
وهذا الذى كبر مقتا عند الله هو السلوك الغالب على رجال الدين الكنسى فى أوروبا البابوية ! مما أدى - كما أدت خطايا الكنيسة كلها - إلى نبذ الدين فى النهاية والانسلاخ منه .
يقول " ول ديورانت " فى فصل بعنوان " أخلاق رجال الدين " من كتاب " قصة الحضارة " (ج21 ص83- 86) :
" لقد كان يسع الكنيسة أن تحتفظ بحقوقها القدسية المستمدة من الكتب المقدسة العبرية والتقاليد المسيحية لو أن رجالها تمسكوا بأهداب الفضيلة والورع .. ولكن كثرتهم الغالبة ارتضت ما فى أخلاق زمانها من شروخير، وكانوا هم أنفسهم مرآة ينعكس عليها ما فى سيرة غير رجال الدين من أضداد . فقد كان قس الأبرشية خادما ساذجا، لم يؤت فى العادة إلا قسطا ضئيلا من التعليم، ولكنه غالبا ما يعيش معيشة يقتدى بها (وإن خالفنا فى هذا رأى الراهب الصالح أنطونينو) لا يعبأ به رجال الفكر، ولكن يرحب به الشعب .(1/56)
وكان بين الأساقفة ورؤساء الأديرة بعض من يحبون حياة منعمة، ولكن كان منهم كثيرون من الرجال الصالحين، ولعل نصف مجمع الكرادلة كانوا يسلكون مسلك أتقياء المسيحيين المتدنيين الذى يخزى مسلك زملائهم الدنيوى المرح .
" وانتشرت فى جميع أنحاء إيطاليا المستشفيات وملاجئ اليتامى، والمدارس وبيوت الصدقات، ومكاتب القرض وغيرها من المؤسسات الخيرية يديرها رجال الدين . واشتهر الرهبان البندكتيون، والفرنسيس المتشددون، والكرثوزيون بمستوى حياتهم الخلقى الرفيع إذا قيس إلى أخلاق أهل زمنهم .. وواجه المبشرون مئات الأخطار وهم يعملون لنشر الدين فى أراضى " الكفار " وبين الوثنيين المقيمين فى العالم المسيحى . واختفى المتصوفة عن أعين الناس وابتعدوا عما كان فى زمانهم من عنف، وأخذوا يعملون للاتصال القريب بالخالق جل وعلا .
" وكان بين هذا التقى والورع كثير من التراخى فى الأخلاق بين رجال الدين نستطيع أن نثبته بما نضربه من مئات الأمثال . فها هو ذا بترارك نفسه الذى بقى مخلصا لدين المسيح إلى آخر حياته، والذى صور ما فى دير الكرثوزين، الذى كان يعيش فيه أخوه، من نظام وتقى فى صورة طيبة مستحبة، ها هو ذا يندد أكثر من مرة بأخلاق رجال الدين المقيمين فى افنيون . وإن الحياة الخليعة التى كان يحياها رجال الدين الإيطاليون والتى نقرأ عنها فى رواايت بوكاتشيو المكتوبة فى القرن الرباع عشر إلى روايات ماستشيو فى القرن الخامس عشر، إلى روايات بنديتلو فى القرن السادس عشر، إن هذه الحياة الخليعة موضوع يتكرر وصفه فى الأدب الإيطالى، فبوكاتشيو يتحدث عما فى حياة رجال الدين من دعارة وقذارة ومن انغماس فى الملذات طبيعية كانت أو غير طبيعية . ووصف ماستشيو الرهبان والإخوان بأنهم " خدم الشيطان " منغمسون فى الفسق واللواط، والشره، وبيع الوظائف الدينية، والخروج على الدين، ويقر بأنه وجد رجال الجيش أرقى خلقا من رجال الدين .(1/57)
" وها هو ذا أريتينو الذى لم يتورع عن أية قذارة يسخر من الطابعين بقوله إن أخطاءهم لا تقل عن خطايا رجال الدين، ويزيد على ذلك قوله : " والحق إنه لأسهل على الإنسان أن يعثر على رومة مستفيقة عفيفة من أن يعثر على كتاب صحيح، ويكاد بجيو يفرغ كل ما عرفه من ألفاظ السباب فى التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيس، ونفاقهم، وشرهم، وجهلهم، وغطرستهم، ويقص فولينجو فى كتاب أرلندينو هذه القصة نفسها، ويبدو أن الراهبات ملائكة الرحمة فى هذه الأيام كان لهن نصيب فى هذا المرح، وأنهن كن مرحات رشيقات فى البندقية بنوع خاص حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قربا يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حسين فى فراش واحد . وتحتوى سجلات الأديرة على عشرين مجلدا من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسى بين الرهبان والراهبات . ويتحدث أريتينو عن راهبات البندقية حديثا لا تطاوع الإنسان نفسه على أن ينطق به . وجوتشياردينى الرجل الرزين المعتدل عادة يخرج عن طوره ويفقد اتزانه حين يصف رومة فيقول : " أما بلاط رومة فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذى لا ينمحى أبد الدهر، وهى مضرب المثل فى كل ما هو خسيس مخجل فى العالم " .
" ويبدو أن هذه شهادات مبالغ فيها، وقد تكون غير نزيهة، ولكن استمعوا إلى قول القديسة كترين السينائية :(1/58)
" إنك أينما وليت وجهك - سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين أو الطوائف الدينية المختلفة، أو الأحبار من الطبقات الدنيا أو العليا، سواء كانوا صغارا فى السن أو كبارا - لم تر إلا شرا ورذيلة، تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة .. إنهم كلهم ضيقوا العقل، شرهون، بخلاء .. تخلوا عن رعاية الأرواح .. اتخذوا بطونهم إلها لهم، يأكلون ويشربون فى الولائم الصاخبة حيث يتمرغون فى الأقذار ويقضون حياتهم فى الفسق والفجور .. ويطعمون أبناءهم من مال الفقراء .. ويفرون من الخدمات الدينية فرارهم من السجون .
" وهنا أيضا يجب أن نسقط ما يحتويه هذا الوصف من مبالغة، إذ ليس فى وسع الإنسان أن يثق بأن الوالى الصالح يتحدث عن سلوك الآدميين وهو غير غاضب .. ولكن فى وسعنا أن نصدق هذه الخلاصة التى يعرضها مؤرخ كاثوليكى صريح .
" وإذا كانت هذه هى حال الطبقات العليا من رجال الدين فإن المرء لا يعجب إذا كان من دونهم من الطبقات ومن القساوسة قد انتشرت بينهم الرذيلة على اختلاف أنواعها وأخذ انتشارها يزداد على مدى الأيام . إلا أن الحياء قد زال من العالم .. ولقد كان أمثال أولئك القساوسة هم الذين دفعوا إرزمس ولوثر إلى وصفهما المبالغ فيه لرجال الدين زارا رومة فى أيام بوليوس الثانى . غير أن من الخطأ أن يظن المرء أن القساوسة كانوا فى رومة أكثر فسادا منهم فى غيرها من المدن . ذلك أن لدينا من الوثائق ما يثبت بالدليل القاطع فساد أخلاق القسيس فى كل مدينة تقريبا من مدن شبه الجزيرة الإيطالية، بل إن الحال فى كثير من الأماكن - كالبندقية مثلا - كانت أسوأ كثيرا منها فى رومة . فلا عجب والحالة هذه إذا تضاءل نفوذ رجال الدين كما يشهد بذلك مع الأسف الشديد الكتاب المعاصرون، وإذا كان المرء لا يكاد يجد فى كثير من الأماكن أى احترام يظهره الشعب للقسيسين . ذلك أن الفساد قد استشرى بينهم إلى حد بدأنا نسمع معه آراء تحبذ زواجهم ..(1/59)
" ولقد كان الكثير من الأديرة فى حال يرثى لها . وأغفلت فى بعضها الإيمان الثلاث الأساسية بالتزام الفقر، والعفة، والطاعة إغفالا يكاد يكون تاما .. ولم يكن النظام فى كثي من أديرة النساء أقل من هذا فسادا "!
ويقول أيضا فى مكان آخر :
" ... وظل كرسى البابوية عدة سنين بعد ذلك لا ينال إلا بالرشا أو القتل أو رغبات النساء ذوات المقام السامى والخلق الدنئ . وبقيت أسرة بثوفيلاكت أحد كبار الموظفين فى قصر البابا ترفع البابوات إلى كراسيهم وتنزلهم عنها كما يحلو لها . واستطاعت ابنته مريوزا أن تنجح فى اختيار عشيقها سرجيوس الثالث لكرسى البابوية (904 - 911) كما أفلحت زوجته ثيودورا فى تنصيب البابا يوحنا العاشر (914 - 928) وقد اتهم يوحنا هذا بأنه عشيق ثيودورا ولكن هذا الاتهام لا يقوم على دليل قاطع .
" .. وظلت مريوزا تستمتع بعدد من العشاق واحدا بعد واحد حتى تزوجت جيدودوق تسكانيا وأخذا يأتمران لخلع يوحنا .. ثم رفعت مييوزا فى عام 931 يوحنا الحادى عشر (931 - 935) إلى كرسى البابوية واكن الشائع على الألسنة أن يوحنا هذا ابن لها غير شرعى من سرجيوس الثالث (ص378 - ج14) .
" .. وعرف اتو الأول إمبراطور ألمانيا عن قرب ما وصلت إليه البابوية من انحطاط بعد ان توجه يوحنا الثانى عشر إمبراطورا فى عام 962، فلما عاد إلى روما فى عام 963 بتأييد رجال الدين فيما وراء رجال الألب دعا يوحنا إلى المحاكمة أمام مجلس كنسى .. واتهم الكرادلة يوحنا بأنه حصل على رشا نظير تنصيب الأساقفة وأنه عين غلاما فى العاشرة من عمره أسقفا، وأنه زنى بخليلة أبيه وضاجع أرملته وأبنة أخيها وأنه حول قصر البابا إلى ماخور للدعارة (ص379 ج14) .
رابعا : الرهبانية وفضائح الأديرة :(1/60)
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} [سورة الحديد 57/27]
يروى عن السيد المسيح أنه قال : " من أراد ملكوت الرب فليترك ماله وأهله وليتبعنى " وأنه قال : " من أراد الملكوت فخبز الشعير والنوم فى المزابل مع الكلاب كثير عليه " .
وسواء صحت هذه النصوص أم كانت ألفاظها قد حرفت أو زيه عليها ، فلا شك أن المسيح دعا إلى الزهادة والارتفاع عن متاع الأرض كما دعا كل نبى قبله ، وكما قال صلى الله عليه وسلم من بعده : " ما ملأ آدمى وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه " " 40"
ولكن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تنشأ عنها رهبانية ، بل لم يتقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرهبانية حين جنح إليها بعض المسلمين كما يتضح من الواقعة الآتية :
" ذهب ثلاثة رهط إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ! فقال أحدهم أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الثانى وأما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الثالث ، وأما أنا فلا أتزوج النساء . فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله أنى لأعبدكم وأخشاكم لله ولكنى أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنتى فليس منى " " 41 "
ولكن شيئا ما - فى دعوة السيد المسيح - قد شجعت على ابتداع الرهبانية فيما يبدو . فقد بعث السيد المسيح إلى بنى إسرائيل وقد غلبت عليهم مادية كافرة ، يعبدون اذلهب ويعيشون للحياة الدنيا ، ولا ظل فى حياتهم للإيمان باليوم الآخرة ، ولا حساب له فى قلوبهم . جفت أرواحهم فلم تعد فيها نداوة الحب ولا إشراقة النور التى تصاحب الإيمان بالله .(1/61)
من أجل ذلك الروحانية هى السمة الغالبة على دعوة السيد المسيح ، وكان الإكثار من الحديث عن الزهد والارتفاع على شهوات الأرض ن لعل الدعوة على هذا النحو تلين القلوب القاسية التى قال الله عنها :
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} [سورة البقرة 2/74]
وهل أدل على هذه القسوة من أن تبيح لهم وحشيتهم أن يقتلوا " الأمميين " فى عيد الفصح ليعجنوا بدمائهم فطيرة " مقدسة " ثم يأكلوها ابتهاجا بالعيد ؟!
وفجر بنو إسرائيل فلم يستجيبوا لهذه الدعوة المترفعة التى دعاهم إليها السيد المسيح ، بل سعوا إلى إثارة الحاكم الرومانى " بيلاطس " ليحكم عليه بالقتل صلبا .. لولا أن الله نجاه منهم ورفعه إليه فلم يقتلوه ولم يصلبوه . وقال الله عنهم :
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)} [سورة البقرة 2/87]
وكلن الدعوة المترفعة التى أعرض عنها قساة القلوب تسربت - بقدر من الله - إلى قلوب أخرى اعتنقتها وآمنت بها وتلقت روحانيتها الندية بالترحيب :
{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [سورة الحديد 57/27]
وهؤلاء هم الذين ابتدعوا الرهبانية ..
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [سورة الحديد 57/27](1/62)
وسواء كان الاستثناء فى الآية منقطعا بمعنى : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ولكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله (فابتغوا ذلك عن طريق الرهبانية التى ابتدعوها) أو متصلا بمعنى : ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتغوا بها رضوان الله .. فإن الآية تسجل عليهم أنهم هم الذين ابتدعوها وليس الله هو الذى كتبها عليهم بادئ ذى بدء ، أى عيسى عليه السلام لم يأمرهم بها ولم يقل لهم إن الله يريدها منهم . ولكنهم هم تطوعوا بها - متأثرين بتعاليم المسيح أو مؤولين لها على هذا النحو - فقبل الله منهم ما تطوعوا به ما داموا قد ابتغوا به رضوان اله .
ولكن أيا كان الدافع لهم على ابتداع الرهبانية : التأثر بتعاليم السيد المسيح أو تأويلها على نحو معين كما أول الصوفية الآيات والأحاديث الواردة فى ذم الدنيا فجعلوها ذما مطلقا وفى كل الحالات ، بينما هى واردة فى ذم الدنيا حين تصد عن الإيمان بالله أو تصد عن الجهاد فى سبيل الله ..
نقول ايا كان الدافع ، فإن الرهبانية مضادة لدفعة الحياة السوية التى خلقها الله لتعمل لا لتكتب وتحجز عن الحركة والنشاط . فقد جعل الله الإنسان خليفة فى الأرض وكلفه عمارتها :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
ومن أجل القيام بأمر الخلافة أى الهيمنة والإشراف والتمكن ، ومن أجل القيام بعمارة الأرض ، أودع الله الفطرة مجموعة من الدوافع المحركة إلى العمل والنشاط ..
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...} [سورة آل 3/14](1/63)
وصحيح أن الله سبحانه وتعالى لا يحب لعباده أن ينطلقوا إلى آخر المدى مع هذه الشهوات لأنها عندئذ لا تكون معينا على الخلافة الراشدة ولا على عمارة الأرض على النحو اللائق بالإنسان ، بل تكون شاغلا عن الارتفاع وداعيا إلى الهبوط إلى مستوى الحيوان ، وعندئذ يكون الإنسان أضل من الحيوان :
{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف 7/179]
وصحيح أن الله أحب لعباده أن يتخففوا من متاع الأرض ليفرغوا إلى القيم العليا الجديرة بالإنسان ، ووعدهم على ذلك الجنة ، وجعل ذلك هو الابتلاء الذى يخوضه الإنسان فى الأرض :
{....ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/14-17]
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} [سورة الكهف 18/7]
كل ذلك صحيح . ولكن اله لم يحرم متاع الأرض :
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف 7/32]
إنما وضع حدودا لذلك المتاع يباح فى داخلها ويكون محرما فى خارجها :
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [سورة البقرة 2/229](1/64)
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [سورة البقرة 2/187]
وتلك الحدود هى التى يعلم سبحانه أنها تعين على أمر الخلافة وعمارة الأرض على المستوى اللائق بالإنسان ، دون أن ينشغل الإنسان بها عن قيمه وأهدافه العليا كما بينها الله له على يد رسله وأنبيائه ، وفى الوقت ذاته تعطى قسطا معقولا من المتاع لكيلا ينشغل الإنسان عن الحركة والعمل بلذع الحرمان .
وهناك أفراد - أفذاذ - يستطيعون أن يتخففوا من متاع الأرض إلى أقصى حد دون أن يشغلهم الشعور بالحرمان عن الحركة والنشاط والعمل بإيجابية كاملة ، أولئك هم الزهاد على بصيرة . وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم إمام الزاهدين ، وهو أكبر طاقة إيجابية حركية عرفتها البشرية ..
ولكن الرهبانية ليست كذلك .ز إنها اعتزال .. إنها ترك للحياة الواقعية بكل ما فيها ولياذ بالأديرة المنقطعة عن تيار الحياة . ولقد يتربى الراهب على تعود الحرمان حتى لا يعود يحس بلذع الحرمان .. نعم .. ولكنه فى الوقت ذاته يفقد إيجابيته الفاعلة فى واقع الأرض ويتخلى عن دوره فى عمارتها ، ويلغى طاقات كيانه فلا يتزوج ولا يعمر وجه الأرض بالنسل ولا ينتج .. إلا مشاعر ذاتية فى طى الكتمان .
لذلك نقول إن الرهبانية مضادة لدفعة الحياة السوية كما خلقها الله .
وإذا كان الله قد قبلها منهم - لفترة معينة - هى المحدودة بمجئ الرسول صلى الله عليه وسلم مصدقا لما بين من الكتاب ومهيمنا عليه ، وناسخا ما شاء الله أن ينسخ من الشرائع - المحلية - السابقة ، لينشر فى الناس كلمة الله الأخيرة وشريعته الباقية ..
إذا كان الله قد قبلها منهم تلك الفترة المحدودة فإنهم وهم مبتدعوها والمتطوعون بها من عند أنفسهم لم يرعوها حق رعايتها !
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [سورة الحديد 57/27](1/65)
ولقد كان المتوقع ألا يرعوها حق رعايتها .. أى لا يصبروا على تكاليفها . فهى سباحة دائمة ضد التيار .. تيار الحياة .. وجهد مجهد لا يصبر عليه كثيرون ..
أما أن تنقلب - وهى المنوطة بالتقوى والزهد والتعفف والارتفاع عن الشهوات - إلى مباءة للقذارة الحسية والمعنوية يتعفف عنها الرجل العادى أو الفتاة العادية .. فهذا الذى لا يمكن أن يتوقع على الإطلاق !
فإذا كانوا لا يصبرون على تكاليفها فما الذى يجبرهم على المضى فيها وهى تطوع غير مفروض ؟!
أما أن يستمروا فيها عنوانا ولافتة ، ومظهرا خادعا من الخارج ، ثم يحولوها إلى حانات للخمر ومواخير لفساد ، ومباءة للشذوذ الجنسى بين الرجال والرجال والنساء والنساء ، بالإضافة إلى ما يحدث من العلاقات السرية بين أديرة الرجال وأديرة النساء .. فهذا أمر يشده الحس ويبعث على التقزز والنفور.
يقول أصدق القائلين جل وعلا :
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} [سورة الحديد 57/27]
فاسقون .. بكل معانى الفسق التى تخطر والتى لا تخطر على البال !
خامسا : مهزلة صكوك الغفران :
لم يكف الكنيسة ورجال دينها هذا الفساد كله ، فأضافوا إليه مهزلة من أكبر مهازل التاريخ . تلك هى مهزلة صكوك الغفران .
فقد أصدر مجمع لاتيران سنة 1215 القرار التالى لتقرير أن الكنيسة تملك حق الغفران للمذنبين :(1/66)
" إن يسوع المسيح ، لما كان قد قلد الكنيسة سلطان منح الغفرانات ، وقد استعملت الكنيسة هذا السلطان الذى نالته من العلا منذ الأيام الأولى ، فقد أعلم المجمع المقدس وأمر بأن تحفظ للكنيسة هذه العملية الخلاصية للشعب المسيحى والمثبتة بسلطان المجامع ، ثم ضرب بسيف الحرمان من يزعمون أن الغفرانات غير مفيدة أو ينكرون على الكنية سلطان منحها . غير أنه قد رغب فى أن يستعمل هذا السلطان باعتدال واحتراز حسب العادة المحفوظة قديما والمثبتة فى الكنيسة لئلا يمس التهذيب الكنسى تراخ بفرط التساهل " " 42"
ولكن الكنيسة لم ترع ذلك التحفظ الوارد فى القرار ، وهو " استخدام هذا السلطان باعتدال واحتراز " فقد كانت راغبة فى زيادة سلطانها - وزيادة أموالها كذلك ! - فعمدت إلى منح المغفرة بصكوك تباع بالمال فى الأسواق !
يقول الصك :
" ربنا يسوع يرحمك يا ... " 43" ويشملك باستحقاقات آلامه الكلية القدسية وأنا بالسلطان الرسولى المعطى لى أحلك من جميع القصاصات والأحكام والطائلات الكنيسة التى استوجبتها ، وأيضا من جميع الإفراط والخطايا والذنوب التى ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة ، ومن كل علة وإن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسى الرسولى ، وأمحو جميع أقذار الذنب وكل علامات الملامة التى ربما جلبتها على نفسك فى هذه الفرصة ، وأرفع القصاصات التى كنت تلتزم بمكابدتها فى المطهر ، وأردك حديثا إلى الشركة فى أسرار الكنيسة ، وأقرنك فى شركة القديسين ، أردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك ، حتى إنه فى ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذى يدخل منه الخطاة إلى محل العذاب والعقاب ، ويفتح الباب الذى يؤدى إلى فردوس الفرح . وإن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتى ساعتك الأخيرة باسم الأب والابن والروح القدس " " 44"
وإنها - والحق يقال - لمهزلة فريدة فى التاريخ !(1/67)
فقد عرفت الدينات الوثنية - من قبل ومن بعد - عملية إرضاء الكاهن ابتغاء رضوان الإله المعبود باعتبار أن الكاهن هو الوسيط بين العبد والرب ، وأن رضاه يؤدى - فى وهمهم - إلى رضا الإله ، وغضبه يؤدى إلى غضب الإله . والنذور للأوثان أمر معروف فى التاريخ .زو كان العرب فى الجاهلية يؤدون الشعائر والنسك للأوثان - ومن بينها تقديم النذور - ليقربوهم إلى الله زلفى .
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر 39/3]
ويجئ الدين المنزل ليصحح العقيدة ويصحح السلوك ، فيجعل الشعائر والنسك له وحده ، وبين العبد وربه مباشرة بلا وسيط :
{وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [سورة البقرة 2/270]
ويكون للرسل - فى حياتهم - خصيصة يختصون بها فى أن دعاءهم يستجاب عند الله حين يدعون بالصلاح أو البركة أو المغفرة لمن يستحق ذلك عند الله :
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} [سورة التوبة 9/102-104]
أما لمن لا يستحق فالدعاء - حتى من الرسل - غير مستجاب :(1/68)
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} [سورة التوبة 9/80]
فإذا كان هذا شأن الرسل - بل شأن سيد الرسل صلى الله عليه وسلم - فما بالك بالبابا الذى لا حظوة له عند ربه ولا إذن له من الله بقبول الغفران ؟!
بل ما بالك حين يكون الأمر لا عن نية حقيقية فى التوبة يعلمها البابا - تقدس سره ! - بل عن مبلغ من المال ؟ بل ما بالك والمال - فى أكثر الأحيان - ليس مدفوعا لله على سبيل الصدقة للفقراء والمساكين ، مما يقبله الله من المؤمنين ويحط به من خطاياهم ، وإنما هو لشراء الصك كما تشترى أى سلعة معروضة فى الأسواق ، والمال يذهب إلى خزائن البابوات والكرادلة حتى يكتنزوا بالذهب والفضة التى يكنزونها ، ولا يذهب إله مستحقيه من الفقراء والمساكين ؟!
ولا نشك فى أن المهزلة فى بادئ الأمر كانت جادة ! أى أن الذى يشترى الصك كان راغبا فى التوبة ، ظانا أن هذا السبيل يؤدى بالفعل إلى التوبة والمغفرة ورضوان الله ، وكان المال المدفوع يأخذ فى حس صاحبه مكان الصدقة المرفوعة إلى الله . كما أن الكنيسة استخدمت صكوك الغفران فى مبدأ الأمر لتشجيع المقاتلين على خوض المعارك الصليبية ضد المسلمين ، فكانت تمنح الصك لمن ينخرط فى سلك الجيوش الصليبية فتحمله الرغبة فى الفردوس الموعود أن يلقى بنفسه فى آتون الحرب التى يرجع منها أو لا يرجع .. وغالبا لا يرجع !
ولكن الحد فى هذا الأمر الهازل لا يمكن أن يستمر !(1/69)
ولئن استمر البسطاء مخدوعين فى قدساء البابا وقدرته على محو الذنوب من صحيفة أعمال بما له عند الله من الوساطة والحظوة و" القداسة " .. فقد انكشف الأمر عند العقلاء ولا شك عن أن قداسة البابا قد اصبح تاجرا كبيرا ، وأنه على نسق معظم التجار الكبار مدلس غشاش !! يبيع بضاعة لا يملكها ويقبض الثمن لنفسه ليثرى الثراء الفاحش ، ثم ينفق هذا الكسب الحرام فى المتاع الدنس ويغرق به فى الشهوات !
ومع أنها مهزلة مضحكة - ومكشوفة - فقد ظلت قائمة فى المجتمع الأوروبى - مجتمع الظلمات - فترة غير قصيرة من الوقت ، واتسع نطاقها وكثرت أرباحها حتى فاضت عن مطامع قداسة البابا ، فتنازل عن شئ من الفائض لكبار أعوانه ، فصرح لهم بإصدار صكوك لحسابهم ، استرضاء لهم ، واستعانة منه بهم فى " جلائل الأعمال " !
ولكنها كانت لابد مؤدية إلى نتائجها الطبيعية ، وهى النفور من الدين فى النهاية والنفور من رجال الدين .
فحين يرى الناس الحصيلة المتحصلة من الصكوك تذهب إلى الترف الماجن والمتاع الفاجر الذى يغرق فيه معظم البابوات وكبار رجال الدين ، وحين يرون نفرا من أصحاب الصكوك - وقد ضمنوا مغفرة ما تقدم من ذنبهم وما تأخر - غارقين فى الفساد اتكالا على أن ذنوبهم تمحى أولا بأول بسحر الصك الذى ابتاعوه ، وحين يرون السلطان الطاغى الذى تحصل عليه الكنيسة بأموالها المكدسة التى أصبحت بها أغنى من الملوك وأمراء الإقطاع ينصرف إلى مزيد من الطغيان ومزيد من الظلم ومزيد من التحكم فى رقاب العباد وعقولهم وأفكارهم ..
حين يرون ذلك كله فلا شك أنهم ينفرون فى النهاية وينسلخون من الدين الذى ينتج كل تلك الأفاعيل !
يقول ويلز فى كتاب " معالم تاريخ الإنسانية "(1/70)
" ولقد قضت (أى الكنيسة) على هيبتها بعدم مراعاتها لتعاليمها ذاتها الداعية إلى الصلاح والبر . وقد سبق أن تكلمنا عن نظام التحلة " 45" ، وكان خاتمة حماقاتها فى القرن السادس عشر بيع " صكوك الغفران " التى بها يمكن افتداء الروح من عذاب المطهر بدفعة مالية . على أن الروح التى دفعتها (أى دفعت الكنيسة) آخر الأمر إلى هذه الفعلة المتبجحة التى كانت نكبة عليها ، كانت واضحة ملحوظة من قبل فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر " " 46 "
سادسا : محاكم التفتيش :
يقول " ول ديورانت " بعد أن يعدد مباذل البابوات وانحرافات رجال الدين فى النص الذى أشرنا إليه آنفا : " وإذا ما عفونا عن بعض هذا الشذوذ الجنسى والانهماك فى ملاذ المأكل والمشرب فإننا لا نستطيع أن نعفو عن أعمال محاكم التفتيش " " 47 " .. ولهذه الشهادة دلالتها فى استفظاع تلك الأعمال التى كانت تقوم بها محاكم التفتيش ، ذلك أن الأعمال التى سمح " ول ديورانت " لنفسه أن يعفو عنها هى فى الحقيقة أعمال لا تغتفر من الرجال الذين - فى زعمهم - وهبوا أنفسهم لنشر العقيدة التى يؤمنون بها وتثبيت أركانها فى الأرض .. فكيف بالأعمال التى لم يجد فى نفسه القدرة على العفو عنها ، وهو بهذه الدرجة من التساهل فيما وقع من رجال الدين من انحرافات ؟!
الحقيقة أنها كانت أبشع من أن يعفو عنها أحد فى قلبه ذرة من مشاعر الإنسانية .
يقول ويلز :(1/71)
" شهد القرن الثالث عشر تطور منظمة جديدة فى الكنيسة هى محكمة التفتيش البابوية . ذلك أنه جرت عادة البابا قبل ذلك الزمان بأن يقوم فى بعض الأحيان بتحقيقات أو استعلامات عن الإلحاد فى هذا الإقليم أو ذاك ، ولكن " إنوسنت الثالث " وجد الآن فى عقد الرهبان الدومينيسكيين الجديد أداة قوية للقمع ، ومن ثم نظمت محاكم التفتيش كأداة تحقيق مستديمة تحت إدارتهم . وبهذه الأداة نصبت الكنيسة نفسها لمهاجمة الضمير الإنسانى بالنار والعذاب ، وعملت على إضعافه مع أنه مناط أملها الوحيد فى السيادة على العالم .. وقبل القرن الثالث عشر لم تنزل عقوبة الإعدام إلا نادرا بالملاحدة والكفار . فأما الآن فإن كبار رجال الكنيسة كانوا يقفون فى مئة ساحة من ساحات الأسواق فى أوروبا ليراقبوا أجسام أعدائها - وهم فى غالبية الأمر قوم فقراء لا وزن لهم - تحترق بالنار وتخمد أنفاسهم بحالة محزنة ، وتحترق وتخمد معهم فى نفس الحين الرسالة العظمى لرجال الكنيسة إلى البشرية فتصبح رمادا تذروه الرياح " " 48 " .
وينبغى أن نلاحظ هنا أن الكاتب الذى يتفطر قلبه أسى على ضحايا محاكم التفتيش من المسيحيين لا يذكر كلمة واحدة عن الفظائع البشعة التى ارتكبتها محاكم التفتيش فى الأندلس وهى تطارد المسلمين لتطرد الإسلام نهائياً من أسبانيا .. وقد كانت تلك الفظائع أفظع ما عرفه التاريخ كله من ألوان الوحشية البربرية ، التى تعد أعمال محاكم التفتيش فى أوروبا المسيحية - على شناعتها - هيئة لينة بالنسبة إليها ، وبالنسبة لأدوات التعذيب الخاصة التى استخدمت فيها ، فى الوقت الذى كانت أوروبا تعلم أنها مدينة للأندلس الإسلامية بكل ما كان فى حوزتها يومئذ من علم يعتد به ، بل مدينة بنهضتها كلها إلى القيم والمبادئ الحضارية التى تعلمتها من هناك .
ونعود بعد هذه الملاحظة إلى ويلز ، ليشرح لنا العوامل التى حدت بالكنيسة إلى اتخاذ العنف ضد أعدائها :(1/72)
" فأصبح قساوستها وأساقفتها على التدريج رجالا مكيفين وفق مذاهب اعتقاديات حتمية وإجراءات مقررة وثابتة .. ولم تعد لم بعد رغبة فى رؤية مملكة الرب موطدة فى قلوب الناس . فقد نسوا ذلك الأمر ، وأصبحوا يرغبون فى رؤية قوة الكنيسة التى هى قوتهم هم ، متسلطة على شئون البشر .. ونظرا لأن كثيرا منهم كانوا على الأرجح يسرون الريبة فى سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه . كانوا لا يحتلمون أسئلة ولا يتسامحون فى مخالفة ، لا لأنهم على ثقة من عقيدتهم ، بل لأنهم كانوا غير واثقين فيها ..
" وقد تجلى فى الكنيسة عندما وافى القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التى تنخر بناء مدعياتها بأكمله ، وقد تجعله أثرا بعد عين . فلم تكن تستشعر أى اطمئنان نفسى . وكانت تتصيد الهراطقة فى كل مكان ، كما تبحث العجائز الخائفات - فيما يقال - عن اللصوص تحت الأسرة وفى الدواليب قبل الهجوع فى فراشهن " " 49" .
بهذا الهزال المتفشى فى كيانها ، والقلق المستسر فى أعماقها من بدء يقظة العقل بعد طول سبات ، راحت تكيل الضربات المجنونة لكل من يسألها ويناقشها ، أو من يخيل إليها أنه سيسألها ويناقشها ، لتحاول أن تدفع عن نفسها المصير الأسود الذى كان ينتظرها على بعد خطوات من الزمن غير بعيد .. وينبغى أن نقرر هنا ما كان للإسلام من أثر عميق فى تلك اليقظة التى فزعت منها الكنيسة ، فما كان أى عقل يقترب من الثقافة الإسلامية والحياة الفكرية الإسلامية ليرضى أن يظل عبدا لذلك الطغيان الفكرى والروحى الذى تمارسه الكنيسة أو يتقبل ترهاتها بلا مناقشة . وسواء اعترف المؤرخون الأوربيون بهذا الأثر أم لم يعترفوا (والمنصفون - وهم قلة - يعترفون) فلنعد إلى ويلز مرة أخرى يفسر لنا تلك الحالة النفسية التى ساورت الكنيسة ضد أى لون من المعرفة يأتى من مصدر غير مصادرها .(1/73)
" كان هذا التعصب اأسود القاسى روحا خبيثا لا يجوز أن يخالط مشروع حكم اله فى الأرض . وإنه لروح يتعارض تماما مع روح يسوع الناصرى ، فما سمعنا قط أنه لطم الوجوه أو خلع المعاصم لتلاميذه المخالفين له أو غير المستجيبين لدعوته ، ولكن البابوات كانوا طوال قرون سلطانهم فى حنق مقيم ضد من تحدثه نفسه بأهون تأمل فى كفاية الكنيسة الذهنية .
" ولم يقتصر تعصب الكنيسة على الأمور الدينية وحدها . فإن الشيوخ الحفصاء المولعين بالأبهة السريعى الهياج الحقودين ، الذين من الجلى أنهم كانوا الأغلبية المتسلطة فى مجالس الكنيسة ، كانوا يضيقون ذرعا بأية معرفة عدا معرفتهم ، ولا يثقون بأى فكر لم يصححوه ويراقبوه ، فنصبوا أنفسهم للحد من العلم ، الذى كانت غيرتهم منه بادية للعيان ، وكان أى نشاط عقلى عدا نشاطهم يعد فى نظرهم نشاطا وقحا " " 50" ..
وأيا كانت الأسباب فقد كانت المحاكم التفتيش وما صحبها من الفظائع عميقة الأثر فى الحس الأوروبى ، وسيئة النتائج بالنسبة للحضارة الجاهلية التى انبثقت فى أوروبا منذ عهد النهضة .. لقد أصبح عداء " الدين " المتمثل هناك فى الكنيسة ورجالها أمرا " لازما " لكل صاحب فكر حر أو ضمير حى .. لأن هذا العداء هو أبسط تعبير عن الثورة ضد الذل والمهانة التى تفرضها الكنيسة على الكرامة الإنسانية ، كما تفرضها على العقل الذى خلقه اله ليفكر لا ليمتهن بالحبس فى داخل سدود وقيود ما أنزل الله بها من سلطان ، إنما هى من صنع بشر يبدو للعقول المفكرة مدى تفاهة تفكيرهم وعجزهم ، وغطرستهم الطاغية فى ذات الوقت . ولئن كان كل ما ارتكبته الكنيسة من الخطايا كان جريمة فى حق الدين ، فإن هذه الخطيئة البشعة كانت ولا شك من كبريات الجرائم التى سجلها التاريخ .
سابعا : مساندة الكنيسة للظلم السياسى والاقتصادى والاجتماعى المتمثل فى الإقطاع :(1/74)
أصبحت الكنيسة - بفضل الهبات والإتاوات والعشور والهدايا والغصب والنهب والتدليس وغير ذلك من الوسائل - أصبحت من ذوات الإقطاع . بل كانت أملاكها فى بعض الأوقات تفوق أملاك الأباطرة وأمراء الإقطاع .
ومن ثم فقد تحدد موقفها من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فوقفت فى صف الظلم تسانده وتذود عنه وتحارب حركات الإصلاح ! وكانت فى ذلك منطقية مع وضعها باعتبارها من كبار الملاك !
فهل كان يمكن - عقلا - أن تحارب الإقطاع وهى جزء منه ، بل من أكبر ممثليه ؟!
ولقد بدأت أوروبا تتململ من رقدتها - بعد احتكاكها بالعالم الإسلامى - وتطلب الإصلاح .
وقد كان احتكاكها بالعالم الإسلامى عن طريقين عظيميم وشديدى التأثير . أحدهما الاحتكاك السلمى بطلب العلم فى مدارس المسلمين فى الأندلس والشمال الإفريقى وصقلية وغيرها من الأماكن القريبة من أوروبا ، والآخر الاحتكاك الحربى فى الحروب الصليبية فى المشرق الإسلامى .
وفى كلا الاحتكاكين تفتحت عيون أوروبا على عالم مختلف كل الاختلاف عن عالمها ، لا من ناحية العلم والحضارة فقط ، بل من حيث القيم والمبادئ وأفاق الحياة وأفاق التفكير .
فأما العلم فمعروف أن أوروبا بدأت نهضتها بالتتلمذ على علوم المسلمين .. ودعك من المكابرة الأوروبية المغرورة التى تقول إن المسلمين لم يكن لهم فضل فى ذلك إلا الاحتفاظ لعلوم الإغريق فى الفترة التى غفلت فيها أوروبا عنها فى عصورها المظلمة ، فلما استيقظت أوروبا - كأنما استيقظت من ذات نفسها !! - استردت بضاعتها القديمة وانطلقت - منها - تبنى حضارتها !
دعك من هذه المكابرة لأن الواقع لا يسندها . وتكفى شهادة " روجر بيكون " التى قال فيها من أراد أن يتعلم ، فليتعلم العربية " " 51 " !(1/75)
ولو كان كل فضل المسلمين أنهم احتفظوا بعلوم الإغريق وثقافتهم ما احتاجت أوروبا أن تتعلم العربية ، فقد كان يكفيها أن ترجع إلى أصولها الإغريقية باللغة الإغريقية ، وهى لغة لم ينقطع العلم بها حتى فى العصور المظلمة ، فقد كانت إحدى اللغات " المقدسة " لغات الكتاب المقدس .
وقد يكون هذا الوصف صادقا على ما يسمى " الفلسفة الإسلامية " فقد كانت إغريقية حقا وإن لبست ملابس المسلمين ! فقد كان منهج التفكير فيها إغريقيا وإن تناولت موضوعات إسلامية . وهذه - فى رأيى - هى أضعف نقاط الثقافة الإسلامية على الإطلاق .
أما أن توصف الحركة العلمية والفكرية والإسلامية كلها بأنها إغريقية ، لمجرد أنها استمدت من الثقافة الإغريقية عند البدء ، فمغالطة متبجحة لا يسندها الواقع ، كما لو قلنا إن العلم الحاضر إسلامى كله ولا فضل لأوروبا فيه ، لمجرد أنه استمد أصوله كلها من المسلمين ! وهذه مغالطة لا يقولها أحد منا - ولو قالها لكانت مضحكة غير مقبولة - لأن الله أمرنا - إذا قلنا - أن نعدل .. ولو كان ذا قربى :
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [سورة الأنعام 6/152]
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة 5/8]
إن أهم ما أخذته أوروبا عن المسلمين كما يعترف المنصفون منهم - وما أقلهم ! - لم يكن العلوم فى ذاتها ، وإن كانت هذه تستحق أن يشار إليها ويشاد بها ، خاصة فى الكيمياء والفيزياء والطب والفلك والرياضيات ، إنما كان المنهج الترجيبى فى البحث العلمى ، وهذا هو الذى يرد إليه - بحق - كل التقدم الذى أحرزته أوروبا فى ميدان العلوم فيما بعد ، لأنه شئ جديد لم تكن تحسنه من قبل ، ولأن التقدم العلمى كان مستحيلا بدونه .. ويبقى لأوروبا فضها - بعد ذلك - فى المثابرة والصبر والمتابعة ، بينما ركن المسلمون إلى سبات عميق .(1/76)
وأما الحضارة بصورها المادية وقيمها ومبادئها فهذا الذى أيقظ أوروبا من سباتها ودفعها إلى طلب الإصلاح للواقع الفاسد الآسن المنتن الذى كانت تعيش فيه .
ويكفى أن نقول بالنسبة للصور المادية للحضارة إن أوروبا - لوقت احتكاكها مع المسلمين - لم تكن تعرف الحمامات الخاصة داخل البيوت ! إنما كانت منذ العهد الرومانى تستخدم الحمامات العامة سواء فى تنظيف ملابسها أو تنظيف أجسادها .. إلى حد أن محاكم التفتيش التى أنشئت لمطاردة الإسلام فى الأندلس بأفظع وحشية عرفها التاريخ ، كانت تترعف على بيوت المسلمين الذين تنصروا ظاهرا للفرار من التعذيب بإحدى وسيلتين : الهينمة الخافتة فى جنح الليل التى كانت تدلهم على قراءة القرآن ، أو العثور على حمام خاص فى البيت ، وكانت هذه علامة مميزة قاطعة ، مما يرتكب هذه الجريمة - جريمة وجود حمام خاص فى البيت - إلا المسلمون !!
أما من ناحية القيم والمبادئ فهذا - فى الواقع - أهم ما أيقظ أوروبا من سباتها .
كانت أوروبا تعيش فى ظلمات الإقطاع .. وما أدراك ما ظلمات الإقطاع !
أمير الإقطاعية هو الحاكم المطلق فى إقطاعيته .. لا قانون إلا قانونه .. هو السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية كلها فى آن . هو الملك لكل شئ والباقون عبيد .. إما عبيد السيد وإما عبيد الأرض يورثون ويباعون ويشترون ، وينتقلون - مع الأرض - من سيد إلى سيد ، لا يملكون حق الانتقال من إقطاعية إلى إقطاعية ولو كان يفصل بينهما سور واحد ! عليهم كل ثقيل من التبعات وليس لهم شئ يذكر من الحقوق !(1/77)
فأما الحقوق السياسية فلا نصيب لهم منها على الإطلاق ولا يفكر أحد ولا يتصور أحد ، أن يكون لهم مشاركة فى السياسة من قريب ولا من بعيد .. وكيف يشاركون ؟ وأين هم حتى يشاركوا ؟! إنهم قابعون هناك - فى الإقطاعية - فى بيوتهم الريفية القذرة ، على استعداد أبدا لخدمة سيدهم أمير الإقطاعية ، والشرف لأحدهم أن يندبه الأمير لخدمة خاصة غير بقية الأصفار الآدمية التى تمتلئ بها الإقطاعية ، فذلك تمييز وتكريم أى تكريم !
وكان الإقطاعى بدوره يقوم " برعاية " هذه القطع الآدمية المتناثرة فى أرضه !
فهو يشهد أفراح زفافهم ويستخدم - فى كثير من الأحيان - حق الليلة الأولى ، أى حق الخلوة بالعروس ليلة عرسها ، قبل أن يتسلمها زوجها ! وبذلك يعيش هو عرس دائم متجدد ويتسلم العبيد فضلاته !
وهو يطحن لهم غلالهم فى مطحنه وهو المطحن الوحيد المصرح به فى القرية ، لقاء أجر يحدده هو على مزاجه ، وكذلك يعصر لهم كرومهم فى معصرته ، ليشربوا .. وينسوا !
كما أنه يدافع عنهم ضد أى هجوم من أمير آخر - وما أكثر ما يحدث الهجوم - وذلك بتجنيدهم ودفعهم إلى القتال .. ليموتوا !
كما يفرض عليهم من الضرائب ما يرتاح إليه ضميره ، وما يستريح ضميره حتى تمتلئ خزائنه ، ما تمتلئ حتى تفرغ من جديد !
وهكذا تتنوع ألوان " الرعاية " التى يقدمها لهم .. له منها كل حلوة ولهم العذاب ..
وحين كانوا فى هذه الظلمات ، احتكوا بالمسلمين ، سواء الاحتكاك الحربى أو السلمى الذى استمر عدة قرون .(1/78)
وجدوا عند المسلمين " دولة " منظمة ، يحكمها حاكم يعاونه معاونوه ويخضع الناس لحكمه سواسية على درجة واحدة من الخضوع . وكان هذا شيئا جديدا عليهم ، فقد كانت لديهم " دولة " نعم ولكنهم لا يتصلون بها - وأنى لهم ؟ - ولا تتصل هى بهم إلا من خلال أمراء الإقطاع ، وأمراء الإقطاع هم حكامهم الحقيقيون المباشرون ، وليس لرئيس الدولة سلطان عليهم فيما يفعلون فى إقطاعياتهم ، إنما سلطانه عليهم محصور فى المال الذى يطلبه منهم - فيأخذونه هم من دماء فلاحيهم ، وتبقى خزائنهم الخاصة لا تمس - وفى المجندين الذين يطلبهم منهم إذا قامت الحرب - وكثيرا ما تقوم - فيقدم الإقطاعى ما استطاع من دماء فلاحيه لكى يرضى الملك أو الإمبراطور عنه ، ويدع يده مطلقة بعد ذلك يفعل بعبيده وأقنانه " 52" ما يشاء .
ووجدوا قضاء منظما .. أى قضاة يحكمون بين الناس فيما شجر بينهم ، يعامل الناس أمامهم على السوية ، ويملك الإنسان إذا شاء أن يختصم إلى ذلك القضاء مع واليه أو رئيسه أو من يكون خصمائه فيحكم القاضى بما يرضى ضميره هو لا بهوى السلطان .
ووجدوا شريعة حاكمة .. شريعة ليست هى هوى الإقطاعى .. إنما هى شرائع ثابتة يضبطها الكتاب الذى أنزلت به ويضبطها اجتهاد فقهاء الأمة - وهم ليسوا طرفا فى خصومة مع أحد بعينه ، وليسوا حكاما يجورون بالسلطان - وإنما هم مجتهدون يفسرون النص القرآنى ويستنبطون الأحكام منه ، أو يقيسون عليه ، أو يبحثون عن المصلحة " العامة " لا الخاصة فيما يجتهدون به من الأحكام .
باختصار وجدوا الإسلام ..
وقد كان شئ وجوده جديدا بالمرة عليهم ، فقد كان الذى يعرفونه من قبل هو ذلك الطاغوت الذى يحكمهم فيكون هو الخصم والحكم وهو المشرع والقاضى والمنفذ .. وهو الذى يتصرف فيهم بلا مراجع .. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون !
كان ذلك هو الذى استجاش أوروبا لتتمرد على هذا الظلام الشامل أو الفساد الشامل الذى تعيش فيه .. وتطلب الإصلاح .(1/79)
وكان الإقطاع - بكل ما يشتمل عليه من ظلم سياسى واقتصادى واجتماعى - هو الهدف الأول لمحاولات الإصلاح . وإن كان طلب الإصلاح الذى نشأ من الاحتكاك بالمسلمين شاملا فى الحقيقة كل ميادين الحياة .
عندئذ بدأت أصوات المصلحين تتتابع ، ثم بدأت أنات خافتة تسمع من أفواه " الكادحين " .
فكيف كان موقف الكنيسة الغارقة فى الإقطاع وفى الطغيان ؟!
لقد وقفت تتهدد الثائرين على الظلم ، المتمردين على الطواغيت ، بأنهم مارقون من الدين ، وأنهم ملعونون عند الله !
ووقفت تحاول تخدير الثائرين على الظلم ، بأن الرضا بالظلم فى الحياة الدنيا هو مفتاح الرضوان فى الآخرة .. فأما العبيد الثائرون والأقنان فقالت لهم إن السد المسيح يقول : " من خدم سيدين فى الدنيا خير ممن خدم سيدا واحدا" .. وأما المظلومون عامة فقالت لهم إن من احتمل عذاب الدنيا فسيعوضه الله بالجنة فى الآخرة .
ومن هنا قال ماركس قولته الشهيرة : الدين أفيون الشعوب ! وهى قولة صادقة كل الصدق على دين الكنيسة المحرف ، ولكنها كاذبة كل الكذب حين تطلق على الدين المنزل من عند الله .
لقد كانت خطيئة الكنيسة هنا خطيئة مثلثة .
فهى أولا لم تسع قط منذ تسلمها السلطة إلى تحكيم شريعة الله المنزلة عليهم فى التوراة والإنجيل :
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)} [سورة المائدة 5/46-47](1/80)
والسلطان الذى نازعت فيه الملوك والأباطرة وغلبتهم عليه فترة من الوقت كان - كما أشرنا من قبل - فرصة مهيأة لفرض شريعة الله على أولئك الملوك والأباطرة ، وإزالة الظلم السياسى والاقتصادى والاجتماعى المتمثل فى القانون الرومانى من جهة ، والإقطاع من جهة أخرى .. كما فعل الإسلام فى الأرض التى حررها من السيطرة الرومانية - والسيطرة الفارسية كذلك - فألغى فيها حكم الجاهلية إلغاء كاملا ، وحكم فيها شريعة الله ، فعاشت فى ظلال العدل الربانى عدة قرون ، سواء دخل أهلها فى الإسلام أو بقوا على دينهم الذى كانوا عليه قبل الفتح الإسلامى .
ولكن البابوات الذين نازعوا الأباطرة سلطانهم - وغلبوهم عليه - لم يفكروا أبدا فى تحكيم شريعة التوراة والإنجيل الواجبة التنفيذ - فى إبانها - حتى ينزل الله شريعته الأخيرة فتصبح هى الواجبة التنفيذ .. إنما استخدموا سلطانهم السياسى (أو الدنيوى) كله فى إخضاع الأباطرة لنفوذهم الشخصى وأهوائهم الشخصية ، وأذلوهم بها أيما إذلال !
والخطيئة الثانية هى صد أوروبا عن الإسلام حين بدأت تتفتح له عن طريق التأثير المصاحب للمبتعثين الأوروبيين العائدين من أرض الإسلام ، وموقفها المتعصب الأحمق ضد الدين السماوى المنزل للبشر كافة ، وتكليف كتابها بتشويه صورة هذا الدين وتشويه صورة رسوله صلى الله عليه وسلم بتصويره بأنه ساحر وأنه كذاب ، وأنه همجى وشهوانى وسفاك دماء .. الخ مما لا تزال أوروبا تلوكه بغير وعى إلى هذه اللحظة !
والخطيئة الثالثة أنها لم تكتف بذلك كله بل وقفت موقفا صريحا إلى جانب الطواغيت - وهى ممثلة الدين السماوى ، دين الرحمة والرأفة - وهددت الثائرين على الظلم بالعنة الأبدية وغضب الرب ، واتهمتهم بالمروق من الدين !
الخلاصة :(1/81)
حين يستعرض الإنسان هذا التاريخ الحافل بالمخازى والخطايا والأخطاء .. من طغيان روحى وفكرى ومالى وسياسى وعلمى ، وفساد خلقى ، وانحراف فكرى وسلوكى ، ومساندة للظلم فى جميع ألوانه ، وتخذيل للمصلحين وتخدير للمظلومين ، وصد عن سبيل الله ، وتشويه لصورة الدين .. هل نعجب من النهاية التى وصلت الأمور إليها من انسلاخ الناس فى أوروبا من ذلك الدين ونفورهم منه ، وثورتهم على رجاله ، وإبعادهم له عن كل مجالات الحياة؟
إن الفطرة البشرية لتثور على الظلم وتمجه ولو احتملته عدة قرون !
وهذا البطء فى قيام رد الفعل هو الذى يغرى الطغاة بالاستمرار فى طغيانهم ، ظانين أن الأمور ستظل فى أيديهم أبدا ، وأنها غير قابلة للتغيير .
ولكن عبرة التاريخ قائمة لمن يريد أن يعتبر .. وما يعتبر إلا أولو الألباب .. أما الطغاة مطموسو البصيرة فأنى لهم أن يعتبروا ؟!
{قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)} [سورة يونس 10/101]
{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} [سورة إبراهيم 14/45-46]
وهذا البطء فى قيام رد الفعل هو الذى أغرى كذلك بعض " العلماء " أن يقولوا إنه لا توجد فطرة للإنسان! وإن الإنسان ليس له قالب محدد . وإنما هو يصب فى أى قالب يراد له فيتشكل بشكله ، ويظل قابعا فيه حتى يصب فى قالب جديد " 53".
ولله فى خلقه شئون . وتركيبه للنفس الإنسانية على الصورة التى ركبها عليها فيه حكمة ولا شك .. ولكنا نتحدث هنا عن الواقع التاريخى ودلالاته .(1/82)
إن النفوس تخضع لجبروت الطغيان خوفا وطمعا فى أول الأمر ، لأن الطغاة يحمون جبروتهم بشتى وسائل الحماية من ترغيب وترهيب .. ثم تتبلد النفوس من جهة ، ويأخذ الطغيان صورة الأمر الواقع من جهة ، فيستقر فى الأرض فترة تطول أو تقصر ، هى التى يتخيل الطغاة فيها أنهم باقون أبدا ، مسيطرون أبدا ، لا يمكن زحزحتهم ولا تبديل الأحوال التى مكنت لهم فى الأرض .
ثم تبدأ نفوس تتململ . هى أكثر وعيا وأكثر حساسية أو أصل بعودا أو أكثر مخاطرة .. أو ما يكون من الأسباب .
وهنا يلجأ الطغاة إلى جبروتهم مرة أخرى ، ويستخدمون وسائل الإرهاب لوقف هذه الظاهرة " المنكرة " عن الانتشار ، وتأديب الخارجين لكى يكونوا عبرة للآخرين .
ثم يكون هذا ذاته هو بدء النهاية ! يشتد الجبروت وتتولد مقاومة متزايدة له فى داخل النفوس بمقدار ما يشتد ويمعن فى الطغيان .
وفى لحظة معينة يحدث الانفجار .. ويكون كالطوفان !
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} [سورة الرعد 13/41]
ولقد بدأت نذر الثورة على الكنيسة ورجال الدين ، وعلى الدين المزيف الذى تقدمه الكنيسة ، بدأت منذ عصر النهضة . وبدأ الكتاب يتمردون على سلطان الكنيسة الطاغى ويهاجمون رجال الدين ، بل يهاجمون كذلك خرافات ذلك الدين الكنسى ومعمياته .
ولكنها كانت أصواتا متناثرة ، فظن القوم أنهم قادرون عليها وعلى إسكاتها .
ولكن سنة من سنن الله كانت ترجى ، وما يستطيع أحد أن يقف سنة اله عن الجريان .
كانت هذه الأصوات تهز النائمين ليصحوا .. تزيل عنهم تبلد نفوسهم .. وتزيل ثقلة " الأمر الواقع " من حسهم ، وتشعرهم أن التغيير ممكن ، وأن هذا الأمر الواقع ليست له صفة الخلود ، ولا هو كذلك فى منعة من النقد والتجريح .(1/83)
وبذلك الكنيسة جهدها فى محاولة إسكات هذه الأصوات ، مستخدمة فى ذلك نفوذها على قلوب الناس وعقولهم وأرواحهم ، وسلطانها " التقليدى " الذى كانت تأمر به فتطاع ، وينظر إلى كلمتها على أنها موضع التقديس .. لأنها مرتبطة فى حس الجماهير بالدين .. وما أعظم سلطان الدين على النفوس . كما استخدمت محاكم التفتيش حين اشتد فزعها وخافت على ما فى يدها من السلطان .
ولكن رويدا رويدا زادت الأصوات عددا ، وزادت جرأة ، وزادت استخفافا بالجبروت .
علماء .. ومفكرون .. وفلاسفة .. ومصلحون .. وحاقدون ! حاقدون على سلطان الكنيسة الطاغى وما تتمتع به من المزايا بغير استحقاق ..
وكانت العملية بطيئة .. بطيئة .. بطيئة .. !!فقد كان حجم الطغيان هائلا مخيفا ، وكان له فى الأرض تمكن طويل يبلغ عدة قرون .
ولكن فى النهاية حدث الانفجار !
وكان بشعا فى شدة انفجاره ، بشعا فى سرعة اكتساحه ، بشعا فى قسوة الحمم الذى تفجر من بركانه .
كانت الثورة الفرنسية بكل ما تضمنت من ألوان العنف والبطش والقتل وإسالة الدماء ..
واكتسحت الثورة الفرنسية فى طريقها ما كان قد تراكم من المظالم خلال ألف وأربعمائة عام ! وأزالت الطبقتين الحاكمتين الطاغيتين المتحالفتين ! رجال الإقطاع (الإشراف !) ورجال الدين !
ومع ذلك فإن الأمور - فى تلك الثورة - لم تسر فى سمارها الطبيعى .. فعلى الرغم من كل الظلم المتراكم أكثر من ألف عام ، من الإقطاعيين ورجال الدين سواء ، وعلى الرغم من كل الحقد المشحون فى الصدور تجاه هاتين الطبقتين ، وعلى الرغم من وحشية الجماهير حين تتولى هى القيادة .
على الرغم من ذلك كله فقد كان يمكن أن تسير الثورة فى تمردها وقضائها على الظالمين مسارا آخر .. لولا أن يدا خبيثة تدخلت لتتجه بالثورة فى مسار معين ، يخدم أغراضها هى قبل كل شئ آخر .. سواء خدم أو لم يخدم أهداف الآخرين !
تلك هى يد اليهود ...
التمهيد الثانى
دور اليهود فى إفساد أوروبا(1/84)
اليهود لا ينشئون الأحداث كما يزعمون لأنفسهم وكما يتوهم الذين تبهرهم سيطرة اليهود فى الوقت الحاضر .
ولكن لا شك أنهم يجيدون انتهاز الفرص واستغلالها لتنفيذ مخططهم الشرير .
ولحكمة ما أخرج الله هذه الأمة وناط بها دورا تؤديه فى التاريخ .
ومشكلة هذه الأمة كامنة فى جبلتها المنحرفة التى لا تستجيب لدواعى الخير ولا تستقيم على الهدى ولا تشرق روحها ببارقة من نور ..
جحدوا فضل الله عليهم ، وجحدوا أنبياءهم ، وجحدوا كل فضل قدمه إليهم أحد من البشر .. وقابلوا كل ذلك بإنكار الجميل أو الطمع والجشع والحسد وقساوة القلب .
كرهتهم كل الأمم لخصالهم تلك ، فانطووا على أنفسهم ، يملأ نفوسهم الحقد الدفين على الأمم كلها ، يريدون أن يقضوا على كل شعوب الأرض ليبقوا هم وحدهم ، أو يريدون أن يستعبدوا الأمم كلها ويسخروها لمصالحهم .
وعقدتهم الكبرى اعتقادهم أنهم شعب الله المختار . ومن ثم فينبغى أن يكون بقية البشر خدما وعبيدا لهم ، ويكونوا وحدهم هم المسيطرين .
ولقد اختارهم الله حقا ذات يوم وكانوا شعب الله المختار .
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33)} [سورة الدخان 44/30-33]
ولكنهم عند الابتلاء سقطوا ، وجحدوا تلك النعمة الهائلة فلم يرعوها حق رعايتها ، بل يرعوها بشئ على الإطلاق ! {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)} [سورة البقرة 2/47]
فهل ذكروا ؟!
{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)} [سورة البقرة 2/87](1/85)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا(1/86)
وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161)} [سورة النساء 4/152-161]
تلك صفحتهم السوداء التى أدت إلى نزع العهد منهم ورفع الاختيار عنهم ومنحه لأمة سواهم.
ولقد كان هذا الأمر واضحا ومقررا فى أمنية إبراهيم عليه السلام ورد الله عز وجل عليه :
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [سورة البقرة 2/124]
فقد ابتلى الله إبراهيم جملة ابتلاءات كان أشقها وأصعبها أمره له أن يذبح ولده الحبيب إسماعيل ، واستجاب هو وولده للابتلاء العظيم :
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} [سورة الصافات 37/99-111](1/87)
فلما أتم إبراهيم الابتلاء وجازه بنجاح كبير كافأه الله على ذلك بجعله إماما للناس . وهنا تحركت فى إبراهيم عليه السلام رغبته البشرية فى أن يكون هذا الفضل مستمرا فى عقبه ، وأن يكون العهد باقيا فى ذريته لا ينقطع ، فهل جامله اله سبحانه وتعالى وهو يصطفيه ويقربه ويجعله خليلا له ، بأن أجابه إلى طلبه على إطلاقه ؟! كلا ! بل جاء الرد حاسما قاطعا : قال : " لا ينال عهدى الظالمين ! " ، وكان المعنى به هم بنو إسرائيل بالذات .
فلما اختار الله بنى إسرائيل فقد اختارهم للابتلاء : {وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33)} [سورة الدخان 44/33] فكانت نتيجة الابتلاء هى هذا التاريخ الأسود الذى اقترفوه فى الأرض ، والظلم الذى أنذرهم الله أن يرفع عنهم العهد بسببه ولا يبقيه فى أيديهم .. ونزع العهد منهم بالفعل تحقيقا لسنة الله الجارية التى لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابى أحدا من البشر . نزع العهد عن " شعب الله المختار " فلم يعد مختارا بعد ، ومنح الله فضله ونعمته لأمة أخرى هى التى قال لها : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة 5/3] وقال عنها :
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
واشتد الحسد والحقد منذ ذلك الحين .
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ} [سورة البقرة 2/109]
ولقد جهدوا جهدهم كله لمحاولة القضاء على الأمة الإسلامية فى مهدها ، حتى يئسوا فانكمشوا إلى حين.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [سورة المائدة 5/3](1/88)
ولكن حقدهم ظل معهم ، بل ظل يتزايد على طول الزمان وزاد تصميمهم الخبيث على نشر الشر فى الأرض وسحق كل أمة عداهم .. حتى واتتهم الفرصة السانحة فى العهد الأخير ..
وهنا يخطر سؤال : أليس الله سبحانه وتعالى قد تكفل بقهرهم وتسليط العذاب عليهم إلى قيام الساعة جزاء كفرهم وتبجحهم ؟
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [سورة الأعراف 7/167]
بلى ! ولكن هناك حالات استثنائية فى تاريخهم يشير إليها كتاب الله :
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ} [سورة آل 3/112]
بحبل من الله وحبل من الناس ترتفع عنهم الذلة - مؤقتا - ويمكنون فى الأرض ، لحكمة وغاية يريدها الله .. ثم يعودون إلى الوعد المستمر :
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [سورة آل عمران 3/112]
{لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} سورة الأعراف 7/167]
والآن هم فى هذه الفترة الاستثنائية التى أشارت إليها الآية الكريمة من سورة آل عمران .
ولئن كان مخططهم هو استبعاد البشرية كلها وسحقها تحت أقدامهم ، ولئن كان الإسلام عدوهم الأول الذى يحقدون عليه الحقد الأشد ، فما كانوا - حين بدأوا ينشطون نشاطهم الضارى فى التاريخ الحديث - ما كانوا يجدون الفرصة السانحة للانقضاض على الإسلام ، فبدأوا بأوربا ، إذ وجدوها أيسر منالا لما كان فى حياتهم من الثغرات التى أحدثتها الكنيسة بحماقاتها وخطاياها ، فيسرت لليهود أن يخرجوا من أجحارهم ويعيثوا فسادا فى الأرض.(1/89)
والآن فلننظر كيف تحرك اليهود لتنفيذ مخططهم الشرير ، انتهازا للفرصة السانحة واستغلالا للأحداث الجارية ، لا إنشاء للأحداث كما يدعون عن أنفسهم ، وكما يرسمهم من يهول من مقدرتهم الشريرة من أمثال " وليم كار " مؤلف الكتاب الشهير ر" أحجار على رقعة الشطرنج " الذى ينسب فيه كل أحداث التاريخ لفعل اليهود !
يقول التلمود " 54" لليهود : الأمميون (أى كل الأمم غير اليهود) هم الحمير (دواب الحمل) الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار ، وكلما نفق منهم حمار ركبنا حمارا آخر ! ..
وبصرف النظر عن وقاحة التعبير وغلظته فهو واضح الدلالة على هذا الكبر الذى وصفه الله فيهم : " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم .. " فإنهم إذا كانوا يستكبرون على الرسل فكيف يكون استكبارهم وغطرستهم وصلفهم على البشر من غير الأنبياء ؟!
ثم يصف لهم التلمود كيف ينبغى لشعب الله المختار أن يعامل الأممين ! " اقتل الصالح من غير الإسرائيليين . ومحرم على اليهودى أن ينجى أحدا من باقى الأمم من هلاك أو يخرجه من حفرة يقع فيها لأنه بذلك يكون حفظ حياة أحد الوثنيين " " 55 " .
" إذا سرقأولد نوح - أى من غير اليهود - شيئا ولو كانت قيمته طفيفة جدا يستحقون الموت ، لأنهم خالفوا الوصايا التى أعطاها الله لهم ، أما اليهود فمصرح لهم أن يضربوا الأمى " " 56 " .
" إن تجارة البغاء بالأجنبى والأجنبية ليست إثما ، لأن الشريعة براء منهما" " 57 " .
وهذه التعاليم أكثر قداسة عندهم من التعاليم الواردة فى كتاب الله المنزل ، التى تدعو إلى البر والخير الذى لم يطيقوه أبدا ولم يطبقوه فى حياتهم أبدا ، إلا قليل منهم ، وهذا هو الذى أشار إليه القرآن الكريم :(1/90)
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [سورة آل 3/75]
فهم يدعون على الله أنه أذن لهم أن يعاملوا الأميين (وهم الأمميون فى التعبير الآخر) على هذا النحو ، وهم يعلمون أنهم يكذبون على الله . ثم يطيعون الكذب الذى يعلمون كذبه ، ويعرضون عن الصدق الذى يعلمون أنه الحق !
وإذ كان مخططهم هو استبعاد البشرية و" استحمارها " وتسخيرها لمصالحهم ، فقد علموا أن أنجح الوسائل لذلك هى نزع عقائد الأممين وإفساد أخلاقهم .
يقول القرآن عنهم :
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [سورة الجمعة 62/5]
ورغم أن هذا القول نازل فيهم ، فقد وعوه وطبقوه على غيرهم !
إن العبرة فى الآية الكريمة أن الأمة التى أنزل الله كتابا من عنده لتحكمه فى شئون حياتها وتجرى حياتها بمقتضاه ثم أعرضت عنه ونبذته ، تفقد آدميتها وتتحول إلى دواب كالحمير . وهو نفس المعنى الذى تحمله الآية : {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف 7/179] .
وإذ وعى اليهود هذه الحكمة من قديم - وان كانوا يستثنون منها أنفسهم باعتبارهم شعب الله المختار ! - فهم يسعون أبدا إلى نشر الفساد فى الأرض ، الفساد العقيدى والفساد الخلقى .. وكل أنواع الفساد :
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [سورة المائدة 5/64]
تقول البروتوكولات :(1/91)
" يجب علينا أن ننزع فكرة الله ذاتها من عقول غير اليهود ، وأن نضع مكانها عمليات حسابية وضرورات مادية " " 58 " .
" ومن المسيحيين أناس قد أضلتهم الخمر وانقلب شبابهم مجانين بالكلاسيكيات والمجون المبكر الذى أغراهم به وكلاؤنا ومعلمونا وخدمنا ، ونساؤنا فى أماكن لهوهم والراغبات من زملائهن فى الفساد والترف " " 59 ".
وهذا هو المخطط الشرير ..
ولقد ظل اليهود قرونا طويلة يسعون إلى تحقيق هذا المخطط ويحلمون باليوم الذى يجردون فيه الأمم كلها من دينها ، ليبقى شعب الله المختار وحده هو صاحب الكتاب وصاحب الدين .. وعندئذ يتحقق الوعد المزعوم ويحكمون كل البشرية !
ولكن هذا السعى ظل خائبا عدة قرون سواء فى العالم الإسلامى أو العالم المسيحى - رغم كل محاولاتهم الشريرة فى القضاء عليهما - حتى سنحت الفرصة الكبرى أمامهم حين أخذت أوروبا تنسلخ من دينها وتسعى إلى " التحرر " من ذلك الدين ..
هناك واتت الفرصة المرتقبة منذ قرون . لا لأن اليهود دبروا الأحداث - كما يزعمون فى البروتوكولات - ولا لأن تراكم التخطيط عبر القرون قد أتى ثماره آخر الأمر كما يرى أمثال وليم كار فى كتاب الأحجار .. ولكن لأن أوروبا هى التى " استحمرت " نفسها لشعب الله المختار حين فرت من الدين {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [سورة المدثر 74/50-51]
لو ظلت أوروبا ذات دين وعقيدة ما استطاع اليهود أن يصنعوا ما صنعوا ولا أن يفسدوا ما أفسدوا .(1/92)
صحيح أن العقيدة التى قدمتها الكنيسة- أو قدمها بولس اليهودى الأصل - إلى أوروبا كانت فاسدة منذ أول لحظة ، وأن الدين الذى نشرته الكنيسة لم يكن هو دين الله المنزل .. وأنه منذ اللحظة الأولى كان يحمل الثغرات التى يمكن أن ينفذ منها أولياء الشيطان . ولكن شدة تمسك أوروبا بعقيدتها - رغم فسادها - قد جمد محاولات اليهود لتنفيذ الخطط الشريرة فترة طويلة ، رغم أنهم لم يكفوا عن المحاولة خلال تلك القرون كما يقول - بحق - وليم كار فى كتاب " أحجار على رقعة الشطرنج " .
لقد كانت العقيدة فاسدة نعم ولكنها كانت تدعو الناس إلى الفضيلة وتحذرهم من حبائل الشيطان وتحذرهم من فتنة الجنس خاصة ، وتصل بهم إلى درجة التزمت والرهبانية ، والجنس من أشد أدوات اليهود فعالية فى إفساد الأمميين !
كانت الأسرة متماسكة ، والشباب - فى الغالب - يتزوج مبكرا ، والاختلاط محدود ، ودواعى الجريمة محدودة ، والحياة بسيطة أقرب إلى الشظف وعيش الكفاف .. وفى مثل هذا الجو ماذا يملك اليهود مهما كانت براعتهم فى الشر ؟!
لقد كان أقصى ما يفعلون هو جمع المال ، وإقراضه بالربا الفاحش للمحتاجين ، وإيقاع أمراء الإقطاع فى الدين ليستولوا فى النهاية على ثرواتهم .
ولكن تأثيرهم فى مجموع الناس كان معدوما أو ضئيلا إلى أقصى حد ، خاصة واليهود فى أوروبا فى ذلك الحين محتقرون مهينون فوق البغضاء الموجهة إليهم والاضطهاد الحائق بهم على أساس أنهم قتلة المسيح كما يعتقد المسيحيون !
ولكن الحماقات المتوالية للكنيسة والخطايا التى ارتكبتها فى حق الدين وحق الناس هى التى صدعت الكيان الدينى فى النهاية وأوجدت الثغرات الواسعة التى نفذ منها الشريرون .(1/93)
منذ بدء " النهضة " وجدت الثغرات التى تمناها اليهود وجلسوا فى انتظارها عدة قرون . فقد قامت تلك النهضة منذ مبدئها على أسس إغريقية رومانية غير مسيحية ، بل إنها فى الواقع قامت على أسس مضادة للمسيحية معادية لها ، وإن كانت لم تستطع أن تخوض المعركة الحاسمة مع المسيحية إلا بعد ذلك بأجيال ، ظلت الكنيسة خلالها ذات نفوذ واسع على الجماهير على أقل تقدير .
ويوما بعد يوم كانت تقترب اللحظة التى يمكن أن ينهار فيها سلطان الكنيسة ويصبح دينها الذى فرضته على الناس عديم السلطان أو ضعيف التأثير .
وفى الثورة الفرنسية وقع ذلك الانفجار الحاد ، الذى دوى فى أرجاء أوروبا كلها فأودى بالإقطاع وزلزل كيان الدين .
ومع ذلك فقد كان من الممكن أن تسير الثورة فى سمار آخر لو لم يتدخل ذلك العنصر الشرير فى توجيه الأحداث وجهة معينة تخدم أهدافه الخاصة بصرف النظر عن أهداف الثائرين !
كانت أهداف الثائرين هى القضاء على ذينك الحليفين الطاغيين المستبدين : رجال الإقطاع (الإشراف !) ورجال الدين . وكان الإقطاع شرا خالصا فكان ينبغى أن يزول ، وكان الدين الذى تقدمه الكنيسة وتطغى به على الناس يحوى بعض الحقائق وكثيرا من الأباطيل ، فكان يمكن أن تصحح أباطيله ، ويستبدل به الدين الحق ، الخالى أساسا من الأباطيل .
ولكن اليهود حين دخلوا فى الأمر لم يدعوا الفرصة لتصحيح الدين .. وإنما اهتبلوها فرصة سانحة لتحطيم الدين ! وهذا هو الدور الحقيقى الذى لعبوه فى الثورة الفرنسية ، لا لأنهم هم الذين أنشأوها كما يزعمون فى البروتوكولات ، ويتابعهم فى زعمهم وليم كار فى كتاب الأحجار ..(1/94)
حقيقة إن المحافل الماسونية المنتشرة فى فرنسا فى ذلك الوقت هى التى قامت بالتحضير للثورة ، وهى التى رفعت شعاراتها الخاصة - الحرية والإخاء والمساواة - شعارات للثورة الفرنسية ، على غير وعى " الأممين " الذين قاموا بها ! وإن بعض الخطباء من اليهود اشتركوا فى إلهاب حماسة الجماهير وتفجير الغضب المكبوت .. ولكن هل كان فى طوق اليهود - مهما فعلوا ، ومهما تكن براعتهم الشريرة - أن يشعلوا الثورة لو لم تكن خاماتها موجودة فى النفوس ومستعدة للاشتعال ؟!
أما دخول اليهود فى الثورة فقد كان لتحقيق هدفين كبيرين من أهدافهم الخاصة ، أحدهما كانت الثورة تتجه إليه من تلقاء ذاتها ، والثانى كانت وجهة الثورة فيه تيسر لهم الوصول إلى هدفهم الخاص حين يستغلون الأحداث على طريقتهم الشريرة فى استغلال الأحداث .
فأما الهدف الأول فقد كان تحطيم الإقطاع وهذا كان يوافق هدفا مرحليا خاصا لليهود .
وأما الهدف الثانى فقد كان تحطيم نفوذ الكنيسة ورجال الدين ، وهذا الذى حوله اليهود - لحسابهم الخاص - إلى تحطيم لذات الدين .
كان لليهود أكثر من مصلحة فى تحطيم الإقطاع ، فلا عجب أن يدخلوا فى الثورة التى رأوها متجهة - من تلقاء نفسها - إلى تحطيمه .
كانت الثورة الصناعية تدق الأبواب .. وكان اليهود يقدرون لأنفسهم فيها أرباحا طائلة عن طريق الإقراض بالربا . فمنذ مولدها واحتياجها إلى المال لتمويل الصناعة الناشئة ، سقطت فريسة فى يد اليهود .. وما تزال حتى هذه اللحظة فى أيديهم .(1/95)
كان المال الوفير الذى يصلح لتمويل الثورة الصناعية فى يد طائفتين اثنتين فى ذلك الحين : طائفة أمراء الإقطاع وطائفة المرابين من اليهود . فأما أمراء الإقطاع فقد رفضوا تمويل الصناعة الناشئة وأبوا أن ينقلوا أموالهم من دورتها الزراعية المألوفة لديهم ، والمضمونة الربح لهم ، إلى عملية جديدة لا يعرفونها ، ولا يطمئنون إليها لعدم تمرسهم بها ، خاصة وأن كثيرا من العمليات الصناعية كان يفلس فى مبدأ الأمر بسبب نقص الخبرة أو عدم توفر الأسواق أو عدم وجود المواصلات الميسرة ؛ أو عدم إقبال الناس على الأشياء المصنوعة بالآلة وتفضيل المصنوعات اليدوية عليها بحكم الألفة الطويلة ، وعلى أساس أن استخدام المصنوعات الآلية سيمحق البركة من حياتهم لأن فيه إصبعا من أصابع الشيطان !
عندئذ تقدم اليهود لتمويل تلك الصناعات مرحبين ، لأنهم - على طريقتهم - لا يخسرون شيئا سواء ربحت الصناعة أو خسرت أو أفلست إفلاسا كاملا ، ذلك أنهم لا يشتركون اشتراكا مباشرا برؤوس أموالهم ، وإنما يقرضون أصحاب الصناعات بالربا الفاحش مقابل ضمانات تضمن لهم رجوع أموالهم إليهم مع الفوائد المضاعفة دون أن يتعرضوا للخسائر التى كانت تتعرض لها الصناعة الناشئة فى ذلك الوقت فى كثير من الأحيان .
وفكرة المصرف (البنك) فكرة يهودية بحتة ، تقوم على تشجيع الناس على إيداع أموالهم - أو ارتهانها - لديهم مقابل إعطائهم صكوكا بها ، بينما يشغلون هم هذه الأموال فى عمليات إقراض ربوية يربحون عن طريقها الكثير ، فيعطون المودعين جزءا من هذه الأرباح ويستأثرون هم بمعظمها دون مخاطرة ولا جهد يذكر !(1/96)
وهكذا أصبحت لليهود مصلحة أكيدة فى قيام الثورة الصناعية لما تدره عليهم من أرباح لم يكونوا ليحصلوا على مثلها من قبل من أمراء الإقطاع ، بالإضافة إلى الجلوس فى مقعد السيطرة بدلا من الذل المهين الذى كانوا يعاملون به فى عهد الإقطاع حتى وهم يقومون بإقراض المال للطالبين ! واقرأ إن شئت وصفا قصصيا لهذه الأوضاع فى قصة " الزنبقة القرمزية " تأليف البارونة أورتسى حيث يطلب أمير الإقطاعية قرضا من المرابى اليهودى ، فإذا جاء هذا يسلمه القرض المطلوب وهو ينحنى أمامه فى ذلة (ولا ضير عندهم فى التذلل ما دام وراءه ربح !) إذا الإقطاعى ينهره لأنه يمد يده إليه بالمال ، ويقول له : لا تدنس يدى بلمسها بيدك ! ضع المال هنا (مشيرا إلى مكان معين) وسأتسلمه أنا من ذلك المكان بعد انصرافك أيها العين !!
ولكن العقبة أمام الصناعة الناشئة لم تكن عقبة التمويل فحسب ، وهى بالنسبة لهم لم تكن عقبة بل كانت مصدر ربح وفير ، إنما كانت العقبة الكبرى هى توفير العمال اللازمين للصناعة .. فقد كان العمال فى الريف يحتجزهم الإقطاع ، وساء كانوا عبيدا للسيد أو عبيدا للأرض ، أو من العمال الزراعيين الأحرار وهم قلة قليلة إلى جوار العبيد والأقنان ، وكلهم لا يملكون الانتقال إلى حيث تقوم الصناعات - بالضرورة - فى المدينة ، حيث توجد الأسواق المعقولة لتصريف المنتجات الصناعية . ومن ثم كان لابد من تحطيم الإقطاع لتحرير العبيد - عبيد السيد وعبيد الأرض - وتقرير " حق الانتقال " لكل من يريد ، وهو حق لم يكن قائما فى ظل الإقطاع .(1/97)
وهذا الهدف - وهو تحرير العبيد لتوفير العمال اللازمين للصناعة فى المدن - لم يكن فى سحاب الثائرين ولا شك يوم قاموا بثورتهم العنيفة ضد مظالم الإقطاع ، ولكنه كان هدفا واعيا للرأسمالية القائمة فى أحضان اليهود منذ أول لحظة ، أى أنه كان هدفا واعيا فى تخطيط اليهود ، ومن أجله شاركوا فى الثورة الفرنسية وقامت مؤسساتهم الماسونية لها بدور التحضير ، أو التفجير ! " 60" .
أما الدين فلم تكن قصته كذلك .
كان الثوار ينقمون على رجال الدين طغيانهم الذى أذلوا به الناس عبر القرون ، كما كانوا ينقمون عليهم مساندتهم لأمراء الإقطاع ضد دعوات التحرر من الظلم ، وكانوا يريدون أن يتحرروا من ذلك الطغيان ومن تلك المساندة الظالمة للطغاة ، ولكنهم لو تركوا لأنفسهم دون تدخل الأشرار ، فلربما اكتفوا بقتل من قتلوا من رجال الدين دون التوجه لقتل الدين ذاته ، أو لربما طالبوا بالإصلاح الدينى الذى يدع الناس أحرارا فى عبادتهم ، ويزيل عن البابا ورجال الدين قداستهم ، ويصحح العقيدة من انحرافها ، وينفى الأباطيل والمعميات عنها .
ولكن التدبير اليهودى كان يسعى إلى تحطيم الدين فى أوروبا جملة لتحقيق مرحلة من مراحل المخطط الشرير الذى يهدف إلى تجريد " الأممين " جميعا من عقائدهم وأخلاقهم ، لأجل " استحمارهم " والسيطرة عليهم ، وتشخيرهم لشعب الله المختار ، بالإضافة إلى الانتقام الشخصى من الدين الذى اضطهدهم واستذلهم على اعتبار أنهم قتلوا " الرب " المعبود فى ذلك الدين وصلبوه !
لذلك سعوا بجمعياتهم الماسونية المنبثة فى أنحاء فرنسا ، وبخطبائهم وكتابهم إلى توجيه غضب الجماهير المجنونة نحو الدين ذاته لا نحو رجاله فحسب .. وكان أن أعلنت فى " فرنسا الثورة " أول حكومة لا دينية فى العالم المسيحى لا تجعل الدين أساسا لأى شئ فى حياة الناس .(1/98)
وكانت خطوة جريئة وبجارة بلا شك ، جلس اليهود يفركون أيديهم سرورا بها فى غفلة من الأممين ، الملتهين - حسبما تقرر البروتوكولات - بشعارات " الحرية والإخاء والمساواة " والغارقين فى شرب الكأس حتى الثمالة ، المنتشين بما صار فى أيديهم - فجأة - من سلطان يقتلون به الملوك والإشراف ورجال الدين ، وكل من حامت حوله شبهة من قريب أو من بعيد ، أو أشارت إليه الجماهير المجنونة بإصبعها : خائن ! أو جاسوس !
وهكذا خرج " الأمميون " الثائرون بشئ من النفع المشوب بكثير من الشر ، بينما خرج اليهود بتحقيق أهدافهم كاملة سواء فى تحطيم الإقطاع لترسيخ قدم الرأسمالية المولودة فى أيديهم ، أو تحطيم الدين تمهيدا " لاستحمار " أوروبا وتسخيرها لمصلحة اليهود .
كانت الثورة الفرنسية حدثا ضخما فى حياة أوروبا دون شك ، لا للأسباب التى يدرسونها للأولاد فى المدارس ، ولكن لأسباب أخرى أخطر وأهم .. فقد أطلقت يد اليهود لتحقيق مخططاتهم الشريرة بصورة لم تكن متاحة لهم منق بل فى عهد الإقطاع .. فقد ولد من جراء الثورة الفرنسية ، والثورة الصناعية التى كانت الأولى تحضيرا وتمهيدا لها ، مجتمع جديد كل الجدة عن المجتمع الإقطاعى ، استطاع اليهود أن يعيثوا فيه فسادا بكل قوتهم ، لأنه ولد فى أيديهم من اللحظة الأولى فاستطاعوا أن يشكلوه على النحو الذى يريدون ، إذ كانوا هم - عن طريق البنوك والإقراض بالربا - ممولى الرأسمالية وسادتها المسيطرين عليها ، والمسيطرين - من خلالها - على صناعة المجتمع الجديد بكل ما فيه من عقائد وتصورات وأفكار وسلوك .. وإذ كان " الأممين " فى أوروبا قد بدأوا ينسلخون من دينهم ويسلمون قيادهم للشيطان !(1/99)
وسنتحدث فيما بعد عن " الحتميات " التى زعمها التفسير المادى للتاريخ لتفسير الانتقال من طور فى حياة البشرية إلى طور ، وخاصة الانتقال من الطور الزراعى إلى الطور الصناعى ، وسنرى عند الحديث عنها أنها حتميات زائفة ، وأنها ليست هى - أو ليست هى وحدها - التى تحرك حياة البشر على الأرض ـ وتنقل خطاها من طور إلى طور ، وأنه لم يكن من الحتم على الإطلاق أن تكون صورة المجتمع الرأسمالى الصناعى هى الصورة التى وجد عليها بالفعل لولا التخطيط الشرير الذى شكلها على هذه الصورة ! " 61" .
استطاع اليهود - بعبقريتهم الشريرة - أن يتسلموا قياد المجتمع الأوروبى الآخذ فى الانسلاخ من دينه بتأثير انحرافات الكنيسة الأوروبية وجرائمها وخطاياها ، فينشئوا على أنقاض المجتمع الإقطاعى المنهار مجتمعا جديدا بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد .. وقد سلطوا على هذا المجتمع كل قواهم الشريرة لينشئوه على هذه الصورة ، فوضعوه بين ذراعى كماشة هائلة تعصره عصرا وتفتت كيانه وتحيله كيانا ممسوخا مشوها بلا قوام !
إحدى ذراعى الكماشة كانت نظريات " علمية ! " زائفة ، تحارب الدين والأخلاق والتقاليد من كل زاوية مستطاعة ، تحتوى - لا شك - على شئ من الحق ، ولكنها تلبس الحق بالباطل على ديدن يهود من أول التاريخ :
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [سورة البقرة 2/42]
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [سورة آل 3/71]
وكان أبرز " الأبطال " فى هذه المعركة ثلاثة من " أساطين " اليهود هم ماركس وفرويد ودركايم ..(1/100)
وأما الذراع الأخرى للكماشة فكانت واقعا فعليا يقوم من أول لحظة على عداء مع الدين والأخلاق والتقاليد ، ويظل ينزلق خطوة خطوة ، كل خطوة تؤدى إلى ما بعدها كأنما بصورة تلقائية (ومن طبيعة المنزلق أن يهوى بصاحبه إلى الهاوية ما دام قد سار فيه) وتؤدى فى النهاية إلى الانسلاخ الكامل من كل مقومات الدين . وكان اللاعب الأكبر فى هذه العملية الضخمة هو المرأة " المتحررة " اقتصاديا ، والمتحللة فى ذات الوقت من سلطان الدين والأخلاق والتقاليد ..
وفيما يلى نتحدث عن كل من الذراعين الشريرتين ، وآثارهما فى إفساد المجتمع الأوروبى .
النظريات العلمية
دارون ونظرية التطور
ليس دارون يهوديا ، فقد ولد لأبوين مسيحيين ، ولكن اليهود استغلوا نظريته على نطاق واسع وعملوا على نشرها فى الأرض لما رأوه من إمكان الاستفادة بها فى تحطيم عقائد الأممين كما تقول البروتوكولات : لقد رتبنا نجاح نيتشه ودارون وإن تأثير أفكارهما على عقائد الأممين واضح لمنا بكل تأكيد .
فلا عجب إذن أن تجد نظريته تدرس فى معظم مدارس الأرض لا على أنها فرض علمى (كما هى فى حقيقتها) ولا حتى على أساس أنها " نظرية " علمية (أى لم تثبت ثبوتا قاطعا يرشحها لأن تكون حقيقة علمية) بل على أنها حقائق نهائية فى علم الحياة !
ولد دارون فى بريطانيا عام 1809 ، وفى سنة 1859 أصدر كتابه فى " أصل الأنواع " .(1/101)
وقد كان متخصصا فى علم الحياة ، وأدت به ملاحظاته العلمية إلى أن يكتشف أنه يمكن عن طريق " الانتخاب الطبيعى " تأكيد صفات معينة أو إضعافها فى النسل الناتج من زوجين منتخبين بصفات معينة ، وأنه يحدث مثل ذلك فى " الطبيعة " عن طريق الانتخاب الطبيعى أى التزاوج الحر بين الكائنات الحية .. وأن التغيير الناشئ من هذا الانتخاب يمكن أن يصل إلى حد استحداث صفات جديدة لم تكن فى أى الأبوين كطول المنقار فى بعض الطيور ، أو الألوان الزاهية فى بعضها الآخر ، أو غير ذلك من الصفات . فافترض أن مثل هذه التغيرات قد حدثت فى " الطبيعة " من قبل خلال ملايين السنين من عمر الحياة على سطح الأرض ، مما أدى على الدوام إلى ظهور " أنواع " جديدة وأدى كذلك - بتراكم التغيرات - إلى ظهور " أجناس " جديدة لم يكن لها وجود من قبل .. ثم تصور أنه من خلال هذه العملية التى سماها عملية " التطور " سارت الحياة فى سلسلة طويلة من الرقى التدريجى بدأت بالكائن الوحيد الخلية وانتهت بالإنسان على النحو التالى (باختصار كثير من التفصيلات) :
كائن وحيد الخلية (كالأمبيا) - فطريات متعددة الخلايا - نبات - نبات يشبه الحيوان (كالهيدرا) - حيوان يشبه النبات (كالمرجان) - حيوانات لا فقارية - حيوانات فقارية دنيا (كالأسماك والطيور) - حيونات فقارية أرقى (كالثدييات الدنيا) - الثدييات العليا - القردة الدنيا - القردة العليا (الغوريلا والأورانج أوتانج " إنسان الغاب " والشمبانزى والجبيون) - الحلقة المفقودة (القرد الشبيه بالإنسان أو الإنسان الشبيه بالقردة العليا) - الإنسان .
وقال دارون - فيما قال وهو يشرح نظريته : إن الطبيعة تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق Nature creates everything and there is no limit to its creativity.
وقال كذلك : " إن الطبيعة تخبط خبط عشواء "
Nature Works Haphazadly(1/102)
وبصرف النظر عن صحة المعلومات الواردة فى نظريته وصحة تفسيراته لها أو عدم صحتها " 62" ، فقد أنشأت رجة كبيرة فى المجتمع الغربى، اهتزت لها الكنيسة من جهة " 63" والدوائر العلمية من جهة أخرى والجماهير من جهة ثالثة .
فأما الكنيسة فقد كفرت دارون ابتداء وقالت عنه إنه زنديق مهرطق مارق من الدين ، لأنه ينفى الخلق المباشر من الله للإنسان على صورته 0تفسر الكنيسة كلمة " على صورته " الواردة فى التوراة على أن اله قد خلق الإنسان على صورة نفسه - تعالى - أى على صورة الله) بل ينفى يد اله من عملية الخلق كله ، كما ينفى الغاية والقصد ، لأنه يقرر أن الحياة قد وجدت على الأرض بالصدفة فى ظروف معينة (لم تتكرر مرة أخرى) ! وأن تفسير الحياة وتطورها بإرجاعها للإرادة الإلهية يكون بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة فى وضع ميكانيكى بحت !
This would be to introduce a supernatural element in a completely mechanical position.
وقد جاوبها دارون من ناحيته باتهامها بالجهل والتخريف ومحاربة العلم بحقائقه ونظرياته .
وأما العلماء فقد انقسموا إلى ثلاث فرق . فرقة تؤيد دارون وتتحمس له ، وفرقة تعارضه وتندد به ، وفرقة تحاول التوفيق بين ما تقوله النظرية وما يقوله الدين !
وأما الجماهير فقد وقفت فى مبدأ الأمر موقفا حاسما مع الكنيسة ضد دارون ! فقد عز عليها أن يسلبها دارون إنسانيتها ويردها إلى أصل حيوانى ، وينفى التكريم الربانى الذى كرم به الله الإنسان حين خلقه على صورته ، وزينه بالعقل وميزه بالقدرة على النطق .. ولكنها رويدا رويدا بدأت تغير موقفها ، وتعتنق أفكار دارون ، وتتغاضى عن مسبة الحيوانية التى ألحقها بها فى نظريته ، بل بدأت تهاجم الكنيسة لموقفها من دارون ، وترى فى نظريته معولا هداما يهدم ما بقى لها عليهم من سلطان !
هل تم هذا التحول فى موقف الجماهير تلقائيا أم كان وراءه ذلك العنصر الشرير ؟!(1/103)
وهل كان يمكن - لولا ذلك التدخل الشرير - أن يتغاضى الناس عن إنسانيتهم المسلوبة وعن كرامتهم الملغاة ، ويعتنقوا نظرية تقرر صراحة أن الإنسان إن هو إلا امتداد لسلسلة التطور الحيوانى ، لا قصد من خلقه ولا غاية ، وما يزيد عن القردة إلا ما أضافه التطور خلال مئات الألوف من السنين من تغير عشوائى غير مقصود ؟!
حقيقة إن " العلماء" هم الذين بدأوا باعتناق نظرية دارون ، ثم تبعتهم الجماهير . ولكن هؤلاء وهؤلاء ما كانوا ليفعلوا ذلك لولا عنصران قائمان فى الموقف ، عنصران غير " علميين "، أحدهما موقف الكنيسة الطغيانى من الأمور كلها ومن العلم والعلماء خاصة ، والآخر هو الدعاية الضخمة التى قام بها اليهود للنظرية ولإيحاءاتها المصادمة للعقيدة بصفة خاصة .
ومرة أخرى لا نتعرض هنا للنظرية بالنقد . وإن كنا سنشير فيما بعد إلى آراء الدارونية الحديثة نفسها فى هذا الأمر ، بعد ما تقدم العلم كثيرا عما كان عليه أيام دارون ، وكشف عن أشياء لم تكن مكشوفة له فى ذلك الحين ، إنما نتكلم عن إيحاءاتها المصادمة للعقيدة ..
إن النظرية - بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها من الوجهة العلمية البحتة - لم يكن من الحتم أن تصاغ بالطريقة التى تصادم العقيدة لولا ذلك الصراع القديم الذى قام بين الكنيسة والعلماء ، واستمر إلى وقت دارون وما بعده ، وجعل " العلماء " يتعمدون تجريح الدين ورجاله انتقاما مما فعلته الكنيسة من قبل ، كما جعل أوروبا تهرب من إله الكنيسة وتضع " الطبيعة " إلها بدلا منه !
لو قال دارون إن الله حين خلق الحياة على الأرض هيأ لها ظروفا معينة تساعد على وجود الخلية الحية ونموها واستمرارها ، ثم نوع الله الخلائق على نسق معين بدءا من الكائن الوحيد الخلية إلى أكثر الخلائق رقيا وتعقيدا وهو الإنسان ، وإن قمة الإعجاز فى الخلق - والخلق كله معجز - هو خلق الإنسان على هذه الصورة وإمداده بالمزايا التى تؤهله للقيام بدوره على الأرض " 64" .(1/104)
لو قال هذا ، ثم أورد كل ما أورده من التفصيلات العلمية التى أتى بها فى نظريته - بصرف النظر عن صحتها أو خطئها من الناحية العلمية - فماذا كان يمكن أن يحدث ؟!
كانت النظرية تظل موضع أخذ ورد بين العلماء للاستيثاق من صحة تلك التفصيلات ، كما حدث مع أى فرض علمى أو نظرية علمية ، حتى تمحص وتثبت حقيقتها ، ولكن دون رجة ولا ضجة ولا هزات ..
ولكنه - لأمر ما - لم يقل ذلك ولم يرد أن يقوله !
إنما قال بدلا منه إن " الطبيعة " هى التى خلقت . وقال إنها تخبط خبط عشواء . واقل إنه يرفض تفسير نشوء الحياة وتطورها بإرجاع ذلك إلى الإرادة الإلهية لأن ذلك خلط علمى غير جائز ، وإنه بمثابة إدخال عنصر خارق للطبيعة فى وضع ميكانيكى بحت !! ثم تحايل على الحرج الذى يواجهه وكل منكر للإرادة الإلهية فى قضية الخلق كله ، وخلق الحياة أول مرة من الموات ، والذى يوجه إليه هذا التحدى : {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35)} [سورة الطور 52/35] تحايل على ذلك تحايلا سخيفا - من وجهة النظر العلمية البحتة - فقال إن الحياة نشأت صدفة على الأرض !!
ومن ثم وجدت فيه اليهودية المتربصة فرصة سانحة لتقويض عقائد " الأممين " وإزالة ما بقى من أثر للدين فى حياة الناس !(1/105)
وينبغى - لكى ندرك دور اليهود فى إفساد أوروبا دون تهويل فى تقدير مقدرتهم الشريرة كما فعل وليم كار - أن نقول إن عالمنا سابقا هو " لامارك " La Marke كان قد قال شيئا قريبا مما قاله دارون ، ولكن اليهود لم يستطيعوا استغلال نظريته لتقويض عقائد الأمميين كما فعلوا بنظرية دارون ، لأن الحدث العظيم الذى رج المجتمع الأوروبى كله - وهو الثورة الفرنسية - لم يكن قد وقع بعد ، وكان المجتمع - على كل ما كان يحمل من الفساد والظلم - ما يزال متماسكا بالصورة التى لا تدع لليهود فرصة الدخول ، فعجزوا يومئذ عن الدخول ! ولكن الرجة التى أحدثتها الثورة الفرنسية - التى اشتركوا هم فى توجيهها وجهة معينة - هى التى قربت الهدف وأحدثت الثغرات التى يمكن أن ينفذوا منها . فلما قام دارون تلقفوه وأمسكوا به معولا هائلا لتحطيم كل القيم فى حياة البشرية .
أيا كان القول فى نظرية دارون من الوجهة العلمية ، فقد كانت نظرية محصورة فى " علم الحياة " تحاول أن تفسر نشأة الحياة وتطورها ، فلم تكن نظرية فلسفية ، ولا سياسية ، ولا اقتصادية ، ولا اجتماعية ، ولا نفسية .. ولكنها انقلبت - فى فترة وجيزة من الزمن - فأصبحت كل هؤلاء !
وحقيقة أن من أراد أن يستخرج منها إيحاءات فلسفية أو غير فلسفية فإنه يستطيع ..
فالنظرية التى تقرر حيوانية الإنسان وماديته (بمعنى أن الظروف المادية المحيطة به هى التى أثرت فى " تطوره " وإعطائه صورته) والتى تنفى القصد والغاية من خلفه ، وتنفى التكريم الربانى له بإفراده بين الكائنات الأخرى بالعقل والقدرة على الاختيار والقدرة على التمييز فضلا عن المزايا الأخرى " الإنسانية " ..
إن نظرية كهذه يمكن أن تعطى إيحاءات خطيرة فى كل اتجاه ..
فحين يكون الإنسان حيوانا أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى فأين مكان العقيدة فى تركيبه ، وأين مكان الأخلاق ، وأين مكان التقاليد الفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية .. الخ ؟!(1/106)
وحين يكون حيوانا ، أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى ، فما مقياس الخطأ والصواب فى أعماله ؟ وكيف يقال عن عمل من أعماله إنه حسن أو قبيح ، جائز أو غير جائز .. بعبارة أخرى كيف يمكن إعطاء قيمة أخلاية لأعماله ؟
وحين يكون حيوانا أو امتدادا لسلسلة التطور الحيوانى ، فما معنى " الضوابط " المفروضة على سلوكه ؟ وما معنى وجود الضوابط على الإطلاق " 65" ؟
كل تلك إيحاءات يمكن أن تستخرج من النظرية لمن أراد أن يصطاد فى الماء العكر ! ولكننا إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن أحدا لم يصنع ذلك سوى اليهود !! هم الذين استخرجوا هذه الإيحاءات كلها التى لم يقلها دارون ، وربما لم يفكر فيها أبدا ، ولكنهم أسرعوا إلى اقتناصها ، وأنشأوا منها نظريات " علمية " اقتصادية ونفسية واجتماعية .. الخ موجهة كلها لمحاربة الدين والأخلاق والتقاليد ..
وكانت فكرة " التطور " ذاتها من أشد ما لعب به اليهود لزلزلة عقائد " الأمميين " وتقويضها .. فقد ضخموا تلك الفكرة أى تضخيم وصنعوا منها قذائف يطلقونها على كل معنى " ثابت " فى حياة البشرية من دين أو قيم أو أخلاق .
والحق - رمة أخرى - أنهم ال ينشئون الأحداث ولكنهم يتحينون الفرص ويستغلون الأحداث .
لقد كان الخلل الفكرى فى حياة أوروبا فى ظل سيطرة الكنيسة الفكرية هو الذى رشح للهزة التى أصابت هذا الفكر يوم أطلقت عليه فكرة التطور ، فقد كان كل شئ فى حس أوروبا المسيحية الكنسية ثابتا منذ الأزل وسيظل ثابتا إلى الأبد .. ليست فكرة الألوهية فقط هى التى ينطبق عليها تصور الثبات ، ولا القيم الدينية والأخلاقية وحدها . ولكن الجبال والشجر والحيوان والطير . والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. وكل شئ فى الحياة .
البابا هو البابا ذو القداسة ، يذهب واحد ويجئ واحد ، وكلن البابوية ذاتها وقداستها أمر ثابت لا يتغير ..(1/107)
الملوك والأباطرة هم الملوك والأباطرة .. يذهب منهم من يذهب ويجئ من يجئ .. ولكن الملكية ذاتها أمر ثابت لا يتغير ..
الإقطاع هو الإقطاع .. يذهب أمير ويجئ أمير .. بنفس الصورة ، ونفس المعاملة ، نفس السيادة من جهة والعبودية من الجهة الأخرى .. وكلها أمور ثابتة لا تتغير .
من ثم غلب على الفكر الأوروبى المسيحى الكنسى تصور الثبات فى كل شئ .
فلما وقعت الثورة الفرنسية وأزالت الإقطاع والملكية وزلزلت نفوذ الكنيسة كان ذلك حدثا حادا فى تاريخ أوروبا أثر ـاثيرا عميقا فى كل اتجاه ، ولكنه كان قمينا - بعد فترة من الزمن - أن يفقد حدته ، ويستقر على صورة فيها لون من " الثبات " .
ولكن دارون جاء فأطلق قذيفته على أمر لم تهزه حتى الثورة الفرنسية ذاتها ، التى زلزلت كثيرا من الأوضاع فى أوروبا ، فقال إن الخلق ذاته غير ثابت ، وإن الإنسان لم يكن إنسانا حين وجد أول مرة بل كان شبيها بالحيوان !
وبين الشد والجذب التى تعرضت له النظرية أمسك اليهود بالخيط فجذبوه بعيدا بعيدا فى كل اتجاه لكى لا يعود !
وبسرعة - شريرة - وجهوا القذيفة إلى فكرة " الثبات " ذاتها وقالوا - من طريق استخدام فكرة " التطور " - إنه لا شئ ثابت على الإطلاق . وإن طلب الثبات فى أى شئ : الدين أو الأخلاق أو التقاليد .. الخ ، هو فى ذاته فكرة خاطئة ! فكرة غير علمية ! فكرة مخالفة لطبيعة الأشياء . ثم ظلوا يرددون هذه الأقاويل وينشرونها ويؤكدون عليها ، حتى صارت هى الصبغة المسيطرة على الفكر " الأممى " لا يقبلون فيها جدلا ولا مناقشة .. ومن ناقش فهو " الرجعى " " المتزمت " " الجامد " " المتأخر " الذى يريد أن يرجع عقارب الساعة إلى الوراء .. وعقارب الساعة لا ترجع أبدا إلى الوراء !! وستسحقه عجلة " التطور " التى لا تبقى ولا تذر !!(1/108)
من بين الأسماء " اللامعة ! " التى شكلت الفكر الأوروبى الحديث ثلاثة أسماء على الأقل من " كبار " اليهود : ماركس وفرويد ودركايم ، Marx, Frued, Durkheim كل منهم قام بدوره فى زلزلة الفكر الأممى وإعادة تشكيله على النحو المطلوب .. وكل منهم قام بدوره فى تحطيم الأعداء الألداء للمخطط اليهودى : الدين والأخلاق والتقاليد .. وكل منهم بنى أفكاره " العلمية ! " على أساس النظرية الداروينية من هنا أو من هناك ..
فأما ماركس فقد أنشأ نظرية اقتصادية أو قل فلسفة مادية كاملة ، بناها على فكرة التطور من جهة وفكرة حيوانية الإنسان وماديته من جهة أخرى . وأما فرويد فقد أنشأ نظرية نفسية لتفسير تركب النفس الإنسانية ونشاطاتها ، بناها على فكرة حيوانية الإنسان . وأما دركايم فقد أنشأ نظرية اجتماعية لتفسير الظواهر الاجتماعية بناها على حيوانية الإنسان وغلبة نزعة القطيع الحيوانية عليه من جهة ، وعلى انعدام الثبات فى القيم الاجتماعية من جهة أخرى .
كلهم - كما ترى - " خدم " الفكر الداروينى وأوصله إلى إبعاد لم تخطر على بال دارون على الإطلاق .
ونعرض هنا عرضا سريعا لأفكار كل من ماركس وفرويد ودركايم دون مناقشة تذكر ، لنبين فقط طبيعة الذراع التى حملت اسم العلم والنرظيات العلمية من تلك الكماشة الرهيبة التى أحاطت بالأمميين فى أوروبا - وبالعالم كله من بعد عن طريق السيطرة الأوروبية - فذللت الأمميين لركوب شعب الله المختار !
فأما ماركس فسنعود بإذن الله إلى مناقشة تفصيلية لأفكاره ونحن نتحدث عن الشيوعية والمادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ . وأما فرويد ودركايم فيكفينا أن نعرض أفكارهما بغير تفصيل ، بالقدر الذى يبين أثرها فى تشكيل الفكر الأوروبى تجاه الدين والأخلاق والتقاليد . وقد ناقشت فرويد - من قبل - فى أكثر من كتاب وبخاصة فى كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام " وناقشت دركايم فى كتاب " التطور والثبات فى حياة البشرية " .(1/109)
ماركس
ماركس أبو الشيوعية والمادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ وهو صاحب القولة الشهيرة " الدين أفيون الشعوب " وهو يهودى ألمانى ولد عام 1812 ومات عام 1883 .
أخذ ماركس جوهر النظرية الداروينية وأنشأ على أساسه نظرية اقتصادية وتفسيرا لحياة البشرية يحصر الإنسان فى عالم المادة والتطور المادى ويجعل قوانين المادة منطبقة على عالم البشر !! كما يجعل أمور الحياة كلها ، من عقائد ومشاعر وافكار وأنماط سلوكية ومنظمات ومؤسسات ... الخ .. تبعا للطور الاقتصادى وللأوضاع المادية التى يعيش فيها الإنسان ومجرد انعكاس لها ، لا تسبقها ، ولا تخرج عنها ، ولا دور للإنسان فيها إلا أن يدور مع الطور الاقتصادى ومقتضياته .. لأنها " حتميات " .
وقسم الحياة البشرية بمقتضى هذا التصور إلى خمس مراحل حتمية : هى الشيوعية الأولى والرق والإقطاع والرأسمالية والشيوعية الثانية والأخيرة . وجعل الانتقال من كل طور من هذه الأطوار إلى الطور اللاحق له حتميا من جهة ، ومردودا إلى أسباب مادية واقتصادية من جهة أخرى .
فالشيوعية الأولى هى الأصل الذى عاشت عليه البشرية الأولى فى بداوتها ، وجوهرها المميز هو عدم وجود ملكية فردية لشئ على الإطلاق ، قال : ولا النساء أيضا ، فقد كان الجنس يمارس على المشاع ، كل النساء لكل الرجال على السواء ! والأرض ملك للقبيلة بأكملها ، والطعام يتناوله الجميع معا والسلاح مملوك لقبيلة سواء سلاح الصيد أو الحرب .. والحياة ملائكية شعارها التعاون والحب والتناسق والانسجام !
ثم اكتشف الإنسان الزراعة فأدى هذا الأمر المادى البحت إلى الانتقال إلى طور اقتصادى جديد تبدل فيه كل شئ تبدلا كاملا فراحت القبائل القوية تقاتل القبائل الضعيفة وتسترقها وتشغلها فى فلاحة الأرض فنشأ الرق ونشأت الملكية الفردية وانتهت الفترة الملائكية التى عاشتها البشرية فى فترتها الأولى .(1/110)
ثم اخترع الإنسان المحراث . ومرة أخرى أدى هذا الأمر المادى البحت إلى الانتقال إلى طور اقتصادى جديد. فقد اكتشف الإنسان أنه يستطيع أن يزرع - بهذه الآلة الجديدة - مساحة أوسع بكثير مما كان يمكن زرعه بالآلات السابقة ، فنشأ الإقطاع .. ونشأت معه أفكار وعقائد ونظم ومؤسسات جديدة مختلفة تماما عن السابقة .
ثم اخترع الإنسان الآلة فنشأت الرأسمالية - بسبب مادى بحت - وانتقلت صورة الملكية الفردية من ملكية زراعية إقطاعية إلى ملكية صناعية رأسمالية ، ونشأت أوضاع فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة بالمرة ، فتغيرت الطبقة ذات السيادة فلم تعد هى طبقة الأشراف (أمراء الإقطاع) إنما أصبحت طبقة الرأسماليين أصحاب المصانع وأصحاب رؤوس الأموال ، ولم يعد الشعب فى مجموعه فلحين إنما صار عمالا صناعيين ، وتغيرت مفاهيم هؤلاء وهؤلاء ، وتغيرت نظرتهم إلى كل القيم التى كانت سائدة فمن قبل فى المجتمع الزراعى .
ثم نشأ الصراع بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال فنشأت الشيوعية لا لأسباب مادية فى هذه المرة إنما لأسباب اقتصادية - وهى صنو الأسباب المادية فى نقل الناس من طور إلى طور - ولكن فى هذه المرة لا يحدث تطور ينقل الناس إلى طور جديد بعد الشيوعية ، إذ الشيوعية هى المستقر الأخير للبشرية كما كانت بدايتها هى الشيوعية . وتحدث فى داخل تغيرات ولكنها لا تغير المبدأ الرئيسى لها ، وهو إلغاء الملكية الفردية وإقامة الملكية الجماعية بدلا منها .. وفى النهاية - نهاية كل تطور وتغير - تلغى الدولة لانتفاء الحاجة إليها ، ويزيد الإنتاج بالدرجة التى تسمح بتطبيق مبدأ " من كل حسب طاقته ، ولكل حسب حاجته " ويزول الصراع نهائيا من حياة البشر ، ويعيشون فى حالة من الملائكية كالتى بدأوا بها حياتهم أول مرة .(1/111)
ويركز ماركس فى كلامه عن مراحل التطور الحتمية وأسبابها المادية والاقتصادية على الانتقال من مرحلة الإقطاع إلى مرحة الرأسمالية لأن هذا هو الطور الذى كان قائما فى وقته ، ولأنه هو الذى وقع فيه التغيير الضخم الذى أحدثه اليهود فى المجتمع الأوروبى ، فيقول إن سمات المجتمع الإقطاعى الزراعى : التدين ، وترابط الأسرة ، وسيطرة الرجل على الأسرة بكل أعضائها ، أى على الزوجة والأولاد ، ويرد هذا كله إلى أسباب مادية واقتصادية ، فلا يقول إنه يرجع إلى قيم معنوية ، ولا يقول إن هذا - فى ذاته - أمر طيب وفاضل ومستحب أو واجب ، إنما هو انعكاس لأوضاع مادية واقتصادية . فالفلاح - وهو المنتج الرئيسى فى المجتمع الرزاعى - يضع البذرة فى الأرض ، ثم لا يستطيع أن يسيطر عليها ولا أن يستعجلها عن موعدها ، ولا أن يقيها من الآفات والتأثيرات الجوية المختلفة ، ومن ثم " يفترض ! " وجود قوة غيبية ، يكل إليها هذا الأمر كله ، الذى يعجز عن التحكم فيه والسيطرة عليه ، ويروح يترضى هذه القوة الغيبية بالعبادات ، والنسك والقرابين ، لكى ترضى عنه وتبارك زرعه ، ولكى يتقى غضبها عليه وانتقامها منه .. ومن ثم يكون التدين قويا ، ويكون سمة بارزة فى للمجتمع الزراعى .
ثم إن الرجل فى المجتمع الزراعى هو المتكسب ، وهو الذى ينفق على الزوجة والأولاد ، ومن ثم يسيطر عليهم ويبسط سلطانه . ويكون سلطانه أشد ما يكون على الزوجة ، فيفرض عليها أن تكون له وحده ، ومن ثم تصبح قضية العفة والمحافظة على العرض ذات قيمة كبيرة فى المجتمع الزراعى ، ويفرض على المرأة أن تحافظ على عرضها (إرضاء لأنانية الرجل المتكسب المنفق) ويضفى على ذلك ثوب الدين والأخلاق ، فتصبح قضية العفة قضية دينية وأخلاقية فى حين أنها مجرد انعكاس لوضع اقتصادى معين يكون الرجل فيه هو المتكسب دون المرأة .(1/112)
فإذا تحول الناس إلى المجتمع الصناعى المتطور تغير الأمر بالكلية . فالعامل هنا غير محتاج " لافتراض ! " القوة الغيبية التى كان يلجأ إليها العامل الزراعى ! لأنه يتولى عملية الإنتاج بنفسه . فهو الذى يعالج المادة الخامة ويشكلها كما يريد .. ومن ثم يقل التدين إلى أقصى حد فى المجتمع الصناعى .
ومن جانب آخر فإن المرأة تستقل اقتصاديا لأنها تعمل وتتكسب ولا تعود عالة على الرجل كما كانت فى المجتمع الزراعى " المتأخر " . ومن ثم يفقد الرجل سيطرته عليها ولا يعود فى إمكانه أن يفرض عليها أن تكون له وحده ، كما كان يفرض عليها فى المجتمع الزراعى .. فتتحرر من القيود ، وتفقد قضية العفة أهميتها فى المجتمع الصناعى المتطور ، لأنه أصبح من حق المرأة أن تهب نفسها لمن تشاء دون سيطرة الرجل عليها ..
وكما أن الوضع " المحافظ " فى المجتمع الزراعى لم يكن فضيلة ولا شيئا مرغوبا فى ذاته ، إنما مجرد انعكاس للطور الاقتصادى ، فكذلك لا يعد " الانحلال " فى المجتمع الصناعى رذيلة ، إنما هذه وتلك هى السمات المصاحبة لهذا الطور وذاك ، لا توصف فى أى الحالين بأنها فضيلة أو رذيلة . إنما كل شئ فى إبانه هو الصواب لأنه هو الانعكاس الطبيعى لطور الاقتصادى الذى يقرر - وحده - كل العقائد والقيم والمبادئ ، فإذا تغير الطور لم يعد صوابا ما كان صوابا من قبل ، إنما يكون استمراره ظاهرة مرضية ينبغى أن تقاوم وأن تزال .
فالتدين أمر طبيعى فى المجتمع الزراعى ، لا يعيبه أحد ولا يستغربه أحد . ولكنه لامة مرضية فى المجتمع الصناعى لا ينبغى أن توجد ، وإن وجدت فلابد أن تحارب ، لأنها استبقاء لانعكاسات طور لم يعد قائما ، ومن ثم فلابد من إزالتها ز(1/113)
والحفاظ على العرض أمر طبيعى فى المجتمع الزراعى كذلك تفرضه الطبيعة الاقتصادية للطور الزراعى ، ومن ثم لا يستغربه أحد ولا يعترض عليه أحد ، فإذا انتقلنا إلى المجتمع الصناعى فقدت القضية أهميتها نتيجة تحرر المرأة اقتصاديا وإنفاقها على نفسها . ومن ثم يصبح من يحافظ على أهمية العفة أو يطالب بالمحافظة عليها " رجعيا " لأنه يريد أن " يرجع " إلى القيم التى كانت مصاحبة لطور اقتصادى سابق ، انتهى عهده ، وصرنا إلى ما هو " أرقى " منه حسب سنة التطور الدائم إلى أعلى ! وهذا سخف لا ينبغى أن يتصف به إنسان " متطور " فضلا عن أنه مستحيل .. لأن عقارب الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء ولأن عجلة التطور ستسحق كل من يقف أمامها وتخمد صوته إلى الأبد !
وكذلك الأمر بالسنبة لترابط الأسرة ..(1/114)
فمن طبيعة المجتمع الزراعى أن تتكاثر الأسرة وهى فى البيت الواحد أو فى بيوت متلاصقة متقاربة ، لا لأن ذلك فضيلة فى ذاته أو شئ مستحسن ، لكن لأن ذلك من طبيعة الطور الاقتصادى ومستلزماته ، لأن رجال الأسرة كلها يتعاونون فى الزراعة ، وكلما كثر أفراد لاأسرة زاد إنتاجها الزراعى ، فحقق ذلك مصلحة اقتصادية لأسرة . أما فى المجتمع الصناعى فكل عامل شخصيته مستقلة لا ارتباط بينه وبين غيره من الناحية الاقتصادية ، ومن ثم تستقل كل أسرة صغيرة - أى الأب والأم والأولاد - ببيت مستقل ، وكلما كبر أحد الأولاد وتزوج استقل بأسرته الصغيرة فى بيت خاص . وتفقد الأسرة الكبيرة ترابطها ولا يعد ذلك عيبا ولا رذيلة ، لأنه هو الانعكاس الطبيعى للطور الاقتصادى القائم . بل إن الأرة الصغيرة ذاتها تتفكك روابطها بسب العمل ، عمل الرجل والمرأة كليهما ، كل فى مكان ، وعدم ارتباط الزوجة بالبيت وتربية النشء ، ولا يعد ذلك عيبا كذلك ولا رذيلة ، لأنه لا توجد قيم ثابتة فى حياة البشرية . ال توجد فضيلة ثابتة ولا رذيلة ثابتة إنما الفضيلة ما يوافق الطور الاقتصادى القائم والرذيلة ما لا يوافقه . فكما كانت العفة هى الفضيلة فى المجتمع الزراعى يصبح التحلل هو الفضيلة فى الطور الصناعى أو هو الأمر الطبيعى علىأقل تقدير . وكما كانت سيطرة الأب هى الفضيلة فى المجتمع الزراعى يصبح فقدان سيطرة الأب هو فضيلة المجتمع الصناعى أو هو سمته الطبيعية . وكذلك كانت الأسرة المترابطة قيمة من القيم الاجتماعية المستحسنة فى المجتمع الزراعى ، وتصبح الأسرة المفككة - حتى على النطاق الصغير - هى القيمة الاجتماعية المستحسنة فى المجتمع الصناعى أو هى السمة الطبيعية على أقل تقدير !(1/115)
فإذا جاءت الشيوعية - وهى المرحلة الحتمية الأخيرة فى حياة البشرية - فلسنا فى حاجة إلى تعديل جذرى فى القيم والعقائد والأفكار .. لأنه هكذا طيب !! تتغير فقط الصورة الاقتصادية فتلغى الملكية الفردية إلغاء كاملا وتصبح الدولة هى المالك الوحيد .. ولكن القيم المباركة التى أنشأها المجتمع الصناعى تظل قائمة ويزداد فيها فقط حتى تصل إلى نهايتها . فالدين يلغى إلغاء كاملا ، ويقضى على البقية الضعيفة الباقية منه فى المجتمع الرأسمالى ، لأن مهمته التى يقوم بها هناك - وهى تخدير الكادحين ليرضوا بالظلم الواقع عليهم - تنتهى فى المجتمع الشيوعى الملائكى الخالى من الظلم ، فلا يعود للدين حاجة البتة . وتفكك الأسرة تفكيكا كاملا ، لأنها بقية - سخيفة - من بقايا العهود الرجعية التى كانت تمارس فيها الملكية الفردية فتتربى الأثرة فى نفوس الأبوين رغبة فى توريث أبنائهم .. فالآن وقد ألغيت الملكية الفردية فالأسرة نشاز فى المجتمع الجديد " المتطور " ، والأولاد ملك الدولة ، هى التى تملكهم - ملكية جماعية ! - وهى التى تنشئهم التنشئة الصحيحة ، وليس لأبويهم إلا ولادتهم لحساب الدولة .. وأما العلاقات الجنسية فهى حرة حرية كاملة ، لأننا عدنا - عودا على بدء - إلى الشيوعية ، إلى تناول حاجات الحياة كلها على المشاع .. وهنا تصل البشرية إلى قمة التطور الذى ليس بعده شئ !
الهدف واضح ولا شك ..
فالنظرية " العلمية " تدور كلها حول هذه القيم : الدين والأخلاق والتقاليد .. لتسخيفها وتسخيف المتمسكين بها ، ووسمهم بالرجعية والجمود والتأخر ، والوقوف فى وجه عجلة التطور التى ستسحقهم ..(1/116)
إنها تركز كما قلنا على عملية الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية - التى صاغها اليهود ، كما سنرى ، حسب مخططاتهم الشريرة بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد مستمدة من القيم الدينية - فتقول أولا إنه تطور " حتمى " وما دام حتميا فمنذا الذى يستطيع أن يقف فى طريقه رضى أم أبى ؟! وتحسر على اليام الخالية والقيم الدارسة أم تسخط عليها ؟! ثم تقول ثانيا إنه تقدم إلى الأمام .. تقدم إلى أعلى .. حسب سنة التطور التى تدفع بالكائن الحى دائما إلى الرقى ! فمن كانت فى نفسه حسرة على ما فات ، أو ضيق " بالتطور " فليعدل من ذات نفسه وليتمش مع التطور ، ولينطلق مع التيار ، فذلك أروح للنفس والأعصاب !
إنها تتناول بالذات عمليات التحطيم التى قام بها اليهود فى المجتمع الجديد الذى ولد بين أيديهم فشكلوه على هواهم ، فتبارك هذه العمليات بالذات ..
قام اليهود بتحطيسم الدين ، فيجئ فيلسوفهم - ماركس - فيقول - بصورة " علمية " - إن الدين قد باد تلقائيا من جراء التطور الحتمى الناشئ من الانتقال من طور اقتصادى متأخر إلى طور متقدم ! وإن الدين خرافة لا تليق بالإنسان " الصناعى " المتطور ! وإنه قد أخلى مكانه لما هو خير منه وهو "العلم " ! وإن التمسك به - أو الرجوع إليه - أو الدعوة إليه - نشاز غير متجانس مع " طبيعة " المرحلة التطورية التى قطعها الإنسان إلى الأمام .. وذلك فضلا عن تشويه صورة الدين بأنه مخدر يستخدمه الإقطاعيون والرأسماليون لتخدير الجماهير الكادحة عنا لمطالبة بحقوقها والقيام بالثورة المقدسة ، مستغلا فى ذلك واقع الدين الكنسى ومعمما إياه على كل " الدين " .(1/117)
وقام اليهود بتحطيم الأخلاق - أخلاق الجنس بصفة خاصة - وأشاعوا الفوضى الجنسية والانحلال ، وحاربوا قيد " العفة " الذى يحول بينهم وبين تنفيذ مخططاتهم الواسعة لتحويل الآدميين إلى دواب تدور فى طاحونتهم ، فيجئ فيلسوفهم فيقول إن قضة العفة إنما أخذت أهميتها من أنانية الرجل فى المجتمع الزراعى " المتأخر " باعتباره هو المتكسب والمنفق ، ثم وضع عليها وسم الدين والأخلاق ليعطيها أهمية زائدة ، خدمة لأنانيته ، وإنها فقدت أهميتها - الزائفة بالطبع ! - بصورة تلقائية نتيجة التطور الحتمى ، وحلت محلها " فضيلة " من نوع آخر فى المجتمع المتطور ، هى فضيلة " تحرر " المرأة .
وقام اليهود بتحطيم الأسرة ، لأن الأسرة أحد القيود التى تمنع التحلل الخلقى أو تبطئ عجلته ، وتبطئ بالتالى عملية استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله المختار ، فيجئ فيلسوفهم فيقول إن ترابط الأسرة كان مجرد انعكاس لوضع اقتصادى متأخر هو الوضع الزراعى الإقطاعى ، وإنها فقدت ترابطها - تلقائيا - من التطور الحتمى الدافع إلى الأمام ، ومن ثم لا تستحق البكاء عليها ولا التحسر ، إنما الأولى السير مع عجلة التطور والرضا بالطور الموجود .
وهكذا تتلخص المهمة " العلمية " للفيلسوف الكبير فى " تغطية " الدور الخطير الذى تقوم به العصابة المفسدة فى الأرض ، فى ثوب " علمى " تتلهى به عقول الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار !
فرويد
لا يقل فرويد " عبقرية " عن ماركس ولا خطورة فى أداء الدور المطلوب .
ولئن كان دوره الآن قد انتهى " 66" لأنه تم ! بينما لم ينته بعد دور ماركس لأنه لم يتم بعد ! فليس معنى ذلك أنه لم يعد له أثر فى المجتمع المعاصر بل العكس هو الصحيح . فقد تم دوره لأنه أعطى تأثيره الكامل فى المجتمع ، بحيث لم يعد ذلك المجتمع فى حاجة إلى المزيد ! ولأن الجرعة التى تشربها ذلك المجتمع من " علمه ! " - أو من سمومه - تكفيه عدة قرون !!(1/118)
هو يهودى نمساوى ، كان يعمل طبيبا ثم تخصص فى معالجة الأمراض العصبية والنفسية ، وأنشأ عيادة خاصة للإشراف على علاج مرضاه ودراسة أحوالهم عن كثب ، ثم استنبط من دراساته تصورا خاصا للنفس البشرية وتركيبها وتفسيرا لنشاطاتها المختلفة ، تفرد به بين كل " المفكرين " إلى ذلك الحين وربما إلى الوقت الحاضر بصرف النظر عن تلاميذه الناقلين عنه .
ولد عام 1856 وعمر طويلا حتى مات فى عام 1938 ، وألف نحو ثلاثين كتابا فى الدراسات النفسية من أشهرها : الذات والذات السفلى The Ego and The Id والطواطم والمحرمات Totem and Taboo وتفسير الأحلام Interpretation of Dreams وثلاث مقالات فى النظرية الجنسية Three Contributions to the Sexual Theory والأمراض النفسية المنتشرة فى الحياة اليومية Psycho Pathology of Every Day Life وكلها تدور - من زوايا مختلفة - حول موضوع واحد مكرر فيها جميعا هو التفسير الجنسى للسلوك البشرى .
خلاصة هذا التفسير أن الطاقة الجنسية هى الطاقة العظمى فى الكائن البشرى ، وهى المسيطرة على طاقاته جميعا ، والموجهة لها ، والمسخرة لها كلها لحسابها الخاص !
يولد الطفل بطاقة جنسية ، وتسيطر عليه - منذ لحظة مولده - تلك الطاقة الجنسية التى ولد بها ، فيرضع ثدى أمه بلذة جنسية ، ويتبول ويتبرز بلذة جنسية ، ويمص إبهامه بلذة جنسية ، ويحرك أعضاءه بلذة جنسية ..(1/119)
ثم ينمو الصبى فيحس تلقاء أمه بشهوة جنسية (كما تحس الصبية بالشهوة الجنسية تلقاء والدها) ولكنه يجد أباه حائلا بينه وبين الاستيلاء على الأم التى يشعر نحوها بتلك الشهوة الجنسية ، فيكره أباه الذى يحبه فى ذات الوقت ، ويصطرع الحب والكره اللذان يحس بهما فى آن واحد تجاه الأب ، فيكبت الكره فى اللاشعور ، الذى تدفن فيه - ظاهريا - كل الرغبات المكبوتة والمخاوف المكبوتة ولكنها تبقى حية فاعلة مؤثرة موجهة لسلوك الإنسان دون وعى ، ويظهر الحب وحده على السطح لأن ذلك هو الذى يعجب المجتمع ! (أى نفاقا !) ولكن القضية لا تنتهى عند هذا الحد ولا على هذه الصورة . فإن الصبى يأخذ فى حس نفسه ماكن والده ، تعويضا عن عجزه عن الاستيلاء على الأم بسبب قيام والده حاجزا بينه وبينها ، فيروح ينهى نفسه ويأمرها كما ينهاه أبوه ويأمره ، فينشأ الضمير ، وتنشأ - فى نفس الطفل - القيم الأخلاقية التى يتعاطاها المجتمع ويرضى عنها ، كما ينشأ الدين من ذات العقدة التى سماها عقدة أوديب (ويقابلها عقدة إليكترا عند البنت) وهى العقدة الناشئة من الكبت الجنسى لشهوة الصبى الجنسية نحو أمه (وشهوة البنت الجنسية نحو أبيها) .
وهكذا تنشأ القيم العليا كلها : الدين والأخلاق ، والتقاليد المستمدة من الدين ، من تلك العقدة الناشئة من الكبت الجنسى .
وتتركب النفس الإنسانية من طبقات ثلاث :
الطبقة الشهوانية - التى تسطر عليها الشهوة الجنسية وتوجهها - وتسمى - عنده - الذات السفلى The Id وهى طبقة لا شعورية ، والذات The ego وهى الطبقة الوسطى التى يتمثل فيها الوعى وتصدر عنها كل التصرفات الواعية للإنسان ، والذات العليا Super Ego التى تتمثل فيها الضوابط " 67" الناشئة من الدين والأخلاق والتقاليد المتداولة فى المجتمع ، وهى لا شعورية أيضا ، وتنشأ من الكبت الواقع على الذات السفلى الشهوانية .(1/120)
ومهمة الذات هى التحايل الدائم على الذات السفلى لإقناعها بأوامر الذات العليا ، وإن كانت هى شخصيا لا تؤمن بها ! يقول فرويد : " إن مهمة الذات بين الضغط الواقع عليها من الذات العليا والذات السفلى معا تصبح كمهمة السياسى الذى يعرف الحقائق ولكنه يداور ويناور إرضاء للجماهير !! "
ويتحدث فرويد - كثيرا - عن القيم العليا .. عن الدين والأخلاق والتقاليد . يقول فى كتاب " الطواطم والمحرمات Totem and taboo " إنه حدثت فى البشرية الأولى حادثة هائلة ما تزال تؤثر فى حياة البشرية إلى هذه اللحظة .
ذلك أن " الأولاد " شعروا بالرغبة الجنسية تجاه أمهم ، فوجدوا أباهم حائلا بينهم وبين الاستيلاء على الأم فقتلوه ! وكانت تلك أول جريمة ترتكب فى البشرية الأولى (وليست هى قتل أحد الأخوين لأخيه كما جاء فى الرسالات السماوية) " 68" .
ثم أحسوا بالندم فلى قتل أبيهم فقدسوا ذكراه ، فنشأت أول عبادة عرفتها البشرية وهى عبادة الأب (وليس عبادة الله كما جاء فى الرسالات السماوية) " 69 " .
ثم وجدوا أنهم لو تقاتلوا بينهم للاستيلاء على الأم فسيقتل بعضهم بعضا فاتفقوا على ألا يقر بها أحد منهم فنشأ أول تحريم فى العلاقات الجنسية وهو تحريم الأم (وليس لأن الله هو الذى حرمها كما جاء فى الرسالات السماوية) " 70 ".
يقول : وكل الديانات التالية والحضارات قد نشأت من ذلك الحدث الخطير الذى لم يدع لبشرية منذ وقوعه فرصة للراحة !!
فإذا سألته عن سنده فى هذه القصة التى يبنى عليها تفسيرا كاملا للحياة البشرية بأديانها وحضارتها من أول التاريخ إلى آخر التاريخ .. فإنه يجيب .. ولا تحسبه عاجزا عن الإجابة !
يقول : إن دارون يقول : إنه فى عالم البقر تتجه الثيران الشابة إلى الأم لمواقعتها ، فتدور بينهم معركة رهيبة ، يفوز فيها أقوى الثيران وأصلبهم عودا ، فسيتولى وحده على الأم ويندحر الباقون !(1/121)
وبتعديل بسيط - أو بتحريف بسيط ! تنقل القصة من عالم البقر إلى عالم البشر ، ويقوم عليها تفسير شامل للحياة البشرية !
ويقول عن الأخلاق فى كتاب " الذات والذات السفلى The Rgo and the Id إنها كوابت تكبت المنطلق الطبيعى للطاقة الجنسية ، ويقول إنها تتسم بطابع القسوة حتى فى صورتها العادية !
ويقول عن التسامى Sublimation فى كتاب " ثلاث مقالات فى النظرية الجنسية Three Contributions to the Sexual Theory إنه نوع من أنواع الشذوذ !
" فأما ثالث أنواع الشذوذ فإنه يحدث نتيجة عملية التسامى ، حيث تصرف الطاقة الشهوية الصادرة من منابع جنسية فردية فى مجالات أخرى وينتفع بها فى تلك الحالات ، وبذلك يكتسب الإنسان قوة نفسية كبيرة من استعداد نفسى هو فى ذاته خطير ! "
ويقول عن العلاقات البشرية فى كتاب الطواطم والمحرمات Totem and Taboo إن الازدواج العاطفى Ambivilence أى الشعور بالحب والكره فى آن واحد تجاه الشخص الواحد .. وكبت الكره فى اللاشعور وإظهار الحب على السطح لإرضاء المجتمع ، هو الطابع العام للعواطف البشرية ، فالولد يحب أباه ويكرهه ، ويحب أمه ويكرهها ، والأخ يحب أخاه ويكرهه ، والزوجة تحب زوجها وتكرهه .. والصياح الذى يصيحه الناس على ميتهم هو لإخفاء الفرحة الداخلية التى ملأت نفوسهم لموت !!
ويشرح هذه الظاهرة العجيبة Ambivilence فيقول إنها تتم بطريقة لا شعورية وإنه لا تدخل فيها الحالات التى يتوجه فيها الإنسان بالحب لشخص معين ثم يكرهه لأسباب واعية معلومة ! إنما هو كره لا شعورى تلقائى ، ينشأ فى ذات اللحظة التى ينشأ فيها الحب ، ثم يكبت فى اللاشعور ويظل يعمل من داخل اللاشعور !(1/122)
ويقول فى كتاب الطواطم والمحرمات Totem & Taboo إن الكبت هو طابع الحياة البشرية بسبب وجود الدين والأخلاق والمجتمع وسلطة الأب .. وما إلى ذلك من القوى القاهرة .. وكلها تتجه إلى كبت الطاقة الجنسية فتنشأ العقد النفسية والاضطرابات العصبية التى لا تترك صاحبها فى راحة ..
ويقول فى معظم كتبه : إن كل الأطفال " الذكور " يصابون بعقدة أوديب فى أول طفولتهم .
ويقول فى كتاب " ثلاث مقالات Three Contributions " : نحن جميعا مصابون بالهستريا إلى حد ما :
تلك خلاصة آرائه وأفكاره عن النفس البشرية والعلاقات الإنسانية .. ولن تتعرض لها هنا بالمناقشة .. " 71".
إنما نحن هنا نستعرض مكانها من المخطط الشرير ، كما استعرضنا مكان ماركس من قبل .
يريد اليهود أن يشكلوا المجتمع الجديد الذى وقع فى قبضتهم من أول لحظة على أساس أن يكون مجتمعا بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد مستمدة من القيم الدينية .. فيجئ عالمهم النفسانى الكبير ليمسخ الدين والأخلاق والتقاليد بطريقة " علمية " !
فالدين نابع من الجنس .. من عقدة أوديب .. من كبت الشهوة الجنسية التى يحسها الطفل الذكر نحو أمه !
ويجب - لكى نفهم اللعبة كاملة - أن نتذكر كيف كان إحساس أوروبا بالجنس لنعلم رد الفعل الأوروبى حين يقول لهم فرويد إن الدين نابع من الجنس !
كان الجنس فى حس أوروبا أمرا مستقذرا إلى أقصى حد ، بسبب تزمت الكنيسة فى تفسير تعاليم السيد المسيح ، وبسبب الدعوة إلى الرهبانية . وكانت أعلى درجات التقى والورع تتمثل - ابتداء - فى الابتعاد عن الجنس ، المباح منه وغير المباح ، وذلك أبرز ما فى الرهبانية . ويصل الأمر فى حسهم إلى اعتبار المرأة فى ذاتها دنسا لا يجوز أن يمس ، إلى حد أن واحدا مكن كتابهم ينصح الناس فيقول : إذا لقيت امرأة فى الطريق فلا تسلم عليها ولو كانت أمك !(1/123)
وفى هذا الجو يجئ " العالم النفسانى الكبير ! " فيقول إن الدين نابع من الجنس ! فأى هوة مستقذرة يهبط فيها الدين من عليائه ؟!
وهب أن الناس جميعا لم يصدقوا فرويد فى ادعاءاته " العلمية ! " (وإن كانت دعاية اليهود له وترويحهم المدبر لآرائه " 72 " قد جعل بعض الناس يصدقون ، بل يتحمسون فى التصديق !) فإن شيئا ما يحدث فى النفس من قراءة فرويد هو - على الأقل - إزالة القداسة عن الدين !
إنما تأتى قداسة الدين فى النفوس من أنه شئ منزل من عند الله ، وأنه هو الصلة بين القلب البشرى والإله المعبود ، تلك الصلة العلوية التى ترفع النفس إلى الآفاق العليا ، وتطلق الأرواح ترفرف فى عالم النور .
فإذا جاء " عالم " يقول ، ويظل يلح فى العقول ، وتظل الدعاية تلح على قوله : إن الدين أمر أرضى بحت ، ومصنوع فى داخل النفس لا علاقة له بالله ولا برفرفة الأرواح فى الآفاق العليا .. وأكثر من ذلك أنه " معجون " بماء الجنس المستقذر يومئذ فى حس الناس .. فهل تتوقع أن تبقى للدين قداسة فى النفوس ؟!
يقول " يونج Jung " أحد تلميذى فرويد المقربين (والآخر هو أدلر Adler) فى كتاب سماه " ذكرياتى عن فرويد Memorials of Frued " صدر فى الستينات : " لقد قال لى فرويد إننا ينبغى أن نحطم كل العقائد الدينية : We must abolish all dogmas " وقال لى : ينبغى أن نجعل من الجنس عقيدة We must take sex a dogma "
ولا تحتاج هذه الشهادة إلى تعليق ! فالدين ذو القداسة يلقى به فى دنس الجنس ، والجنس المستقذر يرفع إلى مقام الدين !!
ويريد اليهود أن يحطموا الأخلاق وينشئوا مجتمعا منحلا يسهل فيه تسخير " الحمير " لشعب الله المختار .(1/124)
فأى معول أشد تحطيما للأخلاق من دعوة " العالم النفسانى الكبير " للأولاد والبنات أن ينطلقوا لتلبية نداء الجنس أنى شاءوا بلا حواجز ولا قيود ؟! ومن ادعائه أن الدين الذى يأمرهم بوضع الضوابط لطاقة الجنس هو أمر سخيف لا يستحق الاحترام ؟! ومن وصفه للأخلاق بأنها تتسم بطابع القسوة حتى فى صورتها العادية ؟! ومن دعواه بأن أى قيد على الإطلاق يوضع فى طريق الطاقة الجنسية يورث الكبت ويكون العقد النفسية والاضطرابات العصبية؟! وأن التسامى نوع من الشذوذ ؟!
لقد آتت هذه الدعوة ثمارها بالفعل ، وكانت أكبر مشجع للأولاد والبنات أن ينطلقوا مع دافع الجنس بلا حواجز خوفا من الكبت والعقد النفسية ! وأن ينظروا إلى الدين - الذى يحجزهم - على أنه قيد مناف للعلم ، ولا يستحق الإصغاء إليه ، كما قام علم التحليل النفسى الذى أنشأه فرويد لأهدافه الخاصة " 73" بعملية التبرير الضخمة للفساد الخلقى الذى حدث بالفعل !
يقول الكاتب الإنجليزى " ألدوس هكسلى Aldous Huxley " فى كتابه " Texts and Pretexts " إن المحلل النفسى يقف - لا محالة - إلى جانب المجرم الأخلاقى :
The Psycho-analyst is inevitably on the side of the immoralist
وليست هناك حتمية فى الحقيقة ، ولكن هذا هو التحليل النفسى على طريقة العالم اليهودى الكبير !
ويريد اليهود أن ينشئوا نجتمعا متفككا لا روابط فيه ، ذلك أن الروابط - من أى نوع - تبطئ التحلل ، وتبطئ تحويل الأمميين إلى دواب الحمل التى يركبها بنو إسرائيل ويسخرونها لمصالحهم .. فيجئ العالم النفسانى الكبير فيقول بطريقة " علمية " إنه لا توجد فى حقيقة الأمر روابط بين البشر ! لا بين الولد وأمه ، ولا بين الولد وأبيه ، ولا بين الزوج وزوجته ، ولا بين الأخ وأخيه فضلا عن أن تكون هناك روابط بين الغرباء الذين لا تصل بينهم صلة القربى ! إنما كل إنسان فى الأرض يكره الإنسان الآخر فى قرارة نفسه ويتمنى له الزوال !(1/125)
باختصار لقد كانت مهمة " العالم النفسانى " هى تغطية الفساد الضخم الذى تدبره العصابة الشريرة فى الأرض ، بإعطائه " التبرير العلمى " ! الذى يجعله أمرا طبيعيا لا يستنكر ! ويصبح المنكر عليه هى الرجعى المتأخر الذى يصدر عن الجهل بحقائق العلم ، والتمسك بالخرافات السخيفة ، أو المثاليات التى لا تقل عنها سخفا ولا مكان لها فى واقع الحياة !
دور كايم
إميل دور كايم " دورك هايم أو دورك جاييم ! " يهودى فرنسى ولد عام 1858 ومات عام 1917 وتخصص فى علم الاجتماع وله فيه كتب من أشهرها " مقدمة فى علم الاجتماع " .
وقد لا تكون له شهرة عند الجماهير كماركس وفرويد ، ولكن له شهرته الواسعة بين " علماء الاجتماع " ويتتلمذ عليه - أو على فكره - كل من يقوم بتدريس علم الاجتماع فى الجامعات والمدارس فى عالم الأمميين إلا من رحم ربك ! وعلى أى حال فقد أدى " مهمته " فى الميدان الذى تخصص فيه ، ووجه حملته - مع زملائه الآخرين من كبار " المفكرين " اليهود - إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد .
أخذ دور كايم عن دارون التفسير الحيوانى للإنسان ، ومدده ليغطى ميدان العلاقات الاجتماعية . ولقد أسلفنا أن دارون نفسه لم يكن عالم اجتماع ولا اقتصاد ولا علم نفس ، إنما كان متخصصا فى علم الحياة ، أى فى مظاهر الحياة فى " أجسام " الكائنات الحية ، وحين وصل - فى سلسلة التطور الحيوانى - إلى الإنسان ، وألحقه بعالم الحيوان ، كان يدرس مظاهر الحياة فى " جسم " الإنسان ووظائف أعضائه ، دون أن يتعرض للجوانب الأخرى التى ليست من اختصاصه .
ولكنا قلنا إن نظريته - بالصورة التى قدمها بها ، لا بما تحويه من معلومات علمية بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها من الوجهة العلمية - كانت تحوى إيحاءات معينة لمن أراد أن يستخلصها ويستخدمها ، مبنية كلها على فكرة حيوانية الإنسان وماديته . وإن أحدا لم يستخلصها ويستخدمها فى الحقيقة إلا اليهود .(1/126)
ودور كايم واحد ممن فعلوا ذلك فى ميدان تخصصه وهو علم الاجتماع .
وخلاصة آرائه أن الكائن البشرى محكوم " بنزعة القطيع " التى تحكم عالم الحيوان وتسيره دون وعى منه ولا إرادة .
ولئن كان فرويد قد قالها دون مداراة ، حين زعم أن البشرية الأولى قتلت أباها لتستولى على الأم ، مستندا إلى أن دارون قد قال مثل ذلك عن عالم البقر ، فإن دور كايم لم يشأ أن يستخدم المصطلح الحيوانى مباشرة ، فلم يسمها - فى عالم الإنسان - " نزعة القطيع " وإنما سماها " العقل الجمعى " ، ونسب إليها فى عالم الإنسان كل ما ينسب فى عالم الحيوان إلى نزعة القطيع .
وبعض كلامه عن العقل الجمعى معقول ، وتكلم عنه كثير غيره من العلماء والمفكرين وسموه " المشاركة الوجدانية " وهى حقيقة واقعة فى عالم البشر . ولكنه لم يرد أن يستخدم هذا المصطلح لأنته لا يخدمه فيما كان يهدف إليه ، ذلك أن للمشاركة الوجدانية حدودا معروفة تقف عندها ، وصورة أو صورا معينة تمارس فى نطاقها ، لا تلغى شخصية الفرد الإيجابية ولا إرادته ، لأنها تصدر عن " الذات " ولا تلغيها ، وقد تكون فى كثير من الأحيان فير إرادية ولكنها لا تلغى الإرادة . إنما هى تأثر معين من شئ خارجى ، يستتبع مشاعر معينة أو أعمالا معينة يقوم بها الإنسان لمشاركة الآخرين فيما يراه من أحوالهم ، ولكنه يظل شاعرا أنه " هو " الذى يقوم بها ، وأنه يقوم بها لأنه يريد - لو إرادة مؤقتة - أن يشارك الآخرين فيما هم فيه .
أما الصورة التى يريد دور كايم أن يرسمها للبشرية فهى صورة مختلفة ، يريد أن يلغى فيها شخصية الفرد إلغاء كاملا ويلغى إرادته ، ليجعله يتقبل ما يلقيه إليه " العقل الجمعى " من أوامر وتوجيهات بلا وعى منه ولا إرادة !(1/127)
يستمد دور كايم أمثلته وقواعده مما قام به " الغوغاء " فى الثورة الفرنسية من قتل وتحطيم وتخريب وقع من أناس " عاديين " لم يحدث منهم القتل والتخريب من قبل ، ولو طلب منهم أفرادا لامتنعوا عنه ، ولكنهم قاموا به فى سرور بالغ بل فى نشوة وحشية وهم فى وسط " المجموع " .
وبصرف النظر عن يد اليهود الخفية فى توجيه الثورة وجهات معينة ، فإن هذه - فى ذاتها - حقيقة : أن " الغوغاء " تقوم بمثل هذه الأعمال حين توجه إليها ، بينما معظم الأفراد من هذه الغوغاء لو لطب منهم أن يقوموا بها أفرادا لامتنعوا واستنكروا .
وكثير من المفكرين لفتتهم هذه الظاهرة ، وردوها إلى " المشاركة الوجدانية " أو إلى نزعة " مكبوتة " إلى التخريب والتحطيم ينفلت قيادها حين يوجه الغوغاء إلى ذلك ، فينطلقون - وقد انحلت العقدة - يفعلون ما يخطر على بالهم من وحى اللحظة ، متشجعين على الشر بكونهم كثرة غالبة والواقف فى طريقهم قلة مغلوبة .. بل ردها بعضهم إلى " نزعة القطيع " مباشرة ، على أساس أن هذا القطيع البشرى فى حالته الجنونية التى يكون عليها ، بلا عقل ولا وعى ، هو أشبه بالحيوان ، تحركه بالفعل نوازع الحيوان ، ما دام قد غاب عنه العقل الذى " يعقل " تصرفاته (أى يقيدها) .(1/128)
وأيا كان الرأى فقد نظر المفكرون إلى هذه المظاهر على أنها حالة خاصة تصيب الجماهير حين تجتمع فى حالة غضب أو استثارة . ولكن دور كايم جعلها قاعدة الحياة البشرية كلها ، والأساس الذى تنبنى عليه كل تصرفاتها ، مستندا إلى الحالتين التين يكون الوعى والإرادة فيهما مفقودين تماما أو شبه مفقودين ، وهما حالة الطفل وحالة الغوغاء . فأما الغوغاء فأمرها معروف ، وأما الطفل فإنه يولد ولا حول له ولا قوة ، فيتلقى الأوامر والتوجيهات من أبويه ومن المجتمع المحيط به ، فيتشكل منذ صغره بالطابع الذى عليه المجتمع ، فتصاغ له أفكاره ومعتقداته وأنماط سلوكه دون أن تكون له إرادة فى ذلك ولا رغبة ذاتية ، ولا مشاركة إيجابية فى صياغة تلك الأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك .. وهكذا تخرج البشرية جيلا وراء جيل .
ولكنه يلحظ - بل يؤكد لغاية معينة فى نفسه - أن الأفكار والمعتقدات وأنماط السلوك تتغير من يجل إلى جيل .. وهنا يقتنص الخيط الذى يريده فيقول إن هذا يحدث من تاثير العقل الجمعى ، الذى يتغير على الدوام ولا يثبت على حال !
ويعرف العقل الجمعى بأنه شئ كائن خارج عقول الإفراد ليس هو مجموع عقولهم ، ولا يشترط أن يكون موافقا لعقل أحد منهم ولا لمزاجه الخاص (عقل من هو إذن ؟!) وأنه يؤثر فى عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم ولا يملكون إلا أن يطيعوه ولو على غير إرادة منهم !
ثم يقول إنه دائم التغير .. يحل اليوم ما حرمه الأمس .. ويحرم غدا ما أحله اليوم .. بلا ضابط ولا منطق معقول !
ويقول - وهو بيت القصيد - إنه لا يمكن من ثم تصور ثبات شئ من القيم على الإطلاق : لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد ! وإن النظر إلى هذه الأمور على أنها أمور قائمة بذاتها هو تفكير غير معقول !
يقول : كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هى أشياء من الفطرة ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان !(1/129)
أرأيت إلى العالم الكبير ! إنها ليست فطرية فى الإنسان !
وبكلمات قليلة معدودة يلغى العالم الكبير كل مقدسات البشرية !
أما الفرد الممتاز ، نبيا كان أو مصلحا أو قائدا ، الذى يقف فى وجه المجموع ويغير اتجاهه .. فهذا ملغى إلغاء كاملا من سحاب دور كايم - مهما قالت وقائع التاريخ ! - لأنه لا يخدم أهدافه ! لأنه - من ناحية - يلغى أسطورة " العقل الجمعى " الذى يحكم الناس من خارج كيانهم دون أن يملك أحد الوقوف فى طريقه ، ولأنه - من ناحية أخرى - يشير إلى " قيم ثابتة " فى حياة البشرية منها الدين والأخلاق والزواج والأسرة ، لأن كل الأنبياء والمصلحين دعوا إليها وكانوا دعائم فى تثبيتها خلال القرون الطويلة التى عاشتها البشرية قبل أن يأتى القرن اليهودى ، الذى يعيث فيه اليهود مفسدين فى الأرض ، ويحطمون كل القيم الثابتة فى حياة البشرية !
والإنسان كذلك فى عرف دور كايم شئ لا كيان له ولا فطرة ولا سمات محددة !
لأن " الكيان " أو " الفطرة " يشيران إلى شئ " ثابت " لا يمكن تغييره أو " لا يجوز " تغييره .. وهذا أمر لا يخدم أهدافه ولا أهداف قومه الذين يريدون مسخ الفطر البشرية لأمر فى نفوسهم .
إنما الإنسان وعاء يتشكل بالشكل الذى يراد له ؛ والمريد ، الفعال لما يريد عند دور كايم ، هو العقل الجمعى الذى يتغير على الدوام ، ولا يثبت على صورة ولا يثبت على حال !
ولسنا هنا نناقش دور كايم فقد ناقشناه فى غير هذا الكتاب ، إنما نحن هنا نفسره .
لقد أراد اليهود - ونفذوا بالفعل - إنشاء مجتمع تنعدم فيه " القيم الثابتة " . مجتمع بلا دين ولا أخلاق ولا زواج ولا أسرة ولا تقاليد .
وهنا يأتى " عالم الاجتماع الكبير " للتغطية الكاملة على دور اليهود فى تحطيم هذه القيم .(1/130)
فأولا : ليس الذى يقوم بتحطيم القيم وإفساد المجتمع فئة محددة من البشر يمكن الإشارة إليهم بأعيانهم ، ويمكن محاسبتهم على ما اقترفت أيديهم ، إنما هو العقل الجمعى ! وأنى لك أن تمسك بالعقل الجمعى وتحاسبه ، وهو الذى لا يمكن الإمساك به لأنه ليس له مكان محدد ولا كيان محدد ، ثم إنه لا يسأل عما يفعل لأنه هو القاهر فوق العباد !!
وثانيا : فإن الذى يقوم به العقل الجمعى (الذى صنعه اليهود بأنفسهم !) ليس " تحطيما " للقيم ، وإنما هو مجرد " تغيير " على سنة العقل الجمعى فى التغير الدائم وعدم الثبوت على حال ! و" القيم الثابتة " إن هى إلا أسطورة توهمها الناس فى جهالتهم قبل أن يجئ العالم الكبير لتنويرهم .. وقد قال لهم العالم الكبير إنها ليست فطرية فى الإنسان!
وثالثا : إنه لا قبل للناس بوقف التغيير ! لأنه يحدث من خارج كيانهم ! (وقد كان من خارج كيانهم بالفعل ! ولكن لا لأنه " عقل جمعى " ولكن لأنهم تركوا الدين فركبهم الشيطان :
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [سورة النحل 16/99 - 100]
{وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ} [سورة النساء 4/117-119]
وهكذا قام العالم الكبير بالتغطية على دور اليهود فى الإفساد فى الأرض فى صورة " علم " يدرس فى كل جامعات الأرض ، ويتربى عليه " علماء " من الأمميين يتعصبون له كأنما هم واضعوه ، أو كأنما هو الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !
2- واقع المجتمع الصناعى(1/131)
لئن كان " علماء " اليهود قد أدوا دورهم " العلمى " فى توهين عرى الدين والأخلاق والتقاليد ، والقول بكل طريقة ومن كل زاوية بأنها سخف لا ينبغى للإنسان المتحضر أن يتمسك به ، وأوهام لا ينبغى الاحتفاظ بها فى عصر العلم ، وقيود تعوق الانطلاق ، وصناعة بشرية بحتة من حق البشرية أن تراعا وتعدلها أو تلغيها أو تعمل بعكسها " 74" ..
لئن كان " العلماء " قد قاموا بهذا الدور فقد كانت عصابات أخرى تقوم فى ذات الوقت بعملية لا تقل خطورة - بل قد تكون أشد خطورة - هى إقامة مجتمع فى عالم الواقع ، منسلخ من الدين والأخلاق والتقاليد ، قائم على غير أساس منها .. وهكذا تجتمع النظريات والواقع على هدف واحد محدد ، يساند بعضها بعضا ويساعد بعضها بعضا ، فالنظريات تمهد للواقع وتسنده ، والواقع يشهد للنظريات ويؤكدها ! وبين ذراعى الكماشة الشريرة يقع "الأمميين " فى أوروبا أولا ، وفى الأرض كلها بعد ذلك ، تعصرهم عصرا وتمسخهم مسخا !
قلنا من قبل إن المجتمع الصناعى قد وقع فى قبضة اليهود منذ اللحظة ألولى بسبب قيام اليهود المرابين بتمويل الصناعة الناشئة عن طريق الإقراض بالربا ، فأصبح فى مكنتهم السيطرة على هذا المجتمع وتشكيله على الصورة التى يرغبونها لأن فى يدهم أداة السيطرة الكبرى على ذلك المجتمع وهى رأس المال .
ونريد هنا أن نفصل هذا القول شيئا من التفصيل مستندين إلى وقائع التاريخ .
كانت الثورة الفرنسية - التى كسب فيها الأمميون شيئا من الكب مشوبا بكثير من الخسران ، وكسب فيها اليهود كسبا خالصا لمخططهم الشرير - أول معول فى تحطيم الإقطاع والتمهيد للثورة الصناعية .. ومن فرنسا انتشرت " مبادئ " الثورة الفرنسية وشعاراتها التى وضعها لها الماسونيون اليهود : " الحرية والإخاء والمساواة " ، فعمت أوروبا كلها وحطمت أسس الإقطاع فيها ، وحررت " العبيد " ليكونوا غذاء للثورة الصناعية .. ووقودا لها كذلك !(1/132)
وفرح العبيد المحررون فرحة عظيمة ولاش ك بتلك الحرية .. فالحرية دائما محببة إلى النفوس ، والقيد بغيض ولو تبلدت النفوس عليه عدة قرون !
وانطلقوا إلى المدن فى هيئة عمال فى المصانع .. وكانت المدينة فى ذاتها سحرا هائلا فى أنفسهم ، فهكذا ينظر أهل الريف دائما إلى المدينة ولو كانوا فيها غرباء .. أما هؤلاء فقد كانت الغربة بالنسبة إليهم عارضا زائلا ، فسرعان ما أصبحوا سكانا فيها أصلاء . ولقد كانت حرية التنقل فى ذاتها كسبا ضخما طربت له نفوس العمال بعد إذ كانوا مقيدين بالأرض مشدودين إليها لا يملكون مغادرتها ولو إلى الأرض الملاصقة لإقطاعيتهم .
ثم لقد أصبحوا أراء " أحرارا " بعد أن كانوا من العبيد .. صاروا يعملون ويقبضون فى نهاية الأسبوع أجرا نقديا يمسكون فى أيديهم وينفقونه كيف شاءوا ليس لأحد عليهم سلطان .
وكان لكل هذا نشوة تطرب لها النفوس ..
ولكن هذه النشوة لم تدم طويلا على أى حال .. فقد انكشف الواقع الجديد عن صعوبات لم تكن مقدرة حق قدرها فى بادئ الأمر .. فساعات العمل طويلة ومضنية والأجر مع ذلك قليل إذا قيس بمطالب المدينة وارتفاع أسعار الحاجيات فيها . ففى الريف لم يكن يدفع الناس أجرا للمسكن سواء كانوا أجراء أحرارا أو أقنانا يعملون فى الأرض ، فمساكن القرية تورث جيلا بعد جيل يتربى فيها كل جيل جديد لا يدفع فيها أجرا حتى ولو لم يشعر بملكية حقيقية لها لأنها ملك للسيد الذى يملك الأرض بما عليها ومن عليها ملكية حقيقية أو معنوية .. وفى الريف لا يتكلف الناس لطعامهم وشرابهم كثيرا من المال ، فمن منتجات الألبان ومنتجات الدواجن يأخذون اللبن والزبد والبيض واللحم (فى المواسم على الأقل) ومما يزرعون يأخذون خبزهم وبقولهم وخضرهم فلا يكادون يحسون أنهم دفعوا فيها شيئا يذكر ، وإن كانوا فى الحقيقة يدفعون جهدهم كله فى عمل مضن طوال العام ، ويدفعون من كرامتهم وإنسانيتهم .
والآن تغير الحال .. كثيرا ..(1/133)
لم تعد وطأة " السيد " ذات وقع حسى مباشر كما كانت فى ظل الإقطاع ، وإن كانت الوطأة المعنوية قائمة ولا شك .. قائمة فى حاجة العمال إلى العمل من أجل الحياة ، وغطرسة صاحب المصنع وتكبره وتجبره وتقتيره فى الأجور ..
ثم إن العمل ذاته له وطأة .. وهى وطأة حسية إلى جانب السطوة المعنوية لصاحب العمل . فهو عمل متواصل فى إدارة الآلات - وكانت فى مبدأ الأمر تحتاج إلى جهد بدنى كبير فى إدارتها - وليس من نوع العمل الريفى الذى كان مضنيا - نعم - ولكنه مرن فى أدائه إلى حد ما . فأنت فى الحقل حر - نسبيا - فى أن تبدأ عملك بعد الفجر مباشرة أو بعد ذلك بساعة ! ورح - نسبيا - فى أن تشغل المحراث ثلاث ساعات متوالية أو تشغله ساعة بعد ساعة بعد ساعة ! وحر - نسبيا - فى أن تجمع المحصول اليوم أو تجمعه غدا .. وحقيقة إن " السيد" دائما هناك .. ووكيله الذى يشرف على عمل الفلاحين قاعد بالمرصاد يؤز الفلاحين للعمل أزا ولا يتركهم فى راحة .. ولكنه لا يستطيع أن يقف طيلة النهار على رؤوسهم ! ومن ثم يتنفسون بين الحين والحين ، فى حديث خاطف أو قصة مروية .
أما السيد الجديد فلا يتيح شيئا من ذلك .
صحيح أنه ليس له سوط يمسك به هو أو عامله (وكيله Steward) ليهوى به على ظهور العمال إن توازنوا عن العمل ، ولكن فى يده سوطا معنويا لا يقل إيذاء وهو الخصم من الأجر أو الطرد من العمل !
ثم إن الأجر - حتى إن سلم من هاتين الآفتين جميعا - ضئيل بالنسبة لمطالب الحياة .
صحيح أنه - من حيث الكم - أضعاف ما كان يحصل عليه من الريف ، ولكنه إذا وزع على المسكن والملبس والمطعم المشرب لم يكد يفى بكل ذلك ولو على مستوى الكفاف .(1/134)
ثم إن هناك أمرا هاما جدا فى هذه الحياة الجديدة كان له خطره البعيد فى تشكيل صورة المجتمع الصناعى الناشئ وإعطائه الطابع الذى يوافق هوى الشياطين .. فإن الأجر الضئيل الذى يتناوله العامل ولا يكاد يفى بحاجته لم يكن يسمح بحال بإنشاء أسرة فى المدينة ذات التكاليف . ومن ثم جاء العمال عزابا إلى المدينة - وهم فى سن الشباب والفتوة - أو إن كانوا متزوجين تركوا أسرهم فى الريف وعاشوا فى المدينة كالعزاب ..
وأضيفت إلى متاعب الحياة فى المدينة جوعة الجنس ، وهى جوعة ليست باليسيرة بالنسبة للشباب فى مثل هذه السن ، وما كان يفد للعمل إلى المدينة إلا الأقوياء ذوو الأجساد .
هل كان ذلك كله من تدبير اليهود أم هم استغلوه ؟!
يستويان ..
والأغلب أنه لم يكن من تخطيط اليهود ، إنما هو من جشع أصحاب الأموال وأصحاب الصناعات يهودا وغير يهود .. ولكن المؤكد أن " الحل " الذى قدم لهذه الأزمة كان هو الحل اليهودى الخالص الذى يعمل فيهاليهود من قديم ..
كان الحل هو البغاء !
لم يكن هو بغاء " السادة " الذى تعرفه " المدينة " من قديم .. فالمدينة الأوروبية كانت دائما تعرف ذلك اللون من البغاء الذى ينفق فيه السادة أموالهم الحرام - المغتصبة من دماء الفلاحين والعبيد - فى طلب اللذة المحرمة ، وكان اليهود ذوى صلة تاريخية بذلك البغاء يوقعون فى حبائله السادة من " النبلاء " ! ويسلبون به ما يقدرون على سلبه من أموالهم ، حتى يلجئوهم إلى الاستدانة منهم بالربا ذى الأضعاف المضاعفة ، ويفلس منهم فى النهاية من يفلس وتئول أمواله إليهم !
ولكن هذا البغاء الجديد كان بغاء " شعبيا " خالصا لقاء دراهم معدودات !
وفرك اليهود أيديهم سرورا فقد أمسكوا بأول الخيط ! الخيط الذى يجر " الأمميين " إلى حيث يريد لهم الشيطان .
وجاءت الخطوة التالية ..
فقد بدأ العمال يضربون عن العمل جماعات .. يطلبون تخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور ..(1/135)
وفى دستور الرأسمالية - غير المكتوب - أنها ينبغى أن تحتفظ دائما بجيش من العاطلين تستخدمهم حين يضرب العمال العاملون حتى لا يتوقف العمل من جهة ، وحتى يضربوا حركات الإضراب من جهة أخرى ، فيضطر العمال إلى الرجوع إلى أعمالهم صاغرين !
ولأمر ما استخدمت الرأسمالية المرأة العاملة لتضرب بها حركات العاملين من الذكور .. وأعطتها نصف الأجر ، وهى تعمل ذات القدر من العمل وذات العدد من الساعات !!
هل كان هذا من تدبير اليهود أم هم استغلوه ؟!
الأغلب أنه لم يكن من تدبيرهم ، وإن كان أشبه بتفكيرهم الشيطانى .. ولكن المؤكد أنهم استغلوه إلى أقصى طاقة الاستغلال ، وجعلوه أداة لتنفيذ كل مخططهم الشرير ..
لم يقدم على العمل فى بادئ الأمر إلا أفقر الفقيرات .. فقد كان عمل المرأة فى المصنع عارا هائلا جدا فى حس المجتمع الخارج لتوه من الإقطاع ، لم ينسلخ بعد انسلاخا كاملا من كل قيمه ومثله وأخلاقياته وتقاليده .
كانت المرأة فى الريف تعمل - بالطبيعة - فى بيتها ، فتربى الدواجن وتستخرج من اللبن منتجاته ، وتنسخ على المنسج اليدوى .. وما إلى ذلك من الأعمال كما كانت تساعد زواجها فى أعمال الحقل فى حدود معينة .
وكان الريف متعارفا على هذا الأمر من قديم ،وكان يحوط عمل المرأة بسياج معين من الأخلاق ، والتقاليد المستمدة من الدين ، فلا يحدث الاختلاط بالغرباء فى غير ضرورة ، ولا تحدث الفاحشة إلا شذوذا مستنكرا أشد الاستنكار فى ذلك المجتمع المحافظ إلى درجة التزمت . والزواج المبكر يغنى الشباب من الجنسين عن الصلات المحرمة ، ويقيم الأسرة على أساس من القيم المتوارثة النابعة كلها من الدين .(1/136)
ولكن المرأة التى تركها عائلها وذهب " متحررا " إلى المدينة ، ولم يعد لها عائل غيره ، كانت مضطرة إلى العمل وغلا ماتت جوعا على الحقيقة لا على المجاز ! فما كانت الجاهلية الأوروبية التى لا تطبق شريعة الله تعرف ما تصون به المرأة من الجوع والآثار المترتبة على الجوع !
إن شريعة الله قد صانت المرأة فى جميع أحوالها أما وبنتا وزوجة وأختا ، فرتبت لها عائلا يعولها فى جميع حالاتها سواء كان ولدا أو والدا أو زوجا أو أخا أو قريبا من الأقرباء يكلف تكليفا بإعالتها وصيانتها ، ويكون مسئولا عن ذلك أمام اله وأمام شريعة الله ، بحيث يؤخذ من ماله قسرا إن كان ذا مال وحجبه عن الإنفاق ! فإن لم يكن لها أحد يعولها بالمرة - وهو أمر نادر فى مجريات الحياة العادية - فبيت المال فى الإسلام يكفل من لا عائل له ، رجلا أو طفلا أو امرأة .. وهكذا لا توجد امرأة فى المجتمع الإسلامى الذى تحكمه شريعة الله تضطر إلى العمل لكى تعول نفسها ، فضلا عن أن تعول سواها كما حدث فى المجتمع الصناعى " المتطور " !
أما فى تلك الجاهلية فقد وجد فى الريف نساء كثيرات بغير عائل ، لأن عائلهن تركهن وذهب إلى المدينة ثم عجز عن الإنفاق عليهن .. أو شغله البغاء عن بناء أسرة وتحمل تكاليفها ..
وشيئا فشيئا اضطر هؤلاء النساء إلى الهجرة إلى المدينة للعمل هناك ، حيث التقطهن أصحاب المصانع يضربون بهن حركات العمال المطالبة بتخفيض ساعات العمل وزيادة الأجور .. وعاملتهن الجاهلية بتلك الفظاظة الفذة ، فأعطتهن نصف الأجر على نفس العمل ونفس الساعات !
ولكن الأمر لم يقف مع الجاهلية عند هذا احد .. فالمرأة دائما " صيد " والمرأة المحتاجة صيد ميسر !
وساومها " الرجل " الذى تعمل عنده .. إما أن تفرط فى عرضها وإما أن تعود إلى الجوع الذى فرت منه !(1/137)
ولم تكن الجوعة فى الحقيقة هى جوعة المعدة فحسب ، وان كانت هذه كافية للسقوط ! إنما كان إلى جانبها الحاجة الفطرية الطبيعية إلى الجنس ، والحاجة إلى اللباس والزينة ، وهى بالنسبة للمرأة ليست كلها كماليات ! وسقط من " الرعيل " الأول من العاملات من سقط .. وفتحن الطريق ! ووجد اليهود صيدا سهلا يشغلونه فى صناعتهم العتيقة " العريقة " ! صناعة البغاء .
وكتبت الصحافة الأوروبية كثيرا وكثيرا جدا عن البغاء باعتباره " ضرورة اجتماعية " ! وإنه ينبغى أن يكون رسميا وأن يكون تحت إشراف الدولة !!
وإذا علمنا - كما سنذكر فيما بعد - أن الصحافة الأوروبية كانت - وما تزال - تحت سيطرة اليهود ، علمنا لحساب من كانت تكتب هذه الصحافة عن البغاء و" تزكيه " !
ولو أن هؤلاء " الأمميين " فى أوروبا كانت لديهم ذرة من تفكير لعجبوا على الأقل - ولا نقول استنكروا ورفضوا - أن تكون " الدولة " هى حارسة البغاء وحاميته وراعية شئونه !
أى سخرية سخرها اليهود من الأمميين ، وهم يلعبون بهم على هذا النحو الشائن ؟! ويسقونهم السم فيشربونه بلا روية .. سم يمسخ الأرواح ويذهب بالعقول ..
وأيا كانت التعلات التى قدمت لتبرير البغاء ، وتبرير إشراف الدولة عليه ورعايته ، فهى سخرية المساخر فى الجاهلية المعاصرة ،وقمة من قمم التمكن اليهودى من " الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار " !
ورويدا رويدا أصبح البغاء الرسمى وغير الرسمى حقيقة واقعة فى المجتمع له صفة " الشرعية " الكاملة ، ونتحدث عن " تنظيمه " القوانين .. وأصبح الذى يستنكر هذه الأوضاع رجعيا متزمتا ، أو جاهلا مخرفا ، أو منافقا تافها ، أو " مثاليا " يعيش فى الأوهام ! واصبحت هذه هى " الواقعية " الجديدة التى يدافع عنها الكتاب والخطباء والصحفيون والقصصيون والروائيون .. والمحللون النفسانيون !!(1/138)
غير أن المسألة لم تقف عند هذا الحد ، وإنما " تطورت " كثيرا .. فقد كثر العاملات فى المصانع ، اللواتى يقمن بنفس العمل ويتناولن نصف الأجر ، بسب استمرار هجرة العمال إلى المدينة وترك أسرهم بلا عائل .. فأصبحت لهن " قضية " ! قضية المساواة فى الأجر .. وهى قضية عادلة دون شك ، أيا كانت الظروف التى أدت إليها والملابسات التى أحاطت بها والنتائج التى ترتبت عليها .. فحين يعمل الرجل والمرأة نفس العمل ، ويقومان بنفس الجهد ، فأى مبرر فى الأرض يبرر أن يأخذ أحدهما نصف الآخر " 75" !
ولكن الجاهلية الأوروبية التى لم تحكم قط بما أنزل الله قد ارتضت هذا الأمر ، ورأت فيه شيئا طبيعيا لا يبعث على الاستنكار !
ولكن النساء اللواتى وقع عليهن الغبن رأين - أو رؤى لهن - أن يطالبن بحقوقهن المسلوبة .. نقول : رؤى لهن ، لأن التاريخ يشهد أنه كان هناك دائما محرك يحرك الأمور !
وسواء كان اليهود هم الذين حركوا " القضية " أم قوم طيبون أخذتهم الشفقة بالمظلومات فطالبوا لهن بحقوقهن ، فلاشك أن اليهود استغلوا الظروف لصالح مخططاتهم ، وشدوا الخيط إلى أقصى ما يمكن أن ينشد !
وسارت القضية فى خطوات متتابعة ، كل خطوة تؤدى إلى تاليتها بصورة تبدو طبيعية ومنطقية وتلقائية . وما كانت فى الواقع تلقائية . إنما كان ينفخ فيها الشياطين بصورة تظهرها فى هذا الوضع .
طالبت المرأة بالمساواة مع الرجل فى الأجر فرفضت الرأسمالية الناشئة وأصرت على الرفض ، كأنها تحافظ على وضع طبيعى لا يجوز تغييره ولا الخروج عليه ! ورفض " الرجل " كذلك ! كأن طلبها عدوان على حقوقه الشخصية أو عدوان على كيانه الذاتى !(1/139)
ولم تعد القضية مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجل فى الأجر ، بل أصبحت - فى ذات الوقت - قضية ضد " الرجل " الذى يرفض إعطاءها مالها من حقوق فى عنجهية وغطرسة . وظل هذا الأمر يتسع كلما سارت القضية فى مسارها خطوة ، حتى أصبح فى النهاية كأنه هو القضية ! وانقلب الأمر بين شقى النفس الواحدة اللذين خلقهما الله ليكونا سكنا ومودة : {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [سورة النساء 4/1] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [سورة الروم 30/21] فأصبحت العلاقة هى العداء والصراع والمنافسة ..
وفرك الشياطين أيديهم سرورا بذلك " التطور " .. فأى شئ افعل فى فك روابط الأسرة وتقطيع أوصالها من إثارة الصراع والشقاق بين ركنيها الأساسيين ؟!
وما نريد أن نتعجل الأحداث !
رفض أصحاب المصانع قضية المساواة فى الأجر ورفضها الرجل كذلك ، فطالبت المرأة - أو طولب لها فى الحقيقة - بأن يكون لها حق الانتخاب حتى يكون لها - كما قيل - تأثير فى اختيار المرشحين للمجالس النيابية فيدافعوا عن حقوقها المسلوبة حين يصلون إلى البرلمان ، وكان الرجل قد نال هذا الحق (حق الانتخاب) قبل ذلك مع نمو الديمقراطية ونمو الحقوق السياسية للشعب " 76 " .
ورفض الرجل إعطاءها هذا الحق ، ولم يعترف أصلا بأن ذلك حق من حقوقها أو أمر جائز بالنسبة إليها .
وتكفل رجال بالدفاع عن " قضية المرأة " : محامون وكتاب وخطباء وصحفيون .. بينما ظل أغلبية الرجال يرفضون فى إصرار . ولكن رويدا .. رويدا .. أخذت المعارضة تلين - أو فى الحقيقة تلين ! - بالدق المستمر عليها بكل وسائل الإعلام المتاحة فى ذلك الحين ، وفى مقدمتها الصحافة ، ومن بينها الخطابة والمحاضرة والتأليف .(1/140)
وظاهرة لين المعارضة بعد اشتدادها فى أول الأمر تكررت فى كل مرحلة من مراحل " القضية " بصورة واحدة تقريبا .. يبدأ " المدافعون " بإثارة القضية فتنهال المعارضة من كل جانب ، وتحتد غضبات " الرجال " إلى حد يخيل للرائى أن الأمر قد انتهى إلى الأبد ، وأن القضية فاشلة لا محالة ! ورويدا .. رويدا تأخذ الأصوات المعارضة تخفت ، والأصوات المدافعة تعنف وتشتد ، حتى يأتى يوم لا يجرؤ فيه أحد على المعارضة لأنه يصبح ضد التيار ، ويصبح كلام مستهجنا ويقابل بالاستنكار ، لأنه رجعى متخلف ، يريد أن يرجع عقارب الساعة إلى الوراء ، ويريد أن يقف عجلة التطور الساحقة التى تسحق كل من يقف فى سبيلها !!
كيف يتم المر على هذه الصورة ؟!
هل هى صورة طبيعية وتلقائية ؟ أم تدخل فيها أصابع الشياطين ؟!
أما أنها طبيعية - من جانب - فنعم ! فما كان المعارضون يعارضون عن إيمان حقيقى بقيم معينة ، إنما هى عنجهية الرجل من جهة ، وكون ذلك من " التقاليد " الموروثة من جهة أخرى .. والتقاليد إذا فقدت الروح وفقدت المبدأ وفقدت الإيمان ، لم تعد قادرة على الصمود فى المعركة ، خاصة إذا كانت معاول الهدم حادة ، وكان المهاجمون أذكياء بل شريرين .
ولكنها من جانب آخر لم تكن طبيعية .
فلو تركت الأمور دون تدخل ودون توجيه ، فلربما كانت التقاليد الموروثة تتغلب ، أو ربما كانت عنجهية الرجل التقليدية تتغلب .. ولكن الذين بيدهم التوجيه الشيطانى كانوا - فى كل مرة - يحولون دون أن تنتهى الأمور إلى هذه النتيجة التى لا تخدم أهدافهم ، وتعطل مجئ اليوم الذى يركب فيه شعب الله المختار على ظهور الأمميين ويلهبها بالسياط !(1/141)
ولا نتحدث هنا عن العدالة فى أى الجانبين كانت ، فى الجاهلية لا توجد عدالة .. والمتصارعون كلهم كانوا يعيشون فى جاهلية ترفض أن تحكم شريعة الله . وقد تكون بعض الأمور أو بعض الوجهات فى هذه الجاهلية أعدل من بعضها الآخر ، ولكنها فى النهاية تبتعد عن حقيقة العدل ، لأنها تصلح داء بداء آخر ، وتعالج مرضا فتحدث عدة أمراض ! فلئن كان المدافعون عن " حقوق المرأة " يبدون أكثر عدلا من الذين يحتقرونها ويهينونها ويستكثرون عليها أى حق من الحقوق ، فإن الصورة التى نالت بها حقوقها قد أحدثت من الفساد والظلم ما لم يكن يخطر على بال !
ومرة أخرى لا نحب أن نتعجل الأحداث !
طالبت المرأة بحق الانتخاب الذى كان الرجل قد حصل عليه ، ومن ثم أصبح لقضية بعد جديد - بعد سياسى - بعد أن كانت مجرد قضية مساواة فى الأجر ، ورفض طلبها بشدة فى أول الأمر ، ثم عادت المعارضة فلانت ، وحصلت المرأة فى معظم دول أوروبا على حق الانتخاب ..
ولكنها وجدت أن الأصوات الضئيلة التى تدلى بها فى الانتخابات ليس لها وزن حقيقى فى المعركة الانتخابية ، وحتى إن تأثرت تأثيرا جزئيا طفيفا فى إنجاح مرشح معين ، ممن يتعهدون - أو يكونون معروفين - بالتحمس لقضية المرأة والدفاع عنها فى المجالس النيابية ، فسرعان ما ينسى المرشح وعوده حين يصل إلى البرلمان ، أو تضيع صيحته فى زحمة الأعمال وزحمة الخطب والكلمات !
عندئذ رؤى لها أن تطالب بحق الترشيح ودخول البرلمان .. لكى تسمع صوتها بنفسها للذين يصنعون القوانين (كأنهم لم يكونوا سامعين من قبل) وتشارك بنفسها فى إعداد التشريع ، فتضمنه ما يحافظ للمرأة حقوقها .
وقامت قيامة المعارضة كما يحدث فى كل مرة ، واشتدت حتى ليظن الرائى أن الأمر لم يتم أبدا .. ثم ظلت أصوات المعارضة تخفت تدريجيا وتلين .. حتى نالت المرأة حق الترشيح .. ودخلت البرلمان !
ويجدر بنا أن نلاحظ ظاهرة " فنية " فى إدارة المعركة .(1/142)
لقد كانت الصحافة دائما من أوسع المجالات التى تدور فيها المعركة إن لم تكن أوسعها جميعا .. والصحافة فى أوروبا كانت - وما تزال - فى أيدى اليهود ، الذين يوجهون المعركة كلها لحسابهم الخاص . ومع رغبتهم الشديدة فىأن تصل الأمور إلى إخفات صوت المعارضة نهائيا ، وعدم السماح لها بالظهور ،فقد كانوا - فى كل مرة - يدعون الصحف تفسح صدرها للرأى المعارض مهما كانت شدة لهجته وقساوة عباراته !
وهذا " فن " بارع ولا شك !
فمن ناحية لم تكن الصحافة هى المجال الوحيد لإبداء الرأى ، بل كان إلى جانبه الخطابة والمحاضرة والتأليف . (ولم تكن وسائل الإعلام الأخرى قد اخترعت بعد ، من إذاعة وسينما وتليفزيون ... الخ) فلو أن الصحافة أغلقت أبوابها دون الرأى المعارض - وهو فى حدته - لانكشف للناس تحيزها ، وانكشف اللاعبون من ورائها ، وفشلت اللعبة من أولها ! بل ينبغى أن تبقى الصحافة " حرة !" فى ظاهرها حتى يطمئن الناس إليها وتصبح أداة جبارة لتشكيل " الرأى " العام على النحو المطلوب .
ومن ناحية أخرى فإن المعارضة والشد والجذب بين الرأى المعارض والرأى المؤيد ، مطلوبان - لذاتهما - من أجل إنجاح المعركة والوصول بها - فى النهاية - إلى الهدف المطلوب !
هب أن الرأى المطلوب إرساء قواعده - وهو إعطاء المرأة حق الانتخاب مثلا - قد ألقى فى الصحف أو فى أى مجال من مجالات الإعلام فلم يأبه بمعارضته أحد ولم يتقدم لمناقشته وتفنيده أحد .. أتراه ينجح أو يصل إلى هدفه ؟ كلا ! إنما يموت لتوه ويغطيه النسيان ! ويكون فى حس الناس أن مجنونا أخرق تقدم برأى شاذ فلم يأبه به أحد !(1/143)
أما حين تدور المعركة ، بالمعارضة ، وإن اشتدت فى بادئ الأمر ، فهذا هو الضمان أن ينشغل الناس بالقضية ويولوها اهتمامهم ، وهذه هى الخطوة الأولى فى طريق النجاح ! ويكفى - فى مبدأ الأمر - أن تدور المعركة حول الرأى ! فمعنى ذلك أن الموضوع قابل للمناقشة وأن هناك وجهات نظر مختلفة فيه - ولو كان بعضها ضعيفا غاية الضعف وأن الأوضاع القائمة (المراد إزالتها) ليست حقيقة نهائية مقررة لا تقبل النقاش !
وما دام قد تقرر المبدأ ، وهو أن الأمر قابل للنقاش وليس حقيقة نهائية فمن باب " الحرية ! " ينبغى أن يسمح لكل الناس بإبداء آرائهم سواء كانوا مؤيدين أو معارضين ، ليتاح " للرأى العام " أن يحكم على الأمر !
عندئذ تأتى الخطوة " الفنية " التالية ، وهى الإلحاح المستمر على وجهة النظر المطلوبة ، والتقليل التدريجى من الرأى المعارض ، مهما كان قويا فى حقيقته فى الواقع الخارجى (أى خارج دائرة الصحافة) ، حتى يخيل للقارئ أن الراى المعارض قد خفت بالفعل ، وأن الرأى " المطلوب " أصبح هو الرأى الغالب .. وعندئذ تخفت المعارضة بالفعل بتأثير هذا الإيحاء ، ويتغلب الرأى المطلوب ، ويقال إن " الرأى العام ! " قد اقتنع بالقضية وأصبح من المتحمسين لها ! وترفع المرأة الزائفة أمام الناس فيظن كل واحد أن الآخرين كلهم قد اقتنعوا ولم يبق مترددا أو معارضا إلا هو ! فيقتنع هو الآخر بالإيحاء !
وتبقى - دائما بطبيعة الحال - قلة صلبة فى معارضتها تأبى أن تذوب سواء كانت معارضتها ناشئة عن إيمان حقيقى بمبدأ معين أو حقيقة معينة ، أو لأى سبب آخر .. وهذه يجرى التخلص منها بصورة من الصور ، إما بمحاولة الشراء ، وإما بتشويه السمعة ، وإما بالتصفية البدنية إذا لم تفلح جميع الوسائل فى ثنيها عن موقفها !(1/144)
وهكذا ارتفعت صيحات المعارضة فى كل مرة طولب للمرأة فيها بحقوق جديدة ، ثم لانت المعارضة أو لينت ، وخفتت الأصوات بعد حين ، وبقى الرأى " المطلوب " وحده مرتفع الراية فى الآفاق ، وقيل إنه " التطور الحتمى " الذى لابد أن يأخذ مجراه ،وإن عجلة التطور ستسحق كل من يقف لها فى الطريق !
دخلت المرأة البرلمان لعبة مسلية أكثر مما هى واقع جدى ! ولم يتغير كثيرا حال المرأة بهذه اللعبة من ناحية " الحقوق " المطلوبة ، وكلنها - من وجوه أخرى - تغيرت كثيرا ولا شك !
كانت " القضية " فى أثناء ذلك قد سارت مسارات شتى ، وطرقت أبوابا جديدة ..
طالبت المرأة - أو طولب لها - بحق التعليم ..
وقد كان تعليم المرأة فى المجتمع الجاهلى الأوروبى يتم فى أضيق الحدود .. فأما أصحاب القصور فيعلمون بناتهم فى داخل قصورهم فيأتى المربون والمربيات والمعلمون والمعلمات إلى داخل القصر فيعلمون البنات تعليما " أرستقراطيا " يصنع منهن " سيدات قصور " !
وأما " الشعب ط فلا يكاد يعرف هذه القضية ، قضية تعليم البنات .. فإنما يتعلمن - داخل البيوت - إدارة البيوت وفنون الطهى وتربية النشء ، وتربية الدواجن والماشية والغزل والنسيج اليدوى وما إلى ذلك من فنون المعاش .
وقليلات من يتعلمن فى المدارس ، أكثرهن يتوقفن عند مرحلة ابتدائية وأقل القليل من يتعلمن فن التدريس أو فن التمريض ..
أما التعليم بمعناه العام فلم يكن يخطر على بال أحد من الرجال - ولا النساء - يومئذ أنه فى يوم من الأيام يكون !
وما حاجة المرأة إلى التعليم ؟ وما حاجتها إلى العلم ؟ إنما هى لتتزوج وتحمل وتلد وترضع ، وتكون ربة بيت" 77" .(1/145)
ولكن " القضية " المشتعلة مدت لسانا من اللهيب نحو هذا الميدان فاشتعل بنيران المعركة ، واتسعت القضية - التى كانت فى أساها قضية المساواة مع الرجل فى الأجر - فشملت فى كل يوم أبعادا جديدة لم تكن لها من قبل ، وترتب على هذه التوسعة الجديدة آثار خطيرة لم تكن فى بال أحد من قبل على الإطلاق .
هل كان فى بال المخططين أنفسهم كل هذه الأبعاد وما يترتب عليها من آثار ؟!
ربما لم يكن ذلك كذلك !
ولكن كل خطوة كانت تقربهم إلى أفق جديد يكتشفون أنهم يستطيعون منه إحكام الرمى ، أما الهدف فواضح لهم من أول لحظة ، وهو تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد ،وأما الوسائل فهى كل الوسائل المتاحة فى كل لحظة ، حتى تتاح وسائل جديدة فتستخدم على التو !
ولقد أتاح لهم استخدام قضية التعليم وسائل هائلة جدا لتحقيق الهدف المطلوب ، ربما لم تكن كلها فى حسبانهم يوم بدءوا " اللعبة " ، ولكن كل خطوة كانت تكشف لهم الإمكانيات المتاحة للخطوة التالية فيسارعون إلى التحضير لها حتى إذا جاءت كانوا هم حاضرين !
كانت قضية التعليم من أشد القضايا إثارة للمعارضة فى المجتمع الأوروبى الجاهلى .. وكانت عنجهية الرجل فيها على أشدها .. فقد كان التعليم خلال قرون طويلة حقا للرجل وحده ، لا تنازعه فيه المرأة ولا ينبغى لها أن تنازعه فيه .
وصيغت خلال القرون " نظريات " حول عقل المرأة وقابليتها للتعلم ، خلاصتها أن المرأة لا يمكن أن تتعلم ! هكذا خلقها اله ! لا تصلح أساسا للتعليم ! لا تفهم ! إلا تلك الأشياء الصغيرة التافهة التى تناسب عقليتها وطبيعتها من رعاية النشء (لأن عقلها صغير كعقل الأطفال فهى أقرب إلى مستواهم ، ومن ثم فهى أصلح لتربيتهم فى سنواتهم الأولى حتى " يعقلوا " فيتولاهم الرجال !) وإدارة شئون المنزل والغزل اليدوى والنسيج اليدوى وما أشبه ذلك من الفنون ..
أما العلم .. فلا ! تلك مزية الرجل التى حباه الله بها فاختص بها خلال القرون ..(1/146)
أو تجئ المرأة اليوم فتنازعه هذا الاختصاص ؟! وأنى لها وهى لم تهيأ أصلا لتلقى التعليم ؟
وماذا تفعل بالتعليم بعد أن تتزوج وتصبح ربة بيت ؟ فعندئذ تستوى المتعلمة والجاهلة ، إذ أن هذا أمر تقوم به الجاهلة خير قيام ولا يلزمها من أجله العلم ، ولن تقوم به المتعلمة خيرا منها ، بل قد تتفوق الجاهلة عليها لأنها نالت من الدربة والخبرة فيه ما لا يتاح للمتعلمة التى تقضى شطر وقتها بعيدا عن البيت ، وهو الميدان الأصلى للتدريب .
ولقد كان فى هذا الكلام كثير من الأباطيل ولا شك ، وكان متأثرا تأثرا شديدا بالنظرة الكنسية المتزمتة إلى الجنس ، وإلى المرأة التى يتمثل فيها الجنس بالنسبة إلى الرجل ، تلك النظرة التى وصلت إلى حد أن : فلاسفة " فى القرن السابع عشر كانت " تتفلسف " فى هذا الشأن فتتساءل : هل للمرأة روح أم ليس لها روح ؟ وإذا كان لها روح فهل هى روح إنسانية أم روح حيوانية ؟ وإذا كانت روحا إنسانية فهل هى من جنس روح الرجل أم من درجة أدنى ؟!
ولكن وجها واحدا للحق كان قائما فى هذا الكلام كله المحتوى على كل تلك الأباطيل ، هو أن التعليم - على النحو الذى كان يراد ويخطط له - كان يشغل المرأة عن وظيفتها الأساسية ويحولها إلى وجهات أخرى تتلقفها فيها الشياطين !
هل اليهود ينشئون الأحداث على هواهم بتدبيرهم الماكر كما يقول وليم كار ؟!
كلا ! إنما هم يستغلون الأحداث ، ويتربصون لينفذوا من أى ثغرة تعرض لهم فى حياة " الأمميين " ولكنهم لا ينشئون الأحداث من عند أنفسهم مهما خططوا ومعهما دبروا مئات من السنين أو ألوفا من السنين !
فلولا أن الجاهلية الأوروبية شغلت المرأة بنصف أجر الرجل ، فمن أين كان لليهود أن ينشئوا للمرأة قضية ؟ ولولا أن تلك الجاهلية حرمتها من التعليم تحقيرا وامتهانا لها فمن أين كان لليهود أن يوسعوا القضية حتى تشمل تعليم المرأة ، ثم يحدثوا عن طريق تعليمها كل ما أحدثوا من الفساد ؟!(1/147)
كلا ! إن " الأمميين " هم الذين يتيحون الفرصة - بأعمالهم - ليستحمرهم شعب الله المختار ويركب ظهورهم ، ولولا أعمالهم الخاطئة تلك ما استطاع شعب الله المختار أن يركب ، مهما كان فى قلبه من الغل ، ومهما كان فى عقله من التدبير .
? ? ?
ونمضى مع قصة تعليم المرأة فنجد المعارضة الثائرة فى أول الأمر ، ثم نجد هذه المعارضة تخفت رويدا رويدا ويمضى ما كان يبدو مستحيلا فى مبدأ الطريق !
عند بدء المعركة طالب المطالبون بإنشاء تعليم لا ببعد المرأة إبعادا كاملا عن وظيفتها ، وإن كان يبعدها - دون شك - إلى حد غير قليل ! فقد أنشئ لها تعليم " نسوى " يحوى العلوم التى تعطى للأولاد ، مضافا إليها دروس فى تدبير المنزل ورعاية النشء وبعض الفنون النسوية كشغل الإبرة والتفصيل والخياطة .. الخ ، وكان هذا مجرد خطوة خطوة فى الطريق ، حتى يحين الوقت الذى تلغى فيه المواد النسوية إلغاء كاملا ويتم " ترجيل " المرأة .
كذلك طالب المطالبون بتوفير الصيانة الخلقية التامة للفتاة التى تذهب إلى المدرسة ، فتذهب فى سيارة مقفلة مغطاة بالستائر ، أو يذهب معها ذووها ويعودون بها بحيث لا تتعرض للفتنة فى الطريق !
والحكمة فى هذا وذاك واضحة !
فلو أن المخططين كشفوا عن وجوههم دفعة واحدة ، ودفعوا الفتاة الذاهبة إلى المدرسة للتبرج من أول لحظة ، أو دفعوها للانسلاخ الكامل م، أنوثتها فأى أب كان يبعث بابنته إلى المدرسة ، والتيار المعارض جارف والحملة ضد تعليم المرأة قائمة على قدم وساق ؟!
لابد من طمأنة أولياء الأمور طمأنة كاملة فى مبدأ الطريق ، حتى يرسلوا ببناتهم إلى المدرسة ، وعندئذ - بعد أن يذهبن بالفعل - يكون لنا معهن دور أى دور !
ورويدا رويدا .. على مدى طويل بطئ " 78" ظلت المواد النسوية تتضاءل بحجة عدم الإثقال على الفتاة .. أو بأية حجة أخرى ! وتقترب المناهج بين البنات والبنين حتى صارت متطابقة تماما فى آخر الأمر .. مناهج رجالية كاملة !!(1/148)
ورويدا رويدا كذلك وبنفس البطء بدأت المدرسة تتحلل من القيود الصارمة التى فرضت عليها - بعناية - فى مبدأ الأمر ! فلم تعد السارة مغطاة بالستائر ، ولم يعد ذووها يوصلونها إلى المدرسة أو يعودون بها إلى البت !
وجاء الوقت الذى تقدمت فيه الفتيات إلى الشهادة الثانوية على مناهج البنين كاملة بلا زيادة ولا نقصان ، وحدثت " المعجزة " فنجحت الفتيات فى الامتحان الموضوع ألا للبنين ، بل تفوقن عليهم فى غير قليل من الحالات !
وحدثت ضجة هائلة - فى الصحافة بصفة خاصة - لم تهدأ من قريب !
ها هى ذى الفتاة التى قلتم عنها إنها لا تفهم ولا تستطيع أن تتعلم .. ها هى ذى التى قلتم عنها إنها أقل ذكاء من الفتى وأقل قدرة على الاستيعاب .. ها هى ذى التى قلتم عنها إنها لا تصلح - إن صلحت على الإطلاق - إلا للمناهج النسوية الخالصة .. ها هى ذى تدخل ذات الامتحان مع الفتى فتجاريه بل تتفوق عليه !
أرأيتم أيها الرجعيون ؟ ! أرأيتم ايها الظالمون ؟! أرأيتم يا جنس الرجال ؟! أيها المغرورون ! أيها المتعصبون!!
ولئن كان نجاح الفتاة قد قوبل بالاستغراب الكامل فى الغرب ، فما ينبغى أن يستغرب فى الحقيقة ، فقدرة الفتاة على التحصيل العلمى لا تفترق عن قدرة الفتى حين تتخصص لها وتوليها جهدها .. أما تفوق الفتاة أحيانا فقد كان مرجعه إلى روح التحدى من جهة ، وانقطاع الفتاة للاستذكار فى المنزل بينما الأولاد مشغولون - فى الشارع - بألوان من النشاط لا تمارسها الفتيات فى ذلك الحين !
وليست القضية - كما أثارتها الجاهلية من جانبيها ، جانب المعارضة وجانب التأييد - هى القدرة على التحصيل على ذات المستوى عند كل من الجنسين ، إنما القضية هى الإعداد المناسب لوظيفة كل من الجنسين واستعداده النفسى بصرف النظر عن قدرته العقلية .(1/149)
يقول الدكتور ألكسيس كاريل فى كتاب " الإنسان ذلك المجهول L'Homme cet unconnu (ص 108 - 109 من الطبعة الثالثة من الترجمة العربية لشفيق أسعد) .
" إن الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتى من الشكل الخاص للأعضاء التناسلية ، ومن وجود الرحم والحمل ، أو من طريقة التعليم ، إذ ا،ها ذات طبيعة أكثر أهمية من ذلك . إنها تنشأ من تكوين الأنسجة ذاتها ومن تلقيح الجيم كله بمواد كيمائية محددة يفرزها المبيض .. ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن الأنوثة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليما واحدا ، وأن يمنحا قوى واحدة ومسئوليات متشابهة ..
والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافا كبيرا عن الرجل .. فكل خلية من خلايا جسمها نتحمل طابع جنسها .. والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائها .. وفوق كل شئ بالنسبة لجهازها العصبى . فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة لين مثل قوانين العالم الكوكبى . فليس فى الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها . ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هى . فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعا لطبيعتهن ولا يحاون تقليد الذكور ، فإن دورهن فى تقدم الحضارة أسمى من دور الرجال ، فيجب عليهن ألا يتخلين عن وظائفهن المحددة ؟ .
ولكن الجاهلية - من جانبيها كما قلنا - ركزت على المقدرة العقلية أكثر من أى شئ آخر ، فخسر المعارضون حين نجحت الفتاة بل تفوقت أحيانا على الولد ، وهلل المدافعون وأمنونا فى إثارة الضجة حول قدرة الفتاة التى لا تقف عند حد ، ومساواتها التامة للرجل فى كل شئ !
حقيقة إن قضية الوظيفة والاستعداد النفسى قد أثيرت من جانب المعارضين ، ولكنها أثيرت بروح التحقير والامتهان ، لا على أساس توزيع الوظائف والتكاليف على شقى النفس الواحدة مع المساواة فى الإنسانية كما قال رب العالمين ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم :(1/150)
{ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [سورة النساء 4/1]
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [سورة آل 3/195]
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [سورة النحل 16/97]
" إنما النساء شقائق الرجال " " 79 " .
لذلك كانت موضع الرفض الكامل من الفريق الذى تصدى للدفاع عن المرأة ، وكانت موضعا لتنديدهم بعنجهية الرجل المتغطرس على غير أساس !
وما نقول إن إثارتها على النحو الصحيح كما شرعها الله كانت ستجدى شيئا فى الدوامة التى أثيرت حول "قضية المرأة " ووجهت توجيها معينا منذ البدء يخدم أغراض الشياطين ، إنما نقول إنه لو كانت الحياة فى المجتمع قد سارت منذ البدء على هدى المنهج الربانى لما وجد الشياطين قضية يثيرونها ويلعبون بها على النحو الخطير الذى فعلوه .
وحين نجحت الفتاة فى الدراسة وساوت الولد أو تفوقت عليه أحيانا فهل كان هناك شك فى الخطوة التالية ؟!
طالبت - أو طولب لها - بدخول الجامعة !
ويبدو الأمر طبيعيا جدا ومنطقيا جدا .. بينما تبدو المعارضة قائمة على خير أساس !
وعلى أى حال فقد قامت المعركة المعتادة كما قامت من قبل مع كل خطوة سابقة وكما قامت من بعد فى كل خطوة لاحقة .
قال المعارضون : إن نجاحها فى المرحلة الثانوية لا يعتبر دليلا على مقدرتها على الدراسة الجامعية ، فالجامعة شئ آخر غير الدراسة الثانوية !
وقالوا : إن التعليم الجامعى لا يناسب طبيعتها (وهى هنا الطبيعة الرقيقة اللطيفة) فهةو تعليم جاف لا يناسب إلا الذكور !(1/151)
وقالوا : إن مكان الفتاة الطبيعى هو البيت ، لتكون زوجة وأما وراعية أطفال ، وليس هو الجامعة البعيدة كل البعد عن طبيعتها والمعطلة لها عن وظيفتها طوال مدة الدراسة .
وقالوا : إنها تفعل بالدراسة الجامعية ؟ وما حاجتها إليها حين تصبح ربة بيت وزوجة وأم أطفال ؟!
وقالوا : إنها تتزوج - عادة - فى السادسة عشرة أو السابعة عشرة .. فمتى تذهب إلى الجامعة ؟!
وقالوا : إن ذلك يخالف التقاليد ..
وصمد " المدافعون عن حقوق المرأة " .. لهذه الهجمات كلها ، وكأنهم - الآن - قد اصبحوا يعرفون النتيجة ! إنها مسألة وقت فحسب !
أما المخططون فما كانوا ليكشفوا أوراقهم كاملة من أول لحظة فذلك ينافى " فن " اللعب ، كما أنه قمين بإفساد اللعبة بكاملها !
أيقولون للناس الآن ماذا يريدون أن يفعلوا بقضية المرأة فى المستقبل فيحجم الآباء عن إرسال فتياتهم إلى الجامعة ، بل تحجم الفتيات أنفسهن بالبقية الباقية فيهن من الدين والأخلاق والتقاليد .. والحياء ! الحياء الأنثوى الفطرى الذى خلقه الله ، والذى يخطط لإفساده شعب الله المختار !
كلا ! إنما يترك ذلك للتخطيط البطئ .. بطئ ولكنه أكيد المفعول !
قال المدافعون : إن الفتاة ستثبت جدارتها فى التعليم الجامعى كما أثبتت جدارتها من قبل فى التعليم الثانوى . وكنتم أيها الرجعيون المتزمتون تشككون فى قدرتها على تلقى علوم الأولاد فى المرحلة الثانوية ونجاحها فيها فهزمكم الواقع وأسقط حجتكم وألجم أفواهكم ! وسيتبين لكم غدا أنكم كنتم واهمين بالنسبة للتعليم الجامعى كما كنتم واهمين من قبل بالنسبة للتعليم الثانوى .. فقط اتركوا لها الفرصة لتثبت مقدرتها ! كيف تحكمون على شئ لم تجربوه بعد ؟!(1/152)
وقالوا : إن الرجل يخشى المنافسة ! يخشى على مكانته " التقليدية " أن تنافسيه فيها المرأة فيفقد هذه المكانة ! إنها عقدة النقص ! لو كان الرجل واثقا من نفسه ما خشى المنافسة ! إنه يلجأ إلى " التقاليد " ليحمى امتيازاته ! تلك التقاليد البالية المتعفنة التى ينبغى أن تزول ! التقاليد التى تحتقر المرأة وتمتهنها وتجعلها مستعبدة للرجل ! لا عبودية بعد اليوم !
وقالوا : إن الدراسة الجامعية لا تمنع المرأة عن وظيفتها .. فما الذى يمنعها أن تتزوج ؟ فقط تؤجل الزواج بضع سنوات ! ومن أرادت أن تتزوج وتترك الدراسة الجامعية فمن يمنعها !
وقالوا : إن الدراسة الجامعية - على العكس - توسع مداركها وتوسع آفاقها فتعينها على أداء وظيفتها ! أتريدون أن تكون أمهات أطفالكم جاهلات ؟ أو ليس الخبير لكم أن تكون الأم متعلمة فتحسن تربية أولادها ؟!
وقالوا : إن الفتاة يمكن أن تختار من الدراسات الجامعية ما يناسب طبيعتها " الرقيقة اللطيفة " فتدرس الأدب فى كلية الآداب .. أليست الفتاة رقيقة المشاعر رقيقة المزاج ؟ أو ليس الشعر والأدب يرقق المشاعر ويوسع الخيال ؟! فأى ما نع لديكم ؟! وتدرس الطب لتطبب النساء .. أى مانع لديكم ؟! وتتخرج مدرسة لتعليم البنات .. أى مانع لديكم ؟!
ولكن بقيت - مع كل ذلك - عقبة غيير ذلول ..
التعليم الجامعى معناه الاختلاط .. اختلاط الفتيات بالشبان فى الجامعة .. ودون ذلك يحول الدين والأخلاق والتقاليد .. (ولم يفكر أحد - من طرفى الجاهلية : المؤيدين والمعارضين - فى عمل جامعات نسوية خاصة بالفتيات !) .(1/153)
وكانت تلك العقبة هى البندقة الصعبة الكسر كما يقولون فى أمثالهم .. فقد تشبث المعارضون بالتعلق بالدين والأخلاق والتقاليد فى وجه قضية الاختلاط ، واحتال المدافعون لتزيين الاختلاط فى بادئ الأمر ، ثم لجأوا فى النهاية إلى الكف عن وجوههم جهرة ، ومهاجمة الدين والأخلاق والتقاليد مهاجمة صريحة حين أصبح ذلك - بالدق المستمر - أمرا فى حيز الإمكان .
قالوا : لا تخافوا ! لن يحدث شئ على الإطلاق !
إنها لا تختلط به فى رقص ولا لهو ! إنها تختلط به اختلاطا " برئا " فى جو علمى خالص ، تنحت إشراف الأستاذ وسمعه وبصره .. الأستاذ هو الوالد والمربى والموجه لكلا السباب والفتاة فى قاعة الدرس ، وتحت إشرافه التربوى التوجيههى يجلس الفتى والفتاة ساعة من الوقت يتلقون العلم ويتناقشون فى قضايا علمية وإنسانية واجتماعية وفكرية .. فأى جو أطهر نم هذا الجو ,اقدر على رفع المشاعر وتهذيب الأخلاق ؟! من ذا الذى يخطر له - فى هذا الجو -أن يسئ الدب أو يسئ إلى الأخلاق أو تخطر فى باله خاطرة من خواطر الفساد ؟!
بل إن الاختلاط ذاته أداة للتهذيب !
ألا ترون إلى الشبان فى مجتمعاتهم كيف تجرى بينهم ألفاظ الخشنة والألفاظ الخارجة .. أيجرؤ أحدهم - فى حضرة الفتيات - أن يلفظ بلفظ خارج ؟
بل إن الاختلاط أداة لنفى خواطر الجنس !
ألا ترون أن صورة المرأة فى حس الرجل - لأنها بعيدة عنه - هى صورة الجنس ؟ وأن صورة الرجل فى حس المرأة - لأنها بعيدة عنه - هى صورة الجنس ظ .. فإذا التقيا فى هذا الجو الطاهر البرئ .. جو العلم والقضايا الفكرية والإنسانية والاجتماعية ، كف الرجل عن النظر إلى المرأة على أنها " أنثى " وفكر فيها على أنها " امرأة " .. أنها إنسانة .. أنها شريكة فى أمور الحياة .. وكفت المرأة كذلك عن التفكير فى الرجل على أساس الجنس والعلاقات الجنسية ، ورأت فيه الزميل والشريك والإنسان ..
أى تهذيب للجنس أشد من ذلك التهذيب ؟!(1/154)
وابتلع " الأمميون " الكأس المسمومة .. وشربوها حتى الثمالة !
ولا شك أن الأمميين ما كانوا ليدركوا أبعاد اللعبة بكاملها .. وإلا فإن البقية الباقية من الدين والأخلاق التقاليد كانت قمينة أن تردهم عن الخوض فى المستنقع الآسن لو رأوه على حقيقته منذ أول خطوة ، مع كل المعركة القائمة ضد الكنيسة ، ومع كل الوهن الذى أصاب الدين فى نفوسهم ، فإن الفكرة ذاتها لتنفر من المستنقع الآسن حين تكون فيها بقية من باقيا السلامة أيا كان مقدارها .. ولكنها لا تعود تنفر منه ، بل تستعذب البقاء فيه إذا غرقت فيه بالفعل وفقدت كل سلامتها ولم يبق لها منها شئ ، وتصبح كدودة الأرض التى تعيش فى الطين العفن ، إذا أمسكت بها لتخرجها أفلتت منك وزادت لصوقا الطين !
وكلك سار الشياطين بالأمميين ، يجرونهم خطوة خطوة حتى أغرقوهم فى المستنقع الآسن وجلعوهم يستعذبون البقاء فيه !
احتدمت المعركة كثيرا بالنسبة لدخول الفتيات فى الجامعة .. ولكن النهاية كانت كما كان متوقعا منس ير الأحداث .
دخلت فتيات قليلات فى مبدأ الأمر إلى الجامعات معظمهن فى كليات الآداب .. وكن بلا شك هن أجرأ الفتيات فى ذلك الحين .
وسارت الأمور سيرا " طبيعيا " فترة من الوقت ، فما كان من الممكن تحطيم التقاليد دفعة واحدة ، وما كان المخططون أنفسهم يرغبون فى العجلة - مع لهفتهم الأكيدة فى الوصول إلى النتيجة - فقد كانوا يعلمون أن العجلة تفسد اللعبة بأكملها ، وتثير التوجس ، وتصدق ظنون المتشككين ، وتؤيد دعاوى " المتزمتين " الذين قالوا من أول لحظة إن دخول الفتاة الجامعة نذير شر عظيم يحل بالمجتمع .
وكل للفتيات حجرة خاصة من أجل راحتهن وزينتهن وخلوتهن .. وكن يهرعن إليها فيما بين المحاضرات لكى لا ينفردون بالطلاب فى غيبة الأستاذ ، الذى يتم فى حضوره " الاختلاط البرئ " .
ولكن الأمور لم تظل على هذه الصورة ، وليس من شأنها أن تظل .. وكان المخططون يعلمون أنها لن تظل !(1/155)
رويدا رويدا بدأت " أجرأ " الفتيات تتلكأ فلا تذهب إلى حجرتها فيما بين المحاضرات .. وبدأ أجرأ الفتيان يلقى إليها بتحية .. ثم حديث .. وجاءت ثانية وثالثة .. وصار من المعتاد أن يبقى الفتيات فى الحجرة لا يغادرنها بين الدرس والدرس .. وصار من المعتاد أن تجرى التحية ويجرى الحديث ..
وكان حديثا " بريئا " دون شك ! فمنذا الذى يملك أن يتحدث فى ذلك الحين حديثا غير برئ ؟ وأى فتاة مهما يكن من " جرأتها " تستطيع - فى ذلك الوقت - أن تتلقى حديثا غير برئ وتتقبله أمام الآخرين ؟!
بقية من الحياء ، إن لم يكن هناك دين ولا أخلاق ولا تقاليد !
وهذه البقية من الحياء هى التى عمل الشياطين على قتلها والقضاء عليها ، فما تصلح الخطة كلها إن بقى عند الفتاة شئ من هذا الحياء الفطرى الذى خلقه الله فى الفطرة السليمة سياجا يحمى الفتاة من السقوط والتبذل ، وميز به أنثى الإنسان عن إناث الحيوان " 80" ، كما جعل لعفة علامة حسية فى جسدها ميزها بها عن إناث الحيوان ، فجعل أخلاق الجنس جزءا لا من التكوين النفسى وحده ، ولكن من التكوين البيولوجى والفسيولوجى كذلك لأنثى الإنسان .
ولكن الجاهلية المعاصرة التى يقودها اليهود ويقودون الناس إليها تأبى هذا التميز الفطرى عن الحيوان ، وساء فى قضية العفة أو فى قضية الحياء .. لأن شعب الله المختار لا يريد أن يبقى على شئ من آدمية الآدميين ، لأنهم حينئذ سيرفضون أن يركبهم الشعب المختار ويسخرهم لمصالحه .. سيرفضون أن يكونوا الحمير التى تركبها الشياطين .
لذلك جردوا حملاتهم على الفتاة لتتلخص مما بقى من حيائها ، وتصبح قليلة الحياء !(1/156)
قالوا عن الفتاة التى ما تزال تحفظ فى سلوكها إنها حبيسة التقاليد ! حبيسة القيود الطويلة التى غللتها خلال القرون ! إنها ما تزال غير واثقة فى نفسها ، من تأثير السلطان الطويل الذى مارسه الرجل عليها واذل به كرامتها ! إنها خائفة .. لأنها متأثرة بتقاليد المجتمع الزراعى المتأخر ! إنها لا تريد أن تعيش عصرها ، الذى حررها من القيود وجعلها مساوية للرجل .. إنها .. إنها .. أنها .. !
وفى الوقت ذاته جردوا حملات التشجيع لكل فتاة خلعت حياءها وأصبحت قليلة الحياء .. فالمجلات تنشر الصور ، وتشيد " بالتحرر " وتكتب التعليقات التى تجعل كل فتاة تتمنى أن لو استطاعت من لحظتها أن تتجرد من حيائها كله لتصبح شهيرة ومعروفة وموضع حديث بين الناس .. والشهرة شهوة لا ينجو من جذبها أحد من البشر - رجالا أو نساء - إلا من رحم ربك ، وبصفة خاصة شهوة نشر الصورة بوسيلة من وسائل الإعلام .. فكيف إذا كانت الفتاة جميلة ؟ والشياطين يبدأون دائما بالجميلات !
ومع ذلك فقد استغرق الشياطين قرابة نصف قرن حتى أذابوا أو أزالوا البقية الباقية من الحياء ، كما أزالوا البقية الباقية من الدين والأخلاق والتقاليد .
امتد الاختلاط البرئ كما كان متوقعا من حجرة الدرس إلى فناء الجامعة .. على استحياء أول الأمر .. لا تنفرد فيه فتاة وحدها مع فتى بمفرده ، حتى لا تضيع سمعتها بين الفتيات أنفسهن قبل الشبان .. ثم تقدمت " أجرأ " الفتيات ، أى أقلهن حياء فقبلت دعوة أجرأ الشبان إلى الوقوف أو المسير معها لحظة منفردين فى الفناء ولكن فى غير عزلة عن الجموع ، وفى أدب ظاهر للجميع .(1/157)
وما هى إلا أن يتعود الطلاب المنظر - والنفس تتبلد على المنظر المكرور حتى تفقد حساسيتها له ، ما لم تكن تصدر عن عقيدة حية وإيمان حى بقيم ومثل مضادة - ما هى إلا أن يتعود الطلاب حتى يتكرر المنظر بين أزواج متعددين من أجرأ الفتيات وأجرأ الفتيان ، حتى يصبح الأمر عاديا وميسرا لا يحتاج إلى " جرأة " فيقتحمه كل فتى وتقتحمه كل فتاة !
وحين يصبح الجميع كذلك أو الأغلبية فلابد - فى طبائع الأشياء - أن يخطو الأمر خطوة جديدة إلى " الأمام" !
إنه - لهذا - جعل الله معيار الخيرية فى أية أمة هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ومثار اللعنة على أية أمة ألا يتناهى فيها عن المنكر ولا يؤمر بالمعروف .
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [سورة المائدة 5/78-79]
لأن المنكر إذا نهى عنه تو حدوثه يتوقف فلا يمتد ولا يتوسع .. أما إذا سكت عنه فإنه يزداد ، ويظل فى ازدياد حتى يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا ، وعندئذ تفسد الحياة ، وتحل اللعنة التى كتبها الله ..
ولقد أصبح من الأمور المعتادة أن ينتحى فتى وفتاة جانبا من الفناء ليتناجيا لا ليتحدثا حديثا عاما بصوت مسموع ! وتبدأ - بطبيعة الحال - قلوب تكون أميل إلى قلوب .. ويكون حديث النجوى هو حديث هذه العواطف التى تتجاوب بها القلوب !
والعواطف - حتى الآن - " بريئة " !
لا لأنها فى طبيعتها بريئة .. ولكن لأنها - حتى الآن - محصورة فى داخل الجامعة لا تستطيع أن تخرج إلى الطريق .. لأن المجتمع لم يتعود بعد أن يرى الاختلاط فى قارعة الطريق ..(1/158)
لقد كانت هناك طبقة فاسدة - دائما - فى المجتمع هى طبقة " الأرستقراطيين " أصحاب القصور ، وهذه يعرف عنها الاختلاط " غير البرئ " وتنشر فضائحها على المجتمع وتتناقلها أفواه الناس .. وال تبالى ! لأنها - دائما - بتأثير الترف الفاجر الذى تغرق فيه ضعيفة الإحساس بالقيم فى المبادئ ، والقيم الخلقية بصفة خاصة .. وانظر إلى امرأة العزيز فى مجتمع مقرف فى التاريخ .. انظر إليها كيف تصارح نساء طبقتها بالفاحشة ولا تبالى أن يتحدث المجتمع عن " فضيحتها " ..إنما تغضب غضبا " طبقيا " فقط ، لأن ألسنة النسوة تستنكر منها أن تتجه بنزوتها إلى عبد مملوك لها ، وإن كن لا يستنكرن النزوة فى ذاتها ، ولا يعترض عليها لو كانت مع رجل أو شاب من " طبقتها " "81" !
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} [سورة يوسف 12/30-32]
ولقد كانت هذ الطبقة فى أوروبا تحت تسلط اليهود من قديم كما مر بنا من قبل ، ييسرون لها البغاء المترف فى المدينة ، ويوقعونها فى الدين والربا ذى الأضعاف المضاعفة ، ويسلبون ثرواتهم عن هذا الطريق.(1/159)
ثم سنحت لهم الفرصة لإفساد طبقة أخرى من طبقات المجتمع حين تحرر عبيد الإقطاع وجاءوا إلى المدينة شبابا فارها بلا أسر ، فيسرت لهم البغاء الشعبى ووضعت " الدولة " حارسة أمينة عليه ! وزادت الفرصة سنوحا لإفساد هذه الطبقة - طبقة العمال - حين بدأت المرأة التى هجرها عائلها فى الريف تفد للعمل فى المصانع وتفرط فى عرضها لقاء لقمة الخبز ، فار الفساد فى داخل الطبقة قريب المنال .
ولكن هذا وذاك لم يكن كافيا ، ولم يكن ليحقق مطامع اليهود فى المجتمع الجديد " المجتمع الصناعى المتطور ".
إن " الأرستقراطية " - سواء الأرستقراطية الإقطاعية البائدة أو الأرستقراطية الرأسمالية الناشئة - لا تستطيع - بفسادها - أن تفسد المجتمع كله ، لأنها - دائما - معزولة فى قصورها وحفلاتها الماجنة الخاصة ، تحتمى فى داخل تلك القصور من العيون المتطلعة ، وتمنع عدواها فى الوقت ذاته عن الناس ، لأن جرثومتها " طبقية ط لا تعمل إلا داخل القصور ، ولا تعدى إلا أصحاب القصور !
أما إفساد طبقة العمال - وإن كانوا عددا غير قليل ويتزايد على الدوام - فلم يكن يومئذ ليفسد المجتمع الجديد ، لأنهم - بعد - طبقة محتقرة مزدراة ، تنظر إليها كلتا الطبقتين العلويتين : الطبقة الوسطى والطبقة الأرستقراطية نظرة ازدراء وتعال فلا تنتقل منها العدوى إلى غيرها مهما بلغت هى فى ذاتها من التبذل والفساد ..
ولقد كان المطلوب بالذات هو إفساد الطبقة الجديدة الناشئة فى المجتمع الرأسمالى ، التى تسير الأمور - ظاهريا - على الأقل - فى ذلك المجتمع الجديد ، وهى الطبقة المتوسطة .
لقد كانت الديمقراطية الناشئة فى المجتمع الرأسمالى الناشئ تنمو تدريجيا ، وكانت فى أثناء نموها تبرز بصورة متزايدة هذه الطبقة الجديدة : الطبقة المتوسطة ،التى لم يكن لها وجود فى المجتمع الإقطاعى ، أو كان وجودها ضعيفا لا يؤبه به .(1/160)
وفى ظل الديمقراطية كانت هذه الطبقة الجديدة تناضل لكى تصبح هى الطبقة الحاكمة ، وتنزع السلطان من الذين استقلوا به من قبل وطغوا به على " الشعب " وهم الأغنياء أصحاب الأموال " 82" .
كانت المجالس النيابية تتجه رويدا رويدا أن تكون غالبيتها من هذه الطبقة ، وكان منها معظم موظفى الدولة فى صورتها الجديدة ، من الموظف الناشئ إلى وكلاء الوزارات والوزراء ، وكان منها بصفة عامة الطبقة المثقفة التى توجه أفكار المجتمع وتحدد له اهتماماته واتجاهاته الفكرية والسياسية والخلقية والفنية .. الخ " 83 " ، وكان منها بصفة خاصة مدرسو المدارس وأساتذة الجامعات ، أى جهاز التربية والتشكيل للمجتمع الجديد ..
باختصار كانت هى الأداة الجديدة للحكم فى ظل الديمقراطية الرأسمالية ، أيا كان المستفيد الحقيقى من هذه الأداة .
لذلك كان لابد فى تخطيط المخططين من إفساد هذه الطبقة بالذات ن فإن فساد الطبقة الأرستقراطية وطبقة العمال - مع فائدته التى لا شك فيها بالنسبة لليهود - لم يكن ليؤدى الدور المطلوب فى إفساد المجتمع الجديد الذى يراد إفساده بأكمله ، إلا أن تفسد الطبقة المتوسطة التى تقوم بالدور الأكبر والأخطر فى رسم الصورة الظاهرة لهذا المجتمع ، والتى فى يدها - فى ظاهر الأمر على الأقل - مقاليد السلطان .
والجامعة هى المكان الرئيسى لتخريج الكثير من أفراد هذه الطبقة ، أو البارزين منهم على أقل تقدير . لذلك كانا لتركيز على أن يبدأ الفساد من هناك .. ومن هناك ينتشر فى جميع الأرجاء .
? ? ?
كان الاختلاط " البرئ " ما يزال يجرى داخل أسوار الجامعة ، ولكنه كان يحمل فى أطوائه الجرثومة التى تقضى فى النهاية على براءته ، فقد بدأت " العلاقات الخاصة " تنمو بين أزواج من الفتيان والفتيات كما لابد أن يكون ..وبدأت هذه العلاقة الخاصة تضيق بالانحصار داخل الأسوار ، التى تفرض البراءة المصطنعة على وضع هو بطبيعته غير برئ .(1/161)
وكان لابد أن " يتفجر " الوضع ويخرج إلى الطريق ..
وأخذ المجتمع يتعود أن يرى أزواجا من البنين والبنات يخرجون من بناء الجامعة مصطحبين ، فى أدب ظاهر أول الأمر ، ثم يخف الأدب ويقل الحياء بالتدريج .. وأيا كان رأى ذلك المجتمع فى هذه البدعة الجدية فإنه سرعان ما تبلد حسه عليها فلم تعد تثير انتباهه ، إلا أن يرى حركة مستهجنة (أى كانت فى ذلك الوقت مستهجنة) كضحكة أو لفتة أو نظرة أو لمسة مما كان - يومئذ - أمرا غير لائق فى الطريق ! ولكنه عاد فتبلد حسه حتى على الحركات التى كان يستهجنها منق بل ، وعزاها - ببساطة - إلى أن هذا الجيل الجديد جيل فاسد لا يرجى منه خير ، وألقى القضية من حسه ، وتركها لتصبح أمرا واقعا فى المجتمع " الجديد " !
وملأت " الصدقات " المجتمع .. الصداقات بين الفتيان والفتيات صداقات بريئة - هل فى ذلك شك ؟!
زميل وزميلة .. أحس كل منهما بالميل إلى الآخر والراحة إليه ..
ويلكم أيها المتزمتون ! أليس لكم هم إلا الاعتراض على الأمور التى لا تستوجب الاعتراض ؟! ألا تريدون أن يبنى البيت السعيد على المودة والحب ؟ هذا فتى وفتاة سيجمع بينهما الزواج السعيد عما قريب ! أليس من الأفضل أن يتعارفا لتدوم المودة ؟ أم تريدون أن يؤتى له بفتاة لم يرها قط إلا ليلة الزفاف ، رأتها أمه أو أخته ، فأعجبتها ، أما هو فلا يعرف شيئا عن شكلها ولا طبعها ولا ثقافتها ولا نظرتها للأمور ؟!
وهى ؟ أليس من حقها أن تعرف شريك حياتها وتشارك فى اختياره ؟ أليس من الظلم أن تباع بيعا إلى رجل لا تعرفه قبل اللحظة ، لأنه أعجب أباها أة أخاها ، أو كان صاحب مال وجاه ، وقد يكون فظا قاسيا لا قلب له ؟ أليس من الأفضل أن تتعرف إليه عن طريق الصداقة ..الصداقة البريئة .. التى تكشف عن الطبائع وتؤلف الطباع ؟!
? ? ?
ثم بدأت " البراءة " تذهب رويدا رويدا عن الاختلاط .
بدأت تقع حوادث مشينة .. أى كان ينظر إليها فى ذلك الحين على أنها مشينة !(1/162)
وانبرى المدافعون يدافعون عن الاختلاط . إنه ليس هو السبب فيما حدث ! إنما هى التجربة الجديدة لابد أن يكون لها ضحايا ! إنها تجربة " التحرر " ..تحرر الفتى والفتاة كليهما من القيود العتيقة والتقاليد البالية .. والفتاة بصفة أخص ، فقد كانت هى التى يقع عليها عبء هذه التقاليد البالية .. فإذا وقعت هنا أو هناك حادثة مشينة فذلك رد الفعل للكبت الطويل الذى كان الشباب يعيش فيه ، وللقيود الظالمة التى كانت تعيش فيها الفتاة بصفة خاصة ، فلا ترفعوا عقيرتكم أيها المتزمتون تستغلون هذه الحوادث الفردية وتضخمونها فوق حقيقتها ! إنها نزوات طارئة ، وسرعان ما تهدأ الأمور وتستقيم حين يصبح الاختلاط شيئا عاديا فى المجتمع ، وتزول آثار الكبت الماضية ، وآثار التقاليد البالية التى سجنت الفتاة طويلا داخل الجدران ، وجعلت التجربة الجديدة - تجربة التحرر - تبهرها فتزل من أجل ذلك بعض الأقدام ! لابد أن نرعى التجربة الجديدة ، ونوجهها بالحسنى إلى الطريق القويم ، بدلا من هذا الصياح الفارغ الذى يتصايح به المتزمتون !
ويمضى الزمن فى طريقه فتتكاثر الحوادث المشينة ، ويخفت صوت المدافعين عن الاختلاط البرئ ، فقد فقد براءته ولم يعد من المقبول ادعاؤها ولا من الممكن تصديقها !
ولكن .. فلتذهب تلك البراءة إلى غير رجعة ! هل كنا نريدها حقيقة أو ندافع عنها مخلصين ! إنما كانت هى الطعم المزيف الذى وضعناه ليأتى الصيد .. وقد جاء .. فما حاجتنا بعد للتزييف " 84" ؟!
ولكن " تطورات" كثيرة كانت تحدث فى تلك الأثناء .. كانت ألسنة اللهب تمد مدا لتحرق أشياء جديدة فى مجالات جديدة ..
طالبت المرأة - أو طولب لها - بحق العمل بعد حق التعليم .
وله كان فى ذلك شك لمن يرقب سير الأمور ؟(1/163)
هذه هى الفتاة قد تعلمت على خط الرجل تماما من الألف إلى الياء .. من التعليم الابتدائى حتى الجامعة .. و" أثبتت جدارتها " فى كل مرحلة من هذه المراحل ، بل تفوقت على الرجل فى كثير من الأحيان .. فلماذا لا تعمل كما يعمل ؟! ما الذى يمنع ؟!
الدين ؟ الأخلاق ؟ التقاليد ؟!
لقد رفع " الرج " هذه الشعارات كلها فى وجه المرأة ليصدها عن السير فى هذا الطريق ..
وقال المدافعون كما قالوا كل مرة : إن الرجل يخشى على مكانته التقليدية وتميزه التقليدى ، ويخشى منافسة المرأة له فى ميدانه الوحيد المتبقى له بعد أن تخلى عن تفرده فى جميع الميادين بفعل الكفاح " المر " الذى خاضته المرأة لنيل حقوقها .. وسيتخلى عن هذا الميدان كذلك رضى أم أبى .. لأن خطى " التطور الحتمى " ستجبره فى النهاية على التسليم .
ولكن الرجل لم يتنازل عن تفرده فى هذا المجال بسهولة ، وظل يرفع تلك الشعارات يحاول بها أن يصد المرأة عن اللحاق به فى هذا الميدان ..
هل كان يؤمن حقيقة بالدين والأخلاق والتقاليد ؟
كلا ! إنما هو مجرد سلاح يستخدمه فى المعركة حين يظن أنه سلاح مفيد !
ولكن الشياطين دخلوا مرة أخرى يستغلون الفرصة السانحة أقصى ما يستطيعون من استغلال .
دخلوا ليثيروا فى قلب المرأة حقدا جارفا على الدين والأخلاق والتقاليد .. على أساسا أن كل ما تطالب به المرأة هو حقوقها المشروعة ، وأن الذى يقف فى سبيل نيلها لهذه الحقوق هو هؤلاء الأعداء الثلاثة : الدين والأخلاق والتقاليد .. فلتذهب جميعها إذن إلى غير رجعة ، لتنال المرأة حقوقها وتستريح.
واكن هذا لأمر يراد ..
كان يراد إحراج صدرها ضد الدين والأخلاق والتقاليد لتنسلخ هى منها أولا ، ثم لا تربى أبناءها عليها فيما بعد ، لأن ذلك هو الضمان الوحيد لإفساد المجتمع فسادا لا رجعة فيه !(1/164)
لقد جرب المخططون من قبل محاولة إفساد المجتمع عن طريق إفساد الرجل وحده فلم تنجح التجربة بالصورة المطلوبة .. إن الشاب مهما فسد فى فترة شبابه فإنه يعود إلى ما لقنته له أمه فى طفولته من مبادئ الدين والأخلاق والتقاليد ، حتى إذا أخذ يؤسس أسرة أسسها على تلك القيم التى تلقاها من قبل ، ولم تفلح الفترة التى انفلت فيها فى شبابه فى تحويله إلى المسار الجديد ..
وعندئذ أدركوا أنه لابد من إفساد الأم ذاتها لكى لا تلقن أطفالها تلك " المبادئ " التى تعرقل خطوات الشياطين .. وساروا بها تلك المسيرة الطويلة فى طريق الفساد ، ولكن الحواجز - أو بقايا الحواجز - ما تزال تمنعها أو تبطئ خطواتها على الطريق .. فلتكن المعركة إذن حامية بين المرأة وبين الدين والأخلاق والتقاليد ، لكى تحطمها بنفسها ، ولكى تكون فى مناعة كاملة منها حين تصبح أما ذات أطفال .. فلا تبذر فى نفوسهم تلك البذور السامة التى يكرهها شعب الله المختار ن أشد ما يكره من شئ على الإطلاق !
لقد كانت مسألة إقحام المرأة فى ميدان العمل جزءا رئيسيا من الخطة الشريرة .
فإخراجها من البيت لتتعلم ، وإشاعة الاختلاط والصداقات بين فتيان الجامعة وفتياتها ، وتعويد المجتمع على قدر من الفساد الخلقى ، وتحطيم التقاليد التى كانت تمنع ذلك كله .. كل ذلك مفيد ولا شك ، ولكنه ليس كفاية !
ما زالت المرأة - بقدر ما - خاضعة للرجل فى الأسرة والمجتمع ، وما زال هذا القدر من الخضوع - على ضآلته بالنسبة لما كان من قبل - عائقا يعوق المرأة عن مزيد من الفساد ن لأن الرجل - بأنانيته كما يقولون ، أو بشئ من التعقل والتفكير وعدم الاندفاع - يعارض فى توسيع مجالات المرأة ، ويريد أن يربطها بوظيفتها وببيتها وأولادها ، ولك كله يعوق خطوات الشياطين .
لذلك كان لابد من إخراج المرأة نهائيا من سيطرة الرجل ، ليتم للمخططين كل ما يريدون .(1/165)
وهل من وسيلة لكسر هذه السيطرة أفعل من أن تعمل المرأة و" تستقل " اقتصاديا عن الرجل ؟
لقد عملت المرأة من قبل فى المصانع ، ولكن الطبقة العاملة كما قلنا لم يكن لها وزن فى توجيه المجتمع .. والفساد الخلقى فى هذه الطبقة - رغم فائدته الجزئية للمخططين - لا يكفى وحده ولا يؤتى الثمرة المطلوبة ، إنما لابد كما أسلفنا من إفساد الطبقة الوسطى ، أداة التوجيه الجديدة فى المجتمع الجديد .
ولم يقل المخططون للأمميين بطبيعة الحال إنهم يريدون أن يثيروا الخبال فى صفوفهم - بتشغيل المرأة المتعلمة وإبعادها عن بيتها وعن وظيفتها - وما كان من الممكن أن يكشفوا لهم عن لبتهم ليوقظوهم من غفلتهم ، إنما قالوا لهم إنه " التطور " ! وإنه تطور " حتمى " ! وإنه لابد أن يأخذ سبيله رضيه الناس أم أبوه ! أما المرأة فقد قالوا لها إن هذا حقها " الطبيعى " وإنها ينبغى أن تتشبث به ولا تتنازل عنه ولا تتخاذل فى الكفاح من أجله .
وأغريت المرأة بكل وسائل الإغراء لكى تهجر بيتها وتخرج إلى " المجتمع " !
قيل لها إن حبسها على وظيفة الزوجية والأمومة ورعاية النشء هو امتهان لها وإهدار لكرامتها وتعطيل لطاقتها ، وهو فى الوقت نفسه تعطيل للمجتمع عن التقدم ، فما يستطيع المجتمع أن يتقدم ونصفه حبيس وراء الجدران !
وقيل لها إن الرجل هو الذى حبسها على هذه الوظائف أنانية منه ، لتقوم على خدمته ، ولينفرد هو بأمور "المجتمع " ! وإنها منذ هذه اللحظة ينبغى أن تثور على هذا الوضع المهين ، وتقف الرجل عند حده ، وتفرض عليه احترامها ، وتفرض عليه المشاركة فى أمور المجتمع .ز وإن الوسيلة لهذا كله هو أن تعمل ، فإنها حين تعمل تصبح مثله تماما فى كل شئ ، فيتنازل عن أنانيته وغطرسته ويحترمها !(1/166)
ولما قيل إن الدين - لا الرجل - هو الذى خصص للمرأة هذه الوظائف ثارت ثائرتها على الدين ، وتمنت فى قرارة نفسها أن يزول سلطانه على النفوس ، لتتحر هى وتأخذ مكانتها التى تصبو إليها ..و بذلك جندها الشياطين لمحاربة الدين ، تحاربه لحسابها الخاص ، فتحاربه بحماسة ، وتحاربه بإخلاص ! يتحقق للشياطين ما يريدون من إبعاد " الأم " عن الدين ، لضمان تنشئة الأجيال المقبلة بعيدا عن حماه ..
وفعلت اللعبة الخبيثة فعلها ، وسرت كالسم فى دماء الأمميين .
استقلت المرأة اقتصاديا وتمردت على قوامة الرجل ، كما تمردت على الدين والأخلاق والتقاليد .. وانفلتت - كما أريد لها - بلا ضوابط ولا قيود .
وسارع الشياطين إلى انتهاز الفرصة المتاحة من كل جوانبها .
فالآن فلتنشط بيوت الأزياء وبيوت الزينة ، بعد أن انحلت العقدة الكبرى التى كانت تبطئ خطى الفساد "85"
ولقد كانت الملابس من قبل طويلة وساترة إلى حد ما - برغم ما فيها من زينة - لا تبرز " مفاتن " المرأة بشكل مفضوح . فالآن وقد سنحت الفرصة فلتنشط بيوت الأزياء فى إخراج " المودات " اتى تكشف رويدا رويدا عن هذه " المفاتن " ، ولتنشط معها الصحافة لنشر الأمر على أوسع نطاق .
فلتكن هناك مجلات خاصة بالمرأة ، وركن خاص بالمرأة فى الصحف والمجلات غير المتخصصة ،وليكن حديثها عن " المودة " مغريا إلى الحد الذى لا تفلح الضوابط فى مقاومة إغرائه ، خاصة وقد انحلت عقدة الحياء .
ولا شك أن الأحاديث الأولى كانت مهذبة جدا ومتحفظة جدا حتى لا تثير ثائرة المتزمتين من الرجال .. ماذا لو قلنا مثلا : كيف تحافظين على محبة زوجك ؟ كيف تبدين أنيقة فى نظر زوجك ؟ وأرفقنا بالرسوم التى تبعث على الفتنة مجموعة من النصائح للمرأة المتزوجة لكى تحافظ على أناقتها ورشاقتها حتى تحتفظ بحب زوجها ولا تجعله يشرد عنها ؟ وهل يكره الرجل أن تتجمل زوجته من أجله ؟!(1/167)
ثم .. فلنحذ لفظ الزوج .. فهو لفظ ثقيل استخدمناه لتغطية فقط فى مبدإ الأمر .. وما نريد أن يكون ل نصيب أصلا فى هذا المجال .. ثم إنه لم يعد اليوم هو المسيطر .. لقد استقلت المرأة اقتصاديا .. وتستطيع - من سكبها الخاص - أن تنفق ما تنفق على اللباس والزينة ، ولا أحد يحرج عليها ، ولا أحد يتحكم - بماله - فى تصرفاتها !
فلنقل فقط : كيف تحافظين على أناقتك .. كيف تبدين جميلة ..ز ولينظر إليها من ينظر ! زوجها أو غير زوجها ! إنها سائرة بأناقتها ورشاقتها فى الطريق ، ومن شاء فلينظر ومن شاء فليعرض .. إننا نحث فقط على الأناقة والجمال !
ثم فلنكن أكثر صراحة ..
فلنقل : كيف تجذبين نظر " الرجل " ى رجل ! نعم ! وماذا فيها ؟
ألا ينبغى أن " ينجذب " نظر الرجل ليختار من بين العابرات الرشيقات المتأنقات واحدة ربما تكون شريكة حياته ؟!
ثم .. فلنكن أكثر صراحة .. فنحن الآن فى وضع يمكننا من أن نقول كل ما نريد .. وبغير ستار ..
فلنقل : صراحة - هاذ فستان يكشف جمال الساق .. وهذا فستان يكف مفاتن الصدر " 86" وليمت بغيظه كمدا من أراد أن يموت من الرجعيين المتزمتين الذين يريدون أن يرجعوا عقارب الساعة إلى الوراء !
وخرجت المرأة فتنة هائجة فى الطريق ! كأن مهمتها الأولى هى أن تبرز مفاتنها لكل عين منهومة فى الطريق!
واتسع نطاق " الصداقات " فى المجتمع ، فلم يعد مقصورا على طلاب الجامعة وطالباتها كما كان فى أول الأمر ، فإنما كانت هذه مجرد خطوة على الطريق .. أما اليوم وقد استقلت المرأة اقتصاديا فأى حاجز بقى ؟!
قيل فى البدء إن الصداقة هى مقدمة الزواج .. وإنها ينبغى أن تباح - بصرف النظر عن براءتها أو عدم براءتها - لضمان قيام الزوجية على أسس ركينة فلا تتزعزع فيما بعد !
ثم انجلت الحقيقة عن أنه لا زواج ! فلا الزواج فى نية الفتى العابث ولا فى نية الفتاة !(1/168)
الصداقة من أجل الصداقة لا من أجل الزواج .. من أجل المتعة .. من أجل قضاء " وقت يطب " فى هذه الحياة !
إن المخططين لا يريدون أن يكون الزواج هو الذى يحكم علاقة الرجل والمرأة ، أو - على الأقل - لا يريدون أن يكون الزواج هو الصورة الوحيدة لهذه العلاقة إن لم يستطيعوا - الآن - ان يقضوا قضاء مبرما على الزواج .
ألم تسمع إلى قول دوركايم : كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هى أشياء من الفطرة .. ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان ! لقد كان " العالم الكبير " يقوم بدوره - على طريقته - فى تحطيم الزواج والأسرة ، والآن تقوم العصابة الأخرى - على طريقتها - بذات الدور.
ينبغى أن تحل " الصداقة " محل الزواج ، وليتم فيها كل ما يتم فى الزواج ولكن دون رباط مقدس ولا أسرة ولا أولاد !
تحتجون أيها المتزمتون ؟!
أما قرأتم فرويد ؟ أما قرأتم ما قاله عن الكبت ؟
أتريدون أن تتلفوا أعصاب الشباب وتصيبوه بالعقد النفسية والاضطرابات العصبية ؟
أو .. قولوا لنا ماذا يفعل الشباب بطاقته الجنسية الفوارة ؟
يتزوج ؟ قولوا لنا كيف يتزوج ؟ تعالوا معنا نناقش الواقع ؟ كم سنة يقضى الشاب فى التعليم حتى يتخرج من الجامعة ؟ وحين يتخرج كم يكون راتبه ؟
أيكفى هذا الراتب الهزيل لتكوين أسرة والإنفاق عليها ؟ إن أمامه على الأقل عشر سنوات حتى يصبح راتبه كافيا - مع ارتفاع تكاليف المعيشة - للزواج وتكوين الأسرة .. فماذا يفعل فى تلك الأثناء ؟ تريدون أن تحرقوا أعصابه أيها الرجعيون باسم الدين والأخلاق والتقاليد ؟!
? ? ?
يقول " ول ديورانت " الفيلسوف الأمريكى فى كتابه " مباهج الفلسفة " " ص 126 - 127 من الترجمة العربية " .(1/169)
" فحياة المدينة تفضى إلى كل مثبط عن الزواج ، فى الوقت الذى تقدم فيه إلى الناس كل باعث عل الصلة الجنسية وكل سبيل يسهل أداءها . ولكن النمو الجنسى يتم مبكرا عما كان من قبل ، كما يتأخر النمو الاقتصادى . فإذا كان قمع الرغبة شيئا عمليا ومعقولا فى ظل النظام الاقتصادى الزراعى فإنه الآن يبدو أمرا عسيرا وغير طبيعى فى حضارة صناعية أجلت الزواج حتى بالنسبة للرجال حتى لقد يصل إلى سن الثلاثين ،و لا مفر من أن يأخذ الجسم فى الثورة ، وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان فى الزمن القديم ، وتصبح العفة التى كانت فضيلة موضعا للسخرية ، ويختفى الحياء الذى كان يضفى على الجمال جمالا ، ويفاخر الرجال بتعداد خطاياهم ، وتطالب النساء بحقها فى مغامرات غير محدودة على قدم المساواة مع الرجال ، ويصبح الاتصال قبل الزواج أمرا مألوفا ، وتختفى البغايا من الشوارع بمنفسة الهاويات لا برقابة البوليس . لقد تمزقت أوصال القانون الأخلاقى الزراعى ، ولم يعد العالم المدنى يحكم به " 87" .
ولا يناقش " ول ديورانت " تلك الأسباب التى قال إنها تعطل الشباب عن الزواج الباكر ، إنما يأخذها أمرا واقعا وقضية مسلمة وينظر إلى آثارها كذلك على أنها أمر واقع لا حيلة فيه أكثر من كلمة أسى عابرة يقولها ويدعها تمضى تصيب من تصيب !
ولكن ! أهى حقا كذلك ؟ أهى أمر لا مفر منه ؟
من الذى وضع العوائق فى طريق الزواج ، ثم وضع الصداقة (أو البغاء !) بديلا من الزواج ، ثم زعم أنه تطور حتمى جاء به الطور الاقتصادى الجديد ؟!
إنهم - كلهم - يهود !
ثم سمموا أفكار الأمميين ، فأصبحوا يرددون وراءهم ما يقولون !(1/170)
لو بقيت الأسرة الكبيرة على ترابطها وظل الأب ينفق على أولاده حتى يتكسبوا (وهم ينفقون عليه فى كبرته إذا احتاج) وظلت أسعار الحاجيات فى النطاق المعقول ، وجعلت رواتب الخريجين بحيث تكفى لتكوين أسرة أو أعطى الراغبون فى الزواج منحة تمكنهم من إنشاء الأسرة فأى حتمية كانت تقف فى طريق ذلك كله وتمنع تنفيذه ؟
كلا ! إن القضية كلها أن الشياطين لا يريدون ! لا يريدون أن يظل للأمميين دين ولا أخلاق ولا أسرة ولا زواج ، لأن هذه كلها " عوائق " تمنع دوران العجلة الشريرة التى تنشر الفساد !
لذلك أنشأوا الواقع على هذه الصورة وزعموا أنه التطور الحتمى . وأن عجلته ستسحق كل من يقف فى الطريق !
ودارت العجلة دورتها فأحدثت كثيرا من الشر .
ولندع ول ديورانت نفسه يصف جانبا من هذا الشر ، كما وجده فى بلاده فى أوائل القرن ، وكما تخيل نتائجه المقبلة . وإن كان الواقع الذى حدث بالفعل أفظع بكثير مما تخيله فى ذلك الحين :(1/171)
" ولسنا ندرى مقدار الشر الاجتماعى الذى يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسؤولا عنه . ولا فى أن بعض هذا الشر يرجع إلى ما فينا من رغبة فى التعدد لم تهذب ، لأن الطبيعة لم تهيئنا للاقتصار على زوجة واحدة . ويرجع بعضها الآخر إلى ولاء المتزوجين الذين يؤثرون شراء متعة جنسية جديدة على الملال الذى يحسونه فى حصار قلعة مستسلمة . وكلن معظم هذا الشر يرجع فى أكبر الظن فى عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعى لحياة الزوجية . وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو فى الغالب ثمرة التعود قبله . وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية فى هذه الصناعة المزدهرة ، وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه فى عالم خلقه الإنسان . وهذا هو الرأى الشائع لمعظم المفكرين فى الوقت الحاضر . غير أنه من المخجل أن نرضى فى سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية وهى تعرض علينا فى المسارح وكتب الأدب المكشوف ، تلك التى تحاول كسب المال باستثارة الرغبة الجنسية فى الرجال والنساء المحرومين - وهم فى حقى الفوضى الصناعية - من حمى الزواج ورعايته لصحة .
" ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة . لأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن فى ابتذال ظاهر . ويجد الرجل لإرضاء غرائزه الخاصة فى هذه الفترة من التأجيل نظاما دوليا مجهزا بأحدث التحسينات ومنظما بأسمى ضروب الإدارة العلمية .. ويبدو أن العالم قد ابتدع كل طريقه يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها " ..(1/172)
" وأكبر الظن أن هذا التجدد فى الإقبال على اللذة ، قد تعاون أكثر مما نظن مع هجوم دارون على المعتقدات الدينية . وحين اكتشف الشبان والفتيات - وقد أكسبهم المال جرأة - أن الدين يشهر بملاذهم التمسوا فى العلم ألف سبب وسبب للتشهير بالدين . وأدى التزمت فى حجب الحياة الجنسية والزهد فيها إلى رد فعل فى الأدب وعلم النفس صور الجنس مرادفا للحياة . وقد كان علماء اللاهوت قديما يتجادلون فى مسألة لمس يد الفتاة أيكون ذنبا ؟ أما الآن فلنا أن ندهش ونقول : أليس من الإجرام أن نرى تلك اليد ولا نقبلها ؟ لقد فقد الناس الإيمان وأخذوا يتجهون نحو الفرار من الحذر القديم إلى التجربة الطائشة " ..
" وكانت الحرب العظمى الأولى آخر عامل فى هذا التغيير . ذلك أن تلك الحرب قوضت تقاليد التعاون والسلام المتكونين فى ظل الصناعة والتجارة ، وعودت الجنود الوحشية والإباحية ، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها عاد آلاف منهم إلى بلادهم فكانوا بؤرة للفساد الخلقى . وأدت تلك الحرب إلى رخص قيمة الحياة بكثرة ما أطاحت من رؤوس ، ومهدت إلى ظهور العصابات والجرائم القائمة على الاضطرابات النفسية ، وحطمت الإيمان بالعناية الإلهية ، وانتزعت من الضمير سند العقيدة الدينية . وبعد انتهاء معركة الخير والشر بما فيها من مثالية ووحدة ، ظهر جيل مخدوع وألقى بنفسه فى أحضان الاستهتار والفردية والانحلال الخلقى . وأصبحت الحكومات فى واد والشعب فى واد آخر ، واستأنفت الطبقات الصراع فيما بينها . واستهدفت الصناعات الربح بصرف النظر عن الصالح العام ، وتجنب الرجال الزواج خشية مسؤوليته ، وانتهى الأمر بالنساء إلى عبودية خاملة أو إلى طفيليات فاسدة . ورأى الشباب نفسه وقد منح حريات جديدة تحميه الاختراعات من نتائج المغامرات النسائية فى الماضى " 88" وتحوطه من كل جانب ملايين المؤثرات الجنسية فى الفن والحياة " ..(1/173)
" لما كان اليوم هو عصر الآلة ، فلابد أن يتغير كل شئ . فقد قل أمن الفرد فى الوقت الذى نما فيه الأمن الاجتماعى . وإذا كانت الحياة الجسمانية أعظم أمنا مما كانت فالحياة الاقتصادية مثقلة بألف مشكلة معقدة مما جعل الخطر جاثما كل لحظة . أما الشباب الذى أصبح أكثر إقداما واشد غرورا من قبل فهو عاجز ماديا وجاهل اقتصاديا إلى حد لم يسبق له مثيل . ويقبل الحب فلا يجرؤ الشاب على الزواج وجيبه صفر من المال . ثم يطرق الحب مرة أخرى باب القلب أكثر ضعفا (وقد مرت السنوات) ومع ذلك لم تمتلئ الجيوب بما يكفى للزواج . ثم يقبل الحب مرة أخرى أضعف حيوية وقوة عما كان من قبل (وقد مرت سنوات) فيجد الجيوب عامرة فيحتفل الزواج بموت الحب "
" حتى إذا سئمت فتاة المدينة الانتظار اندفعت بما م يسبق له مثيل فى تيار المغامرات الواهية . فهى واقعة تحت تأثير إغراء مخيف من الغزل والتسلية وهدايا من الجوارب وحفلات من الشمبانيا فى نظير الاستمتاع بالمباهج الجنسية . وقد ترجع حرية سلوكها فى بعض الأحيان إلى انعكاس حريتها الاقتصادية . فلم تعد تعتمد على الرجل فى معاشها ، وقد لا يقبل الرجل على الزواج من امرأة برعت مثله فى فنون الحب ، فقدرتها على سكب دخل حسن هو الذى جعل الزوج المنتظر مترددا ، إذ كيف يمكن أن يكفى أجره المتواضع للإنفاق عليهما معا فى مستواهما الحاضر من المعيشة ؟(1/174)
" وأخيرا تجد الرفيق الذى يطلب يدها للزواج ، ويعقد عليها لا فى كنيسة ، لنهما من أحرار الفكر الذين ألحدوا عن الدين ، ولم يعد للقانون الخلقى الذى ظل جاثما على إيمانهما المهجور أثر فى قلبيهما ، إنهما يتزوجان فى قبو المكتب البلدى (الذى يفوح منه عبير السياسة) ويستمعان إلى تعاويذ العمدة . إنهما لا يرتبطان بكلمة الشرق ، بل بعقد من المصلحة ن لهما الحرية فى أى وقت فى التحلل منه . فلا مراسيم مهيبة ، ولا خطبة عظيمة ، ولا موسيقى رائعة ، ولا عمق ولا نشوة فى الانفعال تحيل ألفاظ وعودهم إلى ذكريات لا تمحى من صفحة الذهن . ثم يقبل أحدهما صاحبه ضاحكا ، ويتوجهان إلى البيت فى صخب .
" إنه ليس بيتا ! فليس ثمة كوخ ينتظر الترحيب بهما أنشئ وسط الحشائش النضرة والأشجار الظليلة ، ولا حديقة تنبت لهما الزهور والخضراوات التى يشعران بأنها أبهى وأحلى لأنها من زرع أيديهما . بل يجب أن يخفيا أنفسهما خجلا كأنهما فى زنزانة سجن فى حجرات ضيقة لا يمكن أن تستبقيهما فيها طويل ، ولا يعنيان بتحسينها وتزيينها بما يعبر عن شخصيتهما . ليس هذا المسكن شيئا روحيا كالبيت الذى يتخذ مظهرا ويكسب روحا قبل ذلك بعشرين عاما (لكتاب مكتوب سنة 1929) بل مجرد شئ مادى فيه من الجفاف والبرودة ما تجده فى مارستان . فهو يقوم وسط الضوضاء والحجارة والحديد حيثل ا ينفذ إليه ربيع ، ولا ينبت لهما الصيف الزرع النضر بل سيلا من المطر .. ولا يريان مع ورود الخريف قوس قزح فى السماء أو أى ألوان على أوراق الشجر بل المتاعب والذكريات الحزينة .(1/175)
" وتصاب المرأة بخيبة أمل ، فهى لا تجد فى هذا البيت شيئا يجعل جدرانه تحتمل فى الليل والنهار ، ول تلبث غلا قليلا حتى تهجره فى كل مناسبة ولا تعود إليه إلا قبل مطلع الفجر .. ويخيب أمل الرجل ، فهو لا يستطيع أن يتجول فى أنحاء هذا البيت يعزى شعوره ببنائه وغلاحه ما تصاب به أصابعه من دق المطارق .. ويكتشف بعد قليل أن هذه الحجرات تشبه تمام الشبه تلك التى كان يعيش فيها وهو أعزب ،وأن علاقاته مع زوجته تشبه شبها عاديا تلك العلاقات غير البريئة التى كان يعقدها مع المستهترات من النساء . فلا جديد فى هذا البيت ، ولي فيه ما ينمو ، ولا يمزق سكون الليل صوت الرضيع ولا يملأ مرح الأطفال لانهار بهجة ولا أذرع بضة تستقبل الزوج عند عودته من العمل وتخفف عنه وطأته . إذ أين يمكن أن يلعب الطفل ؟ وكيف يمكن للزوجين تخصيص حجرة أخرى للأطفال وتوفير العناية بهم وتعليمهم سنين طويلة فى المدينة ؟ والفطنة فيما يظنان أفضل جوانب الحب .. فيعنزمان منع السنل .. إلى أن يقع بينهما الطلاق !
" ولما كان زواجهما ليس زواجا بالمعنى الصحيح لأنه صلة جنسة لا رباط أبوة فإنه يفسد لفقدانه الأساس الذى يقوم عليه ، ومقومات الحياة . يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع . وينكمش الزوجان فى نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان ، وتنتهى الغيرية الموجودة فى الحب إلى فردية يبعثها ضغط حياة المساخر ، وتعود إلى الرجل رغبته الطبيعية فى التنويع ، حين تؤدى ألفة إلى الاستخفاف ، فليس عند المرأة جديد تبذله أكثر مما بذلته ..(1/176)
" ولندع غيرنا من الذين يعرفون يخبرونا عن نتائج تجرابنا . أكبر الظن أنها لم تكون شيئا نرغب فيه أو نريده .. فنحن غارقون فى تيار من الغيير ، سيحملنا لاريب إلى نهائيات محتومة لا يحلة لنا فى اختيارها . وأى شئ قد يحدث مع هذا ، الفيضان الجارف من العادات والتقاليد والنظم . فالآن وقد أخذ البيت فى مدننا الكبرى فىالاختفاء فقد فقد الزواج القاصر على واحدة جاذببيته الهامة . ولا ريب أن زواج المتعة سيظفر بتأييد أكثر فأكثر حيث لا يكون النسل مقصودا ، وسيزداد الزواج الحر ، مباحا كان أم غير مباح . ومع أن حريتهما إلى جانب الرجل أميل فسوف تعتبر المرأة هذا الزواج أقل شرا من عزلة عقيمة تقضيها فى أيام لا يغازلها أحد . سنهار " المستوى المزدوج " وستحث المرأة الرجل بعد تقليده فى كل شئ على التجربة قبل الزواج . سينمو الطلاق ، وتزدحم المدن بضحايا الزيجات المحطمة ثم يصاغ نظام الزواج بأسره فى صور جديدة أكثر سماحة ، وعندما يتم تصنيع المرأة ، ويصبح ضبط الحمل سرا شائعا فى كل طبقة يضحى الحمل أمرا عارضا فى حياة المرأة ، أو تحل نظم الدولة الخاصة بتربية الأطفال محل عناية البيت .ز وهذا كل شئ ! " " 89" .
إن إخراج المرأة من البيت ودفعها إلى العمل فى الخارج - أيا كانت الدوافع الت أدت إليه وايا كانت النوايا الكامنة وراءئ ذلك -قد أحدث دمارا عنيفا فى المجتمع ، لا يمكن الإحاطة بكل أبعاده ، لأنه ما زال يلد شرورا جديدة حتى هذه اللحظة .
إن تخصيص المرأة للبيت لوظيفة الأمومة ورعاية النشء لم يكن ظلما للمرأة ، ولا تحقيرا لها ، ولكن الجاهلية هى التى جعلته كذلك حين عيرت المرأة بأنها تحمل وتلد ولا تصنع غير ذلك !
والجاهلية - دائما - تظلم المرأة وتقسو عليها وتهينها وتعيرها ، ولا ينقذها من ذلك شئ إلا شرع الله ومنهجه المنزل لإصلاح البشرية وغقامة العدل فى الأرض .(1/177)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
كل جاهلية من جاهليات التاريخ عيرت المرأة بوظيفتها ، وجعلتها تشه=عر أنها دون الرجل من أجل هذه الوظيفة .. بينما يقول الوحى المنزل من عند اله :
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [سورة لقمان 31/14]
فالوصية هى بالوالدين كليهما ، لكن التكريم الأكبر هو للأم الت حملته وهنا على هن .
ويسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أولى الناس بحسن صحابتى قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال ثم من ؟ قال أمك : قال ثم من ؟ قال : ثم ابوك ! " 90 " والحديث واضح الدلالة على تكريم الأم ووظيفة اأمومة .
أما وهى زوجة فهذا هو المنهج الربانى :
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)} [سورة النساء 4/19]
ويقول رسول الله صلى الله عيه وسلم : خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى " 91 " .(1/178)
فالمنهج الربانى الذى خصص المرأة لوظيفتها لم يعيرها بها ويجعلها مهينة منأجلها ن بل كرمها من أجل تلك الوظيفة وأكرمها وهى تقوم بها ، وقال لها إن قيامها بهذه الوظيفة هو سبيلها إلى رضوان الله والجنة ، كما أن القتال فى سبيل الله هو طريق الرجل إلى رضوان الله والجنة ، فجعل هذه مكافئة لتلك ، لأن الله يعلم سبحانه أن هذا هو الميزان الصحيح الذى يقيم الحياة البشرية بالقسط ، ويعلم خطورة الدور الذى تقوم به المرأة فى رعاية البيت وتنشئة النشء ويعلم كذلك مدى الفساد الذى يمكن أن ينشأ حين تهجر المرأة وظيفتها من أجل أى شئ آخر فى هذا الوجود ، فضلا عن أن يكون هذا الشئ هو مجرد اللهو والعبث والفساد الخلقى !
ولكن الجاهلية التى يسيطر عليها اليهود ويوجهونها قد ضربت بالمنهج الربانى عرض الحائط .. واتبعت وحى الشياطين ، فأى أصابها حين فعلت ذلك وأى خبال ؟!
فأما لافساد الخلقى فحدث عنه ولا حرج !
لقد ظل الرجل - " يكافح " ضد " حقوق المرأة " ردحا من الزمن غير قليل ويعارض - بالذات - مزاحمتها له فى ميدان العمل . ولكنه أخيرا لأن فى معارضته ، بل كف عنها نهائيا وتحمس لمشاركة المرأة له فى جميع الأعمال ! فهل تغير الرجل حقيقة فى تلك الجاهلية فأصبح - فجأة - مؤثرا عادلا بعد أن كان ظالما مستأثرا لنفسه بالمكانة السامية والمنزل الرفيعة ؟! أو أن المرأة أجبرته بالفعل على احترامها كما زعمت الجاهلية وهى تزين للمرأة أن تقحم نفسها فى كل ميدان كان الرجل يستأثر به من قبل حتى ميدان الفساد الخلقى ؟!
كلا ! إنما حسب الحسبة فوجدها رابحة !
وأربح ما فيها سهولة الحصول على المرأة فى المكتب والمصنع والنادى والشارع والمرقص والملعب .. فى كل مكان !(1/179)
لم يعد يتعب فى الحصول على لذائذ الجنس ! فهى متاحة له أبدا فى كل لحظة ! بإشارة ومن غير إشارة ! فالمرأة العارية المتبرجة المبرزة " لمفاتنها " أمامه حيث ذهب ، يلقاها حيث توجه .. لا واحدة ولا عشر ولا مئات ! كلهن ! من فيهن بغير تبرج ولا زينة ولا تفتن فى " جذب " الرجل إليها ؟!
فإذا حركته الفتنة لطلب الجنس فما أيسر !
فإن كان دنئ الحس حيوانا فالبغاء الرسمى وغير الرسمى ميسر ، والمحترفات كثير ! وإن كان " مهذبا ! " " متحضرا ! " " مترفعا ! " فهناك " الصداقة" وهى متاحة أبدا بحكم الزمالة والاختلاط المستمر ، وفى الصداقة يقضى حاجة الجنس كلها ، ومعها " تقدير " المجتمع لتهذبه وتحضره وترفعه ، وقضائه حاجة الجنس مع الهاويات لا مع المحترفات !
أما هى فقد رضيت بتلقى " عواطف " الرجل ومغازلاته وإطرائه " لجمالها " و" فتنتها " و" رشاقتها " و" جاذبيتها " .. ورضيت كذلك بتلقى نزوات جسده لأنهخا هى أيضا تطلب الجنس !
أما قرأت فرويد ؟!
ألم يقل لك فرويد فى التفسير الجنسى للسلوك البشرى إن الإنسان كله طاقة جنس مترحكة تسعى لإثبات الذات عن طريق ممارسة الجنس ؟ وإن التحقيق الأكبر للذات هوالذى يتم عن طريق الجنس ؟!
ألم يقل إن أى حاجز يوضع أمام طاقة الجنس فمعناه الكبت والعقد النفسية والاضطرابات العصبية ؟
وهى أيضا لا تريد لنفسها الكبت ولا العقد ولا الاضطراب ! إنها تبحث عن " الصحة النفسية " وهذا "حقها " الطبيعى ! .. والصحة لانفسية لا تتحقق - كما ف=قال فرويد - إذا كان هناك حاجز يقف فى طريق الإشباع الجنسى !
فلما قيل لها كما قيل فى كل مرة ، الدين .. وألأخلاق .. والتقاليد ..لعنت كل أولئك وطالبت " بحقها " ! حقها فى إبداء عواطفها ! حقها فى أن تهب نفسها لمن تشاء .. فهذا هو التحرر ! هذا هو التحرر !
ألم يقل ماركس إن المرأة فى المجتمع الصناعى تتحرر لأنها تستقل اقتصاديا عن الرجل فتتحرر من سلطانه فتفقد قضية العفة أهميتها ؟!(1/180)
ما قيمة العفة ؟ من ذا الذى حرص اليوم عليها ؟!
إن الرجل ذاته قد تبلد حسه ، وفقد عرضه ، ولم يعد يهتم ! بل إنه فى سبيل لذاته الحيوانية الهابطة قد رحب كثيرا بهذا التطور الذى يسر له تحقيق رغباته دون تحمل أى مسئولية على الإطلاق .. لا مسئولية مخالفة قواعد الأخلاق ومجافاة التقاليد .. فقد ذهبت الأخلاق والتقاليد ، ولا مسئولية تحمل أعباء أسرة فى مقابل الإشباع الجنسى ، فالإشباع قد اصبح بهذا " التطور " متاحا بغير مقابل . ولا المسئولية " الجنائية " " فالصداقة " تمنع الجزاء !
وأما هى فما الذى يمنعها ؟ الحياء ؟ وماذا كان يفعل الشياطين طوال كل هذه السنوات إلا قتل هذا " العدو " الفطرى وإنشاء فتاة " جديدة " " متطورة " قليلة الحياء ؟!
من أجل ذلك " طفح " الجنس .. فى الشارع والغابة والنادى والملعب والمرقص ، والقصة والمسرح (والسينما فيما بعد) وفى المجلة والصحيفة اليومية فضلا عن المجلة المخصصة للصور العارية والإثارة الجنسية ، ووصل إلى درجة التهتك والحيوانية التى يتعفف عنها بعض أنواع الحيوان !
وبمناسبة ذكر السينما فهى فى أصلها مؤسسة يهودية خالصة فكرة ومالا وتخطيطا وتوجيها .. هدفها العمل السريع على إفساد الأمميين بما للصورة المتحركة من سحر وقدرة على التأثير . وإذا كان الأمميون اليوم " يتنافسون " فى مجال السينما ، ويتسابقون فى تحويلها إلى ماخور كبير ، فعن رضا كامل من الشياطين وتشجيع ! فما أشد ابتهاجهم بهذا التنافس والتسابق ، وما أشد فرحتهم وهم يرون اللعبة المسومة سارية لمفعول ، ولا ينجو منها فتى ولا فتاة ولا شيخ ولا شيخة ولا طفل ولا طفلة إلا من رحم ربك !
أما التليفزيون - آخر المستحدثات - فلا يحتاج إلى حديث !
فالخلاصة أن وسائل الإعلام كلها قد استخدمت على نطاق واسع لإشاعة الفساد الخلقى والتفاهة والتميع والانحلال فى كل بلاد الأرض .. والشياطين يتفرجون !
وأما تفكك الأسرة فحدث عنه كذلك ولا حرج !(1/181)
لقد كان البيت سكينة وسكنا بالزوجة التى تعمره والأم والتى ترعى أطفاله :
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [سورة الروم 30/21]
وقد جعلها الله آية يتفكر فيها الناس ويتدبرون حكمتها ..
إنه هكذا فى الفطرة التى فطرها الله يخرج الرجل يكدح فى خارج البيت ، ثم يعود فيجد السكن والسكينة والراحة الجسدية والعصبية والنفسية التى تمحو عنه آثار الكدح ، وتعده فى الصباح لكدح جديد ..
ويجئ الأطفال فيجدون أما ترعاهم بحنانها الفطرى وجهدها الدؤوب الذى يتسع لمطالبهم المتغيرة المتجددة التى لا تكف .. ويتعلمون فى حضنها معنى الحب ، تتغذى به أرواحهم الغضة فيوازن فى نفوسهم - فيما بعد - مشاعر الصراع التى يثيرها الكدح لإشباع النوازع والرغبات ..و يجدون أبا يحيط هذه الأسرة كلها برعايته وحيه وتوجيهه وقيادته ، فيتعلمون تحت قيادته الانضباط والاستقامة على المنهج ، كما يتعلمون من الأبوين معا معنى التعاون والتراحم والمودة ، وكل المعانى " الإنسانية " التى تصنع ذلك " الإنسان " .
ولكن الفطرة - بصورتها تلك - هى العدو الأكبر للذين يسعون فسادا فى الأرض :
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [سورة المائدة 5/64]
إنها هى التى تسد فى وجوههم الثغرات بما تحكم من إقامة السدود والحواجز أمام الشيطان ، بقدر ما تركز فى نفوس الأطفال من الدين والأخلاق والتقاليد المستمدة من مبادئ الدين ..
أفلا يكون تحطيم الأسرة إذن فرحا عظيما للشياطين ؟
وكان إخراج المرأة للعمل هو المعول الأكبر لتحطيم الأسرة وإن لم يكن هو المعول الوحيد .(1/182)
فبادئ ذى بدء فقد البيت سكنه وسكينته وأصبح كما قال " ول ديورانت " بحق أشبه بالفندق الذى يأوى إليه المكدودون ليقضوا فيه فترة الليل ثم ينطلقون منه فى الصباح كل إلى طريق .
وفقد الأطفال الأم .. الأم المتخصصة لرعايتهم التى يجدون عندها الحنان الفطرى والرعاية اللازمة ، فحين تعود الأم العاملة مكدودة كما يعود الرجل ، فإنها لا تجد فى نفسها ولا أعصابها فضلة تمنحها للبيت ، لا لزوج ولا للأطفال .
وعبثا تحاول الجاهلية - أو يحاول الشياطين -أن يقولوا إن الأم الصناعية فى المحضن تغنى عن الأم الحقيقة فى البيت ، فالواقع هو الذى يكذب الدعاوى الكاذبة كلها ويفندها " 92 " .
ولم يكن غياب الأم عن البيت هو العامل الوحيد فى تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال .. فهناك عنصر آخر لا يقل خطورة هو غياب " سيطرة الأب " .
إن وجود " القوامة " فى البيت أمر قرره الله {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [سورة طه 20/50] والذى أودع فى الفطرة البشرية سماتها ونوازعها وهو العليم الخبير ، الذى يعم ما يصلح لهذه الفطرة وما يصلحها .
ومن توفيقاته - سبحانه - أن أوجد فى نفس الرجل السوى القدرة على القوامة والرغبة إليها ، كما أوجد فى نفس المرأة السوية الرغبة فى قوامة الرجل والاطمئنان إليها :
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [سورة الملك 67/3]
ولكن الشياطين أرادوا أن يلغوا هذا كله ، لأن وجوده على هذه الصورة " مفسد " لمخططاتهم ، وعائق ضخم فى سبيل الفساد الذى يسعون إليه . لذلك قال " علماؤهم " إنه ليست هناك فطرة ! وإن قوامة الرجل ليست أصلا من الأصول الثابتة فى الحياة البشرية . إنما هى انعكاس لوضع اقتصادى معين ، يتغير ويتبدل حين يتغير الطور الاقتصادى ويدخل الناس فى طور جديد .(1/183)
وجاءت بقية العصابة - بكل وسائل الإعلام التى تملكها - فنفخت فى المرأة روح التمرد على القوامة ، وبدعوى المساواة الكاملة فى لك شئ .. فهى تقبل الرجل " زميلا " و" صديقا " تمنحه جسدها ويعطيها الإشباع الجنسى . ولكنها لا تقبله قيما ف البيت ولا فى المجتمع ولا فى شأن من شؤون الحياة !
ومن ثم لم يعد الرجل فى الأسرة ذلك السلطان ، إنما أصبح السلطان إما للمرأة التى تريد أن تثبت شخصيتها ، وإما منازعة دائمة بين الرجل والمرأة فى البيت ، كل يريد أن يثبت أنه هو صاحب السلطان ! وكلا الحالين مفسد لترابط الأسرة ومفسد للأطفال .
وأخيرا جدا اعترفت المؤتمرات التى تنعقد لدراسة مشكلة الأطفال الجانحين ويشترك فيها علماء من كل نوع ، فى علم النفس وعلم الاجتماع وعلم لجريمة والقانون .. الخ ، اعترفوا بأن غياب سلطة الأب فى البيت والمجتمع سبب من الأسباب الرئيسية فى تشرد لأطفال من ناحية ، وزيادة نسبة الشذوذ الجنسى من ناحية أخرى !!
ومع ذلك فليس عمل المرأة ولا الشقاق الدائم فى البيت ولا غياب سلطة الأب هى الأسباب الوحيدة لتحطيم الأسرة !
فهى - قبل ذلك - محاربة الميل الفطرى إلى تكوين الأسرة من منبعه !
ألم يقل عالهم دوركايم : كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هى أشياء من الفطرة ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان ؟!
ثم جاءت بقية العصابة فوضعت كما قال " ول ديورانت " كل المعوقات فى طريق الزواج وكل المرغبات ف الإباحية الجنسية .
ولقد كانت " الصداقة " بين الرجل والمرأة هى الأداة الكبرى فى يد العصابة لتحويل الفطرة عن مسارها .. فففى تلك " الصداقة " يجد الرجل المنحرف الفطرة والمرأة المنحرفة مكل مطالبها !(1/184)
يجد الرجل - المنحرف - متعة الجنس بلا تكاليف . لا التكاليف النفسية ولا العصبية ولا المادية .. فهو يقضى رغبته بلا معقبات .. لا زوجة يتحمل تبعتها ونفقاتها ، ولا بيت مؤثث بما يناسب الأسرة ، ولا أطفال يحتاجون إلى الرعاية وتتزايد مطالبهم على الدوام ، ولا التزام كذلك أن " يخلص " لرباط الزوجية لا يتعداه !
وتجد المرأة - المنحرفة - كذلك متعة الجنس بلا تكاليف ، ولا حمل يرهقها ويفسد " رشاقتها " ولا رضاعة ولا رعاية أطفال ، ولا مسئولية إدارة بيت متعدد التبعات ، وتجد بالإضافة إلى ذلك " زميلا " لا يطالبها بشئ .. فلا هو يطلب القوامة عليها ، ولا هى مكلفة تجاهه بالخضوع لتلك القوامة التى أصبحت تبغضها نفسها ولا تحب أن تدخل فيها .. ولا هى كذلك مكلفة بأن تكون له وحده كما تقتضى شرعة الزواج ! " 93" .
فإذا كانت الأمور كذلك فلماذا الأسرة " ووجع الدماغ " ؟!
فأما إن حدث الزواج بعد ذلك كله .. فهناك البيت المفكك وهناك نسبة الطلاق المتزايدة " 94" وهناك تشرد الأطفال !
وأما عن القلق النفسى والعصبى فتلك تقاريرهم تغنى عن الحديث .. يصيب الجنون من أفراد الشعب الأمريكى أكثر من المصابين بأى مرض آخر من الأمراض الفتاكة .. والعيادات النفسية منتشرة فى غرب أوروبا وأمريكا بدرجة ملحوظة ، ومن " الروتين " المعتاد فى الحياة الغربية أن يذهب الإنسان إلى العيادة النفسية مرة على الأقل كل شهر إن لم يكن مرة كل أسبوع لمعالجة القلق النفسى والاضطرابات العصبية ! " 95 " .
وحوادث الانتحار كثيرة كثرة تلفت النظر .(1/185)
والإدمان على الخمر والمخدرات فى زيادة مستمرة رغم كل المحاولات التى تبذل للحد من الإدمان . والدلالة واضحة ولا شك ، فلو أن الحياة سعيدة ومستقرة ما كان هناك دافع للهروب منها بالخمر والمخدر . إنما يلجأ إلى هذه " المغيبات " من يريد أن يفر من واقع مر لا يستطيع مواجهته ولا يستطيع تغييره ، فيهرب منه فى خيالات مفتعلة تنسيه مرارته لحظات .. ثم يعود أسوأ مما كان فيهرب من جديد !
والجريمة - بجميع أنواعها - فى تزايد مستمر . ووجود الجريمة ذاته له دلاله ، فإذا زادت حتى أصبحت أصلا من أصول المجتمع بحيث لا يأمن الناس على أنفسهم أن تقع عليهم فى اية لحظة جريمة خطف أو سرقة أو قتل أو اغتصاب ، ويحتاجون دائما إلى إجراءات غير عادية لوقايتهم من الجريمة .. فإنها تعنى عندئذ أن الروابط " الإنسانية " منحلة فى هذا المجتمع ، وأنه مجتمع مفكك فى حقيقته ، مهما وضع من الروابط السطحية المصطنعة على واجهته الخارجية !
وجرائم الأحداث أمر أسوأ دلالة واشد خطورة .. وقد صارت مشكلة الأحداث الجانحين مشغلة دائمة للمجتمع الغربى . تجمع لها المؤتمرات كل عام .. ثم تتزايد كل عام .
إنهم الأطفال المشردون الذين تركتهم أمهاتهم من أجل العمل فى المكاتب والمصانع والمتاجر ، وللهو والعبث فى الليل ، والذين فقدوا توجيه الأب الحازم لأن الأب ذاته قد فقد كيانه فى معركته مع " المرأة المتحررة " ، والذين علمتهم السينما والتليفزيون كيف يصبحون مجرمين !
وهذا كله غير ألوان الميوعة والتفاهة التى يعيشها الشباب ، الذى كل همه أن يكسب النقود فى النهار لينفقها فى اللهو والمجون فى الليل ، وغير ألوان " الجنون " العامة التى استولت على حياة الأمميين : جنون السينما ، وجنون التليفزيون ، وجنون الكرة ، وجنون الجنس ، وجنون " المودة " وجنون العرى ، وجنون السرعة ، وجنون التقاليع .... الخ .
? ? ?
كيف استطاع اليهود أن يحدثوا هذا الشر كله فى الأرض ؟!(1/186)
إنهم - فى الواقع - لم يكتفوا بإفساد أوروبا وإنما هم فقط بدأوا جولتهم من هناك .. ولكن هدفهم لم يكن مقصورا على أوروبا ، ونشاطهم الشرير لم يقتصر على الغرب ن إنما هم نشروا الفساد فى الأرض كلها عن طريق أوروبا - بعد إفسادها !
ففى خلال القرون الثلاثة الأخيرة كانت القوة السياسية والعسكرية والعلمية والمادية لأوروبا فى تزايد مستمر ، وكانت أوروبا تغلب بقوتها على العالم كله ن والعالم الإسلامى بصفة خاصة ، ومن خلال غلبة أوروبا على الأرض كلها ، وعلى العالم الإسلامى ، نشر اليهود سمومهم فشملت " الأمميين " جميعا _ إلا من رحم ربك - وأدخلتهم فى المخطط الشرير الذى يحدد التلمود هدفه ووسائله :
" الأمميون هم الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار "
فكيف استطاع اليهود أن يحدثوا هذا الشر كله فى الأرض ؟!
هل هم أولئك " الجبابرة " الذين يصورهم وليم كار فى كتاب " الأحجار " ؟!
هل هم أولئك العباقرة - كما يصورون أنفسهم - الذين لا يقف أمام عبقريتهم شئ ولا يحول دونهم حاجز؟!
هل هم أولئك المخططون العتاة الذين يخططون لألف عام ولمائة عام ولكل يوم من الأيام ، كما يتصورهم المهزومون من الأمميين الذين يقرأون أمثال " البروتوكولات " و" أحجار على رقعة الشطرنج " وغيرها من الكتب لتى كان يخفيها اليهود عن العيون فيما مضى - قبل أن تنضج اللعبة وتستوتى -وصاروا هم اليوم الذن ينشرونها على نطاق واسع ليرعبوا بها الأمميين ويوهموهم أنهم يقولون للشئ كن فيكون .. يقرأونها وهم بغير رصيد من عقيدة تحميهم أو قوة تدفع عنهم ، فيقولون لأنفسهم : وماذا نصنع نحن أمام هذا المكر الماكر والتدبير الخبيث ؟!
كلا ! ليس اليهود شيئا من ذلك كله ! لا هم أولئك الجبابرة ، ولا هم أولئك العباقرة ، ولا هم أولئك المخططون العتاة !(1/187)
ولقد خططوا ودبروا وحاولوا خلال ألف عام أو أكثر فلم يصلوا إلىش ئ مما يريردون .. إنما الذى جعلهم يقدرون فىالقرون الثلاثة الأخيرة هو الأمميون أنفسهم ، بما أتاحوا من ثغرات ينفذون منها ، وما أتاحوا لهم من فرص للإفساد .
اليهود لا ينشئون الأحداث ولكنهم يجيدون استغلال الأحداث .
وأحوال الأمميين فى القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة هى التى مكنت لليهود كل هذا التمكين ..
يقول الله تعالى عن اليهود فى كتابه الكريم :
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ} [سورة آل 3/112]
فالقاعدة الدائمة بالنسبة لهم هى الذلة المضروبة عليهم :
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [سورة الأعراف 7/167]
والاستثناء هو التمكين .
وهم اليوم فى قمة الاستثناء .. بحبل من الله وحبل من الناس .
فأما الحبل من الله فهو مشيئته سبحانه ، التى يجرى بمقتضاها كل ما يجرى من أمور هذا الكون .. فلو شاء الله لليهود أن يتمكنوا اليوم من رقاب الأمميين ما تمكنوا ، ولكنه شاء ذلك سبحانه لحكمة ربما استطعنا فهمها إذا تدبرنا كتابه المنزل ، الذى يحوى تفسير مجريات الأمور كلها فى الحياة البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها .
وأما الحبل من الناس فهذا الذى ينبغى أن تتدبره جيدا لنعرف الحجم الحقيقى للقوة الموهومة " لشعب الله المختار ".
قلنا فى التمهيد الأول إن الكنيسة الأوروبية أفسدت فحوى " الدين " بالنسبة لأوروبا ، فشوهت العقيدة أولا ، وفصل العقيدة عن الشريعة ثانيا ، وقدمت الدين عقيدة خلوا من الشريعة إلا القليل ، فضلا عما اقترفت الكنيسة من الخطايا التى تنفر الناس من الدين .
وينبغى أن ندرك جيدا أن هذه هى نقطة البدء ،النى أتاحت لليهود أن يفعلوا كل ما فعلوه ، وإن كان ذلك قد استغرق عدوة قرون !(1/188)
فيجب أن نلاحظ أولا أن اليهود لم يبدأوا بالعمل فى العالم الإسلامى إنما فى العالم المسيحى . وهذا الأمر له دلالته التى لا يجوز إغفالها ، فقد حاربوا افسلام حربا شعواء فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وحاولوا - بكل " عبقريتهم " الشريرة وبكل " جبروتهم " وبكل " تخطيطهم " وتدبيرهم وبكل مكرهم ودهائهم - أن يقضوا على هذه العقيدة وعلى الدولة التى انبثقت عنها فلم يستطيعوا ، ورد الله كيدهم فى نحورهم ،وقال جل شأنه فى هذا الصدد :
{وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} [سورة آل 3/119-120]
وقال فى شأنهم وشا، غيرهم جميعا :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة 5/3]
وظل كيدهم ضد الإسلام خلال قرون طويلة محصورا فى استحداث فرق باطنية تتظاهر بالإسلام وهى بعيدة كل البعد عنه ، ولكن هذه الفرق لم تخدع المسلمين ، ولم تستطع الحياة بينهم ، وظلت منبوذة مبعدة لا تؤثر فى جسم الأمة المسلمة ولا فى عقائدها ولا فى خط سيرها ، وظلت الشريعة الإسلامية مطبقة فى الأرض الإسلامية ما يزيد على اثنى عشر قرنا من الزمان !
أما فى أوروبا المسيحية فقد كان الوضع مخلخلا مليئا بالثغرات التى يستطيع اليهود أن ينفذوا منها ويفسدوا من خلالها . والثغرة الكبرى كما أسلفنا كانت تحريف الدين وتشويهه على يد الكنية .(1/189)
إنه حين يكون للأمة دين حقيقى ، معمول به فى واقع الأرض ، فإن اليهود - بكل قدرتهم على البشر - لا يستطيعون أن يصنعوا شيئا ضد هذه الأمة مهما حاولوا ، وإن قاموا بأنواع من " الأذى " بين الحين والحين :
{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)} [سورة آل 3/111]
أى لن يضروكم فى عقيدتكم ، ولن يؤثروا فى دينكم ، ولا فى قيام حياتكم على مقتضى هذا الدين . إنما يؤذونكم فقط بأى نوع من الإيذاء ، وفرق بين أن يؤذوا أشخاصكم وبين أن يضروا دينكم أى مقومات حياتكم . فإن القتال نوع من الإيذاء . والسباب نوع من الإيذاء . وتأليب الأعداء نوع من الإيذاء . والعدوان على بعض الأفراد نوع من الإيذاء . ولكن تبقى الأمة سليمة ما بقى لها دينها ، أى المنهج الذى تقوم حياتها عليه وتستقيم .
أما فى أوروبا حيث لم يكن هنالك دين حقيقى ، فقد استطاع اليهود أن يضروا - لا بالإيذاء فقط - ولكن بتغيير قواعد الحياة كلها ، بل بمسخ الفطرة البشرية ذاتها ، وتحويل الناس إلى دواب يركبهم الشعب الشرير .
ومع ذلك فإن اليهود لم يتقدموا للعمل الجاد فى إفساد أوروبا إلا حين بدأت أوروبا تتخلى عن كل القيم المستمدة من الدين .
لقد كان الدين مشوها نعم ، وليس هو الدين المنزل من عند الله . ولكنه كان يحمل شيئا من آثار الدين السماوى .
{وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [سورة المائدة 5/14]
نسوا حظا ولكنهم لم ينسوه كله . وهذا الجزء الباقى الذى لم يكونوا قد نسوه هو الذى حال بين اليهود وبين أن يعيثوا فسادا فى أوروبا بضعة قرون .(1/190)
وكانت هناك الأخلاق ، كانت هناك الأسرة المتينة الرباط ، كان هناك النفور من الفاحشة والحياء الأنثوى الفطرى اللائق بأنثى الإنسان والذى يميزها عن إناث الحيوان . وكان هناك الحفاظ الشديد على العفة وصيانة العرض ، وكان هناك تحريم الربا فيما بين المسيحيين بعضهم وبعض ، إلا من وقع فى قبضة المرابين اليهود ، وكان هناك الزهد فى متاع الحياة والدنيا والتطلع إلى الآخرة .. وكان .. وكان ..
ذلك كله حظ من دين الله المنزل لم يكن قد نسى فى " القرون الوسطى المظلمة " فى أوروبا . ورغم أنه لا ينفع عند الله ولا يشفع لهم يوم القيامة لأن الله لا يرضى بتجزئة دينه أجزاء يؤمن الناس ببعضها ويكفرون ببعضها الآخر على هواهم .
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [سورة البقرة 2/85]
رغم ذلك فإنه - بالنسبة لليهود - كان حاجزا منعهم من القيام بنشاطهم المفسد على نطاق واسع عدة قرون .
فلما أمعنت الكنيسة فى الفساد والإفساد .. لما طغت كل طغيانها الذى تحدثنا عنه ، وحاربت العلم ، وحاربت حركات الإصلاح ، ووقفت مع الطغاة ضد المظلومين .. وحين فسدت أخلاق الدين فصاروا - بوضعهم ذلك - يصدون عن سبيل الله .
{إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة 9/34](1/191)
حين حدث ذلك كله أخذ الناس فى أوروبا ينفرون من الدين وينسلخون منه ، لا يفرقون بين ما قدمته لهم الكنيسة من الأباطيل وما أنزله الله من الحق .. ولا يسعون فى الوقت ذاته إلى اعتناق الدين الصحيح .. عندئذ وجدت الفرصة التى يترقبها اليهود ليعيثوا فسادا فى الأرض ،وبدأوا ينشطون نشاطهم الشرير الذى ظل يتصاعد من القرن الثامن عشر - على الأقل - إلى القرن العشرين .
مخطط اليهود - كما جاء فى التلمود - أن يستحمروا الأممميين ليركبوهم ويسخروهم لمصالحهم ، فهل استطاعوا - قط - أن يستحمروا وهم آدميون ، أى لهم دين يلوذون به من كيد الشيطان أو حتى آثار من الدين ؟
كلا ! إنما الذى حدث بالضبط أن الأمميين فى أوروبا - بابتعادهم عن الدين وانسخلاهم منه - هم الذين استحمروا أنفسهم للشعب الشيطانى ودعوه أن يركب فوق ظهورهم ليوجههم كيف يشاء !
ولنتتبع أحوال أوروبا خطوة خطوة لنرى من أين نفذ اليهود .
لو بقيت أوروبا على ببقايا دينها ، ولا نقول اعتنقت الدين الصحيح الذى حاربته تلك الحرب المتعصبة الحمقاء ، فمن أين كان ينفذ اليهود ؟
لو بقيت الأسرة مترابطة متماسكة تقوم على عفة المرأة وقوامة الرجل على اللبيت فمن أين كان ينفذ اليهود ؟
لو بقى عامة الناس غير مفتونين بالحياة ناظرين إلى الآخرة فمن أين كان ينفذ اليهود ؟
لو قام العلم على غير عداء وصراع مع الدين ، فمن أين كان ينفذ اليهود ؟
لو بقى الناس يحرمون التعامل بالربا ويرفضون أن تقوم حياتهم عليه ، فمن أين كان ينفذ اليهود ؟
ثم ..
حين قامت الصناعة بعد اختراع الآلة ..(1/192)
لو كانت هناك دولة تحكم بما أنزل الله وتطبق منهجه فى الحياة ، وترفض أكل مال الأجير وتحرص على توفيته حقه ، وحقه هو الذى يكفيه للحياة الكريمة هو وأسرته .. فمن أين كان ينفذ اليهود بنشر البغاء " الشعبى " والدفاع عنه ، وتولية الدولة حارسة عليه وراعية له ! وقد فعلوا ذلك كله استغلالا لوجود الشباب الفاره من العمال بلا أسر فى المدينة ؟!
لو كانت هناك دولة تحكم بما أنزل الله ، وتقيم لكل امرأة كفيلا يكفلها من ذوى قرباها ، أو من بيت المال حين تفقد كل الكفلاء ، فمن أين كان ينفذ اليهود الذى نفذوا من خلال اضطرار المرأة إلى الهجرة من الريف والعمل فى المدينة ، واضطرارها إلى التخلى عن عرضها فى كثير من الأحيان ؟
وحتى حين اضطرت المرأة للعمل ..
لو كانت هناك دولة تحكم بما أنزل الله ولم تبح تلك التفرقة الظالمة فى الأجر بين الرجل والمرأة التى تقوم بنفس العمل ، فمن أين كان ينفذ اليهود الذين لعبوا لعبتهم الكبرى بقضية المرأة ودمروا بها المجتمع البشرى كله ؟
لو كانت المرأة غير مضطهدة ولا محتقرة ولا مهينة ولا منبوذة فمن أين كان ينفذ اليهود الذين استغلوا هذا الواقع السئ لينفخوا فى قضية المرأة ويمدوها إلى الأبعاد التى وصلت إليها فى كل اتجاه ؟ ..
و كانت المرأة تنال حقها من التعليم ، على الأصول الصحيحة التى لا تفسد أنوثة المرأة ، ولا تبعدها عن وظيفتها ، ومع ذلك تعلمها وتثقفها وتجعل منها إنسانة فاضلة متنورة ، فمن أين كان ينفذ اليهود الذين لعبوا بقضية تعليم المرأة وأفسدوا بها المرأة والرجل كليهما إلى أبعد حدود الفساد من أول الاختلاط إلى إباحية الجنس إلى تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال ..؟(1/193)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة 5/65-66]
نعم .. لو أنهم آمنوا واتقوا ما استطاع اليهود أن يلعبوا بهم ويستحمروهم لخدمة مصالحهم ..
? ? ?
" الناس " هم الذين أمدوا اليهود بالحبل الذى مكن لهم فى الأرض فى الوقت الحاضر ..
السينما مؤسسة يهودية أقامها اليهود للإفساد فى الأرض ، فكل فتى أو فتاة أصابه جنون السينما فهو " حبل من الناس " يمد اليهود . يمدهم بالمال الذى يربحونه من هذه التجارة النافقة ، ويمدهم بالفساد فى ذات نفسه فيتحقق لهم مخططهم الشرير .
بيوت الزينة والأزياء يهودية .. فكل فتاة أصابها جنون الزينة وجنون " المودة " هى " حبل من الناس " تمد اليهود ، تمدهم بالمال من ناحية - وصناعة أدوات الزينة من أربح الصناعات على الإطلاق - وتمدهم بالفساد فى ذات نفسها وفى الشباب الذى تتولى فتنته بتبرجها فيحققان لهم مخططهم الشرير .
جنون الجنس جنون أطلقه اليهود على البشرية ، فكل فتى أو فتاة أصابه جنون الجنس فهو " حبل من الناس " يمدهم باستعباد نفسه للشهوات التى تهبط به عن آدميته فيصبح فى متناول مخططهم الشرير .(1/194)
جنون الكرة من أنواع الجنون التى أطلقها اليهود على البشرية . فكل فتى أو " فتاة !" أصابه جنون الكرة فهو " حبل من الناس " يمد اليهود ، يمدهم بتفاهة اهتماماته وانصرافه عن معالى الأمور إلى سفسافها " 96" وانصرافه عن الاهتمامات الجادة والنظر فيما يحيط به من أحوال ، فييسر لليهود أن يعبثوا عبثهم العالمى والأولاد (والبنات !) مشغولون بالفريق الذى أخفق والفريق الذى فاز !
الربا من أفتك أدوات اليهود وأفعلها فى التخريب . فكل صاحب مال أودعه عند اليهود فى مصارفهم ومؤسساتهم فهو " حبل من الناس " يمد اليهود ، يمدهم بأرباح طائلة يقوون بها أنفسهم ويتحكمون بها فى اقتصاد العالم كله ، وبالخبال الذى يصيب حياته من الربا :
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [سورة البقرة 2/275]
وهذا كله بصرف النظر عن المدد الذى يأتيهم من دول كأمريكا أو روسيا ، فإن الآية لا تشير إلى دول بعينها ولا إلى " بعض " الناس " إنما تشير إلى " الناس " والحاصل اليوم أن المدد يأتى من " جميع الناس " .. إلا من رحم ربك !
" الأمميون " هم الذين استحمروا أنفسهم " لشعب الله المختار " وذلك بتخليهم عن الوقاية الطبيعية لاتى تحميهم من كيد الشيطان .
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [سورة النحل 16/100](1/195)
والكنيسة - بالنسبة لأوروبا - هى المجرم الأكبر الذى أتاح لليهود أن يتلفوا أوروبا ويشيعوا فيها من ألوان الفساد : الفكرى والروحى والخلقى والاجتماعى والاقتصادى والسياسى ما لم يجتمع بهذا الحجم وهذه الصورة فى التاريخ : مسخ كامل للفطرة البشرية ، ونكسة لم تنتكسها البشرية فى تاريخها كله ، رغم كل الإمكانيات المادية والعلمية المتاحة للبشر ، والتى كانت حرية فى ترتفع " بالإنسان " إلى الآفاق العليا بعد أن يفرغ من قضاء ضروراته الجسدية ، فإذا هى تغرقه فى عالم الضرورة وتحبس روحه بل تطمسها ، وتهبط بالإنسان إلى درك من الحيوانية يتعفف عنه الحيوان ..
? ? ?
ولكن هناك مسئولية أكبر فى الحقيقة تقع على الأمة المسلمة .
هذه الأمة التى أخرجها الله " للناس " لتكون خير أمة فى التاريخ .
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
وكلفها أن تكون شاهدة ورائدة لكل البشرية :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
هذه الأمة أين ذهبت وأين مضى بها التيار ؟!
فى غير هذا الكتاب " 97 " نتحدث عن خط الانحراف الذى انحرف بهذه الأمة عن خطها السوى وأنساها رسالتها . ولكنا نقول هنا - بصدد تحديد مسئولية " الأمميين " عما أصابهم من الخبال على يد اليهود - إن الأمة الإسلامية لم تكلف - كالأمم المؤمنة السابقة - أن تؤمن فى حدود نفسها وتستقيم لذات نفسها فحسب ، إنما كلفت - فوق الله - أن تهدى البشرية كلها إلى النور الربانى ، وأن تسعى - بجهدها وجهادها - إلى إقامة دين الله فى الأرض كلها ، دون إكراه للناس على اعتناق عقيدة الإسلام ، إنما تحكم شريعة الله فى كل الأرض ، ويخضع الناس جميعا للعدل الربانى المتمثل فى شريعته :(1/196)
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} [سورة البقرة 2/256]
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39]
وقد ظلت هذه الأمة قائمة برسالتها لنفسها وللبشرية عدة قرون ، كانت فيها ممكنة فى الأرض ، وكانت هى موئل الهداية والنور ، ولم يكن يبرم أمر فى الأرض إلا بإذنها أو برضاها .. وإلا فالحرب قائمة لتأديب المعتدين .. ويومئذ لم يكن لليهود فى الأرض سلطان .
ولكن الأمة التى أختارها الله لتكون شاهدة ورائدة للبشرية ظلت تتراجع حتى أهملت رسالتها العالمية ، بل شغلت عن رسالتها لذات نفسها ، وعندئذ برزت أوروبا إلى الوجود قوة ممكنة فى الأرض ، فملأت الفراغ الذى خلقته الأمة الإسلامية بتخليها عن رسالتها ، حسب السنن الربانية التى يدبر الله بها أمور البشر فى الأرض .
وحين برزت أوروبا فقد برزت بكل جاهليتها ،وبكل الفساد الذى كانت تحمله فى أطوائها نتيجة إفساد الكنيسة لدين الله المنزل ، فأتاحت للشعب الشرير المتربص للإفساد أن يركب ، وأن يلهب ظهورها بالسوط ليقودها فى طريق الشيطان .
وزاد الأمر سوءا حين زاد تفريط هذه الأمة فى دينها حتى لم تعد تؤدى شيئا يذكر من رسالتها لذات نفسها ، فضلا عن رسالتها العالمية بطبيعة الحال ، وحينئذ أتيحت الفرصة لأوروبا الصليبية أن تقهر العالم الإسلامى ، وأن تدخل أرض الإسلام لتدك حصونه من الداخل ، وأتيح لليهود - من خلال الحملة الصليبية الغازية - أن ينشروا سمومهم فى العالم الإسلامى ذاته ، بنفس الوسائل التى نشروا بها سمومهم فى أوروبا . سواء كان ذلك بأيديهم مباشرة أو بأيدى الصليبيين الذين يقومون بذات الدور ضد الإسلام لحسابهم الخاص !(1/197)
ومن ثم دخل " الأمميون " المسلمون فى ذات الدوامة ، وصاروا هم أنفسهم - إلا من رحم بك - يمدون الحبل لليهود ! وتم لليهود ذلك السلطان الذى أشارت إليه الآية الكريمة على سبيل الاستثناء من الذة الدائمة المفروضة عليهم {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ} [سورة آل 3/112]
الأمة المسلمة إذن هى المسئول الأكبر عما أصاب البشرية كلها من الخبال على يد اليهود . فقد أنزل الله إليها النور ، وأنزل إليها الرسالة الخاتمة وشرفها بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، ولا لتتلهى بذلك كله ، وإنما لتكون - بكل ثقلها ، وبكل فاعليتها - جهدا دائما وحركة دائمة لنشر النور والهداية فى الأرض .
فإذا تخلت قمن يحمل الرسالة ؟!
وإذا تخلت فأى شئ فى الأرض يحول دون الشعب الشرير المتربص للإفساد ؟!
? ? ?
وإذا كان تخلى الأمة المسلمة عن رسالتها هو الذى أتاح الفرصة لليهود ليحدثوا فى الأرض كل هذا الشر عن طريق الأمة الجاهلية التى تولت السلطان حين تخلى المسلمون .. فإن عودة المسلمين إلى الإسلام هى التى تنهى دور اليهود فى الأرض وتعيدهم إلى حجمهم الطبيعى :
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [سورة البقرة 2/61]
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [سورة الأعراف 7/167](1/198)
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [سورة المائدة 5/64]
ولقد نتساءل عن حكمة الله سبحانه وتعالى فى تمكين اليهود من " الأمميين " فى هذه الفترة الاستثنائية التى تعيشها البرية اليوم . فنقول بادئ ذى بدء إن الله سبحانه وتعالى : {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الأنبياء 21/23] {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [سورة البقرة 2/117] فلا نسأله تعالى لماذا لم يجعل الذلة على هذا الشعب دائمة لا استثناء فيها ، وهم يستحقون - بصحيفتهم السوداء - أن تكتب عليهم الذلة إلى يوم القيامة .
ولكنا نلمح جانبا من حكمة اله فى قوله تعالى مخاطبا الكفار :
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [سورة الأنعام 6/65]
والبشرية اليوم قد كفرت كما لم تكفر فى تاريخها كله ، فأنكرت وجود الله جهرة ، ومنعت منهجه أن يحكم حياة الناس فى ألرض ، فاختار الله شر خلقه - اليهود - ليذيق البشرية كلها باسهم جزاء وفاقا على هذا الكفر الذى ليس له مثيل فى نوعه ولا حجمه فى التاريخ ..
ولنذكر أن دارون ليس يهوديا .. وهو الذى قال : الطبيعة تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق .. الطبيعة تخبط خبط عشواء . إن تفسير النشوء والارتقاء بأنه صادر عن الإرادة الإلهية يكون بمثابة إدخال عنصر خارق لطبيعة فى وضع ميكانيكى بحت !! فوضع بذلك أسسا " علمية " للفساد الذى يملأ الأرض اليوم !
والله يقول :(1/199)
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
ومن هنا نري أن تسليط اليهود علي " الأمميين " اليوم ليس خارجا عن سنن الله ووعده ووعيده كما جاءت في كتابه الكريم . كما نستطيع أن نحكم - من كتاب الله - أنها فترة استثنائية يعودون بعدها فيدخلون في الاجحار..حين يعود المسلمون إلي الإسلام .
? ? ?
ويسأل بعض الناس : أليس اليهود هم أنفسهم فاسدين ومنحلي الأخلاق ؟ وكل الشرور التي إذا عوها في البشرية ليحكموهم بها هي ذائعة فيهم ؟!
نقول : بلي !! إنهم كذلك !
ولن يهربوا هم من سنة الله التي تكتب الدمار علي الناس حين يلجون في الغواية ويصرون علي الفساد .
نعم ولكن لهم دورا - قدرة الله - في إذاقة البشرية الخبال جزاء كفرها وتبجحها بالكفر ،دورا يؤدونه قبل أن يصيبهم الدماء بحكم السنن الربانية ، وقبل أن يرجعوا إلي الذلة والمسكنة كما توعدهم الله إلي يوم القيامة .
إنهم فاسدون نعم ، ولكنهم - بحكم ظروفهم التاريخية - يخططون بوعي حين يجدون الفرصة السانحة التخريب ، بينما الأمميون يفسدون فقط .. يفسدون بلا تخطيط!
الفتاة اليهودية لا عرض لها ، ولكنها إذ تبيع جسدها تمتص أموال الأممين وتسرق اسرارهم لتعطيها " لشعب الله المختار " ليستفيد بها في تخطيطه الخبيث أما الأموية فحين تفسد لهدف معين .. تفسد من أجل الفساد فحسب.
وحين يوضع الأمر علي هذه الصورة تكون الغلبة لاشك للفريق الأكثر وعيا ، والذي تربط بينه - رغم فساده - عوامل تاريخية تمنعه من الذوبان السريع .
أما النتيجة الأخيرة فقد بينها كتاب الله .
تنتهي الفترة الاستثنائية - لأنها استثنائية - ويعدو القدر المضروب يحكم اليهود :(1/200)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)} [سورة الأعراف 7/167]
الديمقراطية
الديمقراطية Democracy كلمة مشتقة من لفظتين يونانيتين Demos ( الشعب و Kratos ( سلطة ) ومعناها الحكم الذي تكون فيه السلطة للشعب . وتطلق علي نظام الحكم الذي يكون الشعب فيه رقيبا علي أعمال الحكومة بواسطة المجالس النيابية ، ويكون لنواب الأمة سلطة إصدار القوانين .
وأول من مارس الديمقراطية هم الإغريق في مدينتي أثينا وإسبرطه ، حيث كانت تقوم في كل من المدينتين حكومة ( يطلق عليها إصطلاحا اسم " حكومة المدينة " أي الحكومة التي تقوم في مدينة واحدة مفردة ) وكان كل أفراد الشعب من الرجال في كل من المدينتين يشاركون في حكم المدينة ، فيجتمعون في هيئة " جمعية عمومية " فيتشاورون في كل أمور الحكم ، فينتخبون الحاكم ويصدرون القوانين ويشرفون علي تنفيذها ويضعون العقوبات علي المخالفين فكان " حكم الشعب ط مطبقا بصورة مباشرة في كل من المدينتين ، وكانت التسمية منطبقة علي الواقع انطبقا كاملا .
ولكن هذه الصورة من صور الديمقراطية انتهت بانتهاء " حكومة المدينة " في كل من أثينا وإسبرطة ، وإن ظلت محفوظة في ذاكرة أوروبا ككثير من الأفكار والقيم والمبادئ الاغريقية التي بقيت كامنة في الفقرة التي غلبت المسيحية فيها علي أوروبا ، ثم عادت إلي الظهور بعد قيام " النهضة " علي التراث الاغريقي الممتزج بالتراث الروماني ، الذي يطلقون عليه في إصطلاحاتهم Greco-Roman أي إغريقي روماني .(1/201)
ولقد ظل الاقطاع يحكم أوروبا أكثر من ألف عام في ظل الامبراطورية الرومانية والقانون الروماني . ولم تغير المسيحية شيئا من سماته في هذه الناحية ، لأن الكنيسة لم تحاول تطبيق شريعة الله ، وتركت الأوضاع السياسية الاقتصادية والاجتماعية تجري علي ما كانت عليه في ظل الإمبراطورية الرومانية دون تعديل يذكر ، وحين نازعت المملوك والأباطرة سلطانهم لم يكن ذلك -كما أسلفنا - من أجل الزامهم بتحكيم شريعة الله ، كما فعل المسلمون في الأرض التي حرروها من قبضة الرومان في مصر والشام والشمال الأفريقي .. إلخ . إنما كان من أجل الزامهم بالخضوع لهواها هي وسلطانها الشخصي .
وفي ظل الإقطاع لم يكن " للشعب " وجود إلا بوصفه قطعا آدمية لاصقة بالطين ، لا كرامة لها ولا حقوق..
كان هناك ملوم مستبدون بالحكم يحكمون بمقتضي " الحق الألهي المقدس " باعتبارهم " ظل الله في الأرض" فكلامهم أمر ، وأمرهم مقدس ، وما عن لهم من أهواء فهي أوامر واجبة التنفيذ .(1/202)
ويعاونهم في تثبيت سلطانهم وتوكيده في الأرض أمراء الاقطاعيات الواقعة في ملكهم ، مقابل إطلاق يد هؤلاء الأمراء ( الذين يسمون : النبلاء أو الإشراف ) في إقطاعياتهم ، يتصرفون فيها كيف شاءوا دون مراجعة ولا رقابة تضبط تصرفاتهم ، لأن الذين يعيشون علي أرض الإقطاعية هم إما عبيد وإما في حكم العبيد ، وسلطان " الشريف" عليهم سلطان مطلق بحكم " القانون " فهو بالنسبة لهم يمثل السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية جميعا في آن واحد ، وليس للمالك علي الإقطاعي إلا ما يفرضه عليه من الأموال ( بمقدار ما يشبع نهمة ومطالبه ) وتلك يستخرجها أمير الإقطاع من فلاحية بالقوة الجبرية ، وإلا " الانفار " الذين يطلب المالك تجنيدهم في جيوشه ليموتوا من أجل تحقيق أهوائه ومطامعه .. أي أن سلطة الملك في النهاية واقعة علي أولئك العبيد من خلال سلطة أمراء الإقطاع ، كما تقع عليهم السلطة المباشرة من أمراء الاقطاع لحسابهم الخاص .. وفي جميع الحالات يكون ألئك العبيد - وهم في النهاية طبقة "الشعب " - بغير سلطان وبغير حقوق ، واقعة عليهم كل الواجبات .
وإلي جانب الملوك والنبلاء كانت سلطة الكنيسة ورجال الدين ، وكانت منصبة في النهاية كذلك علي الشعب ، فإلي جانب الخضوع المذل لرجال الدين - وهو حق " مقدس " لهم - كانت هناك الإتاوات والعشور ، والسخرة المجانية في الأرض الكنسية ، والتجنيد في جيوش الكنيسة التي كانت توجهها لتأديب الخارجين علي سلطانها من الأباطرة والملوك .
وهذه المظالم المتراكمة هي التي تفرجت في الثورة الفرنسية ، بعد أن هيأ لها في نفوس الأوروبيين الاحتكاك بالمسلمين في الحروب الصليبية ، وفي اللقاء السلمي بين المسلمين وبين المبتعثين من بلاد أوروبا لتلقي العلم في بلاد الإسلام .(1/203)
ولكن أوروبا حين تفجرت ثورتها لم تكن في وضع يسمح لها أن تستبدل بالجاهلية التي ثارت عليها دين الله الحق ، وشريعته العادلة التي كانت تحكم الأرض من حولها من الشرق والغرب والجنوب ، لأن الحروب الصليبية وحملات التنفير الديني والثقافي التي قامت بها الكنيسة ضد الإسلام وفقت حاجزا بينها وبين اتخاذ الإسلام عقيدة وشريعة ، فارتدت إلي تراثها الاغريقي الروماني تبحث فيه عن حلول مشكلاتها ، بدلا من أن تلجأ إلي الإسلام "1".
ووقع اختيار أوربا علي " الديمقراطية " بديلا من الإقطاع ، وكانت هناك عوامل كثيرة ترشح لهذا الاختيار .
فطبقة "الشعب " هي الطبقة المكبوتة المسحوقة ، وهي الطبقة الثائرة التي تسعي إلي المشاركة في السلطان .. والطبقة الرأسمالية هي الطبقة الجديدة التي صار المال في يدها بدلا من طبقة الاقطاعيين بسبب انتقال الانتاج - تدريجيا -من إنتاج زراعي إلي إنتاج صناعي بعد اختراع الآله .. وهذه الطبقة الجديدة تريد أن تنتزع من الطبقة المالكة السابقة التي كان في يدها السلطان. لذلك كانت الديمقراطية هي اللعبة المناسبة التي توفق بين رغبة الطبقتين الساعيتين إلي السلطة ، إحداهما وهي الطبقة الرأسمالية تستولي علي السلطان الحقيقي ، والثانية وهي طبقة الشعب تشارك - بقدر - في ذلك السلطان 98 وذلك فضلا عن عنصرين أخرين أحدهما إيحاء الفكر الإغريقي القديم وتأثيره علي المفكريين الغربيين منذ عصر النهضة ، وهو فكر يحمل صورة " تذكارية" للديمقراطية من أيام أثينا وإسبرطة ، والثاني هو الشعارات التي وضعتها الماسونية اليهودية للثورة الفرنسية وهي : الحرية والإخاء والمساواة ، والديمقراطية هي المنطق الأنسب لهذا الشعارات ، ومن ورائها يحقق اليهود ما يحلو لهم من أهداف .(1/204)
لذلك كله كانت الديمقراطية هي الإطار المناسب للعناصر المتفاعلة في أوربا في ذلك الحين .. في ظل الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية القائمة في تلك الفترة من الزمان .
ولم يكن الأمر سهلا مع ذلك ولا ميسرا للراغبين .. فقد احتاج إلي صراع طويل مريم حتي استوي علي صورته الحالية . وكانت " المكاسب الديمقراطية " تأتي متقطعة وجزئية ، ولا تأتي إلا بعد معارضة طويلة من الذين في أيديهم السلطان ولا يرغبون في التنازل عنه ، وبعد قيام " الشعب " بالاضراب والعصيان والتمرد ، وتعرض دعاة الحرية إلي السجن والاعتقال والتشريد ، بتهمة إثارة الشغب والتحريض علي الإخلال بالنظام.
وبعد نضال وكفاح استمر قرابة قرن من الزمان استقرت الديمقراطية في صورتها الحالية التي تراها في دول غرب أوربا وأمريكا ، علي اختلاف بينها في الجزئيات لا يؤثر في صورتها العامة ومبادئها الرئيسية .
? ? ?
كانت نقطة الانطلاق ، أو نقطتا الانطلاق في الحقيقة هما : أولا : وجوب إشراف الشعب علي أعمال الحكومة ، أي إلغاء " الحق الألهي المقدس " وإخضاع الحكومة لرقابة الشعب علي تصرفاتها ، وفصل السلطات ، وجعل الحكومة سلطة تنفيذية فحسب ، لا سلطة تشريعية .. وثانيا : إعطاء الشعب حقوقه " الإنسانية " التي حرم منها أكثر من ألف عام في ظل نظام الاقطاع .
وفي كلا الميدانين أحرزت الديمقراطية تقدما ضخما بالنسبة لما كان في عهد الإقطاع ، وعهد الحكم بمقتضي الحق الإلهي المقدس .
فقد أصبحت رقابة المجالس النيابة كاملة علي تصرفات الحكومة الرئيسية ، وبصفة خاصة " الميزانية " التي تمثل موارد الدولة ومصارفها ، والتي كانت من اكبر أبواب المظالم الواقعة علي " الشعب " حيث كان الحاكم يفرض من الضرائب ما يحلو له ، بمقدار ما يروي نهمه إلي المال الذي كان معظمه ينفق علي بذخ الملوك والحكام ، وأقله يصرف علي الصالح العام .(1/205)
لم يعد من حق الحكومة أن تفرض ضريبة - أي ضريبة - إلا بموافقة المجالس النيابة ، ولم يعد من حقها أن تصرف حصيلة مواردها إلا في الأبواب التي توافق المجالس النيابية عليها ، ومن ثم أمسكت تلك المجالس بالزمام بعد أن كانت الحكومات مطلقة اليد في التصرف .. وكثيرا ما كنت تسمع - وما تزال - كلمة " دافعي الضرائب " تتردد في أروقة " البرلمانات " علي ألسنة النواب ، يستصرخون الرحمة علي الفقراء دافعي الضرائب ويطلبون التخفيف عنهم ، أو يطالبون أن تنفق الأموال لمصلحة دافعي الضرائب ، لأنهم هم الذي ينبغي أن يستفيدوا قبل أي أحد آخر بحصيلة الضرائب التي يدفعونها .
ومن ثم ظلت الضرائب - خلال نمو الديمقراطية - تخفف تدريجيا عن الفقراء وتزداد علي الأغنياء ، بعد أن كان الحادث هو العكس تماما ، حيث كان الأغنياء يستمتعون بالثروات الطائلة ولا يدفعون عنها ضرائب علي الإطلاق ، أو يدفعون ضرائب تافهة لا تكاد تذكر ، ولا تؤثر أي تأثير علي ثرواتهم الضخمة ، بينما الفقراء هم الذين يتحملون عبء الضرائب الأكبر! كما وجه الصرف من موارد الدولة - وأهمها الضرائب بطبيعة الحال - علي المشروعات العامة التي تصل فائدتها لأكبر عدد من الناس الذين يوصفون بصفة خاصة بأنهم دافعوا الضرائب ، فزاد الانفاق تدريجيا علي التعليم ، وعلي الصحة العامة ، وعلي المرافق العامة من طرق وجسور وخدمات ، وقل الانفاق في ذات الوقت علي مشروعات الترف التي لا تفيد إلا القلة المترفة من الشعب ، بعد أن كانت مثل هذه المشروعات هي الشغل الأول للحكومات السالفة وتنفق فيها الأموال الطائلة .(1/206)
ولم تمر قضية الضرائب سهلة حتي فيما يسمي " المجالس النيابية " فقد كانت تلك المجالس في أول عهدها تمثل الأغنياء أكثر مما تمثل الفقراء ، أو تمثلهم دون الفقراء في كثير من الأحوال ، إذ كانت شروط الترشيح إلي المجالس النيابية ذاتها موضوعة بحيث لا يمر منها إلا أصحاب الثروات ويعجز عنها الفقراء ، لكي يمنعوا منعا من الدخول إلي البرلمانات وإزعاج أصحاب الأموال بصيحاتهم الكريهة إليهم !ولم ينل الفقراء حق الترشيح إلا بعد جهاد طويل ومرير ، فاستطاعوا - بعد دخولهم - أن يعدلوا نظم الضرائب في بلادهم ، ويحققوا قسطا من العدالة في المغانم والمغارم سواء.
ولم تكن المجالس النيابية هي وحدها التي تدور فيها المعركة حول الضرائب ، فقد كانت الصحافة والخطابة والكتب المؤلفة تشارك جميعا في الناقش والحوار والهجوم والدفاع . وكان من أهم ما قيل في هذا الصدد إن توحيد نسبة الضريبة علي الشئ الواحد بين الفقراء والأغنياء هو ظلم بين علي الفقراء ، لأنهم يدفعون الضريبة من قوتهم الضروري الذي لا تقوم حياتهم بغيره ، بينما الأغنياء يدفعون من فائض أموالهم ، أو من فائض الفائض المتراكم عاما بعد عام ! لذلك استحدث في الأخير نظام الضرائب التصاعدية التي تزيد فيها نسبة الضريبة زيادة مطردة كلما زاد الدخل .. فالألف الأولي غير الألف الثانية ، والثانية غير العاشرة .. فإذا كانت الأولي يخصم منها عشرة ضرائب ( علي سبيل المثال ) فالعاشرة قد يخصم نصفها أو ثلاثة اخماسها .. وهكذا .(1/207)
اما الضرائب غير المباشرة ، أي الضرائب المفروضة علي الأشياء المشتراه أو المستخدمة لا علي الدخل ، فقد كانت وما تزال موضع النقاش في البلاد الديمقراطية ، لأنه لا يمكن التمييز فيها بين الأغنياء والفقراء ! لا يمكن مثلا أن يقال : إذا اشتري الغني رغيف الخبز فعليه أن يدفع له ثمنا أكبر مما يدفع الفقير فيه ! إنما يقال في الحوار أنه ينبغي إلغاء الضرائب أو تخفيفها عن " الضروريات " ورفعها علي " الكماليات" ثم يظل النزاع قائما في تعريف ما هو ضروري وما هو كمالي من الأشياء . ولكن الاتجاه علي كل حال يظل مائلا إلي التخفيف عن الفقراء والزيادة علي الأغنياء .
وبالنسبة للانفاق كذلك لم تكن المعركة يسيرة حتي في المجالس النيابية ذاتها .. فحين كانت تلك المجالس ممثلة للأغنياء دون الفقراء لم تكن قضايا مثل التعليم الإلزامي ومجانية التعليم تمر بسهولة ! بل كان " نواب الشعب " ( هكذا كان اسمهما علي الدوام من البدء إلي الختام ) كانوا يعارضون في نشر التعليم حتي يشمل الفقراء من أبناء الشعب ! وكانت تدور مناقشات حادة في البرلمانات ، يقال فيها إنه لا يجوز تعليم كل الناس ، وإلا فمن أين نأتي بعمال يعملون في المصانع ؟! فإن أبن العامل إذا تعلم سيستنكف أن يعمل بيديه كما كان يعمل أبوه ! وسيطالب بوظيفه ، وأنّي لنتا أن ندبر وظيفة لكل متعلم ! ثم من اين نحصل علي الخدم ! فسوف يستكبر المتعلمون وسيرفضون الخدمة في البيوت ،فتفسد حياتنا وتتعطل مصالحنا !
وكذلك قضايا الصحة والمرافق العامة ! كان " النواب" المحترمون يعارضون في تعميمها حتي يستفيد منها الفقراء .. ويقولون إن هذه ليست مسئولية الحكومة ! إنما كل واحد يدبر لنفسه ، وكل واحد حر فيما يصنع لنفسه!.
وهكذا .. وهكذا في كل القضايا " العامة " التي يعود النفع فيها علي الشعب " دافع الضرائب " !.(1/208)
وإنما تغير الحال بعد جهاد طويل ، حين ألغيت أو خففت القيود المفروضة علي دخول المجالس النيابية فصار هناك من يدافع عن مصالح الفقراء ويطالب لهم بالتعليم الإلزامي المجاني ، وبتوفير العلاج والرعاية الصحية ، وتيسير الخدمات العامة ، وأصبحت هذه نقطة بارزة من نقاط الديمقراطية .
? ? ?
كذلك شملت الرقابة البرلمانية أعمال الحكومة الأخري غير الميزانية بمواردها ومصارفها - وإن ظلت هذه أهم نقاطها - فقد كفت المجالس النيابة يد الحكومة تدريجيا عن " الأفراد" أفراد " الشعب " ، فزادت بذلك من " حرية " أولئك الأفراد .
لقد كان الأغنياء - بحكم أموالهم ومكانتهم في الدولة - في حصانة من سلطان القانون وإن كانت الدساتير لا تقول ذلك بصفة رسمية . وقد كان القانون الروماني - الشهير بعدالته !- ينص صراحة علي التفرقة القانونية بين السيد والعبد ، فيحيط الأول بضمانات وحقوق كثيرة ، ويخفف عنه العقوبة إذا أجرم ، بينما يحيط الأخير بكثير من القيود ، ويشدد عليه العقوبات علي أقل هفوة تصدر عنه .
وألغت الديمقراطيات هذه التفرقة في نصوصها المكتوبة ، ولكنها ظلت قائمة في عالم الواقع فترة غير قصيرة ، حتي تراجعت عنها الحكومات خطوة خطوة بجهاد طويل وكفاح قامت به الشعوب ، فأخذت الضمانات والحقوق تتسع لتشمل فئات جديدة من " الشعب " حتي صارت تشمله كله في نهاية المطاف.
ويمن تلخيص هذه الحقوق والضمانات فيما يلي :
حق الانتقال:
لم يكن حق التنقل من مكان إلي مكان مكفولا في ظل الاقطاع ، فقد كان معظم الناس عبيدا أو في حكم العبيد ، وكان هذا من المظالم التي قامت الثورة الفرنسية لتحطيمها ، وإن تكن الرأسمالية الناشئة كانت ذات مصلحة خاصة - في نفس الوقت - في تحطيم هذا القيد، لتحصل علي العمال اللازمين للصناعة ، والذين كانت قيود الإقطاع تحجزهم في الريف وتمنعهم من الوصول إلي المدينة .(1/209)
ولكن الأمر لم يتم في يوم وليلة ، فقد ظل "الفقراء " خاضعين لكثير من القيود في تنقلاتهم ، تطاردهم الشرطة وتتهمهم بالتشرد وتطالبهم بإثبات أنهم ليسوا مجرمين ! وبإيجاد مبرر مقبول لوجودهم حيث هم موجودين ! بينما الأغنياء يذهبون حيث يشاءون لمجرد أنهم أغنياء ، ومن ثم فهم غير مشبوهين ! .
ورويدا رويدا أخذت تلك القيود المفروضة علي حرية التنقل تذوب ، وأصبح كل إنسان - مهما يكن عمله أو مكانه في المجتمع - حرا في أن يتنقل داخل الدولة الواحدة ما دام " مواطنا " في تلك الدولة . وكانت كلمة المواطن ذاتها من المعاني التي استحدثتها الديمقراطية ، فأصبح المواطنون جميعا متساوين - نظريا - في جميع الحقوق والواجبات بحكم انهم جميعا مواطنون في وطن واحد ، وأصبحوا بالفعل متساوين في كثير من الحقوق . أما المساواة التامة فلنا مراجعة بشأنها فيما بعد .
ونلحظ من لفظة "المواطن " في اللغات الأوروبية " Citizen " أنها نبعت من المدينة " City " فمن هناك بدأت حركة المطالبة بالمساواة ، ومن هناك طالب المطالبون بأن يتساوى كل السكان - أي سكان المدينة - في الحقوق والواجبات ، وبعد أن نالت المدينة حقوقها عمم ذلك علي جميع السكان في الوطن كله ، ولكن اللفظة الأوروبية لم تتغير ، وظل اشتقاقها من المدينة باقيا حيت بعد أن اتسع مدلولها فشملت كل السكان . أما اللفظة العربية فقد ترجمت متأخرة ، حين بدأت الأفكار الديمقراطية تصبح موضع حديث في البلاد الإسلامية الناطقة بالعربية ، فأخذت المدلول الأخير للكلمة ، المتصل " بالوطن " كله لا بالمدينة فحسب .
حق العمل:
فرق بين أن يعمل بعض الناس في الأعمال التي يستطيعون الحصول عليها وبين أن يكون حق العمل مقررا بمعني أن كل طالب عمل ينبغي أن ييسر له الحصول علي العمل الذي يصلح له .(1/210)
ولم يكن هذا الحق مقررا من قبل ، واحتاج تقريره إلي جهاد طويل لكي يتقرر نظريا في مبدأ الأمر ثم عمليا بعد ذلك .. وإن كان من الواجهة العملية لم يتقرر كاملا إلي هذه اللحظة في الديمقراطيات الرأسمالية لأسباب سنشرحها بعد قليل .
في ظل الإقطاع الذي عاشت فيه أوروبا أكثر من ألف عام لم يكن " حق العمل " شيئا معروفا ولا كان هناك مجال للحديث فيه ، فقد كانت الزراعة هي العمل الرئيسي للمجتمع الاقطاعي ، وسكان القرية أو الأقطاعية يعملون بحكم الأمر الواقع في أرض الإقطاعية التي يعيشون فيها ، قلوا أو كثروا ، وقلت الأرض أو كثرت ، فالأرض ومن عليها ملك للإقطاعي ، يعملون في حقوله ، ويوزع بعض الأرض عليهم مقابل جعل معين ليزرعوها لأنفسهم إن أمكنهم أن يوفوا بالجعل المتفق عليه ، والذي يحدده الإقطاعي حسب هواه دون ضابط معين ، فكل من كبر من الأولاد الذكور من سكان القرية فهو يعمل تلقائيا في الأرض ، يعاون أباه وأسرته ويسكن في بيت الأسرة ، ويأكل من طعامها قل أو كثر ، ويلبس ما تتيح له الظروف أن يلبس من المنسوجات اليدوية التي تنتجها القرية ، والحياة قليلة التكاليف وإن كان الكل يعيشون عيشة الفقر المدقع ولا يجدون غير الكفاف .
أما في المدينة فقد كان يسكن فريق من موظفي الدولة وهم قليلون ، وفريق من أصحاب الصناعات اليدوية - وهي الصناعات الوحيدة يومئذ - وفريق من التجار ، وفريق من أصحاب الحوانيت التي تبيع الحاجيات للناس ، وأصحاب المقاهي والنزول ( الفنادق الصغيرة ) وفريق من المرابين اليهود ، وفريق من أصحاب الثروات من الإقطاعيين الذين يتنقلون دائما ما بين المدينة وبين بيوتهم - أو قلاعهم - في داخل إقطاعياتهم ، وفريق من البغايا اللواتي يعشن علي بيع أجسادهن لمن أرد من كل هؤلاء ، وبصفة خاصة أصحاب الثروات .(1/211)
خلاصة القول أن كل واحد من سكان المدينة له عمله الذي يعيش منه ، أوله ثروته التي تكفل له الحياة هناك بلا عمل .. ولا يتكلم أحد عن حق العمل في الريف ولا في المدينة ، لأن الحاجة إليه لم تكن قد برزت بعد في ذلك المجتمع في ذلك الحين .
ولكن الثورة الصناعية قلبت هذه الأوضاع كلها وغيرها ، حين توافد إلي المدينة اعداد هائلة من العبيد المحررين من الإقطاع بعد تحطيمه يبحثون عن العمل في المدينة ، ولم تكن الصناعات الناشئة تستوعب ذلك العدد كله وقتئذ ، ولا كانت هذه الصناعات مستقرة ومتمكنة ، فقد كان كثير منها يفلس لأسباب مختلفة وتقوم مقامها مشروعات جديدة وهكذا .
ومن طبيعة العامل الذي نزح من الريف إلي المدينة ألا يحب الرجوع إلي الريف ولو بقي عاطلا في المدينة ! فإنه بعد أن يعيش في المدينة الفسيحة المتعددة جوانب النشاط ، ويتعود في حدوده الضيقة علي ألوان من المدينة ، ولا وجود لها في الريف ، ويحس " بالحرية " حريته في أن يتصرف في أموره الشخصية كيف يشاء دون تدخل أو تحريج من مجتمع المدينة ، بينما مجتمع الريف محكوم أبدأ بتقاليده ، وبالتعاوف الشخصي بين كل أفراده ، مما يضيق مجال تلك الحرية .. بعد ذلك كله لا يحب أن يرجع إلي الريف الذي " تحرر " منه ، ويفضل أن يبقي متسكعا في المدينة ولو ضاقت به سبل العيش .
ولكن القضية لم تكن قضية هذا الفرد أو ذاك ، إنما صارت قضية ألوف من هؤلاء العمال وألوف تجتذبهم المدينة والبحث عن فرص العمل فيها ، ثم لا تتسع لهم ، وهي في الوقت ذاته تكبل أقدامه " بسحرها " الخاص فلا يفارقونها!(1/212)
وأصبحت القضية في حاجة إلي حل .. إلي تقرير " حق العمل " للألوف العاطلين في المدينة ، وإيجاد أعمال تستوعبهم . ولم يكن ذلك يسيرا في مبدأ الأمر .. ولا تزال كل الحلول التي تقدمها الرأسمالية غير حاسمة تماما في هذه النقط ، وإن كان قد حدث تقدم ضخم في هذا الاتجاه من خلال المعارك التي قامت من أجل الحل ، وتعرض فيها ألوف من العمال للسجن والتشريد والموت جوعا علي الأرصفة بلا مأوي ، والموت بالسل وغيره من أمراض سوء التغذية وسوء التهوية التدفئة في صقيع أوروبا البارد في الشتاء.
لم يكن الحل سهلا لأكثر من سبب في آن واحد .
ففكرة المسئولية غير قائمة أصلا في ذهن أحد الناس ! فالدولة لم تمارس هذه المسئولية من قبل أبدأ ، ولا تحس أنها ملزمة بممارستها !.
لقد كانت الدولة دائما هي دولة الاغنياء ! تحس بالمسئولية الكاملة عن راحة الأغنياء ورفاهيتهم وصياغة الأمور كلها بحيث تستجيب لمطالبهم وتحقق لهم رغائبهم . أما ذلك الهمل من القطع الآدمية الملقاة هنا وهناك فهؤلاء يتحملون مسئولية انفسهم ! عليهم هم أن يبحثوا عن حكمة وجودهم وأن يدبروا أمورهم بأنفسهم ! فإن ماتوا جوعا فهذا قدرهم ! مع التظاهر بالعطف علي هؤلاء " المساكين" الذين قدر الله لهم الفقر والجوع والمرض والهلاك ، أو مع الشماته فيهم لأنهم لا يستحقون الوجود أصلا ويستحقون كل ما يحدث لهم !
وكانت المعركة مع " ضمير " دولة الاغنياء طويلة ومريرة حتي تزحزحت عن موقفها العنيد تدريجيا ، ورضيت بأن تتحمل المسئولية عن هؤلاء الفقراء ، وإن كانت المسئولية الكاملة لم تتخذ بعد في أية دولة من الدول الديمقراطية الرأسمالية .
أما أصحاب المصانع فقد كانوا أبعد عن تحمل المسئولية وأقسي في معاملة أولئك الفقراء .(1/213)
إن فكرة المسئولية بعيدة عن ضمائرهم بعدا كاملا ، وقد قاموا منذ أول لحظة علي غير أساس إنساني .. إنما قاموا علي أساس تحقيق أكبر قدر من الربح ، بأية وسيلة تحقق ذلك الربح ، وكانت الوسيلة القريبة إلي أيديهم هي تطويل ساعات العمل وخفض الأجور إلي أقصي حد مستطاع99
وبصرف النظر عن تأثر الرأسمالية كلها بأخلاق اليهود الذين أشرفوا عليها من بدايتها - واليهود هم عبده العجل الذهبي من قديم - فإن الرأسمالية في حد ذاتها نظام جاهلي .. ومن طبيعة الجاهلية أن تظلم المستضعفين ، وأن يطغي فيها أصحاب السلطان علي من لا سلطان لهم ، إلا أن يحجزهم عن الظلم حاجز قهري لا يملكون قهرة بجبروتهم .
ولقد استخدم العمال سلاح الإضراب ضد جشع الرأسماليين فكانوا يضربون عن العمل ويطالبون بخفض ساعات العمل ورفع الأجور 100 وهنا تلجأ الرأسمالية إلي " جيش العاطلين" تشغهم بدريهمات قلية مستغلة جوعهم وحاجتهم القاسية إلي المال ، لتضغط بهم علي العمال المضربين حتي يعودوا إلي أعمالهم صاغرين ( ومن هنا كان تشغيل المرأة بنصف أجر ، الذي بدأت منه " قضية المرأة " بادئ ذي بدء ثم استفحلت فصارت قضية مساواة كاملة في كل شئ )
لذلك كان الجو من أول لحظة بين الرأسماليين والعمال هو جو العداء والصراع لا جو المودة والتراحم ، فلم يكن من المتصور أن يتحرك ضميرا الرأسماليين بالشعور بالمسئولية تجاه أولئك " الأعداء" الذين يريدون أن ينقصوا من أرباحهم بالمطالبة بخفض ساعات العمل ورفع الأجور تارة ، والإضراب عن العمل وتعطيله تارة أخري !
ولم يشعروا بهذه المسئولية عن طيب خاطر أبدأ في يوم من الأيام ! إنما كانوا يتراجعوا عن مواقعهم خطوة خطوة تحت تأثير التهديد المستمر .. وكل ما قامت به الرأسمالية من ضمانات للعاطلين إنما كان تحت تهديدين عظيمين : تهديد الإضراب الذي يصيبهم بقدر من الخسائر اكبر مما يتنازلون عنه من فائض أرباحهم للعمال ، وتهديد الشيوعية !(1/214)
وشيئا فشيئا أخذت هذه الجاهلية تعدل مواقفها من " حق العمل " سواء علي مساوي الدولة أو مستوي الرأسمالية الحرة ، حتي قبلت أخيرا مبدا المسئولية وإن لم تقم به كاملا إلي هذه اللحظة .
وثمة صعوبة أخري تفق أمام حق العمل الشامل في الرأسمالية ، هو أن الأعمال بالطريقة التي تقوم بها الرأسمالية لا تتسع لكل الأيدي الراغبة في العمل أو القادرة عليه ، خاصة وأن التقدم " التكنولوجي " يزيد باستمرار من قدرة الآله علي الإنتاج ويخفض من عدد الأيدي اللازمة لإدارتها ، فتحدث زيادة مستمرة في الأيدي العاملة الفائضة عن الحجم الذي يحتاج العمل إيه ، وتتعقد المشكلة باسمرار 101.
التوفيق بين الطبقتين المتصارعتين في المجتمع الرأسمالي وهما طبقة العمال ( أي الشعب !) وطبقة الرأسماليين ، قامت بجهد متواصل حتي قررت حق العمل من حيث المبدأ وجعلت الدولة ترضي بتحمل مسئوليتها في هذا الشأن .
وحين نقول " الديمقراطية " فنحن نقصد في الواقع كفاح الطبقة المظلومة تمنح الحقوق للراغبين ! وإلا فإن النظام البرلماني في ذاته وهو أداة الحكم في الديمقراطيات - لم يتسع لحقوق الفقراء إلا تحت القهر والضغط .. فإذا كانت هذه الحقوق قد أصبحت اليوم سمة من سمات الديمقراطية فليس لأن الديمقراطية ولدت علي هذه الصورة ، أو انها يمكن أن توجد تلقائيا في أي بلد علي هذه الصورة ! ولكن لأن صراعا حادا نشب ، هو الذي أعطي الأوضاع صورتها الراهنة ، ولو لم يقم ذلك الصراع لبقيت الديمقراطية كما كانت حكما صرفا للأغنياء دون الفقراء !.
حق التعليم:
لم يصبح التعليم حقا" للشعب " في أوروبا إلا بعد كفاح مرير .(1/215)
ففي ظل الإقطاع لم يكن للتعليم كله شأن يذكر. ولكن السادة علي أي حال كانوا يتعلمون في القصور ما يليق بهم من العلم في ذلك الحين . يتعلمون اللاتينية والإغريقية والشعر والأدب ونصوصا من الكتاب المقدس وشيئا من الحساب وما شابه ذلك . أما أبناء الشعب فإن تعلموا شيئا من الكتاب المقدس علي دي راعي الأبرشية فذلك حسبهم وزيادة ! فما الذي يصنعون بالعلم وهم في داخل سياج القرية أو الإقطاعية قد لا يفارقها الواحد منهم طيلة حياته إنما يتلقي الصبي منهم " ثقافته " من أحاديث الكبار التي يرددون فيها خبراتهم التافهة عن الأرض والمحاصيل والضرائب والواجبات المفروضة عليهم وزواج فلان من أهل القرية او موت فلان .. وأقاصيص الثراء في قصر " النبيل" صاحب الإقطاعية وما يقيم في قصره من مأدب وولائم ، وما يقع منه ومن وكيله من مظالم علي العباد !
لذلك كانت الأمية هي الغالبة علي" الشعب " وكان المتعلمون قلة نادرة في كل أبواب التعليم ، معظمهم بطبيعة الحال من أهل المدن ، حيث توجد المدارس ، وحيث أهل المدينة يحتملون نفقات التعليم.
ثم جاءت الثورة الفرنسية ثم الثورة الصناعية فرجتا المجتمع رجا وبدلتا كثيرا من أوضاعه ، ومن بين ما تبدل من هذه الأوضاع تدفق النازحين إلي المدينة من الريف وإقامتهم الدائمة هناك .
وبدأ الطلب علي التعليم يتزايد لأنه كان ظاهرا أن للتعليم مهمة يؤديها في المجتمع الجديد ، وأنه يؤدي إلي تحسين مستوي المعيشة بالنسبة للمتعلمين ، حيث يستطيعون أن يعملوا في غير الأعمال اليدوية التي تركت للجهلة من العمال الذين لا يحتاجون في عملهم إلي ثقافة ولا تعليم .(1/216)
وبدأت صيحات المصحلين تطالب بتعميم التعليم وتوسيع دائرته حتي يشم لعددا أكبر من التلاميذ والطلاب وثارت ثائرة " المحافظين " في المجتمع وفي المجالس النيابية ذاتها ، لماذا نتوسع في التعليم حتي يشمل أبناء الشعب ؟ إن التعليم حق لعليه القوم لمكانتهم في المجتمع ، فهم الذين يقودون ويوجهون ويتحملون المسئولية عن الشعب كله .. ثم إنهم هم القادرين علي دفع نفقات التعليم ، فلا يكلفون الدولة في تعليمهم إلا القليل .
أما الفقراء فلماذا يتعلمون ؟ ما حاجتهم إلي العلم ؟ ومن أين لهم النفقات التي يتطلبها التعليم ؟ وما نتيجة تعليمهم وما انعكاسها علي المجتمع ؟ إنهم إن تعلموا فسسيتنكفون أن يعلموا بأيديهم المجتمع في حاجة إلي من يعمل بيديه ، فكيف نلبي حاجات المجتمع أن علمنا أبناء الفقراء ؟!
ثم إن العلم يحتاج إلي أخلاق ! وأبناء الفقراء لا أخلاق لهم ! وسيهبط المستوي الخلقي في المدارس بسبب دخول أبناء الفقراء ، فلا يصبح لائقا بأبناء العلية الذين يتعلمون وحدهم تقريبا في ذلك الحين - فكيف يتلقي أبناء العلية حظهم الضروري من العلم إذا فتحت المدارس " للغوغاء ط ؟
وحتي المستوي العقلي لا يمكن أن يكون واحدا بين ابناء الاغنياء وأبناء الفقراء ، وسيهبط المستوي التعليم بسبب دخول أبناء الفقراء الذين يتسمون بالغباء والتخلف العقلي لأنهم من الطبقة الدنيا ! ولو كانوا أذكياء ما بقوا في تلك الطبقة .. وإنما هم بقوا هناك لعجزهم العقلي والنفسي الذي لا يمكن شفاؤه !
وشيئا فشيئا تراجعت " الأرستقراطية " عن أفكارها ومواقفها ووافقت علي توسيع دائرة التعليم حتي يتسع لعدد أكبر من أبناء الشعب ، وإن كانت عقبة التمويل ظلت توضع امام كل مطالب بتوسيع التعليم ، لكي يكف عن المطالبة التي تقلب بال الاستقراطية وتهددها بأن تنزع منها تفردها وتميزها .(1/217)
وجاء اليوم الذي طالب فيه الطالبون بجعل التعليم إجباريا علي نفقة الدولة واحتدمت معركة حامية حول هذا الشأن لم تهدأ من قريب .
اعترض بعضهم بأن الميزانية لا يمكن أن تكفي ولو حولت كلها للتعليم !
واعترض بعضهم بأنه لا توجد المباني الكافية ولا المدرسون اللازمون !
واعترض أخرون بأن مستوي التعليم سيهبط لا محال لأن الفصول ستكتظ بالتلاميذ فلا يمكن توجيه العناية اللازمة إليهم .
واعترضت الاستقراطية بأنها لن تجد الخدم بعد اليوم ولن تجد العمال الذين يعلمون بأيديهم ، وسيعود هذا بالوبال علي المجتمع كله !
ولكن دفعة الجماهير والمدافعين عن حقوقهم كانت من القوة بحث تغلبت علي جميع الاعتراضات ، وتقرر حق التعليم بعد صراع مرير ، وبعد جهد جهيد بذل في التغلب علي العقبات الحقيقية كقلة موارد الميزانية وقلة المباني وقلة المدرسين .
واختلفت البلاد في تحديد مرحلة الالزام التي تتحمل الدولة كل نفقاتها ، هل تكون بسنوات محددة من العمل ، والتلميذ يحصل ما يحصل في تلك الفترة بحسب قدرته علي التحصيل ؟ ام تكون بمستوي تعليمي معين أيا كانت السنوات التي يقضيها التلميذ فها حتي يكملها ؟ وهل تكون هي المرحلة الابتدائية وحدها ؟ أم الاعدادية أم الثانوية .( ولم تدخل المرحلة الجامعية في هذا النطاق ) كما اختفلت فيما يفعل بالطالب الذي يتكرر رسوبه هل يفصل ؟ وإذا فصل أين يذهب ؟ أم يحول إلي تعليم آخر يتناسب مع مقدرته العقلية .. إلخ ... إلخ ولكن مبدأ التعليم العام الذي تنفق عليه الدولة تقرر علي أي حال .
وحين كانت هذه المعركة علي أشدها كانت معركة المرأة تلاحقها !
فحين تقرر مبدأ التعليم العام كان الحديث فيه عن الأولاد فقط .. أما البنات فيتعلمن - نعم - إن شئن لكن عن نفقة أبائهن ، ولا تتحمل الدولة نفقات تعليمهن كلهن !
ولكن المطالبين بحقوق المرأة كانوا لا يتوانون عن الملاحظة ،وعن طلب المساواة مع الرجل في كل شئ !(1/218)
ومن ثم فقد شمل التعليم العام النبات في آخر الأمر ، ووضع لهن ذات المناهج المعدة للبنين وكان بعد ذلك ما كان من دخول الجامعة والاختلاط والمطالبة بحق العمل كالرجال سواء !
وأيا يكن الأمر فقد اتسمت الديمقراطية بتلك السمة ، وأصبح التعليم العام المجاني معلما من معالم الديمقراطية ، ولكن ينبغي أن نذكر في كل مرة أن صراع الجماهير وضغطهم المستمر هو الذي وسم الديمقراطية بتلك السمة في النهاية ، ولم تكن كذلك من مبدئها ، ولا كان في نية القائمين عليها أن تصبح كذلك في نهاية الطريق !
الحقوق السياسية:
حق الانتخاب - حق الترشيح- حرية الكلام - حرية الاجتماع - حق الاحتجاج
مع نمو الديمقراطية نمت الحقوق السياسية للشعب . بل إن الحقوق السياسية هي في الواقع أبرز السمات الديمقراطية في صورتها النهائية التي استقرت عليها .(1/219)
وخلاصة الحقوق السياسية أن يكون للشعب حق الإشراف علي الحكومة وتوجيهها وحق نقدها والاعتراض علي أعمالها .. ويتخذ ذلك صورتين متكاملين إحداهما هي التمثيل النيابي ويحوي حق الانتخاب وحق الترشيح لدخول البرلمان ، والثانية حق الاجتماع وإبداء الرأي خار البرلمان ، ويشمل الصحافة والاجتماعات السياسية والمظاهرات السلمية التي تقام للمطالبة بأمر معين أو الاحتجاج علي أمر معين .. وكل هذه الأمور لم يكن للشعب منها نصيب علي الإطلاق قبل الديمقراطية ، وحتي حين بدأت الديمقراطية تتخذ شكل التمثيل النيابي فإن " الشعب " لم يكن ممثلا هناك ، ولا كان مسموحا له أن يلج هذا الميدان رغم ما كان مكتوبا في ديباجات الدساتير من عبارات " الحرية والاخاء والمساواة !" إنما نال الشعب كل ذلك العرق والدماء والدموع ! بالسجن والتشريد والاضطهاد وجميع ألوان المحاربة والمعارضة .. فلما ثبت المطالبون وألحوا في الطلب وصمدوا أمام الضغط أخذوا يحصلون رويدا رويدا علي كل هذه الحقوق ، حتي أصبحت اليوم أمرا مقررا في الديمقراطية ، بل أصبحت هي السمة البارزة لهذا اللون من الحكم.
وفي ابتداء الديمقراطية كانت العملية كلها تكاد تكون وفقا علي الأغنياء ! فقد كان ينص نصا صريحا علي أن المرشح ينبغي أن يكون مالكا لنصاب مالي معين ، وأن يثبت ذلك بإثباتات رسمية حتي يباح له أن يدخل المعركة الانتخابية .
وفضلا عن ذلك فإن نفقات الدعاية الانتخابية كانت - ومازالت - في طوق الاغنياء وحدهم دون الفقراء ، كما أن الناخبين أنفسهم كانوا خاضعين لقيود تجعل عددهم ضئيلا وفرصة التأثير عليهم بشتي الوسائل ( حتي شراء الأصوات بالمال !) فرصة كبيرة ، لذلك كان " نواب الأم " أبعد ما يكونون عن تمثيل الأمة في حقيقة الأمر !102(1/220)
ورويدا رويدا - تحت تأثير الاحتجاج المستمر من " الشعب " بكل وسائل الاحتجاج - خففت القيود علي الناخبين والمرشحين كليهما ، فظل النصاب المالي يخفف عن المرشحين وألغي إلغاء كاملا عن الناخبين مع تخفيض السن التي يجوز فيها الترشيح والتي يجوز فيها الانتخاب حتي صارت الآن إحدي وعشرين سنة لهذا وذاك في معظم بلاد الأرض .
وقد استغرق هذا زمنا طويلا حتي تقرر ، كما احتاج إلي نضال مستمر ، مع التعرض الدائم للمتاعب حتي أصبح اليوم من البديهيات المقررة التي لا تحتاج إلي ذكر ، فأصبح من حق أي إنسان بلغ إحدي وعشرين سنة أن يكون له صوت انتخابي بشرطين أثنين ، الأول أن يكون مقيدا في الدائرة التي يريد أن يدلي فيها بصوته والثاني ألا يكون قد صدر ضده حكم في قضية مخلة بالشرف والشرف في عرفهم لا يتعارض مع الإباحية الجنسية بطبيعة الحال ولا مع العربدة والمجون ! إنما يتعارض فقط مع الاغتصاب ومع السكر الذي تصحبه جريمة ! كما تعتبر السرقة والغش والاحتيال .. إلخ جرائم مخلفة بالشرف ) كما أصبح من حق أي إنسان بلغ هذه السن ويجيد القراءة والكتابة ولم يصدر ضده حكم في قضية مخلة بالشرف أن يرشح نفسه للبرلمان ( ولا ننسي أن المرأة ظلت تلاحق الرجل في هذه الحقوق حتي نالتها في كثير من الديمقراطيات في الفترة الأخيرة )(1/221)
وفي داخل البرلمان توضع كل الضمانات التي تتيح للعضو أن يعبر عن رأيه ، وأن ينتقد الحكومة سواء اعضاؤها أو رئيسها بما شاء من وسائل النقد وعباراته إلا أن يكون سبب شخصيا صريحا ... ويحاط العضو " بالحصانة البرلمانية " التي تكفل عدم محاسبته علي أي عبارة يتفوه بها داخل البرلمان ( ما تكن سببا شخصيا كما قلنا ) وإن كان يحق للحكومة أن تطلب من البرلمان رفع الحصانة البرلمانية عن أحد الأعضاء إذا رأت أنه تجاوز الحرية المباحة له ، وعندئذ يقدم للمحاكمة إذا وافق البرلمان علي الحصانة عنه ( وقد يكتفي بتأديبه بمنعه من حضور عدد من الجلسات أو يطرد نهائيا من البرلمان وتخلو دائرة للانتخاب فيها من جديد)
وبهذه الضمانات يملك العضو - نظريا علي الأقل - حرية واسعة وإمكانية ضخمة لتوجيه الحكومة إلي الطريق الذي يري أنه هو الصواب ، ويملك البرلمان في مجموعة - نظريا كذلك علي الأقل - سلطة توجيه الحكومة وتقييد تصرفاتها وجعل الشعب حارسا علي هذه التصرفات .
أما في خارج البرلمان فالحقوق السياسية تتضمن حرية التعبير عن الرأي - بكل وسائل التعبير - وحرية النقد وحرية الاحتجاج .
فأما التعبير عن الرأي سواء بالتأييد أو المعارضة فيأخذ صورة الانتماء الحزبي ، أي حرية أي إنسان في الانتماء إلي أي حزب من الأحزاب القائمة - مادامت ليست محظورة بأمر القانون - والكتابة في الصحف ( ووسائل الإعلام الأخري في البلاد التي تكون الإذاعة والتلفزيون فيها مملوكين لشركات وهيئات وليسا مملوكين للحكومة ، كإنجلترا وفرنسا وأمريكا ) والخطابة في المنتديات العامة والخاصة ، والاشتراك في مظاهرة سلمية بعد الحصول علي إذن من السلطات بقيام المظاهرة ( وكثيرا ما تقوم المظاهرات بغير إذن ! وعندئذ تتصرف السلطة بما تراه مناسبا : إما أن تعترف بالأمر الواقع إذا رأت أنه لا ضرر من المظاهرة وإما أن تصطدم بها وتفرقها وتقبض علي بعض زعمائها وتقدمهم للمحاكمة !)(1/222)
وأما الاحتجاج فيأخذ صورة الاضراب عن العمل وتشكيل المظاهرات ، وهو نوع من التعبير عن الرأي علي أي حال وإن كان أكثر خشونة من سابقة ، لأنه يتجاوز النقد إلي الاحتجاج .
ويشمل هذا وذاك حرية الاجتماع ، أي حق الناس في أن يجتمعوا في أي مكان ليتدارسوا أمرا معينا أو ليبدوا رأيهم في موضوع معين أو لينتقدوا تصرفا معينا من تصرفات الحكومة أو ليحتجوا علي شئ من ذلك كله .
وتكون الاجتماعات عادة في مقار الاحزاب ، وهذا لا تحتاج عادة إلي طلب تصريح من السلطة مادام الحزب مصرحا به أصلا ، إلا أن يكون دعوة عامة إلي مؤتمر أو اجتماعا مكثفا في مكان غير مقر الحزب ، أو أوسع من المقر بحيث يشمله ويشمل امتداد له في الطريق العام .
أو تكون في الجامعات أو في قاعات المحاضرات العامة ، أو في الطريق العام ، وهذه تحتاج إلي تصريح مسبق من السلطات .
وكل هذه الحريات ، التي أصبحت اليوم من البديهات المقررة في الديمقراطية لم تكن كذلك يوم بدأت الديمقراطية في الظهور ، بل كانت القيود شديدة جدا والحريات ضئيلة ، فلا الصحافة كانت تملك الحرية الواسعة في النقد ، ولاحرية الاجتماع كانت قائمة ، ولا حرية الاحتجاج ، إنما فرض " الشعب " كل ذلك فرضا علي الحكومات بالضغط المستمر والإلحاح الدائب ، والتعرض للسجن والاعقال والترشيد ويحفل التاريخ " الديمقراطي " ! بألوان من الأضطهاد ذاقها المدافعون عن هذه الحقوق حتي أصبحت أمرا مقررا و " تقاليد " مرعية في الديمقراطيات . وإلا فقد كان كل نقد حاد في الصحف يعتبر خروجا علي القانون تصادر الصحيفة من أجله ويمنع صدورها ويحبس محرر المقال والمسئولون عن الصحيفة بسببه ، وكان كل اجتماع يعتبر شغبا ويفرق بالقوة ، وكانت المظاهرات تعتبر عملا غير مشروع يعاقب عليه بالسجن أوالاعتقال أي مدة من الزمن دون محاكمة !(1/223)
واحتاج الأمر إلي ضغط البرلمانات وضغط الخطباء والكتاب لتعديل القوانين التي تبيح ذلك كله ، وتقييد يد الحكومة في التنكيل باعدائها السياسيين أو بالشعب عامة ،حتي " تعودت" الحكومات ان تستمع للنقد وهي ساكتة ن وأن تترك لمطاردتهم أو كفهم عن الاحتجاج والاعتراض .
وإذا قلنا أن مائة سنة علي الأقل من النضال المستمر قد استغرقت حتي وصلت بالأمر إلي صورته الحالية لا نكون مبالغين في ذلك ، فإننا ما نزال نري ذيولا للمعركة حتي وقتنا الحاضر رغم كل ما قررته الديمقراطيات من الحريات ، كان آخرها مظاهرات العنف في فرنسا منذ سنوات ، وما تقوم به الاحزاب الشيوعية من المعارضة العنيفة في كل بلد ديمقراطي سمح للأحزاب الشيوعية فيه بالنشاط !
وبصرف النظر عن اتجاه الحرية في البلاد الديمقراطية 103 فلا شك أن الحرية السياسية من أبرز ما تشتمل عليه الديمقراطيات ومن أهم ما تشتمل عليه .
? ? ?
أما الضمانات التي كسبها الشعب في ظل الديقراطية فهي ضمانات الاتهام ، وضمانات التحقيق ،وضمانات الحكم ، وضمانات التنفيذ . ولنقل كلمة سريعة عن كل منها لنصف بعد ذلك موقف الديمقراطية منها.
أما ضمانة الاتهام فمقتضاها ألا يؤخذ الناس بالظنة وأنهم لا يحبسون ولا يعتقلون إلا بمقتضي تهمة حقيقية تستوجب ذلك . وليس معناها بطبيعة الحال أن كل من اعتقل أو حبس لابد أن يكون مجرما بالفعل ، فقد يظهر التحقيق براءته فيفرج عنه ، إنما معناها فقط أنه لابد أن تكون هناك قرينه أو شبهة حقيقة علي الأقل في أنه ارتكب محرما بنص القانون ، وليس لمجرد أنه " ضايق" الحكومة بعمل من الأعمال فتنتقم منه بالحبس أو الاعتقال !(1/224)
وأما ضمانة التحقيق فمقتضاها ألا تستخدم مع المتهم أية وسيلة من وسائل الضغط لحمله علي الاعتراف بما لا يريد أن يعترف به سواء كان الضغط بالتهديد أو بالاغراء ( كأن يقال له إذا اعترفت فسنخفف عنك العقوبة أو سنطلب سراحك ، ويكون هذا للإيقاع به ، أو لاستخلاص معلومات معينة منه )
وأما ضمانة الحكم فهي أن يحكم علي المتهم بالعقوبة التي يقررها القانون بلا زيادة ، ويكون للمحكوم عليه حق استئناف الحكم ونقضه إذا رأي أنه مجحف به .
وأما ضمانة التنفيذ فهي أن تنفذ العقوبة التي قررتها المحكمة بلا زيادة ، ويكون للمحكوم عليه حق الاحتجاج علي أي زيادة يري أنها وقعت عليه بغير وجه حق .
وككل شئ في الديمقراطية لم يحصل الشعب علي هذه الضمانات في يسر ، ولا كانت من مقررات الديمقراطية حين قامت في البدء .
فقد كانت الديمقراطية قائمة - في أول عهدها - والشعب مطارد مضطهد بلا ضمانات تحميه !
كان من حق الشرطة أن تقبض علي أي إنسان وتودعه السجن ، وكان ذلك في الغالب لإحدي " جريمتين " الفقر أو معارضة الحكمة! فأما الفقر فقد كان يبيح للشرطة القبض علي أي إنسان بتهمة " التشرد !" وعليه هو أن يثبت ما يخالف ذلك ! وليس علي الشرطة أن تثبت " الجريمة " ! فالشبهة كافية والقانون - الذي وضعه الاغنياء -يوافق علي ذلك ! ويجعل الناس متهمين حتي تثبت براءتهم ، وذلك حتي يكون " الفقراء " تحت تهديد دائم يمنعهم من الخروج عن الأدب اللائق في حق الاغنياء !
وأما معارضة الحكومة فيالها من جريمة تبيح السجن والاعتقال والتشريد ! وما أيسر التهمة ! التحريض علي قلب نظام الحكم ، أو التحريض علي كراهية النظام، او العيب في أي ذات من الذوات " المقدسة " التي لا يجوز العيب فيها !(1/225)
وجاهد الشعب ، وجاهد أحار الفكر جهادا طويلا مضنيا من أجل تغيير هذه الأوضاع كلها ، حتي تقرر في الدساتير أولا ثم في الواقع العملي بعد ذلك أن " المتهم برئ حتي تثبت إدانته " وليس مدينا حتي تثبت براءته كما كان الحال من قبل ... وسعي المجاهدون إلي إبطال حق الحكومة في القبض والاعتقال دون سبب ظاهر ، وأصبح من المقرر الآن أنه في خلال مدة محددة من الاعتقال تتراوح بين يوم واحد وأربعة أيام في بعض البلاد لابد أن يقدم المتهم للتحقيق بتهمة واضحة محددة . وحينئذ تحوطه ضمانات التحقيق وهي تشتمل علي حقه في أن يطلب حضور محام عنه أثناء التحقيق لضمان عدم الضغط عليه بالتهديد أو الإغراء . وحقه في ألا يريد علي سؤال المحقق دون أن يتعرض من أجل ذلك للتعذيب ، وحق المحامي في أن ينبه المتهم في أثناء استجوابه إلي عدم الرد علي سؤال معين باعتبار أن المحامي أدري منه المزالق القانونية التي يمكن أن يستدرجه المحقق إليها دون أن يلتفت إلي خطورتها عليه .. وباختصار أن تكون الأدلة المادية أو القرائن هي عماد التحقيق ، وليس سحب الاعترافات من المتهم عن أي طريق !(1/226)
وتعتبر هذه الضمانات اليوم من مقاييس التحضر الإنساني ، وهي جديرة بأن تكون كذلك ، فإن معاملة المتهم تكتشف عن مدي احترام إنسانية الإنسان ، وليس مقياس الإنسانية هو معاملة السيد للسيد أو الند للند فهنا تتحكم عوامل أخري غير احترام الإنسانية في ذاتها ، إنما معاملة " الضعيف " أيا كان سبب ضعفه ، وسواء كان ضعفه عارضا - كالمتهم - أو دائما كالفقير والمسكين واليتيم ..إلخ ، هي التي تكشف ، لأن القوة هنا تغري بالاستبداد بالضعف .. فإذا امتنع القوي - أيا كان سبب قوته ، سواء كانت قوته عارضه - من جاه المنصب - او دائمة - بسبب آخر - إذا امتنع عن إيذاء الضعيف واضطهاده وإذلالة ، فلن يمنعه إلا الشعور " الإنساني " وإلا احترام إنسانية الإنسان .. فإذا كان الذي يمنعه فقط هو القانون ، فالقانون إذن يحمل في طياته احترام إنسانية الإنسان ، حتي لو كان الذين ينفذونه يفتقرون إلي الشعور بالإنسانية .. ومعاملة المتهم بالذات قد تكون اكثر دلالة من غيرها ، لأن الضعف البرئ الذي لاذنب له قد يجد من براءته سندا للعطف عليه عند ذوي القلوب الرحيمة، أما المتهم فشبهة الإدانة تحوطه ، وشبهه استحقاقه للعقوبة قائمة ، فإذا وجدت النفس الشريرة ، المتجبرة بالقوة وبالسلطان ، وإذا وجد الحقد الشخصي بالإضافة إلي ذلك ، كان الانزلاق إلي الإيذاء والتعذيب هو الاكثر توقعا ، وكذلك كان الحال في التاريخ كله في عود الاسبتداد ! المتهم يؤخذ بالشبهة ثم ينكل به تنكيلا دون مبرر حقيقي إلا شهوة الاستبداد ! والشبه هي مجرد خوف " السادة" عي سيادتهم ، ورغبتهم في إحاطة انفسهم بسياج يحفظ لهم هذه السيادة ! ويستوي في ذلك أن يكونوا حكاما ( فتكون القضية سياسية ) أو اغنياء فقط ( فتكون القضية جنائية عادية)(1/227)
فوضع القيد الذي يقيد السادة فيمتنعون أو يمنعون عن تعذيب المتهم والتنكيل به ، هو تقرير لجانب من جوانب إنسانية الإنسان ، يحسب لا شك في الميزان ، لكن الذي ينبغي أن ندركه هو أن السادة لم يضعوا هذا القيد من تلقاء أنفسهم ، إنما أكرهوا علي قبوله إكراها بالضغط المستمر عليهم ، والإلحاح في المطالبة ، والالحاح في كشف خبيئة نفوسهم الخبيثة ، بصورة تهدد سلطانهم علي الناس ! فإن السلطان - حتي سلطان الجبابرة -يقوم دائما علي قدر من الاحترام ، فإذا ذهب الاحتراف من النفوس صعب أو استحال استمرار السادة في سيادتهم وطغيانهم مهما كان لهم من جبروت .
والذي فجرته الثورة - التي انطلق فيها رد الفعل عن المظالم التي استمرت أكثر من ألف عام - كان هو إزالة القداسة عن ذوي القداسة ، سواء من رجال الإقطاع أو من رجال الدين ، فلماء جاءت الطبقة " المقدسة" الجديدة وهي الطبقة الرأسمالية لم تجد الطريق ممهدا علي نفس الصورة التي كان عليها الإقطاع من قبل ، بل وجدت الثوار - سواء بأفكارهم أو بأعمالهم - يقفون لها بالمرصاد ، ويثيرون السخرية من أعمالها في النفوس ، فتنازلت شيئا فشيئا عن كثر من مظاهر قداستها ( وإن كانت ما تزال بعد تملك الكثير!)104(1/228)
أما ضمانات المحاكمة -بعد ضمانات الاتهام والتحقيق - فهي حق المتهم في إقامة محام يقوم بالدفاع عنه أمام المحكمة ، يختاره بنفسه إذا اكن يملك دفع " اتعابه " ( أي الأجر الذي يتقاضاه مقابل الدفاع عن المتهم ) أو تنتدبه له المحكم مجانا إذا كان فقيرا لا يملك دفع الاتعاب . وحقه في الامتناع عن الرد علي أي سؤال توجهه المحكمة إليه ، وحق المحامي في منعه من الإجابة علي أي سؤال يري من معرفته بالقانون أن الإجابة عليه تضر بالمتهم ، وحقه في استدعاء الشهود الذين يري أن شهادتهم تنفعه في قضيته ، وحق المحامي في طلب التأجيل للاستعداد و المزيد من الدراسة او لتقديم أدلة جديد . ثم حق المتهم في استثناء الحكم إذا رأي أنه جار عليه أو أوقع عليه جزاء لا يستحقه ( ويقابله حق النيابة في استئناف الحكم إذا رأت أنه أقل مما يستحقه المتهم )
وأما ضمانات التنفيذ فهي أولا تنفيذ العقوبة التي قررتها المحكمة دون زيادة عليها ، وثانيا حسن معاملة المجرم داخل السجن في فترة العقوبة ، فلا توقع عليه عقوبة بدنية ولا إهانة إلا نتيجة إخلاله بنظام السجن ، الذي تتضمنه لائحة معينة تحدد علاقة السجن بسجانيه ، وتوفر له الرعاية الطبية إذا مرض ، ويكون من حقه الشكوي من إدارة السجن إلي النيابة العامة ، ومقابلة محامية في السجن إذا عن له ما يستدعي ذلك ، وزيادة أهله له زيادة دورية .. وتطور الأمر الآن في بعض السجون إلي السماح للسجين بزيارة أهله في منزله في فترات محددة ، حيث يقضي ساعات بين زوجته وأطفاله - تحت الحراسة - ثم يعود إلي السجن !
تلك خلاصة الحقوق والضمانات التي منحتها الديمقراطية للشعب ، أو بالأخري استخلصها الشعب لنفسه في ظل الديمقراطية ، والتي أصبحت اليوم هي مضمون الديمقراطية في نظر الغرب 105(1/229)
وإذا نظرنا إلي حال " الشعب " في ظل الاقطاع فلا شك أن الديمقراطية - بالصورة التي صارت إليها - كانت نقله كبيرة رفعت الشعب من حضيض " اللاشيئية " و " اللاإنسانية " إلي أن يصبح له اعتبار ، ويعامل - في جانب من جوانب الحياة - معاملة الإنسان .
وأي مقارنة بين الحالين ستثبت علي الفور هذه النقلة ، وستثبت أن الإنسان الأوربي ، الخارج من ظلمات الإقطاع ، قد استمتع في ظل الديمقراطية بجوانب مضيئة ما كانت لتخطر علي باله من قبل ، وما كان يتصور وجودها إلا في أحلام الفلاسفة الحالمين !
? ? ?
ولكن هذه الصفحة المضيئة ليست هي الصفحة الوحيدة الديمقراطية " الليبرالية " كما تسمي ديمقراطية الغرب ، أي التي تقوم علي حرية الفرد في أن يعمل ما يشاء ، تحقيقا للشعار الشهير الذي أطلقته الرأسمالية في نشأتها " دعه يعمل ما يشاء Laissez Faire ، دعه يمر من حيث يشاء laissez Passer والتي صورتها العامة هي الحرية السياسية وتعد الأحزاب 106 إنما لها صفحة أخري قائمة شديدة القتال ، بمقدار ما تتلألأ هذه الصفحة بالنور.
والتطبيق الواقعي للديمقراطية الليبرالية هو الذي يكشف سواتها ويحدد وزنها الحقيقي في ميزان الحق .
حين نزلت الآية الكريم " وقالت اليهود ليست النصاري علي شئ وقالت النصاري ليست اليهود علي شئ " قال صلي الله عليه وسلم : ما صدقتا إلا في هذه ! أي صدقت كل واحدة فيما تقول عن الأخري ، وإن كذبت فيما تدعيه لنفسها من فضائل وحسنات .
ويصدق هذا الأم فيما بين الديمقراطية والشيوعية ، فإن كلا منهما تصدق فيما تقوله عن الأخري وإن كذبت فيما تدعيه لنفسها من حسنات(1/230)
والشيوعية تقول في هذا الصدد أن " الذي يملك هو الذي يحكم " وإن " الطبقة" التي تملك وتحكم تضع التشريعات لحسابها الخاص علي حساب الطبقات الأخري ، وإنه في الديمقراطية الليبرالية يكون المال في يد الطبقة الرأسمالية فهي التي تملك ومن ثم فهي التي تحكم ،وهي التي تضع التشريعات فهي التي تملك ومن ثم فهي التي تحكم ، وهي التي تضع التشريعات أنتي تحمي مصالحها ضد مصالح الطبقة الكادحة .
وهذه القولة صادقة إلي حد كبير وتوشك أن تكون صادقة كل الصدق لولا أن الطبقة الكادحة لم تستسلم تماما كما كانت قبل ثورتها علي الأقطاع ، بل قاومت وقامومت .. وحصيلة مقاومتها هي التي أحدثت الفرق بين وضعها في ظل الإقطاع ووصفها في ظل الرأسمالية .
ولكن تعال ننظر - رغم ذلك - إلي حقيقة الواقع ، ونسأل - بموضوعية كاملة - لصالح من تجري الحياة في ظل الديمقراطية الليبرالية ، ومن هو المستفيد الأكبر ، ولا نقول كما تقول الشيوعية إنه المستفيد الوحيد .
لاشك أن الأمور تجري - في عمومها - لمصلحة الرأسماليين !
ورغم كل التنازلات التي أكرهت الرأسمالية علي تقديمها للشعب فما زال الغنم الأكبر في أيديهم ، والفتات في يد الجماهير .
لا نقول - كما تقول الشيوعية - إن المنتج الحقيقي هو العامل وإنه هو الذي يستحق وحدة حصيلة الإنتاج ، فتلك مغالطة سنناقشها حين نناقش الشيوعية في الفصل القادم ، ولا نقول كذلك - كما تقول الشيوعية - إن أصحاب رؤوس الأموال هم قوم لا عمل لهم إلا التطفل علي دماء الكادحين ، بينما هو لا يستحقون منها شيئا عي الإطلاق لأنهم لا يعملون بأيديهم .
لا نقول هذا ولا ذاك.. ومع ذلك فلننظر إلي الفارق الضخم الذي يفرق بين دخول الرأسماليين ودخول العمال .. هل هو فارق طبيعي ؟ هل هو فارق عادل ؟ هل هو فارق لا يؤثر في القيم والمبادئ المتعلقة بإنسانية الإنسان ؟!(1/231)
كيف جاء هذا الفارق بادئ ذي بدء ؟ هل هو حقيقة نتيجة العبقرية الفذة التي خص الله بها الرأسماليين وحرم منها بقية عباد الله ؟! أم هي مغتصبة اغتصابا بوسائل غير مشروعة ؟!
هل كانت الرأسمالية عادة منذ البدء في تحديد أجور العمال ؟ أم كان تحديدها قائما علي أسوأ نوع من أنواع استغلال ؟ وحتي حين خفضت ساعات العمل ورفعت الأجور بعد الصراع المرير الذي قام به العمال ، فهل حدثت العدالة الإنسانية الواجبة ؟
أن تضخم رؤوس الأموال ينشأ ابتداء من امتصاص دماء العمل وعدم توفيتهم أجورهم ..وقد يكون تحديد الأجر مسألة اجتهادية تختلف من وقت إلي وقت ومن حال إلي حال . ولكن له حدودا عامة لا ينبغي أن يخرج عنها ، وهي توفير " الحياة الكريمة " للإنسان الذي يبذل جهده ليعيش .
ويجي تضخم رؤوس الأموال كذلك من إقامة الحياة كلها علي الأساس الربوي الذي يمقته الله .
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)} [سورة البقرة 2/275-276]
والذي قال عنه الدكتور " شاخت " الألماني في تقرر اعده في الأربعينات من هذا القرن إن نتيجته الحتمية هي تزادي رؤوس الأموال في يد فئة يتناقص عددها علي الدوام وزيادة الفقر في عدد متزايد من الناس !(1/232)
ويجئ تضخم رؤوس الأموال أيضا من إنشاء صناعات تافهة لا يحتاج إليها الإنسان الجاد الذي يعيش لأهداف جادة ، بل هي تفسد الاخلاق وتميع الطباع وتشغل الناس بالتفاهات بدلا من شغلهم بآفاق الحياة العيا .. وكل ذلك لأنها أكثر ربحا .. ولان دوره المال فيها أسرع بكثير من دورته في الصناعات الحقيقة التي تؤدي هدفا جادا في حياة الإنسان .. كصناعة السينما وصناعة أدوات الزينة والتفنن في " المودات ط سواء مودات الملابس أو مودات الأثاث في البيوت أو مودات السيارات في الطريق .
تلك أدوات التضخم الرأسمالي أو هذه أبرزها .. فأيها أدوات طبيعة ؟ وأيها أدوات عادلة ؟ وأيها أدوات لا تؤثر في إنسانية الإنسان ؟
ولا يقولن أحد : هذه هي الرأسمالية ، ولكننا نتكلم عن الديمقراطية ! فالواقع أنه لا يمكن فصل هذه عن تلك!
أن هذه الديمقراطية - بمجالسها النيابية ، بمثلي الشعب فيها -0 هي التي تصدر القوانين التي تبيح للرأسمالية أن تتصرف علي هذا النحو دون أن تتدخل فيها ، بل - في الحقيقة - دون أن تجرؤ علي التدخل فيها !
ومن ناحية أخري فإن الرأسمالية هي الوجه الاقتصادية للديمقراطية الليبرالية ، كما أن الديمقراطية الليبرالية هي الوجه السياسي للرأسمالية !
ولسنا نقول - كما تقول الشيوعية - إن الوضع الاقتصادية هو الذي يشكل الأفكار والعقائد والنظم والمؤسسات التي تتمشي معه وتخدم أهدافه .(1/233)
وإنما نقول - ونراه ادني إلي الصواب- إن الوضع الاقتصادية والوضع السياسي - ( والوضع الاجتماعي كذلك كما سيجئ) كلها أوجه متناسقة مع النظام أو الفكرة التي تقوم عليها ، ولكها منبثقة من أصل واحد مشترك هو " الإنسان " مستقيما أو منحرفا ، وعلي أي نحو هو منحرف ، فأما إن كان مستقيما ( أي علي النهج الرباني ) فهو يصوغ حياته : الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والروحية ..إلخ علي مقتضي المنهج الرباني ، وهو منهج متناسق في جميع وجوهه ومتكامل بعضها مع بضع ، وأما أن كان منحرفا فبحسب نوع انحرافه تكون أوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والروحية ..إلخ وتكون متناسقة مع لون الانحراف الذي يقع فيه ذلك " الإنسان " فليس الاقتصاد هو الذي يصوغ السياسية ولا السياسية هي التي تصوغ الاقتصاد ، إنما هما معا - ومعهما بقية وجوه الحياة - يصوغها الإنسان متأثرا بنوع انحرافه .
والانحراف الذي يتخذ الرأسمالية وجهة الاقتصادي ، والديمقراطية الليبرالية وجهة السياسي ، والتفكك الاجتماعي ( كما سيجئ) وجهة الاجتماعي ، هو أولا انحراف عن شريعة الله ومنهجه المنزل لإصلاح الحياة وإقامتها بالقسط ، وهو من جهة أخري انحراف الفردية الجامحة التي تريد أن تفعل ما تشاء Laissez Faire . Laissez Passer ( دعه يفعل ما يشاء ، دعه يمر من حيث يشاء !) هذه الفردية الجامحة تأخذ في الاقتصاد صورة الرأسمالية ، وتأخذ في الاجتماع صورة المجتمع المفكك الروابط المنحل الاخلاق ، وهي انحرافات متناسقة بعضها مع بعض، متكاملة بعضها مع بعض ، ولا يمكن فصل بعضها عن بعض!
فالذين يقولون نأخذ الديمقراطية صورة سياسية وليس من الضروري أن نأخذ معها الرأسمالية الجامحة هم واهمون في محاولة فصل وجه من هذا النظام عن وجه آخر .. أو هم يتحدثون عن شئ آخر غير الديمقراطية الليبرالية لا نعلم صورته علي وجه التحديد !(1/234)
ومهما يكن من أمر فإن الديمقراطية الليبرالية - الموجودة بالفعل ، لا المتخيلة في الأذهان - هي هذه التي تحتمي بها الرأسمالية وتلعب لعبتها من خلالها وسنتكلم في الصفحات القادمة عن أبعاد اللعبة كلها التي تتم من وراء الصورة السياسية المتمثلة في الديمقراطية الليبرالية ، ولكننا نقرر هنا حقيقتين تبدوان متناقضتين في الظاهرة ولكنهما في الحقيقة غير متناقضتين إذا أنعمنا النظر فيهما :
الأولي : أنه من خلال النظام الديمقراطي نال " الشعب " ماناله من حقوق وضمانات .
والثانية : أن الرأسمالية هي صاحبة الهيمنة وصاحبة التشريع من وراء اللعبة الديمقراطية بأكملها .
ولازالة التناقض الظاهري بين الحقيقتين نقول أولا : أن الشعب نال ما ناله من الحقوق من خلال صراعه وكفاحه ودأبة في إحراج الرأسمالية واقتناص الحقوق والضمانات منها ، فهو ينتزعها منها انتزاعا وهي تتنازل عنها كارهة ومكرهة ، وإن يقظة الشعب بدأت منذ ثار علي الإقطاع وليس منذ اتخذا الديمقراطية ! بل الديمقراطية هي ثمرة ثورته فهي نتيجة لاسبب .
ونقول ثانيا : إنه علي الرغم من ذلك فقد تركت الرأسمالية الثوب - ثوب الديمقراطية- يلبسه الشعب ، ونفذت هي إلي مصالحها من خلاله فنالت كل ما تريد من تشريعا تحمي مصالحها وتتيح لها أن تقوم بكل مظالما ! فإذا كانت قد اضطرت للتنازل عن بعض المصالح تحت ضغط الشعب ، فهي من جهة قد تنازلت عن فتات لا يؤثر تأثيرا حقيقيا في مصالحها ، فما تنازلت عنه هو قطرات من فائض ارباحها ، وما تزال أرباحها تتزايد بصورة جنونية ! وهي من جهة أخري قد تنازلت عن هذا الفتات لأنها لم تأمن علي نفسها إذا ظلت في موقف التصلب أن تفقد ثروتها كلها وكيانها كله ! ففي نظرها هي أنها ألقت للكلاب الجائعة بلقيمات تلهيها بها خوفا من أن تأكلها الكلاب ! فخوفا من الشيوعية تنازلت الرأسمالية الغربية عما تنازلت عنه ، وخوفا من أن تدمر الاضرابات كل الأرباح !(1/235)
فلا تناقض إذن بين الحقيقتين ، والرأسمالية هي صاحبة النظام كله وهي المستفيد الأول منه ، ولا عليها أن يتزيا الشعب بزي الحرية .. أو الحرية والإخاء والمساواة 107 ولننظر في هذه الحرية علي حقيقتها ..
لاشك أن الفرد في الديمقراطية الليبرالية حر حرية كاملة كما يبدو ( في الظاهر ) في أن يتخذ قراراه دون ضغط من أحد ، وأن يعبر عن رأيه بحرية ، وان يدعو لرأيه بكل وسائل الدعاية وأن يختار المرشح الذي يمثله في البرلمان والذي يشرف علي أعمال الحكومة ويهيمن علي تصرفاتها .
ولكن دعنا نتأمل الحقيقة الكامنة وراء هذا الظاهر .. فمن الذي يصوغ لهذا الفرد أفكاره أو - من زاوية أخري - من الذي يشكل " الرأي العام " الذي يوجه هذا الفرد لاتخاذ قراره !
أنها وسائل الإعلام ! الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون والخطبة والمحاضرة والكتاب .
ودعك - موقتا - من أن وسائل الإعلام تشرف عليها اليهودية العالمية وتوجهها الوجهة التي تخدم مصالحها ، فلنا عود إلي هذه النقطة في مكان آخر من هذا الفصل .
أنما نقول - مؤقتا - إن الذي يملك وسائل الإعلام هو الرأسمالية ( بصرف النظر عن ملتها !)(1/236)
أن الصحافة - وقد كانت وما تزال من أشد وسائل التأثير - لا تستطيع أن تعيش بلا معونة خارجية ، فهي تتكلف بالفعل أضعاف الثمن الذي تباع به للجمهور ، والثمن الذي تباع به للجمهور لا يصل كله إلي أصحاب الصحيفة فهناك في الوسط وسيطان أثنان علي أقل تقدير هما الموزع العام الذي يتكفل بأخذ مجموع النسخ المطبوعة وبيعه للبائع الصغير ( أي الذي يبيع مجموعة صغيرة من النسخ ) ثم هذا الموزع الصغير الذي يبيع للجمهور . فإذا تصورنا جدلا أن ثمن النسخة للجمهور هو مائة وحدة فإن خمسين وحدة علي الأقل إن لم يكن أكثر يتقاسمها هذان الوسيطان ،والباقي هو الذي يرد إلي الصحيفة مع " المرجوع" أي النسخ التي لم يتم توزيعها ولا عائد لها علي الإطلاق ,.. فكيف تغطي الصحافة تكاليفها ثم تربح فوق ذلك أرباحا طائلة ؟ إنها تعتمد - أساسا - علي الإعلانات ثم علي الإعانات من أي طريق تجئ .
والإعلانات - بطبيعة الحال - في يد الشركات والمؤسسات الصناعية أي في يد الرأسمالية ومن ثم فإن يكفي لقتل أي صحيفة " حرة" أي طويلة اللسان تتجرأ علي المصالح الحقيقية للرأسمالية ، أن تمنع عنها الإعلانات فتسقط في هاوية الإفلاس ! ولا ضير في الوقت ذاته علي الرأسمالية من مناوشات سطحية في الصحف تنتقد كما تشاء دون أن تصيب الجذور ! بل هو أمر في صالح اللعبة في نهاية المطاف !
فإذا كان الصحافة - التي تؤثر التأثير الأكبر علي " الرأي العام " واقعة في قبضة الرأسمالية إلي هذا الحد ، فلنا أن نتوقع أن تكون الأفكار التي تصوغها وننشرها هي ما تريده الرأسمالية ، أو في القليل هي ما لا يتعارض مع المصالح الحقيقة للرأسمالية . ومثل الصحافة بقية وسائل الإعلام فهي واقعة بصورة أو بأخري في ذات القبضة الشريرة التي توجه الأفكار وتشكل المواقف للناس !(1/237)
ولنأخذ ثلاثة نماذج مختلفة من طريقة تشكيل " الرأي العام " في مسالة سياسية ومسألة اجتماعية ، ومسألة اقتصادية تخدم كلها مصالح الرأسمالية ويبدو فيها " الرأي العام " كأنما تشكل من تلقاء نفسه واتجه إلي الوجه التي اتجه إليها !
لنفرض أن المطلوب هو إشعال حرب في مكان ما علي سطح الأرض ،وهو أمر يهم الرأسمالية من جميع الوجوه المتخيلة ! وأولها بيع السلاح الذي يدر علي صانعية أرباحا خيالية ( ونصرف النظر - مؤقتا - عن أن تجار السلاح في العالم من قديم الزمان هم اليهود ) 108! فكيف يهيأ " الرأي العام " لتقبل الحرب أولا ، ثم التحمس لها ثانيا ، ثم المطالبة بها أخيرا !
تبدأ الصحف - وكذلك وسائل الإعلام - في نشر أخبار قصيرة مثيرة تثير عند الغافلين - والرأي العام دائما غافل - نوعا من التطلع والانتباه . ثم يزاد في طول الخبر ويؤتي بمزيد من التفاصيل .. ثم يصبح الموضوع هو الحديث اليومي في الصحافة والإذاعة والتليفزيون .. يزاد في نغمة الإثارة حتي تشحن النفوس بالوقود ... ثم تأخذ الصحافة في الاستطلاع " الرأي العام " ( كأنما لم تكن هي التي وجهته ) فإن الرأي العام متحمس ! إذن لابد مطالبة الحكومة بالتحرك ! وإذن تبدأ الحكومة في الاعداد .. ثم تنطلق شرارة الحرب ، ويباع السلاح ، وتتحقق الأهداف المطلوبة من وراء " المشروع" !.(1/238)
ففي الحرب العالمية الثانية التي امتدت فشملت معظم أرجاء الأرض ، وقتل فيها أربعون مليونا من الشباب في ميادين القتال غير الذين قتلوا من الرجال والنساء والأطفال بعيدا عن ميادين الحرب بالقنابل المدمرة ، وغير الذين قتلوا بتأثير القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا في نجازاكي وهيروشيما .. بدأت صحافة الحلفاء ( أي الديمقراطيات في غرب أوربا وفي امريكا ) تتكلم عن هتلر واستعداداته الحربية والأزمات التي يثيرها ( وخاصة أزمة ممر دانزج التي اعتبرت الشرارة الأولي للحرب ) وبدأت تكتب عن النازية وعن النظم الدكتاتورية وعداوتها للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان .. وأن علي الديمقراطيات التي تشكل " العالم الحر " أن تؤدب هذا الطاغية الذي ينذر بشر مستطير لجميع البشرية !
وما نريد أن نتحدث هنا عن " الحق ط في أي جانب كان .. فقد كان كل ماتقوله صحافة "العالم الحر " عن هتلر والنازية الدكتاتورية حقا ، وكان هتلر بالفعل طاغيرة جبارا يريد إذلال العالم وإخضاعه لسلطانه ، ويصدر عن جنون عنصري مرتكز علي أفضلية الجنس الآري وجدارته بأن يحكم العالم كله ! ولكن ما فضل " الحفاء" عليه ؟ اليسوا هم ممثله طواغيت - كانوا - يحكمون العالم كله يومئذ ويذلونه باسم حضارة " الرجل الأبيض "وجدارته أن يحكم كل شعوب الأرض ؟ وماذا يملك الرجل الأبيض من المقومات الحقيقية التي تؤهله لذلك السلطان وتعله وقفا عليه وحده لا يشاركه أحد فيه ؟
فقد كان إذن ما تقوله صحافة الحلفاء ( وإذاعتهم ) حقا بالنسبة للنازية وهتلر ، أما ما كانوا يدعونه لأنفسهم من أنهم هم حماة الحرية وحماة حقوق الإنسان ، فقد تبين كذبه كله عقب الحرب مباشرة حين خرج الحلفاء منتصرين من الحرب فضربوا بكل وعودهم للشعوب عرض الحائط ، بل قالوا لهم في تبجح : لقد حميناكم من النازية فادفعوا ثمن الحماية .. وثمنها أن يكونوا خاضعين لهم يدورون في فلكهم ويخدمون مصالحهم .(1/239)
علي أية حال فنحن نتتبع معالجة الصحافة والإذاعة للأمر .
لقد كان المطلوب تهيئة " الرأي العام " للحرب ، ولأمر آخر لا يقل خطرا .. وهو إنشاء دولة إسرائيل .
فلتكتب الحصافة إذن - وجميع وسائل الإعلام المتاحة - عن طغيان هتلر ، وعن حشيته في إبادة اليهود وتعذيبهم .. حتي يشحن " الرأي العام " ويصبح مستعدا للحرب بعد أن كان ناقرا منها أشد النفور .. وحتي يعطف علي قضية اليهود بعد إذ كان كارها لهم أشد الكره !
وشيئا فشيئا يصبح حديث الحرب أمرا عاديا ، بل يتحمس الناس للحرب ويضغطون علي حكوماتهم ان تدخل الحرب تاديبا للطاغية الذي يستحق التأديب ، والذي ترك وشأنه خرب الأرض ودمر مقومات الحضارة !
وشيئا فشيئا يتعاطف الناس مع اليهود الذي يعذبهم النازي ويحرقهم أحياء في الأفران 109! ويصبح " الرأي العام العالمي " مهيأ للدعوة التي تجئ بعد ذلك بضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين 110!
ثم يشتدد الحماس حتي تدخل كل دول الغرب في الحرب ، ويشتد التعاطف مع اليهود حتي يصبح العرب في نظر العالم مجرمين إذا أبوا أن يتنازلوا عن أرضهم وديارهم لشعب الله المختار !
? ? ?
ولنفرض أن المطلوب هو تفكك روابط الأسرة ونشر الفساد الخلقي وتحريض المرأة ضد قوامه الرجل عليها .
تبدأ الصحافة بمهاجة الزواج المبكر وذكر مضارة !
إن كلا من الزوجين يكون قليلا الخبرة بالجنس الآخر نتيجة عدم الاختلاط ، ثم قليل الخبرة بالحياة لصغر السن وقلة التجربة ، ثم قليل الخبرة بتربية الأولاد .. الذين يجيئون في أول عهد الزواج فتسوء تربيتهم ! لذلك يلزم تأخير سن الزواج مع إباحة الاختلاط حتي يتحقق التعارف بين الجنسين واكتساب الخبرة اللازمة للزواج ، ويتأخر مجئ الأولاد حتي تزداد الخبرة فتحسن تربيتهم !(1/240)
ثم يظل الحديث عن ضرورة الاختلاط يلح علي الناس حتي يتكون " رأي عام " موافق علي الاختلاط بعد إذا كان معارضا له ، ثم يظل الحديث يلح علي الناس حتي يتحمسوا له ، ثم يظل الحديث يلح علي الناس حتي يبلغ لحماس للاختلاط أن يتهموا كل معارض له بالرجعية والتخلف والجمود والتأخر ويهددوه بأن عجلة التطور ستسحقه وتقضي عليه !
ثم يقال للمرأة إن الزواج الباكر والانجاب الكثير يفسد رشاقتها ! ويقتل حيويتها ! ويمنعها من مشاركة الرجل في إدارة شئون المجتمع ! وتظل الصحافة ( ووسائل الإعلام الأخري ) تلح علي هذا الأمر حتي تخرج المرأة من فطرتها وتنظر إلي الزواج علي أنه قيد يعوقها ! وإلي الانجاب علي انه عدو يفسد جمالها ورشاقتها ،وإلي البيت والانشغال به علي أنه إهدار لطاقتها بل إهدار لكرامتها ! وبعد أن كانت - كما هو مركوز في فطرتها - تفرح بصيحة الطفل لأنها تحقق لرسالتها وإثبات لأنوثتها المتمثلة في الاستعداد للحمل والانجاب ، صارت تمقت صيحة الطفل ، وتكره البيت ، وحتي إن تزوجت تستخدم موانع الحمل لتحافظ علي رشاقتها .
ثم يظل تأثير الصحافة ووسائل الإعلام عليها حتي تري أن من حقها أن " تستمتع " بالحياة استمتاعا حرا دون أن يفرض علي استمتاعها قيد خلقي أو اجتماعي أو من أي نوع ، فمن حقها أن تمارسع الجنس في حدود الصداقة مع الرجل دون أن ينشأ عن ذلك بالضرورة زواج أو أسرة .. ومن حقها أن تؤخر الزواج حتي تشبع من الاستمتاع الحر .. ومن حقها أن تؤخر الإنجاب حتي تشبع من العمل خارج البيت ، ومن الرشاقة في الحفلات وحلبات الرقص .
ويصبح ذلك كله من مقررات " الرأي العام" النسائي علي الأقل ، بل النسائي والرجالي كذلك .. ( أي من مقررات العقل الجمعي ) ! ويصبح المعارض لذلك هو المجنون الأبله ، وهو المتحجر علي أوضاع عفي الزمن عليها ولا يمكن أن تعود !
? ? ?(1/241)
ولنفرض أن المطلوب هو ترويج عملية ربوية كعملية التأمين علي الحياة . تظل الصحافة - ووسائل الإعلام الأخري - نقص القصص عن أحوال الأسر التي تصيبها كوارث ، حتي توقظ مشاعر الناس لهذه الحالة المنتشرة في المجتمع ( ولا يذكر بطبيعة الحال أن تفكك الأسرة وتفكك روابط المجتمع في المجتمع الصناعي الرأسمالي كانت هي السبب في وجود هذه الحالة وانتشارها ، لكي لا يتنبه الناس إلي المكر الماكر المحيط بهذا الشأن من أوله إلي آخره ولكي لا يتنبهوا أن الحل الحقيقي هو إيجاد التكافل الاجتماعي سواء داخل الأسرة أو داخل المجتمع أو بتكليف الدولة أن تقوم بكفالة من لاكافل له )111 ثم تروج الصحافة من جانب آخر لشركات التأمين و " الخدمات الجليلة " والتي تقوم بها ، وعن حالة الأسر التي أخذ عائلها بنظام التأمين ، فصارت مستقرة لاتهزها الأعاصير !
ويظل إلحاح الصحافة ووسائل الإعلام الأخري حتي يصبح الأمر حقيقة منتهية لا جدال فيها ، أن التأمين لدي شركات التأمين واجب علي كل إنسان بعيد النظر ، وأنه ضرورة لا غني عنها في العالم الحديث ! ولا يتحدث أحد عن الأرباح الخيالية التي تربحها شركات التأمين الربوية من الناس ! ولا يتحدثون عن الأقساط الربوية التي يدفعها المؤمنون .. ويصبح ذلك كله أمرا واقعا في المجتمع ، بل يصبح أمرا " واقعا في المجتمع ، بل يصبح أمرا " روتينيا " يأتيه كل إنسان دون أن يفكر علي الإطلاق أنه كان يمكن أن يكون هناك بديل ، أو أنه يجب أن يكون هناك بديل .. ويكون هذا هو " الرأي العام " في هذه القضية أو هو العقل الجمعي الذي يضع للناس مقررات الحياة 112
إذا كانت هذه هي طريقة تشكيل " الرأي العام " الذي تعتمد عليه الديمقراطية - في ظاهرها علي الأقل - فكيف تكون الديمقراطية هي حكم الشعب علي الحقية ؟(1/242)
إن الرجل العادي - الذي يسمونه " رجل الشارع " كأنه لا بين له ولا انتماءله ! - مشغول بأحواله المعيشية الخاصة عن النظر الحقيقي في الأمور العامة وتكوين رأي مستقل فيها . وذلك لسبين ، أحدهما عام لا يختص ببيئة معينة ولا زمن معين ، هو أن الأغلبية الكبري من الناس لا تحب أن تشغل نفسها بالأمور العامة ولا تصبر علي التعمق فيها ، وليس عندها الأدوات المعيشة علي ذلك من نفقة وتدبر وبعد نظر وإحاطة بالأسباب والنتائج ، فتحب أن تترك هذه الأمور لفئة معينة من الناس ، تثق فيها وتكل إليها هذه المهمة الخطيرة . والسبب الثاني خاص بهذه الديمقراطية الليبرالية بالذات ، أو هو في الحقيقة خاص بالجاهليات جميعا ولكنه في هذه الجاهلية التي يشرف اليهود علي توجيهها أشد ، وهو التلهية الدائمة لرجل الشارع هذا عن أي يلتفت إلي الأمور العامة بنظر مستقل وفكر متفحص ، عن طريق شغله بأمور معاشه من جهة وأمور لهوه و " استمتاعه " من جهة أخري نقول إن هذا موجود في الجاهليات جميعا ، حتي يتفرع أصحاب السلطان لسلطانهم دون تدخل من يقظه الجماهير ، التي قد تتيقظ فتطالب بحقوقها المسلوبة ، التي يعيش - من سلبها - أصحاب السلطان ! ولكنه في هذه الجاهلية أشد لأن اليهودية - او أن شئت قل الرأسمالية - تشغل الناس شغلا داما بأمور المعاش لكي تربح هي ربحا الفاحش ، فاليوم الثلاجة وغدا السيارة وبعد غد تغيير السيارة لأن الجديد أكثر أناقة أو فيها زر إضافي ليس في السابقة ! كما تشغلهم باللهو الدائم فاليوم السينما وغدا المسرح وبعد غد حلبة الرقص وبعده النزهة الخلوية .. والليلة موعد مع الصديقة وبعدها صديقة أخري أو حفل جنسي صاخب .. وهكذا ، لتربح الرأسمالية - أو قل اليهودية - أرباحا مركبة : ربح المال ، وربح إفساد الأمميين ، وربح تلهيتهم عما يدور حولهم من أمور ، ليخطط المخططون وهم في مأمن كامل من يقظة الجماهير !(1/243)
إذا كان الحال كذلك علي الحقيقة فأين هو " الرأي العام " الحقيقي الذي يوجه السياسة في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ؟! إنه في الحقيقة أصحاب رؤوس الأموال .. هم الذين يرسمون السياسية ، وهم الذين يشكلون " الرأي العام عن طريق الصحافة ووسائل الإعلام الأخري ، فيصوغونه علي النحو الذي يريدون .. النحو الذي يحقق مصالحهم في النهاية ، ولا بأس أن يترك شيئا من الفتات " للشعب" حتي لا يتحول إلي كلاب جائعة تهدد المكتنزين !
حقيقة ان هناك نوابا وتمثيلا نيابيا وهناك برلمان يقول فهي من أراد كل ما يريد أن يقول
ولكن من هم النواب في حقيقة الواقع ؟
هل يتاح لأي إنسان أن يصل إلي البرلمان ويوجه الأمور من هناك ، كما هي الصورة النظرية للديمقراطية ؟
أن المعركة الانتخابية في حاجة إلي تكاليف لا يقدر عليها إلا الاغنياء من الناس ، ومتي كان هو من طبقة الأغنياء فما الذي يجعله يفكر في " طبقة " المساكين ؟ إنهم ليسوا في نظره مساكين ! إنهم من جهة اولئك " الاعداء " الحاسدون لما في يده من النعمة ، الطامعون ، الذين يريدون أن ينهبوه وينتقصوا أرباحه ! وهم من جهة أخري أولئك " الطفيليون" الذين لا يحسنون شيئا ويطمعون في كل شئ " الاغبياء " الذين وقف بهم غباؤهم عن أن يصعدوا إلي القيم التي وصلواهم إليها .
وحقيقة إن هناك من الفقراء ومتوسطي الحال من يرشحون أنفسهم وينجحون في الانتخابات .. ولكن كيف يصلون إلي هناك ؟ إنه لابد من أحزاب تحملهم وتحمل عنهم عبء المعركة الانتخابية وهو عبء باهظ .(1/244)
فإذا دخل الإنسان الحزب فقد تغيرت أحواله كلها وأصبح إنسانا أخر . أصبح " محترفا " في عالم السياسية ، وهو وحزبه في أحد حالتين لا ثالث لهما ، وفي أحد موقفين : إما أن يكون حزبه في الحكم فهو ملتزم بتأييد الحكومة في كل ما تصنع ، سواء كان في دخيله نفسه مقتنعا بما تفعل أو غير مقتنع . وإما أن يكون حزبه في المعارضة - أي خارج الحكم - فهو ملتزم بمعارضة الحكومة القائمة في كل ما تصنع ( إلا أن تكون " مصلحة عامة " أي يستفيد منها الرأسماليون جميعا !) سواء كان في دخيله نفسه مقتنعا بالمعارضة أو غير مقتنع !
وهكذا تسمع صيحات : العدل . والقيم . والمبادئ . والإنسانية ... إلخ من الحزب المعارض طالما هو في المعارضة ، فإذا وصل إلي الحكم سلك ذات السلوك الذي كان ينتقده ويندد به من قبل ! وصار الدور علي الحزب المعارض - الذي كان في الحكم من قبل - لينتقد من الحكومة القائمة ذات الأعمال التي كان يسوغها لنفسه وهو في الحكم ، ويتصايح بدعاوي الإنسانية والعدالة والقيم والمبادئ !
ومن الأمثلة الواقعية - المضحكة - أن حزب العمال في بريطانيا ظل وهو في المعارضة ينادي بضرورة زيادة أجور العمال ، فلما وصل إلي الحكم رفض أن ينفذ ما كان يدعو إليه وهو في المعارضة - أو عجز عن تنفيذه ! - وسلك ذات السلوك الذي كان يعيبه من قبل علي حزب المحافظين ، وهو تجميد الأجور خوفا من التضخم !
وصحيح أن هناك " أحرارا" يصلون إلي البرلمان ، ويقولون قوله الحق ، وينتقدون بجرأة ، ويطالبون بحقوق أصحاب الحقوق ، ولكن كم عدد هؤلاء ؟ وما وزنهم في المجالس النيابية ؟(1/245)
إن القرارات تؤخذ بالأصوات . ولا ضير في المبدأ في ذاته فهو مبدأ عادل . ولكنه صالح حين يكون أصحاب الأصوات من العدول لا حين يكونون من أصحاب الأهواء ، فأما حين يكونون من أصحاب الأهواء ، الملتزمين بالمعارضة أو الملتزمين بالتأييد بحكم موقف الحزب الذي يتبعونه ، فعندئذ تضيع أصوات القلة من الأحرار في وسط أصوات الكثرة من المزيفين ! وتنفذ مصالح الرأسمالية كلها من خلال اللعبة الهائلة ، لعبة الحرية والديمقراطية والتمثيل النيابي والبرلمان ! إلا الفتات الذي يتساقط في الطريق ، أو يسقط عمد اللتلهية ، أو يسقط تحت الضغط الشديد !
أما " الحرية " الحقيقية التي تتيحها الديمقراطية وكأنما أنشئت من أجلها ، فهي " الحرية الشخصية ": حرية الالحاد وحرية الفساد الخلقي ! هنا يلتقي الجميع : المعارضون والمؤيدون والشعب والرأسماليون ، والحكام والمحكومون !
إن الديمقراطية الليبرالية تقيد الحرية حيق ينبغي أن توسع ، وتوسعها حيث ينبغي أن تضيق !
فحين تمس مصالح الرأسمالية فلا حرية علي الإطلاق ! ويذكر الناس جميعا قصة مقتل كنيدي رئيس جمهورية الولايات المتحدة ، حين قتل في عام 1963 م لأنه وقف في طريق مصلحة من مصالح الرأسمالية ، ثم لعب بقضيته لعبا بحيث لا تنكشف الحقيقة ولا يوقع علي المجرمين الجزاء !(1/246)
فقد كانت سياسة الرأسمالية يؤمئذ - أو قل سياسة اليهود المشرفين علي توجيه الجاهلية المعاصرة - هي وضع العالم علي " حافة الحرب" من أجل تنشيط صناعة السلاح وبيعه ، وهي - كما قلنا - من أربح الصناعات بالنسبة إليهم . ولكن كنيدي كانت له نظرة أخري مختلفة ، ينطلق فيها من مصلحة الولايات المتحدة التي هو رئيسها المنتخب لتحقيق مصالحها .. فقد كان رأي كنيدي أن المصلحة القومية للولايات المتحدة تقتصي تهدئه الأحوال العالمية ، لكي يوجه الانفاق إلي رفاهية الشعب الأمريكي بدلا من توجيه إلي صناعة الحرب التي لا عائد منها علي الشعب .. لذلك سعي إلي مصالحة الاتحاد السوفيتي والاتفاق معه علي تهدئه الأحوال العالمية ، وخطا بالفعل خطوة نحو إشاعة السلام ، فمد يده إلي خروشوف الزعيم الروسي القائم بالحكم يومئذ لفتح باب المحادثات التي تؤدي إلي توطيد السلام ، وخطا خرشوف من جانبه خطوة فقبل أن يدخل في محادثات السلام .(1/247)
ورغم أن هذا كان تصرفا حكيما من وجهة النظر الأمريكية البحتة ، فضلا عما فيه من إراحة أعصاب العالم من الخوف الدائم من نشوب الحرب ، فإن الرأسمالية الأمريكية ذاتها ( أو قل اليهودية ) لم توافق عليه لأنه ضد مصالحها الذاتية . لذلك أنشأت إضرابا طويلا في مصانع الصلب علي سبيل الإنذار (مع أن هذا الاضراب يضر المصالح المؤقتة للرأسمالية ولكنه يؤدي إلي كسب أكبر بالضغط علي كنيدي ليترك سياسة التهدئة التي كان يقوم بها بالاتفاق مع خروشوف ) فلما لم يأبه كنيدي بالإنذار ، ومضي في سياسيته ، هددوه مرة ثانية بإضراب أخر في مصانع الصلب استمر مدة أطول من الأولي ! ولما لم يرضخ بعد هذا الإنذار الشديد ، وأصر علي السياسة التي رآها أكثر تحقيقا لصالح الشعب الأمريكي - فضلا عن إراحة العالم من الخوف - قرروا أنه لابد من التخلص منه بإجراء أشد ، فقتلوه ! قتلوه وهو لس فردا عاديا من أفراد الشعب ، بل هو رئيس الجمهورية المنتخب برضا الشعب ، والمسئول عن مصالح الشعب الأمريكي كله! قتلوه ثم لعبوا بالتحقيق ، فلم يجد رئيس الجمهورية المقتول ضمانات التحقيق التي تحفظ حقه - وإن كان قتيلا - في أن يؤخذ له القصاص من قاتله ! ولم تجد الديمقراطية كلها نفعا في إقامة العدل في قضية من القضايا الخطيرة في التاريخ الحديث.. ومضت القصة كلها كأنها حادث عادي لا يثير الانتباه ولا يستحق الإهتمام ! وطوي التحقيق .. ولما تصل العدالة إلي غايتها حتي اليوم وقد مضي أكثر من عشرين عاما علي الحادث العجيب !
وتلك هي الديمقراطية حين تمس المصالح المباشرة للرأسمالية .
وما كانت مصالح مشروعة حتي نقول إن الذي وقف في سبيلها كان يستحق الانتقام منه بأية صورة من الصور ، إنما كانت مصالح جشعة مجرمة ، تريد أن تضع العالم كله علي حافة الحرب لكي تربح هي من وراء ذلك الربح الحرام .. وفي سبيل ذلك تلغي كل ضمانات الديمقراطية وكل " الحرية " الزائفة التي يتغني بها الديمقراطيون !(1/248)
أما حين يكون الأمر مختصا بالفساد فهنا الحرية بلا ضابط ولا حساب !
حرية الإنسان في أن يلحد مكفولة بالقانون !
فرغم أن الدولار الأمريكي مكتوب عليه " ثقتنا في الله In God we Trust !" إلا أن القانون ينص علي حرية العقيدة والحرية معناها أن من شاء أن يلحد ويعلن إلحاده علي الناس ويدعو إلي الالحاد ويسخر من القيم الدينية كلها ومن عقيدة الألوهية ذاتها فمن حقه أن يفعل ., ألا تخرج عليه ولا تثريب !!
وحرية الإنسان في أن يفسد حرية مكفولة بالقانون !
فالسلوك الجنسي مسالة خاصة إلي أبعد حدود الخصوصية لا يتدخل القانون بشأنها أي تدخل إلا في حالة واحدة هي جريمة الاغتصاب لأنها تقع بالإكراه لا بالاتفاق . أما أي علاقة - علي الإطلاق - تقع بالاتفاق فلا دخل للقانون بها ولا دخل للمجتمع ولا دخل لأحد من الناس .. فسواء كانت هذه العلاقة سوية أو شاذة ، وسواء كانت معه فتاة لم تتزوج أو مع إمرأة متزوجة ، فهذا شأن الأطراف أصحاب العلاقة وليس شأن أجد آخر ..
والغابات والحدائق العامة مسرح لكل ألوان السلوك الجنسي فضلا عن النوادي والبيوت .. كلها ماخور كبير يعج بالفساد الذي يحميه القانون .. قانون الديمقراطية !
ومن سنوات عقد في الكنيسة الهولندية عقد " شرعي !" بين فتي وفتي عي يد القسيس ! ومن سنوات اجتمع البرلمان الانجليزي " الموقر !" لينظر في أمر العلاقات الجنسية الشاذة ، ثم قرر أنها علاقات حرة لا ينبغي التدخل في شأنها ،ـ كما أعلن أسقف كانتربري وهو رئيس الاساقفة في بريطانيا أنها علاقات مشروعة !!
ومن سنوات كذلك عرض علي المسرح الأمريكي - وفي التلفزيون- مسرحية تشكل العملية الجنسية بكاملها جزءا منها ، ورأي المشاهدون - أو هم ذهبوا ليروا - رجلا وإمرأة يقومان بالعلمية الجنسية أمام أعينهم ، ونقلت الصورة - حية - علي شاشة التلفزيون .(1/249)
ومن سنوات كذلك قام في التلفزيون البريطاني حوار جنسي اشترك فيه عشرات من الفتيات الصغار ، وكان موضوع الحوار هو سؤالهن عن الوضع الذي يفضلنه في العملية الجنسية ، وأجابت الفتيات بصراحة وقحه يقشعر منها أبدان الذين في نفوسهم أي قدر من الحياء الفطري .. أما "المرأة " فهي تتحدث دون حياء !
ولا يقولن أحد إن هذه هي المخططات اليهودية ونحن إنما نتحدث عن الديمقراطية !
إنه لا انفصال بين هذه وتلك الديمقراطية بتمثيلها البرلماني ، بوسائل إعلامها ، بقواعد " الحرية " التي تقوم عليها ، هي التي تبيح ذلك كله ، وتجعله ضمن دائرة الحرية الشخصية ، وتحميه بكل وسائل الحماية ، وتعطيه الشرعية الكاملة .
فمن أراد نظاما ليس فيه هذا كله فهو علي وجه اليقين يريد شيئا غير الديمقراطية الليبرالية كما هي مطبقة في عالم الواقع ، يريد شيئا لا واقع له بعد ، ولا نعلم علي وجه اليقين كيف يكون !
إن الحرية التي تمنحها الديمقراطية الليبرالية هي حرية الحيوان لا حرية الإنسان 113
ولقد أراد " الثوار " الذين ثاروا في وجه الطغيان الإقطاعي أن حرروا " الإنسان" من العبودية التي كانت تستذله وتهبط به عن الوضع الذي يليق بالإنسان .
ولكن اليهودية العالمية التي سيطرت علي المجتمع الصناعي منذ مولده أراد شيئا غير ذلك " فالإنسان" بالذات هو عدوها الذي ترهبه ، وعددوها الذي تريد أن تقضي عليه . وسنحت لها الفرصة فحقق حلمها القديم في استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله لمختار .. فمسخت آدمية أولئك الآدميين وحولتهم إلي أولئك الحمير ..
فما الإنسان بغير عقيدة ؟
وما الإنسان بغير اخلاق ؟(1/250)
فأما بغير عقيدة فقد قال عنهم الخالق تبارك اسمه : {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف 7/179]
وأما بغير أخلاق ولا قيم خلقية ، فالحيوان وحده هو الذي يعيش بغير قيم خلقية لأنه ليس له إلاطريق واحد لا اختيار له فيه ، فلا يوصف عمله بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي ، إنما يوصف بأنه عمل غريزي ، فإذا أكلت القطة الفأر أو أتي الكلب أنثاه في الطريق فلا أحد يقول إن هذه أعمال غير اخلاقية ! أما الإنسان الذي كرمه ربه بالإنسانية ، وجعل له طريقين أثنين لا طريقا واحدا ، وأعطاه القدرة علي التمييز بين الطريقين واختيار واحد منهما : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} } [سورة الشمس 91/7-10] فإنه حين يرفض القيم الخلقية ، ويقول عن إقامة الرأسمالية علي أساس الربح بصرف النظر عن كون هذا الربح حلالا أو حراما ، جائزا أوغير حائز ، يقول إن هذه مسألة اقتصادية لا علاقة لها بالأخلاق ! ويقول عن تحويل المجتمع كله إلي ماخور كبير إن الجنس مسألة " بيولوجية " لا علاقة لها بالأخلاق ! حين يفعل ذلك فإنه يفقد آدمية في الحقيقية ويصبح من الدواب .. بالضبط كما يريد له شعب الله المختار !
ولقد كانت الديمقراطية وشعارات الحرية هي اللعبة الكبري التي نفذت اليهودية العالمية عن طريقها مخططها كله 114 واستحمرت بها الأميين في الغرب لحساب الشعب الشيطان
ولا ينفي ذلك كله ما كسبته الشعوب في ظل الديمقراطية من حقوق وضمانات تحدثنا عنها من قبل ، وقلنا إنها - في هذا الجانب - تكريم للإنسان وتحقيق لصفة الإنسانية فيه .(1/251)
فقد قلنا إن الشعوب قد نالت ذلك بنضالها لا يالديمقراطية في ذاتها ، بل كانت الديمقراطية ذاتها في جانبها السياسي ثمرة ذلك النضال ، لكن الذي نقوله هنا عن الشياطين - مع سماحهم راضين أو مكرهين بهذه الحقوق وتلك الضمانات - قد أفسدوا إنسانية الإنسان من جانب آخر أو من جوانب أخري بحيث أصبحت الخسارة في النهاية أفظع بكثير من كل كسب كسبته الشعوب .
ولسنا نقول إن الإنسان كان أحسن حالا في ظل الإقطاع قبل أن يحصل علي هذه الحقوق والضمانات في ظل الديمقراطية .. فالجاهلية كلها انحراف وكلها خبال سواء في ذلك الطور أو ذاك .. ولكنا نقول إن الخير الجزئي الذي أتت به الجاهلية الجديدة قد أفسدت مقابلة كثيرا من الخير الكامن في الإنسان ، بحيث يضيع ذلك الخير الجزئي في محيط الفساد الواسع الذي ليس له قرار !
ولسنا نقول كذلك إن هذه الحقوق والضمانات ينبغي أو يجوز أن تلغي في مقابل استرداد الإنسان ما فقد من إنسانيته بفساد العقيدة وفساد الأخلاق ! كلا ! فإنه إن فقدت هذه الحقوق وهذه الضمانات فما يمكن أن يحافظ علي إنسانيته ولو كان علي شئ من عقيدة ولو كان علي شئ من اخلاق !
كلا ! إن إنسانية الإنسان مفقودة في حالين ، وما يكون الإنسان في الجاهلية إنسانا بحال من الأحوال !
ولكنا هنا علي رأي حال نقوم الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية كما هي مطبقة في عالم الواقع ، فنقول ما لها وما عليها .. فنقول إنها ليست صفحة بيضاء خالصة كما يظن الذين ينظرون من بعيد ولا ينعمون النظر ولا يرون ما وراء الأستار .
ثم نقول إن الصفحة السوداء فيها قائمة السواد أكثر بكثير مما يظن الذين يأخذون الأمور من سطوحها ، فيحسبون الفساد جزئيا قابلا للإصلاح ، وقابلا للتعديل بوضع بعض الضوابط هنا وبعض القيم هناك .(1/252)
إنها من جهة مسرحية ضخمة تمثلها الرأسمالية وتضع لها أدوارها وتوهم المشاهدين أن الممثلين يتحركون علي المسرح من ذوات أنفسهم وبمقضتي إرادة ذاتيه لهم ، بينما هم - كأي ممثلين في مسرحية - يتحركون بمقتضي الدور المعطي لهم وفي حدوده المرسومة ن لا يملكون أن يتجاوزوا المسرح أو يتجاوزوا دورهم في المسرحية المعروضة عليه .. وإلا طردوا بتهمة الإفساد ! أو عوقبوا عقابا صارما ليكونوا عبرة للآخرين . كما يطارد دعامة الحرية الحقيقيون بتهمة الشغب والخروج علي القانون وتعريض الأمن القومي للخطر ! وكما قتل كنيدي حين تجرأ جرأة لا تليق " بموظف " مسئول في حضن الرأسمالية !
وهي من جهة أخري أداة ضخمة لإتلاف إنسانية الإنسان بإعطاء الفساد الديني والفساد الخلقي شريعة كاملة ، وجعل ذلك جزءا أصيلا من مفهوم الديمقراطية ومفهوم الحرية .
فتحت هذا الشعار - شعار الحرية - ظل " الإنسان " الأوروبي يجد التشجيع المستمر علي التحلل من دينه وعقيدته بوصف أن هذه أمور خاصة يتصرف فيها الإنسان علي مزاجه الخاص ، فمن شاء أن يبقي علي عقيدة ودين فليبق ، علي مسئوليته الخاصة ، وليتلق السخرية الدائمة من المجتمع ومن الكتاب والمفكرين وأهل " الفن" من قصاصين ومسرحين وإذاعيين وتلفزيونيين ورسامي " الكاريكاتير"فضلا عن المخذلات الدائمة من حوله ، التي تتفنن في صرفه عن الدين والعقيدة . ومن شاء أن يلحد فليلحد .. ولن يفق في سبيله أحد ولن يحرج عليه أحد ، فتلك حريته الشخصية . ولن يجد السخرية حتي من رجال الدين ! إنما يجد منهم محاولة " لطيفة ط للتفاهم معه ومحاولة " فاتره" لرده إلي الإيمان 115 بينما يجد التشجيع من جهات كثيرة في الأرض !(1/253)
وتحت هذا الشعار كذلك ظل يجد التشجيع المستمر علي التحلل من أخلاقه وتقاليده ، بوصفها كذلك أمورا شخصية .. فمن شاء أن تكون له أخلاق - في مسائل الجنس بصفة خاصة - فهو حر - علي مسئوليته الخاصة - وليتلق النقد اللاذع من المجتمع كله ، الذي يعتبره حال شاذة تحتاج إلي علاج 116!
ومن شاء أن يتحلل فنعم الرأي له ونعم المسلك ! وسيجد التشجيع الحافل من المجتمع والكتاب والمفكرين وأهل الفن وأصحاب السينما وأصحاب المسرح وأصحاب الإذاعة وأصحاب وأهل الفن وأصحاب النوادي وأصحاب المواخير .. هذا بينما توضع الضوابط - الصارمة أحيانا - علي سلوك الإنسان في كل اتجاه إلا هذين الاتجاهين بالذات !
ومن جهة ثالثة فهي لعبة اليهودية الكبري لتنفيذ مخططاتها كلها مع إيهام الناس أنهم يتصرفون من تلقاء أنفسهم وحسب رغباتهم الخاصة !
فأما المصالح الرأسمالية اليهودية فتسخر لها الأحزاب السياسية والبرلمانات و " نواب الأمة " ووسائل الإعلام التي تشكل الرأي العام ، وتقوم بعملية التزييف الكبري لأفكار الناس واهتماماتهم بما يحقق تلك المصالح في نهاية المطاف ، ويحقق إنسياب الذهب - معبود اليهود القديم - إلي جيوبهم وقلوبهم ، ويتفننون به في زيادة سيطرتهم علي الأمميين .
وأما " المصالح " اليهودية الأخري المتمثلة في إفساد عقائد الناس وأخلاقهم ليسهل استحمارهم وتسخيرهم لمصالح الشعب الشرير فهي تتم كاملة من وراء شعار " الحرية " الذي تحدثنا عنه ، ومن خلال شعور الناس أن " هذه " هي الديمقراطية " !
وهكذا يضيع الخير الضئيل الذي كسبته "الشعوب" بالحقوق والضمانات في وسط هذا الشر الهائل الذي يحققه الأشرار من وراء هذا النظام المخلخل الملئ بالعيوب ، والملئ بالثقوب !
? ? ?(1/254)
فإذا عرضنا الأمر علي الإسلام فهناك قضيتان رئيسيان من وجهة النظر الإسلامية هما محور الارتكاز في الموضوع كله ، وهما أداة التقويم بالنسبة للديمقراطية أو أي مذهب آخر من المذاهب التي نناقشها في هذا الكتاب . هاتان القضيتان هما :
أولا : من المعبود ؟
ثانيا : ..........
وقد وهنت الجاهلية المعاصرة التي يوجهها اليهود كلتا القضيتين - والأولي بصفة خاصة - لغاية في نفوسهم ، زعمت - بالنسبة للقضية الأولي بصفة خاصة - أنها ليست محور الحياة الإنسانية ولا مقياسها ، بل العكس - في زعمها - هو الصحيح ! فالإنسان أرقي كلما بعد عن الدين ، وأكثر تأخرا ورجعية كلما اقترب منه ، علي أساس أن حياة الناس قد مرت ثلاث مراحل هي السحر والتدين والعلم ، وأن الدين - الذي يمثل المرحلة الوسيطة من حياة البشرية - قد أخلي - أو ينبغي أن يخلي - مكانة للعلم من أجل تقدم الإنسان ورقية وتحضره !
وأما القضية الثانية فقد زعمت الجاهلية المعاصرة أنه ليس لها مقياس ثابت ! وأن الإنسان ليس له كيان ثابت أو صورة مثلي يقوم بمقتضاها ، إنما كل عصر له مقياسه ، ومقياسه هو الأمر الواقع في ذلك العصر ! والإنسان دائم التشكيل علي الصورة التي يقتضيها - أو يرتضيها - العصر بلا زيادة ! ومن ثم فإنسانية الإنسان أمر لا يمكن أن يوضع له ميزان ثابت !
ولكن الإسلام يقوم الأمور بميزان الله سبحانه وتعالي ، الذي أنزله ليقوم الناس بالقسط .
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
وميزان الله - وهو الحق - يقول إن قضية " من المعبود؟ هي أهم قضية بالنسبة للحياة البشرية كلها في تايخها كله ، وإن كل شئ في الحياة الدنيا - فضلا عن الآخرة - يتوقف علي جواب هذه القضية ، وهي كون المعبود هو الله ام شيئا آخر مع الله أو من دون الله ..(1/255)
والجاهلية المعاصرة تغفل الحياة الأخري عن عمد ، وتبرز الحياة الدنيا وحدها وتجعلها مجال الاهتمام وموضع التقويم 117 لأنها لو وضعت اليوم الآخر في الميزان فقد حسمت القضية وانتهت من أول لحظة .. فلن يقول أحد إن الدار الآخرة ستكون للملحدين الذي ينكرون وجود الله ، أو ينكرون شريعته ، أو يكرهون هذه الشريعة ويرفضون تحكيمها في أمور حياتهم !
لذلك فإن الجاهلية المعاصرة لا تتكلم أبدا عن اليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور وحشر وسحاب وثواب وعقاب ! وإن تحدثت عنه فعلي أنه وهم لا حقيقة له ، أو قضية "غيبية " لا ينبغي أن يشغل بها نفسه الإنسان المتحضر ، أو الإنسان الواقعي ، أو الإنسان الذي يحترم عقله ، أوالإنسان الذي يحترم العلم ويعيش بروح علمية !!
فإذا أصبحت الحياة الدنيا هي مبلغ الناس من العلم ، وهي التي يتجه إليها الاهتمام كله ، ضمن المخططون الشريرون أن تسير الأمور كما يشتهون، وأن تسير السائمة من الأمميين في الطريق الذي رسمه شعب الشيطان المختار.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [سورة النجم 53/29-31](1/256)
{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (108)} [سورة النحل 16/106-108]
{ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)} [سورة الأعراف 7/179]
وإذا كان الهدف الأخير للشعب الشرير هو استحمار الامميين وتسخيرهم لمصالحهم وللعبودية لهم ، فقد وجب أن يبعدوهم بعدا كاملا عن ذكر الآخرة ليكونوا كالأنعام ، ويجعلوا الدنيا هي مبلغ علمهم وغاية همهم 118 ليسهل تسخيرهم من جانب العبودية للشهوات ، وهي مصير كل إنسان يعيش بعيدا عن الآخرة وقيمها المؤدية إليها :(1/257)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/14-17]
وإذا كانت الجاهلية المعاصرة قد اغفلت ذكر اليوم الآخر لغاية في نفسها وأبرزت الحياة الدنيا وحدها وجعلتها غاية كل شئ ومقياس كل شئ ، فنحن لا نجاري تلك الجاهلية فيما اتجهت إليه ، ولا نقرها علي تعبيد الناس للحياة الدنيا ، ولكنا نقول إن قضية " من المعبود" ؟ ليست متعلقة بالآخرة وحدها وإنما هي من صميم قضايا الحياة الدنيا ، وأن الجواب علي هذه القضية لا يتوقف عليه مصير الإنسان في الآخرة وحدها ، بل يتوقف عليه أمر وجوده هنا في الحياة الدنيا ، وبدرجة أكبر بكثير وأخطر بكثير مما يظن المستعبدون للمخطط الشرير من الأمميين المسخرين كالحمير !
إنه بصرف النظر - مؤقتا - عن القيم المتعلقة بالدين ، المستمدة من كون المعبود الواجب العبادة هو الله سبحانه وتعالي وحده لا شريك ( ولنا عود إليها بعد قليل ) فإن الجواب علي هذا السؤال الخطير : " من المعبود ؟ " يترتب عليه في الوقت ذاته إجابة علي سؤال مهم في حياة البشر علي الأرض وهو : " من المشرع ؟"(1/258)
يقول التفسير المادي للتاريخ ، وهو هنا علي حق فيما يقول : إن الذي يملك هو الذي يحكم ، وإن الطبقة التي تحكم تضع التشريعات التي تحفظ مصالحها ، ويكون ذلك علي حساب الطبقات الأخري .
لذلك فإن قضية "من المشرع؟ " قضية مهمة بالنسبة للناس علي الأرض .
وليست قضية جانبية أو ثانوية يمكن التغاطي عنها لقاء بعض المتاع الأرض الزائد عن الحد ، كمتاع الجنس المجنون ، أو " متاع" التبذل في الأرض بلا اخلاق ، الذي قال الله عنه :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [سورة محمد 47/12]
فهو متاع الحيوان لا متاع الإنسان
وقضية " من المشرع" ؟ هي التي قامت من أجلها الثورات التاريخية كلها حتي هذه اللحظة بسبب المظالم التي تقع من المشرعين الذين يشرعون لصالحهم وصالح الطبقة التي ينتمون إليها ، فيثور المظلومون ليرفعوا هذا الظلم أو ليحاولوا رفعة علي أقل تقدير .
فإذا كانت القضية علي هذا القدر من الأهمية ، وكان لها كل هذا الأثر في حياة الناس علي الأرض - بصرف النظر عن مصيرهم بعد ذلك - فلننظر من المشرع الحقيقي في الديمقراطية الليبرالية أو في الحقيقة في أي جاهلية لا تحكم بما أنزل الله .
إنهم بادئ ذي بدء بشر ، ثم هم بعد ذلك طبقة معينة لها مصالح معينة لا تتحقق بصورتها التي يريدونها إلا علي حساب الآخرين .
كان الحاكم في الإقطاع هو أمير الإقطاعية الذي يملك ويحكم ، ولا معقب من البشر لحكمة ، لأنه هو السلطة الوحيدة ولا أحد غيره يملك شيئا من السلطان .
والحاكم في الديمقرطية الليبرالية هو الرأسمالية التي تملك وتحكم ولا معقب من البشر لحكمها ، وإن كان التشريع - نظريا - من حق الشعب ، والتعقيب نظريا في يد الشعب !(1/259)
الرأسمالية - يهودية أو غير يهودية - هي التي تدير المسرحية كلها ، وهي التي تضع التشريعات للمحافظة عل مصالحها ، علي حساب مصالح " الشعب" الذي يقع عليه الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل جاهلية من جاهليات التاريخ .
ولا ينبغي أن تخدعنا الصيحات والشعارات عن حقيقة الواقع ، ولا ينبغي كذلك أن يخدعنا وجود بعض الأصوات " الحرة " في المجالس النيابية أو في الصحافة ووسائل الإعلام ، فهذا ذاته جزء من " فن " المسرحية كما أشرنا من قبل ، لأن الرأسمالية التي بيدها السلطان - يهودية أوغير يهودية - تعلم أن هذه الأصوات المتناثرة لن تغير شيئا من الواقع ،ـ ولن تحدث تعديلا حقيقا في أدوار المسرحية المرسومة ،وهي في الوقت ذاته دعاية ضخمة للديمقراطية التي من خلالها تتحقق كل مصالح الرأسمالية ! فكلما ارتفعت هذه الأصوات " الحرة " اطمأنت الجماهير إلي اللعبة الدائرة واستنامت لها ، وتركت أصحاب السلطان ينفذون من خلال اللعبة إلي كل ما يريدون !(1/260)
أما الحقوق والضمانات التي نالها الشعب فقد كانت - كما قلنا أكثر من مرة - ثمرة نضال الجماهير ولم تكن ثمرة الديمقراطية ! وإذا كانت الرأسمالية قد تنازلت - مكرهة - عن بعض الفتات خوفا من ضياع الأصل كله ، فلم يكن ذلك بفضل النظام البرلماني ذاته ، بقدر ما كان ذلك راجعا إلي نظام الرأسمالية " الحرة " واعتمادها علي العامل الذي يتمتع بقسط محدود من الحرية ، لكي تتمكن هي من تحقيق الأرباح الفاحشة التي تحققها.. ولا تستطيع الرأسمالية الحرة أن تزيد سلطانها أكثر مما واقع في أيديها .. وإلا لفعلت ! لأن الدكتاتورية التي تلزم العمال بالعمل تحت ضغط الحديد والنار لا يمكن أن تتم بصورة جماعية ( أي باجتماع الرأسماليين كلهم بعضهم مع بعض ) لأنها تحتاج بطبيعتها إلي تركيز السلطة في يد فئة محدودة جدا من الناس ، وعندئذ لا يستطيع الرأسماليون ذاتهم أن يوجدوا ولا أن يكون لهم سلطان ، لأن السلطة التي تستطيع أن تسخر العمال للعمل تحت القهر ، ستلتهم الرأسماليين أنفسهم كما حدث في الدولة الشيوعية .. ومن هنا تجد الرأسمالية نفسها مكرهة - للمحافظة علي وجودها ذاته - أن تسمح بهذا الفتات المتناثرة للشعب ، ويتم ذلك عن طريق هذا اللعب الطريفه . لعبة الديمقراطية ، تحقق بها الرأسمالية أكبر قدر متاح من الربح ، وتترك للشعب كثيرا من المظالم وشيئا من الفتات !
الظلم هو طابع الجاهلية التي يشرع فيها البشر للبشر بدلا من أن يتحاكم البشر كلهم إلي شريعة الله !
إن المجتمع الجاهلي لابد أن ينقسم بطبيعته إلي فئتين اثنتين : سادة وعبيد سادة في يدهم السلطان وفي يدهم التشريع وعبيد يقع عليهم السلطان ويقع عليهم التشريع .
وأيا تكن طرافة اللعبة الديمقراطية فهي لا تستطيع أن تخفي هذه الحقيقة وهي أن الرأسماليين هم السادة ، هم المشرعون ، وأن الشعب هو العبيد الذين يقع عليهم عبء التشريع .(1/261)
حقيقة إن " العبيد " في ظل الديمقراطية الليبرالية هم في أفضل وضع وجد به العبيد في أية جاهلية من جاهليات التاريخ ( بسب طبيعة الرأسمالية الحرة - كما أسلفنا - وعجزها عن تحقيق الربح إلا عن طريق العامل الذي يتمتع بقسط محدود من الحرية ) إلا أن هذا لا يغير حقيقة وضعهم ، وهو إنهم عبيد .. عبيد مهما امتلكوا - في المسرحية الطريفة - من " مظاهر " الحرية !
إن الحرية الحقيقة لا يمكن أن تتحقق في أية جاهلية تحكم بغير ما أنزل الله 119 لأن الحكم بغير ما أنزل الله هو الذي يقسم الناس إلي " أرباب " و " عبيد " ! أرباب يشرعون وعبيد ينفذون . ولا يملك العبيد حرية حقيقية إزاء الأرباب !
إن رد" الحاكمية " لله ، أي التحاكم إلي شريعة الله وعدم التحاكم إلي أي شريعة أخري غير شريعة الله ، فضلا عن كونه من حق الله علي عباده لأنه من الخصائص الخالصة للألوهية : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54] فإنه في الوقت نفسه هو الضمان الحقيقي لحرية البشر في الأرض ، وعدم تحويل بعضهم إلي أرباب وأكثريتهم إلي عبيد لأولئك الأرباب .
إن إخلاص العبودية لله وحده- سواء في إفراده بشعائر التعبد أو إفراده الحاكمية - هو الذي يغلي وجود الأرباب ، ويحرر الناس في الأرض من عبودتهم .
ما دام الله وحده هو المعبود - سواء بتقديم الشعائر له وحده أو بتنفيذ شريعته دون كل الشرائع - فمن أين يوجد الأرباب الذين يتعبدون العبيد ؟!
لا يتحرر الناس الحرية الحقيقية في الأرض حين يكون الله وحده هو الرب والناس كلهم - حكاما ومحكومين - عبيدا لله وحده دون شريك .
عندئذ فقط يولد الناس أحرارا ويظلون أحرارا إلي أن تنتهي أجالهم .
وعندئذ فقط يشعر الناس بالاستعلاء - استعلاء الإيمان - علي كل قوة في الأرض بشرية كانت هذه القوة أو مادية أو اقتصادية ، لأنهم يستمدون وجودهم وقوته من الله ، والله أكبر .. أكبر من كل قوة في الوجود .(1/262)
عندئذ يحدث ما حدث في صدر الإسلام ، والعبودية خالصة لله وحده في كل مجال من مجالات الوجود .
يقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول : أيها الناس اسمعوا وأطيعوا ، فيقف له سلمان الفارسي يقول: لا سمع لك علينا اليوم ولا طاعة حتي تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي أئتزرت به !
ويتحاكم علي بن أبي طالب كرم الله وجه إلي القاضي شريح مع اليهودي الذي سرق درعه فيسأله القاضي: يا أمير المؤمنين ! هل من بينه ؟! فيقول علي كرم الله وجه : صدق شريح ! مالي بينه ! فيحكم القاضي بالدرع لليهودي تنفيذ لشريعة الله !
ويستمتع بهذا العدل - الذي يولد الشعور بالحرية - حتي الذين لم يؤمنوا بهذا الدين ولكنهم استظلوا بظله واستظلوا بعدالته ، فيرحل القبطي من مصر إلي المدينة ليشكو إلي عمرو بن العاص حين غلبه الشاب القبطي في السباق .. وهو الذي كان إلي عهد جد قريب تلهب ظهره سياط الرومان فلا يحس بآدمية المسلوبة ولا يتحرك للشكوي .. ولمن يشكو حتي إذا أراد ولكن العدل الرباني المتمثل في شريعة الله هو الذي جعل ضربة العصا توجع الكرامة ، وتحرك الرجل ألوف الأميال طلبا لنصفه ورفعا للظلم .. ويجاب الرجل إلي حقه تحقيقا لشريعة الله ..
كلا ! لا تتحقق الحرية الحقيقية ولا المساواة الحقيقية ولا الإخاء الحقيقي إلا حين يكون الله وحده هو المشرع، ولا يكون للبشر حق التشريع من عند أنفسهم 120 وكل ما ترفعه الديمقراطية من شعارات " الحرية والإخاء والمساواة " إن هو إلا شعارات ! شعارات غير قابلة للتحقيق في عالم الواقع ما دام بعض البشر يشرعون وبعضهم الآخر - وهم أكثرية الناس - يخضعون للتشريع ، وما دامت الأقلية التي تشرع إنما تشرع لمصالحها الخاصة علي حساب الآخرين .(1/263)
وهب كل الناس شرعوا كما تزعم الديمقراطية في أقوالها النظرية ، وهب كل الناس استطاعوا أن يوفقوا - في التشريعات التي يضعونها بأنفسهم - بين مصالح الحاكمين والمحكومين فزال الظلم ، وزالت عبودية بعض البشر لبعض ، وهو فرض جدلي لا يمكن أن يتحقق ، ولم يتحقق في أي جاهلية من جاهليات التاريخ التي تحكم بغير ما أنزل الله ، فهل تستقيم الحياة في الأرض علي صورة صحيحة حين يكون البشر هم المشرعين ؟!
أليس البشر - كلهم في هذه المرة - هم الذين شرعوا فوضي الجنس ؟!
ودعك الآن من أن اليهودية الشريرة هي التي أوحت لأولئك البشر فشرعوا :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام 6/112]
دعك من هذه القضية لأن خضوع الديمقراطية لليهودية الشريرة ليس عذرا لها فيما تفعل ، بل هو عيب رئيسي من عيوب وكلن خذ الصورة الظاهرة وهي أن هذه الفوضي تمر بالموافقة الإجماعية من الناس ، سواء في المجالس النيابية أو في وسائل الإعلام أو في واقع الحياة .. فهل تستقيم الحياة بتلك الفوضي الجنسية التي شرعها البشر ؟!
أليس البشر - كلهم في الديمقراطية - هم الذين شرعوا الربا ؟!
ودعك مرة أخري من أو اليهودية الشريرة هي التي دفعت الناس دفعا إلي تشريع الربا .. فخضوع الناس في هذا الأمر لليهودية العالمية ليس عذرا لهم ، بل هو وزر يحملونه أما الله يوم القيامة ، وهو - أو مثلة - الذي قال الله فيه عنهم :
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة 9/31]
أي اطاعوهم في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله كما قال العلماء والمفسرون في تفسير هذه الأية 121(1/264)
دعك من هذا وخذ واقع الحياة في الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ، تجد أن الربا يمر بموافقة إجماعية بغير اعتراض .. فهل استقامت الحياة بالربا الذي أحله البشر ؟!
أليس البشر - كلهم في الديمقراطية - هم الذين وافقوا علي " تحرير "
ودعك مرة ثالثة من أن اليهودية الشريرة هي التي وسعت تلك القضية ولعبت بها لإفساد المجتمع البشري كله ، فإن اليهودية الشريرة ما استطاعت أن تفعل ذلك إلا في مجتمع متفسخ أدار ظهره للهدي الرباني فركبته الشياطين .. وخذ الصورة الظاهرة وهي أن " المرأة المتحررة" .. المتحررة من الدين والأخلاق والتقاليد ، بل من الحياء الفطري ذته ، تمر بموافقة البشر كلهم ورضاهم وطلبهم للمزيد من " التحرر " ! .. فهل استقامت الحياة حين تحررت المرأة علي هذه الصورة التي شرعها البشر ؟!
وخذ مئات من التشريعات التي شرعها البشر - كلهم في الجاهلية المعاصرة - وأنظر أثارها في حياتهم ، الحنون والقلق والأمراض النفسية والعصبية والانتحار وإدمان الخمر والمخدرات والجريمة وتشرد الأطفال وجنوحهم . إلي جانب الفردية الجامحة وتفكك الأسرة وتفكك المجتمع وقتل المشاعر الإنسانية وتحويل الإنسان إلي حيوان آلي ، تدير الآلة نصف حياته وتدير بقيتها الشهوات !
ذلك كله حين يشرع البشر لأنفسهم ، ولو شرعوا كلهم مجتمعين متناسقين بلا تظالم ولا صراع ! ذلك أن البشر- بطبيعتهم - يتصفون بالقصور و الجهل ، والعجز عن الإحاطة ، والعجز عن رؤية النتائج الكاملة المترتبة في المستقبل علي أعماهم الحاضرة .. فحين يتجاوزون الاجتهاد فيما أذن الله بالاجتهاد فيه 122، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله ، تقع تلك الفوضي الضاربة أطنابها ، ويقع ذلك الشقاء المرير الذي يملأ وحه الأرض .(1/265)
وهكذا يتبين لنا أن قضية " من المعبود ؟ " ليست قضية غيبية خاصة بالآخرة كما يصورها الجاهليون المحدثون ، ولكنها - بالإضافة إلي كونها متعلقة بالآخرة قضية من صميم هذه الحياة الدنيا ، لأنه يترتب عليها تقرير " "من المشرع "؟ أي من واضع منهج الحياة للناس ... وأنه حين لا يكون الله هو المعبود وحده بلا شريك ، تخيل الحياة الدنيا بجملتها ويقع الناس في الخبال .
فإذا قومنا الديمقراطية بهذا الميزان فيكف تكون النتيجة ؟!
الله هو المعبود في الديمقراطية الليبرالية وحده دون شريط ؟! أم هناك عشرات من الآلهة الزائفة تعبد مع الله أو من دون الله ؟ وكلاهما سواء . فإن عبدت مع اله فهو الشرك ، وإن عبدت من دون الله فهو الكفر .. والشك والكفر كلاهما كفر !
حقا إن هناك ألوفا من الكنائس تفتح أبوابها يوم الأحد لتستقبل المصلين ودع الآن جانبا ما في العقيدة الكنسية من التحريف ، ودع جانبا كذلك مئات الملايين الذين لا يذهبون إلي الصلاة أصلا ولا يعترفون بوجوبها عليهم .. وأنظر إلي هذا المصلي الذي جاء يحضر الصلاة بدافع من " التدين" ما رأيه في الربا ؟ ماذا لو قام أحد يخبره أن الربا حرام ، ويدعوه إلي أستنقاذ أمواله من الربا وعدم التعامل به في الأخذ والعطاء ؟! كم تكون سخريته ؟ وكيف يكون جوابه ؟ إن الجواب الوحيد الذي يرد به الغربي علي هذه الدعوي هو أن الربا مسألة اقتصادية بحتة والدين لا علاقة له بالاقتصاد !
وما رأيه في علاقات الجنس ؟ ماذا لو قال له أحد الناس إن هذه العلاقات كلها حرام إلا الزواج الشرعي ، و دعاه ليعدل سلوكه ويعدل عن " الصدقات " التي يمارسها .. فماذا يكون جوابه .. أو جوابها لو كانت فتاة ؟! إن الفتاة الأمريكية تقول بملء فيها إن الجنس مسألة " بيولوجية " لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق !
الله هو المعبود في الديمقراطية الليبرالية ؟ أم عشرات من الآلهة المزيفة تحكم حياة الناس وتتحكم فيها ؟(1/266)
الدولار إله 123 والإنتاج إله . والصالح القومي إله. ولمجتمع إله و" الرأي العام " إله . والعقل إله . والعلم إله . والإنسان إله. والآله إله . و" المودة " إله والشهوات إله .. والهوى إله 124
كلها تعبد مع الله او من دون الله . وكلها تعطي إجابة حاسمة بالنسبة للقضية الكبري في حياة الإنسان ، قضية المعبود : هل هو الله ام شئ أخر غير الله ..
كلها تقول إن المعبود في الديمقراطية الليبرالية ليس هو الله .
? ? ?
أما القضية الثانية فهي قضية إنسانية الإنسان ..
وكما ألغت الجاهلية المعاصرة اليوم الآخر من حس الناس لكيلا تفقد شرعية وجودها من أول حظة ، وألغت الإيمان بالله لكي لا يعوق " مصالحها" ومخططاتها .. فكذلك ألغت كل معيار حقيقي لإنسانية الإنسان ، لذات الدوافع وذات الأسباب !
لو أقرت الجاهلية المعاصرة أن الإنسان يختلف عن الحيوان منذ البدء في أن له عقيدة واعية في الله ، وقدرة علي الإيمان بما لا تدركه الحواس ( أي الإيمان بالغيب ) وأن أعماله - كلها - تحمل قيمة خلقية ناشئة من أن له طريقين لاطريقا واحدا كالحيوان ، وقدرة علي التمييز بين الطريقين وقدرة علي الاختيار ، ومن ثم يوصف عمله بأنه خيرا أو شريا ، بينما لا يوصف بذلك عمل الحيوان ..
ولو أقرت بذلك فكيف تبر كل ممارستها التي تقيمها علي أساس حيوانية الإنسان ؟
ولو أقرت بذلك فيكيف تفعل بمخططاتها ومصالحها ؟!
كيف يتحقق للرأسمالية ربحها الحرام ، القائم أساسا علي الفصل الكامل بين العمليات الاقتصادية وبين الدين والأخلاق ؟ وكيف يتحقق لليهودية مخططها في استحمار الأمميين وتسخيرهم لشعب الله المختار ؟
كيف يتحقق للرأسمالية ربحها من الربا ، ومن الصناعات التافهة التي تميع الطابع وتفسد الأخلاق ، ومن الحروب التي تثيرها من أجل إيجاد أسواق لتصريف فائض الإنتاج ؟(1/267)
وكيف يتحقق لليهودية مخططها في إفساد الرجل والمرأة وشغلهما بمقاذر الجنس عن تنشئة أطفال صالحين يقومون في شبابهم بإرساء قواعد الحق والعدل وإرساء قواعد الأخلاق ؟ وكيف تقوم بتفكيك روابط الأسرة والمجتمع ، وشغل البشرية كلها بجنون الجنس وجنون السينما وجنون التليفزيون وجنون الكره وجنون " المودة " وجنون" التقاليع "..؟
كلاإنها لا يمكن أن تقر بذلك ، لا لأنه ليس حقيقة في ذاته ، ولكن لأن الإقرار به يفقدها شرعية وجودها علي التو ، ويضر أيما إضرار بمخططاتها ومصالحها .
وإذن فلتقل أي شئ تميع به القضية وتبعد حقيقتها عن الأذهان .
فلتقل إن الحضارة المادية هي مقياس إنسانية الإنسان !
فلتقل إن مقدار استهلاك الانسان للكهرباء هو مقياس إنسانية الإنسان 125
فلتقل إن " حرية " الانسان في أن يفعل كل ما بدا له هو مقياس إنسانية الإنسان !
أو فلتقل إنه لا يوجد مقياس ثابت لقياس إنسانية الإنسان !
المهم أن تكتم الحقيقة عن الناس حتي لا يستيقظوا لحقيقتهم : أنهم فقدوا نسانيتهم بالفعل ، وأصبحوا أولئك الحمير الذين يريدهم - ليركبهم - شعب الله المختار !
ولكن الإسلام - دين الله الحق - يقرر الحقيقة ويبرزها ويؤكد عليها : أن الإنسان خلق إنسانا من اول لحظة ، وكلف تكاليف الإنسان ، فحمل الأمانة التي اشفقت من حملها السموات والأرض والجبال ، وأنه يحافظ علي إنسانيته طالما ظل حاملا للأمانة ، ويفقدها حين يتخلى عن حملها .
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/71-72]
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61](1/268)
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [سورة الأحزاب 33/72]
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [سورة البقرة 2/38-39]
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} } [سورة الشمس 91/7-10]
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36)} [سورة النساء 4/36]
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/17](1/269)
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [سورة المؤمنون 23/1-11]
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [سورة الشورى 42/37-39]
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [سورة الرعد 13/20-21]
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163]
هذا هو الإنسان . وهذا مقياس إنسانيته .(1/270)
إنه ليس حيوانا . إنما هو إنسان من أول لحظة . ومهمته محددة من أول لحظة . إنه الخليفة في الأرض ، المسيطر فيها ، المهمين عليها ، القائم بعمارتها ، ولكن يمقتضي المنهج الرباني المستمد من الهدي الذي يتنزل من عند الله لتنظيم حياة البشر علي الأرض ، وضبطها بالضوابط الصحيحة لتقسيم وتلك هي " الأمانة " التي حملها الإنسان وأشفقت من حملها بقية الخلائق التي تخضع لأمر الله بالقهر ولا تقوم بعمل إرادي ، أما الإنسان الذي وهب الإرادة والإدراك والقدرة علي العمل والإنشاء والتعمير والقدرة علي الاختيار ، فهمهمته - أو الأمانة الملقاة علي عاتقه - هي عبادة الله طوعا - وتعمير الأرض بمقتضي منهج الله ، وهو " إنسان" طالما هو قائم بهذه الأمانة ، أي عابد لله وحده بلا شريك ، ومعمر للأرض بمقتضي المنهج الرباني المتمثل في الحكم بما أنزل الله ، والالتزام بما جاء من عند الله ، ومواصفاته - أو ضوابط إنسانيته ومعاييرها - هي هذه الصفات الواردة في الآيات من خشوع في الصلاة وإعراض عن اللغو ، وأداء للزكاة ، وضبط لشهوة الجنس ، ورعاية للأمانة والعهد ، وصبر وصدق وقنوت وإنفاق واستغفار ، ومغفرة عند الغضب ، وقتال ضد البغي .. إلخ .. إلخ
هذا مقياس ثابت لإنسانية الإنسان لا يطرأ عليه التغيير .
وحقيقة أن هناك متغيرات كثيرة في حياة البشرية تنشأ من التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي ، واستخلاص طاقات الكون وتسخيرها لمصلحة الإنسان ،لكن هذه المتغيرات كلها لا تغير القيم الثابتة التي تحكم حياة الإنسان ، بل ينبغي أن يحكم الثابت المتغير لكي تستقيم الحياة علي الأرض ولا تنفلت الأمور من عقالها فيصيب البشرية الخبل والاضطراب .
فهذه الطاقات أولا مسخرة من عند الله للإنسان
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13](1/271)
والجهد الذي يقوم به الإنسان لتحقيق هذا التسخير والأدوات التي يستخدمها هي من عند الله كذلك:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
والشكر يقتضي استخدام هذه الطاقات كلها بمقتضي أوامر المنعم الوهاب .
هذا من جهة ، ومن جهة أخري فإن استخدام هذه الطاقات يغير " الصورة " التي يحيا بها الإنسان علي الأرض ولكنه لا يغير " الجوهر" الإنساني من حيث تكوينه الأصيل ولا من حيث مهمته في الأرض ، ومن ثم لا تتحكم الصورة المتغيرة في الجوهر الثابت ، إنما يتحكم الجوهر الثابت في الصورة المتغيرة علي الدوام 126
يقول " رينيه دوبو" في كتاب " إنسانية الإنسان "
عاش رجل " كروماجنون Cro-magnon" في أكثر إنحاء أوربا قبل حوالي ثلاثين ألف سنة ، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة ، ومع أنه كان صيادا بصورة رئيسية ، فقد كان - علي ما يظهر - مشابها لنا جسما وعقلا . فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن . وفنه في كهوفه يثير مشاعرنا ، والعناية التي كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما في الاهتمام بنهاية الإنسان وأخرته ، وكل أثر مدون من أثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخري للفكر القائلة إن الخواص الأساسية للجنس البشري لم تتغير منذ العصر الحجري 127
وهكذا لا يتغير جوهر الإنسان بتغير الصورة التي تكون عليها حياته ، ومن ثم لا تتغير كذلك ضوابطه ومعاييره .(1/272)
وحقيقة إن التقدم العلمية والمادي والتكنولوجي هو ذاته معيار من معايير " الإنسان" .. فقد أنشأ الله الإنسان ليعمر الأرض ، وسخر له ما في السموات وما في الأرض ليقوم بعلمية التعيمر فإن تواني في ذلك أو تقاعس فهو مقصر في جانب من جوانب إنسانية ، ولكن هذا المعيار ليس هو المعيار الأوحد ، ولا هو المعيار الأول ، إنما يأتي في مكانة الطبيعي بعد تقرير المبادئ والقيم التي تتوقف عليها إنسانية الإنسان ، والفارق بينه وبين المعايير الأخري - معايير القيم والمبادئ - أن القيم والمبادئ يمكن أن تشكل إنسانا ولو كان ناقصا في جانب التقديم العلمي والمادي والتكنولوجي ، فهو " إنسان " ولكن ينقصه جانب من الجوانب ينبغي عليه استكماله ليستكمل إنسانيته ، أما التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي - بغير قيم ومبادئ - فلا يشكل إنسانا علي الإطلاق !
ومصداق ذلك هو " إنسان " القرن العشرين ! الذي هو أقرب شئ إلي إنسان الغاب " 128
إنه في قمة التقدم العلمي والمادي والتكنولوجي .. ولكنه بمقياس الإنسانية هابط إلي الحضيض !
? ? ?
إذا قومنا الديمقراطية الليبرالية بالمعيارين يقوم بهما الإسلام حياة البشر علي الأرض ، وهما قضية العبادة وقضية إنسانية الإنسان ، فماذا تكون يا تري حصيلتها في الميزان ؟!
فأما العباد فقد تبين لنا أنه ليس الله هو المعبود في تلك الديمقراطية إنما هو الشيطان ، وحيثما لا يكون الله هو المعبود فالمعبود هو الشيطان وإن تعددت السبل وتعددت المسميات
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [سورة يس 36/60-61]
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام 6/153](1/273)
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة 2/257]
والطاغوت هو كل شئ أو شخص أو نظام يعبد الناس لغير الله ، أو يتعبده الناس من دون الله ، وعبادته فرع عن عباده الشيطان .
وأما إنسانية الإنسان فأين هي علي وجه التحديد في الدوامة الوحشية التي يعيش فيها الإنسان الجاهلي المعاصر ؟
هي في مبادة الجنس المتدنية إلي أدني من بعض أنواع الحيوان ؟
أهي في إدمان الخمر والمخدرات ؟
أهي في الجريمة التي تتزايد نسبتها علي الدوام ؟
أهي في تفاهة الاهتمامات والبحث الدائم عن المتاع الحسي الغلي؟
أهي في العبودية للالة التي أصبحت هي التي تتحكم في حياة الإنسان؟
أهي في شريعة الغاب : القوة هي الحق ، والقوي يأكل الضعيف ؟
أهي في المواثيق التي تبرم لتنقض والعهود القائمة علي الخداع ؟
أهي في هذا المسخ المشوة الذي فقد إشراقه الروح وعاطفة الإنسان ؟
حقا .. هناك الضمانات والحقوق التي ترتبط اليوم بالديمقراطية وتشكل جانبا بارزا من جوانبها .. ولا شك - كما قلنا - أنها تمثل نقله كبيرة انتقلها " الإنسان" في مسيرته التاريخية علي الأرض ، ولكن الشر الذي يحيط بهذا الخير الجزئي ، هو في الديمقراطية الليبرالية من الضخامة بحيث يذهب في النهاية بكثير من نفع هذا الخير ، لأنه يدمر " الإنسان " كله في نهاية المطاف ، فلا يجدي - حين يسقط الإنسان كله إلي الحضيض - أننا كنا قد رفعنا جانبا من حياته إلي المستوي اللائق بالإنسان !(1/274)
وليس معني ذلك أننا ننقص من قيمة تلك الضمانات والحقوق بحال من الأحوال ، إنما الذي نعنيه أنها تكون في وضعها الطبيعي ، وتتحول إلي خير شامل ، حين يكون الإنسان بكاملة علي مستوى الإنسان .. وهو ما عجزت تلك الديمقراطية عجزا فاضحا من تحقيقه ، أو قل إن شئت إنه لم يرد لها أن تحققه منذ البدء ، لأن تحقيقه لا يمكن الجاهلية الرأسمالية من الوجود فضلا عن التضخم ، ولا يمكن شعب الله المختار من ركوب الاممين كما يشتهون !
هناك وضع واحد تتحقق فيه كل الضمانات والحقوق التي جاءت بها الديمقراطية علي المستوي الأرفع ، مع المحافظة الكاملة علي إنسانية الإنسان .
ذلك حين يكون الإنسان عابدا لله ، مطبقا لشريعة الله ، أي حين يحقق الإنسان الإسلام ! عندئذ تتحقق الكرامة الحقيقية للإنسان وتتحقق له كل الحقوق والضمانات التي وهبها الله للإنسان لتتحقق له كرامته في واقع الأرض .
يقول الله سبحانه وتعالي :
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
ويقول الرسول( : " أيها الناس إن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام 129...
فيقرر الله أصل الكرامة لبني آدام ، ويقرر الرسول ( حرمة الدماء والأموال والاعراض تحقيقا لتلك الكرامة في عالم الواقع ، في التعامل الذي يجري بين الناس ، ثم تتولي التوجيهات الربانية وتوجيهات ( لتحديد مجالات تكل الكرامة علي أوسع نطاق عرفته البشرية في تاريخها .
يامر الله ألا تنتهك حرية المسكن :(1/275)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)} [سورة النور 24/27-28]
والتجسس كذلك حرام .
يقول تعالي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا...} [سورة الحجرات 49/12]
ويقول الرسول ( : " من استمع إلي حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة "
وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ( ، وإن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم ،فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شئ ، الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة "130
ولا يجوز استراق السمع علي الشخص أو مسكنه أو أحاديثه او كشف سر من أسراره أو الإطلاع علي رسائله بغير إذنه .
يقول ( : " ولو أن رجلا أطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح 131
ويقول ( : " يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلي قلبه : لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته فيفضحه ولو في داخل بيته 132
ولذلك ذكر بعض الفقهاء ، أنه لا يجوز التجسس علي إنسان ولا متابعته للكشف عن أسراره ولا دخول مسكنة لتفتيشه إلا بتوفر شرطين :
الأول : ظهور ادلة وعلامات وقرائن علي وجود جريمة معينة .(1/276)
الثاني : أن يكون في ترك البحث والكشف ودخول المنزل انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، كأن يأتي الخبر بان رجلا خلا برجل ليقتله ، أو بأمرأة ليرتكب فاحشة ، فإذا لم يكن الأمر بحيث يفوت استدراكه فلا يجوز البحث والكشف ودخول المنزل .
وفضلا عن ذلك فإن الناس لا يؤخذون بالظنة ، دون وجود تهمة جادة من مصدر موثوق به ، لقوله تعالي : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [سورة الحجرات 49/6] كما لا يؤخذ إنسان بجريرة غيره لقوله تعالي: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر 35/18]
وتقيد حرية الإنسان غير جائز إلا بحكم شرعي يصدره القاضي.
فالأصل في الإنسان ضمان حريته في السكن والحركة والتنقل لقوله تعالي: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15]
وتقييد الحرية بغير حكم شرعي - أي بما يسمي الاعتقال أو الحبس الاحتياطي - غير حائز في الإسلام علي خلاف بين الفقهاء بالنسبة لبعض أنواع المتهمين
فالمتهمون في عرف الفقهاء ثلاثة أنواع
النوع الأول : متهم معروفة بالتقوي والبر يبعد أن يكون من أهل تلك التهمة ، فلا يجوز حبسه من أجل التهمة ن بل ذهب كثير من العلماء إلي أن المدعي عليه إن ظهر كذب دعواه يعاقب سواء قصد أذاه أو لم يقصد ، وذلك منعا لتسلط اهل الشر والعدوان والسفهاء علي أعراض أهل البر والصلاح(1/277)
النوع الثاني : المتهم المجهول الحال الذي لا يعرف ببر ولا فجور ، وهذا اختلف العلماء في سجنه احتياطيا عند وجود تهمة موجهة له ن فرأي الجهور جواز حبسه حتي ينكشف أمره ، ورأي البعض عدم جوز حبسه ، فأما الذين يرون جواز حبسه فقد قيدوا ذلك بالضرورة وبوجود أسباب قوية تدعو إلي ذلك ، ثم اختلفوا في مدة الحبس فحددها بعضهم بيوم وبعضهم بيومين وبعضهم بثلاثة أيام ,.. وأوصلها بعضهم إلي شهر كحد أعلي مع التقييد بالضرورة
النوع الثالث : المتهم المعروف بالفجور والفساد والسيرة الإجرامية ، وهذا يري جمهور الفقهاء أن يحبس حبسا احتياطيا حتي تثبت براءته إن كان برئيا وإن كان بعض الفقهاء كابن حزم لا يري حواز حبس أي إنسان علي الإطلاق بناء علي مجرد الإتهام لأن الأصل في الإنسان براءة الذمة
ولأن الأصل براءة الذمة لا يخلف المتهم في القضايا الجنائية المتعلقة بحق الله تعالي ، بل يذهب بعض العلماء إلي عدم تحليف المتهم في القضايا الجنائية المتعلقة بحق العبد ( أنظر مثلا الطرق الحكمية لابن القيم ، ط. دار الكتب العلمية ببيروت ، ص 100 - 104 )
اما الإكره علي الاعتراف فغير جائز بحال ، ولا خلاف بين الفقهاء في أن الضرب والتعذيب والحبس والقيد داخله كلها في الإكراه ، وأن اختلفوا في التهديد والوعيد فرأي الجمهور انه داخل في الإكراه ، ورأي البعض أنه لا يكون إكراها إلا إذا صدر من قادر علي تنفيذه ، وغلب علي ظن المتهم وقوع ما هدد به إذا لم يقر وكان المهدد به ضارا بحيث يعدم الرضا أو يفسده ، وكون المتهم عاجزا عن مقاومته
ولا يعتبر إقرار المكره صحيحا لقوله ( : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عيه " ولقول عمر رضي الله عنه : " ليس الرجل بأمين علي نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته " ( أنظر المعني والشرح الكبير ج8/ص 260 - 262 ، ج 10ص 172 طباعة دار الكتاب العربي ببيروت 1392هـ - 1972م).(1/278)
تلك ضمانات الاتهام وضمانات التحقيق فى الإسلام 133
أما ضمانات المحاكمة فقد قررها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا .
الضمانة الأولى والكبرى هى الحكم بشريعة الله التى يتمثل فيها العدل الربانى الشامل {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
ولا يقضى القاضى بالحد إلا إذا استوثق تماما أن المتهم غير معذور فى الجرم الذى ارتكبه ، وإلا فالحكم هو درء الحد بالشبهة لقوله صلى الله عليه وسلم : " ادرءوا الحدود بالشبهات " 134 "
" سرق غلمان لابن حاطب ابن أبى بلتعة ناقة لرجل مزنى فأتى بهم عمر فأقروا فأمر كثير ابن الصلت بقطع أيديهم ، فلما ولى رده ، وقال لابن حاطب : والله لولا أنى أعلم أنكم تستعملونهم فتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه ، لحل له ، لقطعت أيديهم . فإذ لم أفعل فلأغرمنك غرامة توجعك .. ثم التفت إلى المزنى فقال: يا مزنى ! بكم أريدت منك ناقتك ؟ قل بأربعمائة . قال عمر لابن حاطب : اذهب فأعطه ثمانمائة ! " 135
فحكم عمر رضى الله عنه أولا بدرء الحد لقيام شبهة الجوع دافعا للسرقة . وحكم ثانيا بعقاب " الفاعل الأصلى " وهو صاحب الغلمان الذى استخدمهم ولم يشبعهم فدفعهم الجوع إلى السرقة ، فغرمه ضعف ثمن الناقة .
كما أوقف عمر حد السرقة عام الجوع تطبيقا للمبدأ ذاته : ادرءوا الحدود بالشبهات .
ومن الضمانات أن القاضى لا يقضى بعلمه وإنما بالقرائن والأدلة وشهادة الشهود العدول . ولا يقضى القاضى وهو غضبان ، ولا يقضى وهو معرض لأى عارض يؤثر فى قدرته على الحكم الصحيح .
وكذلك ضمانات التنفيذ قررها الإسلام ، وزاد فيها ضمانة لم يتضمنها أى قانون أرضى حتى هذه اللحظة ، وهى رد الاعتبار الكامل للمجرم بعد تطبيق الحد عليه .
فأما فى التنفيذ فلا يجوز تعدى العقوبات المقررة شرعا . قال صلى الله عليه وسلم : " من جلد حدا فى غير حد فهو من المعتدين " 136(1/279)
وأما فيما بعد التنفيذ فيكفى هذان المثالان لتقرير تكريم الإسلام للإنسان وإن هبط فى لحظة عابرة مادام قد كفر عنها بالعقوبة التى وقعت عليه وبالتوبة إلى الله :
" حدثنا قتيبة بن سعيد .. عن إبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب فقال اضربوه . قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه . فلما انصرف قال بعض القوم : اخزاك الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا هكذا . لا تعينوا عليه الشيطان 137
وجاء فى قصة ماعز بن مالك : فأمر به فرجم ، فسمع النبى صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : انظر إلى هذا ستر الله عليه فلم تدعه نفسه الخبيثة حتى رجم رجم الكلب .. فسكت عنهما ، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه ، فقال : أين فلان وفلان ؟ فقالا : نحن ذان يا رسول الله . قال : أنزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ! فقالا : يا نبى الله من يأكل من هذا ؟! قال : فما نلتما من أخيكما أنفا أشد من أكل منه " .
تلك ضمانات الإسلام التى سبق بها الديمقراطية بأكثر من ألف عام .
وأما الحقوق فقد قررها الإسلام كذلك فى وقت مبكر كانت أوروبا والعالم كله يعيش فى الظلمات .
فأما الحقوق السياسية التى تفاخر بها الديمقراطية فقد كان الإسلام أول من أزال " القداسة " عن الحاكم بإفراد الله بالألوهية والربوية ، فلا يعبد إلا اله ولا تطبق شريعة إلا شريعة الله .
جاء الإسلام والحكام ذوو قداسة حقيقية لا مجازية . بعضهم توجه إليه شعائر التعبد كقيصر وكسرى ، وكلهم يشرعون فتسرى شريعتهم فى الرعية أمرا غير مردود .
وجاء الإسلام ليقول : لا إله إلا الله . ولا معبود إلا الله . ولا حاكم له حق التشريع إلا الله .
وعندئذ تقررت الحرية السياسية الحقيقة للناس .(1/280)
ليست الحرية كامنة فى مجلس نيابى أو عملية تصويت شعبية ، إذا كان نتيجة ذلك أن تتحكم فئة معينة من الناس فى رقاب بقية الناس . إنما الحرية الحقيقية مرتبطة بتحديد من له حق التشريع .. فإذا كان البشر هم الذين يشرعون فلا حرية فى الحقيقة ، إنما عبودية مقنعة من جانب وربوية زائفة من جانب .. وإذا كانت الحاكمية لله فهنا يتجرد الحكام من الربوية ويصبحون عبيدا له كبقية العباد .
إن الذى جاء به الإسلام أعظم بكثير فى تقرير حرية الإنسان من كل ما أتت به الديمقراطية بعد الصراع الممتد الذى قامت به الشعوب لاستخلاص حقوقها من الطغاة . فمازال الحكام فى الديمقراطية - من وراء ستار - يشرعون ، فيشرعون لمصالحهم على حساب الآخرين . من خلال المسرحية الطريفة المتمثلة فى حق الانتخاب وحق الترشيح ووجود نواب وبرلمانات .
إن الذى صنعه الإسلام هو سلب الحكام أصلا حق التشريع . وبذلك وحده تكف أيديهم عن إيقاع الظلم بالمحكومين ، وبذلك وحده يتحرر الناس فيشعرون بالعزة الحقيقية إزاء الحكام .
لقد قال الله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)} [سورة النساء 4/59]
فقال أبو بكر الخليفة الأول رضى الله عنه : " أطيعونى ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم " وقال مثل ذلك عمر رضى الله عنه .(1/281)
ووقف عمر رضى الله عنه يخطب الناس فقال : أيها الناس اسمعوا وأطيعوا . فقال له سلمان الفارسى : لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة ! فلم يغضب عمر العربى القرشى أمير المؤمنين لهذه المقالة من سلمان الفارسى . ولم يأمر بالقبض عليه واعتقاله ، إنما قال له : ولمه ؟ قال سلمان : حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذى ائتزرت به وأنت رجل طوال لا يكفيك البرد الذى نالك كبقية المسلمين !فلا يغضب عمر العربى القرشى أمير المؤمنين مرة أخرى من هذه المقالة من سلمان ، إنما ينادى ابنه عبد الله فيقول له : نشدتك الله هذا البرد الذى ائتزرت به أهو بردك ؟ فيقول : نعم ! ثم يقول موجها خطابه للناس : إن أبى رجل طوال لا يكفيه البرد الذى ناله كبقية المسلمين ، فأعطيته بردى ليأتزر به ! عندئذ يقول سلمان : الآن مر !نسمع ونطع .
ولم يكن سلمان متمردا على السمع والطاعة الواجبة للحاكم المسلم . إنما كان يريد فقط أن يستوثق - لله - من كون عمر رضى الله عنه قائما بتنفيذ شريعة الله على الوجه الأكمل . وكان عمر يعلم دافع سلمان إلى مسائلته فيرضى - لله - بهده المساءلة التى لم يقبلها على نفسه حاكم فى الديمقراطية الليبراليى الرأسمالية ولا فى غيرها من نظم الحكم على الإطلاق !
ويقول عمر : إذا أحسنت فأعينونى ، وإذا أسأت فقومونى ! فيقول له سلمان : والله لو جدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف ، فيقول عمر - راضيا لله -الحمد لله الذى جعل فى رعية عمر من يقومه بحد سيفه ! !
تلك هى الحرية السياسية فى الإسلام ! منشؤها عبادة الله وحده دون شريك ، التى يترتب عليها نزاع القداسة عن الحكام فى الأرض ، كما يترتب عليها نزع حق التشريع من الحكام بستار أو بغير ستار .. فيحس المؤمن الذى يعبد الله حق عبادته بعزة الاستعلاء التى تسنده أمام الحكام .(1/282)
خطب عمر الناس فقال : لا تغالوا فى المهور . فقامت له امرأة من عامة المسلمين فقالت يوسع الله وتحرج أنت ؟! إن الله يقول " وأتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا " ! قال أخطأ عمر وأصابت امرأة !
وصحيح أن الله قد ترك أمورا للاجتهاد البشرى ، يضع البشر فيها تشريعات تلائم ما يجد من الأحوال ، ولكن هذه أولا محكومة بالأصول العامة للشريعة وليست متروكة للهوى البشرى كما يحدث فى الديمقراطيات .. وهى ثانيا اجتهادات يقوم بها أولو العلم من فقهاء الأمة الذين يقر الناس لهم بالقدرة على الاجتهاد ، وليست لأى إنسان يفتى فيها بعلم أو بغير علم كما يحدث فى البرلمانات عند التصويت على أى قرار ، إذ تؤخذ القرارات بأغلبية الأصوات ، وتتكافأ أصوات الذين يعلمون والذين لا يعلمون !
وتبقى الأمور الجارية التى تدخل فى باب " السياسية " وهذه يلزم الحاكم أن يستشير فيها يتحمل مسئوليته بعد الاستشارة ! بشرط ألا يخالف نصا من الكتاب والسنة أو ما أجمع عليه العلماء ، ولا يصادم أصلا من أصول الشريعة العامة .
أما حق التعليم فقد نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا ، بل جعله فريضة : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " 138 ( وعلى كل مسلمة لأنها داخلة فى النص ) ودون الدخول فى تفصيل ما يكون من العلم فرض عين وما يكون فرض كفاية ، فإن العليم لم تكن له مشكلة فى العالم الإسلامى ، إلا فى العصور المتأخرة حين بعد الناس عن حقيقة الإسلام . أما فى عصور الإزدهار فقد كان الإقبال شديدا على التعليم ، وكانت الدولة والمجتمع والأفراد يتعاونون فى توفير العلم لكل راغب مجانا ، بلا تكاليف ، بل كانت الدولة تجرى المعاشات للطلاب لتعينهم على طلب العلم دون مشغلة بأمر القوت ، وكانت أوقاف المسلمين الذين يقفون أموالهم على التعليم تكفل المأوى والملبس والمطعم للطلاب فضلا عن التعليم 139
******(1/283)
أما حق العمل أو الإعاشة الذى أكرهت الدول الديمقراطية عليه إكراها بسبب المطالبة المستمرة من العمال ، وبسبب الخوف من الشيوعية ، فقد قرره الإسلام ابتداء دون مطالبة من أحد ، ودون صراعات فى المجتمع .
وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قواعد مسئولية الدولة عن جميع رعاياها إما بإعطائهم فرصة كريمة للعمل ، وإما بإعالتهم من بيت المال . جاءه رجل يسأله فأعطاه دراهم وقال له أذهب فاشتر حبلا وفأسا واحتطب وبع ما تحتطب للناس . ثم أمره أن يعود إليه ليخبره بما كان من أمره . وكان يوزع أموال الزكاة والغنائم والفىء على المحتاجين بمقتضى قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [سورة التوبة 9/60]
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة الأنفال 8/41]
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [سورة الحشر 59/7](1/284)
ورغم قلة الموارد فى أول أيام الدولة الإسلامية فإن المبدأ قد تقرر واضحا محددا وهو أن الدولة مسئولة عن جميع رعاياها بقدر ما تسمح مواردها . وعلى الرغم من أن التكافل فى الإسلام ليس مهمة الدولة وحدها ، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتكافل فى داخل الأسرة وحدد لذلك نظاما دقيقا توزع التركات بمقتضاه ، كما وزع التكاليف داخل الأسرة بحيث تشمل مجموع أفرادها ، كما أمر بالتكافل فى داخل المجتمع، وحض القادرين على كفالة غير القادرين .. على الرغم من ذلك فإن مسئولية الدولة ظلت قائمة ، لا يسقطها عنها وجود التكافل فى داخل الأسرة وفى داخل المجتمع . بل تصل الحساسية فى قلب عمر رضى الله عنه أن يقرر مسئولية الدولة لا عن الآدمين الذين يستظلون بظلها فحسب ، بل عن كل كائن حى ، فيقول قولته الشهيرة : لو عثرت بغلة بالعراق ( أو قال بصنعاء ) لكنت مسؤولا عنها لم لم أسو لها الطريق ! ثم يصل الأمر فى أيام عمر بن عبد العزيز أن يقول يحيى بن سعيد : بعثنى عمر على صدقات أفريقية فاجتبيتها فبحثت عن فقراء أعطيها لهم فلم أجد فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ! فاشتريت بها عبيدا فأعتقتهم !
وجاء فى كتاب " الأموال " فلإمام الحافظ أبى عبيد القاسم بن سلام المتوفى عام 224 هـ : ( ص 357 - 358) وحدثنى سعيد بن أبى مريم عن عبد الله بن عمر العمرى عن سهيل بن أبى عبد الرحمن - وهو بالعراق - "أن اخرج للناس أعطياتهم " فكتب إليه عبد الحميد : " إنى قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقى فى بيت مال المسلمين مال " فكتب إليه : " أن أنظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه " فكتب إليه : " إنى قد زوجت كل من وجت وقد بقى فى بيت مال المسلمين مال " . فكتب إليه بعد مخرج هذا : " إن أنظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على أرضه . فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين .
وجاؤ فيه ( ص 738 )(1/285)
" قال : حدثنى يحيى بن بكير قال : سمعت الليث بن سعد يقول : كتب عمر ابن عبد العزيز : " أن اقضوا عن الغارمين " . فكتب إليه : " إنا نجد له المسكت والخادم والفرس والأثاث " فكتب عمر : " إنه لابد للمرء المسلم من مسكت يسكنه وخادم يكفيه مهنته ، وفرس يجاهد عليه عدوه ، ومن أن يكون له الأثاث فى بيته . نعم ! فاقضوا عنه فإنه غارم ! "
إلى هذه الدرجة العجيبة يصل الإسلام فى تقرير مبدأ مسئولية الدولة عن جميع افرادها ، ويصل التنفيذ العملى فى صدر الإسلام لهذا المبدأ قبل أن يثور الثائرون ويطالبوا بهذه الحقوق بأكثر من ألف عام . وما تزال الديمقراطيات - رغم كل خوفها من الشيوعية ، وكل خوفها من تمرد العمال - لا تصل إلى تقرير هذا الحق كاملا كما قرره الإسلام.
? ? ?
وأما حق التعبير عن الرأى فإن الإسلام لم يكفله حقا للناس على حكامهم بل جعله واجبا على الناس لله ! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة " قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله ورسوله وخاصة المسلمين وعامتهم 140 فجعل إبداء النصيحة واجبا . وإبداء النصيحة هو التوجيه إلى الصواب والنهى عن الخطأ أيا كان الذى وقع الخطأ منه حاكما أو محكوما .. وهذا - فى صورته الدينية - هو هو التعبير عن الرأى الذى سعت الشعوب لانتزاعه انتزاعا من قبضة الحكام الكارهين ، مع فارق رئيسى ، أنه هنا إبداء الرأى مخلصا لله ، لتقويم ما أعوج من أحوال المجتمع ، لا احترافا للتأييد أو احترافا للمعارضة بحسب موقع الحزب الذى ينتمى الإنسان إليه من الحكم ! ولا لهوى شخصى أو بعض شخصى .(1/286)
ويطلب الإسلام من كل مسلم أن يكون له موقف ويكون له رأى ، ليتمكن مجموع الأمة من القيام بأخطر مهمة تقوم عليها خيرية الأمة واستحقاقها للوجود وللفلاح ، بينما تقع اللعنة على الأمة إن أهملتها ، ألا وهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)} [سورة آل 3/104]
وفى الجانب الآخر :
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [سورة المائدة 5/78-79]
ولذلك يطلب رسول الله صلى الله عليه وسم من المسلم ألا يكون إمعة ، لا رأى له ولا موقف سوى مجاراة " الرأى العام " !! يقول عليه الصلاة والسلام : " لا يكن أحدكم إمعة ، يقول إذا أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت . ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أو أساءوا ألا تظلموا 141
وهذا كله بطبيعة الحال ضد مصلحة " الحكام " ما لم يستقيموا على النهج !
فليس من مصلحة الحكام أن تكون شعوبهم متيقظة لأعمالهم . مبادرة بنقد الخاطئ منها عن طريق " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " ولكن الإسلام لا يعمل لمصلحة الحكام كما تعمل الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية لصالح الرأسمالية رغم كل المسرحية الطريفة - مسرحية الحرية ! - إنما يعمل الإسلام لمصلحة كل الناس ، لأنه نزل لهداية كل الناس ، وليقوم الناس كلهم بالقسط .(1/287)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
بل يشدد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن توجيه النصح للحكام - لا مجرد إبداء الرأى من أجل إبداء الرأى فحسب كما تصنع الديمقراطية فى أكثر أحوالها - فيقول صلى الله عليه وسلم : " لا والذى نفسى بيده حجتى تأطروهم على الحق أطرا 142
ويقول صلى الله عليه وسلم : " سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله " 143
وهكذا يتبين أن ما جعلته الديمقراطية حقا مكتسبا وناضلت الشعوب من أجله ، جعله الإسلام واجبا ، وقرره قبل الديمقراطية بأكثر من ألف عام ، وقرره على طريقة أفضل وأصدق وأعمق .. ككل شئ قرره الإسلام .
ولكن الإسلام أعطى هذه الضمانات والحقوق كلها مع المحافظة التامة . على إنسانية الإنسان . وهنا مفرق الطريق بين الإسلام والجاهليات جميعا ، ومن بينها هذه الديمقراطيات !
لقد كرم الله الإنسان ابتداء كما أسلفنا :
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70]
وكل ما فرضه الإسلام منه الفرائض والتكاليف ، وكل ما قرره من الحقوق والواجبات منظور فيه إلى " تزكية " الإنسان ، وهى جزء من التكريم المراد للإنسان ، بل هى قمة ذلك التكريم .
فعبادة الله وحده دون شريك - فضلا عن كونها حقا لله على عباده - هى فى الوقت ذاته تزكية للإنسان وتكريم . فالإنسان كما قلنا أنفا عابد بطبعه لابد أن يعبد ، ولا يوجد إنسان لا يعبد . إنما الفارق بين إنسان وإنسان يأتى من توجيه العبادة إلى الله الحق ، أو توجيهها إلى إله زائف لا يستحق أن توجه العبادة إليه .(1/288)
والإنسان فى أعلى حالاته وأكرم حالاته حين يكون عابدا لله الحق ، وهو أسفل سافلين حين ينتكس من عبادة الله إلى عبادة غير الله من الآلهة المدعاة ، التى تهبط بالإنسان من إنسانيته المكرمة ، فيصبح كالدابة التى لا تعى ، بل يصبح أسوأ وأضل :
{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [سورة الأعراف 7/179]
فعبادة الله الواحد ، وإفراده بالألوهية والربوبية التى يفرضها الإسلام حقا خالصا لله تعالى ، هى فى الوقت ذاته رفعة للإنسان وتكريم ، وفلاح فى الدنيا والآخرة سواء ، وتزكية ترفع الإنسان إلى عليين :
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة 2/257]
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [سورة الأنعام 6/122]
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر 103/1-3]
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22)} [سورة المعارج 70/19-22]
فمن باب رفع الإنسان إلى مقام الإنسانية الكريمة يربط الإسلام قلوب المؤمنين بالله ، ويجعل صيانة العقيدة والمحافظة عليها أول واجبات الإمام المسلم والدولة المسلمة .(1/289)
ومن باب رفع الإنسان إلى مقام الإنسانية الكريمة كذلك يربى الإسلام المسلمين على الأخلاق الفاضلة التى تنظف المشاعر وتنظف السلوك ، وتنفى عن النفس خبثها ، وتصونها ن التردى إلى مستوى الحيوان ، فيفرض النظافة فى الأعمال كلها : " إن الله كتب الإحسان على كل شئ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتهم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " 144
فإذا كان الأمر أمر عبادة موجهة إلى الله فالإسلام يطهرها من الرياء والنفاق . وإن كان أمر معاملات تجرى بين الناس بعضهم وبعض فقد فرض الإسلام فيها النظام الكاملة فى كل شئ .
فى التعامل المالى حرم الربا والاحتكار والسرقة والغصب والنهب والسلب والغش والخديعة وأكل مال الأجير ، كما لعن السرف والترف وكنز المال 145 .
فى التعامل الاجتماعى حرم الغيبة والنميمة والغمز واللمز والتجسس ، كما بغض فى الفرقة والتباغض والتحاسد ، واهتمام كل إنسان بنفسه وعدم المبالاة بالآخرين 146
" من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " 147 المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا 148 مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر 149
فى التعامل الجنسى حرم الفاحشة بجميع أنواعها وحرم ما يؤدى إلى الفاحشة من خلوة أو تبرج أو تكسر أو خلاعة أو اختلاط بغير موجب .
فى كل شئ هناك أخلاق .ز وهذا هو اللائق بالإنسان ..
وحين يكرم الإسلام الإنسان على هذا النحو ، وينظف مشاعره وسلوكه على هذه الصورة ، فإنه يعطيه ما أعطاه من حقوق وضمانات ، فتكون فى مكانها الطبيعى ، تكملة للتكريم ، وتوكيدا للتكريم ، لا كالذى تصنعه الديمقراطية الليبرالية ، التى تعطى بالفعل الضمانات والحقوق ولكنها تدمر الإنسان كله فى نهاية المطاف !
? ? ?
هذا هو الإسلام ، وهذه هى الديمقراطية فى نظر الإسلام ..(1/290)
ومن ثم فلا سبيل إلى مزج الإسلام بالديمقراطية ! ولا سبيل إلى القول بأن الإسلام نظام ديمقراطى ! أو أنه يتقبل النظام الديمقراطى أو يسايره ، لمجرد وجود شبه عارض فى بعض النقاط !
إن هذا الالتقاء العارض بين الديمقراطية والإسلام فى الحقوق والضمانات وفى مبدأ الشورى لا يجوز أن ينسينا حقيقتين مهمتين :
الحقيقة الأولى : أنه لا ينبغى لنا - من الوجهة العقيدية - أن نقرن النظام الربانى إلى نظام جاهلى ، فضلا عن أن نحاول سند النظام الربانى بنسبته إلى النظام الجاهلى ، أو أ، نتصور أننا نمتدح النظام الربانى بأن نقول إنه يحمل نقط التقاء مع النظام الجاهلى !
إنها الهزيمة الداخلية تندس إلى أفهامنا دون أن نحس ، وتجعلنا نعتقد أن النظام الربانى فى حاجة إلى دفاعنا نحن عنه وتبريره ! كما تجعلنا نعتقد أننا نمتدح النظام الربانى بأن نقول للناس إنه يحتوى على الفضائل التى تحتوى عليها النظم السائدة اليوم !
إنها الهزيمة التى أصابت المسلمين فى مواجهة الغرب الظافر المتغلب . الذى غلب على بلاد الإسلام . وما كانت لتوجد فى نفوسنا لو أننا واثقون فى أنفسنا مستعلون بالإيمان كما وجهنا الله :
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [سورة آل 3/139]
الهزيمة التى نشأت فى الحقيقة من الخواء الذى أصاب المسلمين فى القرون الأخيرة .. الخواء من حقيقة الإسلام .. فلما جاءت الهزيمة العسكرية أمام الغرب كانت كالضربة القاضية التى بهرت المهزومين وهزتهم من الأعماق . وما كانوا لينبهروا - رغم الهزيمة العسكرية - لولا ذلك الحواء الداخلى من حقيقة الإسلام 150
إنه لا ينبغى لنا من الوجهة العقيدية أن نقرن الإسلام إلى الجاهلية فى أى صورة من صورها ، إلا إذا قلنا كما قال الله فى كتابه المنزل :(1/291)
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة 5/50]
والحقيقة الثانية : أن هذا الشبه العارض فى بعض النقاط لا يجوز أن ينسينا الفارق الضخم فى القاعدة ، إن القاعدة التى يقوم عليها الإسلام تختلف اختلافا جذريا عن القاعدة التى تقوم عليها الديمقراطية
فى الإسلام يعبد الله وحده دون شريك ، وتحكم شريعة الله عنوانا على التوحيد ، وتحقيقا له فى عالم الواقع . وفى الديمقراطية يعبد غير الله ، وتحكم شرائع البشر عنوانا على عبادة غير الله وتوكيدا لها فى عالم الواقع .
وفى الإسلام يزكى الإنسان ليحتفظ بانسانيته فى أحسن تقوين ، وفى الديمقراطية ينكس الإنسان فيهبط أسفل سافلين .
تلك فروق جوهرية فى القاعدة ، فما قيمة اللقاء العارض فى بعض النقاط أيا كانت القيمة الذاتية لتلك النقاط ؟!
على أننا - من الوجهة التاريخية البحتة - لا يجوز أن نقرن الإسلام إلى الديمقراطية وهو سابق على تلك الديمقراطية بأكثر من ألف عام ! إنما ينبغى - إن أردنا ! _ أن نقول إن الديمقراطية هى التى تحمل بعض المشابه من الإسلام فى بعض النقاط ، لا أن الإسلام هو الذى يحمل مشابه من الديمقراطية .. فاللاحق هو الذى يلحق بالسابق فى عرف التاريخ !
* * *
وفى العالم الإسلامى كتاب ومفكرون ودعاة مخلصون مخدوعون فى الديمقراطية . يقولون نأخذ ما فيها من خير ونترك ما فيها من شرور .
يقولون نقيدها بما أنزل الله . ولا نبيح الإلحاد ولا نبيح التحلل الخلقى والفوضى الجنسية !
إنها إذن لن تكون الديمقراطية .. إنما ستكون الإسلام !!
إن الديمقراطية هى حكم الشعب بواسطة الشعب . إنها تولى الشعب سلطة التشريع . فإذا ألغى هذا الأمر أو قيد بأى قيد فلن تكون هى الديمقراطية التى تقوم اليوم بهذا الاسم .(1/292)
واسألوا الديمقراطيين ! قولوا لهم : نريد أن نحكم بما أنزل الله ، ولا يكون للشعب ولام ممثليه حق وضع القوانين إلا فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة ولا إجماع من علماء المسلمين !
قولوا لهم : نريد أن ننفذ حكم الله فى المرتد عن دينه ، وحكم الله فى الزانى والسارق وشارب الخمر ..
قولوا لهم : نريد أن نلزم المرأة بالحجاب . ونمنع التبرج ، ونمنع العرى على الشواطئ وفى الطرقات . ونريد فى الوقت ذاته أن نكون ديمقراطيين !
اسألوهم وانظرا ماذا يقولون !
سيقولون على الفور : إن هذه ليست الديمقراطية التى نعرفها .. ففى الديمقراطية يشرع الناس فى جميع الأمور لا يلتزمون فى شئ منها بغير ما يريده الشعب ( نظريا على الأقل ! وإن كانت الحقيقة كما أسلفنا أن الرأسماليين هم الذين يشرعون من وراء الستار ! )
سيقولون إن الديمقراطية لا تتدخل فى " الحرية الشخصية " للأفراد ! فمن شاء أن يرتد عن دينه فهو حر ! ومن شار أن يتخذ صديقة أو خليفة فهو حر . ومن شاءت أن تكشف عن صدرها أو ظهرها أو ساقيها فهى حرة ! ومن شاءت أن تخون زوجها فهى حرة ما لم يشتك الزوج !
سيقولون : ابحثوا عن اسم آخر لما تريدون . . اسم غير الديمقراطية !
فإذا كان كذلك فلماذا نصر نحن على تسمية نظامنا الذى نريده باسم الديمقراطية ؟ لماذا لا نسميه الإسلام؟!
? ? ?
ويقول بعض الناس مخلصين : إنما نريد أن يلتزم الحاكم - المسلم - برأى الشعب فيما ليس فيه نص .. وهذا هو لب الديمقراطية الذى نريد أن نطعم به الحكم الإسلامى ، لنمتع طغيان الحكام !
وما نريد هنا أن ندخل فى الخلاف الفقهى القائم حول الشورى فى الإسلام وهل هى ملزمة لولى الأمر أم غير ملزمة .. فهذا يخرج بنا عن موضوع الكتاب إنما نقول فقط أن هذا أمر اجتهادى ليس فيه نص .. فالنص يلزم بالشورى ذاتها ، ولكن لا يوجد نص يقول إن الشورى ملزمة او غير ملزمة . ولذلك اختلف الفقهاء .(1/293)
وما دام الأمر اجتهاديا فمن حق أى جيل من أجيال المسلمين أن ينظر فيه ، وينظر فى وجه المصلحة فيه .. فيوم نكون جادين فى تطبيق الإسلام ، فعندئذ يجتمع علماء الأمة وينتظرون فى الأمر ، ويقررون على ضوء الظروف القائمة وقتها إن كانت المصلحة تقتضى جعل الشورى ملزمة أو غير ملزمة .. وتلتزم الأمة وحكامها بما يراه علماؤها المجتهدون ، فإذا رأى علماء الأمة أن المصلحة تتحقق بالتزام الحاكم بنتيجة الشورى كان هذا الاجتهاد ملزما لأولياء الأمور .
أما أن نستعير " ترسا " من آلة أجنبية عن الإسلام لنركبه فى النظام الإسلامى لمجرد ظننا انه صالح ومفيد ، فليس هذا هو التفكير السديد . إن الإسلام نظام متكامل . وحاجات المسلمين ومصالحهم تتحقق من داخل النظام لا من خارجه . فلنعزم أولا أن نكون مسلمين حقا ، ملتزمين بما أنزل الله ، ثم لننظر بعد ذلك ما يفتح الله به علينا من الحلول :
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [سورة العنكبوت 29/69]
? ? ?
وينظر أناس إلى البغى والطغيان القائم فى بلاد الإسلام فيقولون : أليست الديمقراطية خيرا من هذا البغى ؟ على الأقل نستطيع أن نتنفس ونحن آمنون ! لا يجئ حاكم فيعتقل من يعتقل ، ويعذب من يعذب ، ويقتل من يقتل دون أن يجرؤ أحد على معارضته بسبب عدم وجود نظام ديمقراطى ، فلو أننا اتخذنا الديمقراطية - مع تحكيم شريعة الله - أمنا من طغيان الحكام .
ويبدو هذا القول وجيها لأول وهلة .. ففى النظم الديمقراطية القائمة فى الغرب لا يطغى الحكام بهذه الصورة ، ولا يعتقلون الناس بعشرات الألوف ، ولا يعذبونهم فى السجون ، ولا يقتلون أحدا بالتعذيب داخل الأسوار ، مما تعرض له الدعاة المسلمون فى أكثر من مكان فى العالم الإسلامى .
ولكن القضية إذا أنعمنا النظر فيها لا تبدو بهذه الوجاهة التى تبدو عليها الوهلة الأولى .(1/294)
فلا يوجد نظام فى الأرض - حتى النظام الربانى - يعمل من تلقاء نفسه دون قيام البشر على حراسته ، أو يعطى الضمانات للناس دون أن يحرص الناس على التمسك بهذه الضمانات .
والديمقراطية ليست نظاما آليا يحمل ضماناته فى طياته ويطبقها من ذات نفسه ! إنما هى - ككل نظام - تعتمد على البشر الذين يقومون بالتطبيق .
وانظر إلى تاريخ الديمقراطية فى بلادهم التى تطبقها وتتمتع بضماناتها . إنه تاريخ نضال مستمر وثورات ودماء! والذى أعطى الضمانات - كما أشرنا أكثر من مرة فى هذا الفصل - لم يكن هو الديمقراطية فى ذاتها ، إنما كان نضال الشعب وثورته على الظلم ن وتحمل التضحيات والضحايا فى سبيل الحصول على حقوقه . وبهذا النضال نال الشعب ما نال من حقوق وضمانات .
ولكن تعال الآن فحاول تطبيق الديمقراطية فى بلاد لم تناضل ولم تتجه للنضال من أجل الحريات والضمانات والحقوق . فماذا تفعل الديمقراطية للناس ؟! هل تصون لهم حقوقهم وتعطيهم ضماناتهم ؟
إن الديمقراطية ليست ثوبا يشترى جاهزا ويلبس ، إنما ينبغى أن يفصل تفصيلا على قد لابسه ! لابد من " المعاناة " التى تعطى ثمرة التجربة !
حيث ثار المصريون ثورتهم " الوطنية 151 عام 1919 ، كان تشرشل وزيرا فى وزارة المحافظين القائمة يومئذ فى بريطانيا ، فجاءت أخبار الثورة فى الصحف فسأل تشرشل : ماذا يريدون ؟ ( يعنى المصريين ) قالوا له : يريدون دستورا وبرلمانا ! فقال تشرشل : أعطوهم لعبة يتلهون بها Give them a toy to play with وكانت كلمة صادقة من ذلك الداهية الساخر المتغطرس الخبيث .
ولست أقول أن النظم الطغيانية التى حلت محل تلك الديمقراطيات المزيفة هى خير منها ! كلا ! وألف مرة كلا ! فالطغيان الذى يعتقل عشرات الألوف ويعذبهم أبشع تعذيب عرفته البشرية ، ويقتل منهم من يقتل فى محاكمات صورية أو داخل الأسوار بالتعذيب ، هو شر خالص لا خير فيه .(1/295)
ولكنى أقول فقط إن البديل ليس هو الديمقراطية .. إنما هو الإسلام !
فإذا كانت العودة إلى الإسلام اليوم تحتاج إلى جهاد طويل وتضحيات ، وإلى تربية جادة على حقائق الإسلام ، فإن الديمقراطية كذلك ! إنها لن تعطى ثمارها - فى الجانب الخير منها - إلا بجهاد وتضحيات ، وتربية جادة تربى جيلا من الناس يحرص على حريات الديمقراطية وضماناتها ، ويأبى أن تزيف إرادته التزييف الغليظ الذى كان يحدث باسم الديمقراطية فى بلادنا . وإلا فستظل لعبة يتلهى بها الناس كما قال ذلك الخبيث .
فإذا كان لابد من التربية فى الحالتين ولابد من الجهاد والتضحيات فى الحالتين ، أفليس الأولى أن يكون الجهد فى سبيل الخير الحقيقى ، الخير الذى لا يعود على المسلمين وحدهم إنما يعود على البشرية جمعاء ، وهو خير الدنيا والآخرة فى ذات الوقت ؟ !
ولقائل أن يقول ، إن التاريخ السياسى الإسلامى ملئ بالمظالم ، وهو يحمل اسم الإسلام .
ونقول نعم ! إن هذا صحيح !
ولكن ما سببه على وجه التحديد ؟!
ظلم من الحكام .. نعم .. ولكن أين كانت الأمة الإسلامية ؟ ولماذا سكتت على الظلم ، ولم تأطر حكامها على الحق أطراكما أمرها زعيمها وقائدها صلى الله عليه وسلم ؟
إنها استنامت للظلم تفريطا فى حقوقها وواجباتها التى قررها الإسلام ..
أفلو كانت الديمقراطية هى الحاكمة بدلا من الإسلام كان المفرطون لا يفرطون ؟!
وهل الأمة التى ضيعت الإسلام كانت ستحافظ على الديمقراطية ؟!
إن القضية أن هذه الأمة تحتاج أن تربى من جديد على حقيقة الإسلام .. وبغير ذلك لا ينصلح حالها ولا يستقيم .
ومن كان يرى أن مشوار الإسلام مشوار طويل ، وأن مشوار الديمقراطية أقصر منه وأيسر ، فنحن نقول له إن الديمقراطيات ذاتها فى سبيلها إلى الانهيار ، بما تحمل فى طياتها من عوج وانحراف قائم فى أصل النظام .
وسيبقى الإسلام ..
سيبقى لأنه دين الحق ..
ولأن الله تكفل بحفظه .(1/296)
ولأنه هو الشئ الوحيد الذى يمكن أن ينقذ البشرية كلها من ضلالها البعيد الذى لجت فيه ..
ولأن هناك مؤمنين بهذا الدين يجاهدون لتكون كلمة الله هى العليا ، والله هو الذى وعدهم بالتمكين :
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
الشيوعية
أولا : المادة الجدلية
ثانيا : المادة التاريخية
ثالثا : المذهب الاقتصادى بين النظرية والتطبيق
تمهيد
ليست الشيوعية مذهبا اقتصاديا بحتا كما يتبادر إلى ذهن كثير من الناس حين يسمعون لفظة الشيوعية ، وإن كان لها ولا شك مذهب اقتصادى محدد متميز ، إنما هى تصور شامل للكون والحياة والإنسان لقضية الألوهية كذلك ، وعن هذا التصور الشامل ينبثق المذهب الاقتصادى . ثم إنها من جهة أخرى مذهب اقتصادى واجتماعى وسياسى وفكرى مترابط متشابك لا يمكن فصل بعضه عن بعض .
ومن ثم فلا يمكن عزل المذهب الاقتصادى وحده بعيدا عن التصور الشامل الذى ينبثق عنه ، أو بعيدا عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية المصاحبة له .
وسواء كان الوضع الاقتصادى وحده هو الأصل الأصيل والأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية المصاحبة له مجرد انعكاس له كما تقول النظرية الشيوعية ، أم كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية أصيلة فى صدروها عن التصور الشامل كأصالة الوضع الاقتصادى كما نزعم نحن ..(1/297)
ففى جميع الحالات لا يمكن فصل المذهب الاقتصادى وحده ، وعزله عن التصور الشامل الذى انبثق عنه ، ولا عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية المصاحبة له ، كما أنه لا يمكن تركيبه على تصور آخر . ولا على أوضاع سياسية واجتماعية وفكرية مغايرة . وليس هذا خاص بالشيوعية إنما هو من طبيعة كل تصور ، وكل أوضاع ناشئة عن ذلك التصور .
وليس معنى هذا أن التصور الواحد لا يمكن أن ينبثق عنه إلا صورة اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية واحدة محددة السمات والتفصيلات ، فسوف نرى فى أثناء العرض والمناقشة أن ذلك غير صحيح . ولكن الذى نعنيه أن هناك اتجاهات عامة تربط بين المذهب الاقتصادى السياسى الاجتماعى الفكرى وبين التصور الذى ينبثق عنه ذلك المذهب . وإن هذه الاتجاهات العامة لابد أن توجد فى كل صورة من الصور الاجتماعية السياسية الاقتصادية الفكرية التى يمكن أن تنبثق عن ذلك التصور ، وإن اختلفت فيما بينها فى الدرجة أو فى التفصيلات والسمات الخاصة .
وبديهى أن التصور الشيوعى للألوهية والكون والحياة والإنسان هو تصور مادى بحت .. فهم يسمون نظريتهم العام " المادية الجدلية " ويسمون تفسيرهم للتاريخ " التفسير المادى للتاريخ " ومن أقوالهم :
لا إله . والكون مادة .
وحدة العالم تنحصر فى ماديته .
المادة سابقة فى الوجود على الفكر .
لم يكن هناك وقت لم تكن المادة موجودة فيه ، وليس هناك وقت لا تكون المادة موجودة فيه . .
الإنسان نتاج المادة .
الفكر نتاج الدماغ والدماغ مادة .. الخ
? ? ?
وحين نتكلم عن الشيوعية فلابد أن نتكلم عن أمور ثلاثة رئيسية هى المادة الجدلية ، والمادية التاريخية ، والمذهب الاقتصادى الشيوعى مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المصاحبة له .
ولكنا نحب أن نشير فى هذا التمهيد إلى أن ماركس - أو الشيوعيين بصفة عامة - ليسوا هم الذين ابتدعوا الاتجاه المادى . وإنما الحق أنهم قمته ومنتهاه .(1/298)
وليسوا هم الذين ابتدعوا " الجدلية " تفسيرا للحياة البشرية أو الوجود عامة بما فيه الكون المادى والحياة البشرية ، إنما " الجدلية المادية " أو " المادية الجدلية " هى التى يمكن أن تعتبر ابتداعهم الخاص .
الاتجاه المادى قديم فى الحياة الأوروبية قدم النهضة الأوروبية إن لم نقل إن له جذورا أعمق من ذلك فى بعض اتجاهات الفلسفة الإغريقية القديمة واتجاهات الحياة الرومانية قبل المسيحية .. وقد قامت النهضة الأوروبية كما سبق أن بينا على أساس معاد للدين .. كما أنها رجعت إلى الأصول الإغريقية الرومانية تستمد منها ، بلاد من الأصول الدينية المسيحية التى كانت منسلخة منها منقلبة عليها ..
وحين قامت النهضة انقلب اتجاه التفكير فى أوروبا من ناحيتين اثنتين على الأقل ، كلتاهما تعضد الأخرى . فقد كان الفكر الأوربى فى فترة المسيحية الكنسية قائما على أصول دينية - بصرف النظر عما وقع فيها من تحريف عن الأصل الصحيح - أى أن مصدرها - فى حسهم - هو الله والوحى الربانى ! ثم إن هذا الفكر كان متجها إلى الآخرة على أساس أن الخلاص الحقيقى هناك ، وأنه لا خلاص فى الحياة الدنيا .. أما فكر النهضة فقد كان " إنسانية " من جهة ، وموجها إلى الحياة الدنيا من جهة أخرى . إنسانى لا بمعنى أنه مشغول بالقيم العليا الإنسانية ، أو " بالإنسان " كما ينبغى أن يكون فى صورته الكريمة اللائقة بإنسانيته ، ولكن بمعنى أن الإنسان - وليس الله - هو الذى ينبغى أن يكون مصدر المعرفة . وأن الفكر الإنسانى - لا الوحى الربانى - هو المرجع الذى يرجع إليه الإنسان فى النظر إلى أمور حياته ومتطلباتها . وفى والوقت ذاته كان هذا الفكر موجها إلى النظر فى الحياة الدنيا ومقتضياتها لا إلى الآخرة ومقتضياتها .
يقول رايوبرث عن عصر النهضة :(1/299)
" وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة وبمعارضته للسلطة وذويها ، وذهابه شوطا بعيدا فى اعتبار العالم كله وطنا له .. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة فى ذلك طريقة التفكير فى القرون الوسطى .. ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء " الإنسانيين " .. وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون " نمو الفردية " أعنى الرأى القائل بأن الإنسان ينبغى أن يفكر بنفسه لنفسه . وهو رأى كان قد أهمل فى عصر عبودية العقل 152
ويقول جرين برينتون عن الحركة الإنسانية وفنونها :
" إنه طالما كانت العصور الوسطى فى الواقع عصورا دينية ، وطالما أن عصر النهضة يعنى على الأقل محاولة العودة إلى الوثنية اللادينية إن لم نقل الزندقة ، فإن فن العصور الوسطى يرتبط بالكنيسة ، أما فن عصر النهضة فيتمتع بحرية بوهيمية .. 153(1/300)
هذا الاتجاه المنسلخ من الدين ، المتجه إلى المادية ، لم يقفز دفعة واحدة من الروحانية الدينية إلى المادية اللادينية ، ولا استقام نحو هدفه فى طريق واحد خال من الذبذبات . ولكنه كان فى كل قفزة يتجه إلى المادية أكثر ، ويبعد عن الله أكثر ، وإن عاد فهى عودة مؤقتة سرعان ما يتخلص منها ويمضى مبعدا فى الطريق المنسلخ عن الدين . فقد انفصلت الفلسفة عن الدين بادئ ذى بدء ونبذت البحث فيما " وراء الطبيعة " كما كانوا يطلقون على أمور الغيب المتعلقة بالله سبحانه وتعالى وخلقه لهذا الكون ، والغاية من هذا الخلق ، والوحى الربانى المتضمن للقيم الدينية التى ينبغى أن يتبعها الإنسان من أجل الخلاص فى الآخرة . واتجهت الفلسفة إلى دراسة " الطبيعة " والكون المادى ، والإنسان باعتباره كائنا موجودا فى الطبيعة ، لا بوصفه كائنا قد خلقه الله لغاية معينة وهدف يؤديه . وكان التقدم العلمى الذى حدث منذ بدء النهضة أحد العوامل الهامة التى ساعدت على اتجاه الفكر الأوربى ذلك الاتجاه من خلال المذهب العقلى والتجريبى .
يقول برينتون عن المذهب العقلى :
" فالمذهب العقلى يتجه إلى إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون ، ومن الوجهة التاريخية فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلى نحو الكون ..154
ويقول الدكتور محمد البهى عن المذهب التجريبى :
" إن تحصيل الإنسان للحقائق الكونية ومعرفته بها لا يكون إلا بالتجربة الحسية وحدها ، ومعنى ذلك أن الحس المشاهد لا غيره هو مصدر المعرفة الحقيقية اليقينية .. ففى العالم الحسى تكمن حقائق الأشياء . أما انتزاع المعرفة مما وراء الظواهر الطبيعية الحسية ، والبحث عن العلة فى هذا المجال ، فأمر يجب أن يرفض . ولهذا تكون كل نظرية أو كل فكرة عن وجود له طابع الحقيقة فيما وراء الحس نظرية أو فكر مستحيلة 155(1/301)
وهذا يتفق المذهب العقلى مع المذهب التجريبى فى البعد عن الله وتجنب البحث عن الغاية من الخلق ، والنظر فى " الطبيعة " بدلا من النظر فيما وراء الطبيعة أى فى عالم الجس بدلا من عالم الغيب .
ثم كان نيوتن ونظرياته خطوة دافعة على الطريق !
فقد اكتشف نيوتن بعض ما سمى عندهم " قوانين الطبيعة " التى يجرى الكون المادى بمقتضاها . وكشف عما يسمى عندهم " قانون السببية " أى القانون الذى يفسر ظواهر الطبيعة بردها إلى أسبابها الظاهرة . وقد كان هذا فى أوروبا ذريعة لنفى الأسباب غير الظاهرة وغير المحسوسة ، أى نفى الأسباب الغيبية 156
يقول برينتون :
" إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة فى هذا العالم " . ويمضى فيقول : " الإله فى عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة . ولكن صانع هذه الساعة الكونية - ونعنى بها الكون - لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد ، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد . أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها . وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذا الساعة الكونية الضخمة ، الذى لا يستطيع إذا ما أراد التدخل فى شئون عمله 157
ويقول :
" ولكن ثمة أناس ذهبوا إلى أبعد من ذلك واعتبروا فكرة الإله فكرة شريرة ، وخاصة إذا ما كان إله الكنيسة الكاثوليكية . وأطلقوا على أنفسهم بكل فخر اسم الملحدين . وهم يعتقدون ان ليس ثمة وجود لمسيح أو لإله المسيحية ، ويقولون إن الكون ليس إلا مجموعة متحركة ذات نظام معين يمكن فهمه باللجوء إلى السببية المعتمدة على أساس العلوم الطبيعية 158
ويقول راندال :(1/302)
" إنه لأقرب إلى الطبيعى والمعقول أن نشتق من صور المادة كل شئ موجود لأن كل حاسة من حواسنا تبرهن على وجودها ، ونختبر كل لحظة نتائجها بأنفسنا . ونراها فاعلة متحركة ، تنقل الحركة وتولد القوة دون انقطاع ، من أن نعزو تكون الأشياء لقوة مجهولة ولكائن روحى لا يستطيع أن يخرج من طبيعته ما ليس هو بذاته ، كائن بعجز بحكم الجوهر المنسوب إليه أن يفعل أى شئ أو أن يحرك أى شئ 159
هكذا سار الاتجاه المادى المادى الملحد بخطوات حثيثة حتى جاء القرن التاسع عشر ، فظهرت الفلسفة الوضعية التى تقول بسيادة الطبيعة على الدين والعقل ، واعتبارها هى الأصل الذى ينبثق عنه كل شئ .. والذى يبعث الأفكار فى العقل البشرى ، وكان من أهم فلاسفتها " أوجست كومت " و " فرباخ "
ويذكر الدكتور محمد البهى فى تلخصيه الجيد للفكر الغربى فى تلك الفترة فى كتابه " الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى " أن هذه الفلسفة تدعو إلى سيادة الطبيعة ، إن لم نقل عبادتها ، قد قامت فى جو معين حيث تولدت الرغبة فى نفوس كثير من العلماء والفلاسفة لمعارضة الكنيسة التى كانت تملك نوعا خاصا من المعرفة تستغله فى معارضة خصومها وهى المعرفة الدينية ، فقام هذا الفريق من العلماء والفلاسفة بالهجوم الشديد عليها باسم العلم ، وقامت هذه الفلسفة الوضعية على أساس تقدير الطبيعة وحدها مصدرا للمعرفة اليقينية .. ثم يقول : " ومعنى تقديرها للطبيعة على هذا النحو أن الطبيعة فى نظرها هى التى تنقش الحقيقة فى ذهن الإنسان ، وهى التى توحى بها وترسم معالمها .. هى التى تكون عقل الإنسان . والإنسان - لهذا - لا يملى عليه من ذاته الخاصة .. إذ ما يأتى من ( ما وراء الطبيعة ) خداع للحقيقة وليس حقيقة !! وكذا ما يتصوره العقل من نفسه وهم وتخيل للحقيقة وليس حقيقة أيضا ! !(1/303)
" وبناء على ذلك يكون " الدين " وهو وحى ( أى ما بعد الطبيعة خداعا ! هو وجى ذلك الموجود الذى لا يحدده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة .
" هو وحى الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية . وكذلك " المثالية العقلية " وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعى . إذ هى تصورات الإنسان من نفسه من غير أن يستلهم فيها الطبيعة المنثورة التى يعيش فيها وتدور حوله 160
" إن عقل الإنسان فى منطق هذه الفلسفة - أى ما فيه من معرفة - وليد الطبيعة التى تتمثل فى الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية .ز إنه مخلوق ، ولكن خالقه هو الوجود الحسى . إنه يفكر ، ولكن عن تفاعل مع الوحود المحيط به . إنه مقيد مجبر ، وصانع القيد والجبر هو حياته المادية . ليس هناك عقل سابق على الوجود المادى ، كما أنه ليست هناك معرفة سابقة للإنسان عن طريق الوحى .. عقل الإنسان ومعرفته يوجد أن تبعا لوجود الإنسان الماى . هما انطباع لحياته الحسية المادية التى يتنفسها " 161
? ? ?
أما الجدلية فقد سبق إليها " فيشته " و " هيجل "
وقد كان الأصل فى التفكير الجدلى " الدياكتيكى " هو البحث عن تصور فلسفى يسمح بوجود المتناقضات فى الكون والحياة ويفسرها . ذلك أن المنطق اليونانى القديم ( الذى يسمى المنطق الصورى Formal logic ) ينفى وجود التناقض فى الكون والحياة ، ويقيم تفكيره على أساس أن الشئ ونقيضه لا يمكن أن يجتمعا . فوجود أى شئ هو ذاته نفى قاطع لوجود نقيضه .(1/304)
ولكن الفكر الأوروبى منذ عصر النهضة - وأن كان قد رجع إلى الفكر الإغريقى يستمد منه - كانت له التفاتات مختلفة عنه فى مجالات متعددة . حتى إذا كان النصف الثانى من القرن الثامن عشر الميلادى - عصر سيادة العقل فى الفكر الأوربى المسمى عندهم " بعض التنوير " - قام فلاسفة يشيرون إلى وجود التناقض فى الكون والحياة ويحاولون تفسيره ، من أبرزهم " فيشته " و " هيجل " . فأما فيشته " 1762 - 1814 م " - كما يقول الدكتور محمد البهى فى كتابه السابق الذكر - فقد استخدم مبدأ النقيض كى يدعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة مقابل الدين والطبيعة 162 .. وأما " هيجل " " 1770 - 1831 " فيستخدم مبدأ النقيض لتأكيد قيمة العقل من جهة ، ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد ، وتأكيد الوحى كمصدر أخير للمعرفة ، يعتبر الله سبحانه عقلا 163
واستخدم هيجل مصطلحات خاصة به . هى الدعوى ومقابل الدعوى وجامع الدعوى ومقابلها ن وتصور أن هناك فكرة مطلقة أطلق عليها اسم العقل المطلق - وهو الله عنده - انبثقت عنه الطبيعة وهى تغايره تماما ، لأنها مقيدة ومتفرقة وهى عنده العقل المقيد . ثم انتقلت الفكرة من الطبيعة أو العقل المقيد إلى جامع يلتقى فيه الشئ ونقيضه وهو العقل المجرد الذى هو نهاية الطبيعة المحدودة وغايتها ، وهو جامع الدعوى ومقابلها .
وهذا العقل المجرد يتمثل فى القانون والأخلاق ، وفى الفن والدين والدولة والجماعة والفلسفة . إذن فالعقل المجرد الذى يتحقق فى أى وحدة من هذه القيم العاملة المذكورة جامع للمتقابلين : جامع للفكرة فى العقل المطلق وهو الله ، وللفكرة فى العقل المقيد وهو الطبيعة .. ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق ولا تحديد عقل الطبيعة ، بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى 164(1/305)
وأما المنبع الثالث لفكر ماركس بعد الجدلية التى أخذها من هيجل ، والمادية التى أخذها من كومت فهو دارون ونظرية التطور .
جاء داريون يؤله الطبيعة ويقول عنها إنها تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق . ويؤكد أن الإنسان هو نهاية سلسلة التطور الحيوانية . وأن التطور ذاته - الذى أنشأ الحياة المادية الميتة أول مرة ، ثم تدرج بها من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان - هو نتيجة أسباب مادية بحتة ، وأنه يتم مستقلا عن إرادة الكائن الحى ، وبصورة حتمية لا يملك الكائن الحى الخروج عليها ولا معارضتها ولا الوقوف فى طريقها .
? ? ?
ماذا بقى من فكر ماركس لم يسبق إليه ؟!
ومع ذلك فلم يكن عمل ماركس هو مجرد التجميع للأفكار السابقة والمعاصرة 165 فلقد أنشأ فلسفة مترابطة متكاملة - أيا كانت مصادرها الأولية - تشمل كل القضايا المحيطة بالإنسان ، وتشملها جملة وتفصيلا على نحو غير مسبوق فى الفكر الغربى . وليس هنا مجال تقويم هذه الفلسفة فى جملتها وتفصيلاتها 166 ولا مجال السؤال عن كونها - فى صورتها التى قدمها بها ماركس - كانت قمينة أن يتلفت إليها ويحتفى بها ، أم تترك " لتمر " كما مرت فلسفات كثيرة من قبل ، لتصبح فيما بعد " كلاما " يدرسه طلاب الفلسفة فى الجامعات . أم تهاجم الذى يقضى عليها ويجبها من منبتها .. لولا ذلك السند الضخم الذى لقيته من العناصر التى سعت لإقامة الشيوعية فى الأرض والدعاية لها فى الآفاق 167 .
إنما نحن هنا فى مجال تقديم الشيوعية كما قدمها أصحابها ، من خلال الموضوعات الثلاثة الرئيسية : المادية الجدلية والمادية التاريخية والمذهب الاقتصادى بين النظرية والتطبيق .
? ? ?
أولا : المادية الجدلية(1/306)
المادية الجدلية تصور خاص لقضايا الأولهية والكون والحياة والإنسان يقوم على أساس مادى بحت ، على أساس أن المادة هى الشئ الوحيد الأصيل فى هذا الكون ، وأن كل ما فى الكون ومن فيه منبثق من المادة ومحكوم بقوانين المادة ، ولا وجود له خارج نطاق المادة . كما يقوم هذا التصور من جهة أخرى على أساس وجود التناقض فى طبيعة المادة ، ومن ثم فى كل ما ينبثق عنها من مخلوقات ومن كيانات بما فى ذلك الكيان الإنسانى ، فهو كيان مادى من جهة ، ومحكوم بصراع المتناقضات من جهة أخرى . وتلك هى حقيقة كل أفكاره ومشاعره ، وكل نظمه ومؤسساته ، وكل قيمة ومبادئه ، وكل حركته خلال التاريخ .
وقد قلنا فى التمهيد السابق إن ماركس لم يكن هو مبتدع الجدلية أو التفكير الجدلى على العموم ، فقد أخذ هذا التفكير عن هيجل ، ولكنه خالفه فيه مخالفة أساسية ، إذا قال هيجل إن الفكرة هى الأصل وهى سابقة فى وجودها على المادة ومسيطرة عليها ، وقال ماركس إن المادة هى الأصل وهى سابقة على على الفكرة ومسيطرة عليها .
يقول ماركس : " لا يختلف منهجى الجدلى فى الأساس عن منهج هيجل فقط ، بل هو نقيضه تماما ، إذ يعتقد هيجل أن حركة الفكر التى يجسدها باسم الفكرة ، هى مبدعة الواقع الذى ليس سوى الصورة الظاهرية للفكرة، أما أنا فأعتقد على العكس ، أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الإنسان 168
ومن ثم سميث جدلية هيجل الجدلية المثالية وجدلية ماركس الجدلية المادية أو المادية الجدلية .(1/307)
أما أصل التسمية - فى لغتها الأصلية - فهى مأخوذة عن الإغريقية ، ومستمدة من الحوار الفلسفى الإغريقى Dialogos الذى كان يمثل وجهتى نظر مختلفتين تتجادلان حتى تتبين الحقيقة من خلال الجدل . وغالبا ما تكون الحقيقة مزيجا من وجهتى النظر المختلفتين ، ولكن يظهر جليا فى أثناء الحوار ( أو الجدل ) أن إحدى وجهتى النظر تأخذ فى التراجع المؤدى إلى التسليم ، بينما تأخذ وجهة النظر الأخرى فى التفوق حتى تتغلب فى نهاية الأمر ، وإن كانت فى غلبتها لا تلغى الأخرى تماما بل تبقى منها بقايا تظهر فى الحقيقة النهائية .
والمادية الجدلية - كما سنبين فيما بعد - تتصور الأحداث - سواء كانت طبيعة ( مادية ) أو بشرية - على هذا النحو ذاته ،حيث تكون هناك قوة فى اتجاه معين وقوة أخرى مناقصة لها فى الاتجاه المضاد ، ثم يحدث الصراع الذى ينتهى بانهزام القوة الأولى - وإن كانت لا تزول تماما - وتغلب القوة الثانية وإن كانت غلبتها ليست تامة . ومن ثم فإن استعارة " الجدل " من ذلك الحوار الفلسفى مناسبة لذلك التصور ومعبرة عنه .
يقول ستالين فى تعريف الجدلية " الديالكتيك " :
" أخذت كلمة " ديالكتيك " من الكلمة اليونانية " دياليجو " ومعناها المحادثة والمجادلة . وكان الديالكتيك يعنى فى عهد الأولين : فن الوصول إلى الحقيقة باكتشاف المتناقضات التى يتضمنها استدلال الخصم ، وبالتغلت عليها . وكان بعض الفلاسفة الأولين يعتبرون أن اكتشاف تناقضات الفكر والمصادمة بين الآراء هما خير وسيلة لاكتشاف الحقيقة . فهذا الأسلوب الديالكتيكى فى التفكير ، الذى طبق فيما بعد على حوادث الطبيعة ، أصبح هو الطريقة الديالكتيكية لمعرفة الطبيعة .
" إن حوادث الطبيعة بموجب هذه النظرية هى متحركة متغيرة دائما وأبدا ، وتطور الطبيعة هو نتيجة تطور تناقضات الطبيعة نتيجة القوى المتضادة فى الطبيعة 169(1/308)
ويقول كاريوهنت : " الجدلية إذن هى فكرة ونقيضها ، ثم تألف النقيضين ، فالفكرة تؤيد القضية ، والنقيض ينكرها ، أو بتعبير هيجل ينفيها . أما تألف النقيضين فيحتضن ما هو حقيقى : الفكرة ونقيضها ، وبهذا يقربنا خطوة نحو الحقيقية . ولكن حالما يتعرض تألف النقيضين إلى فحص أدق ، نجدها هى أيضا ناقصة . وهكذا تعود العملية فتبدأ من جديد بفكرة أخرى بنفيها ونقيضها ، ثم يجرى التوفيق بينها بتألف جديد للنقيضين .
" وبهذه الطريقة المثلثة يمضى الفكر حتى يصل فى النهاية إلى المطلق . وعندئذ يمكننا أن نواصل التفكير إلى مالا نهاية دون أن نشهد أى تناقض . وعلى هذا يطلق اصطلاح الجدلية على عملية التنازع والتوفيق التى تجرى ضمن الواقع ذاته داخل الفكر البشرى بشأن الواقع 170
وسنعرف هنا الخطوط العريضة للمادية الجدلية كما قدمها أصحابها من خلال النقطتين التاليتين :
أولا : المادة : أزيلتها وأبديتها ,اسبقيتها فى الوجود على الفكر .
ثانيا : قوانين المادة التى تحكم " الطبيعة " وتحكم الحياة البشرية كذلك .
? ? ?
أولا : المادة : أزيلتها وأبديتها وأسبقيتها فى الوجود على الفكر :
جاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية لسبركين وياخوت " ( ترحمة محمد الجندى ص 39 من الترجمة العربية )
" . فليس للكون نهاية ولا حدود . العالم أبدى وليس له أى بداية ولن يكون له أى نهاية 171 ومن هنا فأى عالم " غيبى " غير مادى غير موجود ولا يمكن أن يوجد . وفى واقع الأمر إنه إذا لم يوجد شئ غير المادة فلا يوجد غير عالم مادى واحد . وهذا يعنى أنه عند الأشياء والظواهر المختلفة فى العالم المحيط بنا ، هناك خاصية واحدة توحدها هى ماديتها .
ويقول ستالين فى كتابه " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 29 من الترجمة العربية ) :(1/309)
" وتقوم المادية الفلسفية على مبدأ آخر ، وهو أن المادة والطبيعة والكائن ، هى حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك أو الشعور وبصورة مستقلة عنه ، وإن المادة هى عنصر أول ، لأنها منبع الاحساسات والتصور والإدراك ، بينما الإدراك هو عنصر ثان مشتق ، لأنه انعكاس المادة ، انعكاس الكائن ، وأن الفكر هو نتاج المادة لما بلغت فى تطورها درجة عالية من الكمال . أو بتعبير أدق : إن الفكر هو نتاج الدماغ ، والدماغ هو عضو التفكير . فلا يمكن بالتالى فصل الفكر عن المادة دون الوقع فى خطأ كبير " .
وجاء كذلك فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادة التاريخية " ( ص 43 من الترجمة العربية ) .
" وجدت الطبيعة ليس فقط قبل الناس وإنما عموما قبل الكائنات الحية ، وبالتالى مستقلة عن الإدراك . وهى الأولية . أما الإدراك فلم يستطع التواجد قبل الطبيعة فهو ثانوى "
وجاء فيه كذلك ( ص 30 - 31 من الترجمة العربية ) :
" يقول لوموسوف : إنه فى الطبيعة لا ينشأ شئ من لا شئ . ولا يختفى أبدا بلا أثر . ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن المادة ( الطبيعة ) قد وجدت دائما ، لأننا إذا سلمنا بأن فى وقت من الأوقات لم يكن هناك شئ فى العالم ، أى لم تكن توجد مادة فمن أين لها أن تشأ ؟ ولكن ما إن توجد المادة فهذا يعنى أنها لم تنشأ فى أى وقت من الأوقات ، بل وجدت دائما وستوجد دائما ، فهى أبدية وخالدة . ولهذا لم يمكن أن تخلق فلا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه ، وبذلك فالمادة لم تنشأ أبدا بل وجدت دائما وستوجد دائما فهى أبدية 172
وجاء فى كتاب " المادية التاريخية " تأليف ف . كيلى م . كوفاللزون " ترجمة أحمد داود ومراجعة الدكتور بدر الدين السباعى ( طبع دار الجماهير بدمشق 1970 م ، ص 500 من الترجمة العربية )(1/310)
" ثم إن العلم إذ يكشف عن الصلات الطبيعية بين ظواهر الطبيعة ، يطرد فى تطوره الإله من الطبيعة ويدحض خطل المثالية ، ويؤيد صحة النظرة المادية إلى العالم . والعلم يتفق مع المادية فى بحثه عن الحقيقة فى الحياة ذاتها وفى الطبيعة ، ويفسر ظواهر الطبيعة والمجتمع معتمدا على القوانين الموضوعية وهذا ما يدل على أن العلم الحقيقى ذو طابع مادى . إن العلم مادى طبيعته وبجوهره ، والمثالية غريبة عنه وعدوة له " .
وجاء فى كتاب " أصول الفلسفة الماركسية " ( تأليف جورج بولتيرز وآخرين ، تعريف شعبان بركات ، إصدار المكتبة العصرية ببيروت ، ج1 ص 206 من الترجمة العربية ) :
" ولقد أثارت النزعة المادية الجدلية هذه الصعوبات ، وفقدت فكرة " الله " كل محتواها ، ولم يعد النقاش حول وجود الله أو عدم وجوده - ذلك النقاش الذى أثار النزعة الإلحادية الساذجة غير الماركسية - يثار كما أثير سابقا ، لقد أصبح الله كما قال لابلاس : فرضية لا نفع فيها ..
" ولا شك فى أن فكرة الله والعواطف الدينية موجودة ، وهى تتطلب تفسيرا ، وبدلا من القول بأن الإنسان كائن " إلها " يجمع فى ذاته العنصر الطبيعى 173 والعنصر الإلهى ، كما يجمع عنصر الموت والخلود فى هذه الحياة وفى الحياة الأخرى ، يجب القول بأن " الله " والديانة هما ظاهرتان إنسانيتان ، لإن العنصر الإلهى هو من إبداع الإنسان وليس الإنسان هو من إبداع الله .
ويقول ماركس فى كتاب " بؤس الفلسفة " ( ترجمة أندريه يازجى ، طبع دار اليقظة العربية بسوريا ووكتبة الحياة بلبنان ص 123 - 124 من الترجمة العربية ) :
" إن العزة الإلهية والهدف الإلهى هى الكلمة الكبيرة المستعملة اليوم لتشرح حركة التاريخ . والواقع أن هذه الكلمة لا تشرح شيئا "
ويقول إنجلز فى كتابه " لود فيج فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية " ( إصدار دار التقدم بموسكو ص 16 من الترجمة العربية ) :(1/311)
" فالطبيعة توجد مستقلة عن كل فلسفة ، فهى الأساس الذى نمونا عليه ، نحن الناس نتاجها أيضا . خارج الطبيعة والإنسان لا يوجد شئ . أما الكائنات العلوية التى ولدت فى مخيلتنا الدينية فليست سوى انعكاس خيالى لوجودنا نحن "
تكفينا هذه النصوص " 174 لبيان الفكرة .
فواضح منها انهم يعتبرون المادة هى الأصل الذى انبثقت منه كل الكائنات ، الحية منها وغير الحية ، بما فى ذلك الإنسان . وإنها جميعا قد انبثقت عنها بطريق الخلق .
أى أن المادى هى الخالق الذى أنشأ الحياة وأنشأ الإنسان . ,أنشأ كل ما يحتوى عليه عالم الإنسان من أفكار ومشاعر .
أما المادة ذاتها فلم تخلق ، إنما كانت دائما موجودة وستظل دائما موجودة . أى أنها أزلية أبدية ، موجودة بذاتها ومنشئة لغيرها .
وأما الله - الأزلى الأبدى الخالق البارئ المصور المريد الفعال لما يريد - فهو عندهم خرافة ابتداعها خيال الإنسان . والحقيقة الوحيدة هى المادة ، والوحدة التى تجمع الكون هى ماديته .
? ? ?
ثانيا : قوانين المادة التى تحكم الطبيعة وتحكم الحياة البشرية كذلك :
للمادة عند الماديين قوانين ثابتة تحكمها هى : الترابط والحركة والتطور والتناقض .
1- الترابط فى الطبيعة :
يقول ستالين فى كتاب " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 15 - 16 من الترجمة العربية ) :
" إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزقية - لا يعتبر الطبيعة تراكما فرضيا للأشياء ، أو حوادث بعضها منفصل عن بعض ، أو أحداها مستقل عن الآخر ، بل يعتبر الطبيعة كلا واحدا ، ومتماسكا ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطا عضويا ، ويتعلق أحداها بالآخر ويكون بعضها شرطا لبعض بصورة متقابلة .(1/312)
" لذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن أى حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظر إليه منفردا بمعزل عن الحوادث المحيطة به . إذ أن أى حادث فى أى ميدان من ميادين الطبيعة ، يمكن أن ينقلب إلى عبث فارغ لا معنى له إذا نظر إليه بمعزل عن الشروط التى تكتنفه . وعلى العكس ، يمكن فيهم أى حادث من الحوادث وتبريره إذا نظر إليه من حيث ارتباطه ارتباطا لا ينفصم بالحوادث المحيطة به ، أى إذا نظر إليه كما تحدده وتكيفه الحوادث التى تحيط به " .
( ويلاحظ من كلام ستالين فى تعرضه للمتيافزيقيا أن الميتافيزيقيا التى كانت عندهم - والتى كانوا يواجهونها بالمادية الجدلية - كانت تفترض أن كل شئ من الأشياء قائم بذاته ولا صلة له بغيره من الأشياء ، وأنه لا ترابط فى النظام الكونى بين أجزائه المختلفة ) .
2- الحركة فى الطبيعية :
جاء فى كتاب " أصول الفلسفة الماركسية " ( ج1 ص 49 من الترجمة العربية ) :
" وفى الطبيعة لا يلعب الكون الدور الحاسم رغم أنه موجود وإنما تلعب هذا الدور الحركة والتطور والتغير . هذه الحركة ملازمة داخليا للمادة كخاصة جذرية لا تنفصل عنها ، ولا داعى لوضع السؤال التالى : من أين حصلت المادة على هذه الحركة ؟ لأنها موجودة منذ الأزل . ولهذا لا داعى للسؤال الذى يقول : من الذى أكسب المادة الحركة ، ما دامت لا تنفصل عنها ، وتعتبر شكلا من أشكال وجودها "
وجاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 34 من الترجمة العربية ) :
" ما قيل يعنى أنه لا يوجد فى العالم ظاهرة واحدة لم تكن نتيجة لحركة المادة وتطورها ، فهى تشمل كل شئ ، وفى كل مكان يمتد فعلها ، ولا يوجد شئ غير المادة المتحركة المتطورة ، وما يتولد عنها ، ولا يمكن أن يوحد . وهذا يعنى أنه لا يوجد غير عالم مادى واحد . ولهذا بالتحديد يشير إنجلز إلى أن وحدة العالم تنحصر فى ماديته . وبعبارة أخرى أن العالم واحد لأنه مادى "(1/313)
ويقول ستالين فى كتاب " المادية الديالكتيكية " ( ص 16 من التجرمة العربية ) :
" إن الديالكتيك - خلاقا للميتافيزيقيا - لا يعتبر الطبيعة حالة سكون وجمود . حالة ركود واستقرار . بل يعتبرها حالة حركة وتغير دائمين . حالة تجدد وتطور لا ينقطعان ففيها دائما شئ يولد ويتطور شئ ينحل ويضمحل".
ويستشهد ستالين ( ص 17 من الترجمة العربية من الكتاب السابق ) بإنجلز حيث يقول الأخير : " إن الطبيعة من أضأل الأجزاء إلى أكبر الأجسام : من حبة الرمل إلى الشمس ، من البروتوزوا ( الخلية الحية الابتدائية ) إلى الإنسان ، هى فى حركة دائمة من النشوء والاضمحلال ، هى فى مد لا ينقطع فى حركة وتغير مستمرين وأبديين "
3- التطور فى الطبيعة :
يقول ستالين ( ص 18 من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية ) :
" إن الديالكتيك - خلافا للميتافيزيقية - لا يعتبر حركة التطور حركة نمو بسيطة ، لا تؤدى التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية ، بل يعتبرها تطورا ينتقل من تغييرات كمية ضئيلة وخفية إلى تغييرات ظاهرة وأساسية أى إلى تغييرات كيفية . وهذه التغييرات الكيفية ليست تدريجية بل هى سريعة فجائية ، وتحدث بقفزات من حالة إلى أخرى ، وليست هذه التغييرات جائزة الوقوع ، بل هى ضرورية ، هى نتيجة تراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية ، ولذل تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن من الواجب فهم حركة التطور ، لامن حيث هى حركة دائرية ، أو تكرار بسيط للطريق نفسه ، بل من حيث هى حركة تقدمية صاعدة وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة ، وتطور ينتقل من البسيط إلى المركب . من الأدنى إلى الأعلى " . .
ويستشهد ستالين 0 ص 20 - 21 من الترجمة العربية من الكتاب السالف الذكر ) بقول إنجلز :(1/314)
" يمكن القول إن الكيمياء هى علم التغيرات الكيفية الناشئة فى الأجسام عن تغييرات كمية . وكان هيجل نفسه يعرف ذلك فى عهده . لنأخذ الأوكسجين فإذا جمعنا فى جزيئة ثلاث ذرات عوضا عن اثنتين كالعادة حصلنا على جسم جديد هو " الأوزون " الذى يختلف اختلافا بينا برائحته وبتأثيراته عن الأوكسجين العادى . وماذا نقول عن مختلف تراكيب الأوكسجين مع الأزوت أو مع الكبريت ؟ إن كل تركيب منها يعطى جسما مختلفة ن حيث الكيفية عن جميع الأجسام التى تعطيها التراكيب الأخرى . "
4- التناقض فى الطبيعية :
يقول ستالين ( ص 22 من الترجمة العربية من الكتاب السابق ذكره ) .
" إن نقطة الابتداء فى الديالكتيك - خلافا للميتافيزيا - هى وجهة النظر القائمة على أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوى تنقاضات داخلية ، لأن لها جميعها جانبا سلبيا وإيجابيا ، ماضيا وحاضرا ، وفينا جميعا عناصر تضمحل أو تتطور . فنضال هذه المتضادات ، أى النضال بين القديم والجديد ، بين ما يموت وما يولد ، بين ما يفنى وما يتطور ، هو المحتوى الداخلى لحركة التطور . هو المحتوى الداخلى لتحول التغيرات الكمية إلى تغيرت كيفية . ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن حركة التطور من الأدنى إلى الأعلى لا تجرى بتطور الحوادث تطورا تدريجيا متناسقا ، بل بظهور التناقضات الملازمة للأشياء والحوادث ، بنضال الاتجاهات المضادة التى تعمل على أساس هذه التناقضات " .
وجاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " لسبركين وياخوت ( ص 72 من الترجمة العربية ) :
" فينحصر جوهر قانون وحدة صراع الأضداد فى أن جميع الأشياء والعمليات تلازمها جوانب داخلية متناقضة ، موجودة فى وحدة لا تنفصم ، وفى صراع مستمر فى نفس الوقت ، وصراع الأضداد هو بالتحديد المصدر الداخلى والقوة المحركة للتطور "
وجاء فى ص 71 من الترجمة العربية :(1/315)
" نأخذ مجال الطبيعة الحية . هنا نرى بوضوح دور التناقض الجدلى كمصدر للتطور . من لا يعرف أن الأطفال يشبهون الآباء ولكنهم ليسوا نسخة منهم تماما . فالنمطية والجمود مع ذلك لا وجود لهما . يرجع هذا أولا وقبل كل شئ إلى أن قانون الوراثة يعمل إلى جانب نقيضه - قانون التغير - وهو يضمن " عدم تشابه " و " عدم تكرار " وتغير كل الأجسام وتطورها . والوراثة بدورها تثبت هذه الخواص فى السلالة ، بخلاف ذلك يمكن أن تختفى التغييرات . وهكذا يسوق الصراع الأبدى بين القوتين المتضادتين : القابلية للتغير والوراثة ، عملية تطور الطبيعة الحية . ويحدث اختيار طبيعى نتيجة للصراع بين هذين الضدين . تولد القابلية للتغير قسمات جديدة مفيدة . أما الوراثة فتجمعها فى السلالة . ونتيجة لذلك تتولد أنواع جديدة من الكائنات الحية . وليست القوة الخارجية ولا الرب ، إنما التناقضات الداخلية الطبيعة هى المصدر والمحرك الداخلى لعملية تطور الطبيعة الحية .
تلك هى قوانين المادة .
وليس بنا - سواء هنا فى مجال العرض أو فى مجال المناقشة التى تتلوه - أن نتعرض لهذه القوانين ومدى صحتها من الوجهة العلمية ، إنما الجانب ذى يهمنا أكثر من أى شئ آخر فى مجال بحثنا هو قولهم إن قوانين المادة بحذافرها تحكم الحياة البشرية فى جميع أشكالها وشتى ألوان النشاط فيها .
فأما عن الترابط فقد قالوا إن هناك ارتباطا لا ينفصم بين الأفكار والمشاعر وبين الأوضاع والتغيرات المادية .
يقول ستالين 0 ص 23 وما بعدها من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية ) .(1/316)
" فإذا صح أن ليس فى العالم حوادث منعزلة ، إذا صح أن كل الحوادث مترابطة فيما بينها ويكيف بعضها البعض الآخر بصورة متبادلة ، فمن الواضح أن كل نظام اجتماعى وكل حركة اجتماعية فى التاريخ لا ينبغى الحكم عليها من ناحية " العدالة الأبدية " أو من ناحية أية فكرة أخرى مقررة سلفا ، كما يفعل المؤرخون على الغالب . بل ينبغى لنا أن نبنى حكما على أساس الظروف التى ولدت هذا النظام وهذه الحركة الاجتماعية المرتبطين بها . إن نظام الرق يكون فى الظروف الحاضرة خرقا وبدعة مضادة للطبيعة . ولكن نظام الرق فى ظروف المشاعية البدائية الآخذة بالانحلال ، هو حادث مفهوم ومنطقى ، لأنه يعنى خطوة إلى الأمام بالنسبة لنظام الشماعة البدائية .
" إن المطالبة بإقامة الديمقراطية البرجوازية فى ظروف القيصرية والمجتمع البروجوازى مثلا فى روسيا سنة 1905 كانت شيئا مفهوما وصحيحا وثوريا تماما لأن الجمهورية البرجوازية كانت تعنى إذ ذاك خطوة إلى الأمام .. ولكن المطالبة بإقامة الجمهورية الديمقراطية البرجوازية فى ظروف الاتحاد السوفياتى الحاضر ، تكون حرقا ، وشيئا رجعيا ومضادا للثورة ، لأن الجمهورية البرجوازية هى خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى الجمهورية السوفياتية ز كل شئ يتعلق بالظروف ، بالمكان والزمان .
ومن الواضح أن وجود علم تاريخى وتطور هذا العلم شيئان مستحيلان بدون هذا الفهم التاريخى لحوادث الاجتماعية ، فمثل هذا الفهم يمنع علم التاريخ من أن يصبح فوضى احتمالات وكون أخطاء سخيفة .
ويقول ماركس ( ج1 ص 30 من الترجمة العربية لكتابه الأيدلوجية الألمانية ) :(1/317)
" إن نتاج الأفكار والتصورات والوعى مختلط بادئ الأمر - بصورة مباشرة ووثيقة - بالنشاط المادة والتعامل المادى بين البشر ، فهو لغة الحياة الواقعية . إن التصورات والفكر والتعامل الذهنى بين البشر تبدو هنا على اعتبارها إصرارا مباشرا لسلوكهم المادى ، ينطبق الأمر نفسه على الإنتاج الفكرى كما يمثل فى لغة السياسة ولغة القوانين والأخلاق والدين والميتافيزيا .. إلخ عند شعب بكامله ، فالبشر هم منتجو تصوراتهم وأفكارهم .. حتى الأشباح فى العقل البشرى هى تصعيدات ناتجة بالضرورة عن تطور حياتهم المادية . التى يمكن التحقق منها تجريبيا والتى تعتمد على قواعد مادية ، ومن جراء ذلك فإن الأخلاق والميتافزياء وكل البقية الباقية من الأيدلوجية ، وكذلك أشكال الوعى التى تقابلها ، تفقد فى الحال كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتى فهى لا تملك تاريخها ، وليس لها أى تطور ، وأن الأمر على النقيض من ذلك ، فالبشر إذ يطورون إنتاجهم المادى وعلاقاتهم المادية ، هم الذين يحولون فكرهم ومنتجات فكرهم على السواء مع الواقع الذى هو خاصتهم ، فليس الوعى هو الذى يعين الحياة ، بل الحياة هى التى تعين الوعى "
ويقول إنجلز ( ص 321 من الترجمة العربية لكتابه : أنتى دوهرنج ) :
" فإنه ينبغى البحث عن الأسباب الأ[خيرة لسائر التبدلات الاجتماعية والثورات السياسية ليس فى أدمغة البشر . ليس فى فهمهم النامى للحقيقة والعدالة الأبديتين ، بل فى التبادلات الطارئة على أساليب الانتاج والمبادلة " .
وأما عن الحركة فقد قالوا إن الحياة البشرية تتحرك لأنها من أشكال المادة :
يقول مؤلفا كتاب " المادة التاريخية ( ص 11 من الترجمة العربية ) :
" والمادية التارخية - خلافا للعلوم الأخرى - لا تدرس فقط هذه القوانين الخاصة أو تلك من قوانين تطور أشكال معينة لحركة المادة . وإنما هى تدرس القوانين العامة الشاملة للحركة المادية ، والمجتمع هو أيضا شكل لحركة المادة " .(1/318)
أما التطور الذى قالوا إنه يحدث فى المادة فقد بنوا عليه تطورا حتميا فى المجتمع البشرى ، ومن ثم نفوا الثبات فى أى وضع من الأوضاع ولا قيمة من القيم :
يقول ستالين فى كتابه : " المادية الديالكتيكية " ( ص 25 من الترجمة العربية ) :
" وبعد . إذا صح أن العالم يتحرك ويتطور دائما وأبدا . إذا صح أن اختفاء القديم ونشوء الجديد هما قانون للتطور ، أصبح من الواضح أن ليست هناك أنظمة اجتماعية ثابتة " غير قابلة للتغير " ولا مبادئ أبدية للملكية الخاصة والاستثمار ! وليست هناك " أفكار أبدية " عن خضوع الفلاحين لكبار ملاكى الأرض ، والعمال للرأسماليين "
ويقول ( ص 26 - 27 من الترجمة العربية لكتابه المادية الديالكتيكية ) :
" وبعد . إذا صح أن الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى تغيرات كيفية وفجائية وسريعة هو قانون للتطور فمن الواضح أن الثورات التى تقوم بها الطبقات المضطهدة هى حادث طبيعى تماما ولا مناص عنه .
" وبالتالى فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وتحرر الطبقة العاملة من النير الرأسمالى يمكن تحقيقها لا بتغيرات بسيطة بطيئة ، ولا بإصلاحات ، بل فقط بتغير كيفى للنظام الرأسمالى : أى بالثورة " .
ويقول موريس كورنفورث فى كتاب " مدخل إلى المادية الجدلية " ( ص 107 من الترجمة العربية لمحمد سمتجير مصطفى ) :(1/319)
ونجد هذا القانون عن تحور التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية فى المجتمع كذلك . فقبل أن يوجد نظام الرأسمالية الصناعية حدثت عملية من تراكم الثروة فى شكل نقود فى أيدى قلة ( عن طريق نهب المستعمرات أساسا ) ومن تكون بروليتاريا لا تملك شيئا عن طريق تسييج الأرض وطرد الفلاحين . وعند نقطة معينة من هذه العملية ، حين تراكمت النقود الكافية لتزويد المنشآت الصناعية برأس المال ، وحين تحول عدد كاف من الناس إلى بروليتاريا لتقديم العمل اللازم ، نضجت الظروف لتطور الرأسمالية الصناعية ، عند هذه النقطة ولد التراكم فى التغيرات الكمية مرحلة كيفية جديدة فى تطور المجتمع .
" وتحدث التغيرات الكيفية عموما بفجائية نسبية - بوثبة . إن شيئا جديدا يولد فجأة ، رغم أن إمكانياته كانت تحويها عملية التحول التدريجى للتغيرات الكمية المستمرة التى حدثت من قبل " .
أما التناقض فقد أثبتوه من قبل للمادة ، وحيث إن حركة المجتمع البشرى جزء من حركة المادة فقد احتوت على التناقص بداهة من منشئها المادة التاريخى ، وجرى التناقض فى كل حركة من حركات البشر على الأرض فى صورة صراع طبقى :
يقول ستالين ( ص 27 من الترجمة العربية لكتاب المادية الديالكتيكية ) :
" إذا صح أن التطور يجرى بانبثاق التناقضات الداخلية وبالنزاع بين القوى المتضادة على أساس هذه التناقضات ، وأن غاية هذا النزاع هى قهر هذه التناقضات ، والتغلب عليها ، فمن الواضح أن اتصال البرولتياريا الطبقى هو حادث طبيعى تماما ولا مناص منه .
" وبالتالى لا ينبغى إخفاء تنقاضات النظام الرأسمالى بل ينبغى إبرازها وعرضها ، ولا ينبغى خنق النضال الطبقى بل ينبغى القيام به إلى النهاية "(1/320)
" وإذن لأجل اجتناب الخطأ فى السياسة ينبغى اتباع سياسة بروليتارية طبقية حازمة ، لا سياسة إصلاحية تقول بالتناسق بين مصالح البروليتاريا ومصالح البرجوازية ، ولا سياسة تفاهمية تقول بإدماج " الرأسمالية فى الاشتراكية " وهذا ما تقول به الطريقة الديالكتيكية الماركسية لدى تطبيقها على الحياة الاجتماعية . على تاريخ المجتمع " .
إلى هنا كنا نتناول المادية الجدلية ، وقد أوردنا من كلامهم ما يبين وجهة نظرهم بالقدر الذى يكفى لتتبع المناقشة التى ستأتى فيما بعد .
والآن ننتقل إلى الكلام عن المادية التارخية . والحقيقة أن هناك ارتباطا وثيقا بين المادية الجدلية والمادية والتاريخية بحيث يصعب الفصل بينهما . وهم أنفسهم يقولون ذلك .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 12 من الترجمة العربية ) :
" إن المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية تظهران كعلم واحد ، وكفلسفة متكاملة ، فلا المادية التاريخية معقولة بدون المادية الديالكتيكية ، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية ، فبماذا نفسر ذلك ؟
" أولا : بأنه لا يمكن وضع نظرة مادية ديالكتيكية علن العالم ككل ، إذا لم يتوفر التفسير المادى للحياة الاجتماعية . إذا لم يكن قد اكتشف أن المجتمع هو أيضا شكل لحركة المادة وخاضع فى تطوره لقوانين موضوعية كقوانين الطبيعة المادية والديالكتيكية غير ممكنة بدون المادة التاريخية .
" ثانيا : لأن الإجابة الصحيحة عن المسألة الأساسية فى الفلسفة حول أولوية المادة وثانوية الوعى غير ممكنة بدورها توضيح سبب وكيفية ظهور الوعى الإنسانى والدور الذى لعبه فى ذلك التطبيق العملى الاجتماعى التاريخى للناس ، إذ أن الإجدابة عن هذا السؤال تقدمها المادية التاريخية "
وجاء فى نفس الكتاب ( ص 13 - 14 من الترجمة العربية ) :(1/321)
" إن تحريف المادية الديالكيتية يؤدى حتما إلى تشويه المادية التاريخية . إن المادية التاريخية لا تتوافق مع أية فلسفة أخرى غير المادية الديالكتيكية . إن الاعتراف بالمادية التاريخية مع نكران المادية الديالكتيكية ليس إلا زيفا خالصا وسفسطة مقززة 175
? ? ?
ثانيا : المادية التاريخية
المادية التاريخية كما هو واضح من التسمية ، محاولة لتفسير التاريخ البشرى على الأسس المادية التى أوردناها فى شرح المادية الجدلية ، أى على أساس أن المادة أزلية أبدية ، وإنها هى الخالقة لكل ما فى الكون من مخلوقات : وأن الإنسان نتاج المادة ، والفكر نتاج المادة ! وإن قوانين المادة هى بذاتها التى تحكم حياة البشر الاجتماعية ، وأن الوضع المادى والاقتصادى هو الذى يكيف شكل الحياة البشرية فى أى وقت من أوقاتها وفى أى طور من أطوارها : وأنه هو الأصل الذى تنبثق منه الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التى ينشئها البشر فى حياتهم ، وأنه يأتى دائما سابقا لها ولا تجئ هى سابقة له بحال من الأحوال ، لأن المادة تسبق الوعى ولا يمكن للوعى أن يسبق المادة ؛ وأن الوضع المادى والاقتصادى فى تطور دائم ، ومن ثم فإن الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التى تنبثق عنه دائمة التطور كذلك ، بحكم ارتباطها بالوضع المادى والاقتصادى وانبثاقها عنه .
وربما يحق لنا أن نبدأ الحديث عن المادية التاريخية من نقطة صلتها بالدروينية ونظرية التطور ن لأن ذلك قد يلقى الضوء على بعض مفاهيمها .
قدم دارون تفسيرا معينا لتطور " الحياة " من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان ، قرر فيه جملة " مبادئ " تأثرت بها المادية الجدلية والمادية التاريخية ، كان من جملتها :
أن " الطبيعة " تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق .
وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء ، أى أنه ليس لها مقصد معين من الخلق ولا غاية .
وأن الظروف المادية المحبطة بالكائن الحى هى التى تحكم حياته كما تحكم تطوره .(1/322)
وأن الكائن الحى ليس حرا فى اختيار طريقة حياته ولا طريقة تطوره وإنما ذلك مفروض عليه من خارج كيانة من الظروف المادية المحيطة به .
وإن الإنسان ليس خلقا قائما بذاته إنما هو نهاية سلسلة التطور الحيوانى السابق لوجوده .
وإنه فى " تطوره " الأول الذى أوصله إلى حالته الراهنة كان محكوما بذات الظروف المادية التى حكمت خط التطور السابق له .
وأنه لا وجود لشئ " ثابت " فى عالم الأحياء ، لأن قانون " اللتطور " عو الذى يحكم الحياة والأحياء . يحكمها من خارج كيانها ودون خضوع لارادتها ، وبصورة حتمية .
ولعله قد اتضح الآن كم أخذت المادية الجدلية والمادية التاريخية من الداروينية ونظرية التطور ولكن فلننظر فى أقوالهم هم لنرى ماذا يقولون فى هذا الشأن .
يقول كورنفورث ( ص 21 من الترجمة العربية لكتاب " مدخل إلى المادية التاريخية " ) :
" وتقدم المادية التاريخية أساس للعلم الاجتماعى بنفس الطريقة التى تقدم بها نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعى أساسا للعلم البيولوجى . فأيا كان النوع الذى يدرس فإنه قد تطور عن طريق الانتقاء الطبيعى وهذا يحدد كل طبيعته . وبالمثل ، أيا كان المجتمع الذى يدرس فإنه أصبح ما هو عليه بتكيف علاقات الانتاج مع الإنتاج ، والأفكار والمؤسسات مع علاقات الإنتاج " .
وجاء فى كتاب أصول الفلسفة الماركسية ( ج1 ص 37 من الترجمة العربية ) :
" وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير فى ذلك :
اكتشاف الخلية الحية التى تتطور عنها الأجسام المعقدة .
اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيميائية ، فهى صور مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة .
نظرية التحول عند دارون فلقد أظهرت هذه النظرية اعتمادا على الحفريات ، وعلم تربية الحيوان ، أن جميع الكائنات الحية ( ومنها الإنسان ) هى ثمرات التطور الطبيعى " .
وجاء فى كتاس " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 16 من الترجمة العربية ) :(1/323)
" وبذلك أعد تطور العلم - وخصوصا الاكتشافات الثلاثة فى العلم الطبيعى : قانون حفظ الطاقة ، ونظرية التكوين الحلوى للكائنات الحية ونظرية التطور لداروين - المقدمات العلمية لانتصار النظرية المادية الجدلية عن العالم ، التى وضعها كار ماركس وفردريك إنجلز " .
وسيتناول حديثنا عن المادية التاريخية أمرين : التفسير المادى للتاريخ ، والتفسير المادة للدين والأخلاق والأسرة .
أولا : التفسير المادى للتاريخ :
منن الطبيعى أن تكون الفلسفة التى يقوم عليها التفسير المادى للتاريخ فلسفة مادية بحتة ، سواء فى نظرتها إلى الإنسان " الذى له ، أو حركة هذا الإنسان على الأرض خلال التاريخ ، والعوالم التى تؤثر فى هذه الحركة .
والحق أن التفسير المادى للتاريخ لا ينكر وجود " القيم " فى الحياة البشرية ، ولا يفسر الحياة طعاما وشرابا وملبسا ومسكنا وجنسا فقط .. لكن الحق إلى جانب ذلك أنه ينفى نفيا قاطعا - كما ورد من كلامهم فيما سبق - أن تكون هذه القيم ثابتة ، أو أن تكون قائمة بذاتها ، أو أن تكون سابقة فى وجودها على الأوضاع المادية والاقتصادية ، أو أن تكون فى أى وقت من الأوقات منشئة لأوضاع مادية واقتصادية لم تكن قائمة من قبل ..
تبدأ النظرية من أن الانتاج المادى هو أساس الحياة البشرية كلها وأساس التاريخ البشرى :
يقول ماركس ( ص 37 من الترجمة العربية لكتابه" الأيدلوجية الألمانية " ) :(1/324)
" وليس لنا بد مع الألمان المجردين عن أية مقدمات من أن نبدأ بتقرير المقدمة الأولى للوجود البشرى بكامله وبالتالى للتاريخ بأسره ، ألا وهى المقدمة التى تنص على أنه لابد للبشر من أن يكونوا فى مركز يمكنهم من العيش ، كما يكون فى مقدورهم أن يصنعوا التاريخ . بيد أن الحياة تشتمل قبل كل شئ على المأكل والمشرب والمسكن والملبس وأشياء عديدة أخرى . وهكذا فإن العمل التاريخى هو إنتاج الوسائط القمينة بسد هذه الحاجات . إنتاج الحياة المادية بالذات .. وبالفعل فإن هذا العمل عمل تاريخى . شرط أساسى للتاريخ بكاملة . لابد فى اليوم الحاضر مثلما كانت الحال قبل آلاف السنين من تحقيقه يوما فيوما ، وساعة فساعة لمجرد الإبقاء على الحياة الإنسانية "
وقوى الإنتاج المادى من ثم هى أهم عنصر فى الحياة .. وهى المقياس الذى يقاس به كل شئ :
جاء فى كتاب " أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 151 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا فإن القوى المنتجة تعبر عن علاقات مادية بين المجتمع والطبيعة ، ومستوى تطور هذه القوى دليل على درجة سيطرة البشرية على قوى الطبيعة ، وبدوره يتجدد المستوى نفسه قبل كل شئ بأدوات العمل وتزويد الإنتاج بالطاقة وتنظيم التكنولوجيا العملية الإنتاجية وتطور العلم ، وكذلك بمستوى استخدام المنتجين المباشرين للقيم المادية للمنجزات العلمية " .
والعمل - العمل الذى يؤدى إلى الإنتاج المادى - هو محور الحياة ..
يقول إنجلز " يقول الاقتصاديون إن العمل هو مصدر كل ثروة . وإنه لكذلك فعلا . مع الطبيعة التى تقدم له المادى التى يحولها إلى ثروة ، ولكنه أكثر من ذلك أيضا إلى مالا نهاية . إنه الشرط الأساسى الأول لكل حياة بشرية . وإنه لكذلك إلى درجة ينبغى علينا معها - بمعنى ما - أن نقول " إن العمل قد خلق الإنسان ذاته " ( عن كتاب : نصوص مختار ، فردريك إنجلز ص 123 من الترجمة العربية ) .(1/325)
وعلاقات الإنتاج هى التى تصور شكل الحياة البشرية فى أى طور من أطوارها .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 60 من الترجمة العربية ) :
" وبما أن أسلوب الإنتاج هو الذى يحدد نمط حياة الناس فى هذا المجتمع أو ذاك فإن جميع ظواهر الحياة الأخرى تتعلق بأسلوب الإنتاج وتكون نابعة منه ومشروطة به .
ويقول ماركس فى كتاب " بؤس الفلسفة " ( ص 112 - 113 من الترجمة العربية ) :
" ترتبط العلاقات الاجتماعية وتتعلق بالقوى الإنتاجية . ولدى تحقيقينا لقوى إنتاجية جديدة يغير الناس نوع الإنتاج ، وعند تغييرهم لنوع إنتاجهم ، وعند تغيير طريقة كسبهم لمعيشتهم ، فإنه يغيرون كل العلاقات الاجتماعية ، إن الطاحونة التى تدار باليد تمثل لك مجتمعا يتحكم فيه السيد الإقطاعى ، وتمثل الطاحونة البخارية مجتمعا تتحكم فيه الصناعة الرأسمالية .
" إن نفس الناس الذين يؤسسون علاقاتهم الاجتماعية لتطابق إنتاجهم المادى ، تراهم ينتجون أيضا المبادئ والأفكار واللوائح لكى تطابق علاقاتهم الاجتماعية ، وهكذا فإن هذه الأفكار وهذه اللوائح ليست أبدية كالعلاقات التى تعبر عنها . إنها إنتاج تاريخى وفترة انتقال " .
ويقول ستالين فى كتاب " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 49 - 50 من الترجمة العربية ) :
" الخاصية الأولى للإنتاج أنه لا يقف أبدا مدة معينة فهو دائما فى حالة تغير ونمو ، وعلاوة على ذلك فإن أسلوب الإنتاج يؤدى بصورة حتمية إلى تغير النظام الاجتماعى بأسره وتغير الأفكار الاجتماعية والآراء والمؤسسات السياسية .
" إن المجتمع ذاته وأفكاره ونظرياته ، وآراءه ومؤسساته السياسية تتعلق من حيث الساس بأسلوب الإنتاج فى المجتمع ، أو بعبارة أبسط كل نمط من المعيشة يطابقه نمط من التفكير .(1/326)
" ومعنى هذا أن تاريخ تطور المجمع هو قبل كل شئ تاريخ تطور الإنتاد وتاريخ أساليب الإنتاج التى تتعاقب خلال العصور . تاريخ تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج بين الناس " .
ويقول ماركس فى كتابه " الأيديولوجية الألمانية " ( ج 1 ص 39 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا فإنه من الجلى تماما منذ البداية أن ثمة رابطة مادية تجمع البشر بعضهم بعضا ، تتحدد بحاجتهم ونمط إنتاجهم ، وهى قديمة قدم البشر أنفسهم ، وإن هذه الرابطة لتتخذ على الدوام أشكالا جديدة ، وبذلك تمثل " تاريخا " حتى دون أن يوجد بعد أى هراء سياسى أو دينى يحقق - علاوة على ذلك - التماسك بين البشر " .
? ? ?
ينقسم التاريخ البشرى - بناء على القواعد السالفة الذكر - إلى خمسة أطوار رئيسية :
المشاعية الابتدائية ، والرق ، والإقطاع ، والرأسمالية ، ثم الاشتراكية الممهدة للشيوعية .
فبالنسبة للمشاعية الابتدائية :
جاء ى كتاب المادية التاريخية ( ص 335 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا فقد كان القطيع البدائى أول شكل انتقالى للمجتمع الذى حدث فيه تكوين الإنسان . ولقد ظهر هذا القطيع عندما انفصل الإنسان عن عالم الحيوان وبدأ بإنتاج أدوات العمل ، وما زال باقيا ( يقصد وظل باقيا) إلى أن تكونت ملامح الإنسان الحديث نتيجة لتطورها التدريجى البطئ " .
ويقول سيجال فى كتاب " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ" ( ص 8 - 9 من الترجمة العربية ) :
" لقد كان هذا النظام المشاعى البدائى ضروريا للمجتمع الإنسان فى تلك المرحلة من التطور . فلقد كان من المستحيل على المجتمع لو عاش أفراده حياة منعزلة مبعثرة ا، يخترع الأسلحة والأدوات البدائية وأن يحسنها فيما بعد . ولم يستطع الناس أن يحرزوا انتصاراتهم الأولى فى ميدان الكفاح ضد الطبيعة إلا بفضل حياتهم التعاوين . لقد كان اتحادهم فى بطن مشاعى هو قوتهم الرئيسة " .
ويقول ( ص 15 من الترجمة العربية ) :(1/327)
" ولا تزال بقايا المشاعية البدائية موجودة حتى أيامنا هذه لدى عدد من الشعوب فى شكل مشاعية بدائية تملك الجماعات الزراعية فيها الأرض ملكا مشتركا ، وتوزع حصصا منها على أعضائها للتصرف فيها بصورة مؤقتة ، وليس يمكن بعد هذا أن يوضع موضع الشك وجود المشاعية البدائية كنقطة بدء فى تطور الشعوب كلها .
ويقول (ص 9 من الترجمة العربية ) :
لقد كان تطور مستوى قوى المجتمع المنتجة هو الذى يحدد ظروف النظام المشاعى البدائى . ومن الخطأ التصور أن الناس البدائيين هم الذين أوجدوا هذا النظام عن وعى منهم ، فلقد تشكل وتطور بصورة طبيعية ودون علاقة بإرادة الناس ووعيهم " .
ثم انحل هذا الطور وانتهى بصورة حتمية .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 161 من الترجمة العربية ) :
" ومع ظهور الإنتاج الفردى ظهر التناقض بين الملكية الاجتماعية والطابع الفردى لعملية الإنتاج ، هذا التناقض الذى يحل عن طريق القضاء على الملكية الاجتماعية وظهور الملكية الخاصة لوسائل ومواد الإنتاج ، وهذه هى الأسباب الرئيسة التى أدت إلى القضاء على النظام البدائى كحتمية طبيعية "
وحين انحلت المشاعية البدائية بظهور الزراعة وجدتة الطبقات ، ووجد صراع الطبقات ، الذى هو صراع على المصالح المادية :
يقول كورنفورث فى كتاب " مدخل إلى المادية التاريخية " ( ص 30 - 31 من الترجمة العربية ) :
" إنما صار تاريخ الإنسان فقط هو تاريخ الصراع الطبقى لتغير ظروف الإنتاج مع نشوء الزراعة . ثم التغير الهائل فى المجتمعات الرأسمالية "
وجاء فى كتاب " أسس المادة الديالكتيكية والمادية التاريخية " ( ص 162 من الترجمة العربية ) :
" والمصالح الأساسية للفئات الاجتماعية والطبقات البشرية هى أولا وقبل كل شئ مصالح مادية اقتصادية تحدد فى نهاية الأمر المصالح السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية والجمالية والعلمية والفلسفية وغيرها "(1/328)
ويقول ماركس فى كتاب " الأيديولوجية الألمانية " ( ص 56 من الترجمة العربية ) :
" إن أفكار الطبقة السائدة هى فى كل عصر الأفكار السائد أيضا . يعنى أن الطبقة التى هى القوة المادية السائدة فى المجتمع هى فى الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة . إن الطبقة التى تتصرف بوسائل الإنتاج المادى تمل فى الوقت ذاته الإشراف على وسائل الإنتاج الفكرى ، بحيث إن أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الذهنى تخضع من جراء ذلك لهذه الطبقة السائدة .
من المشاعية البدائية انتقل الناس إلى الرق :
يقول إنجلز فى كتاب أنتى دوهرنج ( ص 217 من الترجمة العربية ) :
" وإن تطبيق العبودية فى الظروف التى كانت سائدة فى ذلك الحين قد كان خطوة كبرى إلى الأمام ! 176
ذلك أنه م الحقائق الواقعة أن الإنسان قد انبثق من الحيوان ، وبالتالى فلم يكن له بد من استخدام وسائل بربرية تكاد أن تكون وحشية من أجل تخليص نفسه من البربرية 177
ونشأ الرق من مبعين أساسيين : الحرب والدين ذلك أن المدين الذى يعجز عن السداد كان يتحول إلى رقيق.
يقول ماركس : " كان الصراع الطبقى فى المجتمع القديم - وبالدرجة الأولى - صراعا بين الدائنين والمدينين ، وقد انتهى فى روما إلى زوال المدين من طبقة العامة وتحوله إلى عبد ( نقلا من كتاب لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ ص 17 من الترجمة العربية ) .
وفى مجتمع الرق ظهرت الدولة ونمت الثقافة وظهرت الفلسفة وتقدمت البشرية تقدما كبيرا يعزوه الماديون إلى الصراع الطبقى !
جاء فى كتاب المادية التاريخية ( ص 163 من الترجمة العربية ) :(1/329)
" إن تجطور الصراع الطبقى والمعارف النظرية أدى إلى ظهور الفلسفة ، وحدثت اختلافات مهمة على صعيد الدين ، الذى تحول تدريجيا إلى أدة روحية لاستبعاد الجماهير ، وبهذا فإن انقسام المجتمع إلى طبقات يحدث انقلابا جذر يا فى البنيان الفوقى وفى حياة المجتمع الروحية كليها ، وفى المجتمع العبودى بالذات ظهرت لأول مرة كل الأشكال الراهنة للوضع الاجتماعى " .
وكانت معاملة الرقيق فى أوربا بالبشاعة التى يعرفها التاريخ . ولم تفلح ثورات العبيد فى تحسين أحوالهم ولا رفع الرق عنهم . ولكن لأسباب مادية واقتصادية بحتة بدأ عهد الرق ينهار .
يقول إنجلز فى كتاب " أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة " ( ص 236 - 237 من الترجمة العربية ) :
" لكن هذه العبودية المشرفة على الموت كانت لا تزال من القوة بحيث تجعل كل عمل من أعمال الإنتاج يبدو وكأنه عمل عبودى وضيع لا يليق بمقام الرومان الأحرار ..
" إن المسيحية ليست مسؤولة قط عن هذا الزوال التدريجى للعبودية القديمة ، إذ هى قد جنت من ثمار العبودية فى الإمبراطورية الرومانية خلال قرون من الزمن ، ولم تفعل فيما بعد شيئا لا لمنع المسيحيين من المتاجرة بالرقيق - سواء الألمان فى الشمال أو تجار البندقية على البحر الأبيض المتوسط - ولا لحظر التجارة بالرقيق الزنوج فى السنين الأخيرة . وإنما زالت العبودية لأنها لم تعد تدرجا قط . لكنها بزوالها خلفت وراءها لسعتها السامة وذلك بوسمها عمل الأحرار فى الإنتاج بميسم الضعة ، فكان ذلك بمثابة الزقاق المسدود الذى وجد العالم الرومانى نفسه فيه ، كانت العبودية مستحيلة من الناحية الاقتصادية وكان عمل الأحرار مستهجنا من الناحية الأخلاقية . لم يعد فى وسع الأول أن يظل أساس الإنتاج الاجتماعى وكان الأخير لا يزال غير قادر على أن يكون أساس لهذا الإنتاج ، لم يكن ينفع فى هذا الحال سوى ثورة كاملة 178(1/330)
هذا من جهة .. ومن جهة أخرى كان اختراع المحراث الحديدى أهم تحول أدى إلى ظهور الإقطاع .
يقول سيجال فى كتابه " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ ( ص 21 من الترجمة العربية ) :
" كان نظام الرق شكلا اجتماعيا ضروريا من أشكال تطور القوى المنتجة فى مرحلة من مراحل التاريخ ولكن هذا التطور كان بدوريه سببا لانحطاط هذا النظام " .
جاء الإقطاع بصورته الأوروبية المعروفة .. وكانت الطبقتان المسيطرتان فيه هما طبقة كبار الملاك وطبقة رجال الدين . وبقية الشعب مسخر لصالح كلتا الطبقتين .. وأخذ الإقطاع جولته التاريخية " الحتمية " حتى تطورت أدوات الإنتاج باختراع الآلة وتعقدت علاقات الإنتاج القائمة وصارت غير مناسبة للمرحلة الاقتصادية الجديدة .
جاء الإقطاع نتيجة ظروف مادية واقتصادية . فمن الناحية المادية كان اختراع المحراث الحديدى وتطور زراعة الأرض نتيجة إدخال أدوات جديدة أكثر صلاحية من أهم السباب التى أدت إلى ظهور الإقطاع ، ومن الناحية الاقتصادية كان لابد من تغيير علاقات الإنتاج بعد أن أصبح الرقيق - بحالته التى كان عليها - عاجزا عن الإنتاج ، أو بعبارة أخرى عاجزا عن تلبية مصالح السيد الاقتصادية ، لكثرة تمرده وهربه نتيجة المعاملة البشعة التى كان يتلقاها من السيد أو وكيله . وفى النظام الإقطاعى يملك السيد الأرض ولكن الفلاح الذى يعمل لحساب السيد يمكن أن يمتلك قطعة صغيرة من الأرض - بالقدر الذى يسمح به الإقطاعى - وله نصيب من الإنتاج - يحدده الإقطاعى كذلك - يعيش منه هو وأسرته .
ولكن نصيب الفلاح - فى مجموعة - كان أضأل من أن يوفر له الحياة الكريمة أو الحياة الصحية ، وكان هو وأسرته يعيشون فى حالة من الضنك الشديد ، وكثيرا ما كان الفلاحون يموتون بالمئات والألوف نتيجة الجوع أو الإصابة بالسل أو نتيجة أوبئة الفتاكة .(1/331)
وبدأ نضال الفلاحين ضد الإقطاعيين لرفع الظلم الفاحش الواقع عليهم ، ولكنهم كانوا أضعف من أن ينالوا شيئا من الإقطاعيين المحصنين بقلاعهم المزودين بجيوش تحميهم ، كما أنه لم يكن للفلاحين تجمع ذو هدف محدد يخوض معركة منظمة ضد الإقطاعيين ، لذلك باءت ثوراتهم بالإخفاق ، ولكن من خلال التطور المادى والإقتصادى أخذ الإقطاع ينهار لتحل محله الرأسمالية .
نشأت الرأسمالية ( التى يسميها الشيوعيون البرجوازية لنشأتها فى المدينة Bourjois ) نتيجة عدة عوامل أهمها اختراع الآلة التى أخذت تحل بالتدريج محل الإنتاج اليدوى ، كما اتسعت الكشوف الجغرافية وزاد حجم التجارة الأوربية 179 " ، كما أن ظاهرة العمل المأجور - أى تأجير العامل جهد يده من أجل الحصول على مطالب الحياة - كانت قد بدأت توجد فى المدن وإن كان حجمها فى بادئ الأمر لم يكن كافيا لتشغيل الحركة الصناعية الناشئة فقامت الثورة التى أدت إلى تحطيم الإقطاع .
يقول سيجال فى كتاب " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ " ص 33 من الترجمة العربية ) :
" وهكذا نرى أن الإقطاعية التى كانت متوافقة عند نشأتها مع مستوى القوى المنتجة فى المجتمع صارت متناقضة مع القوى المنتجة المتنامية ، وصار الغاؤها ضرورة تاريخية "(1/332)
وفى ظل الرأسمالية حدث تقدم عظيم فى مجالات كثيرة منها المجال العلمى والمجال التكنولوجى لأن الرأسمالية تسعى دائما لزيادة الإنتاج من أجل الربح . كما نشأ تنظيم جديد للعمل يتعاون فيه مجموعة كبيرة من الناس فى العمل الواحد بدلا من العمل الفردى . ونشأ تحسين للطرق والمواصلات من أجل تصريف الإنتاج الصناعى فى داخل البلاد وخارجها . كما كان الاستعمال وسيلة للحصول على موارد رخيصة ومجالا لتصريف فائض الإنتاج ونشأت الأمم فى أوربا وحل الحكم الدستورى محل الحكم الملكى المطلق . ولكن هذا كله كان على حساب طبقة العمال المضطهدة ، التى تبذل الجهد الحقيقى فى عملية الإنتاج ولا تنال إلا أقل القليل .
يقول إنجاز فى كتاب " أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة " ( ص 279 من الترجمة العربية ) :
" ولما كان استغلال طبقة من قبل طبقة أخرى هو أساس الحاضرة ، فإن نموها كله يسير فى تناقض مستمر . كل خطوة إلى الوراء فى أحوال الطبقة المضطهدة أى الأكثرية العظمى . كل ما هو خير للبعض لابد أن يكون شرا للآخرين . كل تحرر جديد لإحدى الطبقات يعنى دائما اضطهادا جديا لطبقة أخرى . وأعظم دليل على هذا نجده فى إدخال الآلة ( يقصد الرأسمالية ) التى يعرف العالم بأسره أثارها الآن "
ويقول كور نفورث فى كتاب " مدخل إلى المادية التاريخية " ( ج1 - ص 73 من الترجمة العربية ) :
" والسمة الأساسية لزيادة قوى الإنتاج التى نشأت فى إطار الرأسمالية هى تشريك العمل ( يقصد جعله مشتركا بدلا من أن يكون فرديا ) فلقد حلت محل الإنتاح الفردى الصغير قوة العمل الإجتماعى الذى يتعاون الناس فيه معا فى منشأت إنتاجية كبيرة تستخدم آلات تعمل بالطاقة . لكن هذه السمة تعوقها علاقات الإنتاج الرأسمالية التى تجعل التاريخ ملكا للرأسماليين . وتجبر الإنتاج الاجتماعى على ان يخدم الربح الخاص "
وجاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 174 من الترجمة العربية ) :(1/333)
" إن تغيير علاقات الإنتاج الإقطاعية إلى علاقات رأسمالية يؤدى إلى إعادة تركيب البناء الفوقى الذى يبؤدى بدوره مع ملاءمته للقاعدة الجديدة إلى تغيير وجه المجتمع كله "
وجاء فيه أيضا ( ص 341 - 342 من الترجمة العربية ) :
" إن عصر الرأسمالية الصاعدة هو عصر نشوء الأمم . والماركسيون يذهبون إلى أن الأمة لم توجد قبل الرأسمالية لأن الشروط الاقتصادية اللازمة لنشوئها كانت لا تزال معدومة " 180 إن تكون الشعب من اختلاط مجموعات جغرافية مختلفة اتحدت فى الأرض واللغة والثقافة كان المنطلق لتكوين الأمة ، مع أنه ليس ضروريا أن تتألف الأمة من شعب واحد ، فكل الأمم الحديثة نشأت وتنشأ نتيجة لاتحاد الشعوب المختلفة . وهكذا فإن الأمة كشكل لتجمع الناس نشأت من متطلبات الإنتاج الرأسمالى وتنشأ على أساسه ، وهى تنشأ لأنه ضرورية من أجل تطور الإنتاج الرأسمالى الضخم "2"
وتأخذ الرأسمالية دورهالا ثم يجى التطور الحتمى ..
يقول سيجال فى كتابه " لمحة عن تطور المجتمع منذ بدء التاريخ " ( ص 36 - 37 من الترجمة العربية ) :
" غير أن الرأسمالية - عندما تتطور قوى المجتمع المنتجة - تبدو يوما فيوما أقل قدرة على السيطرة عليها . وأجدى برهان على ذلك هو تلك الأزمات التى تأتى على نحو دورى فتزعزع النظام الرأسمالى وتدمر جزءا من القوى المنتجة . وهكذا تصبح الرأسمالية أكثر فأكثر عائقا فى طريق تطور هذه القوى التى ولدتها هى ذاتها ، ومن هنا يتبين أن إلغاء الرأسمالية بالطرق الثورية واستبدالها بالشيوعية ( يقصد استبدال الشيوعية بها لأن الباء تدخل على المتروك ) أى بمجتمع دون طبقات تكون وسائل الإنتاج فيه ملكا مشتركا يصبح ضرورة تاريخية "(1/334)
والسبب الرئيسى فى ذلك هو التناقض المتزايد بين مصالح الرأسمالية ومصالح العمال ( طبقة البروليتاريا ) الذى يؤدى فى النهاية إلى ثورة طبقة البروليتاريا على طبقة الرأسماليين لنزع السلطة منها وإنشاء مجتمع بلا طبقات ، وتوزيع الإنتاج على الجميع دون استغلال طبقة لطبقة .
ولا يتم ذلك دفعة واحدة . فهناك مرحلة انتقالية ينتقل فيها الناس من الرأسمالية إلى الاشتراكية ، ثم إن المرحلة الاشتراكية تمهد للمرحلة الأخيرة وهى الشيوعية حيث يتحقق مبدأ " من كل حسب طاقته ، ولك حسب حاجته "
تنقضى المرحلة الأولى فى الكفاح لإزالة الطبقة المستغلة والقضاء عليها . حتى يمكن تأصيل المبادئ الجديدة المبنية على إزالة الطبقة وتحويل الملكية من ملكية فردية إلى ملكية جماعية . والعمل على زيادة الإنتاج لكى تتحقق المرحلة الأخيرى التى لا يمكن الوصول إليها إلا بزيادة هائلة فى الإنتاج تمكن كل إنسان أن يأخذ بحسب حاجته فى الوقت الذى يعمل حسب طاقته .
ثانيا : التفسير المادى للدين والأخلاق والأسرة :
يقصد بالتفسير المادى للدين والأخلاق والأسرة أمران فى أن واحد . الأول : أنها ليست " قيما " قائمة بذاتها . ولا يمكن النظر إليها على هذا النحو ، ومن ثم فليس لها ثبات ولا قدسية ، والثانى : أنها فى ذات الوقت انعكاس للأحوال المادية والاقتصادية القائمة فى أى وقت من الأوقات . وكل وضع مادى أو اقتصادى قائم هو الذى ينشئ " الأفكار " المتعلقة بالدين والأخلاق والأسرة ، وتتغير هذه الأفكار تغيرا حتميا كلما تغير الوضع المادى أو الاقتصادى . وإليك أقوالهم فى كل أمر من هذه الأمور الثلاثة :
1- الدين :
يقول إنجلز ( ص 381 من الترجمة العربية لكتاب أنتى دوهرنج ) :
" ومهما يكن من شئ فليس الدين إلا الانعكاس الوهمى فى أذهان البشر لتلك القوى الخارجية التى تسيطر على حياتهم اليومية ، وهو انعكاس تتخذ فيه القوى الأرضية شكل قوى فوق طبيعية ( يقصد قوى خارقة ) .(1/335)
ويقول كذلك ( ص 382 من نفس الكتاب ) :
" من الأزمنة الموغلة فى القدم - إذ وصل الفكر بالناس وهم بعد فى جهل تام ببنياتهم الجسدية الخاصة ، وتحت تأثير أحلامهم ، إلى القول بأن أفكارهم وأحاسيسهم ليست من فعل أجسادهم ذاتها ، بل من فعل روح خاصة تسكن هذا الجسد وتفارقه لحظة الموت - منذ ذلك الحين اضطروا لأن يصطنعوا لأنفسهم أفكار عن علاقات هذه الروح مع المعالم الخارجى .
" وعلى هذا النحو تماما - عن طريق تشخيص القوى الطبيعية - ولدت الآلهة الأولى التى اتخذت خلال التطور اللاحق شكلا غير أرضى أكثر فأكثر ، إلى أن حدث أخيرا عملية تجريد .. فنشأ على نحو طبيعى خلال التطور العقلى أن تولدت فى عقل الناس من الآلهة المعتددين ذوى السلطة الضعيفة والمقيدة بعضهم حيال بعض ، فكرة الآله الواحد المنفرد فى الديانات التوحيدية " .
ويستشهد مؤلفو كتاب " أصول الفلسفة الماركسية ( ج1 . ص 296 - 297 من الترجمة العربية ) بهذه القولة لإنجلز .
" إن الدين يولد من نظريات الإنسان المحدودة . وهذه النظريات محدودة بعجز الناس البدائيين المطلق تقريبا أمام الطبيعة المعادية، التى كانوا لا يفهمونها ، وهى محدودة من ناحية ثانية بتعلقهم الأعمى بالمجتمع الذى لا يفهمونه والذى كان يبدو لهم أنه تعبير عن إرادة سامية . وهكذا كانت الآلهة - وهى الكائنات المهمة الجبارة المسيطرة على الطبيعة والمجتمع - انعكاسا ذاتيا لعجز الناس الموضوعى أمام الطبيعة والمجتمع ، وكان على تقدم العلوم الطبيعية والاجتماعية أن يظهر طابع المعتقدات الوهمى : الاعتقاد بوجود آلهة متعددة ، ثم الاعتقاد بوجود إله واحد .
وجاء فى كتاب " نصوص مختارة ، فردريك إنجلز " ( جمع جان كانابا ، ترجمة وصفى البنى ، ص 177 - 178 من الترجمة العربية )(1/336)
" أما المجالات الأيدلوجية التى تحوم أعلى فى الفضاء كالدين والفلسفة .. الخ ، فإنها مؤلفة من بقية - تعود إلى ما قبل التاريخ وقد وجدها العهد التاريخى أمامه فالتقطها - لما نسميه اليوم غباء . إن هذه التصورات المختلفة الخاطئة عن الطبيعة . وعن تكوين الإنسان ذاته ، وعن الأرواح ، وعن القوى السحرية ، ليس لها فى الغالب إلا أساس اقتصادى سلبى ، فالتطور الاقتصادى الضعيف لعهد ما قبل التاريخ تكون فيه كتكملة - ولكن كذلك على نحو جزئى كشرك أو حتى كسبب - تصورات خاطئة عن الطبيعة " .
هذا عن نشأة الدين ( أى فى فترة الشيوعية البدائية ) أما عن تطوره نتيجة تغير الأوضاع المادية والاقتصادية فغنه فى عهد الرق والإقطاع استغل لتخدير الكادحين حتى لا يشعروا بالظلم الواقع عليهم ، ولتمنيتهم بنعيم الجنة تعويضا عن عذاب الدنيا .
جاء فى كتاب أصول الفلسفة الماركسية ( ج 2 ، ص 106 - 107 من الترجمة العربية ) :
" لم تحرم الكنيسة الكاثوليكية الرق ، ولذلك وجد رقيق فى أوربا فى العصر الوسيط . ولقد علمت الكنيسة الأرقاء أن يطيعوا سيدهم . واضطرت الأسياد المحاربين حقا إلى احترام " هدنة الله " وهددتهم بالنار الأبدية . ولكنها بهذا الإجراء قد أنقذت قبل كل شئ المزروعات الضرورية لحياة المجتمع ، كما حفظت الإنتاج وأمنت تفشى المجاعة واندلاع نار الثورة وهكذا تحمى فى النهاية الإقطاعية ضد تصرفات الإقطاعيين المغالية 181
ويقول موريس كورنفورث ( ص117 - 118 من الترجمة العربية لكتابه : " مدخل إلى المادية التاريخية " ):(1/337)
" وفى أوج الإقطاع فى أوربا الغربية كانت للكنيسة الكاثوليكية مكانة هائلة ، وسادت العقيدة الكاثوليكية الفلسفة والأدب والفنون ، ولقيت هذه العقيدة مساندة السلطة الزمنية - مساندة الحكام الإقطاعيين ودولهم والقوانين - ولا يمكن تفسير الحماس القاسى الذى كانت الكنيسة تلاحق به الهراطقة وتلقى فيه مساندة الحكام بمجرد الهوس الدينى فلماذا وجد هذا الهوس ؟ لقد استقرت العقيدة الكاثوليكية كجزء أساسى فى النظام الاجتماعى وأحست الكنيسة عن حق - كمالك كبير للأرض إلى جانب كبار ملاك الأرض الآخرين - بخطر التمزق الاجتماعى الكامن خلف كل هرطقة .
ويقول إنجلز عن الحروب الدينية التى سادت فى العصور الوسطى ( ص 169 - 170 من الترجمة لكتاب المادية التاريخية ) :
" إن ما يسمى بالحروب الدينية . كانت تتضمن مصالح طبقية مادية إيجابية ، فقد كانت هذه الحروب حروبا طبقية تماما .. ورغم أن الصراعات الطبقية كانت عندئذ مغلفة بشعارات دينية ، ورغم أن مصالح وحاجات ومطالب مختلف الطبقات كانت مختلفة خلف شعار دينى ، فلم يبدل هذا شيئا من الأمر ، ويمكن تفسيره ببساطة من واقع ظروف تلك الأيام "
أما فى عصر الرأسمالية فقد ضعف الدين فى أوربا ، وهذا تفسيرهم لهذه الظاهرة :
يقول جورج سول فى كتاب " المذاهب الاقتصادية الكبرى " ( ترجمة الدكتور راشد البراوى ، ص 49 - 51 من الترجمة العربية ) :(1/338)
" فإذا كانت المصادر القديمة قد أخطأت فى نظراتها إلى العالم الطبيعى أما كانت كذلك مخطئة فى نظراتها إلى السلوك البشرى ؟ أصبح كل شئ موضع التساؤل والشك ، وعلى ذلك سمى العلم فلسفة ، ولم يعد هناك تمييز بين الميادين التى عنى كل منهما بفحصها ، وأخذ الكتاب والمتفلسفون يعيدون البحث فى النظم البشرية تماما كما كانوا يفعلون بالنسبة إلى الأشياء غير البشرية ، وهم فى تصرفهم هذا كانوا يسلمون بأن الإنسان جزء من الطبيعة وليس كائنا منفصلا عن بقية المخلوقات أوجدته العناية الإلهية وتولت رعايته .
وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأساليب بالنسبة إلى السلوك البشرى - سواء أكان مرغوبا فيها أم غير مرغوب - عن طريق قوانين الطبيعة ، بدلا من البحث عنها فى إرادة الله كما قالت الكتب المقدسة أو المذاهب الكنسية ، ومعنى هذا - بتعبير آخر - أن علينا أن نسترشد فى أعمالنا وتصرفاتنا بالعقل دون سلطة القدامى .
" وصار لزاما على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجوده فى الطبيعة ، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان - وإن لم يكن فى الواقع كما هو أغلبهم - فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها ، وليس بوسيلة مباشرة ! وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شئ له وجود فحسب ، وإنما هو شئ ينبغى أن يطاع ، وصارت مخالفتها دليلا على نقص التقوى والأخلاق "
ويقول كورنفورث ( ج 2 ، ص 107 من الترجمة العربية لكتاب أصول الفلسفة المراكسية ) :(1/339)
" ومع ظهور البرجوازية برزت أفكار دينية وفلسفية جديدة . ففى مجال الدين بدأ التأكيد على ضمير الفرد وعلاقة الفرد المباشرة بالله ، ودعا الفلاسفة إلى سيادة العلم والعقل ، ومن هذه الزاوية أخضعوا الأفكار الإقطاعية للنقد المدمر ، ودرسوا من جديد أسس المعرفة ، وحاولوا أن يبينوا كيف يمكن توسيع المعرفة ووضع الإنسانية فى طريق التقدم ، وكانوا فى ذلك يخدمون البرجوازية الجديدة فى التخلص من الإقطاع ودعم الرأسمالية " .
ولكن البرجوازية أحست بأن نبذها للدين خطر عليها فعادت إلى احتضان الدين وتسخيره لمصالحها .
يقول كورنفورث ( ج 2 ، ص 107 - 108 من الترجمة العربية ) :
" ولهذا رأينا البرجوازية حينما شعرت بالتهديد ، أعادت الدين عن قصد وتبنته - بعد أن سخرته لخدمة حاجاتها - فقوته ودعمته وجعلته جزءا لا يتجزأ من البناء الفوقى الرأسمالى ، ثم أعلنت أن التعليم الدينى والتعليم العلمانى يتمم الآخر 182
أما الشيوعية فموقفها من الدين واضح .
جاء فى كتاب " المادية التاريخية " ( ص 80 من الترجمة العربية ) :
" إن الدين لا يتولد من القاعدة فى الظروف الاشتراكية ، وإنما يوجد كجزء من مخلفات القديم ، كبقية من البنيان الفوقى للتشكيلات السابقة ، وسوف يتم القضاء عليها فى عملية بناء الشيوعية ، ويتضمن البرنامج الجديد للحزب الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى تأكيدا على ضرورة استخدام مختلفة وسائل التأثير الفكرى للقضاء على الخرافات الدينية ، ومن أجل نشر تربية علمية "
وجاء فى كتاب " أصول الفلسفة الماركسية ( ج 1 ص 297 من الترجمة العربية ) :(1/340)
" ولهذا كان الفلاح فى روسيا القديمة - وقد أرهقه الفقر وفقد كل أمل فى المستقبل - يستسلم للإرادة الإلهية . ولقد جاءت الثورة الاشتراكية فوضعت فى يد المجتمع السيطرة على قوى الإنتاج ، ومكنته فى نفس الوقت من إدارة المجتمع بصورة علمية ، كما زادت سيطرته على الطبيعة ، فوجدت عندئذ الظروف الموضوعية لتنمحى من وعى الناس الأفكار الدينية التى ولدتها ظروف موضوعية أخرى " .
" وأخيرا يقول ماركس قولته الشهيرة : " الدين أفيون الشعوب " .
2- الأخلاق :
يقول إنجلز ( ص 114 - 115 من الترجمة العربية لكتابه أنتى دوهرنج ) :
" وهكذا فإننا نرفض كل محاولة لإلزامنا بأية عقيدة أخلاقية مهما كانت على اعتبارها شريعة أخلاقية أبدية ، نهائية ، وثابتة أبدا ، بحجة أن للعالم الأخلاقى أيضا مبادئه الدائمة التى تنهص فوق التاريخ وفوق الفوارق بين الأمم .. إننا ننادى على النقيؤض من ذلك بأن سائر النظريات الأخلاقية قد كانت حتى هذا التاريخ ، فى آخر تحليل ، نتاجا لأوضاع المجتمع الاقتصادية السائدة فى زمنها " .
ويقول ( ص 115 ) :
" وما دام المجتمع قد تطور حتى الوقت الحاضر ضمن التضادات الطبقية ، فإن الأخلاق كانت على الدوام أخلاقا طبقية ، فهى إما أن تبرر سلطة الطبقة الحاكمة ومصالحها ، وإما أن تمثل - حالما تحوز الطبقة المضطهدة ما يكفى من القوة - التمرد على تلك العقيدة ، ومصالح المضطهدين المقبلة فى الوقت نفسه " .
وفى مجال التطور الأخلاقى المرتبط بتطور الأوضاع الاقتصادية تجئ مثل هذه الأقوال :
جاء فى كتاب " النظرية الماركسية اللينينية : فى المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " تأليف أيرزرين ورفيقه ( ترجمة خيرى الضامن ، ص 439 من الترجمة العربية ) .(1/341)
" لقد ولدت علاقات الإنتاج الجماعية فى النظام المشاعى البدائى عادات وتقاليد جماعية وأخلاقا جماعية عند الناس البدائيين ، وعندما واجه الناس فى مجرى تطور القوة المنتجة علاقات أصبح فيها التمتع الشخصى ببعض الأشياء أكثر سهولة لعملية الإنتاج ، تغيرت آراء الناس أيضا ، وأصبحت الملكية الشخصية لبعض الأشياء .. وهى الملكية التى كانت تعتبر فى المراحل السابقة لا أخلاقية ، أو غير طبيعية وغير معتادة على أقل تقدير ، أمرا لا ضير فيه ، ولا يتعارض مع المصلحة العامة "
وجاء فى كتاب المادية التاريخية ( ص 457 من الترجمة العربية ) :
" إن أخلاق مجتمع عهد الرق هى أول شكل للأخلاق الطبقية ، فقد كانت أخلاق مالكى الأرقاء هى السائدة فى ذلك المجتمع ، وهى إذا نشأت على أساس العلاقات الاقتصادية للنظام الرقى ، كانت تعكس العلاقات القائمة بين الأرقاء ومالكيهم بالدرجة الأولى . إن الخاصية المميزة لهذه الأخلاق هى أنها كانت لا تعترف بالعلاقات الإنسانية إلا بين الأحرار من الناس . لقد كان الرقيق خارج الأخلاق . وهو سلعة وشئ ، وأداء ناطقة .. ولهذا فقد كانت الأخلاق تسمح بظلمه وجلده وقتله ، ولم تكن تلك المعاملة الوحشية للرقيق لتوقظ أى " تأنيب ضمير " لدى مالكه ، وكانت الأخلاق تبررها ، لكن هذا التبرير لم يكن إلا ضرورة اقتصادية أملتها العلاقات ضرورة اقتصادية أملتها العلاقات الرقية لذلك العصر 183
وجاء فى نفس الكتاب ( ص 547 - 548 من الترجمة العربية ) :(1/342)
" ومع الانتقال إلى الإقطاعية صارت الأخلاق الإقطاعية هى السائدة ، فهى لا تنتظر إلى القن كشئ ، وإنما كإنسان من الدرك الأسفل ( العظم الأسود ) بينما كانت تنظر إلى ممثلى الطبقة السائدة كبشر من الصنف الممتاز ( العظم الأبيض ) وإلى جانب هذا فقد كانت الأخلاق الإقطاعية تخفى ظلم الإقطاعيين الوحشى للفلاحين وتقنع الشكل الإقطاعى للاستغلال ، ولقد كانت تصور بنفاق كبير علاقة السيد بفلاحيه كعلاقة الأب ببنيه ، يوجههم ويرعاهم ويتحمل المسئولية عنهم .
" إن دين المجتمع الإقطاعى قام بتفسير الأخلاق السائدة وبوضع الأسس لهالا ، إذ صور مطالبها وحدودها التى تعبر فى الواقع عن مصالح المستغلين كأوامر إلهية . والأخلاق الإقطاعية التى ارتكزت على الدين ساعدت على كبح جماح جماهير الفلاحين المسحوقة السوداء 184
أما فى ظل الرأسمالية فقد حدث تقدم ظاهرى يخفى المضمون الحقيقى للأخلاق الطبقية الاستغلالية .
جاء فى نفس الكتاب ( ص 458 - 459 من الترجمة العربية ) :(1/343)
" ومع هذا فقد أحرز التقدم الاجتماعى خطوة إلى الأمام على صعيد الأخلاق ، فالأيديولوجيون البرجوازيون إذ يناضلون ضد الأيديولوجية والأخلاق الإقطاعيتين ، ناضلوا فى سبيل حرية الفكر ، وحرية النشاط من أجل تحرير الفرد من كل القيود الإقطاعية الممكنة ، ولكنه مع انتصار الرأسمالية يتكشف المضمون الحقيقى لأفكار الحرية والمساواة والإنسانية البرجوازية . فالمساواة البرجوازية شكلية ، وهى تخفى تبعية العامل للرأسمالى ، والاستغلال الشديد الوطأة للمنتج المباشر . المقيد اقتصاديا من قبل الرأسماليين بقيود أقوى من أية قيود حديدة أخرى . إن الحرية البرجوازية هى تمتع الرأسماليين بحرية نشاط المؤسسة ، وفى الاستيلاء على عمل الآخرين ، وهى بالنسبة للبرليتارى بيع قوة عمله أو الموت جوعا ، والإنسانية البرجوازية أيضا هى إنسانية مجردة ، فالرأسمالية فى الواقع لا تخلق الشروط الواقعية لتطور وازدهار الشخصية ، وأكثر من ذلك فهى تحول كرامة الإنسان إلى قيمة تبادلية ، والعلاقات بين الناس إلى علاقات نقدية ، قاضية على أى نوع من الصلات بين الناس إلا صلة المصلحة المكشوفة ، صلة الدفع الخالى من العلاقات الإنسانية .
" إن مبدأ الفردية هو السائد فى سلوك البرجوازى إلا أنه ليس من مصلحة البرجوازية أن تعلن عن مصالحها الجشعة بصورة سافرة ومكشوفة ، إن البرجوازى يسعى لتبرير أنانيته وفرديته فى الوعى الأخلاقى ، إذ يصور السعى لبلوغ أهدافه الجشعة كاهتمام بالمصلحة العامة . وهنا تتجلى الفردية الحيوانية " كحرية الفرد " ويتجلى استعمار العمال " كأنقاذ للمحرومين من الجوع و " كتقديم الخبز للجائعين " ويتجلى انتاج السلع من أجل الحصول على الأرباح " كتأمين المواد الضرورية للمجمع " ، ويتبدى استعباد الشعوب الأخرى كعملية " تمدين " لها .(1/344)
" ولهذا فإن ما يميز الأخلاق البرجوازية هو طابعها المنافق عندما تتقنع شريعة الغاب فى عالم الملكية الخاصة بستار من تعاليم الأيدلوجيين البرجوازيين 185
وأما أخلاق الشيوعية فلندعهم هو يصفونها بأقلامهم .
جاء فى نفس الكتاب ( ص 471 - 572 من الترجمة العربية ) :
" إن الماركسية تنتقد دونما تحفظ محاولات علماء الاجتماع البرجوازيين ، والبرجوازيين الصغار ، لجعل الاشتراكية قائمة على " أساس أخلاقى " أى بناء نظرية الاشتراكية على أساس المبادئ الخلقية المجردة كالعدالة الخالدة والحق المطلق وغيرهما ، دون أن ينطلقوا من القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعى . وبهذا المعنى فى الواقع ليس فى الماركسية مثقال ذرة من الأخلاق كما يقول لينين .
" إن الظلم وغيره من وجهة النظر الماركسية ليس أساسيا وإنما هو نتيجة للرأسماالية . والاشتراكية لا تحتاج إلى أساس أخلاقى . وإنما إلى أساس علمى " ..
" إن أهم مبادئ الأخلاق الشيوعية نحو العمل ، والاهتمام برعاية وزيادة الأموال الاجتماعية . وفى العلاقة نحو العمل بالذات وقبل كل شئ . يتجلى الإطار الروحى الجديد للناس الذين تربوا فى المجتمع الاشتراكى . وتتلاءم مع الأخلاق الشيوعية تلك العلاقة الشريفة الطيبة نحو العمل . العلاقة نحو العمل كإبداع وكأسمى واجب للفرد تجاه المجتمع .
" إن الأخلاق الشيوعية تدين المهملين والمتقاعسين والطفيليين . إن إرادة العيش على حساب الآخرين تتناقض مع أساس المجتمع الاشتراكى ، ومع أخلاقه " .
ومن ناحية أخرى يقول إنجلز :
" إن الأخلاق التى نؤمن بها هى كل عمل يؤدى إلى انتصار مبادئنا مهما كان هذا العمل منافيا للأخلاق المعمول بها " 186
ويقول ليبنين :
" يجب على المناضل الشيوعى الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل . فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية " 2 "
ويقول أيضا :(1/345)
" إذا لم يكن المناضل الشيوعى قادرا على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقا للظروف مهما تطلب ذلك من كذل وتضليل وخداع فإنه لن يكون مناضلا ثوريا حقيقيا 187
3- الأسرة :
لا يختلف تفسيرهم للأسرة عن تفسيرهم للدين والأخلاق من حيث إنها انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية ، ومن حيث إنها متطورة على الدوام ، وليست " قيمة " ثابتة ولا قائمة بذاتها .
يقول جان فريقيل فى كتاب " المرأة والاشتراكية " ترجمة جورج طرابيشى ( ص 17 من الترجمة العربية ) .
" لا تشكل الأسرة كيانا اجتماعيا خالدا ، ولقد طرأت عليها تبدلات عديدة عبر القرون ، وهذا التطور يتحدد فى التحليل الأخير بالعامل الاقتصادى "
ثم يرسمون خطا تطوريا للأسرة يعتمد فى مراحله الأولى على ما اكتشف من أحوال القبائل المتأخرة فى مختلف قارات الأرض ، أو ما يتصورونه من أحوالها فى بعض الأحيان ( كحديثهم عن أسرة الجيل ) .
ويقسمون أطوار الأسرة إلى : أسرة الجيل ، وأسرة الشركاء ، والأسرة الزوجية والأسرة الوحدانية .
فأما أسرة الجيل ( التى يتصورونها تصورا ) فقد كانت العلاقات الجنسية مباحة فيها بين جميع أبناء الجيل الواحد أى بين الإخوة والأخوات ، ومحرمة فى مادون ذلك أى بين جيل الآباء وجيل الأبناء .
يقول إنجلز فى كتاب " أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة " ( ترجمة أديب يوسف ص 56 - 57 من الترجمة العربية ) :
" فى هذه المرحلة ( أسرة الجيل ) تصنف المجموعات الزواجية تبعا للأجيال ، جميع الأجداد والجدات ضمن حدود الأسرة هم أزواج وزوجات بالتبادل ، وكذلك الأمر فى أولادهم : الآباء والأمهات ، كما أن أولاد هؤلاء يؤلفون هم أيضا حلقة ثالثة من الأزواج والزوجات المشتركين . ويؤلف أولاد هؤلاء أعنى أولاد الأحفاد للأجداد والجدات حلقة رابعة ، وهكذا : فى هذا الشكل من الأسرة يحرم السلف والخلف فقط - الآباء والأولاد - من حقوق وواجبات زواج أحدهم بالآخر .(1/346)
" إن أسرة الجيل قد انقرضت وحتى أخشن الشعوب التى يتحدث عنها التاريخ لا تمدنا بأمثلة على هذا الشكل يمكن التثبت عنها 188
ويقول ( ص 53 - 54 من الترجمة العربية ) :
" ولئن كان ثمة أمر أكيد فهو أن الغيرة عاطفة نشأت فى عهد متأخر نسبيا ،وهذا يصدق على مفهوم " المحرم " لأن الأخ والأخت لم يكونا وحدهما يعيشان فى الأصل كما يعيش الزوج والزوجة ، بل إن العلاقات الجنسية بين الآباء والأولاد مسموح بها أيضا لدى شعوب عديدة حتى اليوم 189 وقبل اختراع المحارم ( لأن المحارم اختراع حقا ، بل اختراع ثمين جدا ) لم يكن الوصال الجنسى بين الآباء والأبناء ليثير من الاشمئزاز أكثر مما يثيره الوصال بين أشخاص من أجيال مختلفة - كذلك الذى يحدث فعلا اليوم حتى فى أكثر البلاد تظاهرا بالتزمت - من دون أن يثير النفرة الشديدة " .
ثم يقول ( ص 58 وما بعدها ) :
" إذا كان التقدم الأول يتألف من حرمان الآباء والأولاد من العلاقات الجنسية المتبادلة ، فإن التقدم الثانى يتألف من حرمان الأخوة والأخوات منها .. وقد حدثت هذه الخطوة بالتدريج ، مبتدئة فى أقرب الاحتمالات 190 بحرمان الأخوة والأخوات الطبيعيين ( أى من جهة الأم ) من العلاقات الجنسية ، وذلك فى حالات متفردة فى أول الأمر ، ثم أصبح حرمانهم بالتدريج هو القاعدة ، وتنتهى هذه الخطوة بتحريم الزواج حتى بين الأخوة والأخوات الأباعد " .
" فى جميع أشكال الأسرة الجماعية لا يعرف من هو والد الولد معرفة أكيدة ، أما والدته فتعرف معرفة أكيدة"
" وفى أغلبية الحالات يبدو 191 أن مؤسسة العشيرة قد انبثقت مباشرة من أسرة الشراء "
ويقول عن المرحلة التالية ، مرحلة الأسرة الزوجية ( ص 72 - 73 من الترجمة العربية ) :(1/347)
" فى هذه المرحلة يعيش الرجل الواحد مع امرأة واحدة ، لكن تعدد الزوجات والخيانة الزوجية يلان من امتيازات الرجال ، وإن لم يكن تعدد الزوجات يمارس إلا نادرا لأسباب اقتصادية فقط ، وفى الوقت ذاته يطلب من المرأة الإخلاص التام طوال فترة العيشة المشتركة ، فإذا زنت عوقبت بقسوة . غير أن رباط الزيجة يمكن حله من قبل أى الطرفين ، فيرجع الأولاد إلى أمهم كما كان الأمر فى السابق "
ثم يقول عن المرحلة الأخيرة - وهى الأسرة الوحدانية - ( مقتطفات من ص 95 - 102 من الترجمة العربية):
" إن الأسرة الوحدانية مبنية على سيطرة الرجل ، وهدفها الصريح إنتاج أولا لا يشك فى صحة أبوتهم ، هذه الأبوة التى لابد منها لكى يرث الأولاد فى يوم ما ثروة أبيهم ، بوصفهم ورثته الطبيعيين 192 وتختلف الأسرة الوحدانية عن الأسرة الزوجية فى أن رباط الزواج أمتن جدا منها ، ولا يعود حله الآن رهنا برضى أى من الطرفين بل يصبح الرجل - كقاعدة عامة - هو وحده الذى يستطيع الآن حل هذا الرباط وتسريح زوجته .
" كانت الزيجة الوحدانية تقدما تاريخيا عظيما ، لكنها فى الوقت ذاته دشنت هى والرق والثروة الخاصة ( يقصد الملكية الفردية ) ذلك العهد القائم إلى اليوم ، الذى يكون فيه كل تقدم تقهقر نسبيا أيضا ، العهد الذى يدرك فيه بعض الناس مصلحتهم وتطورهم بشقاء الناس الآخرين واضطهادهم .
" كانت الزيجة الوحدانية أول شكل للأسرة مبنى لا على أحوال طبيعية ( يقصد كتلك التى كانت أيام الشيوعية الجنسية ) بل على أحوال اقتصادية ، أى على انتصار الملكية الخاصة على الملكية العامة البدائية ، الطبيعية النشأة " .
أما الأسرة فى ظل الشيوعية ، فهى كالدين والأخلاق ..
جاء فى كتاب " المرأة والاشتراكية " ( ص 51 من الترجمة العربية )(1/348)
" يقول إنجلز . إن العلاقات بين الجنسين ستصبح مسألة خاصة لا تعنى إلا الأشخاص المعنيين والمجتمع لن يتدخل فيها . وهذا سيكون ممكنا بفضل إلغاء الملكية الخاصة ، وبفضل تربية الأولاد على نفقة المجتمع ، وبنتيجة ذلك يكون أساسا الزواج الاهنان قد ألغيا ، فالمرأة لن تعود تابعة لزوجها ولا الأولاد لأهلهم ، هذه التبعية التى لا ما تزال موجودة بفضل الملكية الخاصة "
ويقول إنجلز فى كتابه " أصل الأسرة " ( ص 118 من الترجمة العربية ) :
" فبانتقال وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة لا تبقى الأسرة الفردية هى الوحدة الاقتصادية للمجتمع ، وينقلب الاقتصاد البيتى الخاص إلى صناعة اجتماعية ، وتصبح العناية بالأطفال وتربيتهم من الشئون العامة . فيعنى المجتمع عناية متساوية بجميع الأطفال سواء كانوا شرعيين أم طبيعيين ، وبذلك يختفى القلق الذى يستحوذ على قلب الفتاة من جراء " العواقب " التى هى فى زمانها أهم حافز احتماعى - اقتصادى وخلقى - يعوقها عن تقديم نفسها بلا حرج لمن تحب . أفلن يكون هذا سببا كافيا لازدياد حرية الوصال الجنسى شيئا فشيئا ومن ثم لنشئو رأى عام أكثر تساهلا فيما يتعلق بشرف العذارى وعار النساء ؟!
كلام صريح لا يحتاج إلى تعليق !
? ? ?
تقويم النظرية المادية
المادية الجلدية والمادية التاريخية كما تبين من العرض السابق شيئان مترابطان فى الفكر الشيوعى لا ينفصل أحدهما عن الآخر ، ولا يفهم أحدهما فهما صحيحا بمعزل عن الآخر .. والحقيقة أن المادية الجدلية هى القاعدة التى تقوم عليها المادية التاريخية ، والمادية التاريخية هى التطبيق التفصيلى للمادية الجدلية ، أو أن العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين العظام والأنسجة الحية فى الكائن الحى .. لذلك يجدر بنا أن نناقشهما معا مجتمعين ، بدلا من أن نناقش كلا على حدته ، فنضطر إلى التكرار فى أكثر من موضع من مواضع الحديث ..(1/349)
وإذا أخذنا نناقش المادية الجدلية والمادية التاريخية فيجدر بنا أن نركز الحديث على قضايا أساسية معينة ، تندرج تحتها القضايا الأخرى كلها . وهذه القضايا الرئيسية هى : التفسير المادى للخالق ، والتفسير المادى للإنسان ، والتفسير المادى للقيم المحيطة بحياة الإنسان فى الأرض .
فإذا اتضح لنا وجه الحق فى هذه القضايا الرئيسية فإن القضايا الفرعية المترتبة عليها تكون أيسر فهما وأقل حاجة إلى النقاش .
أولا : التفسير المادى للخالق :
المادة أزلية أبدية : " لم يكن هناك وقت لمو تكن المادة فيه موجودة . ولا يجئ وقت لا تكون فيه موجودة ".
والمادة هى الخالق . هى التى خلقت الحياة والإنسان : " الإنسان نتاج المادة " .
أى شئ من صفات الله لم يلحق بالمادة ؟ إلا القصد والتدبير والحكمة . وإلههم الذى يدعونه لا حكمة له ولا قصد ولا تدبير !
? ? ?
لا شك أن ماركس وإنجلز وأضرابهما لم يكونوا أو الملحدين فى أوربا . فقد كانت موجة الإلحاد قد تفشت من قبل بين العلماء والمفكرين من جراء مفاسد الكنيسة وعبثها بدين الله .
ومن قبل قال دارون : إن الطبيعة تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق . وقال : إن الطبيعة تخبط خبط عشواء !
ومذهب عبادة الطبيعة - لا يزيد كما أشرنا من قبل - على أن يكون مهربا وجدانيا من إله الكنيسة الذى تستعبد الناس باسمه وتستذلهم وتبتز أموالهم وتحجر على عقولهم وأفكارهم ، إلى إله آخر له معظم خصائص الإله الأول ، ولكن ليست له كنيسة ولا التزامات ، وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم لا سلطان لأحد عليهم .. إلا الهوى والشهوات!(1/350)
ولكن الطبيعة على أى حال كانت تمثل فى وجدان عبادها شيئا حيا ، مبهما غير محدد السمات ، يرون " مظاهره " فى الجبال والأنهار والأشجار والأزهار والمطر والرياح والبرق والرعد والإنسان والحيوان .. أما القدرة على الخلق وإعطاء كل شئ صورته التى هو عليها ، وتنسيق وظائف كل كائن بما يلائم ظروفه .. إلى آخر تلك الصفات التى هى فى حقيقتها صفات الخالق: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [سورة طه 20/50].. وقد كانت تضفى على الطبيعة بصورة أقرب إلى خيال الفن منها إلى واقعية الفكر فضلا عن واقعية العلم .. صورة سحرية مبهمة غامضة لا تستطيع أن تمسك بها أو تحددها ، ولكما حاولت تحديدها أفلتت منك ، لأنها بطبيعة الحال وهم لا حقيقة له ، وعبادها أنفسهم لم يخرجوها من دائرة الوهم إلى نور الفكر المجدد للسمات والصفات .
ورغم أن الكلمة جرت على ألسنة العلماء كأنها حقيقة فلا شك أنها كانت عندهم - كما كانت عند غيرهم - مهربا وجدانيا أكثر مما هى عقيدة حقيقية .
كانت وثنا يلجأون إليه : يلقون إليه بحيرتهم ودهشتهم كلما فاجأهم سر من أسرار الكون العجيبة التى تشهد أن لا إله إلا الله .. فيهربون عنده من الإقرار بما يجول فى صدورهم ولا يريدون الإقرار به حتى فى سرهم وخلوتهم مخافة أن تلحق بهم الكنيسة فتوقعهم فى قبضتها ، ويحسبون أن الاحتماء بهذا الوثن سيخلصهم من حيرتهم وينقذهم منها وهيهات !
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [سورة النمل 27/14]
ولو أنهم كاشفوا أنفسهم بدلا من مغالطة أنفسهم بالوهم ، لسألوا أنفسهم هذا السؤال البدهى القريب : ما الطبيعة على وجه التحديد ؟ وأين تكمن قدرتها على الخلق ؟ فى أى مكان منها ، أم ليس لهذه القدرة مكان ولا حيز ؟(1/351)
فإذا لم تكن محسوسة ولم يكن يحدها المكان ولا الحيز ، وكانت " غيبا " لا تدركه الأبصار ، إنما تدرك أثاره فقط ومظاهره ، فما الذى يبرر فى منطق العقل أن نعدل عن الاسم الحقيقى ، اسم الله ، ونلجأ إلى مسميات ما أنزل الله بها من سلطان ؟ أو - إن كان الله فى منطق الإلحاد لا حقيقة له - فما الذى يبرر - فى منطق العقل أو فى منطق العلم - أن يقول قائل إنه ليس حقيقة حين يكون اسمه الله جل جلاله ، ثم يكون هو ذاته حقيقية حين يكون اسمه "الطبيعة " ؟ !
أهو الخوف من الكنيسة وطغيانها ؟
أو هو البغض لها والحقد عليها ؟
فليكن !
فلنهجر الكنيسة ونفر منها إلى الله الحق ، وهو إله لا كنيسة له فى الحقيقة ولا رجال دين !
ولكن أوربا الجاهلية لم ترد أن تدخل الإسلام .. ففرت من جاهلية الكنيسة إلى جاهلية لا تقل سوءا ولا انحرافا .. إن لم تكن أشد !
هذه هى الطبيعة التى " تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق " والتى " تخبط خبط عشواء " ! لم تكن قط فى يوم من الأيام " حقيقة علمية " إنما كانت مهربا من أزمة فكرية روحية فى ذات الوقت ، واجهت أوربا وحدها - لظروف محلية عندها - ولم تواجه الفكر البشرى فى مجموعة ولا الضمير البشرى !
أما المادة الأزلية الأبدية الخالقة فما قصتها ؟
وكيف نناقشها مناقشة " علمية " ؟ !
دع جانبا ما يصار يعلمه صغار الطلاب فى المدارس من أن القول بأن " المادة لا تفنى ولا تستحدث " لم يعد صحيحا من الوجهة العلمية ، وهو القول الذى تصيدوه تصديا فى نهاية القرن الماضى ليبنوا عليه تفسيرا " علميا " ! للكون والحياة والإنسان , ولقضية الألوهية كذلك !
ودع جانبا ما صار يعلمه طلاب الجامعات من البحوث الجيولوجية والفيزيائية من أن الكون المادى " حدث" ذات يوم ولم يكن موجودا من قبل ، وأن عمر هذا الون المادى فى سبيله أن يحدد تحديدا علميا دقيقا على ضوء المعلومات التى ترسلها الأقمار الصناعية التى تدور حول الشمس وغيرها من الأفلاك .(1/352)
دع ذلك جانبا ، فلم يكن ماركس وإنجلز ولينين مطالبين بثقافة علمية أكبر من ثقافة عصرهم الذى وجدوا فيه 193 ولكنهم مسئولون ولا شك مسئولية كاملة عن تلك الفرية التى لا يقوم عليها أى دليل علمى ، وهى أن المادة هى التى تخلق ، وأن من بين خلقها الإنسان !
ما الدليل العلمى على هذه الفرية ؟
متى شوهدت المادة وهى تخلق ؟ وكيف تخلق ؟ !
يقول جورج إيرل دافز عالم الطبيعة : " فالمنطق الذى نستطيع أن نأخذ به ، والذى لا يمكن أن يتطرق إليه الشك هو أنه ليس هنالك شئ مادى يستطيع أن يخلق نفسه 194
إن المؤمنين بالله ورسله يقولون إن الله ينشئ الخلق من العدم ، وإنه يقول للشئ كن فيكون ، وهم لا يزعمون أنهم يدركون الكيفية التى يخلق الله بها الخلق . ولكنهم لا يقولون إن الله مادة ، وإن الماداة تخلق المادة ، لأن هذا خبل لا يقوله عاقل .
إن المؤمنين بالله ورسله لم يروا الله جهرة ، لأن سبحانه وتعالى : {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [سورة الأنعام 6/103] ولكنهم رأوا من آثار قدرته ما يدل عليه :(1/353)
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ذَلِكُمْ اللَّهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/95-99](1/354)
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (64)} [سورة النمل 27/60-64]
ورأوا من أثار هذه القدرة ما يدلهم على أنه إله مقتدر ، حكيم مدبر ، لا يخلق شيئا عبثا ، ولا يخلق شيئا بالباطل ..
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [سورة الملك 67/3]
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)} [سورة الرعد 13/8]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة ص 38/27]
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)} [سورة المؤمنون 23/115](1/355)
والشيوعيون لا يؤمنون بذلك كله . فلا نحاسبهم بمنطق الإيمان لكنها نحاسبهم بمنطق " العلم " الذى يزعمون أنهم يقيمون عليه نظرياتهم وتطبيقاتهم كلها جميعا !!
أى منطق وأى علم يقول إن المادة يمكن أن تخلق المادة ؟
بل أى منطق وأى علم يقول إن الخالق - أيا كان هو - يمكن أن يخلق ما هو أرقى منه ؟ وكيف يسيطر المخلوق على الخالق ؟!
يقولون إن الإنسان نتاج المادة ! فكيف نتج عن المادة ؟ من الذى أنتجه ؟ وكيف استطاع - وهو ناتج عن المادة - أن يسطير عليها ويتحكم فيها ؟ !
وإذا قلنا إن المادة " تطورت " فأصبحت مادة حية ، ثم تطورت فصارت إنسانا . فهل هذا يحل الإشكال من الوجهة العلمية ؟ !
كيف تطورت ؟ ! ما الذى جد على طبيعتها - فجأة - فتطورت إلى مادة حية بينما هى كانت - فى زعمهم - موجودة على صورتها منذ الأزل ؟! وحين تطورت فلماذا لم تتطور كلها إلى مادة حية ! لماذا بقيت كميات هائلة من المادة لم تتطور من قبل ولا من بعد ؟! ولماذا حدث التطور فى اتجاه الحياة بالذات ؟ ولماذا حدث مرة واحدة ثم توقف ، فلم تعد ذرة واحدة من المادة الجامدة تتحول إلى خلية حية مهما بذل معها من التجارب ومهما تغيرت من حولها الظروف ؟
وحين تطورة المادة الحية - تلقائيا ! - فأصبحت - فى أعلى حالات تطورها - إنسانا ، فلماذا توقفت فى التطور عند الإنسان ولم تتطور إلى ما هو أعلى منه ، مع أن التطور - فى زعمهم - قانون من قوانين المادة ، والقوانين لا تتوقف عن العمل . وإلا فهى ليست قوانين !
? ? ?
ومن ناحية أخرى كيف تسنى للمادة المتطورة - التى هى الإنسان - أن تسيطر وتتحكم فى المادة التى نتجت عنها مع أن هذا ليس من قوانين المادة ! فالقانون - المزعوم - هو تطور المادة ، وليس سيطرة المتطور من المادة على غير المتطور منها !(1/356)
وهكذا نصل - علميا - إلى ذات الطريق المسدود ، سواء سرنا مع المادة الأزلية الأبدية عن طريق الخلق أو طريق التطور الذاتى ، ولا نجد هذا " العلم " يفسر لنا شيئا على الإطلاق !
إننا لن نستطيع - مهما حاولنا - أن نمسك بهذا الهراء لنضعه على مائدة البحث العلمى . لأنه لا يتماسك حتى يوضع على مائدة البحث ! وإنما نستطيع أن نفهمه فى حالة واحدة إذا أخرجناه تماما من دائرة العلم ، ونظرنا إليه من زاوية الهدف المقصود منه ، وسنجد أن هذه هى الوسيلة الصحيحة والميسرة لفهم كل " معطيات " المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ . إنها - فى الغالبية العظمى منها - ليست منطقية فى ذاتها ولكنها منطقية مع الهدف المقصود منها .
أى أن النتيجة المطلوبة توضع أولا ، ثم تساق الأدلة إليها سوقا وتحشر إلى جانب بعضها البعض حشرا ، سواء كانت متناسقة أ متنافرة ، سواء كانت مؤدية بالفعل إلى النتائج المطلوبة أم غير مؤدية ! إنما تلوى رقاب الأدلة ليا لتؤدى - بالقوة - إلى الهدف المطلوب ، ثم يقال للناس إنها نطرية " علمية وتفسير " علمى !
المطلوب أولا هو نشر الإلحاد الكامل الذى لا رجعة منه ، وإزالة أى أثر من أثار الدين يمكن أن يكون مندسا هنا أو هناك ، وإزالة أى أثر لتوفير " الخالق " من النفوس "
فحتى تسمية الخالق بالطبيعة - وهو المهرب الذى هربت به أوربا من إله الكنيسة كما أشرنا من قبل - لم يبد كافيا فى نظر المخططين لاستحمار الامميين ، وكان فى حاجة إلى خطوة " تقد=مية " أخرى تتقدم به نحو اله\ف المطلوب .
فمع الإلحاد المتمثل فى نفس الخلق عن الله ونسبته إلى الطبيعة كانت ما تزال هناك " وجدانات " تنبض تجحاه ذلك الخالق تخرج أحيانا فى صورة فن ، وأحيان فى صورة توقير لقوة أعلى من الإنسان . ويخشى إذا بقيت الأمور عند هذا الحد أن تتعقل البشرية ذات يوم وتكف عن مغالطة نفسها ، وتعود إلى الله 195(1/357)
ولكن يراد إزالة هذه البقية الباقية تماما .. فيتحول الخالق إلى مادة ويقال للناس : لا لإله ! والكون مادة !
فإذا انتفى وجود الله تماما - بزعمهم - ولم يعد هناك إلا المادة ، فالمادة لا تثير الوجدان ولا تستحق التوقير ، ومن ثم يتخلصون من ذلك العدو المرهوب ، الذى لا يخافون من شئ على الإطلاق خيفتهم منه .. ألا وهو الدين !
والمطلوب ثانيا - كما سنرى فى الحديث عن القضية الثانية - هو تحقير الإنسان وإزالة الكرامة عنه ، فإنه إذا أحس بكرامته فسيصعب بكوبه كما تركب الحمير ، لأنه سيكون معتزا بإنسانيته غير قابل للإنسياق كالدواب .
ووسائل التحقير كثيرة كما سنراها فى القضية الخاصة بالتفسير المادى للإنسان .. ولكن فى مقدمتها جميعا نفى الخلق عن الله سبحانه وتعالى - ونفى وجود الله فى الحقيقة - وجعل الخالق أو " المنتج " للإنسان هو المادة !
إن الإنسان يستمد وجوده من إلهه وخالقه ، ويستمد قدره من قدر ذلك الإله .
فحين يكون الخالق المعبود هو الله الحكيم المقدر يكون الإنسان رفيع القدر بتكريم الخالق له - سبحانه - ومستعليا بالإيمان بخالقه العلى العظيم . أما حين يتدنى الخالق حتى يصبح هو المادة ، فإن الإنسان يتدنى معه حتى يصل أسفل سافلين !
وقد هبطت البشرية هبوطا مستمرا منذ تفلتت من عبادة إلهها وخالقها ، وكانت - حين نفت الخلق عن الله ونسبته إلى الطبيعة - قد بلغت مستوى كبيرا من الهبوط . ولكنه لم يكن كافيا فى نظر المخططين بكل ما فيه من حيوانية وتبذل خلقى ، فأرادوا له مزيدا من الهبوط ، فهبطوا بالإله الخالق دركات حتى جعلوه هو المادة ، وجعلو الإنسان نتاج تلك المادة ، فأى كرامة تبقى لهذا المخلوق - حتى فى حس نفسه - حين يعرف أنه من نتاج المادة أو أنه نتاج تجور المادة ؟
لا كرامة ولا أدمية .. وهذا هو المطلوب !
? ? ?(1/358)
ولسنا نحن بحمد الله فى حاجة إلى أقوال البشر نستدل بها على وجود الله وعلى وحدانيته ، فعندنا كتابنا الذى نؤمن به ، هو حسبنا فى كل قضية من قضايا الحياة ، وقد بسط القرآن قضية الألوهية بسطا لا يحتاج إلا إلى تدبره بعقل مفتوح وقلب مفتوح .
ولكنا مع ذلك نأخذ شهادة على البشرية الضالة من علمائها فى هذا القرن الذى نعيش فيه .
" يقول رسل تشارلز إرنست " أستاذ الأحياء والنبات بجامعة فرنكفورت بألمانيا :
" لقد وضعت نظريات عديدة لكى تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس أو تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوى التى تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات .. ولكن الواقع الذى ينغى أن نسلم به هو أن جميع الجهود الذى بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع ، على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات من طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدى إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التى شاهدناها فى الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية فى أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا أو صعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذى خلق الأشياء ودبرها .
" إننى أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها ، وأن ملايين الملايين من الخلايا الحياة الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإننى أؤمن بوجود الله إيمانا راسخا 196
ويقول " إيرفنج وليام ( دكتوراه من جامعة أيووا وإخصائى وراثة التبانات ، وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان )(1/359)
" إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية فى صغرها ، والتى لا يحصيها عد ، وهى التى تتكون منها جميع المواد . كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا - بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها - كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكى تكون الحياة 197
ويقول " ألبرت ماكومب ونشستر " المتخصص فى علم الأحياء :
" ولقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء . وهو من الميادين العلمية الفسيحة التى تهم بدراسة الحياة ، وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التى تسكن هذا الكون .
" أنظر إلى نبات برسيم ضئيل وقد نما على أحد جوانب الطريق . فهل تستطيع أن تجد له نظيرا فى روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة ؟ إنه ألة حية تقوم بصورة دائبة لا تنقطع أناء الليل وأطراف النهار ، بآلاف من التفاعلات الكيماوية والطبيعية ، ويتم ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم - وهو المادة التى تدخل فى تركيب جميع الكائنات الحية .
فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة ؟ إن الله لم يصنعها هكذا وحدها . ولكنه خلق الحياة ، وجعلها قادرة على صيانة نفسها ، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل ، مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التى تعيننا على التميز بين نبات وآخر .. إن دراسة التكاثر فى الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء وأكثرها إظهارا لقدرة الله 198
ثانيا : التفسير المادى لإنسان :
بعد أن فرغنا من قضية مادية الخالق نتحدث عن قضية مادية الإنسان ، وذلك لازم لنا قبل أن نناقش التفسير المادى لمختلف نواحى النشاط الإنسانى ومجالات حياته ، كالدين ، والأسرة ، والقيم المعنوية ، والمبادئ الفكرية ، والنظم والمؤسسات .(1/360)
ولا شك أن الماديين قد تأثروا بالداروينية فى تصويرها المادى الحيوانى للإنسان ، أو هم فى الحقيقة قد استغلوا النظرية - إذ وجدوها صالحة للاستغلال - فى تشويه صورة الإنسان الكريمة العالية الوضيئة المشرقة ، وتصويره فى صورة هابطة تخدم أغراض المخطط الشرير ، إذا تحجب عن الإنسان مجالات رفعته وإشراقه ، وتوحى إليه بالهبوط فيهبط ، وتنطمس بصيرته فيصبح كما يريدون .
ولكن الحقيقة أن دارون نفسه - رغم نفيه الخالق المباشر للإنسان على صورته الإنسانية ، وإلحاقه إياه بسلسلة التطور الحيوانى - لم يهبط به إلى المستوى الذى وضعته فيه المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ . وأن هذا التفسير المادى إنما هو خطوة " تقدمية " فى المخطط الهادف إلى استحمار البشرية كلها للشعب المختار !
كان الإنسان عند دارون كائنا حيا تطور عن القدرة العليا مع فاصل تطورى تصوره ولم يعثر عليه فسماه الحلقة المفقودة ، وهى الحلقة الوسيطة بين القرد والإنسان ، كما كان الإنسان عنده متأثرا بالبيئة المادية فى تطوره من الحالة القردية إلى الحالة الإنساني ، لأن ظروف البيئة المادية هى التى أحدثت سلسلة التطور من أول الكائن الوحيدة الخلية إلى الإنسان .
ولكنه لم يكن قط فى التصور الداروينى مادة ، ولا كانت قوانين المادة منطبقة عليه ، فمنذ تحولت المادة الميتة إلى مادة حية - بصورة لم يشأ دارون أن يتعرض لها ، بل تهرب منها لكيلا تلجئه إلى الاعتراف بالإرادة الإلهية فى إخراج الحى من الميت - منذ ذلك الحين صارت لها قوانين خاصة تحكمها غير قوانين المادة الميتة ، هى قوانين الحياة .(1/361)
وكانت تلك بديهية عند دارون وعند الناس جميعا ، لا يخالجهم فيها شك لأنها أوضح من ان يثور فيها الشك . ولئن كان دارون قد رد الإنسان إلى المرتبة الحيوانية ( على أساس جسده ) مغفلا تفرد الإنسان 199 فإنه على أى حال قد ارتفع بالكائنات الحية جميعا بما فيها الإنسان - بلى هو فى قمتها - عن مجال المادة ، وجعل مجال الحديث عنها هو علم " الحياة " الذى يختلف اختلافا بينا عن علم " المادة " .
أما التفسير المادى للتاريخ فلم يشأ أن يقف بالإنسان - فى الهبوط- عند مرحلة الحيوانية التى أوقفه فينا دارون ، إنما دفعه دفعات أخرى إلى أسفل ، ليتردى فى مهاوى المادى الحالكة حيث يعود إلى التراب ، صرفا بغير روح ، ويصبح قانونه التراب !
وحدة العالم تنحصر فى ماديته ، والإنسان نتاج المادة . فإذا قيل وما الفكر ؟ فالفكر نتاج الدماغ ، والدماغ مادة !!
منطق علمى " عجيب ، غاية فى العجب فى الحقيقة !
فلتكن وحدة العام منحصرة فى ماديته كما كان العلم الناقص يقول على أيام ماركس وإنجلز ولنين قبل تفجير الذرة واستخلاص " الطاقة " من داخلها . . فما صلة ذلك بالإنسان ؟!
الكون المادى مادة . والحياة حياة ، والإنسان إنسان !
وليكن الدماغ مادة .. فهل كل مادة تنتج الفكر ؟!
وإذا كان الأصل فى الفكر هو مادة الدماغ ، فهل يختلف مخ الطفل الوليد عن مخ الإنسان الناضح ، من حيث تركيبه " المادى " ؟ ! فلماذا لا يفكر الطفل بينما يفكر الإنسان الناضج ؟ ولماذا يفكر الطفل - حين يبدأ يفكر - على نحو مختلف عن تفكير الإنسان الناضج من جميع الوجوه ؟ هل هناك عناصر " مادية " تضاف إلى مخ الطفل فيصبح مخ إنسان ناضج ؟ وما تلك العناصر على وجه التحديد ؟ !
وأمخاخ الناس جميعهم - من حيث التركيب المادة - متشابهة إن لم تكن متماثلة . فلماذا يختلف تفكير شخص عن شخص آخر اختلافا تام مع عدم وجود اختلاف فى " المادة " التى يصدر عنها هذا الفكر وذاك ؟ !(1/362)
وحين يكون الإنسان متدينا ثم يصبح شيوعيا - مثلا - فهل تتغير " مادة " مخه ، بحيث لو كشفنا على مخه لأبصرنا تغيرا معينا ملموسا طرأ عليه ، فأسود - مثلا - بعد ابيضاض ، أو زادت فيه كمية الناحس ونقصت كمية الفوسفور ؟!
أى سخف فى هذا " العلم " يبعث الغثيان !
والشيوعية تقول إن الإنسان سيد هذا الكون 200 فكيف يخلق الكون سيده كما تساءلنا من قبل ؟ ثم كيف يكون السيد من نفس مادة المسود بلا زيادة ؟ ! ما الذى يجعله سيدا إذن إذا كان من نفس التركيب ؟ !
إن المؤمنين بالله ورسله يؤمنون بأن الإنسان من مادة هذا الكون :
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)} [سورة الحجر 15/26]
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)} [سورة ص 38/71]
ولكنهم يؤمنون بأن هناك شيئا آخر غير الطين هو الذى جعل الإنسان إنسانا وميزه على بقية الخلق . ذلك هو النفخة العلوية فيه :
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/71-72]
فإذا جرده الشيوعيون من نفخة الروح وجعلوه طينا فحسب ، فكيف يفسرون سيادة الطين على الطين ، أو سيادة جزء من المادة على بقية المادة المماثلة لها تماما فى التركيب ؟!
وكيف يكون هذا منطقا " علميا " تبنى عليه نظرية علمية وتفسير علمى للحياة البشرية ؟!وهل حدث خلال ألوف الملايين من السنين أن خرجت قطعة من المادة فسودت نفسها أو زعمت لنفسها سيادة على بقية المادة المتفقة معها فى جوهرها وأعراضها ؟
أم لابد بداهة أن تكون قطعة المادة التى سودت نفسها أو منحت السيادة على بقية المادة ، متميزة فى تركيبها عن بقية المادة وزائدة عنها بنوع من الزيادة أيا كان ؟(1/363)
فإذا كان ذلك كذلك فكيف تكون قوانين المادة العادية منطبقة بحذافيرها على قطعة المادة التى تميزت عنها فى تركيبها وزادت عليها زيادات ؟
أليست الزيادة التى اقتضت التميز والسيادة - أيا كان نوعها - تقتضى أن يكون لها معاييرها الخاصة وقوانينها الخاصة ؟
وهل يكفى أن يقول الإنسان بلسانه - كما يقول التفسير المادى للتاريخ - إن الإنسان هو أعلى " تطور " حدث فى عالم المادة ، إذا كان سيعود فيلغى هذا " التطور " ويعامل الإنسان بقانون المادة البحث بلا تغيير ؟
ما قيمة التطور إذن - إذا سلمنا جدلا بأن الإنسان مادة متطورة - بل ما قيمة " أعلى درجات التطور ، إذا كنا سنعود فنعامل المادة المتطورة بقوانين المادة غير المتطورة ؟
وما هذه الحيرة والبلبلة : مرة نعامل الإنسان على أنه أعلى درجات التطور فى عالم المادة ، ومرة نعامله بقوانين الطين مجردة عن كل زيادة . أم هذا هو " الإنسان الطينى " الذى يصفه ويتكلم عنه التفسير المادى للتاريخ !
? ? ?
انطبقا قوانين المادة الجامدة على الإنسان أسطورة " علمية " غير مسبوقة فى تاريخ الفكر البشرى ، تسجل " براءة " اختراعها والحق يقال للماديين الشيوعيين ، وإن كانت لا تحمل " براءة " على الإطلاق !
إنها مجرد هراء يتلبس بزى علمى مزيف ، لا يمكن تفسيره إلا إذا أخرجناه تماما من دائرة العلم ، ونظرنا إليه من زاوية الهدف المقصود منه ، كما أسلفنا من قبل ونحن نتحدث عن التفسير المادى للخالق .
والمقصود - من ناحية - هو مسخ الإنسان وتشويهه والهبوط به إلى الدرك الأسفل - أسفل درك يمكن أن يصل إليه - ليتحقق المخطط الكبير ، مخطط استحمار الأميين لحساب الشعب المختار .(1/364)
والمقصود - من ناحية أخرى هو القول بأن هناك متناقضات متصارعة فى حبة البشر على الأرض ، وأن صراع المتناقضات سيؤدى فى النهاية - عن طريق التطور الحتمى - إلى الشيوعية ( وهى آخر مخترعات المخطط اليهودى بعد الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية لاستحمار الأمميين ووضعهم بصورة نهائية فى قبضة الشعب المختار ) .
فإذا كان هذا هو المقصود ، فلنقل إذن إن الإنسان مادة ، وإن التناقض والتطور من قوانين المادة ، وإن قوانين المادة تنطبق على الإنسان ، وإن التناقض وصراع المتناقضات حادث فى عالم الإنسان ، ومؤد فى النهاية - عن طريق التطور الحتمى - إلى الشيوعية !
وهى كما ترى لفة طويلة ما كان الشيوعيون أنفسهم فى حاجة إليها - حتى وهم يريدون أن يسوقوا الناس إلى الشيوعية - فقد كان يكفيهم لهدفهم الأخير أن يقولوا إن الحياة البشرية مليئة بالمتناقضات التى يصارع بعضها بعضا ، وإن هذا الصراع لابد أ، يؤدى فى نهاية المطاف إلى غلبة الشيوعية وتحول البشر كلها إليها .
كان هذا يكفى .. لولا أن الهدف الأول - كما قلنا - هو مسخ الإنسان والهبوط به إلى الدرك الأسفل ، فلزم أن يلحق الإنسان بالمادة ويرتبط بقوانين المادة خشية أن ينفلت ذات يوم من القبضة الشريرة إذا بقيت له صفة الأدمية ، ومن صفات الأدمية حرية الاختيار ! وحتى لا يرتفع رأس واحد من بين الأممين يقول " أنا إنسان " !
وهذا هو المنطق الحقيقى الذى يفسر التفسير المادى للتاريخ ، حيث يعجز أى تفسير علمى عن تفسير هذا التفسير !!
إذا فهمنا ذلك " السر " لم يعد يكرثنا كثيرا أن نناقش قضية التفسير المادى للإنسان مناقشة موضوعية مطولة . لكنا نقول فقط أن " إنسانية " الإنسان لا باديته ولا حيوانيته ، أظهر من أن يجادل فيها المجادلون .. ولكنه الهوى الذى يتخذ الزى العلمى المزيف : {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون 23/71](1/365)
ولقد كان دارون هو الذى وجه اللطمة الكبرى لإنسانية الإنسان حين زعم أنه حيوان ، وأنه نهاية سلسلة التطور الحيوانى بلا زيادة ، فاليوم ينقض العلم الداروينى ذاته مقالة دارون ، ويؤك على إنسانية الإنسان .
يقول " جوليان هكسلى : وهو عالم داروينى ملحد متبجج بالكفر ، فى كتابه " الإنسان فى العالم الحديث Man in the Modern World "
" وبعد نظرية دارون لم يعد الإنسان مستطيعا تجنب اعتبار نفسه حيوانا ، ولكنه بدأ يرى نفسه حيوانا غريبا جديا . وفى حالات كثيرة لا مثيل له . ولا يزال تحليل تفرد الإنسان من الناحية البيولوجية غير تام .
" وأولى خواص الإنسان الفذة وأعظمها وضوحا . قدرته على التفكير التصويرى ، وإذا كنت تفضل استخدام عبارات موضوعية ، فقل : استخدامه الكلام الواضح .
" ولقد كان لهذه الخاصية الأساسية فى الإنسان نتائج كثيرة ، وكان أهمها نمو التقاليد المتزايدة .
" ومن أهم نتائج تزايد التقاليد - أو إذا شئت - من أهم مظاهره الحقيقية ما يقوم به الإنسان من تحسين فيما لديه من عدد وآلات .
" وإن التقاليد والعدد لهى الخواص التى هيأت للإنسان مركز السيادة بين الكائنات الحية .. وهذه السيادة البيولوجية فى الوقت الحاضر خاصية أخرى من خواص الإنسان الفذة .. ولم يتكاثر الإنسان فحسب ، بل تطور ، ومد نفوذه ، وزاد من تنوع سبله فى الحياة .(1/366)
" وهكذا يضع علم الحياة الإنسان فى مركز مماثل لما أنعم به عليه كسيد المخلوقات كما تقول الأديان . ومع ذلك هناك فروق ، وفروق هامة بعض الشئ ، بالنسبة لنظريتنا العامة ، فمن وجهة النظر البيولوجية لم تخلق الحيوانات الأخرى لخدمة الإنسان ، ولكن الإنسان تطور بصورة مكنته من التخلص من بعض الأنواع المنافسة ، ومن استبعاد أنواع أخرى بالاستئناس ، ومن تعديل الأحوال الطبيعية والبيولوجية فى معظم أجزاء اليابس من الكرة الأرضية . ولم تكن وجهة النظر الدينية صحيحة فى تفاصيلها أو فى كثير مما تتضمنه ولكن كان لها أساس جيولوجى متين 201
" ولقد أدى الكلام والتقاليد والعدد إلى كثير من خواص الإنسان الأخرى ، التى لا مثيل لها بين المخلوقات الأخرى .. ومعظمها واضح معروف ، ولذلك أرى عدم التعرض لها حتى انتهى من التحدث عن الخواص غير المعروفة كثيرا ، لأن الجنس البشرى - كنوع - فريد فى صفاته البيولوجية الخالصة . ولم تلق تلك الصفات من العناية ما تستحق ، سواء من وجهة نظر علم الحيوان ، أو من وجهة نظر علم الاجتماع .
" .. وأخيرا فإن الإنسان لا مثيل له بين الحيوانات الراقية فى طريقة تطوره .
" وإن خاصية الإنسان الجوهرية ككائن حى مسيطر لهى التفكير المعنوى ..
" يجب ألا يعزب عن بالنا أن الفرق بين الإنسان والحيوان فى العقل أعظم بكثير مما يظن عادة .
" .. ولهذه الزيادة فى المرونة نتائج أخرى - سيكلوجية - يتناساها رجال الفلسفة العقلية .. والإنسان فريد أيضا فى بعضها . وقد أدت هذه المرونة مثلا إلى حقيقة أن الإنسان هو الكائن الحى الوحيد الذى لابد أن يتعرض للصراع النفسى .
" .. وفى الحقيقة إن منع النزاع بين طرق العمل المتعارضة لظاهرة عامة جدا ، وذات منفعة بيولوجية ، وهى ليست إلا خاصية العقل البشرى الذى مكن الإنسان من التخلص من هذا النزاع .(1/367)
" . وعندما نصل إلى المستوى الإنسان نجد تعقيدات جديدة ، لأن من خصائص الإنسان كما رأينا التغلب على شدة الغريزة .
" .. وهذه الخواص التى أمتاز بها الإنسان - والتى يمكن تسميتها نفسية أكثر منها بيولوجية - تنشأ ن خاصة أو أكثر من الخواص الثلاث الآتية :
" الأولى : قدرته على التفكير الخاص والعام .
" الثانية : التوحيد النسبى لعملياته العقلية بعكس انقسام العقل والسلوك عند الحيوان .
" الثالثة : وجود الوحدات الاجتماعية مثل القبيلة والأمة والحزب والكنيسة ( الجماعة الدينية ) وتمسك كل منها بتقاليدها وثقافتها .
" .. ولكن لا يكفى هنا أن نحصى بعض أوجه النشاط .. ففى الحقيقة أن معظم أوجه نشاط الإنسان وخواصه نتائج ثانوية لخواصه الأصلية . ولذلك فهى مثلها فذة من الناحية البيولوجية
" ثم إن التخاطب والألعاب المتظلمة والتعليم والعمل بأجر وفلاحة البساتين والمسرح والضمير والواجب والخطيئة والذلة والرذيلة والندم ، كلها نتائج ثانوية ( لخصائصه الأصلية ) والصعوبة فى الواقع هى إيجاد نشاط للإنسان لا يكون فريدا .. بل إن الصفات الأساسية البيولوجية مثل الأكل والنوم والاختلاط الجنسى زينها الإنسان بكل المحسنات الفريدة .
" وقد يكون لتفرد الإنسان نتائج ثانوية أخرى لم تستغل بعد .. وبذلك قد يكون الإنسان فريدا فى أحواله أكثر مما نظن الآن 202
ويقول رينيه دوبو فى كتابه " إنسانية الإنسان " ( ترجمة نبيل صبحى الطويل ص 138 - 139 من الترجمة العربية ) :(1/368)
" وأكثر السلوك فى الحيوانات بما فيها العليا غريزى لا صلة له بالعقل والحجى ، ومن النادر - إن لم يكن من المستحيل - أن تجد هذا السلوك متوجها نحو المستقبل البعيد الذى يحاول الحيوان التكهن به والسعى لإيجاده . وبالمقابل فإن ردود فعل الإنسان لأكثر الإشارات المحيطية تتأثر بعمق بتكهناته عن المستقبل ، سواء كانت هذه التكهنات مبنية على الخوف أو الحقائق المعلومة أو الرغبة فى الإنجاز ، أو فقط على الآمال الحالمة ، والحقيقة أن ميل الإنسان لتخيل الأشياء التى لم تجد بعد ، أو التى لن تقع بدون إرادة وعمل حر يقوم به ، هى الناحية البارزة التى تميزه بوضوح تام عن الحيوان ، وهى التى تسهم كثيرا فى تعقيد بنيته النفسية التى أعيت الأطباء .
" ومن أبرز النواحى المميزة للإنسان ميله للسمو على الدوافع البيولوجية البسيطة ، فعنده الاستعداد لتحويل العمليات العادية فى وجوده إلى أعمال وأعراض ومطامح ليس لها ضرورات بيولوجية ، وربما تكون متعارضة مع استمرار حياته . أكثر من ذلك إن الإنسان يميل ليرمز لكل شئ يحدث له ثم يتفاعل مع هذه الرموز كما لو أنها إثارات محيطية حقيقية ، فرد فعل شخص معين على عامل محيطى ، مشروط فيزيولوجيا ونفسيا بتجاربه الذاتية الماضية ".
ويقول ( ص 14 من الترجمة العربية ) .
" ويتمتع الإنسان بقدر كبير من الحرية فى الاختيار والتقرير .. فهو المتميز فى كونه قادرا على الاختيار والتمحيص والتنظيم .. ومن هذه يأتى الإبداع "
ويقول ( ص 164 من الترجمة العربية ) .(1/369)
ومن المعروف أن كل مظاهر الحياة مشروطة بالوراثة وتجارب الماضى وعوامل البيئة ، إلا أنه من المعروف أيضا أن الإرادة الحرة تمكن البشر من النمو على ضوابطه " التحديدية البيولوجية " فالقدرة على الاختيار بين الأفكار وأساليب الأفعال المختلفة يمكن أن تكون أهم صفات الإنسان . لقد كانت فى الغالب - ولا تزال - محددا هاما فى تطور الإنسان . وأكثر ما يستنكر فى علوم الحياة كما تدرس الآن هو أنها تجاهلت متعمدة أهم ظاهرة فى حياة الإنسان .. ألا وهى الحرية .
ويقول ( ص 169 من الترجمة العربية ) .
" حرية الإنسان تعنى - من ضمن ما تعنيه - قدرته على التعبير عن إمكانياته الكامنة وقدرته على الاختيار واستعداده لقبول المسئوليات . كل هذه وأمثالها من النشاطات التى تضم الاختيار والتقرير لتسمو على التحديدية الجبرية التى تسم عمليات الآلة "
ويقول ( ص 262 من الترجمة العربية ) :
" ويدرك البشر العالم بحواسهم . ومن التناقض أن كثيرا مما يقدرونه فى العالم من حولهم لا يعتمد على هذا الإدراك الحسى . والواقع أن كثيرا من بنى الإنسان ضخوا بوجودهم المادى على مذبح قيم غير مادية تدركها الروح ولا يحسها جسم اللحم والدم "
" هذا ما يقوله " العلم "
فأى هاوية سحيقة تلك التى يهوى بالإنسان إليها ذلك التفسير المادى للإنسان ، حين ينزع عنه مقومات إنسانيته الأصيلة ، ويرده إلى المادةة ، ويجعل قوانينها هى قوانينه ؟ !
أى إلغاء لحرية الإنسان وكرامته .. وأى تحقير له أشد من هذا التحقير ؟ !
فإذا علمنا أن هذا هو المطلوب ..
إلغاء الحرية لكى لا يختار الأمميون لأنفسهم طريقا غير الذى يرسمه لهم شعب الله المختار . وإلغاء الكرامة لكى لا يستنكفوا من العبودية التى يري أن يفرضها عليهم ذلك الشعب . والتحقير لكى لا يرفعوا رؤوسهم بالتمرد على التسخير الذى يسخرهم إياه .
إذا علمنا أن هذا هو المطلوب ، أدركنا الهدف " الضخم " الذى يحققه التفسير المادى للإنسان !(1/370)
ثالثا التفسير المادى للقيم الإنسانية :
منذ جعل الإنسان مادة فقد ألغيت فى الحقيقة كل القيم على الفور ، ولم يعد لها مكان فى حياة الإنسان ، فأنى للمادة - مهما تطورت - أن يكون لها قيم - روحية أو نفسية أو خلقية ؟ ! ولكن الشيوعية ما كانت تملك أن تتجاهل ودود القيم فى التاريخ البشرى ، فكان لابد من أن تعطيها تفسيرا ما .. يفسدها ويشوهها ليقضى عليها فى النهاية . والتفسير المادى للقيم هو الأداة التى اختارتها الشيوعية لأداء جريمتها الكبرى ، فهى تتظاهر بإعطاء تفسير لتلك القيم ، بينما ذلك التفسير فى الحقيقة يلغى القيم إلغاء باتات ويقضى عليها من منبتها !
ومع ذلك فسنتجاهل هذه الحقيقة ، ونأخذ الأمر كأنه جاد ، ونستعرض التفسير المادى للقيم الإنسانية ونناقشه مناقشة موضوعية !
يتمثل التفسير المادى للقيم الإنسانية فى مجموعة من الخطوات أو مجموعة من النقاط نجملها فيما يلى :
1) تضخيم العامل المادى والاقتصادى وجعله أساس كل شئ فى حياة الإنسان .
2) اعتبار القيم المعنوية كلها مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى .
3) نفى وجود قيم ثابتة بحكم التطور الذى يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادى والاقتصادى .
4) السخرية بالدين وتسخيفه وتهوين شأنه ورده إلى أسباب مادية واقتصادية .
5) السخرية بالحق والعدل الأزليين ، والقول بخضوع الناس للحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية :
ولنأخذ فى شئ من التفصيل لكل نقطة من هذه النقاط .
1- تضخيم العامل المادى والاقتصادى :
يتبين لنا من العرض الذى عرضناه من أقوال المفكرين الشيوعيين والمؤسسين للفكر المادى إلى أى مدى يعتبر أولئك المفكرون العامل المادى والاقتصادى أساسا لكل شئ فى حياة الإنسان . ويكفينا أن نعود إلى قولتى مواركسى وإنجلز فى هذا الشأن .(1/371)
" فى الانتاج الاجتماعى الذى يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها، وهى مستقلة عن إرادتهم . فأسلوب الانتاج فى الحياة المادية هو الذى يحدد صورة العلميات الاجتماعية والسياسية والمعنوية فى الحياة ..
ليس شعور الناس هو الذى يعين وجودهم ، بل إن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم " ( كارل ماركس ).
" تبدأ النظرية المادية من المبدأ الآتى : وهو أن الإنتاج وما يصاحبه من تبادل المنتجات هو الأساس الذى يقول عليه كل نظام اجتماعى . فحسب هذه النظرية نجد أن الأسباب النهائية لكافة التغيرات أو التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها فى عقول الناس ، أو فى سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين ، وإنما التغييرات التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل " ( فردريك إنجلز ) .
وهما قولتان واضحتا الدلالة فى أن الأصل فى اعتبارهم ليس هو " إنسانية " الإنسان ، ولا القيم المعنوية التى ينبغى أن تقوم عليها حياته . إنما هو الوضع المادى والاقتصادى الذى يكون الناس عليه ، لأن هذا الوضع هو الذى يحدد مشاعر الناس وأفكارهم وعقائدهم ، كما يحدد نوع المؤسسات التى تقوم فى حياتهم ووظيفة كل واحدة من هذه المؤسسات .
ومن خلال تفسيرهم للتاريخ البشرى يتبدى مدى تعمق هذه الفكرة فى تصورهم .
فالشيوعية الأولى - كما يصفونها 203 حالة من الهدوء والاستقرار والسعادة والتعاون الأخوى . وهى كلها قيم معنوية سببها الوحيد هو عدم وجود ملكية فردية ، وقيام الحياة على الملكية الجماعية أو المشاعية ، وهو سبب اقتصادى بحت .
وتحول نظام الأسرة من التبعية للأم إلى التبعية للأب ، ومن ثم سيطرة الأب على الأسرة بجميع أفرادها من زوجة وأطفال ، يرجع إلى سبب اقتصادى مادى بحت هو ظهور الملكية الفردية مع اكتشاف الزراعة واكتشاف الرجل أنه يمكن أن يورث أبناءه مما يملكه !(1/372)
وتحول البشرية من حالة الشيوعية الأولى إلى الرق يرجع إلى ذات السبب الاقتصادى المادى وهو اكتشاف الزراعة ونشأة الملكية الفردية ، فعندئذ استرقت القبائل القوية القبائل الضعيفة وأجبرتها على العمل فى الأرض لحسابها .
وتحول الناس من الرق إلى الإقطاع سببه هو اكتشاف المحراث - وهو سبب مادى ترتبت عليه نتائج اقتصادية - إذا اكتشف الإنسان أنه يستطيع باستخدام المحراث أن يزرع مساحة أكبر بكثير مما كان يزرعه بالأدوات البدائية السابقة ، فنشأت المزارع الكبيرة التى يستخدم فيها رجل واحد مجموعة كبيرة من البشر عبيدا للأرض أو إجراء يعملون لحسابه ويكونون تحت سيطرته .
وتحول الناس من الإقطاع للرأسمالية سببه هو اختراع الآلة - وهو كذلك سبب مادى ترتبت عليه نتائج اقتصادية - فقد تحولت الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية رأسمالية ، وصار صاحب رأس المال يستخدم مجموعة كبيرة من البشر أجراء - بأجر ضئيل - يعملون لحسابه ، وينتجون إنتاجا يستولى عليه هو ويربح من بيعه أرباحا طائلة يزيد بها رأس ماله وقدرته على استخدام الأجراء لحسابه .
وتحول الناس أخيرا إلى الشيوعية سببه الصراع بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال على ملكية الإنتاج - وهو سبب اقتصادى بحت - وينتهى ذلك الصراع بالقضاء على طبقة الرأسماليين وحلول العمال محلهم فى الملكية والسيطرة جميعا .
وبالإضافة إلى هذه الخطوط العريضة فى حياة البشرية ، التى ترجع كلها - فى اعتبارهم- إلى أسباب مادية واقتصادية بحتة ، فإن الخطوط الأكثر دقة ترجع كلها كذلك إلى أسباب مادية واقتصادية .(1/373)
فوجود الدين فى المرحلة الاقطاعية وضعفه وتقلصه فى المرحلة الرأسمالية والشيوعية سببه أن طبيعة الإنتاج فى العهد الإقطاعى - أى الإنتاج الزراعى - تجعل الإنسان متدينا ، لأن الإنسان لا يملك - فى العملية الزراعية - إلا وضع البذور فى الأرض وتغذيتها بالماء والأسمدة ، ولكنه لا يملك إنبات البذرة ولا استعجال نموها ولا حماية المحاصيل من عوارض الجو والآفات ، فيتوهم - أو يفترض - وجود قوة خفية ( غيبية ) ينسب إليها القدرة على كل العمليات التى لا يقدر هو عليها من إنبات وإنماء وحماية ، ويروح يتعبدها ويتقرب إليها بالقرابين لكى ترضى عنه وتحفظ له محصوله الذى يعيش عليه .. بينما لا تحتاج طبيعة الإنتاج فى المرحلة الرأسمالية والشيوعية إلى افتراض تلك القوة الخفية الغيبية . لأنه إنتاج صناعى . يسيطر العامل فيه على عملية الإنتاج من أولها إلى آخرها ، ولي فيها جانب خفى كعملية الإنبات والإنماء ، ولا جانب خارج عن قدرة العامل كالعوارض الجوية والآفات ، ومن ثم لا يحتاج الإنسان إلى عبادة شء خارج عن نطاق الإنسان ،فيتضاءل وجود الدين حتى ينتهى تماما فى النهاية .(1/374)
ووجود أخلاقيات الجنيس فى العهد الزراعى ، والحفاظ الشديد على العرض ، وإعطاء العفة الجنسية أهمية بالغة ، ووجود الغيرة فى نفس الرجل على زوجته ، كل ذلك رادع إلى سبب اقتصادى بحت ، هو أن الرجل فى المجتمع الزراعى هو المنتج الأصلى وهو المتكسب وحده وهو الذى ينفق على زوجته وأسرته ، ومن ثم تدعوه سيطرته - الاقتصادية الأصل والمظهر - إلى التحكم فى المرأة وفرض أخلاقيات الجنس عليها ، فيفرض عليها العفة قبل الزواج وبعده ، ويفرض عليها أن تكون له وحده حين يتزوج ، ومن ثم تصبح العفة فضيلة خلقية واجتماعية يحرص المجتمع عليها ويشدد فى شانها ويعطيها تلك الأهمية البالغة .. بينما تفقد العفة وأخلاقيات الجنس قيمتها - ووجودها - فى المجتمع الصناعى لسبب اقتصادى كذلك ، وهو تحرر المرأة اقتصادية ومشاركتها للرجل فى العمل وتكسبها بنفسها ، وذلك يحررها من كونها عالة على الرجل .. فيفقد الرجل سيطرته عليها ، ولا يعود يحق له أن يطالبها بالعفة قبل الزواج ولا بعده ، ولا أن يطالبها بأن تكون له وحده بعد زواجها - تلك المطالبة التى كانت قائمة على أسباب اقتصادية بحتة - ومن ثم لا تعود العفة تعتبر فضيلة فى المجتمع الصناعى ، ولا يهتم الناس بوجودها ، وتصبح حرية المرأة فى أن تتصرف فى نفسها هى الأمر الشائع فى المجتمع .(1/375)
كذلك الأمر مع الأسرة . فوجود الأسرة الكبيرة المترابطة فى المجتمع الزراعى هو ظاهرة اقتصادية بحتة ، سببها حاجة العمل الزراعى إلى تكاتف الأيدى العاملة وتعاونها ، وترتب زيادة الربح على زيادة الأيدى العاملة التى تعمل فى وحدة متجانسة . بينما يرجع تفكك الأسرة فى المجتمع الصناعى إلى فردية الإنتاج وفردية الإنفاق . فأسلوب العمل ذاته يجعل كل فرد يعمل مستقلا عن الآخرين ، ثم إن كل عامل يعمل يتناول أجره بمفرده مستقلا عن الآخرين . . ومن ثم لا تؤدى الأسرة الكبيرة مهمة اقتصادية فى حياة المجتمع الصناعى فتتفتت وتحل محلها الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم ، والأطفال .. ثم تتفتت هذه بدورها لأسباب اقتصادية كذلك ، وهى عمل المرأة فى المصانع والوظائف وغير ذلك ، فيصبح رباط الزواج ذاته واهيا يمكن أن ينحل فى أية لحظة ، بل يمكن أن يلغى إلغاء كاملا فى أى وقت ، وتحل محله العلاقات الجنسية الحرة ، وتصبح هى الأساس فى المجتمع الجديد .
2- اعتبار القيم المعنوية كلها مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى :
هذه النقطة فى الحقيقة تحصيل حاصل بالنسبة للنقطة السابقة ، فحين نقول إنهم يضخمون العامل المادى والاقتصادى ويجعلونه أساس كل شئ فمعنى ذلك من جهة انه يصغرون من القيم الأخرى - غير المادية - ولا يعطونها المكانة اللائقة ، ومن جهة أخرى أنهم يعتبرونها نابعة من القيم المادية ومترتبة عليها .(1/376)
ولكنا نريد أن نلفت النظر فى هذه النقطة إلى مزيد من تحقير القيم المعنوية ينشأ من القول بأنها مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى . فعلوم أن البشرية قد تعلقت - منذ مولدها - بالقيم العليا من صدق وعدل وخير وفضيلة وأمانة ونظافة سلوك .. الخ .. وسواء مارس الناس هذه القيم والفضائل بالفعل أم بعدوا عنها فى سلوكهم العملى كل البعد أو ناقضوها مناقضة صريحة ، فإنهم يتغنون بها فى فنونهم وآدابهم ، ويعجبون بها إذا رأوها ممثلة فى سلوك واقعى ، ما لم يكونوا مرضى القلوب بصورة غير معتادة ، ينفرون من الخير ويهشون للرذيلة والانتكاس لأن رؤية الخير تذكرهم بانتكاسهم فيكرهونه ، ورؤية الرذيلة تغطى مواقفهم فيهشون لها ،كالذين قال الله فيهم :
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [سورة النساء 4/89]
وتعلق البشرية بالقيم العليا - ولو لم تمارسها بالفعل فى سلوكها الشخصى - يعتبر فى ذاته عقبة فى سبيل استحمار الأممين وتسخيرهم لما يراد تسخيرهم له ، ولم يكتف المخططون بإبعاد البشرية عن هذه القيم فى عالم الواقع ، ولهم الحق ألا يكتفوا فما دام هذا التعلق باقيا فى النفوس فهى عرضة أن تعتدل من انتكاستها فى أية لحظة وتحول هذا التعلق النظرى - او المتمنى - إلى تعلق واقعى يتخذ صورة سلوكية مطبقة فى عالم الواقع ، وعندئذ يفسد المخطط كله ، ويضيع التعب الذى بذل فيه !
لذلك ينبغى أن يزال تعلق البشرية بتلك القيم بكل وسيلة ممكنة . ومن بين الوسائل المؤدية إلى ذلك أن يقال إنها ليست قيما قائمة بذاتها ، إنما هى مجرد انعكاس لقيم أخرى أو أوضاع أخرى هى وحدها صاحبة الأصالة وهى وحدها الجديرة بالاهتمام .
هنا يذكرنا ماركس بفرويد !(1/377)
ففرويد - فى اخصاصه - يهدف إلى ذات الهدف الذى يسعى إليه ماركس !ويريد - مثله - أن يصرف الناس عن التمسك بالقيم العليا لأنها عدو مشترك لكل من يسعى لإفساد البشرية واستعبادها لشعب الله المختار .. ومن ثم ينفى أنها قيم قائمة بذاتها ويقول إنها انعكاس لشئ آخر ! فالدين ناشئ عن عقدة جنسية هى عقد أوديب ، والتسامى ناشئ من الكبت ، كما أنه لون من ألوان الشذوذ !
وإذا كان فرويد قد رد القيم كلها إلى الجنس ليحقرها ويذهب عنها مالها فى نفوس الناس من توقير وإعجاب وتطلع ، فإن ماركس وأصحابه قد ردوها إلى القيم المادية والأوضاع الاقتصادية لذات الغاية .. فمعلوم أن الناس تحتقر القيم المادية ولو شغلت بها فى حياتها الواقعية مشغلة كاملة ! فيجئ ماركس فيرد إليها القيم العليا كلها فيذهب التوقير عنها فى التو ويذهب الإعجاب والتطلع ، وتفرع من مضمونها الحيقى وتصبح صورة شاحبة لا يتعلق بها قلب ولا ترتبط بها مشاعر ! ويصبح التوقير والتعلق كله موجها إلى القيم المادية والأوضاع المادية ، وما أضيق النفس حين تنحصر فى هذا المحيط الضيق ، وما أخسرها حين تغلق كل منافذ النور ، وتفتح ذلك المنفذ الواحد الذى يتعامل مع الإنسان الطينى وحده ، ولا يتعامل مع الإنسان المتكامل الذى خلقه الله من قبضة من طين الأرض ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه لتسجد له الملائكة الأطهار !
3- نفى وجود قيم ثابتة بحكم التطور الذى يغير القيم كلها كلما تغير الوضع المادى والاقتصادى :
لم يكتف الماديون فى تحقير القيم الإسنانية بقولتهم السابقة ، التى تنفى الأصالة عنها وتجعلها مجرد انعكاس لقيم أخرى - مادية - بل مضوا شوطا آخر فى تحقيرها فقالو إنها ليست ثابت ، إنما هى دائمة التغير كلما تغير الوضع المادى والاقتصادى !(1/378)
بمعنى آخر : يا أيها المثاليون المغفلون 204 ! إنكم تبحثون عن سراب لا وجود له فى الحقيقة ، حين تتكلمون عن الحق ، والعدل ، والخير ، والفضيلة ، والجمال والصدق ، والأمانة .. الخ .. إنها كلمات جوفاء يملؤها كل جيل بما يحلو له ، ولكنها هى فى ذاتها ليست شيئا ثابتا محددا يمكن التعرف عليه !
هنا يذكرنا ماركس بدور كايم !
العقل الجمعى هو الذى يضع القيم والنظم والتقاليد والأخلاق .. وهو لا يثبت على حال ، يحل اليوم ما حرمه بالأمس ، ويحرم غدا ما يحله اليوم !
نفس الهدف ونفس الوسيلة .. كل فى اختصاص من اختصاصا " العلم " !
فالعلم الماركسى يقول إنه كلما تغير الوضع المادى أو الاقتصادى تغيرت معه جميع القيم وجميع المعايير .
تغيرت صورة الملكية من ملكية جماعية فى الشيوعية الأولى إلى ملكية فردية ، فنشأ الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية ، وكان كل منها - فى حينه - صوابا ! لأنه هو الاستجابة الطبيعية للوضع المادى والاقتصادى .. الاستجابة التى لا يمكن أن يوجد غيرها ، لأنها انعكاس " حتمى " للأوضاع " ، ومن ثم فلا ينبغى أن توصف بالخير أو الشر ، ولا ينبغى أن ينظر إليها أصلا من زاوية خلقية ولا بمعيار خلقى ثابت ! إنما مقياس كل شئ هو ذاته .. ووجود الشئ بالفعل هو مبرر وجوده ! ثم يتغير كل شئ حين يتغير الوضع المادى والاقتصادى فيصبح الوضع السابق خطأ بعد أن كان صوابا ! وتصبح محاربته واجبة بعد أن كانت قبل ذلك غير ذات موضوع !(1/379)
وأخلاقيات الإقطاع - مثلا - من التدين وسيطرة الأب على الأسرة ، والمحافظة على العفة والغيرة على العرض ، وترابط الأسرة ، والتعاون الجماعى .. كلها أخلاقيات نابعة من الوضع المادى والاقتصادى ومتناسبة معه ، ولكنها ليست قيما قائمة بذاتها توصف بأنها خير ويوصف عكسها بأنه شر .. إنما هى فقط صواب فى وقتها لأنها هى الاستجابة الطبيعية للوضع المادى والاقتصادى .. ثم إنها تصبح بعد ذلك خطأ ، أو تصبح غير ذات موضوع حين تجئ الرأسمالية ويتكون المجتمع الصناعى " المتطور " ! بل تصبح رجعية وجودا وتأخرا تنبغى محاربته والتحرر منه ، لأنها لم تعد تستجيب للأوضاع الاقتصادية الجديدة ، التى هى المعيار الوحيد الذى تقاس إليه الأمور .
ومحاولة القول بأن الدين قيمة ذاتية ينبغى أن يوجد على الدوام ، أو أن العفة قيمة ذاتية ينبغى أن تظل قائمة فى كل مجتمع هى سذاجة وغفلة ومثالية من جهة ، ومن جهة أخرى هى مخالفة لما هو كائن ولما ينبغى أن يكون ، لأنه لا وجود لمثل هذه القيم " فى ذاتها " إنما تستمد وجودها من الباعث الذى ينشئها وهو الوجود المادى والاقتصادى .. وهذا الباعث دائم التغير لم يثبت - ولا يمكن أن يثبت - على حال ، فكيف يثبت ما ينشأ عنه من قيم وأخلاقيات ؟!
4- السخرية بالدين :
من بين كل القيم يحظى الدين بالقسط الأكبر من سخرية الماديين الشيوعيين ، ويبو حنقهم منه واضحا وثورتهم عليه عظيمة ، ورغبتهم فى تحطيمه والقضاء عليه شديدة إلى أقصى حد .
فأما أسبابه وبواعثه فهى مادية واقتصادية بحتة : الجهل بطبيعة الكون المادى ، والعجز عن السيطرة على البيئة ، لذلك كان موجودا طوال فترة الشيوعية الأولى والرق والإقطاع ، ثم خفت حدته فى المجتمع الصناعى الرأسمالى لولا أن الرأسماليين - بعد الإقطاعيين - يستخدمونه مخدرا للجماهير الكادحة لكيلا تتيقظ إلى حقيقة الظلم والهوان الذى تعانيه فتتمرد عليه وتثور من أجل حقوقها المسلوبة .(1/380)
ولقد كان " واجب الزوال " منذ بداية العهد الصناعى لزوال بواعثه المادية والاقتصادية . فمن جهة كان العلم قد بدأ يتقدم ويكشف كثيرا من مجاهيل الكون المادى التى كانت تلجئ الناس من قبل إلى افتراض وجود إله ! فأما بعد اكتشاف " قوانين الطبيعة " فلم يعد هناك مبرر للدين ، فقد حل محله العلم، ومن جهة أخرى فإن الوضع الاقتصادى الذى كان ينبعث منه سيطرة الأب فى الأسرة وسيطرة السيد فى المجتمع كان يتناسب كذلك مع سيطرة الرب الإله فى الكون والحياة . فإذا زال هذا الوضع فنيبغى أن تزول كل آثاره ومن بينها الدين .. وعلى أى حال فإذا كانت حاجة الرأسماليين إلى تخدير الجماهير الكادحة قد عوقت زوال الدين فترة من الوقت ، فقد جاءت الشيوعية فأغلت الرأسمالية وألغت المهمة الأخيرة التى كانت باقية للدين - وهى مهمة التخدير - فأصبح - من جميع الوجوه - غير ذى موضوع ، تقدم العلم، وزادت السيطرة على البيئة ، ولم يعد الناس فى حاجة إلى مخدر .. فلماذا يبقى الدين ؟!
يذكرنا هذا بقوله مماثلة " لجوليان هكسلى " فى كتاب " الإنسان فى العالم الحديث " .
كان الجهل والعجز هما السبب فى وجود الدين . وقد تعلم الإنسان اليوم وسيطرة على البيئة ، فإن له أن يحمل على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل - فى عصر الجهل والعجز - على عاتق الله ، ومن ثم يصبح هو الله !
والحق أن الدين عدو لدود للمخططين ، كما أنه عدو لدود للماديين الشيوعيين .
فأما عداوة المخططين له فأمرها ظاهر . فالعقبة الكبرى فى سبيل استحمار الأممين هى أن يكونوا ذوى عقيدة وأخلاق مستمدة من الدين ، ولقد عرف اليهود ذلك خلال القرون الطويلة من حربهم الدائمة للبشرية وتربصهم بها ، وعرفوا - بالتجربة - أنه طالما كان للأمميين عقيدة وأخلاق فلا نتيجة لكل ما يبذلونه من جهد وكل ما يضعونه من تخطيط ، وعرفوا أن نجاح مخططاتهم كلها مرهون بمدى نجاحهم فى القضاء على هذا العدو المرهوب .(1/381)
وأما عداوة الماديين الشيوعيين (وهم جزء من المخطط الكبير ) فقد نشأت - إلى جانب اشتراكهم فى السبب السابق باعتبارهم جزءا من المخطط الكبير - من تجربتهم الخاصة ، أن الدين - مع أنه فى أوربا بقايا ين محرف من كل زواياه - يعوق تكوين " الحقد الطبقى " الذى هو عمادهم الأول فى تحويل الناس إلى الشيوعية ! فقد عانوا فى زحفهم على أوربا من أن الفلاحين بصفة خاصة لا يستجيبون لهم بالسرعة الكافية حين يحاولون تحريك " الحقد الطبقى " فى نفوسهم ، وذلك من آثار بقايا الدين فى نفوسهم ، وأن الكنيسة - ممثلة الدين - وقفت فى صف الإقطاعيين والرأسماليين ضد الدعوة الشيوعية ، مستعينة بالدين فى " تخدير" الجماهير عن الثورة ، وإزالة الحقد الطبقى أوتأخير تجمعه فى النفوس ليكون وقواد للثورة .
من أجل ذلك " يتفنون " فى محاربة الدين بكل وسائل الحرب ، ومن بين وسائل الحرب التسخيف والتهوين والتحقير .
5- السخرية بالحق والعدل الأزليين ، والقول بخضوع الناس للحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية :
كما يسخر الماديون بالدين ويسعون إلى تحقيره بكل الوسائل ، يسخرون كذلك " بالحق والعدل الأزليين " كما يسميهما فردريك إنجلز ، ويقولون إنهما من المثاليات التى لا وجود لها ولا تأثير لها فى عالم الواقع ، وإن البشرية لم تقم قط عليهما ولا يمكن أن تقوم عليهما فى يوم من الأيام !
إنما الذى يسير حياة البشرية من مبدئها إلى منتهاها هو " الحتميات " المادية والاقتصادية والتاريخية ، التى لا توصف بأنها حق ولا عدل - ولا خلاف ذلك - إنما توصف - كما أسلفنا - بأنها صواب ما دامت فى موضعها التاريخى الصحيح .(1/382)
ويكره الشيوعيون كراهية شديدة أن تنتقد مراحل الرق والإقطاع والرأسمالية من جهة أنها "ظلم" مخالف للحق والعدل ، أى أن أن تنتقد من منطلق أخلاقى أو أى منطلق قائم على القيم المعنوية .. ويصرون على أن ينتقد الإقطاع والرأسمالية من الزاوية الاقتصادية ومن زاوية الحتمية التاريخية .
ويعجب الإنسان أشد العجب من هذا الموقف الغريب . فهم يشنون هجوما حادا على الإقطاع والرأسمالية بصفة خاصة ، فإذا أنت شاركتهم فى شن الحملة عليهما من زاويتك الخاصة ( الدينية والأخلاقية ) رفضوا رفضا باتا وجاهروك بالإنكار !
ولكن العجب يزول إذا علمنا السر فى رفضهم وإبائهم . فهم بادئ ذى بدء يريدون القضاء على القيم المعنوية من منبتها . وبخاصة القيم الدينية ، فكيف يقبولن منك موقفا - ولو كان فى صفهم - يرتكز على تلك القيم ويحييها فى النفوس ! ! إن مجرد قبوله معناه أن لهذا المنطلق شرعية الوجود ، ومعناه الاعتراف بأنه منطلق صحيح لأنه يهاجم الظلم ويقف منه موقف المعاداة . . وأى شئ يمكن أن يقبله المخططون إلا هذا ! لأن معناه أن يوافقوا على إحياء ذات الشئ الذى يسعون إلى قتله جاهدين !
ثم إن هناك أمرا أخر لا يقل أهمية ..
إذا أنت جعلت المحك الذى تقيس إليه الإقطاع والرأسمالية هو الحق والعدل ، فماذا يكون موقفك من الشيوعية ؟ ألست قمينا أن تضعها على ذات المحل فترى أنها تخالف الحق والعدل كذلك ؟ فتروح تبحث عن حل آخر يقوم على الحق والعدل ؟ !
الأولى إذن أن يقفلوا عليك الطريق من أوله ، ويسخفوا لك الحق والعدل " الأزلين " ويقولوا لك إنه لا وجود لها ولا أثر لهما على الإطلاق فى حياة البشرية .. إنما الذى يسير حياة البشرية هو " الحتميات " وهذه تؤدى إلى الشيوعية المطلوبة فى نهاية المطاف !(1/383)
ليس الأمر إذن أمر حقائق علمية أو تاريخية تقول إن الحق والعدل لا وجود لهما فى حياة البشرية، وإنه ينبغى أن يسخفا ويسخر منهما ! بدليل أنهم حين يتحدثون عن الشيوعية يقولون إنها هى الحق وهى العدل ، وهى التى ينبغى أن تسود البشرية ! فهم إذن يثبتونهما ولكن بشرط أن يكونا خاليين من الدين والأخلاق .. أى فى الحقيقة خاليين من الحق والعدل !
أما " الحتميات " فهى جوهر المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ .
فالمراحل الخمسة التى تمر بها البشرية وهى الشيوعية الأولى ، ثم الرق ، ثم الإقطاع ، ثم الرأسمالية، ثم الشيوعية الثانية والأخيرة .. هذه المراحل حتمية !
والانتقال من مرحلة إلى تاليتها هو انتقال حتمى كذلك ، وعلى ذات الترتيب الذى رسمه التفسير المادى للتاريخ ، لا تسبق أمة مرحلتها ولا تتأخر عنها ، لأنها قدر حتمى !
وتغير القيم والمعايير والعقائد والأفكار والمشاعر مع تغير الطور الاقتصادى هو تغير حتمى ، لا يمكن الوقوف فى طريقه ولا تغيير مساره ولا تعديله ، بحكم ان القيم والمعايير والعقائد والأفكار والمشاعر هى مجرد انعكاس للوضع المادى والاقتصادى وليست شيئا قائما بذاته ،والانعكاس لابد أن يتغير حتما إذا تغير المعكوس !
ومن بين الحتميات كذلك قيام الصراع الطبقى ما دامت هناك ملكية فردية ! فحين كانت الشيوعية الأولى قائمة لم يكن هناك صراع بين البشر . ومنذ وجدت الملكية الفردية نشب الصراع ، وظل قائما فى محلة الرق والإقطاع والرأسمالية ، حتى إذا جاءت الشيوعية الثانية والأخيرة وألغيت الملكية الفردية زال الصراع إلى الأبد وحل محله الحب والوفاق والوئام وعاد البشر إلى الحالة الملائكية التى كانوا عليها أول مرة .
تلك خلاصة دعاواهم فى التفسير المادى للقيم الإنسانية .
فإذا وضعنا هذه الدعاوى على مائدة البحث وجدنا فيها قليلا من الحق وكثيرا من المغالطات .(1/384)
فأما أهمية العامل الاقصتادى فى حياة الناس فأمر لا ينبغى لعاقل أن ينكره . أما إفراده بالأهمية ، وجعله أساس كل شئ . وجعل كل شئ مجرد انعكاس له ، والقول بأنه هو المحرك الوحيد - أو حتى المحرك الأساسى - لحياة البشر ، فأمر مبالغ فيه إلى حد الاعتساف الذى يجعل جانب الحق الضئيل يضيع فى وسط الأضاليل .
يقول الله سبحانه وتعالى:
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [سورة النساء 4/5]
أى تقوم حياتكم عليها .
والتشريعات التى تنظم تداول المال فى القرآن والأحاديث النبوية كثيرة بصورة ملحوظة ، توحى بأهمية الحياةب الاقتصادية وأهمية تنظيم العلاقات المتعلقة بالمال .
وحين دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة أمر ببناء المسجد ثم أمر ببناء السوق . وفى ذلك دلالة واضحة كذلك على أهمية الحياة الاقتصادية فى حياة الأمة ، وأنها أمر من العبادة كبناء المسجد سواء .
ولكن المبالغة فى تقدير أهميتها أمر لا يستند أولا إلى حقيقة علمية ، ثم هو مفسد للتصور وللسلوك على السواء .
فقد أحتاج الماديون - من أجل إعطاء الجانب المادى والاقتصادى أهمية مبالغا فيها - إلى مجموعة من المغالطات والافتراءات لا تقوم على أى دليل علمى ، أولها مادية الخالق وثانيها مادية الإنسان .
فإذا ثبت علميا - كما ثبت اليوم - أن المادة حدثتن ولم تكن موجودة من قبل ، وإنها ليست أزلية أبدية كما زعم التفسير المادى للتاريخ ، فقد انهار الأساس الأول الذى افترة افتراء من اجل إقامة التفسير المادى للقيم الإنسانية .(1/385)
وإذا ثبت علميا - كما هو ثابت منذ قيام شئ اسمه العلم فى حياة الإنسان - أن الكائن الحى - كل كائن حى بله الإنسان - يسير على نمط مخالف للمادة غير الحية ، وإذا ثبت علميا كذلك - كما هو ثابت من أبحاث الداروينية الحديثة ذاتها - أن الإنسان متفرد عن الحيوان حتى فى كيانه الحيوى ( البيولوجى ) البحت ، فضلا عن كيانه العقلى وكيانه النفسى وكيانه الروحى وكل شئ فيه ، فقد انهار الأساس الآخر الذى افترى افتراء من أجل الهدف ذاته .
وإذا علمنا أن قصة " تطور " المادة إن هى إلا مهرب - غير علمى - يهرب به الماديون من مواجهة القضية خلق الحياة من الموات ، فضلا عما أثبته العلم من أن الموات ذات مخلوق ، وأن الكون المادى قد أنشئ من غير وجود سابق . أى أنشئ من العدمن .
إذا علمنا ذلك فقد انهارت كل " مقومات " التفسير المادى للقيم الإنسانية القائمة على أساس أن المادى أزلية أبدية خالقة ( أو متطورة ينتج من تطورها النبات والحيوان والإنسان ) وأن الإنسان هو نتاج المادة فحسب .
والتفسير الأصوب فيما يتعلق بالقيم الإنسانية والحياة الإنسانية بأسرها هو أن نرجع فيها إلى " الإنسان " إلى النفس الإنسانية التى هى محور النشاط كله الذى يقوم به الإنسان .(1/386)
فإذا رجعنا إلى الإنسان كما نراه فى عالم الواقع لا فى صورته المفتراة بغير دليل نفسه مساحات أخرى واسعة لا يشغلها الاقتصاد ، وإنما تشغلها قيم أخرى أصيلة أصالة المادة وأصالة الاقتصاد ، وسنجد كذلك ظاهرة أخرى لا تقل عن ذلك أهمية ، هى أن الإنسان وحدة متكاملة ، تتفاعل فيها كل العناصر والمكونات لتعطى فى النهاية تعبيرا شاملا هو محصلة العناصر جميعا والمكونات جميعا . وأن أى محاولة لتفسير الإنسان بعنصر واحد من عناصره ، أو على ضوء عنصر واحد من عناصره ، هى محاولة ساذجة جدا لا تليق بأى " نظرية " تتعرض لتفسير السلوك البشرى ، وأن " العلماء " الذين يستحقون هذا الوصف ينبغى أن يكونوا أثقل وزنا وأكثر أمانة من أن يعطوا هذه التفسيرات الساذجة ، مهما تكن الأغراض الخفية الكامنة وراء هذه التفسيرات .
وسواء كان العنصر الواحد هو الاقتصاد كما قال ماركس ، أو هو الجنس كما قال فرويد ، أو العقل للجمعى المسيطر على الأفراد من خارج كيانهم كما قال دور كايم ، فكلها أضأل وأكذب م أن تفسر الحياة الإنسانية الواسعة الجوانب المتعددة ألوان النشاط ، ويكفى أن نجمع هذه التفسيرات الثلاثة بعضها إلى جانب بعض ليتضح لنا أن دعوى كل واحد منهم أن تفسيره هو التفسير " العلمى " الصحيح هى دعوى كاذبة وإن اشتملت على شئ من الحق ، فالاقتصاد جانب مهم ، والجنس جانب مهم ، وخضوع الفرد للتيارات الجماعية جانب مهم ، ولكن أيا منها لا يستقل وحده بتوجيه ، الإنسان " ووضع معاييره وقيمة كلها جميعا ، وأن التفسير الحق للإنسان ونشاطه وقيمه يشمل هذه الأمور الثلاثة كلها ، ويشمل غيرها مما أغفله - عمدا - كل واحد من " المفسرين " الثلاثة العظام ! وأننا - لكى ننشئ تفسيرا حقيقيا للحياة الإنسانية - لا ينبغى أن نغفل شيئا من مكونا الإنسان على الإطلاق ، أو أن نفسر شيئا أصيلا فى حياة الإنسان من خلال شئ آخر .(1/387)
ماذا لو فسرنا الجنس - مثلا - من خلال الاقتصاد ، فعزونا المشاعر الجنسية إلى عوامل اقتصادية ؟ ! أى تفسير مضحك يكون هذا التفسير ؟ !
كذلك لو فسرنا الاقتصاد من خلال الجنسي ، فقلنا إن الدافع الجنسى هو السبب فى جميع العمليات الاقتصادية التى يقوم بها الإنسان ؟ !
أى تفسير مضحك يكون هذا التفسير ؟ !
والسبب فى كونه مضحك وساذجا ومرفوضا بادئ ذى بدء هو أن كلا من الاقتصاد والجنس عنصر أصيل فى كيان الإنسان على ذات الدرجة من الأصالة . فنفى أصالة أيهما وتفسيره من خلال الآخر هو الذى ينش تلك السذاجة المضحكة ، مع أن هناك ترابطا وتشابكا لا شك فيه بين الاقتصاد والجنس فى حياة الإنسان ، ذلك أنهما - مع أصالة كل منهما - يصبان فى المجرى الكبير الذى يشكل فى النهاية حياة الإنسان . ولكن ترابطهما وتشابكهما فى المجرى الكبير لا ينفى أن كلا منهما رافد مستقل ذو سمات قائمة بذاتها وذو دفعات قائمة بذاتها .
كذلك - على نفس المستوى - تكون محاولتنا تفسير الدين والقيم العليا كلها على أسس مادية اقتصادية كما يقول ماركس ، أو أس جنسية كما يقول فرويد ، أو أسس من العقل الجمعى المستقل عن كيان الأفراد والمغاير لكيان الأفراد كما يقول دور كايم .
هى محاولة ساذجة مضحكة ولو ألف فيها ألف كتاب ، ولو قامت الأبواق اليهودية تروج لها من خلال ألوف الأفواه !
" النفس الإنسانية " هى الأصل الذى نرجع إليه لتفسير أحوال الإنسان فى الأرض ، وتفسير ألوان نشاطه المختلفة .
وكون هذهن " النفس " قابلة لتشكل فى أشكال شتى لا يعنى أنه ليس لها كيان محدد ، ولا حدود تقف عندا فى تشكلها . إنما هذه المرونة فى قابليتها للتشكل هى ذاتها جزء من مقومات الخلافة التى خلق الله الإنسان ليقوم بها فى الأرض.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30](1/388)
فقد علم الخالق اللطيف الخبير الحكيم المدبر - لا ذلك الخالق الأصم الذى يدعيه الماديون ، ولا ذلك الذى يخبط خبط عشواء الذى يدعيه دارون - أن تفاعل هذه النفس البشرية مع الكون المادى سينشئ أشكالا مختلفة من الحياة فى الأرض ، بحسب درجة علم الإنسان بهذا الكون المادى ، ودرجة سيطرته عليه . وقدرته على استخراج طاقاته واستخدامها فى عمارة الأرض ، لذلك جعل - بحكمته - هذه النفس قابلة للتشكل لتوائم تلك الأشكال المتغيرة ، بينما الحيوان والنبات أقل قدرة بكثير على التشكل لأنه لا يحمل أمانة ولا يقوم بخلافة ولا عمارة .
أفينقلب هذا التكريم الربانى والتفضيل إلى نقيصة يوصم بها الإنسان فى التفسير المادى للتاريخ ، فيقال ، إنه لا " كيان " لهذه النفس البشرية ولا سمات محددة ، وإنها تأخذ سمتها من الوضع المادى الذى تكون فيه ؟
إن الحمار لا يمكن إلا أن يكون حمارا مهما أوقعت عليه من الضغوط لتغيير طبيعته ! أفيكون الإنسان أقل أصالة من الحمار فى عرف التفسير المادى للتاريخ ، فى الوقت الذى يزعمون فيه أنه " أعلى تطور فى عالم المادة " ؟ !
إن قضية أصالة " الإنسان " ، ووجود سمات أصيلة فيه تحدد طبيعته " الإنسانية " هى قضية فوق الشك ، أيا كان المدخل الذى ندخل إليها منه .
ولكنا نختار ثلاث مداخل رئيسية مما يناسب هذا البحث :
أولا : هل التغير الذى يحدث فى حياة الإنسان حين تتغير أوضاعه المادية والاقتصادية هو تغير فى " القشرة " السياسية والاقتصادية والاجتماعية أم تغير فى " جوهر " الإنسان ؟
ثانيا : لماذا يثور الإنسان بين الحين والحين ؟ وعلى أى شئ يثور ؟ وإلى أى شئ يهدف من ثورته ؟
ثالثا : لماذا تظهر عليه أعراض امرض النفسى حين يتناول غذاء " حاضريا " لا يناسب طبيعته ؟(1/389)
فبالنسبة للقضية الأولى نجد بادئ ذى بدء أن دواعى التغيير المادى ذاتها نابعة من " نفس " الإنسان وليست نابعة من المادة المحيطة بالإنسان ، فهذه المادة - بمعنى الكون المادى على اتساعه وبمعنى البيئة القريبة المحيطة - موجودة بالنسبة للحيوان كوجودها بالنسبة للإنسان على السواء . فلماذا لا تثير بالنسبة للحيوان الرغبة فى التعرف على خواص المادة والرغبة فى استخدام حصيلة المعرفة فى تغيير البيئة المحيطة ، بينما تثير هاتين الرغبتين بالنسبة للإنسان ؟
هل الفرق كائن فى المادة أم إنه كائن فى الإنسان ؟ ! وإذا كان كائنا فى الإنسا كما هو بدهى ، أفليس هذا خطا ثابتا من خطوط النفس البشرية يحدد سمة من سماتها الأصيلة التى لا تتغير بتغير " القشرة " الخارجية ولا بتغير الظروف المادية والاقتصادية ؟
صحيح أن حصيلة التفاعل المستمر بين الإنسان والمادة المحيطة به تحدث تغييرا فى البيئة وتغييرا فى صورة الإنتاج ، فيصبح رعويا أو زراعيا أو صناعية أو .. ؟ ولكن كم يغير هذا التغيير من طبيعة الإنسان الأصيلة ؟
نترك مؤقتا قضية الملكية الفردية لأننا سنفردها بحديث خاص ، نثبت فيه من واقع التطبيق الشيوعى ذاته أن نزعة الملكية الفردية لم تمت فى نفوس الناس ولا أمكن إحلال الملكية الجماعية محلها . ونشير إلى بقية الدوافع .
هل تغيرت دوافع الإنسان الأصيلة ؟ حبه للحياة .. رغبته فى المتاع . رغبته فى الجنس .. رغبته فى البروز وإثبات الذات .. رغبته فى المعرفة .. رغبته فى إطالة عمره على الأرض .. رغبته فى السيطرة على البيئة .. رغبته فى الاجتماع بالآخرين .. رغبته فى الانتماء .. رغبته فى التحسين المستمر لأحواله .. رغبته فى الأمن .. رغبته فى الاستقرار رغبته فى الذرية ..
نعم ، تغيرت الصورة التى يحقق بها هذه الدوافع ، ولكن هل تغيرت طبيعة الدوافع ؟
إنه من السذاجة غير " العلمية " أن ينظر الإنسان إلى تغير الصورة فينسى ثبات الجوهر 205(1/390)
ونعود إلى النص الذى نقلناه عن رينيه دوبو فى كتاب " إنسانية الإنسان " ص 71 من الترجمة العربية .
عاش رجل " كروماغنون Cro - Magnon " فى أكثر أنحاء أوربا قبل حوالى ثلاثين ألف سنة ، قبل قيام الزراعة وحياة القرية بفترة طويلة ، ومع أنه كان صياد بصورة رئيسية كان - على ما يظهر - مشابها لنا جسما وعقلا ، فأدواته وأسلحته تناسب حجم أيدينا الآن ، وفنه فى كهوفه يثير مشاعرنا ، والعناية التى كان يوليها لدفن موتاه تكشف أنه شاركنا بشكل ما بالاهتمام بنهاية الإنسان وآخرته ، وكل أثر مدون من آثار إنسان ما قبل التاريخ يوفر شواهد أخرى للفكرة القائلة أن الخواص الأساسية للجنس البشرى لم تتغير منذ العصر الحجرى 206
فتغير " القشرة " السياسية والاقتصادية والاجتماعية للإنسان - حتى إن سلمنا جدلا أنه ينبع من التغير المادى وحده ، ونحن لا نسلم بذلك - لا يعنى أنه أصبح إنسانا آخر . ولا يعنى أن الإنسان الرعوى غير الإنسان الزراعى غير الإنسان الصناعى من حيث الجوهر .
وليس معنى ذلك - من جهة أخرى - أن أى نظام مثل أى نظام آخر ، وأنه لا يختلف حال الإنسان أى اختلاف بتغير النظم عليه . كلا ! ما نقصد ذلك ولكنا نريد أن نؤكد أنه ليس الوضع المادى هو الذى يحدث التغيير الجوهرى فى حياة الإنسان ، أو هو المعيار الذى تقوم به حياته .
إنما يحدث تغير جوهرى فى حياة الإنسان بحسب معيار آخر مختلف تماما . هو نوع العبادة التى يعبدها . ونوع التشريع الذى ينظم حياته ، هلى يعبد الله الحق أم يعبد آلهة زائفة ، وهل يتحاكم إلى شريعة الله أم إلى شرائع جاهلية من صنع البشر .(1/391)
ذلك هم الذى يحدث التغيير الجوهرى فى حياته ، سواء كان فى الحالة الرعوية أو الحالة الزراعية أو الحالة الصناعية أو الحالة الذرية ( إن كانت هذه تعتبر تحولا فى طريقة الإنتاج على المدى البعيد ! ) أو فى أى حالة من الحالات المادية على الإطلاق . والسبب فى ذلك أن الإنسان - بخلقته - ذو طريقين مختلفين كل الاختلاف من حيث الأسباب والنتائج والوسائل والأهداف .
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [سورة البلد 90/10]
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)} [سورة الإنسان 76/3]
وهو فى الوضع السوى حين يعبد الله وحده ويحكم شريعته ، وفى الوضع المقلوب حين يعبد غير الله ويحكم شريعة غير شريعة الله ، ولا يستوى الوضع السوى بطبيعة الحال مع الوضع المقلوب ، والفارق بينهما فارق جذرى وجوهرى ، أما التغيرات المادية والاقتصادية فهى تغير الصورة نعم ، ولكنها لا تغير الجوهر .
ومن هنا يكون للبشرية - فى كل أوضاعها المادية والاقتصادية - حالتان اثنتان فحسب ، إما سوية معتدلة وإما مقلوبة ،بصرف النظر عن الوضع المادى والاقتصادى ذاته ، أى أنه يكون رعويا فى حالة اعتدال أو رعويا على الوضع المقلوب . ويكون زراعيا فى حالة اعتدال أو زراعيا على الوضع المقلوب ، ويكون صناعيا فى حالة اعتدال أو صناعيا على الوضع المقلوب ، ويكون ما شاء الله أن يكون من الأوضاع المادية والاقتصادية على حالتين اثنتين : مهتديا فتستقيم حياته ، أو ضالا فتضطرب حياته وتختل .(1/392)
والذى درسته المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ هو خط الضلال البشرى من الشيوعية الأولى إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية - كما سنشير فيما بعد - ولم يدرسا قط خط الإيمان التاريخى سواء عن عمد أو غير عمد 207 لذلك التفت التفسير المادى للتاريخ إلى التغيرات الجزئية التى حدثت فى الانتقال من كل طور اقتصادى إلى الطور الذى تلاه ، وركز عليها ، وضخمها ، حتى بدت اختلافات جوهرية فى حياة الإنسان ! والسبب فى ذلك أنه لم يقارن أبدا بين الصورتين المتغايرتين تغايرا جوهريا صورة الإيمان وصورة الضلال على جميع الأطوار المادية والاقتصادية ، إذن لتبين له أن الفوارق الحقيقية ليست قائمة بين الاقتصاد الرعوى والاقتصاد الزراعى والاقتصاد الصناعى ، إنما هى بين الاقتصاد الرعوى - والحياة الرعوية بجملتها - على خط الإيمان وعلى خط الضلال ، والاقتصاد الزراعى - والحياة الزراعية بجملتها - على خط الإيمان وعلى خط الضلال ، والاقتصاد الصناعى - والحياة الصناعية بجملتها - على خط الإيمان وعلى خط الضلال . ولتبين له كذلك أن الحياة بجملتها على خط الإيمان - فى الحالة الرعوية والحالة الزراعية والحالة الصناعية - ذات سمات أساسية مشتركة ، هى قيامها على الحق والعدل والترابط الإنسانى والأخوة وغلبة المحبة على الصراع 0 مهما يكن فى داخلها من هزات واضطرابات ناشئة من إخفاق الناس فى تطبيق المنهج الربانى بالصورة الواجبة ) وإن الحياة بجملتها على خط الضلال - فى الحالة الرعوية والحالة الزراعية والحالة الصناعية - ذات السمات اساسية مشتركة . هى قيامها على الظلم والطغيان والصراع على متاع الأرض القريب .
? ? ?
القضية الثانية ، أو المدخل الثانى لقضية أصالة الإنسان ووجود سمات جوهرية أصيلة فيه لا تتغير بتغير الوضع المادى والاقتصادى هو ظاهرة الثورات فى التاريخ البشري .(1/393)
لماذا يثور الإنسان إذا لم يكن له كيان أصيل ينبغى أن يكون عليه ؟
بعبارة أخرى : إذا كان الإنسان قابلا للتشكل الدائم بحسب الوضع المادى والاقتصادى دون أن يكون له شكل ثابت أو حدود ثابتة يجرع إليها ، فلماذا يثور على أى وضع من الأوضاع يكون قد تشكل به فى أثناء رحلته التاريخية على الأرض ؟
يقول التفسير المادى للتاريخ - ويحسب أنه قد حل القضية بذلك - إن الحتمية المادية والحتمية الاقتصادية والحتمية التاريخية هى الجواب ! وهى التى تفسر سبب الثورات . فإنه إذا انتهى الدور التاريخى لأى طور من الأطوار الاقتصادية ووصل الصراع الطبقى إلى درجة " النضوج " حسب الحتمية التاريخية والحتمية المادية والاقتصادية . أى بمقتضى الحركة التاريخية للمادية الجدلية .. إذا حدث ذلك كله حدثت الثورة التى تهدم النظام المنهزم - ماديا واقتصاديا وتاريخيا - وتشيد النظام المنتصر - ماديا واقتصادية وتاريخيا - وتمكن له فى الأرض .
وببساطة نقول : إن هذا لا يفسر كل الثورات التى حدثت فى التاريخ . ودع جانبا الآن ظهور الإسلام وتمكنه فى رقعة فسيحة من الأرض ورقعة فسيحة من التاريخ ، فسنفرد له حديثا فى الرد على التفسير المادى بجملته . ولكنا نستشهد عليهم من نظريتهم !
فهم يقولون إن الثورات الناجحة هى التى توافق سير الحتمية التاريخية فتأتى فى إبانها الصحيح ، وتكون متوافقة مع الظروف - أو الحتميات - المادية والاقتصادية ويكون الصراع الطبقى فيها قد نضج إلى الحد الذى ينجح الثورة أما الثورات التى لا توافق خط سير هذه الحتميات ، ولا يكون الصراع الطبقى فيها قد نضج إلى الحد المعقول ، فإنها تفشل مهما بذل فيها من الضحايا !
يا سبحان الله ! إذن فليس السبب فى قيام الثورات هو هذه الحتميات ! إنما التوافق مع هذه الحتميات - كما يقولون - هو الذى يؤدى إلى نجاح الثورة ، أما قيامها فلابد أن يكون له سبب أخر أغفله - عامدا - التفسير المادى للتاريخ !(1/394)
لابد أن يكون السبب كامنا فى " الإنسان " ! فى كيانه الأصيل . فى كراهيته للظلم ، وتطلعه إلى الحق والعدل الأزليين ، سواء تحقق العدل فى عالم الواقع أم لم يتحقق لسبب من الأسباب !
? ? ?
القضية الثالثة أو المدخل الثالث هو ظهور الأعراض المرضية فى حياة الإنسان حين تكون " الحضارة " التى يعش فيها غير مناسبة لكيانه السوى .
والشاهد الحى على ذلك هو المجتمع الأوربى فى الجاهلية المعاصرة .
لقد زعم التفسير المادى للتاريخ أن أخلاقيات المجتمع الزراعى من شدة " التدين " إلى سيطرة الأب فى الأسرة والحفاظ على العرض والاهتمام بالعفة الجنسية والترابط التعاونى . إلخ كانت مجرد انعكاس للوضع الاقتصادى فى الطور الزراعى ، وليست قيما أصلية قائمة بذاتها ، وأنه حين تغير الطور الاقتصادى ودخل الناس فى العصر الصناعى فإن من طبيعة الطور الاقتصادى الجديد أن يضعف التدين ، وتزول سيطرة الرجل بسبب تحرر المرأة اقتصاديا ، وتزول غيرته على عرضه ، وتفقد قضية العفة أهميتها ، وتتفكك الأسرة .. الخ ، ويكون هذه كله هو الانعكاس الطبيعى للوضع الاقتصادى الجديد .. ومن ثم تكون " الأخلاقيات " الجديدة المضادة تماما للأخلاقيات الزراعية هى المناسبة للوضع الجديد ، وينشئ الطور الجديد عقائده وأفكاره وأخلاقياته فتستجيب لها النفوس وتتكيف معها بصورة طبيعية !
ولكن هذا الذى يقوله التفسير المادى للتاريخ يكذبه الواقع أشد التكذيب .
فأما ضعف المشاعر الدينية ، وزوال سيطرة الأب ، وفقدان قضية العفة أهميتها ، وتفكك الأسرة ، وممارسة الحرية الكاملة فى علاقات الجنس فقد حدثت حقا ، سواء كان سبب ذلك هو " التطور الحتمى " المصاحب لتغير الطور الاقتصادى كما يقول التفسير المادى للتاريخ ، أم كان سببه التخطيط الشرير الهادف إلى إفساد البشرية لاستحمارها واستعبادها كما نزعم نحن ..
أما الاستجابة " الطبيعية " فلم تحدث على الإطلاق !(1/395)
إن رد الفعل الذى حدث من ذلك كله هو انتشار القلق والجنون والانتحار والأمراض النفسية والاضطرابات العصبية وإدمان الخمر والمخدرات واتساع نطاق الجريمة وجنوح الأحداث والشذوذ الجنسى.
ومؤتمراتهم وإحصائياتهم هى الشاهد على ذلك ..
ودلالة ذلك واضحة ..
فلو أن النفس البشرية ليس لها كيان محدد ولا صورة ينبغى لها أن تكون عليها ، ما حدث رد الفعل المرض الذى حدث بالفعل فى حياة الناس ، ولاستجابت استجابة " طبيعية " للشكل الذى شكلت به ، سواء كان الذى حدد الشكل هو التطور الحتمى أو التخطيط الشرير .
إنما هذه الاستجابة المرضية معناها أن الحضارة التى قدمت للناس - تحت أى ظل وأى عنوان - هى حضارة لا تناسب الكيان البشرى السوى ، لا تناسب مقومات النفس البشرية الأصيلة ، لا تناسب الوضع السليم الذى ينبغى أن يكون عليه الإنسان ، لمفارقتها للقيم الإنسانية الصحيحة .
وإذن فهناك قيم معينة ، أصيلة وثابتة ، ينبغى أن تكون قائمة فى حياة الناس أيا كان الطور الاقتصادى الذى يعيشون فيه . وحين تخالف هذه القيم فإن الحياة تضطرب وتختل ولا يعود لها ميزان .(1/396)
ويكفينا هذا لإثبات ن القيم العليا هى أشياء قائمة بذاتها ، ومطلوب وجودها فى الحياة البشرية لأن هذه الحياة لا تستقيم بدونها . كما يكفينا هذا لنفى تلك الأسطورة القائلة بأن الوضع الاقتصادى هو الأصل الوحيد الذى تنشأ منه كل القيم وكل الأخلاق ، وإن كنا نقرر من باب إحقاق الحق أن الوضع الاقتصادى يتخذ أهمية بالغة فى كل جاهليات التاريخ ، بحيث يبدو أن هو المسيطرة ، وأنه هو الأساس ، إذ تتوارى القيم الأخرى كلها وتحتجب ، فتبرز القيم المادية وتصبح هى الأساس ! ولو أن التفسير المادى للتاريخ اكتفى بأن يقول إنه يفسر الجاهليات البشرية لكان أقرب إلى الصواب ، أما أن يزعم أن يفسر " التاريخ " .. كل التاريخ .. فزعم واسع يكذبه التاريخ ! ومع ذلك فالجاهليات ذاتها - كما سنبين - لا يستوعبها استيعابا كاملا ذلك التفسير الجاهلى للتاريخ !
إذا اكتفينا بهذا القدر فى مناقشة القضايا الرئيسية فى التفسير المادى للتاريخ ، وهى قضية مادية الخالق وقضية مادية الإنسان وقضية مادية القيم الإنسانية ، فلا بأس أن نستعرض بعض القضايا المترتبة عليها . ونختار من بينها قضية ، الدين " وقضية " الأسرة " وقضية " الشيوعية الأولى " وقضية " الملكية الفردية " وقضية " التطور " وقضية " الحتميات " وكلها من القضايا ذات الأهمية الخاصة فى التفسير المادى للتاريخ .
? ? ?
1- التفسير المادى للدين :(1/397)
يقول التفسير المادى للتاريخ إن الإنسان الأول تدين لأنه كان جاهلا بقوانين الطبيعة من حوله ، فصنع من قوى الطبيعة آلهة ، فالبرق إله والرعد إله والريح إله والمطر إليه .. الخ ، ولأنه كان جاهلا بالبيئة وغير قادر على السيطرة عليها ، فجعل من أشجارها وحيوانها آلهة معبودة يستمطر رضاها ويتوقى غضبها ، ويقدم لها الصلوات والقرابين .. ومصدرهم فى كثير من هذه الأمور هو " فريزر " فى كتاب الغصن الذهبى " الذى استغلوه استغلالا كاملا كما استغلوا دارون من قبل ، وإن كانوا هم يشيرون إلى أبحاث " مورجان 208 ولا يشيرون إلى فريزر !
أما فى العهد الإقطاعى - أو الزراعى - فالناس متدينون لأن عملية الإنتاج تشتمل على جانب لا يملك الإنسان السيطرة عليه ، وهو جانب الإنبات والإنماء والآفات والعوارض الجوية ، فيتخيل قوى غيبية يسند إليها إخراج الزرع من الأرض وإنضاجه وحمايته ، فيتعبدها ويسترضيها لتحفظ له المحصول الذى تقوم حياته عليه .
ثم يزول الجهل والعجز بالتقدم العلمى والتكنولوجى فيتعرف الإنسان رويدا رويدا على قوانين الطبيعة ، ويسيطر تدريجيا على البيئة ، فتقل حاجته إلى " افتراض " القوى الغيبية . وحين تصبح عملية الإنتاج مادية بحتة فى العصر الصناعى ويسيطر العامل على كل خطواتها من أول استخراج المادة الخامة إلى تشكيلها فى صورتها النهائية .. فعندئذ تزول الحاجة إلى التدين نهائيا وينتهى دور الدين فى حياة البشرية .
ومن جانب آخر فإن الطبقة الحاكمة سواء فى الإقطاع أو فى الرأسمالية تستخدم الدين - الذى هو أسطوة لا حقيقة لها - فى تخدير الجماهير الكادحة لترض بالظلم فى الأرض طمعا فى الجنة فى الآخرة .
ونقول بادئ ذى بء إنه من التعسف تفسير ظاهرة وجدت فى جميع العصور وجميع الأجيال بتفسير خاص فى كل جيل من الأجيال ! إنما ينبغى - من الوجهة العلمية البحتة _ أن نبحث عن أسبابها فى الأصول الثابتة لا فى المتغيرات !(1/398)
إن دلالة خمسين قرنا - على الأقل - من تاريخ البشرية المكتوب ، فضلا عن قرون أخرى غير مكتوبة لا يعلم عددها إلا الله ، لا يمكن أن تلغى بجرة قلم مهما يكن جبروت هذا القلم وطغيانه ! ولا يمكن أن تلغى لأن جيلا واحدا أو جيلين قد تنكرا للدين لأسباب معروفة ومرئية وغير خافية على الذين يبحثون عن الحق ويحبون أن يهتدو إليه !
فى كل تلك القرون التى لا يعلم عددها إلا الله كانت ظاهرة التدين قائمة ، فلماذا نقول إن سببها فى الجيل الفلانى كان كذا وفى الجيل الآخر كان أمرا آخر ؟!
أهذه هى طريقة " البحث العلمى الموضوعى " وتلك هى مناهجه ؟!
هل يمكن مثلا أن نرد الدافع الجنسى إلى أسباب مادية ، أو إلى أسباب تختلف فى جيل عنها فى جيل آخر ، أليس وجود هذا الدافع على مدى التاريخ البشرى يجعلنا نقول إنه فى أصل الفطرة ، لا هو مكتسب ولا هو راجع إلى أسباب خارجية فى البيئة المحيطة بالإنسان ؟ !
فلماذا نقول عن التدين - الذى وجد على مدى التاريخ البشرى - إنه راجع إلى البيئة وإلى أسباب متغيرة ، وليس أصلا من أصول الفطرة ؟
أمن أجل أن جيلا من البشر أو جيلين قد تفشى فيهما الإلحاد ؟!
لقد تفشت بالرهبانية فى المجتمع المسيحى عدة قرون ، وكان ينظر إلى التخلص من الدافع الجنسى أو كتبه أو قهره على أنه قمة الارتفاع النفسى والروحى ، فهل يلغى هذا العارض الذى تفشى فى مجتمع معين لفترة معينة كل دلالة التاريخ ، ويجعلنا نقول إن أسبابا معينة فى البيئة هى التى توجد دافع الجنس ، وإنه يمكن أن يزول من الوجود فى يوم من الأيام ؟ !
لماذا إذن نفرق بين ظاهرتين متشابهتين بل متماثلتين فنعطى إحداهما تفسيرا ونأبى على الخرى ذلك التفسير ؟(1/399)
كلا ! إن الهدف واضح ، وهو أن الشيوعية - اليهودية المنشأة - تريد أن تقيم مجتمعا بشريا على الإلحاد الكامل عن الدين ، فتروح تزعم أن الدين ليس من الفطرة ، وأن أسبابا معينة فى البيئة أو فى موقف الإنسان من البيئة هى التى أنشأت ظاهرة التدين فيما مضى من التاريخ ، وأن هذه الأسباب الآن قد زالت فينبغى للدين أن يزول !
إن وجود عوامل خارجية فى الكون المادى وفى البيئة المحيطة بالإنسان تبعث مشاعر التدين فى الإنسان أمر نعلمه ونقره ..
إنها ذلك الكون ذاته بضخامته المعجزة ودقته المعجزة .
إنها ظاهرة الحياة والموت التى تبهر حس الإنسان وتثير عجبه وتطلعه .
إنها ظاهرة حدوث الأحداث وجريانها من ليل ونهار ونور وظلمة وولادة وموت وصحة ومرض وغنى وفقر واجتماع وافتراق .. الخ .
إنها ظاهرة عجز الإنسان عن السيطرة الكاملة على الكون مهما بلغ من سيطرته ، وعن الإحاطة الكاملة بأسراره مهما بلغ من علمه ، وعجزه الكامل عن الخلق والإنشاء من العدم 209
إنها هى التى نبه إليها رب العالمين فى كتابه الكريم ليوقظ وجدان البشر إلى تفرد الله بالألوهية والربوية ووجوب إفراده بالعبادة والنسك وتحكيم شريعته فى الأرض :
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [سورة البقرة 2/163-164]
{هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [سورة غافر 40/68](1/400)
{قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [سورة آل 3/26-27]
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [سورة النحل 16/10-18](1/401)
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [سورة الواقعة 56/58-74]
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ (37)} [سورة الطور 52/35-37]
نعم .. هناك عوامل خارجية فى الكون المادى وفى البيئة المحيطة بالإنسان تبعث مشاعر التدين وتوقظها ، ولكنها لا تنشئها من العدم ، إنما هى موجودة هناك فى أعمال الفطرة ، وهذه العوامل توقظها فقط ، لأن الله جعل الفطرة هكذا بحيث تستيقظ حين تتلقى إيقاعات الكون المادى وإيقاعات الأحداث الجارية فى محيط الإنسان ، فتمضى تبحث عن الخالق سواء اهتدت فى بحثها أم ضلت عن السبيل .(1/402)
ودليلنا على ذلك هو التاريخ البشرى كله ، لا ينقص من دلالته وجود جيل أو جيلين نافرين جاحدين شذا عن الطريق .
ودليلينا من العالم الشيوعى ذاته هو جاحارين رائد الفضاء الأول ، الذى ولد فى الشيوعية وتربى فيها على الإلحاد الكامل وإنكار وجود الله ، فما صعد إلى الفضاء هزته روعة الكون ، فكان تصريحه الأول للصحفيين عند هبوطه إلى الأرض : " عندما صعدت إلى الفضاء أخذتنى روعة الكون فمضيت أبحث عن الله 210
ودليلنا عليه من الجاهلية المعاصرة كذلك أولئك العلماء الذين تعمقوا فى دراسة أسرار الكون فهداهم علمها إلى أنه لا يمكن تفسير عجائب الكون إلا بالتسليم بوجود الله ، مما نقلنا فقرات منه فى هذا الفصل من قبل ونحن نتحدث عن التفسير المادى للخالق .
? ? ?
الدين إذن مركوز فى الفطرة :
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف 7/172]
والعوامل التى توقظ الفطرة فتبعثها تبحث عن الله باقية ما بقى الإنسان فى الأرض ، لا تتغير مهما بلغ من علم الإنسان أو سيطرته على البيئة .
ومن أجل ذلك بقيت ظاهرة التدين قائمة خلال التاريخ البشرى كله ، بصرف النظر عن هذا الجيل الممسوخ الذى دفعته عوامل معينة - معروفة - إلى مغالبة الفطرة والتبجح بإنكار وجود الله .(1/403)
والذى ألغاه تعلم الإنسان وسيطرته على البيئة لم يكن هو الدين الصحيح إنما كان بعض انحرافات الجاهلية وتصوراتها الساذجة ، فحين توهم البشر - فى بعض جاهليتهم - إن المطر إله والريح إله والرعد إله والبرق إله ، وأن وجه الأرض مملوء بالأرواح الشريرة التى يؤثر فيها السحر ، أو حين توهموا - فى طور آخر - أن بعض الحيوانات ألهة تعبد - كبقرة الهند والعجل أبيس فى مصر الفرعونية وغيرها - أو حين توهموا فى طور ثالث أن بعض الأجرام السماوية ألهة كالشمس والقمر والنجوم .. كانت هذه كلها أوهاما ساذجة يمكن أن يمحوها العلم ، أو يمحوها زيادة سيطرة الإنسان على البيئة .
أما الدين الصحيح - وهو عبادة الله الخالق وحده بلا شريك - فقد وجد منذ بدء البشرية وظل قائما إلى هذه الساعة ، لم يؤثر فيه العلم ولا سيطرة الإنسان على البيئة ، لأنه لم ينشأ من الجهل العارض أو العجز العارض كما يزعم التفسير المادى للتاريخ ومن لف لفه من الملحدين ، إنما نشأ من حقيقة أزلية هى ووجود الله الخالق البارئ المصور ، وكون الإنسان مخلوقا خلقه الله ، وأودع فى فطرته أن يتوجه لعبادة الله ، وإن كان قد أودع فى فطرته فى الوقت ذاته قدرة على الاختيار بين طريق الهدى وطريق الضلال .
وفى عهود البشرية السحيقة حين كانت أقوام تعبد الأب ، أو تعبد الطوطم ، أو تعبد قوى الطبيعة ، أو تعبد الأفلاك ، أو تعبد الأصنام كان هناك مؤمنون يعبدون الله وحده بلا شريك ، فيتقدمون إليه وحده بالعبادة والنسك ، ويطبقون شريعته فى واقع حياتهم .
فإذا كان نمو العلم ونمو سيطرة الإنسان على البيئة قمينا بأن يلغى أساطير الجاهليات المختلفة فى أمر الدين ، فليس من شأنه أن يلغى الدين ذاته ، المركوز فى الفطرة ، الذى ينبثق حتى فى الجاهلية المعاصرة الملحدة الكافرة ، فيعلن صوت الفطرة رغم كل الحواجز التى تريد أن تخنق ذلك الصوت .(1/404)
وأما كون الإقطاع والرأسمالية يستخدمان الدين مخدرا للجماهير لترضى بذل العبودية فى الأرض طمعا فى جنة الله فى الأخرة ، فتلك كانت حقيقة واقعة فى الجاهلية الأوربية الحديثة ، وقامت الكنيسة ذاتها بجزء من المؤامرة التى تهدف إلى تخدير الجماهير لكيلا يثورا على الظالمين ..
ولكن ما علاقة ذلك بحقيقة الدين ؟
إن الدين - ككل شئ آخر فى عالم البشر - يمكن أن تشوه صورته وأن يساء استغلاله ، فهل نلغى الدين الصحيح من أجل الصورة الزائفة ، أو من أجل سوء الاستغلال ؟ أم نحاول تصحيح الصورة ومنع الاستغلال ؟
ثم ما الحيلة إذا كان الإنسان عابدا بطبعه ، فغن لم يعبد الله عبد من هو دونه ، وهبط نتيجة لذلك أسفل سافلين؟ !
كلا ! ليس التفسير المادى للدين حقيقة ، علمية ، ولا يمت بأية صلة للعلم أو النظر العلمى . إنما هو " شهوة " قائمة على غير الدليل شهوة بعض الناس فى نشر الإلحاد فى الأرض لغاية فى نفوس الشياطين ! 211
2- قضية الأسرة :
كل الذين يتكلمون ضد الدين والأخلاق يتكلمون ضد الأسرة كذلك . والعلاقة واضحة . فالدين والأخلاق والأسرة كلها من " الضوابط " التى تقف فى سبيل المخططات الرامية إلى إفساد البشرية واستحمارها :
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)} [سورة النساء 4/27]
إن الأسرة هى الضابط الطبيعى ضد فوضى الجنس ، والذين يريدون إفساد البشرية لا يريدون أن يكون هناك ضابط للفوضى الجنسية ، سواء كان هذا الضابط هو الدين والأخلاق ، أو كان هو التنظيم الطبيعى الذى تنشئه الأسرة بنوع علاقاتها ونوع مسئولياتها .
والشيوعيون - بصفة خاصة - لهم حقد خاص على الأسرة لأكثر من سبب فى وقت واحد .(1/405)
فالأسرة - كما يقولون - تثير مشاعر الأثرة فى الوالدين ، وتقوى نزعة الملكية الفردية من أجل توريث الأولاد ما يملكه الوالدان ، وهم يريدون القضاء على الملكية الفردية ، فيكرهون - بالتالى - كل نظام أو فكرة يقف فى طريق القضاء عليها .
ثم إن النظام الشيوعى - كما سنرى ونحن نناقش المذهب الإقتصادى فى صورته التطبيقية - يريد أن يجعل الولاء للدولة وحدها دون أحد آخر ، ويريد من الأفراد أن يذوبوا ذوبانا كاملا فى " النظام و " الدولة " و " الحزب " و " الزعيم " فلا يكون لهم ارتباط بشئ آخر خلاف هذه الولاءات الضرورية للنظام . ومن ثم فإنهم يكرهون الأسرة لأنها - بداهة - ارتباط قائم بذاته مستقل عن الدولة ، ولو كان مواليا لها فى ظاهر الأمر أو واقعا تحت الضغط البوليسى للدولة . فإذا كان النظم الشيوعى - بالإضافة إلى ذلك - يصل إلى حد تجنيد الشعب كله فى التجسس بعضه على بعض ليأمن قيام أى تجمع مضاد ، أدركنا أن حنقه على الأسرة لابد أن يكون أشد ، لأن الولاء الفطرى داخل الأسرة هو نوع من التجمع ، مهما يكن صغيرا فإنه يمكن أن يكون نواة لتجمع أكبر ، وهو فى جميع الأحوال حائل دون الجاسوسية الدقيقة على كل فرد من أفراد الشعب .
وبالإضافة إلى ذلك كله فإن من الضمانات التى يعتمد عليها النظام الشيوعى تربية الأولاد منذ نعومة أظفارهم على الولاء الكامل للنظام والدولة والحزب والزعيم .. وهذا يقتضى الإشراف الكامل عليهم منذ ولادتهم ، حتى لا توجد " جرثومة " واحدة مفردة يمكن أن تنشر العدوى فى نطاق أوسع . والأسرة - أو مشاعر الارتباط الأبوى - عائق من عوائق هذا الإشراف الدقيق الذى يعتمد عليه النظام ، لأنها تجعل ولاء الأطفال - أو جزء منه على الأقل - مرتبطا بأعضاء الأسرة من الآباء والأخوة .(1/406)
لذلك كله تكره الشيوعية الأسرة كراهية خاصة مركزة ، وسط الكراهية العامة التى يتوجه بها إلى الأسرة ذلك المخطط الشرير الذى يهدف إلى إفساد البشرية واستحمارها .
ولكن أصحاب المخطط يحبون - دائما - أن يغفلوا مخططهم بالعلم والنظريات العلمية ، ليكون ذلك أدعى إلى تقبل الناس له وعدم اعتراضهم عليه . و " العلم " فى الجاهلية المعاصرة يقوم مقام " السحر " فى الجاهليات البدائية التى كانت تؤمن به وتتعامل معه ، ويدخل النفوس بسهولة ويتمكن منها فى لحظات .. ولو كان قائما على غير أساس ! إذ يكفى أن تقول عن أى شئ إنه نتيجة " أبحاث عليمة " حتى ينصاع الناس صاغرين ، دون أن يتوقفوا حتى ليتساءلوا : أحق هو ؟! أم دعوى بلا دليل !
و " العلم " الذى يحارب الماديون به الأسرة يأخذ البشرية بطولها من أولها إلى آخرها !
ففى البدء كانت الشيوعية الجنسية فلم تكن هناك " أسرة " بالمعنى المتعارف عليه .
وفى بقية التاريخ كانت الأسرة قائمة لأسباب اقتصادية ومتوافقة مع تلك الأسباب الاقتصادية .
وفى نهاية التاريخ - التى يريدونها أو يتخيلونها أو يخيلونها للناس - تنتهى مهمة الأسرة وتزول من الوجود .. على أسس " علمية " !
فأما الشيوعية الجنسية فسنتحدث عنها فى الفقرة القادمة ، ولكنا نقول هنا إن كل ما قالوه فى وصفها لا يستند إلى دليل علمى حقيقى إنما هو استنباطات مغرضة من أحوال القبائل المتأخرة التى عثر عليها فى آسيا وأفريقيا وأستراليا فى القرنين السابقين .(1/407)
وأما قيامها لأسباب اقتصادية فيكفينا أن نشير فيه إلى ما شرحناه من قبل فى مناقشة التفسير المادى للقيم الإنسانية من أن الاقتصاد والأوضاع الاقتصادية جانب مهم فى حياة الإنسان ، ومؤثر من المؤثرات القوية فيها ، ولكن هذه الحياة أوسع وأشمل من أن تفسر بجانب واحد أو عامل واحد مهما يكن من سعته وقوة تأثيره . إنما المؤثرات كلها - على اختلاف كل منها عن الآخر وأصالته الذاتية - روافد تصب فى المجرى الكبير الذى يشكل حياة البشرية . والاقتصاد واحد من هذه المؤثرات ورافد من الروافد ، ولكنه ليس وحده الذى يتحكم فى حياة الناس ، وليس هو الذى يفسرها ، إنما التفسير الأشمل والأصح أن النفس البشرية بكاملها هى التفسير الصحيح للحياة البشرية بكاملها . والنفس تحوى - ولا شك - عناصر كثيرة غير العناصر المادية حتى فى ضلالها وجاهليتها !
يقول خالق هذه النفس سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين : {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [سورة الروم 30/21]
هذا السكن وهذه السكينة عنصر هام فى نشأة الأسرة واستمرارها مدى التاريخ البشرى كله ، وهو سبب نابع من الفطرة التى تحب هذا السكن وهذه السكينة بصرف النظر عن الدافع الجنسى الذى يمكن أن يتحقق بأية وسيلة .(1/408)
ولا يتنافى هذا مع كون الأسرة تكون ترابطا اقتصاديا من نوع ما . فليس هناك فى النفس البشرية تناقض ولا تنافر بين عناصرها المختلفة ، ولا يلزم من وجود أحدها نفى الآخر ولا نبذة كما تقول التفسيرات الضيقة المعتسفة ، ولا يلزم من قوة أحدها أن يكون سائرها تابعا له أو نابعا منه كما تقول تلك التفسيرات ، إنما توجد كلها - مع قوتها وأصالتها - جنبا إلى جنب ، متفاعلا بعضها مع بعض فى الكيان البشرى الكبير ، الذى كرمه الله بعوامل شتى ، وهذا التعدد وهذه السعة هى ذاتها من عوامل التكريم ، لأننا لا نجدها - بهذه الصورة - فى الكائنات الأدنى من الإنسان .
والأسرة - كما ثبت من التجارب غير المتحيزة - ضرورة لتنشئة الأطفال الأصحاء من الوجهة النفسية . ومهما حاولت المحاضن أن تدعى أنها تقوم مقام الأسرة الطبيعية فى هذا الشأن فهى واهمة فى ذلك أو مغالطة ، فإن فى مقدور المحاضن أن تعطى رعاية صحية كاملة " للجسد " وتوجيها عقليا مبنيا على قواعد العلم ( أيا كان مبلغ هذا العلم من الصحة ) ولكنها لا تستطيع قط أن تعطى الرعاية النفسية المطلوبة للتنشئة الصحيحة للأطفال ، بسبب غياب الأم المتخصصة التى يشعر الطفل لملكيتها - وحده - ملكية كاملة " 212
ولسنا نقول مع ذلك إن الإنسان لجأ إلى تكوين الأسرة لأنه وجد فيها نوعا من التنظيم الاقتصادى أو وجد أنها الطريقة المثلى لتنشئة الأطفال .(1/409)
إنما نقول إن الله العليم الخبير الذى يعلم أن الأسرة هى التى تحقق التنشئة السليمة للأطفال حين تتخصص الأم فيها لهذه المهمة الخطيرة ، قد جعل الحنين إلى تكوين الأسرة جزءا من الفطرة ، تشعر فيها بالسكن والسكينة ، وتشعر فى خارجها بالقلق وفقدان السكينة ولو حققت كل مطالب الجنس وكل الاكتفاء الاقتصادى ! ثم نظم سبحانه وتعالى العلاقات الاقتصادية داخل الأسرة بحيث تكون المرأة مكفولة كاملة دون أن تحتاج إلى العمل خارج البيت ، لكى تستطيع التفرغ لمهمتها الأصلية ، فكلف الرجل بإعالتها - لا تفضلا ولكن تكليفا - وكلفها هى رعاية شؤون البيت والأطفال ، ثم جعل فى فطرة كل منهما وتركيبه العصبى والنفسى ميلا لهذا التكليف وقدرة عليه ، وشعورا بتحقيق الذات عن طريقه .
ذلك هو الوضع السليم للأسرة كما أنشأها الله .
فأما الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق فيكرهون أن يستمعوا لهذا القول ويشمئزون منه بدعوى أنه كلام غير علمى !
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [سورة الزمر 39/45]
فيقول دور كايم : " ومن هذا القبيل أن بعض هؤلاء العلماء يقول بوجود عاطفة دينية فطرية لدى الإنسان ، وبأن هذا الأخير مزود بحد أدنى من الغيرة الجنسية والبر بالوالدين ومحبة الأبناء ، وغير ذلك من العواطف ، وقد أراد بعضهم تفسير نشأة كل من الدين والزواج والأسرة على هذا النحو ، ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان " 213
متى أوقفنا التاريخ على أن هذه النزعات ليست فطرية فى الإنسان ، وكيف أوقفنا على ذلك ؟! أم لهم تاريخ سرى غير التاريخ العلنى الذى يعرفه جميع الناس ن ويعرفون فيه أن هذه الأشياء كلها مركوزة فى الفطرة ؟!(1/410)
ويقول التفسير المادى للتاريخ إن الأسرة بحجمها وتبعاتها ووظائفها وعلاقاتها هى مجرد انعكاس للوضع الاقتصادى ، ومن ثم فهى " تتطور " تطورا حتميا يمكن أن يفضى بها إلى الزوال !
والتجربة الواقعية تفنينا عن الخوض فى النظريات . فالنظريات تظل نظريات حتى يصدقها الواقع أو يكذبها . وما يقوله دور كايم أو التفسير المادى للتاريخ أقل فى الحقيقة من أن يسمى نظرية ، لأنه فرض متعسف لا دليل عليه من الواقع . ولكن حتى لو كان يرتقى إلى حد أن يكون نظرية فهذا هو واقع الجاهلية المعاصر يكذبه .
فالرجل والمرأة كلاهما فى الجاهلية المعاصرة يحققان كل ما يخطر على بالهما من متاع الجنس بلا قيود . لا قيود خلقية ولا قيود اجتماعية ولا قيود قانونية ولا قيود فكرية ثم إنهما يحققان وجودهما الاقتصادى كل على حدته ، فالرجل يتكسب والمرأة تتكسب ، ويتولى كل منهما الانفاق على نفسه وعلى بهيمية الجنس التى يمارسها من كسبه الخاص دون حاجة إلى المعونة الاقتصادية من الآخر ، ومن ثم يتأخران كثيرا جدا فى الزواج وتكوين الأسرة . أو يلغيان ذلك من حسابهما إلغاء كاملا ، ويعيشان فى حالة " صداقة " مستمرة ، أى فى حالة مخادنة غير مقيدة بالرباط المقدس ، أو فى حالة فوضى جنسية لا ترتبط حتى برباط المخادنة غير المقدس .
فلماذا لا يستريح الرجل ولا المرأة إلى هذه الأوضاع التى تحقق كل مطالب الجنس وكل مطالب الاقتصاد ؟ ! بل لماذا يشقى الرجل والمرأة كلاهما ويبدو الشقاء فى صورة الاضطرابات العصبية والنفسية والقلق والجنون والانتحار وإدمان الخمر وإدمان المخدرات ؟
الجواب عندنا هو أن الرجل والمرأة كليهما قد فقدا السكن والسكينة اللذين جعلهما الله فى الأسرة ولم يجعلهما فى أية علاقة خارج الأسرة ، ولو حققت كل مطالب الجنس وكل مطالب الاقتصاد .(1/411)
فمن لم يعجبه هذا الجواب واشمأزت نفسه منه لأنه يذكر الله وحده وفطرة الله وحدها ومنهج الله وحده ، فليأت من عنده بالجواب الذى يريد ، ولكن عليه بالبرهان ، لا أن يطلق الدعوى بلا دليل على طريقة دور كايم أو على طريقة التفسير المادى للتاريخ !
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [سورة الأنعام 6/148]
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (111)} [سورة البقرة 2/111]
فهذا - وحده - هو المنهج العلمى الصحيح .
3- الشيوعية الأولى :
يزعم التفسير المادى للتاريخ أن الشيوعية كانت هى الطور الأول للبشرية ، وأنها كانت شيوعية شاملة ، تشمل كل نواحى الحياة البشرية بما فى ذلك الجنس ، فكانت القبائل البشرية الأولى تعيش فى حالة من المشاعية الجنسية الكاملة ، مع مشاعية الأرض ومشاعية الطعام .. الخ .
ودليلهم على وجود الشيوعية الأولى - بهذه الصورة - هو ما اكتشف فى القرنين الماضيين من أحوال القبائل البدائية التى كانت تعيش فى أفريقيا وأسيا وأستراليا منعزلة تماما عن تيار المدينة لا يعرفون شيئا عن العالم من حولهم ، ولا يعرف العالم شيئا عنهم . فقد وجدوا تلك القبائل تعيش عيشة جماعية .. أرض القبيلة ملك مشترك لها جميعا لا ينفرد فيها أحد بملكية خاصة ، والطعام مشترك بينهم سواء كان صيد بريا أو بحريا أو غير ذلك ، يطهى للقبيلة كلها وتأكل منه القبيلة كلها دفعة واحدة . وأسلحة الصيد والحرب ملك للقبيلة كلها كذلك . وقال فريزر - وهو مرجعهم الأكبر فيما زعموا من أحوال البشرية الأولى - إنه اكتشفت بعض القبائل تمارس ألوانا من الشيوعية الجنسية ، إما كل النساء لكل الرجال على المشاع ، وإما مجموعة معينة من النساء لمجموعة معينة من الرجال داخل القبيلة الواحدة .(1/412)
ونستطيع أن نتصور بالفعل - على ضوء أن نتصور بالفعل - على ضوء أحوال هذه القبائل التى اكتشفت فى القرنين الأخيرين - أن حياة القبائل الأولى كان فيها قدر كبير من المشاركة الجماعية فى المسكن والمطعم وأدوات الصيد وأدوات الحرب .
ففى النظام القبلى تكون القبيلة هى " الوحدة " التى يعيش الأفراد فى داخلها ، ويمارسون الحياة من خلالها . وفى وقت متأخر جدا من بداوة البشرية - وقت كانت قد قامت فيه " حضارات " كثيرة فى بقاع مختلفة من الأرض - كان الشاعر العربى يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد !
فيعبر بذلك عن انسياجه الكامل فى القبيلة وعدم استقلاله بذاتيته حتى مع علمه أن قبيلته تكون أحيانا على الرشد وأحيانا على الغى ، وليست راشدة فى جميع أحوالها .
فإذا كان هذا فى حياة العرب قبيل الإسلام ، قلنا أن نتصور أن القبائل التى وجدت فى تاريخ سابق على ذلك كثيرا كانت على ذات الصورة من التمركز فى القبيلة ، وانسياح كيان الأفراد فى كيان القبيلة الكلى فى السلم والحرب والرشد والغى على السواء !
فإذا اضفنا إلى ذلك أنه فى بداوة البشرية الأولى لم يكن هناك شئ يمتلك - إلا القليل النادى أمكننا أن نتصور كذلك أن الملكية الفردية لم تكن قائمة فى ذلك العهد السحيق على صورتها التى قامت فيما بعد .(1/413)
فالخيام - إن كانوا من ساكنى الخيام - يسكنها مجموع أفراد القبيلة ويتعارفون فيما بينهم على أن فلانا يسكن فى هذه الخيمة وفلانا الآخر يسكن فى تلك . ولكن شعور كل فرد من أفراد القبيلة لا يتجه إلى ملكيته الخاصة للخيمة ، إنما يتجه إلى اعتبار مجموع الخيام كلها ملكا للقبيلة بأجمعها ، فيقول فى نفسه : هذه خيام قبيلتى ! لأن الوحدة يومئذ ليست هى الفرد إنما هى القبيلة ، والفرد لا يمارس حياته فدرا إنما يمارسها من خلال القبيلة ، فيتحدث - حين يتحدث - بضمير الجمع ، فيقول : ذهبنا وجئنا وصنعنا كذا وكذا .. لأن هذه الأعمال كلها تتم بالفعل بصورة جماعية .
كذلك الطعام لا تتصور فيه الملكية الفردية فى ذلك العهد السحيق .
فالطعام فى غالبيته صيد ، سواء كان صيد بر أو بحر ، والصيد يحتاج إلى مجموعة من الأفراد تقوم به - من الشباب بصفة خاصة - ولا يقدر عليه فرد واحد . فإذا جاء الصيد وتم طهيه على يد المختصين - أو المختصات - فى القبيلة ، فعندئذ تتجمع الوحدة التى يمارس الأفراد من خلالها وجودهم فتتناول وجبة الطعام الجماعية ، ثم يلقى الباقى - إن بقى منه شئ - لأنه إن بقى ينتن ولا يصلح للطعام ، فلم تكن وسائل الحفظ قد اكتشفت فى ذلك العهد السحيق من بداوة البشرية .(1/414)
ومن أجل كون الوحدة هى القبيلة وليست الفرد - وهو أصل نفسى واجتماعى وليس اقتصاديا بحتا - فإن القبيلة كلها تدخل فى السلم أو تدخل فى الحرب ، فلا يتصور كذلك أن تكون هناك ملكية خاصة للسلاح داخل القبيلة ، لأنه لا يستخدم إلا بصورة جماعية من خلال تلك الوحدة التى يمارس الأفراد من خلالها نشاطهم كله . فإذا تصورنا أن السلاح كله - رماحا أو سهاما أو عصيا أو ما أشبه - يوضع فى مخزن واحد مشترك ، وأنه حين ينادى على الحرب وتدق طبولها يهرع المقاتلون من أفراد القبيلة إلى ذلك المخزن المشترك فيتناول كل منهم نصيبه من السلاح ، حتى إذا عادوا أعادوا السلاح إلى موضعه المشترك .. إذا تصورنا ذلك فلا نكون بعيدين عن الصواب . وحتى لو تصورنا أن شخصية الفرد قد نمت فى داخل القبيلة شيئا من النمو فى عهد متأخر فصار له سلاحه المستقل ، فإنه لن يستخدمه إلا بإذن من القبيلة ، وفى المواضع التى توجهه إليها القبيلة فحسب .
أما الشيوعية الجنسية والمساواة الكاملة والحالة الملائكية المزعومة التى توصفه بها الشيوعية الأولى فمسألة لا يقوم عليها الدليل !
كل دليلهم بالنسبة للشيوعية الجنسية هو ما رواه الرحالة المكتشفون من وجود أنواع منها فى تلك القبائل التى اكتشفت فى أفريقيا وآسيا واستراليا على حالة بدائية بعيدة عن كل صور المدنية .
ولنسلم جدلا بصحة كل ما رواه أولئك الرحالة ، وأنهم وصفوا الحقيقة كاملة بغير تهويل ولا تزييف . فما دلالة روايتهم ؟
بعض القبائل لأكلها . وجدت فيها أنواع مختلفة من الشيوعية الجنسية لا نوع واحد محدد ، فهل يصلح هذا دليلا على أن كل القبائل التى عاشت فى بداوة البشرية مارست الشيوعية الجنسية الكاملة ؟ !
إننا نؤمن بادئ ذى بدء الله أرسل هداة من البشر ينظمون لأقوامهم طرائق معيشتهم بمقتضى الوحى الربانى الذى أخبر عنه آدم وحواء يوم سكنا هذه الأرض ، وأن بعض الناس آمنوا واهتدوا وبعضهم تنكب الطريق :(1/415)
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } [سورة البقرة 2/38-39]
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل 16/36]
{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [سورة فاطر 35/24]
فليس البشر كلهم أمة واحدة على الهدى ولا على الضلال .
ولكن الشيوعيون لا يؤمنون بالله ولا برسله ولا بوحيه .. فلننظر فى أدلتهم العلمية الموضعية !
لو وجدنا كل القبائل المتأخرة المنعزلة عن العمران تمارس لونا واحدا من المشاعية الجنسية لقلنا إنه ربما كان هذا هو الحال الذى كانت عليه البشرية فى أول عهدها ، ولم نقطع مع ذلك بأن هذا أمر يقينى ، لأن الشذوذ والانحراف يطرأ دائما على الناس فى أثناء مسيرتهم التاريخية ، ولا يدل وجوده فى أى جيل على أنهن كان موجودا فى أجيال سابقة .
ألم تقع الفاحشة الشاذة من قوم لوط غير مسبوقة ؟ فهل نقول إن وجودها وتفشيها فى قوم لوط دليل على أنها وجدت منذ أول البشرية ووجدت على سبيل الشمول ؟ !
وهب إن إنسانا بعد مائة عام أو ألف عام قلب فى صحف القرن العشرين فوجد صور النساء العاريات فى الشواطئ وفى الشوارع وفى البيوت ، وقرأ عن التمثيليات التى تمارس فيهما العملية الجنسية كاملة على المسرح وتنقلها شاشة التلفزيون ، فحكم بناء على ذلك بأن العرى أصل من أصول البشرية ، وأن الممارسة العلنية للجنس هى الأصل الذى مارسته البشرية فى تاريخها كله .. أيكون هذا استلالا " علميا " موضوعيا تبنى عليه نظريات علمية لتفسير السلوك البشرى ؟ !(1/416)
كذلك قصة القبائل المتأخرة التى عثر عليها فى مختلف بقاع الأرض ، لا تدل ممارستها للشيوعية الجنسية على أن هذا هو الأصل الذى كانت عليه البشرية فى بداوتها ، ولو كانت كلها تمارس تلك الشيوعية وبعضها لا يمارسها ؟ وما بال إذا كانت القبائل التى تمارسا لا تمارسها على صورة واحدة ؟
إنما لجأ الشيوعيون إلى اعتساف الدليل ، والزعم بان الشيوعية الجنسية كانت قائمة فى البشرية الأولى ، لأنهم كانوا فى مبدأ أمرهم يروجون لهذه الشيوعية فى نظرياتهم وتطبيقاتهم ، ويريدون أن يجعلوها قاعدة الحياة عندهم ، ترغيبا "للزبائن " من الشباب الذى يعانى الحرمان الجنسى لأى سبب من الأسباب ! فلما رأوا فيما بعد أن هذا الأمر يستغل فى الدعاية ضدهم والتنفير منهم عادوا ، فعدلوا النظرية وإن كانوا لم يعدلوا تعديلا جوهريا فى التطبيق ، واحتجوا - كأنما ذلك يعطيهم الحجة - بأن الشيوعية الجنسية قائمة على نطاق واسع فى المجتمع الرأسمالى ! يقول البيان الشيوعى الذى أصدره ماركس وإنجلز :
" ليست بالشيوعيين حاجة إلى إدخال إشاعة النساء فهى تقريبا كانت دائما موجودة . ولا يكتفى البرجوازيين بأن تكون تحت تصرفهم نساء البرولتاريين وبناتهم - هذا عدا البغاء الرسمى - بل يجدون لذة خاصة فى إغواء بعضهم لنساء بعض .
" ليس الزواج البرجوازى فى الحقيقة والواقع سوى إشاعة النساء المتزوجات "
وهو حق يراد به باطل ! فوجود الشيوعية الجنسية فى المجتمع الرأسمالى الذى أشرف اليهود على توجيهه حقيقة واقعة . ولكن وجودها ليس حجة لمن يريد لها أن تستمر ، وخاصة إذا كان من " الثائرين " على النظام الرأسماليى ، الذيى يريدون - بالثورة الدموية - أن يعدلوا ما ينطوى عليه من الفساد ! إلا أن يكون هذا اللون من الفساد مطلوبا بالذات ، يراد الإبقاء عليه وترويجه - وتلك هى الحقيقة - فعندئذ تعتسف له الأدلة وتقام له الأسانيد ! ولكنها أسانيد باطلة لا تثبت للتمحيص العلمى .(1/417)
وأما المساواة الكاملة والحياة الملائكية التى يصفون بها الشيوعية الأولى فأمر كذلك يعوزه الدليل .
فالمعروف أن شيخ القبيلة - على الأقل - شخص متميز فى كل أموره وأوضاعه ، بما فى ذلك ملبسه الذى يميزه عن أفراد قبيلته للوهلة الأولى ، إذ لابد أن يتميز ولو بريشة زائدة يضعها على رأسه ، يعرف منها القريبة والبعيد أنه هو الرئيس الذى تقدم له فروض التوقير والاحترام . والرئيسة مجرد رمز ، ولكنها ترمز إلى تمييز حقيقى واسع المدى بين شيخ القبيلة وبقية افرادها . سواء كان التمييز قائما على القوة الجسدية أو الخبرة والحنكة وبعد النظر ، أو السن ، أو الشجاعة وحسن البلاء فى الحرب ، فإن شيخ القبيلة يتمتع دائما بمكانة متفردة ، وغالبا ما يتمتع كذلك بعدد أكبر من النساء !
ثم إن الشبان الأقوياء من القبيلة ، أو الماهرين فى الصيد أو الشجعان فى الحرب لابد أن يتميزوا بحكم الأمر الواقع ، أى بحكم مواهبهم ، وتكون لهم عند شيخ القبيلة منزلة خاصة ، ومن حقه أن يمنحهم من الامتيازات ما يشاء ، فإرادته أمر ، وأمره مطاع !
والزعم بأنه لا توجد امتيازات ولا فوارق فى تلك الحياة البدائية لمجرد عدم وجود ملية فردية زعم يكذبه الواقع المشهود من أحوال القبائل ذاتها التى يستمدون منها أدلتهم ! فلماذا يأخذون الدليل التعسفى حين يريدون ، ويتركون الدليل الواضح حين يكون مخالفا لأهوائهم ومزاعمهم ؟ غنما نستدل من أحوال هذه القبائل - إذا أردنا استمداد الأدلة منها - على أن المساواة ليست أصلا من أصول الحياة البشرية ، وأن الأصل هو التمايز بين الناس باختلاف مواهبهم ، سواء كان تمايز عادلا - أى قائما على مسببات صحيحة - كما يحدث فى المجتمعات المستقيمة - أى المهتدية بالهدى الربانى - أو كان تمايزا ظالما كما يحدث فى المجتمعات الجاهلية كلها بلا استثناء .(1/418)
إنما يتعسفون فى إنكار الدليل الواضح فى هذه القضية لأنهم يريدون تحقيق هدفين على الأقل بإعلان مبدأ المساواة ، الأول هو ترغيب " الزبائن " من المقهورين المغلوبين على أمرهم فى مجتمعاتهم - وهم الكثرة الكاثرة من أفراد الشعب - ليقبلوا على الشيوعية ويعتنقوها - فزعموا لهم أنهم سيطبقون المساواة الكاملة فى مجتمعهم الشيوعى ، وسندا هذا الزعم بأن المساواة هى الشأن الطبيعى فى الشيوعية ، سواء الشيوعية الأولى أو الآخرة !
والهدف الثانى أنهم - لأمر فى مخططهم - كانوا يسعون إلى نزع الملكية الفردية جميعا ، فزعموا للناس أن الأصل فى البشرية هو المساواة المطلقة فىكل شئ ، وأن الذى أفسد المساواة هو الملكية الفردية ، وأنهم سيلغون الملكية الفردية لتحقيق المساواة فى مجتمعهم الملائكى الجديد . 214
وأيا كانت أهدافهم الظاهرة أو الخفية فليس هناك سند علمى لوجود المساواة المطلقة فى الشيوعية الأولى ، على فرض وجود تلك الشيوعية بالصورة التى يصفونها !
وأما الصورة الملائكية فى تلك الشيوعية الأولى فلم يأتوا لها بسند على الإطلاق .
وما بنا من حاجة إلى مناقشة دعوى لا يقوم عليها دليل !
إنما عليهم أن يثبتوا - أن استطاعوا - أنه لم تقع منافسات بين شباب القبيلة الواحدة على الحظوة بالمنزلة الخاصة عند شيخ القبيلة وما يترتب على ذلك من امتيازات . وأنه لم تقع منافسات ومشاجرات تؤدى إلى القتال أحيانا بين شباب القبيلة على " امتلاك " امرأة معينة لأنها فى نظر المتقاتلين عليها أجمل من غيرها من النساء .
ثم عليهم أن يثبتوا أخيرا أن الحروب لم تكن تقع بين بعض القبائل وبعض ، وأنها كانت تعيش فى حالة من الإخاء والسلام والمحبة كما يعيش الملائكة الأطهار !(1/419)
فإن لم يثبتوا ذلك - ولن يثبتوه - فنحن نقول إن أحوال القبائل كما رواها التاريخ ، وكما ظهرت فى القبائل المكتشفة فى القرنين الماضيين هى حياة التنافس الدائم والتنازع الدائم والصراع .. فلماذا نترك دلالة الواقع ونرسم صورة من الخيال ؟ !
إنما أرادوا - كما اسلفنا - أن ينزعوا الملكية الفردية جميعا ويركزوا الملكية فى يد الدولة التى يسيطرون هم عليها فى واقع الأمر . فزعموا للناس أن المصائب كلها نشأت من الملكية الفردية بعدزوال الشيوعية الأولى ذات الطابع الملائكى وأنهم عائدون بالبشرية إلى ملائكيتها المفقودة بنزع الملكية الفردية جميعا فى الشيوعية الثانية ! وذلك ترغيبا " للزبائن " المحرومين من الملك الحاقدين على الملاك وهم أكثرية الناس فى المجتمعات الإقطاعية والرأسمالية - حتى يعتنقوا الشيوعية ويؤازروها ، ويكونوا مددا لها وسندا فى كل مكان فى الأرض !
4- الملكية الفردية:
أشرنا فيما سلف أكثر من إشارة إلى قضية الملكية الفردية ووضعها فى التفسير المادى للتاريخ . ومع ذلك أفردنا لها حديثا خاصا لشدة أهميتها سواء فى التصور المادى أو فى التطبيق الشيوعى .
يرى أصحاب التفسير المادى للتاريخ أن الملكية الفردية هى سبب كل الشرور التى حلت بالبشرية منذ خروجها من مرحلة الشيوعية الأولى إلى أن تعود الشيوعية الثانية فتلغيها وتلغى معها الشرور الناشئة عنها .
وينشأ الشر من أن الذى يملكن هو الذى يحكم ، وحين يحكم فإنه يضع التشريعات التى تخدم مصالحه ومصالح طبقته على حساب بقية الطبقات .(1/420)
ويرى الماديون كذلك أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية فى النفس البشرية بدليل فترة الشيوعية الأولى التى لم تكن فها ملكية فردية . إنما هى أمر مكتسب ، اكتسبته البشرية بعد أن اكتشفت ( أو تعلمت ) الزراعة ، حيث أدى ذلك إلى انتهاء فترة الشيوعية الأولى ودخول البشرية فى مرحتلى الرق والإقطاع . ثم لما تحولت الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية صناعية رأسمالية دخلت البشرية مرحلة الرأسمالية .
ويرون أن الصراع الطبقى الذى يدور عليه تاريخ البشرية كله فيما بين الشيوعية الأولى والشيوعية الأخيرة قائم كله على الملكية الفردية ومتعلق بها وأن هذا الصراع لا يزول من الأرض إلا بإزالة السبب المتعلق به أى إزالة الملكية الفردية فى جميع صورها .
? ? ?
بعض هذا الذى يراه أصحاب التفسير المادى للتاريخ صحيح ولا شك ، ولكن صحته قائمة فى نطاق محدد لا تتعداه إلى التعميم المطلق ، وفضلا عن ذلك فإن المغالطات والأوهام حول الملكية الفردية أكثر بكثير م الحقائق الواردة حولها مع كون هذه الأخيرة محددة فى نطاق معين وليست مطلقة الصحة فى جميع الحالات.
فكون الذى يملك هو الذى يحكم ، وكونه حين يحكم يشرع لصالحه وصالح طبقته على حساب بقية الطبقات .. هذا صحيح صحة كاملة ، ولكن فى نطاق الجاهليات وحدها التى تحكم بشرائع البشر ولا تحكم بشريعة الله .(1/421)
وحقيقة أن الجاهليات تحتل القسم الأكبر من التاريخ البشرى ! ولكن وجود نظام إيمانى تحكم فيه شريعة الله بدلا من شرائع البشر حقيقة موضوعية . والأمانة العلمية تقتضى استثناءه من القاعدة العامة التى يضعها التفسير المادى للتاريخ . ولو أن التفسير المادى للتاريخ وضع هذا الاستثناء وأشار إليه ما كان لنا عليه اعتراض فى هذه النقطة بالذات ( وإن كانت لنا عليه اعتراضات فى مواضع أخرى أشرنا إلى بعضها فى حينها ونشير إلى بعضها الآخر فيما بعد ) فتاريخ الجاهليات بالفعل تاريخ ظالم شديد الظلم ، ينقسم فيه الناس دائما إلى سادة وعبيد ، سادة يملكون ويحكمون ويشرعون وعبيد لا يملكون شيئا ولا يحكمون ولا يشرعون ، إنما تقع على عاتقهم الأعباء التى يلقيها عليهم الحكام .
وانقسام المجتمع إلى سادة وعبيد ( أو إلى الذين استكبروا والذين استضعفوا كما جاء فى القرآن الكريم ) يتصل بالفعل بقضية الملكية الفردية ، ولكن حصره فى هذه القضية ، أو فى النطاق المادى والاقتصادى بصفة عامة هو حجب للحقيقة الأصلية التى تنشأ عنها تلك الحقيقة الفرعية التى يركز عليها التفسير المادى للتاريخ.
الحقيقة الأصلية التى لا يجب الماديون ذكرها على الإطلاق ، ولا يؤمنون بها كذلك ، هى قضية الألوهية وقضية العبودية قضية الإله وما ينبغى له على عباده ، والعبادة وما ينبغى عليهم تجاه إلههم وخالقهم ، ثم ما يترتب على مخالفة هذه المقتضيات من خلل فى حياة البشرية .
إن من حق الله على عباده أن يعبدوه ( بالمعنى الشامل للعبادة الذى يشمل الاعتقاد بوحدانيته ، وتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده ، وطاعته فيما أمر به ونهى عنه ، وعدم الاحتكام فى أى أمر من أمور حياتهم إلى شريعة غير شريعته ) وذلك بمقتضى أنه إلههم وخالقهم : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54](1/422)
فيما أنه هو الخالق فهو صاحب الأمر ، ولا يحق لأحد أن يكون صاحب الأمر إلا أن يكون هو الخالق ، أو يكون خالقا مع الله . ولذلك يدور الجدل والحوار كله مع الكفار فى القرآن بشأن قضية عبادة غير الله على محور واحد / هل أولئك الذين تطيعون تشريعهم من دون الله هم الخالقون ؟ أم لهم شرك فى الخلق ؟ فإن لم يكونوا خالقين ، ولا لهم شرك فى الخلق ، فليس لهم أن يحلوا أو يحرموا مع الله أو من دون اله .
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [سورة الرعد 13/16]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)} [سورة فاطر 35/40]
ولم يكن ذلك فى أمر العبادة بمعنى الاعتقاد فقط ، أو بمعنى التوجه إلى الله بشعائر التعبد فقط ، إنما كان كذلك فى أمر العبادة بمعنى اتباع ما أنزل الله :
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21]
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [سورة الأعراف 7/3](1/423)
وحين دخل عدى بن حاتم ( وكان نصرانيا ) على رسول الله صلى الله عليم وسلم ليعلن إسلامه تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [سورة التوبة 9/31] فأحتج عدى بن حاتم على الشق الخاص بعبادة الأحبار والرهبان فقال : يا رسول الله ما عبدوهم ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم يحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ؟ قال : بلى ! قال : فتلك عبادتهم إياهم !
وحين يخرج الناس على عبادة الله فإنهم يخرجون على مقتضى عبوديتهم ، فيصيبهم جزاء ذلك الخروج خبالا فى الدنيا وجحيما فى الأخرة .
وخبال الدنيا هو انقسام المجتمع إلى فريقى السادة والعبيد : السادة يملكون ويحكمون ويشرعون من عند أنفسهم ، فتكون تشريعاتهم لصالح أنفسهم على حساب العبيد . والعبيد - الذين رضوا بالعبودية لغير الله فأصبحوا عبيدا للبشر مثلهم - تقع عليهم التكاليف ويقع عليهم الظلم ويقع عليهم الحرمان .
ومن ثم تكون الملكية الفردية وبالا فى الجاهلية . لا لأنها بطبيعتها كذلك .. ولكنها لأنها تصبح عندئذ أداة الظلم التى تمكن للسادة فى جعل أنفسهم أربابا للعبيد .
والسادة والعبيد كلاهما فى الجاهلية قد رفضوا العبودية لله فتلقفتهم الشياطين : وجزاؤهم فى الآخرة جهنم وبئس القرار . أما فى الدنيا فيستمتع السادة متاع الحيوان :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} [سورة محمد 47/12](1/424)
أما العبيد - أى الذين لا يملكون - فلهم ذات الجزاء فى الآخرة لأنهم نكلوا عن عبادة الله ورضوا بعبادة العبيد ، وفى الوقت ذاته لهم فى الدنيا البؤس والشقاء والظلم يتجرعونه جزاء رضاهم باستعباد أنفسهم لأولئك الأرباب من دون الله .
أما حين يستقيم الناس على أمرا الله ، فيعبدونه وحده بلا شريك ، ويرفضون العبودية لأحد مع الله أو من دون الله ، أى يرفضون التوجه بشعائر التعبد لغير الله ، ويرفضون أن يتلقوا التشريع من عند أحد غير الله ، فعندئذ يكونون قائمين بمقضتى عبوديتهم لله الحق ، فيصيبهم جزاء ذلك بركة فى حياتهم فى الدنيا ورضوانا من الله فى الآخرة .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [سورة الأعراف 7/96]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [سورة المائدة 5/65-66]
ومن البركات التى تصيبهم فى الدنيا نجاتهم من أن يكونوا عبيد للأرباب الزائفة فى الأرض ، وشعورهم بالعزة الحقيقية التى يستمدونها من الاستعلاء بالإيمان ، فلا تذل تفوسهم لطغاة الأرض ، ولا يسمحون لأحد أن يجعل من نفسه ربا يشرع بغير ما أنزل الله ، لأنهم يستمدون العزة والقوة ممن هو أكبر منهم وأعلى .. الله أكبر .
ومن البركات كذلك الرخاء الذى يسبغه الله على الأ{ض المؤمنة من خيرات السماء التى يفيضها عليهم ، ومن تكافل الأمة المؤمنة فيما بينها ، فلا يستمتع فريق بالخيرات وحده ويظل فريق فى الحرمان .(1/425)
وعندئذ توجد الملكية الفردية ولا يوجد معها الظلم والشر الذى يصاحبها فى الجاهلية . لأن الذى يملك هنا لا يحكم ! أى لا يضع تشريعات من عنده يصوغها لمصلحته على حساب الآخرين .. إنما تكون الحاكمية لله ، هو الذى يحل ويحرم وهو الذى يضع التشريعات التى يخضع لها الحاكم والمحكوم سواء ، والتى يتوفر فيها العدل الحقيقى لأنها منزلة من عند رب الجميع الذى لا يحابى أحدا من البشر على حساب أحد .
وقد تقع المظالم فى ظل المنهج الربانى من سوء التطبيق لما أنزل الله ، ومن جور الحكام الذى يحدث من عصيانهم لله ، وحكمهم فى بعض القضايا بغير ما أنزل الله ، وإن كانوا لا يضعون تشريعات من عند أنفسهم تخالف ما أنزل الله ، ولا يجعلون مخالفتهم تشريعا يلزمون به الناس ، وإلا لكفروا بذلك كفرا صريحا وخرجوا من ملة الإسلام . وعندئذ نلحظ أمرين هامين : الأول : أن حجم الظلم الذى يقع على مجموع الأمة أقل بكثير من الظلم الذى يقع فى الجاهليات التى لاتحكم بما أنزل الله ، والثانى : أن الأمة مطالبة بكف هذا الظلم ومنعه من الاستمرار ، وإلا فهم أثمون فى حق الله ، كما أنهم أثمون فى حق أنفسهم " ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنه تخلف من بعد ذلك خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون . فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل 215(1/426)
وهكذا يتبدى لنا أن الشر لاينجم من الملكية الفردية فى ذاتها ، فيكون العلاج هو بترها من منبتها ، إنما ينجم من طبيعة الجاهلية التى لا تحكم بما أنزل الله ، فيكون العلاج هو القضاء على الجاهلية وتححكيم شريعة الله ن وعندئذ تبقى الملكية الفردية التى شرعها الله لتستجيب للفطرة التى خلفها الله . تبقى على النحو الذى شرعه الله ، وبالحدود والضوابط التى أنزلها الله .. ولا ينشأ الظلم الذى حرمه الله !
? ? ?
وقد أقفل الماديون كل باب للإصلاح ، وقالوا لا إصلاح على الإطلاق إلا بإلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا لا هوادة فيه ، فلما قيل لهم إن ذلك مضاد للفطرة ردوا - " علميا " كعهدهم فى كل شئ - فقالوا أولا إن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ، وإنما هى مكتسبة ن وقالوا ثانيا : إنه لا توجد " فطرة " إنما تنشأ المشاعر والأفكار والمواقف انعكاسا من الوضع المادى وتبعا له ، ولا شئ منها ثابت على الإطلاق !
وبصرف النظر عن التناقض الضمنى بين القول الأول والثانى ، لأن الأول يتضمن الاعتراف بوجود نزعات فطرية فى النفس البشرية وإن نفى الملكية الفردية من بينها ، والثانى ينفى وجود نزعات فطرية على الإطلاق .. بصرف النظر عن هذا التناقض نقول إن ادعاءهم بأن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية هو مجرد ادعاء ليس عليه دليل علمى واحد .. إلا ذلك الدليل " غير العلمى " وهو وجود الشيوعية الأولى ، التى افترضوها كأنها حقيقة مؤكدة ثم راحوا يستنبطون منها كل ما يراود مزاجهم من التصورات والتطبيقات ، سواء فى نزع الملكية الفردية أو فى إباحة الفوضى الجنسية وتفتيت الأسرة أو فى غير ذلك من المجالات .(1/427)
ولقد ناقشنا تلك الشيوعية من قبل : ورأينا أولا أنه لا يوجد دليل يقينى عليها . ورأينا ثانيا أن أوصافها المزعومة ليست كلها منطبقة على المصدر الذى استمدوا منه كل افتراضاتهم ، وهو القبائل المنعزلة التى عثر عليها فى العهود الأخيرة . ولا على ما هو معلوم من أحوال القبائل القديمة من سجلات التاريخ .
ولكنا نفترض أن ما يقولونه صحيح كل الصحة فيما يتعلق بعدم وجود ملكية فردية فى المأكل والمسكن لدى القبائل الأولى التى كانت فى بداوة البشرية ، فما الدلالة " اليقينية " التى يمكن استنباطها من هذا الوضع؟
إننا لا نستطيع أن نستنبط من ذلك يقينا أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ! وذلك من أقوالهم ذاتها ! فهم أنفسهم يقولون إنه بمجرد اكتشاف الزراعة ظهرت الملكية الفردية ! فكيف ظهرت ؟ !
إن القول بأن الزراعة هى التى أنشأت الملكية الفردية بذاتها - من عند نفسها لا بدافع من النفس البشرية - هو قول ساذج غبى لا يثبت للبحث العلمى ولو رددوه فى كل كتبهم بلا استثناء .
إنما الذى يناسب البحث العلمى أن نقول إن الأرض كانت موجودة من قبل ولكنها لم تستثر حاسة الملك عند الناس لأنه لم تكن هناك فائدة تتحقق من امتلاكها . وبمجرد ظهور الفائدة تحركت الحاسة التى كانت موجودة من قبل فى حالة كمون ، فنشطت وتحركت للعمل .
وقد تكرر هذا فى التاريخ أكثر من مرة .(1/428)
فالحيوانات قبل استئناسها كانت موجودة ، ولكنها لم تستثر حاسة الملك لأنه لا فائدة تتحقق من امتلاكها وهى على تلك الصورة . ولكن بمجرد أن أمكن استئناسها . وظهرت الفائدة منها ، سعى الناس إلى امتلاكها ملكية قبلية أولا ثم ملكية فردية بعد ذلك حين نمت شخصية الفرد واستقل بوجوده الذاتى عن القبلية ، ولم يكن للزراعة دخل فى هذا الأمر على الإطلاق ! إنما يرجع الأمر إلى أصلين كبيرين الأصل الأول : هو وجود الفائدة من التملك او عدم وجودها ، والأصل الثانى هو درجة النمو الاجتماعى الذى يكون عليه الفرد ، وهل هو فرد فى قبيلة أم فرد فى تجمع أكبر من القبيلة ، فحين يكون فردا فى قبيلة تكون القبيلة هى " الوحدة " النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى يمارس الفرد من خلالها وجوده ، فلا تكون الملكية للفرد ولكن تكون للقبيلة فى مجموعها ، ثم تتناحر القبائل فيما بينها على الملكية إذا كانت الجاهلية هى التى تحكمها وحين يكون فردا فى تجمع أكبر من القبيلة يكون وجوده الفردى أكثر بروزا إلى أن يصبح فردا فى أمة فتكون ذاتيته الفردية فى أبرز أوضاعها ، ثم يتناحر الأفراد من خلال وجودهم الفردى أو وجودهم الطبقى - إذا كانت الجاهلية هى التى تحكمهم .
وعلى ذلك نقول إن الشيوعية الأولى - على فرض وجودها - ليست دليلا يقينيا على عدم وجود نزعة فطرية للتملك ، إنما هى دليل فقط على عدم وجود نشاط ظاهرة لهذه النزعة فى تلك الفترة ، لأنها نشطت بالفعل بمجرد وجود حوافز تستثيرها .
ونقول ثانيا - على فرض وجودها - ليست دليلا يقينيا على عدم وجود نزعة فطرية للتملك ، إنما هى دليل فقط على عدم وجود نشاط ظاهرة لهذه النزعة فى تلك الفترة ، لأنها نشطت بالفعل بمجرد وجود حوافز تستثيرها .(1/429)
ونقول ثانيا إن هذه النزعة يمكن أن تهذب إلى درجة عالية جدا توشك أن تحولها إلى نزعة جماعية كما صنع التهذيب الإسلامى بالأنصار حتى جعلهم يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ويقتسمون معهم كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا ، حتى قال الله فيهم .
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)} [سورة الحشر 59/9]
ولكن هذا التهذيب لا يلغى النزعة الفطرية من أساسها ، إنما يرفعها إلى أنبل صورها مع الإبقاء على أصلها ، ولو كان الله منزل هذا الدين .. الذى هذب النفوس إلى هذا الحد الرفيع ، يعلم - سبحانه وتعالى - أن إلغاءها بدلا من إبقائها وتهذيبها أنفع للإنسان ، أو أنسب لطبيعته ، لشرع سبحانه إلغاءها . ولكنا نجد التشريعات كلها والنصوص كلها تؤكد وجودها فى فطرة الإنسان ، ولكنها فقط تعمل على تهذيبها إلى أقصى ما يملك البشر من أفاق التهذيب ، وهذا نموذج من النصوص التى تحوى الإثبات والدعوة فى ذات الوقت إلى التسامى .(1/430)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)} [سورة آل 3/14-17]
فإذا كان الماديون لا يؤمنون بهذا الحديث كله ويشمئزون من ذكره ، فإننا نقول لهم أخيرا إن نزعة الملكية الفردية يمكن أن تقهر قهرا كاملا كما حدث فى ظل الشيوعية . ولكن هذا أيضا لا يزيلها من منبتها ! والدليل على ذلك شيئان حدث فى التطبيق الشيوعى ذاته يهدمان النظرية من أساسها ، ويؤكدان أن الملكية الفردية نزعة فطرية أصيلة فى النفس البشرية .
الشئ الأول هو تراجع الشيوعيين - فى التطبيق - عن مبدأ الإلغاء الصارم البات لكل نوع من أنواع الملكية الفردية ، الذى بدأوا به حياتهم التطبيقية ، ولجوءهم إلى تمليك الأشياء الشخصية ، وسماحهم بالعمل الإضافى - بعد أداء وحدة العمل الإجبارية - لمن أراد أن يعمل ، فى مقابل أجر إضافى يمكن أن تشترى به أشياء يمتلكونها مدى حياتهم .(1/431)
ولولا أن الشيوعيين وجدوا نزعة الملكية الفردية ذات وجود قاهر - رغم كل القهر البوليسى الذى تمارسه الدولة - ما تراجعوا هذا التراجع تحت أى ضغط من الضغوط ، لأنه تراجع عن أصل جذرى من أصول النظرية ، يمكن أن يؤثر فى النظرية ذاتها على المدى الطويل !
والشئ الثانى هو تناقص الإنتاج الزراعى المتواصل فى ظل الملكية الجماعية نتيجة لضعف الحافز إلى العمل!
وقد يسأل سائل : ولماذا حدث ذلك فى الإنتاج الزراعى وحده ولم يحدث فى الإنتاج الصناعى الذى تقدم تقدما كبيرا فى ظل " النظام " ؟ ونجيب السائل بأن الإنتاج الصناعى - وخاصة فى ظل التكنولوجيا الحديثة - يمكن أن يخضع للرقابة الصارمة ، ويمكن أن يحدد فيه العامل المهمل بدقة متناهية ، لأن عملية الإنتاج ذاتها توزع العمل توزيعا دقيقا على مجموعة العمال الذين يقومون به ، بحيث يقوم كل منهم بعملية واحدة محدودة تتكرر بذاتها مع كل قطعة من قطع الإنتاج ، فيمكن - بسهولة - عند مراجعة الإنتاج أن يعرف العامل المقصر حين يقع تقصير . وعندئذ يقدم لمحاكمة عاجلة ، بتهمة التخريب والخيانة .. الخ ، وقد يحكم عليه بالإعدام ، وينفذ فيه الحكم فورا على رؤوس الأشهاد ، نكالا لما بين يديها وما خلفها ، وإرهابا لمن تحدثه نفسه بالتقاعس والإهمال ، أما الإنتاج الزراعى فلا يمكن مراقبته وضبطه بهذه الصورة مهما كانت شدة الرقابة وصرامتها .. ولذك تناقصت الغلة عاما بعد عام ، حتى صارت روسيا - التى كانت من قبل من الدول المصدرة للقمح ، والتى أضيف إليها أوكرانيا ، حقل القمح الخصب فى أوروبا - صارت روسيا هذه تستورد القمح من أمريكا بكميات متزايدة !
ولقد زعموا أن هذا ناشئ من الآفات الزراعية ! !(1/432)
ولكن العلاج الذى وضعه خروشوف يكشف عن أن الآفات الزراعية لا علاقة لها بالموضوع ! فإن خروشوف لم يأمر بزيادة الأبحاث الخاصة بوقاية الزروع من الآفات ، ولكنه أمر بإتاحة الملكية الفردية لقسم من المحصول ، وللدار التى يقيم فيها الفلاح ! فظهر جليا أن نقص المحاصيل كان راجعا إلى ضعف الحافز على الإنتاج نتيجة مقاومة الحافز الفردى وقهره ، وأن العلاج هو الاعتراف - لو جزئيا - لهذا الدافع بحق الوجود !
ويغنينا هذا عن مزيد من الجدل النظرى الذى لا يصل - مع الماديين - إلى نتيجة !
{وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} [سورة الأعراف 7/146]
? ? ?
يقيم الماديون تفسيرهم للحياة البشرية على أساس أن الصراع الطبقى هو قوام هذه الحياة منذ خرج الناس من الشيوعية الأولى حتى يعودا إلى الشيوعية الثانية ، وأن هذا الصراع الطبقى متعلق بالملكية الفردية فلا يزول من الأرض حتى تزال الملكية الفردية .. وبمجرد أن تزول الملكية الفردية يرجع الناس إلى الحياة الملائكية التى كانوا عليها أيام الشيوعية الأولى وتستريح البشرية من الصراع ..
وكما قلنا مع الملكية الفردية نقول مع الصراع الطبقى ..
صحيح ما يقولون .. ولكنها صحة محددة بنطاق معين ، وليست صحة مطلقة ..
صحيح بالنسبة للجاهليات .. ففى الجاهليات يصدق القول بأن الذى يملك هو الذى يحكم ، وحين يحكم يشرع لصالح نفسه وصالح طبقته على حساب بقية الطبقات .. ومن ثم ينشأ صراع بين الطبقات ، ويدور الصراع حول متاع الأرض ، لأن الجاهلية مفتونة أبدا بمتاع الأرض ، ولأنه فى غياب القيم العليا لا يبقى للناس إلا متاع الأرض يتصارعون حوله ويتقاتلون عليه .(1/433)
أما فى النظام الربانى فليست هناك - بادئ ذى بدء - طبقات ! ومن ثم فلا يوجد صراع طبقى !
ومن كان فى شك من هذه الحقيقة فليرجع إلى تعريف " الطبقة " وتعريف " الصراع الطبقى " عند الماديين أو عند غيرهم سواء .
الطبقة مجموعة من الناس يجمع بينهم وضع اقتصادى معين ، ومن ثم تجمع بينهم مصالح اقتصادية معينة ، ويشملهم وضع تشريعى معين ، فهم إما الطبقة التى تملك ، ومن ثم فهى التى تحكم ، وإما الطبقة التى لا تملك ومن ثم فهى لا تحكم ، وإنما يقع الحكم عليها .
وبيان ذلك من عهود الرق والإقطاع والرأسمالية كالآتى :
فى عهد الرق كان الناس طبقتين رئيسيتين : طبقة السادة وطبقة العبيد . السادة يملكون كل شئ ، ويملكون جميع الامتيازات ، والعبيد من بين " الأشياء " التى يملكها السادة ، لا حقوق لهم ، والسيد يتصرف فيهم كما يشاء .
وفى عهد الإقطاع فى أوروبا كان الناس ثلاث طبقات رئيسية : طبقة الإشراف ( أمراء الإقطاع ) وطبقة رجال الدين وطبقة الشعب . وكان الأشراف ورجال الدين متحالفين كأنهما طبقة واحدة ، وكانا يملكان ويحكمان كل دائرته واختصاصه ، والشعب لا يملك ولا يحكم ، وإنما يقع عليه عبء الطبقتين السالفتين جميعا .
وفى عهد الرأسمالية انقسم الناس إلى طبقتين رئيسيتين : طبقة أصحاب رؤوس الأموال وطبقة العمال . وفى ظاهر الأمر - من خلال مسرحية الديمقراطية والتمثيل النيابى - يبدو أن الشعب - الذى لا يملك - صاحب سلطان ولكن الحقيقة المستترة وراء المسرحية أن الحاكم الحقيقى هو المالك الحقيقى ، أى أن الطبقة الرأسمالية هى التى تحكم وطبقة العمال هى التى يقع عليها الحكم .(1/434)
وفى كل مرة من المرات الثلاث كان يثور صراع طبقى بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة يؤدى إلى تغير مستمر فى الأوضاع ، فالصراع الأول حرر عبيد السيد وحولهم إلى عبيد للأرض أو اقنان ، والصراع الثانى حرر عبيد الأرض وحولهم إلى عمال صناعيين ، وأما الصراع الثالث فقد أدى إلى الشيوعية وفى الشيوعية تقول النظرية إن طبقة البروليتاريا " أى الطبقة الكادحة هى التى تملك وتحكم ، وتبيد الطبقات الأخرى جميعا فينتهى الصراع الطبقى بإبادة الأطراف التى يمكن أن تصارع البروليتاريا فى أى وقت من الأوقات .
فى النظام الربانى لا يوجد شئ من هذا كله !
حقيقة إنه توجد ملكية فردية ويوجد فى المجتمع أغنياء وفقراء .. ولكن لا الإنياء طبقة ولا الفقراء طبقة ، ولا هؤلاء ولا هؤلاء يحكمون !
فالثروة فى المجتمع الإسلامى دائمة التنقل من جيل إلى جيل بحيث لا تكون " طبقة " ائمة من أفراد معينين أو أسر معينة تتوارث وضعا اجتماعيا معينا . فأى فقير يمكن أن يتحول إلى غنى ،وأى غنى يمكن أن يتحول إلى فقير ، فلا يحجزه شئ عن أن يكون هذا أو ذاك ، بحسب تصرفه الشخصى من ناحية ، وبسبب حركة المواريث التى تفتت الثروة من مكان وتجمعها فى مكان آخر .
ثم إن أى إنسان قد يتسلم السلطة ، ولكنه حين يتسلمها لا يحكم بهواه ، إنما يحكم بشريعة الله ، وهذه تقوم على أن إنسانية مستمدة من كونه إنسانا ، لا من كونه غنيا أو فقيرا أو مالكا أو غير مالك ، ثم إنها تطبق على الجميع بصورة واحدة .
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرا الأمة الإسلامية : " إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها 216(1/435)
وقد يقع الظلم كما قلنا من قبل من سوء التطبيق لشريعة الله ، ومن جور الحكام الذين يحكمون فى بعض الأمور بغير ما أنزل الله ، ولكن يظل الظلم الواقع على مجموع الأمة أقل بكثير مما يقع على الأمة التى لا تحكم بما أنزل الله ، ثم يظل من واجب الأمة المسلمة أن تقاوم الظلم وترد الظالم إلى الصواب ، وإلا فهى أثمة فى حق الله كما أنها آثمة فى حق نفسها .
وحين يشتد الظلم فيثور المسلمون - وقد حدث هذا أكثر من مرة فى التاريخ الإسلامى - فهو ليس صراعا " طبقيا " بالمعنى الذى يشير إليه التفسير المادى للتاريخ ، لأنه لا يوجد طبقة تريد الإطاحة بطبقة أخرى لتأخذ مكانها فى السلطة والتشريع . إنما يطالب الثائرون بالعدل ، أى بتطبيق شريعة الله فى المواضع التى خولفت فيها شريعة الله . وما أبعد هذا عن الصراع الطبقى كما يفهمه التفسير المادى للتاريخ !
إنما يوجد الصراع فى النظام الربانى على أسس مختلفة تماما عن الصراع الطبقى الذى هو محور الحياة فى الجاهلية ( إن صدقنا التفسير المادى للتاريخ فى إرجاعه كل الصراعات فى الأرض إلى الصراع الطبقى ، وسنرى الآن أن هذا غير صحيح ) .
الصراع الذى أمر الله المؤمنين بخوضه هو هذا الصراع :
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} [سورة البقرة 2/251]
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)} [سورة الحج 22/40-41](1/436)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال 8/39]
صراع لا علاقة له على الإطلاق " بالطبقات " ولا بالملكية الفردية ! إنه صراع الحق والباطل ، الذى يقول الله فيه :
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76)} [سورة النساء 4/76]
وهو صراع لا يتوقف أبدا ما دام هناك حق وباطل .
ونعود إلى التفسير المادى للتاريخ فنجده يحصر الصراع كله فى الصرع الطبقى ، ويحصر أسباب الصراع فى الملكية الفردية ، ثم يزعم أن الصراع سيتوقف حين تزول الملكية الفردية .
وبصرف النظر عن أن دلالة التاريخ تقول إنه قامت فى الأرض - سواء فى الجاهليات أو فى الإِسلام - صراعات كثيرة غير قائمة على الصراع الطبقى وغير منبعثة من الملكية الفردية ، فإنه يهمنا فى ختام هذه الفقرة أن نكشف عن زيف الدعوى القائلة بأن إلغاء الملكية الفردية سيقضى على الصرع ..
فالشيوعية قد ألغت الملكية الفردية ..
فيم إذن قام الصراع بين لنين وتروتسكى ، وبين ستالين وبيريا ، وفيم المؤامرات الدائمة التى يعلن عن تصفيتها والتغلب عليها ، أو تكون نتيجتها الإتيان بزعيم مقدس جديد بدلا من الزعيم المقدس الهالك أو المدحور ؟!
وفيم الصراع بين شقى المعسكر الشيوعى : روسيا والصين ؟ !
أو لم تلغ الملكية الفردية ؟ ! فلماذا إذن بقى الصراع ؟!
أولا يدلنا ذلك - على أقل تقدير - على أن إلصاق الشرور كلها بالملكية الفردية تعفسف غير " علمى " أقرب إلى الدعاية الغوغائية منها إلى حقائق الواقع وحقائق العلم ؟ !
5- التطور :(1/437)
يزعم التفسير المادى للتاريخ أن الحياة الإنسانية فى تطور مستمر إلى الأمام ، وأن كل مرحلة من مراحل التاريخ الخمس كانت أرقى من سابقتها ، أى أنها تعتبر مرحلة " تقدمية " بالنسبة لما سبقها ، فمرحلة الرق أرقى من مرحلة الشيوعية الأولى ، ومرحلة الإقطاع أرقى من مرحلة الرق ، والرأسمالية أرقى من الإقطاع .. والشيوعية أرقى من الرأسمالية..
وهذه القضية حين تطلق على هذه النحو تكون محل مآخذ كثيرة .
فلو أن التفسير المادى للتاريخ حدد التقدم بميدان العلم والتكنولوجيا لكان هذا معقولا وصحيحا بصفة عامة .. وإن كان اعتبارنا لصحته قائما على أساس آخر غير الذى يقيم عليه التفسير المادى تصوراته .
فالتفسير المادى كما شاهدناه يجعل المادى هى الأساس .. ونحن نقول إن النفس البشرية هى الأساس فى كل ما يتعلق بالإنسان ، وإن تعامل الإنسان مع المادة ، وكل ما ينشأ عنه من نتائج هو جانب - وأحد - من جوانب النفس الإنسانية والحياة الإنسانية .
والتقدم العلمى والتكنولوجى المستمر فى حياة الإنسان ليس قائما على المادة ، إنما هو قائم على تفاعل الإنسان مع الكون المادى من حوله . فلولا أن فى الإنسان نزعة فطرية إلى المعرفة ، ونزعة فطرية إلى استخدام ثمار المعرفة فى تحسين أحواله المعيشية ، ما حدث التقدم العلمى ولا التكنولوجى رغم وجود المادة الدائم من حول الإنسان !
وإذا كانت المادة موجودة حول كل الكائنات الحية ومع ذلك لا تثير فيها الرغبة فى المعرفة العلمية المنظمة ولا الرغبة فى استخدام ثمار المعرفة فى تحسين أحوالها المعيشية .. إلا الإنسان .. فهل يكمن الفرق فى المادة أم فى الإنسان ؟ !(1/438)
تلك بديهية يعمى عنها التفسير المادى للتاريخ ، لا لأنه عمى عنها فى الحقيقة ، لكن لأنها تفتح الباب لا يحبون له أن ينفتح أبدا ، وهو " إنسانية " الإنسان ، لأن هذا الباب يمكن أن يؤدى إلى تثبيت " القيم " التى يريدون تحطيمها : الدين والأخلاق والتقاليد المستمدة من الدين ، بوصفها صادرة عن الفطرة الإنسانية أو متمشية معها !
سدا لهذا الباب يقولون إن المادة هى الأصل - لا الإنسان - لأنك لا تستطيع أن تحاسب المادة على شئ من القيم أو تطالبها بشئ منها ! وهو قول - كما أسلفنا - لا يمكن فهمه على أساس - العلم " إنما يفهم فقط حين تخرجه من الدائرة العلمية وتنظر إليه من زاوية الهدف المطلوب تحقيقه !
فحين نسلم بالتقدم المستمر فى ميدان العلم النظرى والتطبيقى ( مع التغاضى عن وجود ذبذبات فى خط التقدم ) فإننا نسلم به على أساس أنه نابع من عوامل موجودة فى فطرة الإنسان وتكوينه ، أودعها فيه الخالق ليعينه فى مهمة الخلافة فى الأرض :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/4-5]
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة 2/31]
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [سورة إبراهيم 14/34]
أما افتراض التقدم فى كل جوانب الحياة فقول ينقضه الواقع .(1/439)
" والقضية كلها راجعة إلى أصل المقياس . فإذا أخذنا الحياة المادية - أو بالأحرى التفسير المادى للإنسان - جاز أن نقول ذلك ، فالسيارة لا شك أسرع وأرقى من ركوب الجمل والحمار ، وناطحة السحاب أرقى من الخيمة والكوخ. و " الفستان " الأنيق المطرز أرقى من قطعة الجلد التى كانت تلبسها امرأة الغابة ، والمكتب الفاخر أرقى من جلسة الكاتب القديم الذى كان يجلس القرفصاء ويسند الورق إلى ركبتيه !
أما إذا جعلنا مقياسنا " إنسانية " الإنسان ، أى القيم والاعتبارات التى ميزت بين الإنسان والمادة وبين الإنسان والحيوان ، فالأمر يختلف اختلافا بينا ، والصورة لن تكون تقدما مستمرا ، ولكن تذبذبا مستمرا بين الصعود والهبوط ، وأسوأ ذبذباتها الهابطة هو الجاهلية المعاصرة فى كل أرجاء الأرض .
إن فكرة التطور المستمر إلى أعلى هى فكرة داروينية ولا شك ، وقد تأثر الماديون تأثر بالغا بالداروينية فى أكثر من موضع من تصوراتهم ونظرياتهم ، ولكن دارون كان يتحدث عن أجسام الكائنات الحية ووظائفها الحيوية ، ولم يتحدث عن شئ غير ذلك. أما الماديون فقد أمسكوا بخيوط من الداروينية فمدوها مدا واسعا لتخدم أغراضهم الخاصة ، وزعموا أنها صحيحة لمجرد كون الأساس الذى بنوا عليه - وهو التطور - صحيح !
وبصرف النظر عن صحة الداروينية أو عدم صحتها ، فالإنسان - منذ نشأته - له مقاييسه الخاصة التى يختلف فيها عن الكائنات من حوله . ولقد مرت بنا شهادة الداروينية الحديثة بشأن تفرد الإنسان فى كل جوانب تكوينه وجوانب حياته ، ومن بين جوانبه تفرده أنه متفرد كذلك فى معاييره ، فلا تنطبق عليه معايير المادة الجامدة ولا معايير النبات ولا معايير الحيوان .(1/440)
ومعيار الإنسان - الذى تفرد به بين المخلوقات - أن له طريقين : طريق الهدى وطريق الضلال ، وأنه صاعد إذا سار فى طريق الهدى وهابط إذا سار فى طريق الضلال ، لأن طريق الهدى هو الذى يؤكد على "القيم الإنسانية " التى جعلت الإنسان إنسانا من مبدأ حياته ، وطريق الضلال هو الذى يجانب تلك القيم ويضيعها .
وخط التاريخ البشرى - كما هو معلوم من التاريخ - خط متذبذب على الدوام بين طريق الهدى وطريق الضلال ، ولذلك فهو متذبذب على الدوام بين الصعود والهبوط ، بين الرفعة والانتكاس ، وليس خطا صاعدا على الدوام متقدما على الدوام كخط التقدم العلمى والتكنولوجى ، وليست المسألة أن هذه وجهة نظر وتلك وجهة نظر أخرى على مستوى واحد من احتمال الصحة والخطأ ! فإن مادية الإنسان لا يوجد عليها دليل علمى واحد ، بينما توجد عشران الأدلة ومئاتها على إنسانية الإنسان ، ومن ثم يتضح طريق الخطأ وطريق الصواب !
إنما أراد الماديون أن يثبتوا التطور المستمر " التقدمى " فى حياة الإنسان لسببين رئيسيين :
الأول : أن يقولوا إن الفساد الخلقى والتحلل الدينى الذى وجد فى المجتمع الصناعى كان خطوة " تقدمية " .
والثانى : إن يقولوا إن الشيوعية خطوة تقدمية .
فمن أراد أن يكون " تقدميا " فلينبذ بادئ ذى بدء دينه وأخلاقه ، ثم ليكن شيوعيا فى نهاية المطاف !
ولا هذا ولا ذاك حقيقة علمية ، إنما هى الأهواء والشهوات .
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون 23/71]
6) الحتميات :
يقوم التفسير المادى على الحتميات : المادية أى المستمدة من قوانين المادة الحتمية ، والاقتصادية المستمدة من الوضع الاقتصادى ، والتاريخية المستمدة من المرحلة التاريخية التى يوجد فيها الإنسان من المراحل الخمس الكبرى : الشيوعية الأولى أو الرق أو الإقطاع أو الرأسمالية أو الشيوعية الثانية .(1/441)
والحتميات الثلاث على أى حال مؤد بعضها إلى بعض بحيث نستطيع أن نتعامل معها كأنها حتمية واحدة : مادية اقتصادية تاريخية ، فإنها كلها أوجه لشئ واحد ، وكل حدث من أحداث التاريخ واقع - لا محالة - تحت ظل الحتميات الثلاث .
ولسنا هنا بصدد مناقشة علمية لهذه الحتميات ، فسنرى فيما يلى من الحديث أنها ليست حتميات بحال من الأحول ! وما يكذبه الواقع لا يحتاج أن ندخل معه فى نقاش ، لأن صوت الواقع أصدق من النظريات والفروض .
ولكنا نلفت النظر إلى قضية معينة فيما يتعلق بالحتميات ، هى قضية " الإنسان " .. أين مكانه فى هذه الحتميات؟ موجودا فما دوره إذا كان كل شئ يتم بمقتضى الحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية ؟
يقول ماركس : " فى الإنتاج الاحتماعى الذى يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى لهم عنها ، وهى مستقلة عن إرادتهم " فإذا كانت مستقلة عن إرادة جميع الناس فمن إذن واضعها ؟ وأى مقياس تقام به لنقول إنها خطأ أو صواب ؟ وما مسئولية الإنسان الأخلاقية فيها لنقول إن هذا الإنسان خير وذاك شر ير ؟ أم لا خير ولا شرير وكلهم سواء ؟!
إن قضية الحتميات خطيرة فى الواقع أخطر مما تبدو للوهلة الأولى ، لأنها تعنى الإلغاء الكامل لكيان الإنسان الإيجابى ذى الإرادى وذى الفاعلية ، وإلغاء القيم الأخلاقية كلها ، وإلغاء المسئولية أو " الأمانة " التى يحملها الإنسان .
مادام كل شئ مرصودا مكانه على خط سير التاريخ البشرى فما قيمة العمل الإنسانى ؟ ما الفرق بين أن يعمل أو لا يعمل ؟ وما الفرق بين عمل وعمل ؟ وما قيمة الوجود الإنسانى فى التاريخ البشرى إذا كان الإنسان بهذه السلبية ، يصنع الأشياء بينما هى مستقلة عن إرادته ، كلعبة " خيال الظل " التى تتحرك فيها الدمى أما عين الناظر بينما هى فى الحقيقة غير متحركة بذاتها ، إنما تحركها اليد التى تختفى وراء الستار !(1/442)
وليس بنا أن نلغى أثر الضغوط التى تقع على الإنسان من خارج كيانة وتؤثر فى حركته ، سواء كانت ضغوط المادى بمعنى الكون المادى على اتساعه وبمعنى البيئة المحيطة بالإنسان ، أو ضغوط الأوضاع الاقتصادية ، أو ضعوط المجتمع .. أو أى نوع من الضغوط يقع خارج كيان الإنسان الفرد ، ويؤثر فيه على غير رغبته .
ليس بنا أن ننكر شيئا من ذلك كله . . ولكن هذا ليس ما يقوله التفسير المادى للتاريخ فى قضية الحتميات .. إنما يقول ذلك التفسير إن كل حياة الإنسان مرسومة له من خارج كيانه ، ومستقلة عن إرادته ، لا يملك أن يقف فيها موقوفا يخالف ما تفرضه الحتميات ، حتى مشاعره لا يملكها ! إنما يكونها له الوضع الاقتصادى إلى غير إرادة منه : " ليس شعور الناس هو الذى يعين وجودهم ولكن وجودهم هو الذى يعين مشاعرهم " ( ماركس ) " إن الأسباب النهائية لكافة التغيرات او التحولات الأساسية لا يجوز البحث عنها فى عقول الناس أو فى سعيهم وراء الحق والعدل الأزليين ، إنما فى التغيرات التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل " ( إنجلز ) .
وحتى التغيرات التى تطرأ على أسلوب الإنتاج والتبادل لا تنسب إلى " الإنسان " ! كأنما تحدث تلقائيا بغير فاعل ! ! وكأنما عقل الإنسان ومشاعره ليست - على الأقل - جزءا من عوامل التغيير !
ما الإنسان إذن ؟
إنه مجرد " أداة " فى يد جبارة ماردة هى الحتميات !
ليس الإنسان هو الذى يصنع التاريخ ، ولكن التاريخ " بحتمياته " هو الذى يصنع الإنسان!
ألا ما أبأس الإنسان فى ظل التفسير المادى للتاريخ ! وما أهون شأنه ! وما أهون دوره كذلك ! دور الاستسلام الكامل للحتميات التى تصنع له حياته وتصنع له تاريخه " مستقلة عن إرادته " !(1/443)
وماذا يساوى - مع الجبروت القاهر لهذه الحتميات التى لا تستجيب لشفاغة ولا تحفل ضراعة - أن يكتب فى سطر من سطور هذا التفسير أن الإنسان هو سيد هذا الكون ، إذا كان كل سطر من سطور هذا التفسير يجعله عبدا ذليلا خاضعا لذلك الجبار الذى لا يلتفت مرة واحدة لهذا الإنسان ، ولا يعيره اهتمامه ، ولا يرحم ضعفه ، ولا يقيله من عثرته ؟!
? ? ?
ثم .. " من " الذى يصنع التغيير فى حياة الإنسان ؟ ! و " ما " الذى يصنعه ؟! وكيف صار للإنسان تاريخ ؟!
يقولون : هى المادة وقوانين المادة ..
وما بنا من حاجة أن نعود من حاجة أن نعود إلى السؤال الذى سألناه من قبل : ما بال المادة وقوانينها لا تصنع هذا التغيير فى حياة الحيوان ! إنما نقول إن خصائص " الإنسان " التى تفرد بها هى التى تصنع تاريخه ، وتصنع التغيرات فى هذا التاريخ ، فلولا رغبة الإنسان فى المعرفة - تلك الرغبة المركزوة فى أعماق كيانه - ولولا رغبته فى استخدام ثمار المعرفة فى تحسين أحواله المعيشية فى شتى جوانبها ، المادى منها وغير المادى ، ولولا قدرته على تخيل صورة معينة لأشياء لم توجد بعد فى عالم الواقع ، وبذل الجهد فى محاولة إيجادها فى الواقع ..
لولا هذه " الخصائص " التى تفرد بها الإنسان ، هل كان يمكن أن يكون للإنسان تاريخ ؟!
إن الحيوان ليس له تاريخ .. ولن يكون له ..
فالحمار الذى عاش قبل عشرة آلاف سنة هو الحمار الذى يعيش اليوم .. لم يغير شيئا من واقع حياته ، ولا يملك أن يغير . . ليس له ماضى يرجع إلى تجاربه ، ولا مستقبل يسعى إلى تحقيقه ، ليس له " ذكريات " ولا " آمال " لا " تطلعات " تتجاوز شخصه إلى أشخاص غيره من الحمير ، أو تتجاوز لحظته الحاضرة إلى الغد القريب أو البعيد .(1/444)
ولكن الإنسان - بخصائصه المتفردة - لم يكن كذلك منذ مولده ، إنما كانت له دائما " تجربة " واعية يختزنها فى كيانه فردا وجماعة يجعلها نقطة ارتكاز ينطلق منها إلى التجربة التالية .. وكانت له دائما ذكريات فردية واجتماعية ، وآمال وتطلعات ، فردية واجتماعية كذلك ، ترسم له - إلى جانب الشهوات والضرورات المركوزة فى كيانه - خط رحلته فى هذه الأرض .
ومجمل تاريخه هو مجمل ذلك كله .
وحين يخترع آلة جديدة فهذا الاختراع نابع من صميم نفسه .. من تجاربه الواعية ، ومن ذكرياته وآماله وتطلعاته .. إنه لا ينشئها عبثا ، ولا تنشأ هى فى حياته بطريقة ذاتيه ، إنما يخترعها لتلبى رغبة من رغباته الكامنة ، لأداء ضرورة من ضرورات حياته ، أو لتحسين وضع من أوضاعه ، أو لتحقيق أمر من " الكماليات " بالنسبة له فى تلك اللحظة ، يتحول إلى ضرورة بعد فترة من الوقت ، فيسعى من جديد إلى تحسينه أو البحث عن كماليات جديدة ..
وصحيح أن الآلة الجديدة تحدث تغيرا فى حياته ، قد لا يكون منظورا كله وقت التفكير فى اختراعها ، أو لا يكون شئ منه منظور على الإطلاق .. ولكن هنا ينبغى أن نتذكر أمرين مهمين :
الأول : إن الإلة قد اخترعت فى الأصل تلبية لحاجة فى نفس الإنسان يسعى إلى تحقيقها ، ولم تظهر إلى الوجود من تلقاء نفسها ، ولا اختراعها الإنسان عبثا بغير غاية ، ولا فرضت عليه فرضا من خارج كيانه .(1/445)
الثانى : أن التغير الذى تحدثه الآلة لا يجرى على مزاج الآلة ذاتها ـ فهى فى ذاتها لا إرادة لها ولا وعى ولا توجيه ، لأنها " مادة " والمادة هكذا .. لا إرادة لها ولا وعى ولا توجيه ! إنما يجرى التغيير - جزئيا على الأقل - على مزاج " الإنسان " وحسب الوضع الذى يعيش فيه . ولا نقصد الوضع الاقتصادى وحده - كما يقول التفسير المادى للتاريخ - إنما الوضع كله : الروحى والفكرى والمادى على السواء . فاختراع المحراث الحديدى أدى إلى ألإقطاع فى أوربا ، لا لأن المحراث الحديدى يؤدى - بطبيعته - إلى الإقطاع ، ولكن لأن ظهوره فى الجاهلية القائمة يومئذ يمكن أن يؤدى إلى ذلك ، بمعنى أن أطماع ذوى السلطان من الجاهليين يومئذ تجد فى المحراث أداة تمكنها من السيطرة بالصورة التى وقعت فى الإقطاع الأوربى . ولم يكن ذلك ليحدث - بهذه الآلة ذاتها - لو أن القوم هناك كانوا يحتكمون إلى شريعة الله ، إنما كان الوضع الفكرى والروحى الناشئ من اعتناق العقيدة الصحيحة والتحاكم إلى الشريعة الصحيحة يحدث - بهذه الآلة ذاتها - وضعا ماديا واقتصاديا مختلفا عما وقع فى الجاهلية القرون الوسطى المظلمة فى أوربا . والآلة التى تدار بالطاقة أدت إلى ظهور الرأسمالية فى أوربا ، لا لأن تلك الآلة - بطبيعتها - تؤدى إلى الرأسمالية ! فهى فى روسيا لم تؤد إلى الرأسمالية ! ومعلوم أن التصنيع الحقيقى لم يتم فى روسيا إلا بعد دخولها فى الشيوعية ! ولكن لأن ظهورها فى ذلك الوقت - فى الجاهلية القائمة وقتئذ - يمكن أن يؤدى إلى ذلك ، بمعنى أن ذوى السلطان فى تلك الجاهلية يمكن أن يجدوا فيها أداة إلى السيطرة على النحو الذى تم فى الرأسمالية الغربية اليهودية ، ولم يكن ذلك ليحدث - بهذه الآلة ذاتها - لو أن شريعة الله كانت هى الحاكمة فى حياة الناس ، إنما كان الوضع الفكرى والروحى النائى من اعتناق الناس للعقيدة الصحيحة وتحاكمهم إلى الشريعة الصحيحة يحدث - بتلك الآلة ذاتها -(1/446)
وضعا ماديا واقتصاديا مختلفا عن الوضع الرأسمالى . على الأقل بالقدر الذى استطاعت به العقيدة الشيوعية والفكر الشيوعى أن يحدث - بالألة نفسها - وضعا ماديا واقتصاديا مغايرا للوضع الرأسمالى ! ! ولا عبرة بالقول إن الشيوعية لم تنشأ إلا من تناقضات الرأسمالية ، فأن الذى حدث بالفعل هو ا، تطبيق الشيوعية فى روسيا لم ينشأ من تناقضات الرأسمالية هناك ، إنما نشأ - بصرف النظر عن التخطيط اليهودى - من اعتناق " الناس للعقيدة الشيوعية ، ذلك أن روسيا قد قفزت رأسا من الإقطاع إلى الشيوعية !
كلا ! ليست هى الحتمية المادية وإنما هو " الإنسان " ! الإنسان بكاملة ..
وصحيح كما أسلفنا أن الإنسان يواجه دائما ضغوطا من الكون المادى ومن الأوضاع المحيطة به ، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية . . الخ ولكنه فى النهاية هو الذى يقرر . يقرر أن يخضع للضغوط ويستنيم لها أو يتمرد عليها ويسعى إلى تغييرها ، وهو يقرر ذلك دائما على هدى " العقيدة " التى يعتقدها سواء كانت عقيدة صحيحة أو فاسدة .
وقد لا يستطيع فى كل حالة أن يغير كل الأوضاع بالعقيدة التى يعتقدها ولكن ذلك لا يرجع إلى كون العقيدة لا وزن لها ولا اعتبار , ولا إلى كونها هى نابعة من الوضع المادى والاقتصادى القائم ، متأثرة به غير مؤثرة فيه ، لا حقة له غير سابقة عليه كما يزعم التفسير المادى للتاريخ ، إنما الأسباب ترجع فى مجموعها إلى " الإنسان " ذاته هل هو صادق فى اعتناق هذه العقيدة ؟ أم أن شهوات الأرض وثقلة الأرض أثقل فى حسه من متطلبات العقيدة ؟ ومن الشهوات شهوة الحرص على الحياة وعدم تعريض النفس للأخطار ، وشهوة حب السلامة والأمن والاستقرار . وهى الشهوات الغالبة على أكثر الناس فى الأرض . وهى التى تؤدى بهم إلى الوقوع فى الجاهلية ، والخضوع - من ثم - لطغيان الطواغيت .(1/447)
فخضوع الأكثرية الساحقة من الناس لطغيان الطواغيت خلال التاريخ البشري ليس حتمية مادية ولا اقتصادية ولا تاريخية خارجة عن إرادة الناس .. إنما هو من عند أنفسهم ، إنه واقع عاشته البشرية بالفعل فى جاهليتها كلها ، لا بسبب حتمى ، ولكن نتيجة لعدم استقامتها على الطريق .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
على أن الحتميات المزعومة - بصورتها الديالكتيكية - ليست حقيقة حتى بالنسبة للجاهلية .
فقد تنبأ ماركس بحسب حتمياته أن بريطانيا ستكون أول دولة تقع فى الشيوعية لأنها - على عهده - كانت أكثر الدول الرأسمالية تقدما ، فتنبأ بأن الصراع الطبقى " سينضج " فيها قبل لغيرها فيحوله إلى الشيوعية .
ويعلم الناس فى كل الأرض أن بريطانيا مازالت حتى هذه اللحظة 217 دول رأسمالية . كما أن وريثتها التى ورثتها فى التقدم الصناعى الرأسمالى وهى أمريكا دولة رأسمالية كذلك .
وقال ماركس وحواريوه إن المراحل التاريخية حتمية ، وترتيبها كذلك حتمى وإنه لا يمكن لأى مجموعة من البشر أن تسبق طورها التاريخى ، لأن كل طور له أداة مادية أو اقتصادية يتم التحول عن طريقها ، فلا يمكن التحول دون وجود هذه الأداة ، فلابد أن يمر ابشر بالمراحل التاريخية الخمس بصورة حتمية : من الشيوعية الأولى إلى الرق إلاى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية .
ويعلم الناس فىكل الأرض أن أكبر دولتين شيوعيتين وهما روسيا والصين قد قفزتا مباشرة من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الشيوعية دون وجود أداة التحول التاريخية وهى الصراع الطبقى بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال ، وأن كلتا الدولتين لم تدخل المرحلة الصناعية إلا بعد دخولها فى الشيوعية !(1/448)
أين الحتميات إذن ؟!
إنما هى من أولها لآخرها قصة مدعاة ، للإيحاء الناس بأن الشيوعية هى النهاية الحتمية لكل البشرية ، فخير لهم أن يدخلوها طائعين بدلا من أن يدخلوها كارهين !
ومن أجل هذا الهدف الدعائى البحت تختلق التفسيرات " العلمية " وتلفق النظريات !
? ? ?
التفسير الجاهلى للتاريخ
كنا إلى هذه اللحظة نناقش التفسير المادى ، فنجد فى كل مرة ثغرة تؤدى إلى ضلالة من ضلالات هذا التفسير . وقد آن لنا أن ندعوه باسمه اللائق به " فنسميه " التفسير الجاهلى للتاريخ !
والسبب فى هذه التسمية أولا : أنه لا يتعامل إلا مع جاهليات التاريخ . مسقطا إسقاطا تاما فترات الهدى فى التاريخ البشرى ، وأهمها بطبيعة الحالة الإسلام .
وثانيا : أنه يفسر التاريخ من زاوية جاهلية بحتة ، أى على أساس القيم الجاهلية وهى القيم المادية الخالصة . فهذا شأن معظم الجاهليات التاريخية . أنها تبرز القيم المادية والاقتصادية وتهمل ماعداها من القيم الإنسانية العليا ، لا لأنها غير موجودة فى الحقيقة ولكن لأنها هى تفتقدها بسبب كونها جاهلية .
ولأن هذه القيم المادية الجاهلية ليست هى كل ما فى الحياة البشرية ، فإن التفسير الجاهلى للتاريخ يعجز عجزا تاما عن تفسير أى فترة من حياة البشرية تقوم على قيم أخرى غير القيم الجاهلية .
وأشد ما يعجز التفسير الجاهلى عن تفسيره هو الإسلام !
ولقد شغل الإسلام رقعة فسيحة من الأرض ، ورقعة فسيحة من التاريخ وأى تفسير يتجاهله فهو تفسير غير علمى ، وأى تفسير يعجز عن تفسيره فهو غير صالح لتفسير التاريخ البشرى .
ونحن نتحدى التفسير الجاهلى للتاريخ أن يفسر لنا هذه الظاهرة التى شغلت هذه الرقعة الفسيحة من الأرض ، وهذه الرقعة الفسيحة من التاريخ ، وكانت واقعا مشهودا استمر وجوده عاملا فى الأرض أكثر من عشرة قرون ، ومازال قائما حتى اليوم ، ومازال قادرا على أن ينبعث من جديد بعد أن اعترضته فترة من الخمود .(1/449)
لماذا ظهر الإسلام فى تلك الفترة من التاريخ البشرى ، وكيف ظهر على هذه الصورة المخالفة للبيئة فى أكثر سماتها ، والمخالفة لكل حتميات التاريخ المزعومة ؟!
أما نحن فنؤمن أنه من عند الله وأنه نزل بقدر الله ، فى الوقت الذى اختاره الله ..
وأما هم فإنهم لا يؤمنون بالله .. فليفسروا لنا إذن هذه الظاهرة العجيبة فى التاريخ !
فليفسروا لنا كيف ظهر رجل فى تلك الصحراء فى تلك الحقبة السحيقة من الزمن قبل أربعة عشر قرنا يدعو إلى عبادة الله الواحد بلا شريك ، ونبذ الأرباب الزائفة كلها ، سواء كانت أصناما محسوسة ، أو بشرا تضفى عليهم القداسة الزائفة فتسجد لهم الناس كالملوك والأباطرة ، أو بشرا يشرعون للناس من عند انفسهم بغير سلطان منزل من عند الله، أو عرفا جاهليا ، أو وهما تبتدعه رؤوس الناس وتتعبده بالوهم ، ويحرر البشرية بذلك - فى نصاعة وحسم - من حكم الطواغيت ، ومن كل عبودية ملة لكرامة الإنسان ، برد العبودية إلى المعبود الحق الذى يكرم البشر بعبادته ، وتتحرر عقولهم ووجدانهم ومشاعرهم كما يتحرر كيانهم كله ، فينطلقون أحرارا فى الأرض ينشرون الحق والعدل ويحطمون الطواغيت المستبدة بالبشر فى صورة نظم ودول وجيوش ، ويقيمون مجتمعا إنسانيا يتمتع المؤمنون فيه بالأخوة الإنسانية على قدم المساواة ، ويتمتع غير المؤمنين بهذا الدين بالعدل الربانى دون إكراه على اعتناق العقيدة.
وفى الوقت الذى كانت الديانات كلها - سواء كانت سماوية محرفة أو وثنيات من صنع البشر - تقيم بين البشر وربهم وسطاء من الكهنة و " رجال الدين " أو من الأصنام والأوثان ، أو من الأرواح الخيرة أو الشريرة .. يجئ هذا الداعية فيلغى كل وساطة بين العبد والرب ، ويربط القلب البشرى بالله مباشرة بلا وسيط :
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر 40/60](1/450)
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [سورة البقرة 2/186]
وفى الوقت الذى يتجبر فيه الأغنياء على الفقر فى كل الأرض يجيئ هذا الداعية فيلغى سلطان الأغنياء المتجبرين ، لا على اساس الحقد الطبى ، ولكن على أساس الحق والعدل الأزليين ، فلا يزيل " طبقة " ويحل محلها " طبقة " . ولا يعطى السلطان للفقراء بوصفهم فقراء ، بل ينزع السلطان من البشر جميعا ، أغنيائهم وفقرائهم على السواء ويرده إلى الله، ويقدم شريعة يخضع لها الناس جميعا حكاما ومحكومين ، ليست من صوغ هؤلاء ولا هؤلاء ، شريعة تتعامل مع "لإنسان" من حيث هو إنسان ، فتلبى جميع احتياجه الروحية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية ، وترسم له المنهج المتكامل الذى تستقيم به الحياة وتتوازن وتترابط ، على نحو غير مسبوق من قبل ولا ملحوق من بعد فى كل ما كان من دساتير البشرية إلى اليوم .(1/451)
وفى الوقت الذى كان " الدين " فى كثير من بقاع الأرض أو فى كل بقاع الأرض يرتبط فى نفوس الناس بالخضوع والاستكانة - لا لله وحده المعبود الحق - بل لأوضاع ظالمة فى المجتمع ما أنزل الله بها من سلطان ، ويرعى الكهنة ورجال الدين هذا الذل وينمونه فى نفوس الناس باسم الدين فيخضعونهم للمتجبرين من ذوى السلطان ، يجئ هذا الداعية فيقول للناس إن من رضى بالظلم فى الدنيا وهو قادر على إزالته أو الخروج من سلطانه فلا مكان له عند الله فى الآخرة وله عذاب عظيم ، ويصبح أسمهم " ظالمى أنفسهم " : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)} [سورة النساء 4/97-99]
وفى الوقت الذى تهان فيه المرأة وتحتقر ، يدعو إلى تكريمها ورعايتها ويبرز إنسانيتها .؟
وفى الوقت الذى يسام فيه الرقيق أقسى أنواع المهانة والخسف يدعو لتحرير الرقيق وإحسان معاملته على أساس إنسانى .
وفى الوقت .. وفى الوقت .. وفى الوقت ..(1/452)
ثم ليفسروا لنا كيف استطاع هذا الرجل أن يربى على هذه المبادئ أمة .. أمة كانت مجموعة من القبائل المتناثرة المتناحرة تأبى أن تتحد وتتألف مع وجود كل العناصر التى تدعو إلى التألف .. وحدة الأرض ، ووحدة اللغة ، ووحدة العقائد ، ووحد الثقافة ، ووحدة التاريخ ، ووحدة الجنس .. ومع ذلك تحول بين توحدهم ثارات الجاهلية ونزاعاتها التافهة التى لا تساوى لحظة واحدة من الصراع ! ومن هذه الشتيت المتناثرة لا يبنى هذا الرجل أمة - أى أمة - وإنما أمة فريدة فى التاريخ ، أمة عقيدة .. أمة لا تقوم على رابطة الأرض ، ولا رابطة الدم ، ولا رابطة اللغة ولا رابطة المصالحة القريبة ، إنما تقوم على رابطة العقيدة ، فيجتمع فيها العربى القرشى ، والحبشى والرومى والفارسى ، على قاعدة واحدة من المساواة فى الإنسانية والمساواة فى العقيدة ، ويكون التمايز بينهم على قاعدة جديدة كل الجدة على تلك البيئة بل على البشرية كلها يومئذ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات 49/13]
أمة تقوم على الأخوة فى الله : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات 49/10]
أمة تقوم على التكافل : {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر 59/9]
أمة تقوم على العدل الربانى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء 4/58]
باختصار .. أمة فريدة فى التاريخ ..
وليفسروا لنا كذلك كيف انساحت هذه الأمة فى أرجاء الأرض بهذه السرعة المذهلة ، لا غازية للأرض ، ولا مستعبدة للناس ، ولكن ناشرة لتلك العقيدة التى تزيل القداسة عن البشر وتوجه العبادة لله وحده ، وتدعوا إلى الأخوة والتكافل ، وتدعوا إلى تحرير المرأة وتحرير الرقيق .. فتنتشر هذه المبادئ كلها بالسرعة المذهلة التى تفتح بها الأرض !(1/453)
فليفسروا لنا هذا كله بمقتضى تفسيرهم الجاهلى للتاريخ !
أى تغير مادى حدث فى الجزيرة العربية - بل فى العالم أجمع - أدى إلى ظهور هذا الرجل صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة ونشرها هو وأبتاعه من بعده فى أرجاء الأرض ؟!
أى تغير اقتصادى حدث فى الجزيرة العربية - بل فى العالم أجمع - أدى إلى ظهوره ؟
أى حتمية تاريخية يمكن أن ينشأ عنها هذا الحدث الضخم ، الذى ما تزال ضخامته قائمة حتى اللحظة ؟!
البيئة هى البيئة .. ما تغيرت قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعد بعثته لعدة قرون ..
الوضع الاقتصادى هو الوضع الاقتصادى : البيئة الرعوية فى الجزيرة العربية برمتها ، والبيئة التجارية فى مكة والمدينة ..
أما التاريخ .. فلننظر حتميات التاريخ ..
بعد سبعة قرون من مولد هذه الدعوة قامت فى أوربا حركة تحرير العبيد .. وحين قامت فإنها لم تحرر العبيد تماما وإنما حررتهم من قبضة السيد ليكونوا عبيدا للأرض . وبعد عشرة قرون كاملة بل أكثر حررتهم الثورة الفرنسية من جحيم الإقطاع ! والإسلام حررهم قبل ذلك بعشرة قورن !
بعد اثنى عشر قرنا من مولد هذه الدعوة أو أكثر قامت فى أوربا حركة تحرير المرأة ، التى أعطت المرأة بعض الحقوق التى كفلها لها الإسلام ، ومازالت بعض الحقوق لم تحصل عليها إلى هذه اللحظة .
بعد اثنى عشر قرنا من مولد هذه الدعوة بدأت الدعوة إلى " الديمقراطية " القائمة على الشورى ونزع السلطة الطاغية من الحكام ، وهى الدعوة التى أعطت الناس حقوقا وضمانات لم تكن لهم فى عهود الإقطاع ، وإن كانت "الطبقة" المالكة ما تزال هى الحاكمة من وراء الستار .. بينما أعطى الإسلام كل الضمانات وكل الحقوق قبل ذلك باثنى عشر قرنا مع ورد السلطة إلى الله لا إلى المالكين من عباد الله !(1/454)
بعد أربعة عشر قرنا من مولد هذه الدعوة ما تزال العنصرية البغيضة قائمة فى الأرض ، تقوم على أساسها دول وتقوم من أجلها حروب ، ويعامل " الملونون " فيها على أيدى البيض تلك المعاملة الزرية التى يعرفها الناس فى أمريكا وجنوب أفريقيا وفى كل مكان : بينما الإسلام - قبل أربعة عشر قرنا - قد صهر الأجناس والألوان واللغات والشعوب فى أمة واحدة على قدم المساواة حين ربطهم بالعقيدة الواحدة فى الله .
بعد أربعة عشر قرنا من مولد هذه الدعوة ما يزال مبدأ كفالة الدولة لجميع أفراد شعبها غير تام التطبيق فى الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ، والدولة الشيوعية التى تطبقه تطبقه على حساب كرامة الإنسان ، وتستذل الناس بلقمة العيش لكى يخضعوا للسلطان ، بينما قرر الإسلام هذا المبدأ منذ أربعة عشر قرنا مع المحافظة التامة على إنسانية الإنسان وكرامته .
ويطول بنا المقام إذا مضينا نعدد المواضع التى سبق به الإسلام كل حتميات التاريخ المزعومة ، أو التى تفرد بها التاريخ !
فكيف يفسر لنا التفسير الجاهلى للتاريخ ظهور الإسلام وانتشار الإسلام والمبادئ والقيم التى أقرها الإسلام ؟!
هل الوضع المادى والاقتصادى هو الذى غير الناس فى الجزيرة العربية والأرض التى فتحها الإسلام ، أم إنه العقيدة ، وإيمان الناس بالله ، وبالحق والعدل الأزليين ؟! وهى أشياء ليست فى المادة ، ولا هى من صنع المادة ، إنما هى فى عقول الناس وقلوبهم ومشاعرهم !
وكيف تغير " أسلوب التبادل " فلم يعد رقا ولم يعد إقطاعا إنما صار تكافلا وأخوة فى المجتمع ؟ الأسباب مادية أم لعقيدة ملأت النفوس فبعثت الناس يغيرون أسلوب التبادل ليخضعوه لشريعة الله التى تمنع الظلم وتحكم بالعدل ؟!
هل كان وجود الناس هو الذى حدد شعورهم أم إن شعورهم هو الذى حدد أسلوب وجودهم ؟!
ماذا يا دعاة التفسير الجاهلى للتاريخ ؟!(1/455)
لقد كان الإسلام وسيظل أمرا ربانيا لا ينطبق عليه أى تفسير يفسر التاريخ البشرى بالقيم الجاهلية الأرضية ، مادية كانت أو اقتصادية ., ولكنا نأخذ من الإسلام عبرا لدعاة التفسير المادة ودعاة كل تفسير غير التفسير " الإنسانى" للإنسان .
الإسلام أمر ربانى .. نعم
ولكن الدين قاموا بالإسلام بشر ..
ولقد زعم التفسير الجاهلي للتاريخ أن البشر لا يتحركون ولا يتغيرون إلا بسبب تغيرات مادية أو اقتصادية .. وأنهم لا يمكن أن يتحركوا بشئ معنوي : فكرة أو مبدأ أو مبادئ ، لأن هذه كلها تأتي لاحقة للتغير المادي و الاقتصادي و منبثقة عنه .. فوجود الاسلام في الأرض بالصورة التي تم بها يعلمنا غير ذلك تماما ..
يعلمنا أن العقيدة : إيمان الناس بالله ، ولإيمانهم بالحق و العدل الأزليين ، يمكن أن يحدث تغيرات في الأرض أضخم بكثير من أي تغيير حدث نتيجة التغير المادي أو الاقتصادي ..
و يعلمنا أكثر من ذلك أن نوع التغيير الذي تحدثه العقيدة يختلف اختلافا جذريا عن التغير الذي يحدث - لأسباب مادية واقتصادية - بلا عقيدة .. الإسلام نشأة جديدة للإنسان ، على أسس من القيم العليا والمبادئ الرفيعة ، بينما التغيرات الأخرى مجرد تغير جزئى من حالة إلى حالة ، لا يغير شيئا جذريا فى الإنسان ، وقد يؤدى به إلى الانتكاس والدمار .. ويعلمنا قبل ذلك وبعد ذلك أن الإنسان ليس مادة .. ولكنه " إنسان " ! وأن النظام الذى يتعامل معه على أنه إنسان أفضل بكثير وأعلى بكثير ، وأكثر فاعلية بكثير من النظام الذى يتعامل معه على أنه مادة ، أو على أنه حيوان !
? ? ?
التفسير الإسلامى للتاريج
ليس هنا فى الحقيقة مجال الحديث المفصل عن التفسير الإسلامى للتاريخ فذلك موضوع يحتاج إلى بحث مستقل تبسط فيه الفكرة ، وتؤخذ لها النماذج من التاريخ البشرى فى شتى عهوده وشتى أحوال البشر فيه .(1/456)
ولكنه يحسن بنا ونحن بصدد الحديث عن التفسير الجاهلى للتاريخ عرضا ومناقشة أن نلم على الأقل بالخطوط العريضة للتفسير الإسلامى ، لأنه يكاد يكون الوجه المقابل لذلك التفسير فى كثير من الأسس التى يقوم عليها .
وأحسب أننا ألمحنا إلى بعض هذه الخطوط فى أثناء مناقشة التفسير المادى ، فالآن نحاول تجميع هذه الخطوط فى عرض سريع ، وحسبنا فى هذا المقام أن نشير إلى الأسس العامة دون تفصيل .
من البديهيات أن التفسير الإسلامى للتاريخ يتعامل مع الإنسان ابتداء على أنه إنسان ، لا مادة ولا حيوان . وأن التاريخ هو تاريخ الإنسان . أى أن العنصر الفعال فيه هو الإنسان .. الإنسان بمجوعة لا جانب واحد منه . فقد كتب الإنسان هذا التاريخ بكل جوانبه مجتمعة - سواء فى حالات الهدى أو حالات الضلال . كتبه بروحه وجسمه وعقله . وكتبه باقتصادياته واجتماعياته وسياسياته . كتبه بالتعامل مع الكون المادى ، ومع الأفكار والقيم ، ومع الأحلام والرؤى ، ومع الواقع والخيال . كتبه بدوافعه الداخلية وتطلعتاته وطموحاته كما كتبه بالضغوط الواقعة عليه من خارج كيانه ! ضغوط الكون المادى والضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية . كتبه بكل ذرة من كيانه . وكل سطر من سطور هذا التاريخ أو إنجاز من إنجازاته فهو صادر من كيان الإنسان كله ، وهو أصيل فى صدوره عن مجموع هذا الكيان لا عن جانب واحد من هذا الكيان .
يتعامل التفسير الإسلامى مع الإنسان على أنه قبضة من طين الأض ونفخة من روح الله ، مترابطين متماسكين متفاعلين ، يتكون منهما معا كيان موحد .
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [سورة ص 38/71-72](1/457)
هذا هو تكوين الإنسان : قبضة من طين الأرض ، ونفخة من روح الله ، امتزجتا امتزاجا كاملا وترابطتا وتفاعل كل منهما مع الآخر فأصبح من حصيلتهما ذلك الإنسان الذى نعرفه ونتعامل معه فى واقع الحياة .
إنه ليس قبضة طين خالصة كما كان قبل النفخة العلوية فيه ، وليس روحه خالصة طليقة من قبضة الطين ، إنما هو الأمران معا فى وحدة مترابطة تختلف فى خصائصها اختلافا جذريا عن قبضة الطين الخالصة ونفخة الروح الخالصة ، وإن كانت تحمل بين الحين والحين بعض المشابه من هذه وتلك ، حين تجنح جنوحا شديدا نحو عالم الجسد أو عالم الروح ، ولكنها حتى فى تلك الحالات لا تكون مماثلة أبدا لأى من العنصرين منفصلين .
فى لحظة الشهوة الجامحة غير المنضبطة يكون أقرب إلى قبضة الطين ، لأنه يتعامل بجسده أكثر من أى جانب من جوانبه ، ومع ذلك لا يكون أبدا جسدا خالصا كالحيوان ، لأنه فيه - على الأقل - قدرا من الوعى والإرادة والاختيار حتى فى هذا العمل اللاصق بالطين ، بينما الحيوان لا يعمل بوعى ولا إرادة حرة ولا اختيار .
وفى لحظة الرفرفة الشفيفة المشرقة المهومة يكون أقرب إلبى نفخة الروح ، لأنه يطنلق بروحه من إطار الحس المحدود . ومع ذلك لا يكون أبدا روحا خالصة كالملائكة لأن له جسدا لا يستطيع أن يتخلص من وجوده ، وعقلا لا يكف تماما عن التفكير . انظر إلى أعلى لحظة وجود عرفها بشر فى تاريخ الأرض ، لحظة الوحى المتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل كال صلى الله عليه وسلم روحا خالصة وهو يصافح جبريل عليه السلام ويتلقى منه ، استمع إلى قوله تعلى :
{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [سورة القيامة 75/16-19](1/458)
فقد تحرك العقل وتحرك اللسان ، خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفوته حفظ شئ من التنزيل الربانى ، فطمأنه الله انه لن يضيع منه شئ لأنه سبحانه وتعالى هو المتكفل بحفظه وجمعه وقرآنه ( أى قراءته ) وبيانه .
هذا هو الإنسان بعنصريه المكونين له : قبضة الطين ونفخة الروح .
وكل محاولة لتفسيره بواحد من عنصريه دون الآخر هى محاولة مضللة لا تؤدى إلى حقيقة . سواء فسر من جانب قبضة الطين أو من جانب نفخة الروح .
والجاهليات فى التاريخ كله تجنح دائما إلى تفسير الإنسان - سواء نظريا أو عمليا أو هما معا - بجانب واحد من جوانبه ، أو بجانب غالب بحيث يسحق الجانب الآخر ويقهره ويكاد يلغيه .
الجاهليات المادية تبرز جانب الجسد ، وجانب الحس ، وجانب المادة ، فإذا أخذت شيئا من النفخة العلوية أخذت جانب العقل وأبت جانب الروح ، وسخرت العقل - من ثم - فى شهوات الجسد ومطالب الحس وعالم المادة ففقد علويته ورفعته ، وأسف مع قبضة الطين ، وأنشأ عمارة مادية للأرض خالية من إشراقة الروح .
والجاهليات الروحية تبرز جانب الروح ، وتهمل الجسد وتكبته وتقهره وتحتقره وتقوم بتعذيبه من أجل رفعة الروح ، كما تفعل الهندوكية والرهبانية ، كما أنها تهمل عالم الحس وعالم المادة ، فلا يقوم الإنسان بعمارة الأرض ، ولا يقاتل الشر والطغيان ، ولا يجاهد لإقامة الحق والعدل ، اكتفاء بلذة " الفناء " فى عالم الروح ، التى يتم من خلالها "الوجود" !(1/459)
والجاهلية المعاصرة - كما هو واضح - جاهلية مادية مغرقة فى المادية ، سواء فى المعسكر الشيوعة أو المعسكر الرأسمالى . قاعدة الحياة مادية بحتة . وقيم الحياة مادية بحتة، وعمارة الأرض على أساس مادى بحت . والتفسير المادى للتاريخ هو واقع الحياة هنا وهناك . وإن كانت النظرية - فى الحقيقة - ملكا للشيوعيين . والنظرية أسوأ بكثير حتى من التطبيق ! ففى التطبيق يتعامل كلا المعسكرين مع الإنسان على أساس أنه حيوان ، أو على أساس أنه آلة فى بعض الأحيان وحيوان فى سائر الأحيان .. أما فى النظرية فينفرد المعسكر الشيوعى بالتعامل مع الإنسان على أنه مادة تنطبق عليه قوانين المادة ، لأن الشيوعية خطوة " تقدمية " فى المخطط الكبير الهادف إلى تسخير الأمميين لشعب الله المختار .
? ? ?
من قبضة الطين ونفخة الروح أنشأ الله الإنسان وقال للملائكة إنه سيجعله خليفة فى الأرض :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
والخلافة تتضمن الهيمنة والسيطرة والقدرة على الإنشاء والتعمير والقدرة على التمييز والاختيار .. فأمده الله بالأدوات الصالحة للخلافة :
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا...} [سورة البقرة 2/31]
{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/3-5]
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) [سورة البلد 90/8-10](1/460)
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
وجعل الله للإنسان هدفا شاملا يشمل هذا كله هو عبادة الله ، على المعنى الشامل للعابدة :
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163]
العبادة هى حق الله على جميع مخلوقاته حق الخالق على المخلوق .. ولكن الله فرض على كل نوع من مخلوقاته عبادة تناسب تكوين . " فالمادة " لها عبادة ، والملائكة لها عبادة ، والإنسان له عبادة .. تشترك جميعا فى أنها عباد وأنها " سجود " وأنها " تسبيح " ولكن تختلف فى الطريقة .
{أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ} [سورة الحج 22/18]
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء 17/44]
واختص الإنسان بلون من العبادة يناسب اختصاصه بالخلافة ، ويناسب تكوينه من جسد وعقل وروح.(1/461)
فهو يعبد الله بالسجود والتسبيح على نحو معين علمه الله إياه على يد رسله وخاتمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعبده بعمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى المنزل من عند الله لتنظيم حياة الناس فى الأرض وإقامتها بالقسط .
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
ففى صلاته وتسبيحه ونسكه هو عابد لله ، وفى مشيه فى مناكب الأرض وأكله من رزق الله بالضوابط التى أقامها الله من حلال وحرام هو عابد لله . وفى زواجه وإقامة أسرته ورعايتها فى حدود الضوابط والتوجيهات الربانية هو عابد لله . وفى طلبه العلم سواء للتعرف على أوامر ربه ونواهيه ، أو للقيام بعمارة الأرض على المنهج الربانى هو عابد لله. وفى إقامته شريعة الله فى الأرض هو عابد لله . وفى قتاله لتكون كلمة الله هى العليا هو عابد لله . . وذلك معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام 6/162-163]
? ? ?
فإذا تبين ذلك تبينت مهمة الإنسان فى الأرض وطبيعة عمله فيها .
ليست مهمة الإنسان أن يأكل ويشرب ويمارس الجنس على طريقة الحيوان وإن كان هذا جزءا من نشاطه وعمله فى الأرض ، ولكن على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان ، أى ملتزما بما أنزل الله من توجيهات وضوابط ومتقيدا بالحلال والحرام .
وليست مهمته هى الإنتاج المادى وحده ، وإن كان هذا جزءا من نشاطه وعمله فى الأرض ، لكن على طريقة الإنسان لا على طريقة الآلة ، أى واعيا مدركا لأهدافه العليا ، ملتزما فى الإنتاج بالضوابط البرانية التى تحدد الحلال والحرام والحسن والقبيح والمباح والمكروه والمندوب .(1/462)
مهمته هى " العبادة " بمعناها الشامل الذى يشمل العقيدة الصحيحة ، وشعائر التعبد ، والنشاط الحيوى فى شتى مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفنية .. الخ ملتزما فى ذلك كله بمنهج الله .
وفى جميع الأحوال فعمله ذو طبيعة أخلاقية لاصقة به لا يمكن فصلها عنه فهو إما خير وإما شرير . ولا يوجد عمل واحد من أعماله خارج عن نطاق الأخلاق ، سواء كان سياسة أو اقتصادا أو اجتماعا أو فكرا أو فنا ، إلا أن الأخلاق ، سواء كان سياسة أو اقتصادا أو اجتماعا أو فكرا أو فنا ، إلا أن يكون عملا من أعمال الطبيعة غير الإرادية لا يحاسب عليه الإنسان .
وتنشأ القيمة الأخلاقية من كون الإنسان ثنائى الوجهة لا مفر الاتجاه ، ومن كونه قادرا على التمييز بين الوجهتين واختيار إحداهما .
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
والأخلاق سواق فى الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ، أو فى السياسة ، أو فى الاقتصاد ، أو فى الفكر ، أو فى الفن .. الخ ، هى " القيم العليا " التى يتقيد بها " الإنسان " فى تصرفاته ، والتى يسعى لإقامة الحياة البشرية على أساسها ، والتى يكون إنسانا بقدر ما يحرص على أدائها وإقامتها ، ويفقد من إنسانيته بقدر ما ينفلت منها ويتهاون فيها.
وعلى هذا النحو تكون " إنسانيته " الإنسان ، وتكون كذلك " كرامته ، فالتكريم الربانى للإنسان لم يكن عبثا .
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} [سورة الإسراء 17/70](1/463)
إنما يشمل التكريم والتفضيل - فيما يشمل - هذا العنصر الأخلاقى الذى تقوم عليه حياة الإنسان ، وتقوم به أعماله كذلك ، لتفترق عن حياة الحيوان ، وتفترق من باب أولى عن تصرفات المادة التى لا وعى لها ولا إرادة ولا إدراك ، إنما تتصرف بالقهر الكامل المفروض عليها من إرادة الخالق ، الذى أنشأها وأجرى أمورها على النحو الذى تجرى عليه ، لا تملك فكاكا منه ولا تعديلا عليه . وشتان بين ذلك وبين الوضع الكريم الذى وضع الخالق فيه الإنسان ، إذ أعطاه القدرة على التمييز والاختيار ، وجعله مقابل ذلك مسئولا عن تصرفاته بمقتضى تلك " الأمانة " التى حملها ، بينما أشفقت " المادة " من حملها :
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [سورة الأحزاب 33/72]
? ? ?
وتختلف أحوال البشر اختلافا جذريا بحسب الطريق الذى يختارونه لأنفسهم . ولا يقتصر الاختلاف على مصير الإنسان يوم القيامة إما إلى الجنية وإما إلى النار ، بل يختلف الأمر فى الحياة الدنيا كذلك .
أول اختلاف أنهم إذا اختاروا طريق الله ، طريق الخير ن فعبدوا الله وحده بلا شريك ، وساروا فى حياتهم بمقتضى المنهج الربانى ، فقد نجوا بادئ ذى بدء من عبودية بعضهم لبعض ، وتحققت لهم العزة والكرامة والمساواة التى لا تتحقق أبدا إلا حين ينزع من البشر حق التشريع ، ويصبحون كلهم عبيدا لله على قدم المساواة ، خاضعين كلهم لشريعة الله .. ونجوا من الظلم الذى يسم الجاهليات جميعا حين يحكم البشر بشرائع من صنع أنفسهم ، فإنه يحدث دائما فى تلك الجاهليات أن طبقة معينة هى التى تحكم ، وحين تحكم فإنها تدير الأمور بالطريقة التى تحقق مصالحها على حساب مصالح الآخرين .
? ? ?
ثم إن حياتهم تتسم بالنظافة والاستقرار والطمأنينة والبركة .(1/464)
النظافة المستمدة من أخلاقيات لا إله إلا الله ، من الالتزام بالحلال والحرام . من ضبط الدوافع لترتفع عن حيوانية الحسد إلى إنسانية الإنسان ، الذى يمارس الحياة بجسمه وروحه فى آن .
والاستقرار المستمد من تطبيق الشريعة الربانية الحكيمة المحكمة التى لا تخبط فيها ولا انحراف . وليس معنى الاستقرار الجمود عن الحركة ، ولا معناه كذلك الخلو الكامل من المشكلات . إنما معناه استقرار الأسس التى تقوم عليها الحياة . أما الحياة ذاتها فلا تكف عن الحركة الفاعلة ، ولا تخلو من أمور تجد فى حياة الناس تحتاج إلى جهد يبذل لحل مشكلاتها وتقويمها بمقتضى منهج الله .
أما الكدح ذاته فهى من سمات الحياة الدنيا .
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)} [سورة الإنشقاق 84/6]
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [سورة البلد 90/4]
ولكن هناك كدحا يتم فى إطار أسس مستقرة وراشدة ، فيكون كدحا مثمرا متمشيا مع الغاية التى خلق من اجلها الإنسان وهى " العبادة " بمعناها الشامل الواسع ، التى تتضمن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى.
وهناك كدح يتم فى غير هذا الإطار الراشد المستقر ، فيكون كدحا مؤديا إلى البوار وإن حقق منافع على المدى القصير .
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16]
أما الطمأنينة فمصدرها ذكر الله "
{ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
والاطمئنان إلى قدر الله :(1/465)
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)} [سورة الطلاق 65/3]
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [سورة التغابن 64/11]
وإحساس الإنسان أنه يصارع ما يصارع من القوى فى الأرض وهو مستند إلى الله الذى هو أكبر من القوة جميعا وأعلى :
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [سورة آل 3/173-174]
وحتى حين يمسهم السوء بقدر من الله فهم مستعلون بالإيمان :
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} [سورة طه 20/71-73]
وأما البركة فمصدرها رعاية الله وإغداقه على المتبعين لمنهجه بعد أن تنتهى فترة الابتلاء والتمحيص .(1/466)
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12)} [سورة نوح 71/10-12]
ومصدرها ارتفاع مشاعر الناس عن التكالب على متاع الأرض ، الذى يحدث الجوعة الدائمة التى لا تشبع ، اللهفة الدائمة التى لا تستقر ، وحين ترتفع المشاعر - بغير رهبانية ولا حرمان - يحدث الرضا النفسى الذى هو عنصر البركة الأصيل .
ومصدرها كذلك الأخوة والتكافل فى المجتمع المسلم الذى يجعل الناس شركاء فى الخير لا يختص به فريق دون فريق..
أما إذا اختار الناس طريق الشر . فأشركوا بالله فى العبادة أو كفروا به جهرة ونبذوا عبادته وأعرضوا عن شريعته ، فأول ما يقعون فيه هو عبودية بعضهم لبعض ، وانقسام المجتمع إلى سادة وعبيد . سادة يملكون ويحكمون يشرعون ، وعبيد ينفذون وه أذلاء مهينون .
ثم إن حياتهم تتسم بالاضطراب والقلق ، وفقدان النظافة ، والعبودية للشهوات .
الاضطراب ينشأ من الرؤية البشرية القاصرة ، العاجزة عن الإحاطة ، المحجوبة عن الغيب ، التى تتصرف فى كل لحكة بمقتضى تلك اللحظة ، دون أن تدرك الآثار الكاملة التى تنشأ عن تصرفها حتى تقع تلك الآثار بالفعل فى نفس الجيل أو فى جيل لاحق ، فيكتشف الناس الخلل الذى أصابهم ، فيروحون يعالجونه بعلاج جديد يثير مشاكل جديدة !
والقلق ينشأ من الدخول فى حومة الكدح - حومة الصراع - دون سند من قوة أعلى يطمئن الإنسان إلى نصرتها أو تعويضها له عما يفقده فى أثناء الصراع ..(1/467)
وفقدان النظافة ينشأ من عدم الالتزام بمنهج الله .. عدم الالتزام بالحلال والحرام ، الذى ينتج عنه اندفاع الناس مع شهواتهم وعدم الارتفاع بها ، فتهبط هى بهم إلى المستنقع المنتن الذى تعيش فيه كل الجاهليات .. وتلك هى العبودية للشهوات ، التى لم تنج منها جاهلية من جاهليات التاريخ ، حتى التى جنحت إلى الروحانية والرهبانية .. ففى الجاهلية الهندية الجانحة نحو الروحانية كانت ظاهرة " بغايا المعبد ! " ظاهرة معروفة ، وفى الرهبانية حدث ما أسلفنا ذكره من الموبقات !
أما التقدم المادى والعلمى فخط قائم بذاته خلال التاريخ البشرى غير متعلق بالهدى ولا بالضلال :
{كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)} [سورة الإسراء 17/20]
منشئوه تلك الرغبة الفطرية التى أودعها الله قلب الإنسان ، التى تدفعه إلى التعرف على خواص الماجة وخواص الكائنات الحية من حوله ، ومحاولة استخدام هذه المعرفة فى التحسين المستمر لأحواله المعيشية ، وهى رغبة كما قلنا لا تتعلق بالهدى ولا بالضلال .. ومن ثم فجعلها هى المقياس لتقدم الإنسان يؤدى إلى نتائج باطلة .(1/468)
فقد يحدث - كما حدث فى وقت نشأة الأمة الإسلامية - أن يكون الحاملون للهدى الربانى ، المتبعون لمنهج الله ، متأخرين فى مبدأ أمرهم من الناحية العلمية والتكنولوجية ، قليلى الحظ من العمارة المادية للأرض ، ويكونون مع ذلك فى أعلى درجات الرفعة الإنسانية ، كما كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم ، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير أمتى القرن الذى بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم 218 " فلا يمنعهم هذا التأخر المؤقت فى ميدان العلم النظرى والتطبيقى أن يكونوا أروع نماذج للبشرية فى أوج ارتفاعها . ولكنهم - بحكم الانطلاقة الهائلة التى تحدثها النشأة الجديدة فى كيانهم - لابد أن يتجهوا بعد فترة من الزمن إلى العمارة المادية وتظهر إنجازاتهم فيها كما حدث للمسلمين فى العهد الأموى والعباسى .
بينما يحدث كثيرا أن يكون قوم فى قمة العمارة المادية للأرض ولكنهم فارغون من القيم العليا ، فتزداد حياتهم خللا وانحدارا كلما أوغلوا فى العمارة المادية ، كما هو حادث فى الجاهلية المعاصرة .
ومن ثم لا يصلح التقدم المادى - وحده - معيارا من معايير التاريخ .
حقيقة إنه جزء من مهمة " الخلافة " التى خلق الله الإنسان ليقوم بها فى الأرض ، بحيث يكون الإنسان المتقاعس فى هذا الجانب - ع القدرة عليه - مقصرا فى أداء جزء من مهمته ، ولكن العبرة ليست فى مجرد أداء هذه المهمة ، إنما فى الطريقة التى تؤدى بها ، هل هى متفقة مع المنهج الربانى ، أى متقيدة بالحلال والحرام ، ونظافة المشاعر ونظافة السلوك، والأمانة والعدل ، وسائر القيم العليا التى تكون الجوهر الحقيقى لإنسانية الإنسان ، أم غير متفقة مع ذلك المنهج ، أى غير متقيدة بالحلال والحرام والنظافة الحسية والمعنوية والأمانة والعدل .. أى غير محققة لإنسانية الإنسان .(1/469)
فالتقدم العلمى والتكنولوجى ضرورى لعمارة الأرض ، ومن ثم فهو واجب على أى مجموعة من البشر يضمها تجمع معين . ولكن لابد له من شروط يقوم عليها ، وإلا فقد كثيرا من اعتباره وتحول إلى أداة سلبية تدفع الإنسان إلى الدمار !
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)} [سورة الروم 30/9]
وليس من الضرورى أن يتم التدمير بمجرد ظهور الفساد واستشرائه .. فإن من سنن الله أن يمد للقوم الظالمين - مع ظلمهم - ويمكن لهم ، ويفتح عليهم أبواب القوة فى كل اتجاه .. ليزدادوا فسادا وانحرافا ، ويزدادوا استحقاق للتدمير..
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [سورة الأنعام 6/44-45]
بينما من سنن الله مع المسلمين ألا يمكن لهم فى الأرض إلا وهم مستقيمون على طريقة ، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين حتى يعودا إليه .
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور 24/55]
? ? ?(1/470)
ويقيم الناس فى حياتهم علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية ليس بعضها نابعا من بعض ولا بعضها تابعا لبعض .. إنما الأصح أن نقول إنها - كلها - أوجه متعددة " لموقف " معين ، فى اتجاهات مختلفة ولكنها مترابطة ..
فالموقف الواحد : على طريق الله أو على غير طريقه ، يتجسم فى كيان سياسى اجتماعى اقتصادى معين ، وفكرى وروحى وخلقى وفنى كذلك ... أى فى جميع الاتجاهات ، وتكون كلها - فى المعتاد - متناسقة بعضها مع بعض ، إلا أن يكون هناك اختلاف فى الشخصية - شخصية الجماعة - فيكون بعض نشاطها من منبع معين وبعضه من منبع خالف ، كما هو حاضر " المسلمين " اليوم فى كل الأرض ، يعيشون بعض جوانب حياتهم على تراثهم الذى " ورثوه " وبعض جوانبها الأخرى من الجاهلية المعاصرة ، فى القيم والأفكار والمشاعر وأنماط السلوك .. وهو وضع شأن فى حياة المسلمين وفى حياة البشرية كذلك .
وتختلف صورة الكيان الاقتصادى باختلاف مدى التقدم العلمى والالمادى للجماعة البشرية ، فينتقل من اقتصاد رعوى إلى زراعى إلى صناعى .. إلخ .ز ولكن العبرة لا تكون بمقدار التغير فى " الصورة " إنما العبرة " بالموقف " الذى تنبثق منه الصور جميعا وتجسده .. وهو لا يخرج عن أحد موقفين : إما موقف إيمانى قائم على المنهج الربانى ، وإما موقف جاهلى مجاف للمنهج الربانى ، أى أن العبرة ليست بكون المجتمع رعويا أم زراعيا أم صناعيا ، إنما العبرة فى كونه رعويا جاهليا ، وزراعيا مؤمنا أم زراعيا جاهليا ، وصناعيا مؤمنا أم صناعيا جاهليا .. وهذا هو الذى يحدد مركزه فى التاريخ الأرض فضلا عن مركزه أفراده فى اليوم الآخر " 219(1/471)
وعلى ذلك فإن القيم فى المنهج الربانى لا تتغير مع تغير الصورة ، فيظل المجتمع المسلم - فى جميع أطواره الاقتصادية - عابدا لله ، بمعنى الاعتقاد الصحيح فى الله ، وأداء الشعائر التعبدية لله ن وتحكيم شريعة الله . ويظل متمسكا بأخلاقيات لا إله إلا الله سواء فى علاقات الجنس ، أو علاقات المال ، أو علاقات الولاء والسلم والحرب .. الخ ، أى ملتزما بالحلال والحرام وبسائر ما أنزل الله .
أما فى " الموقف " الآخر غير الإيمانى فلا معيار لشئ ، لأن القيم ذاتها غير قائمة على أساس واضح .. ولهذا يعبث بها من أراد أن يعبث كما عبث اليهود بكل القيم فى المجتمع الغربى مع الثورة الصناعية وزعموا أن عبثهم ذلك حتمية وقانون !
وصحيح أن هناك سمات مشتركة تصنعها " البيئة " فى المجتمع الرعوى أو الزراعى أو الصناعى قد يتشابه فيها المؤمنون وغير المؤمنين . ولكن هذا الشبة العارض لا يجوز أن ينسينا أن الذى يحدد المركز الحقيقى للإنسان فى الدنيا أو الآخرة هو " الموقف " الذى يتخذه ، وليست المظاهر الثانوية التى قد تتوافق أو تتعارض بغير تأثير حاسم فى حياة الناس.
? ? ?
وتقوم فى حياة الناس على الأرض صراعات متعددة . .
فأما فى المجتمع الإيمانى فالصراع هو دائما الصراع بين الحق والباطل يأخذ صورا شتى .
صورة منه هى القتال ضد النظم والحكومات والجيوش الكافرة لإزالتها من طريق الدعوة ، باعتبار أن وجودها ذاته عائق واقعى يمنع الناس من الاستجابة إلى دعوة الحق .. فأما إذا أزيلت فلا إكراه على اعتناق العقيدة الإسلامية ، ولكن تحكم شريعة الله ليستظل بعدالتها الناس جميعا ولو لم يدخلوا فى العقيدة الصحيحة.
وصورة منه هى مجاهدة عوامل الانحراف فى المجتمع الإسلامى ذاته ، عن طريق الأمر بالمعروفة والنهى عن المنكر .(1/472)
وصورة منه هى مجاهدة النفس الأمارة بالسوء ، اللاصقة بالشهوات ، حتى تصير إلى النفس اللوامة التى أقسم بها الخالق جل جلاله ، لأنها تنهى النفس عن الهوى .
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [سورة القيامة 75/1-2]
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [سورة النازعات 79/40-41]
وأما فى المجتمع الجاهلى فالصراع لا يدور أساس بين الحق والباطل ، وإن كانت تدور بين الحين والحين صراعات بين جوانب جزئية من الحق وجوانب جزئية من الباطل ، إنما يدور الصراع أساسا بين قوى الباطل المختلفة ، ويتخذ صورا شتى .
صورة منه هى عدوان أمة على أمة بدافع شهوة الغلبة والتوسع والعدوان والاستزادة من متاه الأرض عن طريق العدوان ، إما بتأسيسي إمبراطوريات أو " دول عظى " ! تبتلع الدول الصغرى وتستذلها لصالحها ، وإما بحروب دائمة بين الجيران وغير الجيران .
وصورة منه هى الصراع داخل المجتمع بدافع شهوة السلطة أو شهوة الملك أو شهوة الجنس أو شهوة البروز أو غيرها من الشهوات ، على هيئة صراع طبقى وصراع فردى .
ويتلخص الفارق بين نوعى الصراع فى الآية الكريمة :
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [سورة النساء 4/76]
والطاغوت هو كل ما يستعبد الناس له من دون الله .
? ? ?
والتفسير الإسلامى للتاريخ واقعى واقعية الإسلام :(1/473)
فمن ناحية يقدر أن الصورة المثالية للتطبيق الإسلامى ليست هى الصورة الدائمة . وأن الضغوط المادية والاقتصادية وضغوط الشهوات البشرية يمكن أن تؤثر فى التطبيق الواقعى فتنزله من صورته المثالية إلى صورة أدنى . ومن ناحية أخرى يقدر أن الحكام يمكن أن يطغوا بسلطان الحكم وسلطان المال الذى فى أيديهم فيجوروا ويظلموا ، رغم قيامهم بتطبيق شريعة الله فى فى المواضع التى لا تخص سلطانهم وامتيازاتهم التى يصنعونها لأنفسهم .
ولكن التفسير الإسلامى - الذى يفسر التاريخ بحسب السنن الربانية - يقول إن هذه الأمور كلها هى انحرافات عن المنهج الربانى الصحيح ، ليس لها إلا إحدى صورتين ، وإحدى نتيجتين :
إما أن تكون فى حيز محدود ، فلا يصب الظلم أو الفساد رقعة كبيرة من الأمة بسبب تأثير العقيدة فى النفوس من ناحية ، وتأثير تطبيق الشريعة فى حصر الظلم فى الحيز المحدود المحيط بالحكام من ناحية أخرى ، وعندئذ تستطيع الأمة أن تعيس فترة طويلة حتى والفساد فى داخلها ، وتكون برغم هذا الفساد الجزئى أفضل وأنظف وأعلى من الجاهلية .. وإما أن تزيد رفعة الفساد عن الجزئى أفضل وأنظف وأعلى من الجاهلية .. وإما أن تزيد رقعة الفساد عن الحد المعقول . وعندئذ تدركها سنة الله التى لا تتخلف ولا تحابى أحدا ، فتنهار الأمة حتى وهى تحمل اللافتات الإيمانية ، لأنها تكون عندئذ لافتات مزيفة لا رصيد لها من الواقع ، والسنة الربانية - الحتمية التى لا تتبدل ولا تتحول - لا تتعامل مع اللافتات المرفوعة إنما تتعامل مع الواقع الحقيقى .
وفى جميع الحالات لا يغفل التفسير الإسلامى للتاريخ ضغوط " الواقع المادى والاقتصادى التى يعنى بها التفسير المادى للتاريخ ، وتأثيرها فى نفوس الناس ومشاعرهم ، ولكن يختلف الأمر كثيرا ما بين وجود العقيدة وعدم وجودها.(1/474)
الضغوط المادية والاقتصادية دائما موجودة ودائما ذات ثقل .. ولكن العقيدة ترفع الإنسان بمقدار تمكنها من نفسه وفاعليتها فى حياته ، فأما إن كانت على درجة عالية من التمكن والعمق والفاعلية فإنها ترفع الإنسان فوق الضغوط المادية والاقتصادية ، فينجو من ثقلها كلها ، ويصوغ حياته بمقتضى القيم التى يؤمن بها ولا يحيد عنها .. وهؤلاء هم أفذاذ التاريخ .. وأما إن كانت موجودة ولكنها على درجة من التمكن والفاعلية أقل ، فإنها على الأقل ترفع الإنسان فتضعه إزاء الضغوط ، فيصارعها وتصارعه ، ويغلبها مرة وتغلبه مرة ، ويكون ضغطها عليه محسوسا ولكنه ليس قاهرا .. وهذه هى الحالة العادية للمؤمنين ، سواء فى صورة مجتمع أو فى صورة أفراد .
أما فى غياب العقيدة فالإنسان فى معظم حالاته واقع تحت الضغوط المادية والاقتصادية ، لا يملك أن يرفع رأسه إزاءها ولا أن يرتفع عليها ،فتكون هى القاهرة وهو المقهور تحتها .. وتلك هى الحالة التى ركز على شرحها التفسير المادى للتاريخ ، وأجاد فى شرح كثير من تفصيلاتها ( بصرف النظر عن مغالطاته المكشوفة فى تفسير الدين والأسرة وأخلاقيات الجنس ، وفى تصوير المخطط اليهودى لإفساد أوربا فى الثورة الصناعية على أنه تقدم وتطور ، وأنه حتمى !)
ولكن هذا التفسير أخفق فى أمرين :
أخفق أولا فى إعطاء التفسير الصحيح لتلك الحالة التى ركز عليها ، إذ قدمها على أنها هى الوضع الدائم والطبيعى للبشرية ، ولم يعطها تفسيرها الحقيقى ، وهى أنها وضع منتكس للإنسان بسبب جاهليته ، لا بسبب أن المادة بطبيعتها رب قاهر والإنسان بطبيعته عبد للمادة !
أما إخفاقه الأكبر فهو - كما أسلفنا - إخفاقه فى تفسير الإسلام ، وهو الوضع الصحيح للإنسان :
{ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)} [سورة الروم 30/30]
? ? ?(1/475)
ويقول التفسير الإسلامى للتاريخ إن هناك سننا ربانية تحكم حياة البشر على الأرض ، وإنها سنن دائمة غير قابلة للتبديل ولا التحويل :
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)} [سورة فاطر 35/43]
وسنة الله هى الحتمية الوحيدة فى هذا الكون ، والكون كله خاضع لهذه الحتمية بما فى ذلك الإنسان .
ولكن هناك فارقا أساسيا - بالنسبة للإنسان - بين حتمية السنن الربانية وبين الحتميات المادية والاقتصادية والتاريخية التى يزعمها التفسير المادى للتاريخ .
إن حتمية السنن الربانية لا تفرض سلوكا قهريا معينا على الإنسان ، ولا تقع بمعزل عن إرادته . إنما هى تفرض نتائج حتمية على السلوك الذى يتخذه الإنسان باختياره .
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [سورة الروم 30/41]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
{وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16)} [سورة الجن 72/16]
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16](1/476)
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [سورة النحل 16/112]
نبراس واضح : يختار الإنسان سلوكه ثم تترتب على اختياره نتائج حتمية الوقوع . ويغير الإنسان ما هو عليه فيغير الله له إن كان فى نعمة فكفرها يغير الله حاله إلى سوء ، وإن كان فى سوء فغيره يغير الله حاله إلى الخير .
وتفسح السنن الربانية الرقعة فلا تحصرها فى الحياة الدنيا وأحداثها ، إنما تمدها إلى اليوم الآخر ، الذى يتحقق فيه الجزاء الكامل ، وتكتمل صورة الحق التى لم تكتمل فى الحياة الدنيا .
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)} [سورة المؤمنون 23/115]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة ص 38/27]
فق يقع الظلم من إنسان ، ويظل ظالما حتى الموت دون أن يأخذ جزاءه فى الحياة الدنيا ، وقد يقع الظلم على إنسان فيظل مظلوما حتى الموت دون أن ينتقم الله له من ظالمه فى الحياة الدنيا ، ولكن هذا ليس آخر المطاف .. إنما آخر المطاف يوم {يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} [سورة النور 24/25] فينال الإنسان جزاءه الكامل على الموقف الذى اتخذه والطريق الذى اختاره ، سواء كان قد عجل له بشئ من الجزاء فى الحياة الدنيا أو أجل له كله إلى يوم الحساب .(1/477)
وفرق كبير بين وضع " الإنسان " فى التصور الإسلامى والتصور الذى يقدمه التفسير المادى للتاريخ ، وبين حجم الإنسان وحجم فاعليته فى كلا التصوريين . ففى التصور الإسلامى هو حقيقة " إنسان " يمارس مسئوليته فى الأرض يمارس حمل الأمانة التى اختصه بها الله بين المخلوقات . وه فى التوصر الآخر شبح غير محد الكيان ، أو أداة لا حرية لها ولا اختيار .
وأخيرا فإن الإنسان فى تطوره التاريخى له كيان ثابت وصور متغيرة على الدوام .
فأما الكيان الثابت فمصدره الفطرة ، وأما الصور المتغيرة فمصدرها التفاعل الدائم بين هذه الفطرة وبين الكون المادى ، ومحاولة الإنسان الدائبة تحقيق التسخير الربانى لما فى السموات والأرض من اجل الإنسان .
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
والفطرة البشرية ذات مرونة تسمح لها بالتشكل المستمر ، بما يناسب القدر الذى يتم تسخيره من طاقات السماوات والأرض ، ولكن هذه المرونة - مزية ميز الله بها الإنسان ليعينه على دور الخلافة فى الأرض - ليس معناها انعدام الشخصية الإنسانية ، أو السلبية الكاملة ، أو عدم وجود كيان محدد للإنسان ، إنما معناها فقط عمق هذه الشخصية وسعتها وتعدد جوانبها ، بحيث تستطيع أن تستوعب أشكالا متعددة من الحياة ، وتبذل ألوانا متعددة من النشاط .
وحقيقة إن هذه المرونة تجعل الإنسان يحتمل كثيرا من الضغوط ، ويتشكل تحتها بصور تخالف ما هو مفروض أن يكون عليه فى حالته السوية ، مما يغرى الطغاة على طول التاريخ البشرى أن يضغطوا على شعوبهم ويستعبدوهم ، ولكن هذا ليس معناه عدم وجود حدود حاسمة للكيان البشرى يقف عندها فى تشكله . أو فى خضوعه للضغوط الواقعة عليه ، فإنه فى النهاية يثور ..(1/478)
ومعنى ثورته أن احتماله للتشكل الخاطئ الذى فرض عليه بالضغط قد انتهى ، وأنه يريد أن يصحح وضعه بما يناسب كيانه الطبيعى . وسواء نجحت الثورة أو فشلت فدلالتها ثابتة فى الحالين .. والنجاح والفشل مسألة ظروف مواتية أو غيره مواتية ، ومسألة إعداد وتنظيم أو فوضى وارتجال . أما الثورة فمعناها أن شيئا مخالفا لطبيعة الإنسان قد فرض عليه بالقوة ، وهو يريد أن يرده عنه ليعود إلى وضعه الطبيعى .
وفى التاريخ البشرى ثورات كثيرة فاشلة وناجحة هى محاولات دائمة لدفع ضغوط مفروضة وتصحيح أوضاع خاطئة .. وكل ثورة تحدث " شيئا ما " فى حياة البشرية يغير خطاها إلى خط جديد .. ولكن تظل البشرية تتخبط مادامت بعيدة عن المنهج الربانى ، فتحل مشكلة بمشكلة جديدة ، وتتخلص من ضغط لتقع فى ضغط من نوع آخر ، كما خرجت من الرق إلى الإقطاع ، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية ، ومن الرأسمالية إلى الشيوعية ، ولا سبيا لها إلى التصحيح الحقيقى لأوضاعها إلا بالدخول فى المنهج الربانى ، الملائم للفطرة السوية ، المنزل من عند خالق هذه الفطرة ، العليم بما يصلحها وما يصلح لها ، وهو منهج ثابت القيم والأركان كثبوت هذه الفطرة ، ويسمح فى الوقت ذاته بتغير الصورة على الدوام بما يلائم النمو الدائم للحياة البشرية . ولكنه لا يسمح بالصورة المنحرفة لأنها تمرض الفطرة ، وتؤدى إلى الفساد فى الأرض ، ومن أجل ذلك يجعل القواعد الثابتة هى التى تحكم المتغيرات ، ولا يسمح للمتغيرات بتغيير القواعد الثابتة .
ولا تزال البشرية تهتدى فتستقيم حياتها ، وتضل فتصيبها السنة الربانية التى تترتب على الضلال . ولكن لا توجد حتمية واحدة للهدى ولا حتمية واحدة للضلال . إنما الإنسان هو الذى يقرر لنفسه :
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10](1/479)
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر 103/1-3]
تلك لمحة سريعة عن التفسير الإسلامى للتاريخ فى مواجهة التفسير الجاهلى قد لا تون ، كافية لإبراز ملامحه .. ولكنها تكفى على أى حال لرؤية الهوة العميقة التى يضع التفسير المادى فيها الإنسان .
? ? ?
ثانيا : المذهب الاقتصادى بين النظرية والتطبيق
أشرنا فى التمهيد إلى أن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا بحتا كما يجرى الحديث عنها أحيانا ، ولكنها تصور شامل للكون والحياة والإنسان ولقضية الألوهية كذلك ، وتفسير شامل لذلك كله على أساس مادى.
بعبارة أخرى فإن المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ جزء من " النظرية " الشيوعية لا ينفصل عنها . ولذلك لم يكتف ماركس أو إنجلز أو غيرهما من الكتاب الشيوعيين بأن يتحدثوا عن الشيوعية كمذهب اقتصادى ، إنما جعلوا حولها هذه الفلسفة الشاملة لتفسرها - أو لتبررها - سيان .
وهذا الذى صنعه ماركس وإنجلز والمفسرون الشيوعيون هو الأمر الطبيعى ، الذى يتجافاه أو يتجاهله الذين يتحدثون عن الشيوعية كمذهب اقتصادى بحت . ذلك أنه لا يوجد مذهب اقتصادى مجرد ، ليس له ارتباط بتصور شامل عن الكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية !
ورغم أننا لا نوافقهم فى زعمهم أن الأوضاع الاقتصادية والمادية هى الأصل الدائم الذى تنبثق منه الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية ، والفنية .. الخ ، فإننا نرى - كما أشرنا من قبل - أن هناك ارتباطا بين هذه الأمور كلها ، لأنها أوجه مختلفة لقضية واحدة ، أو لموقف معين من قضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان .
وسواء أخذنا بوجهة النظر هذه أو تلك فإن النظرية الاقتصادية لا يمكن أن تقف وحدها مجردة عن فلسفة شاملة تربطها بالقضايا الأخرى كلها ، سواء كانت هذه النظرية شيوعية أو رأسمالية أو إسلامية .(1/480)
فكلتاهما فلسفة مادية حيوانية لا ترتفع بالإنسان عن مستوى المادة أو مستوى الحيوان ، وتعتبر الوضع المادى والاقتصادى هو الأصل الذى يشكل الحياة . وكلتاهما تبعد المنهج الربانى كلية عن أن يحكم الحياة أو يسيطر عليها . تبيح الفساد الخلقى وتسمح له أن يستشرى فى الأرض !
ولكنا سنجد - على الأقل - فرقا فى الدرجة بين هذه وتلك !
فالشيوعية أشد إمعانا فى إبعاد المنهج الربانى إلى حد النص الرسمى على الإلحاد فى صلب الدستور : لا إله . والكون مادة " وأشد إبعادا للإنسان عن إنسانيته ، باعتبارها إياه مادة خالصة ، لا خليطا من المادية والحيوانية كما تصنع الرأسمالية .
إن الفارق الوحيد - الذى يرونه جوهريا ولا نراه كذلك - هو فى " من يملك " وهو فارق فى " الفشرة " الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية أكثر مما هو فارق فى الأصل الذى تعطيه هذه الفشرة . لأن النزاع انحصر كما هو ظاهر فى " من يملك " ولم يتجاوزه إلى النظر فى المالكين أنفسهم ، ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية ، وهل هى نظرة صحيحة أم خاطئة ، وهل هم - بمعيار القيم الإنسانية - مرتفعون أم هابطون .
فإذا وجدنا - بالمعايير الربانية - أن المالكين كلهم سواء فى الجاهلية المعاصرة . كلهم جاهليون ن كلهم نابذون للمنهج الربانى معادون له مصرون على إبعاده عن حياتهم ، فإن الفوارق الجزئية بينهم بعد ذلك تظل فوراق ثانوية ، وليست جوهرية كما قد ينظرون إليها فيما بين بعضهم وبعض ، وخاصة فى لحظات التنازع والخصام .(1/481)
وصحيح أن " مظهر " الحياة يختلف كثيرا فيما بين الرأسمالية والشيوعية ، على الأقل من الناحية الاقتصادية والناحية السياسية ، ولكنا نضرب مثلا لتقريب الصورة فحسب .. إذا دخلت مكانا تحسب أن فيه " أدميين " فوجدت أنه عبارة عن حظيرتين كبيرتين ، الدواب فى إحداهما طليقة " سائبة " وفى الأخرى مربوطة مقيدة ، فليس الذى يبدهك للوهلة الأولى هو أن هذه سائبة وهذه مقيدة ، إنما الذى يبدهك أنك وجدت الدواب حيث كنت تتوقع وجود الآدميين ، ولابد - بطبيعة الحال - أنك ستلحظ الفارق بين مجموعة الدواب هذه وتلك ، وقد تلحظه لأول وهلة ، ولكنك لا تعيره اهتماما كبيرا طالما أنت ناظر إلى قضية وجود الدواب فى مكان الآدميين . أما إذا ألقيت هذه القضية جانبا فسيتضخم فى حسك ولا شك ذلك الفارق الشكلى ، وستروح تبحث ، أيهما الأولى : أن تكون جميعها سائبة أم جميعها مقيدة !
تشبيه تمثيلى لتقريب الصورة فحسب .
فمن وجهة النظر الإسلامية لايفترق الوضع الرأسمالى كثيرا عن الوضع الشيوعى . كلاهما وضع جاهلى يحكم بغير ما أنزل الله ، كلاهما ينفر نفورا تاما من إدارة شئون الحياة بمقتضى المنهج الربانى . كلاهما لا يعترف على الإطلاق بأن حق التشير ، أى حق تقرير الحلال والحرام والحسن والقبيح والطيب والخبيث ، هو حق الله وحده ، إنما تقوم كلاهما على أن هذا الحق هو حق البشر وحدهم من دون الله .. ثم يختلف هؤلاء البشر فيما بينهم بعضهم يذهب إلى اليمين ، وبعضهم يذهب إلى اليسار ، وكلاهما يتنكب الطريق .
? ? ?(1/482)
بعد هذه المقدمة الضرورية التى نخلص منها بنتيجتين رئيسيتين : الأولى إن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا بحتا يمكن تجريده بمفرده ، إنما هى تصور شامل للكون والحياة والإنسان وقضية الألوهية ، ثم مذهب اقتصادى مبنى على هذه التصور ومرتبط به بحيث لا يمكن فصلة عنه ، والثانية أن الفارق بين الفلسفة الشيوعية الخاصة بقضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان والفلسفة الرأسمالية المتعلقة بهذه القضايا ذاتها فارق ثانوى من وجهة النظر الإسلامية ، لأنه فارق فى " الفشرة " وليس فى الجوهر الحقيقى ..
بعد هذه المقدمة نأخذ فى الحديث عن المذهب الاقتصادى فى الشيوعية ، مبتدئين بالنظرية ثم معقبين بالتطبيق.
? ? ?
النظرية الشيوعية
تقوم النظرية الشيوعية على مجموعة من الأسس والمبادئ يمكن تلخيصها فى النقاط الآتية :
إلغاء الملكية الفردية إلغاء باتا وإحلال الملكية الجماعية بدلا منها .
إلغاء الطبقات بإقامة دكتاتورية البروليتاريا وإبادة الطبقات الأخرى .
كفالة الدولة لجميع " المواطنين " فى مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالا ونساء .
المساواة فى الأجور .
إلغاء الدين .
تطبيق مبدأ " من كل بحسب طاقته ، ولكل بحسب حاجته"
اللغاء الصراع من المجتمع البشرى بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية .
إلغاء الحكومة فى المستقبل ، وإقامة مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة .
ونحاول فيما يلى بسط كل واحد من هذه المبادئ فى إيجاز دون تفصيل .
1- إلغاء الملكية الفردية :(1/483)
أسلفنا القول فى مناقشة المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ أن الشيوعيين يعتبرون الملكية الفردية هى المسئولة عن كل الشرور التى خاضتها البشرية منذ تركت مرحلة الشيوعية الأولى حتى دخلت مرحلة الرأسمالية ، وأنها كانت خلال ذلك التاريخ كله مثار " الصراع الطبقى " الذى يبعث الأحقاد والاضطرابات فى المجتمع البشرى . وأنه لابد من إزالتها والرجوع بالناس إلى الملكية الجماعية التى كانوا عليها فى الشيوعية الأولى ، لكى تستريح البشرية من الصراعات والأحقاد وتعيش فى طمأنينة وسلام .
ويرى الشيوعيون إن الشيوعية الثانية والأخيرة التى يدعون إليها هى الحل ، وهى طريق الخلاص . لأنها ستلغى الملكية الفردية إلغاء باتا وتحل الملكية الجماعية محلها ، فلا يملك أحد شيئا من وسائل الإنتاج وأدواته ملكية فردية ، سواء كان الإنتاج زراعيا أو صناعيا ، إنما تكون الملكية جماعية .(1/484)
وليس معنى الملكية الجماعية أن أى مجموعة من الناس يملكون أو يمكن أن يملكوا ما تحت أيديهم من وسائل الإنتاج وأدواته ملكية مشتركة ، كأن يملكن العمال المصنع الذى يعملون فيه ، أو يملك الفلاحون المزرعة التى يفلحونها ( كما يتبادر أحيانا إلى أذهان السذج الذين يتسمعون إلى الدعاية الشيوعية فيتصورونها على غير حقيقتها ) إنما معناها أن " الدولة " هى المالك الوحيد للإنتاج كله ، بوسائله وأدواته وناتجة ، فهى التى تملك المصانع وإنتاجها كما تملك المزارع ومحاصيلها ، وتقول النظرية إن الدولة تقوم بذلك نيابة عن الشعب ، أو عن طبقة " البروليتاريا Proletariat " ( ومعناها الطبقة الكادحة ) التى يفترض فيها حسب النظرية أنها هى المالك الحقيقى ! ذلك أن النظرية الشيوعية تقول إن المنتج الحقيقى لأى سلعة هو العامل الذى يبذل الجهد لإنتاجها . ولكنه فى ظل الإقطاع والرأسمالية لا يملك الناتج الذى أنتجه بجهده . إنما هو يبيع جهده للإقطاع أو الرأسمالى الذى يشترى هذا الجهد بأبخس الأثمان ويستمتع وحده بفاضى القيمة ( وهو الفرق بين ثمن المادة الخامة مضافا إليه أجر العامل وبين سعر السلعة فى السوق ) وعلى هذا يعتبر الإقطاعى والرأسمالى مستغلا لجهد العامل وظالما له ، ويعتبر العامل فى وضع غير إنسانى لأنه مستغل لحساب إنسان آخر ، وهذا فى شرعة الشيوعية غير جائز لأن الجريمة الكبرى فى حق الإنسان هى أن يكون مستغلا من قبل إنسان آخر . أما فى الشيوعية فليس هناك استغلال من إنسان لإنسان لأن الكل ماليكن ، وإن كانت الدولة من والوجهة العملية هى التى تدير هذه الملكية ، وهى التى توزع الناتج على " المالكين الحقيقيين " !
وسنتحدث عن طريقة التوزيع فيما بعد . إنما نكتفى هنا بالقول بأن الدولة هى المتصرف الحقيقى فى جميع الأمور .(1/485)
ويقول الشيوعيون كما أسلفنا إن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ( بل إنه لا توجد نزعات فطرية على الإطلاق ) وإن الملكية الجماعية هى الأصل فى حياة الإنسان بدليل الشيوعية الأولى . إنما اكتسب الإنسان تلك النزعة الشريرة فيما بعد اكتشاف الزراعة . وإنه ينبغى تطهير الناس من هذا الشر الذى اكتسبوه ، وإعادتهم إلى الحالة التى كانوا عليها أول مرة بجعل الملكية ملكية جماعية .
2- إلغاء الطبقات :
منذ خرج الناس من الشيوعية الأولى التى لا ملكية فردية فيها ، أو بعبارة أخرى منذ بدأت الملكية الفردية بدأ ظهور الطبقات فى المجتمع ، إذا انقسم الناس إلى مالكين ، واستغل المالكون ما فى أيديهم من الملك لاستغلال الآخرين الذين لا يملكون ، فأصبحت الملكية سلطة استغلالية ، وأصبحت الطبقة المالكة هى التى تحكم ، وبما أن السلطة فى يدها فقد صارت تححم بما يناسب مصالحها على حساب الطبقة التى لا تملك ( ومن ثم لا تحكم ) واستمر هذا الوضع بصورة سافرة فى عهدى الرق والإقطاع ، وبصورة مقنعة فى ظل الرأسمالية ، وتقرر الشيوعية أن هذا كان ظلما فاحشا بالنسبة لطبقة الكادحين الذين هم المنتجون الحقيقيون ، إذ بدلا من أن يملكوا نتيجة جهدهم فإن طبقة السادة التى تستغلهم هى التى تستمتع وحدها بثمرة هذا الجهد ، بينما يظلون هم فى الحرمان والذل والهوان ، وليس أقل الذل أن يضطروا إلى بيع جهدهم للمستغل الذى يعملون عنده أو يعملون لحسابه .
ثم تقرر النظرية أن هذا الظلم الفاحش لا سبيل إلى إزالته إلا بإزالة النظام كله ، نظام الطبقات القائم على الملكية الفردية .(1/486)
فطالما كان هناك ملكية فردية فهناك طبقات . وطالما كان هناك طبقات فهناك ظلم . والسبيل هو إلغاء الطبقات المستغلة ( أى المالكة ) والإبقاء على الطبقة الوحيدة المنتجة ، وهى طبقة الكادحين ( البروليتاريا ) لأن الطبقات الأخرى طبقات طفيلية لا تستحق البقاء ، كل عملها أن تمتص دماء الكادحين وهى لا تتعب ولا تبذل جهدا ، وإنما تسرق الجهد لتعيش به حياة ترف وكسل وخمول بينما المنتجون الحقيقيون فى شقاء وكدح وعناء .
والطريق المؤدى إلى ذلك هو الثورة . وهى ثورة حمراء تراق فيها دماء غزيرة حتى يستتب الأمر لطبقة البروليتاريا ، فتصل إلى السلطة وتبيد الطبقات الأخرى إبادة ، ثم تلغى الملكية الفردية حتى لا تظهر من جديد طبقة مالكة تستغل الكادحين .
ويسمى نظام الحكم الذى ينشأ من هذه الثورة " دكتاتورية البروليتاريا " لأن البروليتاريا لابد أن بالديكاتورية ما دامت المعركة ما تزال قائمة بين الشيوعية وأعدائها .
وحكمة الديكتاتورية أن أعداء الشعب لا ينبغى أن تترك لهم أى ثغرة ينفذون منها للقضاء على النظام الصحيح ( وهو الشيوعية ) لأنهم - بطبيعة الحال - لن يرضوا عن النظام الذى يحرمهم من امتيازاتهم الطبقية . فهم أعداء الداء له . وما دام هناك دول رأسمالية وإقطاعية ما تزال قائمة فى الأرض فإن أعداء الشعب سيتعاونون معها ، أو أن هذه الدول ستستغلهم ضد النظام . ولا ينبغى التهاون فى هذا الأمر لحظة واحدة ، ولا التراخى مع أعداء النظام - أعداء الشعب - بل لابد من مقاتلتهم بكل شدة ، والسبيل إلى ذلك هو أن تتولى الدولة كل السلطات فى يدها ، وتقبض على الأمر بيد من حديد ، إلى أن يأتى الوقت الذى ينتهى فيه الأعداء من الوجود ، وعندئذ لا تزول الديكتاتورية فقط بل تزول الحكومة كذلك الانتهاء الحاجة إليها .
3- كفالة الدولة لجميع المواطنين :(1/487)
تقوم الشيوعية على مبدأ كفالة الدولة لجميع المواطنين على أساس أن هذا واجب الدولة تجاه المواطنين ، وحق المواطنين على الدولة . ويندد الشيوعيون بالرأسمالية خاصة التى تحتفظ دائما بجيش من العاطلين لتضرب به حركات العمال الذين يتمردون على الظلم ويطالبون بحقوقهم ، وبالإقطاع الذى يترك الناس يموتون جوعا ليكتنز الإقطاعى ويسمى من دماء الكادحين .
وفى " المنيفيستو " أى الإعلان الشيوعى الذى أعلنه ماركس أوجب على الدولة أن تكفل لكل فرد من أفراد المجتمع ضروراته الأساسية وهى الطعام والملبس والمسكن والجنس ، باعتبارها حقوقا طبيعية ، وضرورات ينبغى إشباعها ، وتعتبر الدولة مقصرة إذا قصرت فى تحقيق شئ من ذلك لأى فرد من المواطنين.
وفى مقابل كفالة الدولة لجميع المواطنين فإنه ينبغى على كل قادر على العمل أن يعمل - رجالا ونساء - ومن لا يعمل لا يأكل . فكما أن الكفالة واجبة على الدولة فالعمل واجب على الفرد مادام قادرا عليه ، ولا يعفى من ذلك أحد على الإطلاق إلا الأطفال حتى يبلغوا السن التى تؤهلهم للعمل ، والعجزة من الرجال والنساء الذين لا يقدرون على أى نوع من أنواع العمل فأولئك تكفلهم الدولة بلا مقابل .
وبما أن الدولة هى - من الوجهة العملية - المالك الوحيد والمسيطر الوحيد على الإنتاج ، فهى التى تحدد لكل فرد فى المجتمع نوع العمل الذى يقوم به ومكانه كذلك مقابل كفالة الدولة له . وتحدد الدولة صلاحية أى إنسان لنوع معين من العمل بحسب اختبارات تجريها على الأفراد لتحديد مواهبهم وقدراتهم . أما مكان العمل فتحدده الدولة حسب احتياجاتها بوصفها المشرفة على الإنتاج كله .
والمرأة - كالرجل - لابد أن تعمل فى أماكن العمل خارج البيت .
وكونها زوجة وأما لا يتعارض مع هذا المبدأ . فهى تأخذ الإجازة المقررة فى حالات الحمل والوضع ، أما الأطفال فتتولاهم المحاضن لا الأمهات .(1/488)
ومن ثم فإن أى أم - بعد تمضية الإجازة المقررة للوضع - تأخذ وليدها إلى المحضن وتذهب هى إلى العمل، حتى تتسلمه مرة أخرى بعد العودة من العمل .
وتقوم المحاضن بتقديم الرعاية المطلوبة للأطفال ، حتى تنتهى أمهاتهم من العمل . حتى إذا كبروا تولت المدرسة ما كانت تتولاه المحاضن من قبل .
وبذلك لا تشغل المرأة بشئون الأطفال عن واجب العمل خارج البيت .
وتتولى الدولة كفالة الأفراد بتقديم الطعام لهم مقابل بطاقات تموينية موحدة ، وتقديم الملابس مرة فى الشتاء ومرة فى الصيف على المنوال ذاته ، كما تعد سكنا لكل فرد . أما الجنس فتطلق فيه الحرية للأفراد ينشئون علاقاتهم الجنسية على النحو الذى يحول لهم . وكانت النظرية قائمة فى الأصل على أساس الشيوعية الجنسية الكاملة باعتبار أن هذه هى الصورة التى كانت عليها الشيوعية الأولى ، وأن هذا هو الأصل فى العلاقات الجنسية . ثم قام لنبين بتعديل النظرية فاستبدل بالشيوعية الجنسية الكاملة نظرية " الكوب " التى تقول إن الكوب الذى يشرب به كل إنسان يصبح ملوثا ، وكذلك الجنس لابد أن تنظم علاقاته لكى لا يصبح ملوثا كالكوب الذى يشرب به الجميع ! 0 وكان هذا بعد الدعاية المضادة التى قامت ضد الشيوعية الجنسية من المعسكرات المعادية ) فصارت هناك مكاتب للزواج والطلاق تقوم فقط بتسجيل ما يحدث من الزيجات والانفصالات ، وفى إماكن أى زوج من البشر : رجل وأمرأة ، أن يذهبا فى أى وقت إلى مكتب الزواج ليسجلا زواجهما ، كما أن فى إمكانهما فى أى وقت أن ذهبا إلى مكتب الطلاق ليثبتا انفصالهما ، ولا يترتب على ذلك أى إجراءات تقيد حرية العلاقات الجنسية .
4- المساواة فى الأجور :
تقوم النظرية الشيوعية على أساس مبدأ المساواة بين جميع الأفراد فى المجتمع ، لأن هذه هى الصورة التى كانت عليها البشرية فى الشيوعية الأولى ، وهى - عندهم - الأصل الذى تستمد منه كل المبادئ التى ينبغى أن تعود إليها البشرية .(1/489)
تقول النظرية إن أول صورة للوجود البشرى هى التعبير الطبيعى عن هذا الوجود ، وإن أى انحراف طرأ بعد ذلك لا ينبغى أن يعتد به ، بل ينبغى أن تعود البشرية فتصحح أوضاعها بالرجوع إلى الصورة الطبيعية التى كانت عليها أول مرة .
وفى الشيوعية الأولى كان جميع الأفراد متساوين فى الحقوق والواجبات ، وفى المأكل والملبس والمسكن والجنس ، فينبغى أن تكون هذه هى الصورة الدائمة البشرية ، ولكن التطور الذى حدث بعد اكتشاف الزراعة غير هذا المبدأ الجميل ، وأخل بالمساواة التى كانت قائمة فى المجتمع الشيوعى الأول . فأصبح بعض الناس مالكين وبعضهم غير مالكين ، فاختلفت الحقوق والواجبات بين الملاكين وغير المالكين ، وأصبحت للمالكين امتيازات اقتصادية ( ومن ثم سياسية واجتماعية ) تميزهم عن غير المالكين .
ولكن عدم المساواة ليس أصلا من أصول الوجود البشرى ، ومن ثم فهو ظلم ينبغى إزالته . وطريقة إزالته - بعد إلغاء الملكية الفردية وأيلولة الإشراف على الإنتاج إلى الدولة - أن تسوى الدولة بين أجور جميع العاملين ، لكى تتحقق المساواة التامة فى كل شئ ، ويزول الظلم الذى عاشت فيه البشرية عدة قرون.
ومن أجل تقرير هذه المساواة قررت وحده عمل إجبارية ينبغى على كل قادر أن يقوم بها ، وتصرف للعامل بمقتضاها كل حاجاته الأساسية من مسكن وملبس ومطعم على قدم المساواة .
وعلى هذا النحو تحقق الشيوعية الثانية ما كان قائمة من المساواة فى الشيوعية الأولى ، وتلغى الفوارق والامتيازات الطبقية التى أحدثتها فترات الظلم فى الحياة البشرية ، وهى فترات الرق والإقطاع والرأسمالية .
5- إلغاء الدين :
تعتبر الشيوعية الين أمرا واجب الإلغاء من اعتبارات عدة .(1/490)
أحد الاعتبارات أنه خرافة .. ونحن الأن فى عصر العلم . فقد كان الباعث الأول على الدين هو جهل الإنسان بالطبيعة من حوله ، وعجزه عن السيطرة عليها . فتخيل وجود قوى خفية تسيطر على هذا الكون وتجرى الأحداث فيه . وراح يسترضى هذه القوى ليدفع أذاها عنه فتقرب إليها بالشعائر التعبدية وتقديم القرابين .
ولما كانت البشرية اليوم قد شبت عن الطوق ، وتعلمت من العلم ما تعرف به قوانين الطبيعة وتسيطر به على البيئة فقد آن أن تتخلص من هذه الخرافة غير اللائقة بالإنسان المتعلم .
الاعتبار الثانى أنه كان ناشئا من طبيعة الوضع المادى والاقتصادى فى العهد الزراعى ، حيث كان جزء من عملية الإنتاج خارجا عن سيطرة الإنسان ، فتخيل وجود قوة غيبية نسب إليها الهيمنة على ذلك الجزء الخارج عن سيطرته وراح يتعبدها لاجتلاب رضاها وصرف أذاها وغصبها عنه ، وسماها الله .
والآن تغير الوضع المادى والاقتصادى وأصبحت عملية الإنتاج كلها منظورة وكلها تحت سيطرة العامل الذى يقوم بالإنتاج ، فلم تعد هناك حاجة لافتراض تلك القوة الغيبية التى أصبحت الآن غير ذات موضوع .
الاعتبار الثالث أن الدين يخالف المعتقد الشيوعى القائم - فى نظرهم - على أسس علمية ، وهو أن المادى هى الأصل ، وهى سابقة فى الوجود على الفكر . إذ يقوم الدين على أساس أن المادة مخلوقة ، وبالتالى فليست هى الأصل ، وليست سابقة على الفكر ، ومن ثم وجب إلغاء الدين لأنه يصادم التصور الشيوعى ، الذى ينبغى أن يبقى وحده ويلغى كل ما سواه .(1/491)
الاعتبار الرابع أن " الدين أفيون الشعب " فقد كان المستغلون من الإقطاعيين والرأسماليين يستخدمونه لتخدير الجماهير لكى ترضى بالظلم الواقع عليها ولا تتمرد عليه ، مقابل الحصول على نعيم الجنة فى الآخرة . وبصفة عليها ولا تتمرد عليه ، مقابل الحصول على نعيم الجنة فى الآخرة . وبصفة خاصة فقد كان الدين يستخدم ضد الشيوعية بالذات . فحين يقوم الشيوعيون بالدعوة إلى الشيوعية يستخدم الدين لوقف هذه الدعوة ومحاربتها .
فالآن بعد قيام المجتمع الشيوعى الذى ليس فيه مستغلون ، ينبغى إلغاء ذلك المخدر الذى كانوا يستخدمونه إذا لم تعد هناك حاجة لاستخدام المخدر . ومن جهة أخرى فقد وجب القضاء على ذلك العدو اللدود الذى يستخدم ضد " العقيدة " الجديدة ومحوه من الوجود .
6- من كل بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته :
كان هذا المبدأ من ضمن المبادئ النظرية التى وضعت فى أول الأمر لتقوم الشيوعية عليها .. ومقتضى هذا المبدأ أن الناس فى ظل التطبيق الشيوعى سيرتفعون بمشاعرهم وسلوكهم إلى صورة مثالية تجعل كل إنسان يبذل أقصى ما فى طاقته من جهد من تلقاء نفسه دون ضغط عليه ولا إلزام ، ولكن من جراء حبه للنظام وللمزايا التى يحققها له ، وشعوره بالاستقرار والطمأنينة والسعادة فى ظله . وفى الوقت ذاته لا يأخذ من الإنتاج - الذى يشارك فيه الجميع ، كل بحسب طاقته - إلا بمقدار ما يحتاج إليه فحسب ، فلا يزيد عن الحاجة بدافع الجشع والطمع الناشئين أساسا من الحياة فى مجتمع طبقى يمارس الملكية الفردية والصراع الطبقى . فإذا زالت الأسباب زالت الأعراض .. أى أنه إذا ألغيت الملكية الفردية وألغيت الامتيازات الطبقية بإزالة الطبقات كلها إلا الطبقة الكادحة فإن الجشع والطمع يزولان من نفوس الناس بزوال الأسباب الدافعة إليهما ، وعندئذ يأخذ كل إنسان من الإنتاج العام بقدر ما يحتاج إليه فحسب ، ويترك الباقى للمحتاجين غيره من الناس .(1/492)
ولكن عند التطبيق تعدلت النظرية شيئا من التعديل ، فلم يلغ هذا المبدأ إلغاء كاملا ولكنه أجل إلى أجل غير محدد بزمن معين ، ولكنه مرهون بزيادة الإنتاج - بوسائل التقدم العلمى - إلى الحد الذى يمكن معه تطبيق المبدأ .
وقيل فى تفسير ذلك إننا بعد لم نصل إلى مرحلة الشيوعية إنما نحن فى مرحلة التطبيق الاشتراكى . ومن أسباب ذلك أننا مشغولون بالمعركة الدائرة ضد أعداء الشيوعية ، وهذا يستوجب توجيه جزء من الإنتاج إلى إنتاج حربى لمنع الأعداء من التغلب علينا أو عرقلة خطواتنا ، وهذا يعوق زيادة الإنتاج إلى الحد الذى يكفى كل احتياجات الناس ويفيض عليها ، بحيث لا يؤثر على عدالة التوزيع أن يأخذ كل إنسان منه بقدر ما يريد ، ومن ثم فإنه فى مرحلة التطبيق الاشتراكى لابد أن تظل الدولة قائمة على التوزيع . لتعطى كل إنسان نصيبه من الإنتاج بحسب كمية الإنتاج الموجودة بالفعل ، كما تشرف الدولة على الإنتاج لتضمن قيام كل إنسان بجهد المطلوب منه .
ولكن حين تتحقق الشيوعية يتحقق ذلك المبدأ فيبذل كل إنسان ما فى طاقته من الجهد من تلقاء نفسه ، ويأخذ ما يحتاج إليه من الإنتاج ، مكتفيا من تلقاء نفسه بلا رقيب .
7- إلغاء الصراع :
حين تلغى الملكية الفردية ينتهى الصراع . تلك من مقررات المادية الجدلية والتفسير المادى للتاريخ .. وقد اشرنا إلى ذلك مرارا ، وما كان بنا من حاجة إلى إفراد هذه النقطة بالحديث بعد أن أشرنا إليها عند الكلام على الملكية الفردية وموقعها من النظرية الشيوعية . ولكنا نريد أن نزيد هنا فى هذه العجالة أن النظرية الشيوعية تتنبأ بحلول هذا العهد السعيد الذى يزول فيه الصراع نهائيا من حياة البشرية ويصبح المجتمع البشرى مجتمعا ملائكيا يسوده الوئام والسلام ، وذلك حين تنتشر الشيوعية فى أرجاء الأرض كلها ، وعندئذ يتحقق الفردوس المفقود فى واقع الأرض وتستقر الأمور فى الأرض إلى آخر الزمان .
8- إلغاء الحكومة :(1/493)
من تنبؤات الشيوعية كذلك إلغاء الحكومة فى مستقبل البشرية .
ونظريتهم فى ذلك أن الحكومة موجودة الآن لأنها تؤدى مهام معينة لابد من أدائها فى المجتمعات الحالية، حتى المجتمعات الشيوعية ذاتها ( أى الاشتراكية باعتبار أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الشيوعية الكاملة ) ولكن الحكومة ليست أصلا من أصول المجتمع البشرى بحيث تلازمه فى جميع أطواره . وسيأتى اليوم الذى تلغى فيه الحكومة إلغاء تاما يوم تنتهى المهام التى تؤديها .
فحين تعم الشيوعية الأرض كلها وتصبح هناك حكومية عالمية واحدة ، يأتى وقت لا تعود هذه الحكومة ذاتها لازمة ، لأن مهمة الدفاع عن الشيوعية ستنتهى ، وهى إحدى المهام التى تضطلع بها الحكومة .
ثم إنه لن يكون هناك صراع يحتاج إلى تدخل الحكومة بالقوة لحسمه ، فتسقط مهمة أخرى من مهام الحكومة الحالية .
ثم يزيد الإنتاج فيصل إلى الحد الذى يجد فيه كل إنسان طلبته دون أن يؤثر ذلك على احتياجات الآخرين ، فلا يعود هناك موجب لتدخل الحكومة فى التوزيع .
وتكون مشاعر الناس قد ارتفعت بتأثير الحياة فى ظل التطبيق الشيوعى، فيبذلون غاية جهدهم دون حاجة إلى رقابة مفروضة عليهم من خارج ضمائرهم .
وكذلك لا يتنازعون فيما بينهم - بعد إلغاء السبب الوحيد فى النزاع والصراع ، وهو الملكية الفردية - فيستتب ، لأمن تلقائيا نتيجة سيطرة مشاعر المحبة والآخاء والتعاون بين الناس .
وهكذا تسقط كل مهام الحكومة الحاضرة .. فتسقط إلى غير رجعة !
? ? ?(1/494)
ذلك عرض موجز لأهم المبادئ والأسس التطبيقية التى تقوم عليها الشيوعية ، لم نر داعيا إلى التوسع فيه بعد ما توسعنا فى مناقشة الأسس الفكرية التى تقوم عليها النظرية . ويتبين من هذا العرض أن الشيوعية ليست مذهبا اقتصاديا مجردا يمكن نزعة بمفرده وتركيبه فى أى نظام آخر لا يشترك معه فى قاعدة التصور . فقد تبين من هذه النقاط أنها لا تقتصر على المجال الاقتصادى ، بل تمتد إلى المجال السياسى والاجتماعى والدينى والفكرى .. الخ .
وبصرف النظر عن قولهم إن هذه المجالات كلها إن هى إلا انعكاس - حتمى - للوضع الاقتصادى ، وقولنا إن هذه المجالات كلها أوجه مختلفة - ولكنها متلازمة - لموقف معين من قضايا الألوهية والكون والحياة والإنسان ، فإن الشيوعية - على القولين - لم تكن ولن تكون نظاما اقتصاديا بحتا مقطوع الصلة ببقية المجالات ، إنما هى نظام شامل للاقتصاد والسياسة والاجتماع والدين والفكر والفن .. مترابط كله على أساس تصور معين .. مادى بحت .
? ? ?
بين النظرية والتطبيق
نضرب الذكر صفحا عن التناقض بين سخرية الشيوعيين بالحق والعدل الأزليين ، وبين قولهم فى النظرية الشيوعية إن استغلال إنسان لإنسان ظلم ينبغى إزالته .. وبين نفيهم أن هناك أصلا ثابتا للكيان البشرى ينبغى أن يرد إليه ويقاس به ، وقولهم إن صورة الحياة فى الشيوعية الأولى - بكل ما تحويه من ملكية جماعية ومساواة ولا طبقية وتعاون .. الخ - هى الأصل الذى ينبغى أن تعود البشرية إليه ، والذى تسعى الشيوعية الثانية إلى الرجوع إليه لتعيش البشرية فى سلام !(1/495)
نضرب صفحا عن ذلك التناقض لأننا قلنا فى مناقشتنا للتفسير المادى للتاريخ إنه ليس مبادئ حقيقية يؤمنون بها عن اقتناع " علمى " إنما هى مجرد وسائل لغايات ، والغايات هى المطلوبة ، والأدلة تساق سوقا وتحشر إلى جانب بعضها البعض حشرا سواء كانت متناسقة مع الغايات أو غير متناسقة .. ولا حرج عليهم أن تتناقض الأدلة ، فإذا كانت الغاية هى القول بأن الأوضاع الاقتصادية هى الفاعلة وليس الحق والعدل قيل ذلك ، وإذا كانت الغاية هى نفى الملكية الفردية بوصفها نزعة فطرية قيل إنه لا فطرة ولا أصل ثابتا للإنسان ، وإذا كانت الغاية تبرير مجئ الشيوعية الثانية قيل إن الشيوعية الأولى تمثل الأصل الذى ينبغى أن تعود إليه البشرية .
? ? ?
ندع هذا جانبا لأ[نه لن يزيد الصفحة سوءا . إنما نشير بادئ ذى بدء إلى أن النظرية الشيوعية - والتطبيق كذلك - قد نقضا كل " القشرة " السياسية والاقتصادية والاجتماعية للرأسمالية ، وأنشأ قشرة مختلفة عنها 220 " فيما عدا أمرين اثنين : إقصاء الدين عن الحياة ، والفوضى الجنسية ، فقد رضيت عنهما الشيوعية رضاء تاما وزادت فى جرعتهما حتى نصت على الإلحاد نصا فى الدستور السوفيتى ، فقالت : " لا إله . والكون مادة " ونصت على الفوضى الجنسية نصا ودافعت عنها . . وحين اضطرت إلى تع=ديلها فى النظرية على عهد لنين فإنها لم تغير شيئا حقيقيا فى التطبيق .
من هنا نفهم كيف أن الشيوعية خطوة تقدمية إلى الأمام !
ونأخذ الآن فى الحديث عن التطبيق الشيوعى ، ومدى التزامه بالنظرية من جهة ، ومدى " عدالة " هذا التطبيق من جهة أخرى .(1/496)
فأما من حيث إلغاء الملكية الفردية فقد تم ذلك وبصورة حادة فى المرحلة الأولى من التطبيق على عهد لنين وجزء من عهد ستالين . أما إحلال الملكية الجماعية محلها فقد تكشف عن أسطورة ضخمة ليس لها وجود حقيقى ! فلا أحد من طبقة البروليتاريا يملك شيئا فى الحقيقة أو يحس بملكية شئ . إنما الدولة - كما نصت النظرية - هى المالك الحقيقى لكل شئ . والدولة - عند التطبيق - شئ والشعب شئ آخر . ومهما قيل من " نيابة " الدولة عن البروليتاريا فى الملكية والإشراف عليها فهو مجرد كلام للاستهلاك النظرى . أما الواقع فهو أن الدولة أصبحت كابوسا ثقيلا بدكتاتوريتها البشعة الت لا تدع للناس فرص للإحساس بوجودهم فضلا عن أن يحسوا بأنهم يملكون ششيائ على الإطلاق !
فجو الإرهاب الدائم الذى تمارسه الدولة على الشعب بحجة المحافظة على النظام من أعدائه ، وجو الجاسوسية الذى يعيش فيه الشعب إلى حد أن الوالد لا يأمن ولده ولا الزوج يأمن زوجته ولا الأخ يأمن أخاه - ضمانا ألا يجتمع اثنان على سر خشية أن يكون السر مؤامرة على " النظام " - هذا الجو الذى يمكن أن يؤخذ فيه الإنسان بالظنة فيحاكم ويحكم عليه بالإعدام أو الاعتقال فى ثلوج سيبيريا أو بأى عقوبة أخرى " رادعة " .ز هو جو لا يسمح بوجود " التعاطف " بين الشعب والدولة ، ذلك التعاطف الذى يحس فيه أن الدولة نائبة عنه فى الملكية والإشراف عليها .. فالنيابة لا تكون بالحديد والنار والتجسس .. إنما يخضع الشعب للدولة بعامل الإرهاب المسلط عليه ، ويفقد فى النهاية أى شعور بملكية شئ على الإطلاق ! ولا يبقى له إلا شعوره بالحرمان !(1/497)
ولا ينسى المصريون ما شهدوه فى أسوان أيام كان " الخبراء الروس " يعملون فى السد العالى ، فقد كانوا يعيشون بطبيعة الحال فى جو مختلف عن النظام الذى ألفوه فى روسيا . فكان أشد ما عجبت له زوجات أولئك " الخبراء " أن الشراء حر فى الأسواق ، وأن الإنسان يستطيع أن يشترى بقدر ما يريد ، أو بقدر ما تتسع نقوده .. فكن يذهبن إلى بائعى الخضر والفواكه فيسألن فى عجب : هل نستطيع7 أن نأخذ بقدر ما نريد ؟! فإذا قيل لهن : نعم ! لم يصدقن ! حتى وجدن بالممارسة الفعلية أن ذلك ممكن بالفعل !
وليست المسألة هى العجب من اختلاف النظام ، فهذا أمر طبيعى وكل إنسان يفاجأ بنظام يختلف عما ألفه وتعود عليه سيعجب فى بادئ الأمر حتى يألف . ولكن المسألة هى اللهفة على الشراء ، ودلالته على مدى الإحساس بالحرمان ، والفرحة الغامرة بالتخلص من هذا الحرمان ولو إلى أمد محدود ! وتكفى هذه التجربة الواقعية للكشف عن حقائق كثيرة فى آن واحد ، عن الملكية الفردية والملكية الجماعية .. وعن النظام !
على أن الذى يعنينا هنا ليس هو البحث فى مدى تحقق تلك الأسطورة التى يطلق عليها اسم " الملكية الجماعية " حين تكون الدولة هى المالك الحقيقى ويكون الشعب كله محروما من الملكية ! إنما الذى يعنينا أكثر هو الأسطورة التى تقول إن تلك الملكية الجماعية المزعومة يمكن أن تحل محل الملكية الفردية ،
لقد زعمت النظرية الشيوعية أن الأصل فى الإنسان هو الملكية الجماعية ، وأن الملكية الفردية هى انحراف شرير وقعت فيه البشرية بعد اكتشاف الزراعة ، وأن الشيوعية الثانية سارد الإنسان إلى أصله " فيستمع " بالملكية الجماعية ، ويشفى من هذا الانحراف الخطير الذى أفسد إنسانيته وأشاع الظلم فى المجتمع البشرى لقرون عديدة من الزمان !
ثم فرضت " الدولة " الأمر فرضا بالحديد والنار ..
فهل شفيت النفوس من الداء وسلمت من الانحراف ، وارتدت إلى أصلها الملائكى المزعوم ؟!(1/498)
إن الذى حدث بالفعل - وأشرنا إليه من قبل - أن " النظام " تراجع فى عهد ستالين ثم فى عهد خروشوف عدة تراجعات .
ففى المرحلة الثانية من عهد ستالين كان " النظام " فى حاجة إلى زيادة الإنتاج ، ومن ثم أعلن ستالين أنه من أراد من العمال - بعد وحدة العمل الإجبارية الأولى - أن يقوم بوحدة ثانية إضافية فسيكون له عليها أجر إضافى يستطيع به أن يحسن أحواله المعيشية فيشترى أنواعا من الطعام أفخر ، أو كميات اكبر ، وأنواعا من الملابس أرقى مما توفره وحدة العمل الإجبارية .
وموضوع الدلالة أن الدولة حين احتاجت إلى زيادة الإنتاج لم تجد وسيلة إليه إلا إثارة الحافز الفردى والالتجاء إليه . ولو كانت ترى - أو تعتقد فى دخيلة نفسها - أنه يمكن زيادة الإنتاج دون الالتجاء للحافز الفردى لفعلت ، خاصة وهى تملك الحديد والنار وتستخدمها - بإسراف - فى جميع المجالات ، ذلك أن الالتجاء للحافز الفردى - أيا تكن مبرراته التى تلقى أمام الناس - هو تراجع عن أصل من أصول النظرية ، وهو الأصل القائل بأن الملكية الفردية ليست شيئا فطريا وأن الأصل فى الناس هو الملكية الجماعية !
موضع الدلالة إذن أن كل بطش الدولة لم يستطع أن " يشفى " الناس من الحافز الفردى ويضع الحافز الجماعى مكانه . ومعنى ذلك أن الحافز الفردى - الوثيق الصلة بالملكية الفردية - عميق عميق فى الفطرة إلى حد لا يمكن انتزاعه ، ولو استخدمت فى انتزاعه كل وسائل البطش والإرهاب .
ثم حدث فى فترة حكم خروشوف أن تزايد نقصان المحاصيل الزراعية ( وكان هذا التناقص قد بدأ فى عهد ستالين ذاته ولكنه لم يكن محسوسا بالصورة الى ظهر عليها أيام خروشوف ) حتى إن روسيا بدأت تستورد القمح من أمريكا بكميات متزايدة . وكان علاج خروشوف للأمر هو تمليك الفلاحين جزءا من المحصول لأنفسهم . وتمليكهم الدار التى يسكنونها وما تحويه من الأثاث والأدوات وما يمكن أن يشتروه لأنفسهم من هذه الأشياء .(1/499)
وهو تراجع صريح عن مبادئ الشيوعية ، دلالته واضحة .. وهى أن الملكية الجماعية لم تستطع - بكل وسائل القهر - أن تحل محل الملكية الفردية .. وإن العلاج الوحيد الذى يضطرون إليه جولة بعد جولة هو الإذعان لهذا الدافع الفطرى الذى نفوا - فى النظرية - وجوده ، وجالوا بكل أنواع الجدل ليثبتوا أنه غير أصيل فى النفس البشرية ، وأنه " مرض " يمكن " الشفاء " منه !
والتجربة التى تمت - فى العالم لشيوعى ذاته وعلى يد الدولة الشيوعية ذاتها - تغنينا عن الالتفات إلى كل الجدل الفارغ الذى يجادل به الشيوعيون فى أمر الملكية الفردية والحافز الفردى .
إما إنشاء مجتمع غير طبقى ، وإلغاء جميع الطبقات ماعدا طبقة البروليتاريا ، وإقامة دكتاتورية البروليتاريا .. فقد اختلف التطبيق فيها اختلافا واسعا عن النظرية !
ولسنا نتحدث هنا عن " محاسن " إنشاء مجتمع غير طبقى ، ولا كون هذا الأمر واجبا أو غير واجب ممكنا أو غير ممكن 221 إنما نتحدث عن الواقع التطبيقى لنرى مقدار قربه أو بعده عن الشئ الذى قالوا إنه واجب أن يكون .
لقد زالت طبقة الإقطاعيين نعم ، وحال تطبيق الشيوعية فى الدولتين الشيوعيتين الكبيريتين دون ظهور الطبقة الرأسمالية ، وما كان منها موجودا فى الدول الأخرى التى اعتنقت الشيوعية فقد أزيل إما بنزع الملكية الفردية وإما بالإبادة الثورية ..
ولكن ما الذى حدث بعد ذلك ؟!
الذى حدث بالفعل أن " طبقة " جديدة بكل تعريف الطبقة ومواصفاتها قد برزت فى المجتمع الشيوعى تحت اسم جديد بالمرة هو " الحزب " !(1/500)
والفارق بين أفراد الحزب - بدرجاته المختلفة - وبين أفراد الشعب هو ذات الفارق بين أية طبقة كانت مالكة وحاكمة من قبل وبين الشعب ! فأدنى درجات الحزب - وهى العضوية العادية - تنشئ لتوها فارقا ضخما فى كل شئون الحياة ، وليست العبرة بوجود الملكية الفردية أو عدم وجودها ، فلم يكن منشأة الطبقية فى المجتمعات الطبقية هو مجرد وجود الملكية الفردية كما زعم التفسير الجاهلى للتاريخ ، إنما كان ما يترتب على الملكية من سلطان ونفوذ ، انطلاقا من مبدأ أن الذى يملك هو الذى يحكم ، أى أن الطبقية فى الواقع - وإن نبعت فى المجتمعات الجاهلية من الملكية الفردية كما يقول التفسير المادى - إنما هى طبقية السلطان والنفوذ ، التى تنبع من قدرة هذه الطبقة على التشريع لحساب نفسها وإلزام الآخرين بالخضوع لهذا التشريع .
وقد ألغيت الملكية الفردية من المجتمع الشيوعى ، ولكن السلطان والنفوذ الذى تركز فى " الحزب " قد جعل منه طبقة متميزة ، لها كل سمات الطبقة ومميزاتها سواء فى نوع المعيشة - أى المتاع - أو فى النفوذ والسلطان .
فمع أن العنوان العام فى الشيوعية أنه لا أحد يملك شيئا ملكية فردية فإن هناك فارقا - لا شك - بين أن تكون أنت وأفراد أسرتك جميعا تسكنون فى غرفة واحدة فى مسكن شعبى بدورات مياه مشتركة ( وغالبا ما تكون بلا أبواب ! ) وبين أن تكون ساكنا فى " فيلا " خاصة أو فى شقة كاملة فى عمارة ، حتى ولو كنت غير مالك للشقة أو ما فى داخلها من الأثاث ملكية فردية !
هناك فارق فى نوع المتاع ودرجته ،وفارق فى مشاعرك حين تكون هنا وحين تكون هناك .(2/1)
ولست أناقش هنا شرعية هذا المتاع أو عدم شرعيته ، إنما أقول فقط إنه فى النظرية الشيوعية غير جائز وغير شرعى ، أما فى التطبيق فهو موجود ، ويتسع الفارق كلما صعد الإنسان الدرجات ،فى " الحزب " حتى يصبح عضوا فى اللجنة التنفيذية العليا أو من الأعضاء البارزين فى الحزب ، فينقلب نعيمه ترفا ما كان يحلمن به بعض القياصرة فى زمانهم ! والشعب فى " أكواخه " العصرية ، الأسرة كلها فى غرفة واحدة تجمع الأم والأب والأطفال بنين وبنات ما ودون سن التكليف ، وتجرى فيها العلاقات الزوجية بين الأم والأب - بححم الأمر الواقع - فى حضرة البنين والبنات ، البالغين وغير البالغين !
وليس فارق المتاع على أى حال هو الفارق الأهم أو الفارق الوحيد ، إنما المهم فارق السلطان .
إن مجرد انتقال الإنسان من كونه فردا من أفراد الشعب إلى كونه عضوا فى الحزب ، ينتقله من " شئ : لا وجود له إلى شئ آخر له وجود ملموس ، سواء فى نظر نفسه أو فى نظر المجتمع من حوله ، لأنه ينقله من طبقة المحكومين إلى طبقة الحكام الذين يسيطرون على كل شئ فى المجتمع الشيوعى ،، حتى لو كان هو فى أسفل طبقة أولئك الحكام .
إن تركيز النفوذ فى " الحزب " و " الدولة " و " الزعيم " هو الذى ينشئ ذلك الفارق الضخم بين " اللاشيئية " و " الشيئية " فى المجتمع الشيوعى .. ولذلك يصبح أكبر مطمح للفرد العادى فى المجتمع الشيوعى أن يضع قدمه - مجرد وضع - ولو على أدنى درجة من درجات ذلك البناء الشاهق الذى يمثل السلطان ، فيتغير وجوده كله ، بل يصبح فى الحقيقة موجودا بعد أن لم يكن له وجود .(2/2)
وسبيله إلى هذه النقلة الضخمة التى يتشهاها كل طامح إلى الوجود لا يخرج عن امر من ثلاثة أمور ، أشرفها جميعا - وأندرها - القيام بعمل غير عادى فى خدمة " الوطن " أما السبيل الميسرة والمعتادة فهى الملق للحزب وللدولة وللزعيم ن والظهور بمظهر التفانى فى حبهم جميعا ! أو التطوع بالجاسوسية وإلقاء الشبه على الأبرياء تقرباب للسطان وإظهار للولاء !
? ? ?
أما دكتاتورية البروليتاريا فهى شئ بشع إلى أقصى درجات البشاعة التى يتخيلها الخيال . وبالرغم من كل المبررات التى تساق لتبرير النظام البوليسى القائم على الحديد والنار والتجسس فستبقى حقيقة واحدة لا سبيل إلى محوها ولا إنكارها ، أن الدكتاتورية القائمة ليست - كما زعموا - دكتاتورية البروليتاريا ، إنما هى الدكتاتورية الواقعة على البروليتاريا .
إنه حجم الشعب الروسى - على وجه التقريب - هو مائتان وخمسون مليونا من البشر والحزب الشيوعى يكون منه ستة ملايين ، ستة ملايين من المحظوظين - على درجات مختلفة من الحظ فى وسط هذا الخضم الهائل من القطع الآدمية التى لا وزن لها ولا كيان . عملها أن تنتج كالآلة ثم تغرق فى حماة الجنس كالحيوان ، وليس لها بين هذا وذاك قلوب ولا مشاعر ولا وجود .
فى الوضع السياسى هم أولئك الأصفار الذين لا يقدمون ولا يؤخرون ولا يقام لهم وزن . ولا عبرة بمسرحية الانتخابات ولا بقول الشيوعيين عن أنفسهم إنهم هم " الديمقراطية " الحقيقية !
ولسنا ندافع عن المسرحية الأخرى القائمة فى الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية ، فقد سبق أن عرضناها على حقيقتها ، ولكنها تحمل على الأقل تقدير " مظهر " الحرية و " مظهر " الاختيار ، وإن كانت الغالبية العظمى ممن يصلون إلى المجالس النيابية هم - كما بينا - أدوات الرأسمالية الحاكمة ، ولا تستطيع هذه المجالس ، مهما قيل فيها من " كلام " أن تتخذ قرارا ضد المصالح الحقيقية للرأسمالية الحاكمة .(2/3)
أما حين يكون الناس كلهم حزبا واحدا - بأمر الدولة - هو حزب الدولة ، فإن المسرية تفقد حتى ذلك المظهر المزيف ، وتصبح سخرية ضخمة لا متعة فيها على الإطلاق !
ما الفرق بين أن تنتخب هذا الصفر أ هذا الصفر أو ذاك الصفر ، إذا كانوا كلهم أصفارا من جهة ، وكلهم يمثلون وجهة نظر واحدة من جهة أخرى ، وكلهم لا يملكون الكلام إلا بإذن الدولة وبالقدر الذى تأذن به الدولة من جهة ثالثة ؟!
إن المسرحية كلها واحدة .. نعم ! ولكنك ربما تكون على استعداد لمشاهدة المسرحية والتلهى بها حين يكون الممثلون يؤدون دورهم المرسوم لهم وكأنهم يؤدونه من عند أنفسهم ، أما حين تسمع صوت الملقن واضحا يملى على المثل أقواله وأفعاله فلا شك أن المسرحية تكون فى حسك سمجة وغير مستساغة ، وإن كتب عنها فى لوحة الإعلان أنها مسرحية الديمقراطية الحقيقة !
وفى الوضع الاقتصادى هم أولئك الكادحون .. كانوا ومازالو.. الذين يقومون بأشق الجهد وينالون أقل الجزاء ، ويستمتع غيرهم " بفائق القيمة " لأنهم أصحاب نفوذ وأصحاب سلطان ! وليس من الضرورى أن يكون " فائض القيمة " نقودا توضع فى الجيوب ، فغياب المظهر لا ينبغى أن يخدعنا عن حقيقة الجوهر . ففائض القيمة هنا هو المتاع الموفر - بصرف النظر عن الملكية - وهو السلطان والنفوذ !
حين يمرض الفرد من البروليتاريا يعالج بالأدوية المحلية ، وحين يمرض الفرد من الحزب الحاكم يعالج بالدواء الأجنبى ! وحين ينتقل الفرد من البروليتاريا يتنقل فى المركبة العامة التى لا تراعى فيها أسباب الراحة ، بينما عضو الحزب يتنقل فى السيارة الخاصة - ولو لم يملكها ! - فإن كان عضوا " كبيرا " فى الحزب فله السيارات الأجنبية المريحة المكيفة .. وهذا غير المسكن الذى أشرنا إليه من قبل وغير صنوف الطعام ..
ما الفرق بين هذا وبين التمتع بفائض القيمة فى المجتمع الطبقى الذى كانوا - ومازالوا - ينددون به ؟!(2/4)
وفى الوضع الاجتماعى هم أولئك الأحجار المتراصة التى يبنى بها البناء ليسكنه السكان ! السكان هم الحزب بدرجاته المختلفة من أول العضو العادى إلى " الزعيم " والبروليتاريا مجرد بناء مقام ليسكن فيه هؤلاء ! هل يحس الحجر من الساكن ؟ أو يهمه أن يعرف ؟ أو يتغير وضعه بتغير السكان ؟!
كلا ! إنهم أحجار !
على أن أبشع ما فى الوضع كله هو الإرهاب البوليسى الذى يقع الشعب كله تحت وطأته .
منذ الذى يجرؤ أن يقول كلمة واحدة فى نقد الحاكم ؟ سواء فى سره أو فى العلانية ؟ أما فى العلانية فلا يلومن إلا نفسه إذا وجد رأسه طائرا عن عنقه ، ولا يوجد شخص " عاقل " يصنع ذلك الصنيع !
وأما فى سره فالجاسوسية تكشف النقاب عنه .. ومجرد الخوف من الجاسوسية يرهب القلوب ويكمم الأفواه..
ومع ذلك كله تظهر بين الحين والحين فى كل نظام شيوعى حركات التطهير التى يذهب ضحيتها المئات والألوف .
وهذه " النكتة " من عهد خروشوف كافية لإعطاء صورة الإرهاب .. فى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى وقف خروشوف يندد بستالين ن ويقول عنه إنه دكتاتور سفاح مجرم سافل دنئ ! وإنه غلطة لا ينبغى أن تتكرر .. وإنه ارتكب من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان ..
وقرأ خروشف الورقة - وكان حاضر البديهة حاضر النكتة - فقال : من الذى أرسل إلى هذه الورقة ؟! وبالطبع لم يجب أحد ! فقال خروشوف : الآن قد عرفت السبب ! لقد كنت خائفا مثلك فلم أنبس ببنت شفة !
وكون هذه نكتة لا يغير شيئا من الحقيقة ، ولا يخفف شيئا من بشاعة الإرهاب .. فهى نكتة ذات دلالة على الواقع المرهوب .
والمهم على أى حال أنها ليست " دكتاتورية البروليتاريا " كما كانوا يزعمون فى النظرية ، إنما هى الدكتاتورية التى تعانى غصتها البروليتاريا المسحوقة تحت الأقدام ، إنما كانت أسطورة تمليك المصانع للعمال ، وأسطورة منح السلطة للعمل مجرد إغراءات دعائية يقبل الناس على الفخ المنصوب !
? ? ?(2/5)
أما كفالة الدولة لك ل فرد من أفراد المجتمع فهى الشئ الوحيد الذى برزت به الشيوعية فى عالم الواقع على كل جاهليات التاريخ .
لا يوجد فرد لا يأكل ولا يلبس ولا يسكن من كل أفراد الشعب . وهذا هو الواجب الذى نكلت عنه الدولة الإقطاعية والدولة الرأسمالية على السواء ، وإذا كانت الدولة الرأسمالية الحديثة قد اقتربت من أداء هذا الواجب شيئا من الاقتراب بالضمانات الاجتماعية والإعانات التى تصرف للمتعطلين من نقاباتهم أو من الدولة ، وبالرعاية الصحية المجانية ، وبالخدمات المجانية العامة .. الخ ، فإنها لم تبلغ بعد الحد الذى التزمت به الدولة الشيوعية ، فضلا عن كونها قد فعلت ما فعلت لا بدافع إنسانى ، ولكن خوفا من الشيوعية ، فضلا عن كونها فعلت ما فعلت لا بدافع إنسانى ، ولكن خوفا من الشيوعية من جهة ، وخوفا من الضرر الذى يلحقها إذا لم تستجب لطلبات العمال المطالبين بهذه الحقوق .
ولكن لنا على هذه الكفالة مجموعة من الملاحظات . إذا قسناها على الكفالة التى قررها الإسلام لكل فرد من أفراد الأمة قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان !
تكفل الدولة الشيوعية أفرادها على الحد الأدنى الذى وصفناه من قبل ، ومع ذلك لا تكفلهم وهم كرماء على أنفسهم ولا على دولتهم ! ولا نتحدث الآن عن تكليفهم بالعمل - رجالا ونساء - مقابل كفالتهم ، أى أن الدولة لا تتفضل عليهم بالكفالة ، إنما هى تجندهم لحسابها ، وتستصفى جهدهم كله قبل أن تعطيهم ضرورات حياتهم ، وتهددهم تهديدا صريحا بقوله ، من لا يعمل لا يأكل ..(2/6)
لا نتحدث الآن عن هذا ، فالعمل على أى حال هو الأصل فى حياة الإنسان وليست البطالة هى الأصل .. ولكنا نقول إن الدولة الشيوعية بإلغائها الملكية الفردية والعمل الحر ، وتحويل كل الناس إلى إجراء للدولة ، إنما تستذلهم فى الواقع بلقمة الخبر ، فلا يملكون أن يتوجهوا بكلمة نقد واحدة للقائمين بالأمر خوفا على لقمة الخبز أن تضيع .. وذلك بخلاف الإرهاب بالحديد والنار والتجسس ، الذى يزيد من مذلة الناس وانكماشهم وخضوعهم للظلم الواقع عليهم ، دون التفوه بكلمة أو إشارة تدل على عدم الارتياح فضلا عن الاحتجاج الصريح .
ولقد زعمت الشيوعية أن الذل الوحيد فى الأرض هو عمل الإنسان أجيرا لإنسان آخر ، وزعمت أنها هى التى ستخلص الناس من الظلم ... وتمنع الاستغلال ، حين تمنع تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر .
نعم .. ولكن ما الفرق بين تأجير جهد الإنسان لإنسان آخر ، وتأجيره " للدولة " التى هى شخص معنوى فى الكلام فقط ، ولكنها فى الواقع مجموعة من البشر يحملون من السلطان ما يجبرون به الناس على أداء العمل الذى يطلبونه نهم ، وما يعاقبونهم به إذا قصروا فى أدائه ؟ وأيهما أذل - فى عالم الواقع - الأجير الذى يملك ولو ذرة واحدة من الحرية فى اختيار نوع العمل ومكانه ، واختيار شخص " السيد " الذى يبيع له جهده ، والمساومة على زيادة هذا الأجر ، والاحتجاج على انخفاضه إذا رأه كذلك ، أو الأجير الذى لا يملك ذرة من الحرية فى تلك الأمور كلها ، لا اختيار نوع العمل ولا مكانه ، ولا اختيار " السيد " الذى يخدمه - فهو مفروض عليه بالحديد والنار - ولا حق الاحتجاج على الأجر المنخفض ولا طلب زيادته .. وإن فتح فمه بكلمة يموت جوعا ، إن لم يمت بوسيلة أخرى غير الجوع ؟!(2/7)
وأية سفسطة تلك التى تقول إن الذل لا يكون قائما حين تحكون " الدولة " هى التى تسخر الناس للعمل وهى التى تمنح الأجور ؟! ما تعريف الذل ؟! وما اسم ذلك الإحساس الذى يحسه الإنسان حين يجد أنه لا يملك حريته فى أى أمر من الأمور ، وأن عليه أوامر ينبغى أن يطيعها ، وواجبات ينبغى أن يؤديها ، دون أن يكون له حق الاعتراض على شئ من الأشياء ؟!
أم يحلونه عاما ويحرمونه عاما ؟!
يحلونه إذا كان صادرا منهم ومحققا لمصلحتهم ، ويحرمونه إذا صدر من غيرهم أو لم يكن فى صالحهم ؟
? ? ?
قضية المساواة فى الأجور لا تزيد على أن تكون واحدة من الأساطير الكثيرة التى بددها التطبيق .
فى عهد لنين والجزء الأول من عهد ستالين طبقت روسيا بصرامة مبدأ المساواة فى الأجور لجميع العمال فى الاتحاد السوفيتى . ولكن هل كانت هناك مساواة عامة فى الأجور بالنسبة لكل العاملين ؟
هل كان أجر المهندس كأجر العامل ؟ وأجر الطبيب كأجر الممرض ؟ وأجر الجندى كأجر الضابط ؟
إن هذا بداهة مستحيل !
ومع استحالته فقد ظلت النظرية الشيوعية تنافح عن قضية المساواة وتندد بقضية التفاوت فى الأرزاق ؟
ثم جاء اليوم الذى انهارت فيه المساواة حتى فى صفوف العمال أنفسهم ، بعد أن كانت منهارة ما بين العمال وغيرهم من العاملين . فقد لجأ ستالين - كما أسلفنا - إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لقاء أجر إضافى ينفق فى " الكماليات " .. وهكذا ضاعت المساواة تماما ولم يعد لها وجود !
ويقولون إن هناك أجور عالية جدا فى الاتحاد السوفيتى .
وقد تحسب لأول وهلة أنها أجور المهندسين .. أو علماء الذرة .. أو علماء الصواريخ .. أو الأطباء (وكلهم من ذوى الأجور العالية فى الاتحاد السوفيتى ) ولكنك تسمع الحقيقة المذهلة فى النهاية ! إنها أجور المطربين والمطربات والراقصين والراقصات والملهين عامة والملهيات !
الأجر على قدر الخدمة !(2/8)
هل تعلم الخدمة الجليلة التى يقوم بها المطربون والمطربات والراقصون والراقصات والممثلون الممثلات فى اتحاد السوفييتات ؟!
نعم !! إنها " تلهية " الشعب عن الإحساس بالضغط البشع الواقع عليه .. لكى ينسى .. لكى لا ينفجر!
إن الضغط على الكائن البشرى من جميع منافذه أمر غاية فى الخطورة ! لأنه يولد الانفجار ..
ودكتاتورية البروليتاريا لا تستغنى عن الضغط السياسى والاقتصادى والاجتماعى والفكرى الذى تمارسه على البروليتاريا ( التى تحكم باسمها ! ) وإلا أفلت الزمام ، وتزلزلت الدولة وتزلزل " النظام "!
فلابد إذن من التنفيس عن الناس فى جانب من الجوانب ليتسرب الغضب المكظوم قبل أن يكون التجمع الذى يولد الانفجار .
والمتنفس هو الشهوات .. والملهيات ..
فأما الجنس فيمارسه الناس لأنفسهم أنى شاءوا وكيفما شاءوا لا حجر عليهم ولا تدخل فى " إرادتهم "!
وأما التلهية فيقوم بها الملهون من المطربين والراقصين والممثلين من الرجال والنساء .. فينالون " تقدير " الدولة على خدمتهم الهائلة ، وينالون أعلى الأجور !
المهم فى الأمر على أى حال أن المساواة أسطورة غير قابلة للتطبيق فى الدنيا الواقع .. ومع ذلك فمازلوا يتحدثون عن المساواة فى النظرية ، ومازالوا ينددون بالتفاوت فى كل نظام يجدونه فيه !
لو قالوا منذ البدء نريد أن نقرب الفوارق بين الفئات المختلفة من الناس نضمن حد أجنى معقولا لكل الناس..!
لو قالوا لقلنا نعم .. للنظرية على الأقل بصرف النظر عن واقع التطبيق !
? ? ?
يقول الشيوعيون في نظريتهم إن الحياة في الشيوعية الأولي ( كما يتخيلونها ) هي الأصل الذي ينبغي أن تعود البشرية إليه ن وإن الشيوعية الثانية هي التي سترددهم إلي هذا الأصل الجميل ..
فيما عدا استثناء واحدا في أمر لم يرق لهم من الشيوعية الأولي فحذفوه !
ذلك هو الدين !(2/9)
ففي الشيوعية الأولي ( كما يتخيلونها ) كان عند البشرية دين . وهنا - فقط- قالوا إن هذا كان بسبب بدواة البشرية وقلة معلوماتها عن الكون المادي وعدم سيطرتها علي البيئة ! أما فيما عدا ذلك فلا دخل للبداواة في شئ علي الإطلاق !
ولما كانت الشيوعية الثانية تأتي من غير بداوة ، فقد وجب القضاء علي العنصر الوحيد الذي سببته البداوة وهو الدين !
وفي التطبيق أشتد الشيوعيون في محاربة الدين . فلم يكتفوا بتحريم الحديث فيه ، ومعاقبة من يضبط " متلبسا" بالحديث في الدين مع شاب أو فتاة دون الثانية عشرة ، بل بالغوا في الاحتياط فوضعوا في مناهجهم الدراسية درسا للالحاد في مكان درس الدين ! فحيث يضع البشر كلهم درسا للدين في مدارسهم - مؤمنين وغير مؤمنين - يتحدثون فيه عن الله ، يضع الشيوعيون في مدارسهم درسا يقال للتلاميذ فيه إنه لا إله . والكون مادة ( أي بلا خالق ).
ولا مكان للمتدينين في الدولة الشيوعية . وقد قتل ستالين وحدة ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهده ، لأن الشيوعية كانت قد طلبت معونة المسلمين في الثورة ضد القيصر ، ووعدنهم بأن تجعل لهم مكانة خاصة إذا نجحت الشيوعية ، وتترك لهم حرية ممارسة حياتهم الإسلامية ، فلما طالبوا بتحقيق الوعد ، حققه ستالين لهم علي هذا النحو بالقتل والتعذيب والتشريد الجماعي .(2/10)
ولقد اضطرت الشيوعية إلي " التراجع " عن قرار الإبادة الجماعية الذي كان مقررا من قبل ، حين سنحت لهم فرصة الانتشار والتوغل في العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية ، فوجدوا أن قرار الإبادة سيعوق إنتشارهم ، ويفوت عليهم فرصة قد لا تسنح من بعد ، فأعلنوا أنها " متسامحون" وأنهم لا يتعرضون لأصحاب العقائد الدينية بالإيذء ! ولعلهم كانوا قد ظنوا أنه لم يعد هناك خطر من " التسامح " بعد إبادة من أبادوه ونفي من نفوه وتشريد من شردوه ! ولكن دخولهم أفغانستان لإبادة المسلمين هناك يدل علي أن تقديراتهم في هذا الأمر لم تكن علي صواب ! فهم اليوم يضربون المسلمين الافغان حتي لا يتجمع غدا المسلمون الروس !
وبصرف النظر عن وضع المسلمين في الدول الشيوعية ، فإن الشيوعية تكره الدين كراهية شديدة كما أسلفنا ، وتحاربه بكل وسائل الحرب ، وتتمني اليوم الذي يزول فيه من الوجود .
وفي إمكاننا أن نستدل من هذه الحرب ذاتها علي عمق الدين في الفطرة ! فلولا أنه عميق في الفطرة كل هذا العمق ما خافت الشيوعية من عودته كل هذا الخوف ولاحاربته كل هذه الحرب .
ولكنا لسنا في حاجة إلي الاستدلال عن طريق غير مباشرة . فقد اغنانا حديث ط جاجارين" عن ذلك ، وشهدت الفطرة علي لسانه إنه لا إله إلا الله . . وهو الذي ولد وتربي في ظل الالحاد الرسمي والشعبي علي السواء !
? ? ?
إلي هنا كنا نتحدث عن " الواقع" التطبيقي للشيوعية بالقياس إلي النظرية .. ورأينا أن مبادئ كثيرة من التي تقوم عليها النظرية أثبتت عدم جديتها أو عدم واقعيتها عند التطبيق ، كقضية الملكية الجماعية ، وإحلالها محل الملكية الفردية ، وقضية البروليتاريا ووضعها في مكان السلطة ، وقضية الطبقات وإلغائها وقضية المساواة التامة بين الجميع .
ولكن بقيت في النظرية " وعود " لم تتحقق بعد ، ويتذرعون - لعدم تحقيقها - بشتي المعاذير .(2/11)
بقي المبدأ القائل بأنه يؤخذ من كل بحسب طاقته ويعطي كل بحسب حاجته ، وإلغاء الحكومة . وإلغاء الصراع
وهم يستخدمون بشأنها أسلوب الشاعر العربي :
مني إن تكن حقا تكن أعذب المني وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا !
أي في الخيال والتمني !
وقد كان من حقنا أن ننفض ايدينا من هذه الأماني ، ونقول : دعونا حتي تقع بالفعل ! أو نقول إن ما مر من التجربة الشيوعية في الأمور السابقة لا يبشر بتحقيق شئ من هذه الوعود ، فإن أمورا أكثر واقعية من هذه بكثير أثبتت التجربة عدم واقعيتها أو عدم دية الشيوعيين في الحديث عنها إلا للدعاية والترغيب فحسب !
ولكننا ننظر في طبيعة هذه الأمور فنجدها - بطبيعتها - غير قابلة للتحقيق ! من كل حسب طاقته ، ولك حسب حاجته ! بلا حكومة ولا صراع !
متي كان الناس بهذه الملائكية حتي نفترض أنهم يمكن أن يعودوا إليها في يوم من الأيام ؟
أو ليسوا هم الذين يقولون إنه بمجرد اكتشاف الزراعة جنح الناس إلي الملكية الفردية ، وظهر الطمع والجشع واختلف وضع الناس في المجتمع ، وانتهت المساواة والتعاون والود والإخاء وحل محلها الصراع ؟!
أي بمجرد ظهور شئ يمكن امتلاكه !
فما الذي تغير في طبائع البشر حتي يجئ عليهم يوم لا حكومة فيه ولا رقابة ، ثم يبذل كل منهم طاقته - حبا في الحق والعدل فقط ، أو حبا في الإنسانية ، أو حبا في أي قيمة من القيم العليا ( التي لا وجود لها في ذاتها كما يقولون !) - ثم يأخذ فقط بقدر حاجته ، ويقدر هذه الحاجة بلا طمع ولا جشع ولا إسراف ؟!
إن المثاليين الذين ينعي الشيوعيون عليهم عدم واقعيتهم لم يبلغوا هذا الحد من الإسراف في الخيال !
ولقد وصل أفراد من البشر إلي هذا المستوي بالفعل مرة واحدة في التاريخ ، علي عهد رسول الإسلام صلي الله عليه وسلم ، فكان كل إنسان منهم يبذل أقصي ما في طاقته من الجهد ابتغاء مرضاة الله فحسب ، ثم لا يجد في نفسه حاجة مما أوتي ويؤثر أخاه علي نفسه :(2/12)
{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [سورة البقرة 2/207]
{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر 59/9]
ولسنا نقول إن هذه الصورة حدثت مرة واحدة وهي غير قابلة للتكرار في أي جيل قادم من أجيال البشرية ، ولكنا نقول أولا إن هذا - بالتجربة - لم يحدث إلا ابتغاء مرضاة الله - ، ولا يمكن لأي قيمة أخري من القيم - غير الإيمان الصدق بالله - أن ترفع الانسان إلي هذه الصورة الرفيعة الشفيفة العالية ، ونقول ثانيا إنه ليس كل الناس يرتفعون إي هذا المستوي السامق الرفيع . فقد كان إلي جوار هؤلاء - في نفس الجيل ونفس الظروف - من قال فيهم رب العالمين :
{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [سورة محمد 47/38]
والإسلام في واقعيته لا يفترض أن كل الناس يصلون إلي القمة ، وإن كان يدعو كل الناس أن يحاولوا الصعود إليها ، ثم يرضي منهم بما يصلون إليه في محاولتهم ماداموا لا يهبطون عن المستوي الذي حرم الله الهبوط عنه ، أو ماداموا لا يصرون علي الهبوط إذا غلبتهم مرة دوافع الشر رغم المجاهدة والتطلع إلي الخير :
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [سورة الأنعام 6/132]
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [سورة آل 3/135-136](2/13)
أما حلم الملائكية العامة الشاملة التي ستعم البشرية كلها ذات يوم ، ودون أي احتياط لإمكان الهبوط من أحد الناس أو كل الناس ( بإلغاء الحكومة التي يمكن أن تردع الهابطين ) فحلم أقل ما يقال فيها إنه ما وضع إلا للتخدير ليرضي الناس بالحرمان والشقاء الحالي، والضغط الإرهابي الذي لم تشهده حتي قساوة القرون المظلمة ، علي أمل تحقق تلك الجنة الموعودة في الأرض في يوم من أيام التاريخ
كانوا يقولون إن الدين أفيون الشعوب ! لأنه يخدرهم عن عذاباتهم الحاضرة بحلم الجنة في الآخرة ! فما القول في هذا الأفيون العجيب الذي تقدمه الشيوعية للكادحين ؟!
إن الدين - في صورته الكنسية التي استخدمت بالفعل لتخدير الشعوب - كان يحوي بعض الحقائق وبعض الأباطيل . فوجود الله حق ، ووجود الآخرة حق ، ووجود الجنة حق . أما رضاء الله بالظلم ، ودعوة الناس إلي الرضا بالظلم في الدنيا ليمنحهم الله الجنة في الآخره فباطل ، لأن الله أمر الناس أن يرفضوا الظلم الناشئ من تحكيم شرائع غير شريعة الله ، وأمرهم أن يجاهدوا لتغيير المنكر . وأما الذين يحتجون بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض وأنهم رضوا من أجل ذلك بالظلم فيسميهم الله " ظالمي أنفسهم " ويقول فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97)} [سورة النساء 4/97]
نعم كان الدين الكنسي يحوي بعض الحقائق وبعض الأباطيل .. فما القول في هذا المخدر الشيوعي الذي لا يحمل شيئا من الحق وكله أباطيل ! أي الفريقين - وكلاهما علي باطل - أشد استخدامها " للافيون" في تخدير الجماهير ؟!
بين الشيوعية والإسلام(2/14)
إن لن أن ننتهي من الحديث عن الشيوعية في كل مجالاتها ، سواء في المادية الجدلية أو لمادي التاريخية أو المذهب الاقتصادي .. لولا أن بعض المسلمين - بل بعض الدعاة من المسلمين - يتحدثون عن " اشتراكية الإسلام" وعن إمكانية اللقاء بين الشيوعية - أو الاشتراكية - وبين الإسلام
فنعود إلي ذات المقاييس التي استخدمناها فيما بين الديمقراطية والإسلام
1) قضية المعبود
2) قضية إنسانية الإنسان
إن الشبه العارض الذي يمكن أن يكون قائما بين الاشتراكية والإسلام في مبدأ كفالة الدولة لكل أفرادها ، وتقريب فوارق الفئات المختلفة من الناس ، لا يجوز أن ينسينا الاختلاف الجوهري في القاعدة التي يقوم عليها كل من النظامين, فضلا عن الاختلاف حتي في هذا الشبه العارض في تكل الجزئيات .
إن القضيتين الرئيسيتين في حياة الإنسان كما أشرنا إليهما وشرحنا هما من قبل هما هاتان القضيتان : قضية الألوهية وقضية الإنسانية ، وكل ما بقي من الأمور فهي أمور ثانوية بالنسبة لهاتين القضيتين ، أو هي امور تتفرع - تلقائيا - من هاتين القضيتين .
فأما المعبود في الشيوعية أو الاشتراكية فهو ليس الله قطعا بتصريحهم هم بأفواههم :" لا إله والكون مادة " (أي بلاخالق ) وقد يكون الإله عندهم هو المادة . أو هو الدولة . أو هو الحزب أو هو النظام . أو هو الزعيم . ولكنه علي أي حال ليس اله . ومن هنا يستحيل اللقاء بين النظامين مهما كانت الأشباه العارضة هنا أو هناك
وأما الإنسان فهذا وضعه في التصور الشيوعي وفي التطبيق
في التصور هو نتاج المادة ، وهو تلك الأداة السلبية التي تحركها الحتميات " مستقلة عن إرادتهم " ! وفي التطبيق هو تلك الاله المنتجة في قسم من الوقت ، وهو ذلك الحيوان الغليظ الحس في بقية الوقت ن وهو ذلك الصفر اللاشيئي في كل الوقت .. إلا أن يكون من الآلهة المحظوظين ، عضوا في الحزب علي أقل تقدير ، أو زعيما مقدسا علي أعلي تقدير !(2/15)
أما ذلك الشبه العارض في مبدأ الكفالة الشاملة وتقريب الفوارق بين الناس فهو أولا لا يبرر اللقاء بين النظامين مع وجود ذلك الاختلاف الجوهري في قضية الألوهية وقصية إنسانية الإنسان ، وهو ثانيا شبه غير كامل حتي في الجزئيات .
فالكفالة في الإسلام ليست مقابلا لتكليف الناس بالعمل علي طريقة من لا يعمل لا يأكل ، إنما هي حق إنساني بحت لكل من يحتاج إليه بسبب من الأسباب . وكفالة المرأة بالذات واجب مفروض في الإسلام علي الرجل لكي لا تنشغل أعصابها ولا يذهب جهدها في العمل خارج البيت علي حساب مهمتها العظمي في تنشئة الأجيال ، كما أن الكفالة تتم في الإسلام بغير إذلال الناس بلقمة الخبز ، ودون دكتاتورية الدولة التي ترهق القلوب وتخنق الانفاس .
إن الإسلام - دين الله الحق - قد فرض علي الدولة المسلمة كفالة كل فرد فيها يحتاج إلي كفالة .. وجعل مهمة بيت المال هي هذه الكفالة لمن يعجز عن كفالة نفسه بنفسه ، أو عجزت أسرته القريبة عن كفالته . وجعل المجتمع كله مكلفا بالآ يكون فيه محتاج 222 وقد أشرنا من قبل إلي قوله عمر رضي الله عنه ، التي عبر فيها عن مسئوليته لا عن الآدميين فحسب ، بل عن كل كائن حي يحتاج إلي الكفالة حيث قال : " لوعثرت بغلة ببغداد ( أو قال بصنعاء ) لكنت مسؤولا عنها لم لم أسو لها الطرق !
ولكن الإسلام في كفالته للناس لا يستذلهم بلقمة الخبز كما تصنع الشيوعية ن بل يكفلهم وهم كرماء علي أنفسهم وعلي الناس . فهو يكلف الدولة المسلمة بهذه الكفالة دون مقابل علي الإطلاق ، لا العمل ، ولا الخضوع المذل للحزب ولا الدولة ولا الزعيم !(2/16)
إن المطلوب من المسلم - سواء كفلته الدولة أو كفل نفسه بنفسه أو كفلته أسرته أو كفله القادرون في المجتمع - أن يعبد الله وحده لا شريك . وأن يقيم دين الله في نفسه وفي مجتمعه بإقامة شريعة الله والحكم بما أنزل الله . والمطلوب منه - من بين المطلوبات - أن يكون رقيبا علي ولي الأمر ، لينظر هل قام بواجبه في إقامة الشريعة علي الوجه الصحيح أم انحراف في التطبيق !
ولقد كان سلمان الفارسي ممن تجري عليهم الدولة الإسلامية نصيبا من بيت المال .. هو الذي قال لعمر رضي الله عنه : لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة حتي تبين لنا من اين لك هذا البرد الذي ائتزرت به ! وهو كذلك الذي قال له : والله لو وجدنا فيك اعوجاحا لقومناه بحد السيف !
والإسلام يحض علي العمل بكل وسائل الحض ، ويوضح للناس أن الإنسان خلق ليقوم بعمارة الأرض ، وليمشي في مناكبها ويبتغي من رزق الله ، وأن العاطلين المتبطلين لا يحبهم الله ولا يحبهم رسوله صلي الله عليه وسلم .. ومع ذلك فلا يجعل كفالة الدولة لأفرادها مقابل قيامهم بالعمل .. إنما مقابل إنسانيتهم فقط ومقابل حاجتهم ! فكون الإنسان إنسانا وكونه محتاجا إلي الكفالة هما كل مقومات كفالة الدولة للفرد في الإسلام وهذا هو الفرق بين فضل الله وكرمه وبين كزارة البشر حين يكون بأيديهم المال والسلطان !
{قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً (100)} [سورة الإسراء 17/100]
ثم إن الإسلام في كرمه وتفصله في حض علي العمل ، نعم ولكنه لم يحوج المرأة إلي العمل خارج البيت من أجل أن تحصل علي لقمة الخبز ! بل قرر لها الكفالة الكاملة وهي مستقرة في بيتها ، عاملة فية، قائمة بأنبل مهمة يقوم بها البشر في الأرض ، وهي تنشئة الجيل الناشئ ليخرج إلي الحياة سويا مستقيما علي أمر الله .(2/17)
فإين هذا من إكراه المرأة علي العمل خارج البيت في كنس الشوارع وحمل الأمتعة في المطارات ومحطات السكك الحديدية تحت هذا التهديد المرعب : من لا يعمل لا يأكل !
وهذا فضلا عما في إخراجها من مهمتها الفطرية من إفساد للفطرة وإفساد للنشء وإفساد للأخلاق!
وامر أخر يأتي بهذه المناسبة تتضح لنا حكمته في الإسلام علي ضوء ما وقع في التطبيق الشيوعي
لقد قرر الإسلام مبدأ الملكية الفردية تقرير واضحا لا شبهة فيه ، وإن كان قد وضع للملكية حدودا كثيرة تحقق الخير وتمنع الشر . وللإسلام حكمته - بل حكمة في إقرار الملكية الفردية علي هذا النحو / ولكن حكمة معينة تبدو لنا الآن من خلال التطبيق الشيوعي ربما لم تكن واضحة للناس من قبل ، هي حرص الإسلام علي أن تكون أرزاق الناس بأيدهم - علي قدر الإمكان - لا بيد الدولة ! وذلك حتى لا يستذل الناس بلقمة الخبز ! فحين يكون العمل حرا ، والاسترزاق حرا لا يحس الناس بسطوة الدولة كما يحسون بها لو كانوا كلهم أجراء للدولة كما هو حالهم في الشيوعية .
وصحيح أن أولي العزم من البشر لن يحسوا بالمذلة للدولة ولو كانت لقمة الخبز في أيديهم ولكن الإسلام في واقعيته لا يفترض في كل الناس أنهم من أولي العزم ، إنما يتعامل معهم بحسب واقعهم ، ويعلم أنهم عرضة للعضف أمام الضغوط الواقعة عليهم .لذلك جعل التكافل في الأسرة والمجتمع هو الأصل الكبير الذي تقوم عليه الحياة في المجتمع الإسلامي ، وجعل كفالة الدولة المباشرة هي الاحتياط الأخير الذي يسد الثغرات التي لم تستطع سدها الأسرة ولا المجتمع . ويظل الناس بعيدين عن سطوة الدولة بقدر الإمكان ليقوم التوازن السياسي في المجتمع الإسلامي ، ولي الأمر له علي الناس السمع والطاعة ، والناس لهم علي ولي الأمر النصحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي الرقابة علي تنفيذ شريعة الله(2/18)
وعلي ضوء الخط المستقيم المتمثل في دين الله يبتين لنا مدي الانحراف في الجاهليات ، وفي الجاهلية الشيوعية بالذات .
أما تقريب الفوارق بين الناس فلا يتم في الإسلام بمصادمة الفطرة وقتل الحافظ الفردي
إنما الإسلام دين الفطرة يتمشي معها ويرفعها إلي أقصي ما تطيق من درجات الرفعة ولكن دون مصادمة لا تجاهاتها الأصلية . ونم ثم لا يلغي الإسلام الملكية الفردية إنما ينظمها علي الوجه الذي تستجيب فيه للفطرة دون أن يترتب عليها الشر ، ثم يضع في يد ولي الأمر الصلاحية الدائمة لتصحيح الأوضاع إذا اختلت رغم كل التنظيمات والترتيبات .
وتنظيمات الإسلام وترتيباته تتضمن أولا نظافة الوسائل التي يحصل بها الإنسان علي المال ، فلا غصب ولا نهب ولا سرقة ولا غش ولا ربا ولا احتكار ولا أكل حق الأجير .
وتتضمن ثانيا تزكية المال بإخراج زكاته التي توضع في بيت المال لتقوم الدولة منها - ومن الموارد الأخري المشروعة - بكفالة من يحتاج إلي الكفالة من الناس .
وتتضمن ثالثا ضرورة انفاق المال وعدم حبسه عن التداول ، فإما أن يوظف المال في عمل نافع فيستفيد منه المجتمع ويستفيد منه الأفراد الذين يعملون فيه /، وإما أن ينفق إنفاقا مباشرا في أبواب الانفاق التي شرعها الله ، بما يحقق كفالة القادرين لغير القادرين في المحتمع .
وتتضمن رابعا تحريم الانفاق في المعصية ، وكراهة الإنفاق في الترف والسرف كراهة تشبه التحريم
وتتضمن خامسا تنظيما دقيقا للمواريث يفتت الثروة علي الدوام ويعيد توزيعها في كل جيل
وأخيرا تقرر الشريعة مبدأ " لا ضرر ولا ضرار " .. فتضع في يد ولي الأمر سلطة التصحيح كلما وقع ما يوجب التصحيح دون مصادمة للفطرة ولا إعنات للناس(2/19)
وليس هنا مجال التفصيل ، إنما يطلب ذلك في الكتب المتخصصة في هذه الأمور ، ولكن تكفينا هذه الخطوط العريضة لبيان الفارق بين الإسلام والشيوعية ا, الاشتراكية حتي في المواطن التي يبدو فيها وجود شبه عارض في بعض الجزئيات
إن الإسلام نظام متكامل ، وأجهزته كلها تعمل من داخله ، وتعمل بواسائله الذاتية وليس في حاجة أني ستعير أجهزة أجنبية عنه ، ولا في الإمكان تركيب هذه الأجهزة الأجنبية لتدور معه في دائرته ، لأنها من مقاس غير مقاسه ، وتعمل علي قاعدة غير قاعدته
ليس الإسلام نظاما اشتراكيا كما أنه ليس راسماليا ولا ديمقراطيا ..
الإسلام هو الإسلام .. هو هو كما انزله الله
وإذا كنا نعتقد بصدق - أن الاشتراكية تحمل مشابه من الإسلام في بعض النقاط ، فلماذا نأخذها من الاشتراكية ولا نأخذها من الإسلام ؟!
فلنكن صرحاء مع أنفسنا ، ولننف الهزيمة الداخلية من أرواحنا - أيا كانت أسبابها - ولنطلب الإسلام باسم الإسلام ن فهذا هو الإسم الذي قرره الله من فوق سبع سماوات {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [سورة آل 3/19]
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85)} [سورة آل 3/85]
? ? ?
العلمانية
" العلمانية" هي الترجمة العربية لكلمة Secularism, Secularite في اللغات الأوربية وهي ترجمة مضللة لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم ، بينما هي في لغاتها الأصلية لا صلة لها بالعلم ، بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيدا عن الدين ، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة .(2/20)
تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة Secularism هي حركة اجتماعية تهدف إلي صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلي الاهتمام بالحياة الدنيا وحدها ، ذلك أنه كان لدي الناس في العصور الوسطي رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر ، ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ"Secularism " تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الانسانية ، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالانجازات الثقافية البشرية ، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة . وظل الاتجاه إلي الـ Secularism يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية 223
وهكذا يتضح أنه لا علاقة للكلمة بالعلم ، إنما علاقتها قائمة بالدين ولكن علي أساس سلبي ، أي علي أساس نفي الدين والقيم الدينية عن الحياة ، وأولي الترجمات بها في العربية أن نسميها " اللادينية" بصرف النظر عن دعوي " العلمانيين" في الغرب بأن " العلمانية " لا تعادي الدين ، إنما تبعده فقط عن مجالات الحياة الواقعية, السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .. إلخ ولكنها تترك للناس حرية " التدين" بالمعني الفردي الاعتقادي ، علي أن يظل هذا التدين مزاجا شخصي لا دخل له بأمور الحياة العملية
بصرف النظر عن هذا الاعتراض الذي سنناقش مدي حقيقته بالنسبة للحياة الاوربية ذاتها ، كما سنناقشه بالنسبة لنتبين مدي تطابقه أو عدم تطابقه مع المفاهيم الإسلامية ، فإن " اللادينية" هي أقرب ترجمة تؤدي المقصود من الكلمة عند أصحابها ، ولكنا مع ذلك سنظل نستخدم المصطلح المعروف عند الناس - مع بيان بعده عن الدقة - حتي يتفق الكتاب علي نبذ هذا المصطلح المضلل ، واستخدام الفظة الأدق
? ? ?
نبذ الدين واقصاؤه عن الحياة العملية هو لب العلمانية(2/21)
وتبدو نشاة العلمانية في أوروبا أمرا منطقيا مع سير الأحداث هناك ، إذا رجعنا إلي الظروف التي شر حناها من قبل في التمهيد الأول من هذا الكتاب ، أي إلي عبث الكنيسة بدين الله المنزل ، وتحريفه وتشويهه ، وتقديمه للناس في صورة منفرة ، دون أن يكون عند الناس مرجع يرجعون إليه لتصحيح هذا العبث وإرجاعه إلي أصوله الصحيحة المنزلة ، كما هو الحال مع القرآن ، المحفوظ - بقدر الله ومشيئته - من كل عبث أو تحريف خلال القرون
فمن المعلوم أن الإنجيل المنزل من عند الله لم يدون علي عهد المسيح عليه السلام إنما تلقاه عنه حواريوه بالسماع، ثم تشتتوا تحت تأثير الاضطهاد الذي وقع علي اصحاب الرسالة الجديدة سواء من اليهود أو من الرومان ، فلما بدأ تدوينه بعد فترة طويلة من نزوله كان قد اختلط في ذاكرة أصحابه ن كما اختلطت النصوص فيه بالشروح ، ثم غلبت الشروح علي النصوص .. ووقع الاختلاف والتحريف والتصحيف الذي يشير إليه كتاب التاريخ الأوربي ومؤرخو الكنيسة علي السواء ، واستبد رجال الدين بشرح ما سمي الاناجيل بالاحتفاظ بعلم" الأسرار " التي نشات من التحريف والتصحيف والتي لا أصل لها في دين الله المنزل ، ثم زاد استبدادهم - كما أسلفنا في ذلك التمهيد - فصار طغيانا شاملا يشمل كل مجالات الفكر والحياة : طغيانا روحيا وفكريا وعلميا وسياسيا وماليا واجتماعيا ..وفي كل اتجاه(2/22)
فحين يحدث نفور من الدين في مثل هذا الجو فهذا أمر منطقي مع سير الأحداث ، وإن لم يكن منطقيا مع " الإنسان " في وضعه السوي ، فإذا كان الانسان عابدا بفطرته ، وكان الدين جزءا من الفطرة أو هو طبيعة الفطرة فإن الانسان الراشد في مثل الوضع الذي وجدت فيه أوربا كان ينبغي عيه أن ينبذ ذلك الدين الذي تحوطه كل تلك التحريفات في نصوصه وشرحه وكل تلك الانحرافات فى سلوك رجاله ، ثم يبحث عن الدين الصحيح فيعتنقه ، وقد فعلت أوربا الأمر الأول فنبذت دين الكنسية بالفعل ، ولكنها لم تفعل الأمر الثانى حتى هذه اللحظة إلا أفرادا متناثرين لم يصبحوا بعد " ظاهرة " ملموسة . ومن هنا نقول إن الظروف التى أحاطت بالدين فى أوروبا تفسر ولا تبرر . . تفسر شرود الناس فى أوروبا عن الدين ولكنها لا تبرره .. فإنهن لا شئ على الإطلاق يبرر بعد الإنسان عن خالقه ، ونبذه لعبادته على النحو الذى افترضه على عباده ، سواء بالاعتقاد بوحدانيته سبحانه ، أو بتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده ، أو بتنفيذ شريعته ، فهذا التصرف المنحرف من الإنسان الذى نبذ الذين وابتعد عن الله ، هو الذى قال الله فيه : {بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [سورة القيامة 75/14-15] أى أنه لا يقبل منه عذر فيه !
على أن الذى يعنينا الآن ليس هو محاسبة أوروبا على انحرافاتها فى مجال الدين والعقيدة ، فالخلق صائرون إلى ربهم وهو الذى يحاسبهم :
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [سورة الغاشية 88/21-26]
ولكن الذى يعنينا هو شرح هذه الانحرافات وبيان الصورة التى حدثت عليها ، والظروف التى أحاطت بها منذ مبدئها حتى صارت إلى ما صارت إليه .(2/23)
ونخطئ - من وجهة نظرنا الإسلامية - إن قلنا إن " العلمانية " حدثت فقط بعد النهضة . فالحقيقة - من وجهة النظر الإسلامية - أن الفصل بين الدين والحياة وقع مبكرا جدا فى الحياة الأوروبية ، أو أنه - إن شئت الدقة - قد وقع منذ بدء اعتناق أوروبا للمسيحية ، لأن أوروبا - كما أسلفنا فى التمهيد - قد تلقت المسيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة ( بصرف النظر عما حدث فى العقيدة ذاتها من تحريف على أيدى الكنيسة ) ولم تحكم الشريعة شيئا من حياة الناس فى أوربا إلا ط ألحوال الشخصية " فحسب ، أى أنها لم تحكم الأحوال السياسية ولا الأحوال الاقتصادية ولا الأحوال الاجتماعية فى جملتها . وهذا الوضع هو علمانية كالة من وجهة النظر الإسلامية 224ولكن الذى تقصده أوروبا بالعمانية " Secularism" ليس هذا ، لأنها لم تألف الصورة الحقيقية للدين أبداء فى يوم من الأيام ! إنما الذى تقصده أوروبا حين تطلق هذه الكلمة هو إبعاد ما فهمته هى من معنى الدين عن واقع الحياة ، متمثلا فى " بعض " المفاهيم الدينية ، وفى تدخل " رجال الدين " باسم الدين فى السياسية والاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والأدب والفن .. وكل مجالات الحياة ، ثم إقامة هذا كله بعيدا عن نفوذ الكنيسة من جنة ، وبعيدا عن مفاهيم الدين كلها من جهة أخرى ، بصرف النظر عن وجود الكنيسة أو عدم وجودها .
بعبارة أخرى نقول إن ما نبذته أوروبا حين أقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقية الدين - فهذه كانت منبوذة من أول لحظة ! - إنما كان بقايا الدين المتناثرة فى بعض مجالات الحياة الأوروبية أو فى أفكار الناس ووجداناتهم فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا إقصاء كاملا من الحياة ، ولم تترك منها إلا حرية من أراد أن يعتقد بوجود إله يؤدى له شعائر التعبد فى أن يصنع ذلك على مسئوليته الخاصة ، وفى مقابلها حرية من أراد الإلحاد والدعوة إليه أن يصنع ذلك بسند الدولة وضماناتها !
? ? ?(2/24)
كيف نشأت هذه العلمانية فى أوروبا ؟
أى كيف أقصيت بقايا الدين من الحياة الأوروبية وصارت الحياة " لا دينية " تماما فى كل مجالاتها العملية؟
نحتاج أن نتذكر أولا أنه فى الوقت الذى لم يكن للدين الحقيقى وجود فى أوروبا - سواء فى صورة عقيدة صحيحة أو صورة شريعة حاكمة - كان هناك نفوذ ضخم جدا يمارس باسم الدين فى مجال العقيدة وفى مجالات الحياة العملية كلها من قبل رجال الدين ، ويتمثل فى حس الناس هناك على أنه هو " الدين " !
أى أن الصورة الواقعية للدين فى أوروبا كانت تتمثل أولا فى عقيدة مأخوذة من " الأناجيل " وشروحها تقول إن الله ثالث ثلاث وإن الله هو المسيح ابن مريم ،وتتمثل ثانيا فى صلوات وقداسات ومواعظ واحتفالات تقام فى الكنائس يوم الأحد بصفة خاصة ، وتتمثل أخيرا - وليس آخرا - فى نفوذ لرجال الدين على الملوك وعلى عامة الناص ، فأما نفوذهم على الملوك فيتضمن أنهم لا يجلسون على عروشهم إلا بإذن البابا ومباركته ، ولا يتولون سلطانهم على شعوبهم إلا بتولية البابا لهم ، وإذا غضب عليهم البابا - غضبا شخصيا لا علاقة له البتة بتحكيم شريعة الله - نبذتهم شعوبهم ولم تذعن لأوامرهم ، وأما نفوذهم على عامة الناس فيتضمن أنهم لا يصبحون مسيحيين إلا بتعميد الكاهن لهم ، وليس لهم صلاة إلا بحضور الكاهن أمامهم فى مكان محدد هو الكنيسة ، ولا يموتون موتا صحيحا إلا بإقامة قداس الجنازة لهم على يد الكاهن ، ولا يعتقدون إلا ما يلقنهم إياه رجال الدين من شئون العقيدة ، ولا يفكرون إلا فيما يسمح لهم رجال الدين بالتفكير فيه ، وعلى النحو الذى يسمحون لهم به ، ولا يتعلمون إلا ما يسمح لهم رجال الدين تعلمه ، ولرجال الدين فوق ذلك نفوذ على أموالهم وعلى أجسادهم وعلى أرواحهم أشرنا إلى جوانب منه من قبل.
هذا الدين - بهذه الصورة - مخالف للدين المنزل من عند الله فى أكثريته .. ولكنه ليس خلوا بالمرة من حقئاق الدين ، وهذه شهادة الله فيهم :(2/25)
{وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [سورة المائدة 5/14]
ففيه من حقائق الدين ان الله هو الذى خلق الكون كله ، وهو الذى خلق الإنسان على هذه الصورة الإنسانية وجعله عاقلا مفكرا مريدا ، وكلفه الأمانة ، وكلفه عمارة الأرض والهيمنة عليها ، وعرفه أن هناك بعثا ونشورا وحسابا وثوابا وعقابا يوم القيامة ، وأن هناك جنة ونار أبديتين يصير الناس إليهما كل بحسب عمله ، وفيه من حقائق الدين كذلك أن الله حرم القتل والسرة والزنا والربا والكذب والغش والخيانة .. وأوجب على الناس فى حياتهم أخلاقيات معينة يتقيدون بها فى تعاملهم بعضهم مع بعض ، وأن الله شرع الزواج وحرم علاقات الجنس خارجه ، وشرع الأسرة وأوجب صيانتها وجعل للرجل القوامة عليها .. إلى آخر ما يجرى هذا المجرى من حقائق الدين .
ولكن الدين المنزل من عند الله ليس فيه أن الله هو المسيح ابن مريم وأن الله ثالث ثلاثة ، وليس فيه أن يشرع رجال الدين ( الأحبار والرهبان ) من عند أنفسهم فيحلوا ويحرموا بغير ما أنزل الله ( كما أحلوا الخمر والخنزير وأبطلوا الختان ) وليس فيه أن يطلب رجال الدين لأنفسهم سلطانا يرهبون به الناس ويفرضون عليهم ما أحلوا هم وما حرموا من دون الله ، كما يفرضون عليهم الخضوع الكامل لأهوائهم فى الوقت الذى لا يستخدمون فيه سلطانهم الرهيب فى فرض شريعة الله على الأباطرة والملوك ليحكموا بها بدلا من القانون الرومانى ، ويكتفون بجعل هذه الشريعة مجرد مواعظ خلقية وروحية من شاء أن يتقيد بها تقيد ومن شاء أن يتفلت منها فلا سلطان لأحد عليه فى الأرض ، بينما القانون الرومانى يعاقب المخالفون له بالقتل أو الحبس أو ما سوى ذلك م العقوبات !
وليس فى الدين المنزل أن الأرض منبسطة وليست كروية ، وأن من قال بكرويتها يحرق حيا فى النار !(2/26)
وليس فيه أن يفرض رجال الدين لأنفسهم - لا للفقراء والمساكين - عشور أموال الناس ، ولا السخرة المجانية فى أرض الكنيسة .
وليس فيه كل ما فعله رجال الدين من فضائح ومخاز ودناءات .. كصكوك الغفران والفساد الخلقى بكل أنواعه ومناصرة الكنيسة للمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على الشعوب !
ولكن أوروبا حين أنشأت علمانيتها نبذت الدين كله ، لم تفرق بين أباطيل الكنيسة وبين حقائق الدين!
وصحيح أن الدين الكنسى - بحقائقه وأباطيله - لم يكن صالحا للحياة ، ولم يكن مقبولا عند الله :
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة المائدة 5/68]
ولكن أوروبا - كما أشرنا من قبل - حين نبذت دين الكنيسة الفاسد لم تبحث عن الدين الصحيح ، الذى يصدق الحقائق ويبطل الأباطيل .
* ? ? ?
كان الدين الكنسى ذا سطوة عنيفة على كل مرافق الحياة فى أوروبا فى قرونها الوسطى المظلمة . وكان ذلك أمرا سيئا شديد السوء ، لا بسبب سيطرة " الدين " على الحياة كما خيل لأوروبا بغباء فى جاهليتها المعاصرة ، ولكن بسب سيطرة الفساد الكامن فى ذلك الدين الكنسى على كل مرافق الحياة !
ولكن نستيقن من الحقيقة فى هذا الأمر ما علينا إلا أن نراجع فترة مقابلة " وموازية " من التاريخ ، كان فيها الدين الصحيح ذا سيطرة عظيمة على كل مرافق الحياة .. تلك هى الفترة الأولى من حياة المسلمين التى امتدت حوالى سبعة قرون من الزمان . . فكيف كانت ؟! كان الهدى . وكان النور . وكان العلم ، وكانت الحضارة التى عرفت أوروبا طرفا منها فى الأندلس والشمال الأفريقي . وكان كل جميل من الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك برغم كل الانحراف الذى طرأ على حياة المسلمين فى تلك القرون ، سواء من جانب الحكام أو من جانب المحكومين !(2/27)
فلم يكن " الدين " فى ذاته إذن هو مصدر السوء فى الحياة الأوروبية فى تلك الفترة ( ولنذكر أن أسبانيا - وهى جزء من أوروبا - كانت مزدهرة فى نفس الوقت بتأثير الدين الصحيح ، كما كانت صقلية وغيرها من الأصقاع الأوروبية التى دخل فيها الإسلام ) إنما كان " فساد الدين " هو السبب فى ذلك الظلام الذى اكتنف أوروبا فى قرونها الوسطى المظلمة الحالكة السواد .
وأوروبا لا تحب أن تصدق هذه الحقيقة فى جاهليتها المعاصرة - مع أنها حقيقة موضوعية بحتة يشهد بصحتها كل ما كتبه مؤرخوهم المنصفون عن الحضارة الإسلامية - لأن مجرد تصديقها معناه أنهم كانوا مخطئين فى نبذه " الدين " كله بحجة فساد الدين الذى قدمته الكنيسة لهم ، وأنهم مازالوا مخطئين إلى هذه اللحظة للسبب ذاته .. وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الدين بأى وسيلة من وسائل الرجوع !
مرة أخرى لا تريد أن نحاسب أوروبا على انحرافاتها فى مجال الدين والعقيدة ، إنما نشرح فقط خطوات ذلك الانحراف .
كانت سيطرة الدين الكنسى على الحياة الأوروبية فى قرونها المظلمة أمرا سيئا كما قلنا - برغم سيطرة بعض الفضائل الدينية على الحياة وخاصة فى الريف الأوربى - لأن ذلك الدين بما حواه من انحرافات جذرية فى العقيدة من ناحية ، وفى فصل العقيدة عن الشريعة من ناحية أخرى ، وفى فساد ممثليه من رجال الدين وجهالتهم من ناحية ثالثة - كان مفسدا للحياة ومعطلا لدفعتها الحية ، كما كان مفسدا للعقول ومعطلا لها عن التفكير السليم .
لذلك كان نبذ ذلك الدين والانسلاخ منه أمرا ضروريا لأوروبا إذا أرادت أن تتقدم وتتحضر وتعيش ..
ولكن البديل الذى اتخذته أوروبا بدلا من دينها لم يكن أقل سوءا إن لم يكن أشد ، وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادى الذى يطمح إليه البشر على الأرض ، تحقيقا لسنة من سنن الله التى تجهلها أوروبا وتجهل حكمتها ، لأنها لا تؤمن بالله وما نزل من الوحى :(2/28)
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
نعم ! لم تكن العبودية للأحبار والرهبان من البابوات ورجال الدين أمرا صالحا للحياة ولو كانوا هم أنفسهم من الصالحين ، لأن العبودية لاتصح إلا لله وحده ، ولا تصلح الحياة إلا إذا كانت لله وحده .. فكيف وهؤلاء الأحبار والرهبان على ما كانوا عليه من الفساد والجهالة والبعد عن حقيقة الدين ؟!
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [سورة التوبة 9/31]
ولم يكن الدين الذى يحوى كل ذلك القدر من الأساطير ، ويحارب العلم ويحجر على الفكر ، ويفصل بين الدنيا والآخرة فيهمل الدنيا وينبذها من أجل الخلاص فى الآخرة ، ويحتقر الجسد ويعذبه من أجل خلاص الروح ، ويبيح فى الوقت نفسه للإقطاعيين أن يمتصوا دماء الفلاحين ويكتنزوا بها ويترفوا ويفسدوا ، ويخذل الفلاحين عن الثورة على هذا الظلم بحجة الحصول على رضوان الله وجنته فى الآخرة إن رضوا بالمذلة والظلم فى الحياة الدنيا .. لم يكن ذلك الدين ليسمح للحياة بالتقدم ، وهو يلفها بأغلفة سميكة من الظلام .
ويقول التاريخ - الذى تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة - إن أوروبا بدأت تخرج من ظلمات قرونها الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها ، سواء فى الحروب الصليبية أو البعوث التى بعثتها للتعلم فى مدارس المسلمين فى الأندلس بصفة خاصة ، وفى صقلية وغيرها من البلاد التى نورها الإسلام .(2/29)
بل تقول الروايات التاريخية إن رجال الدين المسيحى أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية فى تلك المدارس ، أو فيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية ، وإنهم كانوا يترقون فى مناصب الأكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة ! "
ويقول روجر بيكون ( فى القرن الثالث عشر الميلادى ) : " من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية لأنها هى لغة العلم " .
لقد وجدت أوروبا حين احتكت بالمسلمين عالما عجيبا بالنسبة إليها ، ليس فيه بابورات ولا رجال دين ! وليست فيه أسرار عقيدية يختص بعلهما فريق من الناس دون فريق .. وليس فيه " نبلاء ! " يستعبدون الناس فى إقطاعياتهم .. وليس فيه حجر على العقول أن تفكر ، ولا حجر على العلم أن يبحث ويجرب وينشر أبحاثه على الناس .
يقول " راندال " فى كتابه " تكوين العقل الحديث " (ترجمة جورج طعمة ج 1 ص 314 من الترجمة العربية) :
وبنوا (يقصد المسلمين ، وإن كان يستخدم لفظة " العرب " تحاشيا لذكر المسلمين !) فى القرن العاشر فى أسبانيا حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب ، بل كان علما طبق على الفنون والصناعات الضرورية للحياة العملية ، وعلى الإجمال كان العرب يمثلون فى القرون الوسطى التفكير العلمى والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما فى أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة " .
ويقول ليوبولد فايس (محمد أسد) فى كتابه " الإسلام على مفترق الطرق " (ترجمة عمر فروخ ص 39 - 40 من الترجمة العربي) :(2/30)
" إن العصور الوسطى قد أتلفت القوى المنتجة فى أوروبة .. كانت العلوم فى ركود ، وكانت الخرافة سائدة ، والحياة الاجتماعية فطرية خشنة إلى حد من الصعب علينا أن نتخيله اليوم ، فى ذلك الحين أخذ النفوذ الإسلامى فى العالم - فى بادئ الأمر بمغادرة الصليبيين إلى الشرق ، وبالجامعات الإسلامية الزاهرة فى أسبانيا المسلمة فى الغرب ، ثم بالصلات التجارية المتزايدة التى أنشأتها جمهوريتنا جنوة والبندقية - أخذ هذا النفوذ يقرع الأبواب الموصدة دون المدنية العربية .
" وأمام تلك الأبصار المشدوهة ، أبصار العلماء والمفكرين الأوروبيين ، ظهرت مدنية جديدة ، مدنية مهذبة راقية خفاقة بالحياة ، ذات كنوز ثقافية كانت قد ضاعت ثم أصبحت فى أووربة من قبل نسيا منسيا . ولكن الذى صنعه العرب كان أكثر من بعث لعلوم اليونان القديمة .. لقد خلقوا لأنفسهم عالما علميا جديدا تمام الجدة .. لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث وعملوا على تحسينها ، ثم حملوا هذا كله بوسائط مختلفة إلى الغرب . ولسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمى الحديث الذى نعيش فيه لم يدشن فى مدن أوروبا النصرانية ، ولكن فى المراكز الإسلامية : فى دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة " .
وتعلمت أوروبا كل العلم الذى وجدته عند المسلمين ، كما أخذت كثيرا من الأصول الحضارية التى وجدتها عندهم " 225" ولكنها لأمر رفضت أن تأخذ الإسلام ، رغم السماحة الهائلة التى لمسها المسيحيون من المسلمين فى الأندلس ! وارتدت من جاهلية الدين الكنسى المحرف إلى جاهلية ما قبل ذلك الدين ، الجاهلية الإغريقية الرومانية Greco-Roman لتنشئ على أساسها جاهلية جديدة متقدمة كل التقدم فى العلم والتكنولوجيا (على أساس العلم الذى أخذته من المسلمين ، والمنهج التجريبى فى البحث العلمى الذى استمدته منهم) ومنتكسة أشد الانتكاس فيما عدا ذلك من جوانب الحياة ..
من الإغريق أخذت عبادة العقل وعبادة الجسد فى صورة جمال حسى .(2/31)
ومن الرومان أخذت عبادة الجسد فى صورة متاع حسى ، وتزيين الحياة الدنيا بكل وسائل العمارة المادية إلى أن يستغرق الإنسان فى المتاع وينسى " القيم " التى تكون الإنسان . كما أخذت شهوة التوسع الحربى واستعباد الأمم الضعيفة لحساب الدولة " الأم " فى صورة إمبراطوريات .
والمهم - بالنسبة لبحثنا الحاضر - أنها بدأت تنبذ الدين !
? ? ?
قامت النهضة على أسس معادية للدين من أول لحظة .
قامت على أصول " بشرية " بدلا من الأصول الدينية أو الإلهية كما كانت تصورها لهم الكنيسة .
كان الدين الذى قدمته لهم الكنيسة على أنه الدين الإلهى دينا أخرويا لا يقيم وزنا للحياة الدنيا ، بل يحتقرها ويزدريها ويدعو إلى إهمالها وعدم الالتفات إليها فى سبيل الحصول على " الخلاص " ، خلاص الروح ، الذى لا يمكن الوصول إليه إلا بالتجرد من متاع الأرض ، والاستعلاء على مطالب الجسد ، والتطلع إلى ملكوت الرب الذى يتحقق فى الآخرة ولا سبيل إلى تحقيقه فى الحياة الدنيا . ومن ثم فإن " حركة التاريخ " ومحاولة تصحيحها بتصحيح حركة المجتمع كما يقول ولفرد كانتول سميث Wilfred Cantwell Simth فى كتاب " الإسلام فى التاريخ الحديث Islam in Modern History " لم تكن فى حساب الكنيسة المسيحية لا أيام ضعفها فى القرون الأولى ولا حين أصبح لها السلطان " 226" إنما يسعى كل إنسان إلى خلاصه الشخصى ، كالذى يسير على معبر دقيق كل عمه ألا يفقد توازنه فيقع فى الهاوية ، أو كالذى يسير فى الوحل كل همه أن يشمر ثيابه ويلتفت إلاى مواقع قدميه حتى لا ينزلق أو يتلطخ بالوحل ، لا يهمه أن يصحح مواضع أقدم الآخرين أو يقيهم من الانزلاق .(2/32)
ومن هنا فإن هذا الدين فى صورته الكنسية تلك لم يكن يسعى إلى تحسين أحوال البشر على الأرض ، أو إزالة المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى تقع عليهم ، وإنما يدعو إلى الزهد فى الحياة الدنيا برمتها ، وترك كل شئ على ما هو عليه ، لأن فترة الحياة الدنيا أقصر وأضأل وزنا من أن يحاول الإنسان تعديل أوضاعه فيها . إنما يسعى جاهدا إلى الخلاص منها دون أن يعلق بروحه شئ من الآثام . والمتاع ذاته هو من الآثام التى يحاول المتطهرون النجاة منها بالرهبنة واعتزال الحياة .
بل أكثر من ذلك : إن احتمال المشقة فى الحياة الدنيا ، واحتمال ما يقع فيها من المظالم هو لون من التقرب إلى الله يساعد على الخلاص . ومن ثم دعت الكنيسة الفلاحين للرضا بالمظالم التى كانت تقع فى ظل الإقطاع وعدم الثورة عليها لينالوا رضوان الله فى الآخرة ، وقالت لهم : " من خدم سيدين فى الحياة الدنيا خير ممن خدم سيدا واحدا " !
ومن جهة أخرى كان هذا الدين يحصر كيان الإنسان فى نطاق محدود محصور أشد الحصر ، ليبرز جانب الألوهية فى أكمل صورة .
ألوهية الله فى ذلك الدين معناها السلبية الكاملة للإنسان ، وحصر دوره - لا فى العبادة بمعناها الواسع ، أى على النحو الذى قرره الإسلام ، والذى يشمل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى - إنما فى الخضوع لقدر الله القائم ، وعدم العمل على تغيير شئ من الواقع المحيط بالإنسان ، لأن محاولة التغيير - ولو إلى الأحسن - تحمل فى طياتها " عدم الرضا " بالأمر الواقع ، وهو لون من التمرد على إرادة الله لا يقره ذلك الدين .(2/33)
ومن ثم فإن فاعلية الإنسان محصورة فى الطاعة للأوامر الإلهية - كما تعرضها الكنيسة بالحق أو الباطل - لا تتعداها إلى الإنشاء لأنه ، ليس للإنسان أن ينشئ شيئا من عند نفسه ، ولو كان يلتزم فى هذا الإنشاء بالهدى الربانى . ومن ثم كذلك كان ثبات الأوضاع فى أوروبا فى العصور الوسطى لفترة طويلة من الزمان بكل ما تحمل من ألوان الفساد السياسى والاقتصادى والاجتماعى والفكرى والروحى .. على أساس أنها قدر الله الذى لا يجوز للناس تغييره ، إنما ينبغى الخضوع له والمحافظة عليه تقربا إلى الله !
? ? ?
هذا الدين بصورته تلك لم يكن هو الدين المنزل من عند الله ، ولم يكن - كما أسلفنا - صالحا للحياة . كان لابد من نبذه والانسلاخ منه لكى تسير دفعة الحياة فى خطها الصحيح .
ولقد كان عرى مقربة من أوروبا - بل فى جزء من أرضها - دين آخر يقدم المنهج الصحيح للحياة ، فلا هو دين أخروى بحت بمعنى إهمال الحياة الدنيا ، ولا هو الدين الذى يفرض السلبية الكاملة على الإنسان ، ويفرض عليه الخضوع " للأمر الواقع " وعدم التفكير فى تغييره .
إنه دين يعمل للآخرة من خلال العمل فى الدنيا " الدنيا مزرعة الآخرة " .
ويبين أن العمل للآخرة لا يعنى إهمال الحياة الدنيا {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف 7/32]
وهو دين يعمل لإصلاح الحياة الدنيا بإقامة المنهج الربانى الذى يأمر بالعدل والقسط ، كما يدعو إلى الجهاد لإقامة هذا المنهج ومنع الانحراف عنه ، ذلك الانحراف الذى يؤدى إلى فساد الحياة وإلى وقوع الظلم على الناس :(2/34)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [سورة الحديد 57/25]
وهو دين يجعل للإنسان إيجابية واسعة فى الأرض .
فقد خلقه الله ابتداء ليكون خليفة فى الأرض :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
ومن شأن الخلافة الهيمنة على الأرض والسيطرة عليها ، والإنشاء والتعميري فيها ، واستغلال الطاقات المذخورة فى السماوات والأرض ، التى سخرها الله للإنسان من أجل عمارة الأرض ، والمشى فى مناكب الأرض لاستخلاص الأرزاق المكنونة فيها والظاهرة :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
بل إن المنهج الربانى ذاته يستدعى إيجابية الإنسان لتنفيذه ، فهو لا ينطبق انطباقا آليا على الأحداث والأشياء ، بل الإنسان المستبصر بالهدى الربانى هو الذى يطبقه ويجتهد بفكره ليضع تفصيلات تنفيذه ، خاصة وهو منهج حياة كامل ، يشمل الثابت والمتغير فى حياة الإنسان ، فلابد أن يجتهد على الدوام ليضع للمتغير حلا مستمدا من المبادئ الثابتة فى هذا المنهج .. ومن ثم يعمل الإنسان بإيجابيته الكاملة فى التنفيذ ، سواء إيجابية العزيمة اللازمة لإقامة المنهج والجهاد لإقراره فى الأرض ، أو إيجابية التفكير فى الوسيلة المثلى لإقامته ..
بل إن قدر الله ذاته يجرى من خلال أعمال الإنسان بالخير والشر سواء :(2/35)
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [سورة النحل 16/112]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
وهذا الدين الذى يعطى التوازن الصحيح بين الدنيا والآخرة ، وبين فاعلية قدر الله وفاعلية الإنسان ، وبين العبودية الكاملة لله والإيجابية السوية للإنسان ، هو الدين الصحيح الذى تصلح به الحياة فى الأرض ، وتستقيم به خطى البشر فى الحياة الدنيا " 227" .
ولكن أوروبا - بدافع العصبية الصليبية - أعرضت عن هذا الدين واتجهت إلى الجاهلية الإغريقية الرومانية ، تنتقم بها من الكنيسة ودينها الفاسد الذى يهمل الحياة الدنيا ويلغى الوجود الإيجابى للإنسان .(2/36)
وغذ كانت النهضة فى مجموعها " رد فعل " للكبت الواقع على " الإنسان " بفعل التصور الكنسى للدين ، والممارسة الكنسية له ، وإذ كان الغالب على ردود الفعل هو الاندفاع لا التعقل ولا التبصر ولا الروية ولا الاتزان .. فقد اندفعت أوروبا فى نهضتها تنزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية (سواء كانت إلهية حقا أو مدعاة من قبل الكنيسة) وتضع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان ، كما تنزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتضع بدلا منه ما يتصل بالحياة الدنيا .. وكانت هذه هى بداية " العلمانية " بالتعريف الأوروبى ..
? ? ?
لقد اصبح الطابع المميز للفكر الأوروبى منذ النهضة هو التمرد على الدين والتمرد على الله ، وكان ذلك نابعا من تأثيرين فى آن واحد . التأثير الأول هو روح رد الفعل الذى قام ضد الدين والكنيسة ، والثانى هو تأثير الجاهلية الإغريقية فى هذا الشأن بالذات .
فأما رد الفعل فقد أخذ صورة الخروج على كل ما كان سائدا من قبل فى فترة السيطرة الكنسية .
كان السائد هو ألا يفكر الإنسان لنفسه فى شئ من الأشياء إنما يأخذ الأفكار جاهزة من الكتب المقدسة وشروحها عن طريق رجال الدين ، سواء كانت الأفكار متصلة بالعقيدة أو بأمر من أمور الدنيا ، أو حتى أمور العلم كقضية شكل الأرض .(2/37)
وغنى عن البيان أن هذا ليس الموقف الصحيح للإنسان فى ظل الدين الصحيح " 228" ولكن هكذا كانت الممارسة الدينية فى ظل الجاهلية الكنسية المنحرفة ، والتى من جرائها كان لرجال الدين كل ذلك النفوذ على عقول الناس وأرواحهم ، فهم الوسطاء بين الناس وبين الدين ومفاهيمه ، بل هم الوسطاء بين الناس وبين الله ، والناس - علماء أو غير علماء - لا يبحثون فى أى شأن من الشؤون ليكونوا فيه رأيا أو موقفا . إنما يسألون رجال الدين ليدلوهم على الرأى أو الموقف الذى ينبغى عليهم اتخاذه . هذا بالإضافة إلى أن الأمور التى يسألون عنها هى أولا وقبل كل شئ أمور " الخلاص " . الخلاص من أدران الحياة الدنيا للحصول على رضوان الله فى الآخرة .
وكان رد الفعل إن الإنسان هو الذى ينبغى أن يستشار فى الأمور كلها وليس الدين ، وأن العقل البشرى هو الذى ينبغى أن يكون صاحب القرار وليس الله .. ولو كان الأمر متعلقا بالعقيدة أو الأمور الأخروية . وبمقدار ما كان العقل مكبوتا ومحجورا عليه ، انطلق هذا العقل يريد أن يقتحم كل ميدان ولو كان خارجا عن اختصاصه ! يقتحمه بروح أنه هو صاحب الحق الذى كان ممنوعا من حقه فهو يريد أن يؤكد هذا الحق . ويقتحمه بروح الشك ، أو روح المحو لكل ما كان موجودا من قبل ولم يشترك فيه ، فهو يريد أن ينشئه من جديد سواء وافق ما كان موجودا من قبل أو خالفه ، والأجدر به أن يخالفه لكى يثبت وجوده .
بهذه الروح بدأ الكتاب و" المفكرون الأحرار " يهاجمون فكرة الألوهية وينفون الرسالات والوحى ، وينفون الحياة الآخرة والجنة والنار .. ويقولون إن هذه كلها أوهام تبنتها البشرية فى غيبة من العقل ، والآن وقد صحا العقل فقد آن الأوان لنبذها وتركها للهمج المتأخرين .. وربما كان خير ممثل لهذا الاتجاه هو " فولتير " الكاتب الفرنسى الملحد المشهور .(2/38)
أما التأثير الثانى الذى أشرنا إليه فهو تأثير الجاهلية الإغريقية التى تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع وخصام لا يفتر : الآلهة تريد أن تقهر الإنسان وتكبته وتحطمه لكى لا يطمح فى أن يكون مقتدرا مثلها ، فلا تفتأ كلما حقق نجاحا أن تصب الكوارث فوق رأسه لكى لا يستمتع بثمرات نجاحه ، وهو من جانبه دائم التحدى للآلهة ، كلما وقع فى حفرة من حفائرها عاد يستجمع قواه ليصارعها من جديد . وتكفى أسطورة بروميثيوس الشهيرة لبيان هذا المعنى بصورة مباشرة ، إذ تزعم تلك الأسطورة أن " زيزس " إله الآلهة خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض ثم سواه على النار المقدسة (التى ترمز إلى المعرفة) ثم وضعه فى الأرض محاطا بالظلام (الذى يرمز إلى الجهل) فأشفق عليه كائن أسطورى يسمى بروميثيوس ، فسرق له النار المقدسة لكى ينير له ما حوله ، فغضب زيوس على الإنسان وعلى بروميثيوس كليهما . فأما بروميثيوس فقد وكل به نسرا يأكل كبده بالنهار ثم تنبت له كبد جديدة بالليل يأكلها النسر بالنهار فى عذاب أبدى !
وأما الإنسان فقد أرسل له زيزس " باندورا " (التى ترمز إلى حواء) لكى تؤنس وحشته (فى ظاهر الأمر !) وأرسل معها هدية عبارة عن علبة مقفلة ، فلما فتحها إذا هة مملوءة بالشرور التى قفزت من العلبة وتناثرت على سطح الأرض لتكون عدوا دائما وحزنا للإنسان !
ويشير جوليان هكسلى إشارة صريحة إلى هذه الأسطورة فى كتابه " الإنسان فى العالم الحديث Man in the Modern World " فيقول إن موقف الإنسان الحديث هو ذات الموقف الذى تمثله هذه الأسطورة ، فقد كان الإنسان يخضع لله بسب الجهل والعجز ، والآن بعد أن تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل فى عصر الجهل والعجز على عاتق الله ، ويصبح هوة الله !!(2/39)
من هذين التأثيرين معا انطلق الفكر " المتحرر " يهاجم الدين ، ويصفه بأنه الأغلال التى تغل الفكر عن الانطلاق ، والتى ينبغى أن تحطم لكى يثبت الإنسان وجوده ، ويقوم بدوره الذى يجب أن يقوم به فى الأرض !
? ? ?
وفى نفس الوقت اتجه الفكر المنسلخ من الدين إلى البحث عن مصدر آخر للقيم الإنسانية غير الدين ! ذلك أن أوروبا لم تكن قد انسلخت بعد من القيم ذاتها كما حدث فيما بعد ، حين امتد الخط المنحرف فازداد بعدا وانحرافا ، أو لم تكن قد سنحت الفرصة للشريرين أن يعلنوا الحرب المنظمة على كل مقومات " الإنسان " كما سنحت لهم بعد ظهور الداروينية وإعلان حيوانية الإنسان !
ففى تلك الفترة وجد " الفكر الحر ! " أنه إن أقر بأن الدين هو مصدر القيم الإنسانية فقد وجب عليه أن يحافظ عليه ولا يهاجمه ولا يسعى إلى تحطيمه ! فينبغى إذن أن يبحث ذلك الفكر عن مصدر آخر يستمد منه القيم ويسندها إليه ، لكى لا يقول أحد إنه لا يمكن الاستغناء عن الدين ! وعلى هذا الضوء يمكننا فهم فلسفة " أوجست كومت " من ناحية ، وأفكار جان جاك روسو من ناحية أخرى . فكلاهما يجهد نفسه ليقول للذين يقفون مدافعين عن الدين : ها قد وجدنا مصدرا آخر تنبع منه القيم الضرورية لحياة الإنسان غير الدين ، وجدناه فى " الطبيعة " وفى " النفس البشرية " وهو مصدر أفضل - فى إنبات القيم وترسيخها - من الدين .. فدعونا إذن من الدين ، وتعالوا معنا إلى تلك المصادر " الحرة " التى يقبل عليها الإنسان إقبالا " طبيعيا " و" ذاتيا " دون أن يحس بالقهر المفروض عليه من قوة أعلى منه !
وفى الوقت ذاته اتجه هذا " الفكر المتحرر " إلى عبادة الطبيعة بدلا من عبادة الله ، ونسبة الخلق إليها بدلا من الله . وقد تحدثنا منق بل عن هذا الأمر بما فيه الكفاية فلا نعود إلى الحديث فيه ، ولكن نضعه فقط فى مكانه من التسلسل التاريخى .(2/40)
وفى ذات الوقت كله اتجه الفن إلى مناجاة الطبيعة بدلا من مناجاة الله ، وتأليهها بدلا من تأليه الله " 229" .
? ? ?
ومضى الزمن فى خطواته ، وجاءت الثورة الصناعية .. وجاء مزيد من إبعاد الدين عن الحياة .
ففى العهد الزراعى - أو الإقطاعى كما يسمونه - كان ما يزال للدين نفوذ كبير فى حياة الناس .
كان الملوك قد استقلوا عن سلطان البابا ، وقامت " علمانية الحكم " بفصل الدين عن السياسة (أى إقصاء رجال الدين عن التدخل فى شؤون السياسة) ولكن الكنيسة كان ما يزال لها سلطان ضخم على أخلاق الماس وعاداتهم وأفكارهم رغم كل الصراعات وكل الاعتبارات .
ولكن الثورة الصناعية أحدثت - أو أريد لها أن تحدث - هزات عنيفة فى حياة الناس .
ولقد مر بنا فى الفصول السابقة تفصيل ما صنعت الثورة الصناعية فى حياة أوروبا ، وما بنا من حاجة إلى إعادته . ولكنا نذكر مجرد تذكير بإخراج المرأة إلى العمل وإفساد أخلاقها وإفساد أخلاق الرجل معها ، واستغلال قضية المساواة مع الرجل فى الأجر لبث روح الصراع فى نفس المرأة وإحراج صدرها من قوامة الرجل والعمل فى البيت والتفرغ للأمومة ، وما نتج عن ذلك كله من تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال والفوضى الجنسية .. الخ ونسبة ذلك إلى التطور الذى يهدم ما يشاء من القيم ويلغى ما يشاء !
وكانت الطامة العظمى هى الداروينية وإبعاد الإنسان ذاته من عالم الإنسان وإلحاقه بعالم الحيوان ! فعندئذ لم تعد هناك حاجة إلى القيم أصلا .. لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد المستمدة من الدين .. فما حاجة الإنسان إلى شئ من ذلك وهو عريق فى الحيوانية مستقر فى عالم الحيوان ؟!
ثم أتى على الإنسان حين من الدهر لم يعد حتى حيوانا ! بل هبط عن ذلك دركات فأصبح جزءا من عالم المادة الصماء !
? ? ?(2/41)
لم نكن هنا نستعرض خطوات العلمانية بالتفصيل ، فسيأتى شئ من ذلك فيما بعد حين نتحدث عن علمانية السياسة وعلمانية الاقتصاد والاجتماع والعلم والأخلاق والفن .. ولكنا أردنا فقط أن نلفت النظر إلى حقيقة واقعة هى استمرار " الإنسان " فى الهبوط كلما أمعن فى السير على الخط العلمانى .
وأيا تكن السباب التى أدت بأوروبا إلى العلمانية فهى كما قلنا من قبل تفسر العلمانية ولا تبررها ، ولا تبرر بالطبع نتائجها التى أدت إليها ، والتى بدأ المفكرون الغربيون أنفسهم يتنبهون إليها وينذرون نتائجها ، ولكن دون أن يعرجوا على السبب الحقيقى ولا العلاج الحقيقى !
ولئن كانت الكنيسة هى المعتدية على الملوك والعلماء فى بادئ الأمر ، مما أسفر عن العداء بين الدين والسياسة وبين الدين والعلم ، فلم تكن هى المعتدية ولا المتسببة حين أقامت الثورة الصناعية اقتصادياتها على الربا ولجت فيه ، وحين سقطت " الأخلاق " واحدا إثر الآخر ن حتى الأخلاق التى أقرها " المفكرون الأحرار " فى مبدأ عهدهم يناصبون الكنيسة العداء ، ويبحثون عن مصدر آخر للقيم غير الدين !
إنما استمرأ القوم الفوضى الخلقية وأمعنوا فيها لا للدوافع القديمة التى دفعتهم للخروج على الدين أول مرة ، وكلن لأن هذه هى طبيعة السير على المنزلق .. كل خطوة تصبح أشد هبوطا من السابقة .. وهذه طبيعة الحياة حين يكف الناس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. يزداد المنكر وينتفش ويستفحل حتى يصبح هو الأصل ، أو حتى يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومن أجل ذلك لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم :(2/42)
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [سورة المائدة 5/78-79]
ويجدر بنا الآن على أى حال أن نستعرض الصورة الراهنة للعلمانية فى أوروبا فى مجالات الحياة المختلفة ، لا على أنها الصورة الأخيرة التى ستقف عندها ! فهى لا تقف عند هذا الحد من السوء ، وإن لم يكن فى وسع الخيال أن يتصور ما هو أسوأ ، ولكن لنقيس المسافة بين الأصل الذى كان ينبغى وبين ما وصلت إليه الأمور حين قال الإنسان لنفسه : لقد شب الإنسان عن الطوق ولم يعد فى حاجة إلى وصاية الله !
(1) فى السياسة :
لم تكن السياسة من أول عهدها فى الإمبراطورية الرومانية محكومة بالشريعة المنزلة من عند الله ، وإن وقعت لفترة من الوقت تحت سلطان البابوات ورجال الدين ، يفرضون على الملوك أن ينزلوا على إرادتهم على اعتبار أن إرادتهم من إرادة الله .
فقد بينا من قبل أن الفصل بين الدين والسياسة كان قائما من أول اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية ، إذ اعتنقتها عقيدة فقط ، ولم تأخذ من الشريعة إلا ما يتعلق بالأحوال الشخصية ، وبقيت الأمور الجنائية والأمور المدنية وعلاقة الحاكم بالمحكوم وغيرها من شؤون الحياة الواقعة يحكمها القانون الرومانى ولا تحكمها الشريعة المنزلة فى التوراة والمعدلة تعديلا جزئيا بالإنجيل :
{وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [سورة آل 3/50]
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47)} [سورة المائدة 5/47](2/43)
ولكن الكنيسة مع رضاها بهذا الأمر - المخالف لأمر الله - فى أيام ضعفها ، لم تحاول فى أيام سلطانها وسطوتها أن تعود إلى الوضع الدينى الصحيح ، فتلزم الملوك والأباطرة أن يحكموا بما أنزل الله ، وهى تمارس عليهم من السلطان ملا يستطيعون معه مخالفتها أو الخروج على أمرها ، بل استغلت سلطانها فى إخضاعهم لأهوائها الخاصة ، بينما تركتهم يحكمون بغير ما أنزل الله وهى راضية عنهم كل الرضا ماداموا يخضعون لأوامرها ، وهذا هو الذى تسميه أوروبا الحكم الدينى أو الثيوقراطى وما أبعده عن الدين !
صحيح أن إخضاع الكنيسة الملوك والأباطرة لأهوائها الذاتية كان يتم باسم الدين وتحت شعاراته ، ولكن هذا لا يكفى لاعتباره حكما دينيا ما دام لا يحكم بما أنزل الله . ولكن الحس الأوروبى المضطرب يخلط بين الدين ورجال الدين نتيجة اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، واعتبار أعمالهم وأقوالهم أعمالا دينية وأقوالا دينية ولو كانت بعيدة كل البعد عن حقيقة الدين !
مهما يكن من امر فقد استطاعت الكنيسة بنفوذها أن تجعل الملوك والأباطرة طوع إرادتها . وأعلن البابا " نقولا الأول " (858 - 867م) بيانا قال فيه :
" إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها . وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس فى تسلسل مستمر متصل .. (ولذلك) فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين ، حكاما كانوا أو محكومين " .
وأعلن البابا جريجورى السابع (تولى البابوية 1073 - 1085) " أن الكنيسة بوصفها نظاما إلهيا خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية ، ومن حق البابا وواجبه - بصفته خليقة الله فى أرضه - أن يخلع الملوك غير الصالحين وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام أو تنصيبهم حسب مقتضيات الأحوال "
ولم يكن ذلك كلاما فى الهواء ، إنما كان واقعا عاشته أوروبا عدة قرون ..(2/44)
وابرز الأمثلة التى يرويها التاريخ الأوروبى ما حدث بين " جريجورى السابع " هذا والإمبراطور الألمانى " هنرى الرابع " مما أشرنا إليه من قبل ، " إذ أن خلافا نشب بينهما حول مسألة " التعيينات " أو ما يسمى " التقليد العلمانى " فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا ، ورد البابا بخلع الإمبراطور وإصدار قرار حرمان ضده ، كما أحل اتباعه وأمراء مملكته من ولائهم له وألبهم عليه . فعقد الأمراء مجمعا قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد ، فوجد الإمبراطور نفسه مضطرا إلى استرضاء البابا ، ولم يستطع أن ينتظر حتى يصل البابا إلى ألمانيا ، فسافر إليه فى " كانوسا " وظل واقفا فى الثلج فى فناء القلعة ثلاثة أيام فى لباس الرهبان متدثرا بالخيش حافى القدمين عارى الراس حتى تعطف عليه البابا ومنحه مغفرته !
وفى بريطانيا حصل نزاع بينالملك " هنرى الثانى " وبين " توماس بكت " رئيس أساقفة كنتربرى بسبب دستور رسمه الملك يقضى على كثير من الحصانات التى يتمتع بها رجال الدين ، ثم إن رئيس الأساقفة اغتيل فثارت المسيحية على هنرى الثانى ثورة عنيفة ، فاعتزل الملك فى حجرته ثلاثة أيام لا يذوق فيها الطعام ، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة وأعلن للبابا براءته من الجريمة وألغى الدستور ، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها ومع ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربرى حاجا مظهرا ندمه ، وسار الأميال الثلاثة الأخيرة من الطريق على الحجر الصوان حافة القدمين حتى دميت قدماه ، ثم استلقى على الأرض أمام قبر رئس الأساقفة المقتول وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط ، وتقبل ضرباتهم وتحمل كل الإهانات فى سبيل استرضاء البابا واتباعه " 230"(2/45)
ولكن الملوك والأباطرة أخذوا آخر الأمر يتمردون على ذلك السلطان القاهر الذى تستذلهم به الكنيسة ، ويطالبون " بالسلطة الزمنية " خالصة لهم على أن تقتصر الكنيسة على السلطة الروحية فحسب ، وكان مستندهم فى ذلك نظرية الحق الآلهى المقدس .
يقول رندال (ج 1 - ص 277 من الترجمة العربية لكتاب " تكوين العقل الحديث " ) :
" نشأت نظرية الحق الالهى للملوك فى أول عهدها كمحاولة لتحرير الحكومة المدنية ، أو العلمانية من رقابة البابا والكهنة . كما أنها كانت ردا على دعواه أن له حقها إلهيا فى السيطرة على الأمور الزمنية " .
ونظرية الحق الالهى تستند بدورها إلى نظرية رومانية قديمة تعرف بنظرية العقد الاجتماعى .
يقول راندال (ج 1 - ص 281 من الترجمة العربية من المصدر السابق) :
" تعود أصول فكرة العقد الاجتماعى إلى الفكر الرومانى وفكر القرون الوسطى معا . وقد كانت الإمبراطورية الرومانية - كما ضمنت فى مجلة الحقوق المدنية - على القول بأن كل السلطة وكل حق فى وضع القوانين يعودان للشعب الرومانى ، غير أن الشعب تنازل بموجب قانون شهير عن هذه الحقوق للإمبراطور ، وهو تفسير طبيعى لمجرى التاريخ الرومانى ، فجميع حقوق الشعب الرومانى وجميع سلطاته انتقت إلى الإمبراطور ، وله وحده حق " إصدار " القوانين وحق تفسيرها . وعندما تم إحياء القانون الرومانى فى القرون الوسطى ، انتبه الإمبراطور إلى هذه النظرية واتخذها سلاحا ضد سيطرة الكنيسة ، ثم تبعه فى ذلك جميع الأمراء . وهكذا نشأت نظرية العقد الاجتماعى القائلة بأن كل سلطة مدنية ترتكز فى أساسها على الشعب ، وأن الشعب قد حولها إلى الحاكم ليمكنه من القيام ببعض الوظائف الضرورية . ومن الواضح أنها نظرية ذات حدين .. فقد تفسر لتأكيد سلطة الحاكم الشاملة باعتباره مصدر جميع السلطات ، أو لتأكيد سيادة الشعب الأساسية باعتباره المصدر الأخير لتلك السلطة .. "(2/46)
وكان " مكيافيللى " و" هوبز " من أشهر المدافعين عن الحق الالهى المقدس ، وعن استبدادية الحكام .
ويهمنا مكيافيللىهنا أكثر ، لأنه علم على اتجاه معين فى السياسة الأوروبية نلحظ آثاره بشدة فى أوروبا العلمانية المعاصرة .
هناك حقيقة أكدناها مرارا أن الحكم بما أنزل الله لم تعرفه أوروبا المسيحية فى أى يوم من الأيام ، وأن علمانية الحكم - بهذا المعنى - قائمة فى أوروبا منذ اعتنقت المسيحية . ولكن هذا لم ينف - كما بينا مرارا كذلك - أنه كان للكنيسة ورجالها نفوذ شخصى على الملوك والأمراء طيلة اجتماع السلطة الزمنية والسلطة الروحية فى يد الكنيسة . وفى تلك الفترة لم يكن الحكم دينيا بالمعنى الصحيح - وإن سمته أوروبا كذلك - لأنه لم يكن يحكم بما أنزل الله لا من قبل الملوك والأمراء ولا من قبل الكنيسة المسيطرة عليهم . ومع ذلك فقد كان هذا النفوذ الدينى الذى تمارسه الكنيسة على الحكام يلزم هؤلاء الحكام بشئ من " أخلاقيات " المسيحية رضوا أم كرهوا ، عن إيمان حقيقى أم عن ملق للروح المسيحية ونفاق ..
وليس معنى ذلك أن الحكام التزموا دائما بتلك الأخلاقيات المسيحية ، فكثيرا ما كانوا يخالفونها ، ولكنهم كانوا يحسون بالحرج من مخالفتها ، ويعتذرون دائما عن المخالفة بشتى المعاذير .
فالذى صنعه ميكافيلى هو تعرية " السياسة " من ذلك القناع الأخلاقى المستمد من الدين ، وكشفها عارية من كل أثر لدين أو الأخلاق !
جاء يشرع الجريمة السياسية ويجعلها أصلا ينبغى للحكام أن يتبعوه !س(2/47)
ولقد كان الحكام - إلا من رحم ربك - يسرون فى سياستهم على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة ، والغاية طبعا هى غايتهم هم ! ولكنهم كانوا - حين يستخدمون الوسائل غير النظيفة لتحقيق غاياتهم غير النظيفة - يستترون وراء عبارات براقة تحوى كل نبيل منا لقيم والمبادئ والأخلاقيات ، أما مكيافيللىفإن الجديد الذى أتى به - وهو خطير فى ذاته - أنه أعطى الوسائل الخسيسة فى السياسة شرعية صريحة لا مواربة فيها ولا إنكار .
ولقائل أن يقول : وماذا أضاف مكيافيللى من عنده إلى الواقع ؟ ألم يكن الواقع خسيسا فى غاياته ووسائله ؟ فكل ما فعل مكيافيللى أنه كان صريحا بالدرجة التى كشف بها القناع عن الواقع المزيف وجعله حقيقة واقعة !
نعم : ولكن الفارق - العملى - كبير !س
وقد لا يتضح الفرق فى البداية لأن البداية تكون مجرد مطابقة النظرية للواقع الموجود بالفعل . ولكن الفارق يتبين - ويزداد - مع التطبيق .
حين ترتكب المنكر وأنت شاعر بأنه منكر ، فستقتصد فى ارتكابه فلا تلجأ إليه إلا تحت ضغط قاهر ، وستقف فى ارتكابه عند الحد الذى ترى أنه لا يطيح بسمعتك كلها أمام الناس ، وقد تحاول الرجوع عنه فى يوم من الأيام . أما حين يكتسب المنكر فى حسك الشرعية فلماذا تقتصد فى ارتكابه ، ولماذا تقف عند حد من الحدود ؟!
إنها هى ذاتها حكمة وقوع اللعنة على الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه .. لأنهم لا يقفون فى ارتكاب المنكر عند حد معلوم .(2/48)
وحقيقة إن كتاب " الأمير " الذى ألفه مكيافيللى وأعطى فيه الشرعية للوسائل الخسيسة التى يستخدمها الحاكم من كذب وغش وخديعة وقتل وسفك دماء .ز قد قوبل باستنكار عنيف وقت ظهوره ، لأن أوروبا - كما أسلفنا - كانت نافرة من الدين منسلخة منه ، ولكنها ما تزال تعترف " بالقيم " ، وتحاول الحفاظ عليها ، ولكن بشرط العثور على منبع آخر لها غير الدين .. ومن ثم ظهرت عدة نظريات تحاول أن تجعل للحكم " أخلاقا " ولكنها غير مستمدة من الدين ، كما فعل جان جاك روسو فى حديثه عن نظرية العقد الاجتماعى وأوجست كومت فى فلسفته الوضعية ..
ولكن المنزلق " العلمانى " كان لابد أن يأخذ طريقه .. فمنذ استقلت السياسة عن الدين واستقلت عن الأخلاق المستمدة من معين الدين ، لم يكن من الممكن أن تظل لها أخلاق !
والقرن - الجاهلى - العشرون خير نموذج لما نقول ، فقد قامت فى هذا القرن أبشع دكتاتوريات التاريخ !
ونظرة إلى وقع ايام موسولينى وهتلر ، وما وقع فى الدول الشيوعية منذ الثورة الشيوعية حتى اليوم ، كفيلة بأن ترينا إلى أى مدى انحدرت السياسة " العلمانية " فى تبرير الوسيلة بالغاية ، وكلتا الوسيلة والغاية ما أنزل الله بها من سلطان !
فى فاشية موسولينى ونازية هتلر كانت الغاية هى التجمع القومى والعزة القومية وإحلال قومية كل منهما مكانها " تحت الشمس " !
وفى سبيل هذه الغاية (التى قد تكون مشروعة فى ذاتها إذا خلت من العدوان على الآخرين) استباح كل من الرجلين أن يقتل ألوفا ومئات الألوف من المعارضين باسم " حركات التطهير " و" وحدة الصف " و" القضاء على الثورة المضادة " و" القضاء على الطابور الخامس " وما أشبه ذلك من التعلات . وفتحت معسكرات التعذيب ، وذاق الشعب كله ويلات الجاسوية والإرهاب .(2/49)
وفى التورة الشيوعية كانت الغاية إزالة الظلم (!!) الذى يقع على الناس من جراء الملكية الفردية والصراع الطبقى واستئثار الطبقة المالكة بالحكم والسلطان والمنافع على سحاب الطبقة الكادحة ! وقد مر بنا فى فصل الشيوعية وصف العدل (!) الذى طبقته الشيوعية ، والوسائل النبيلة (!) التى طبقت بها ذلك العدل ، ومن بينها ذبح ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين فى عهد رجل واحد .. وإخضاع الشعب كله لألوان من الإرهاب نادرة فى التاريخ !
أما الديمقراطية اللبيرالية الرأسمالية فهى التى تبيح احتراف المعارضة واحتراف التأييد بحسب موضع كل حزب منا لحكم : هل هو بداخله أم خارجه ، بصرف النظر عن الحق والعدل والمصلحة الوطنية أو القومية .. وتبيح الكذب من الساسة على شعوبهم فى الدعاية الانتخابية (وغير الانتخابية) وتبيح استخدام وسائل استراق السمع بحجة المحافظة على الأمن ، وهى تقوم أساسا على مساندة الطبقة الرأسمالية فى امتصاص دماء الكادحين وإن أخرجت ذلك كله فى مسرحية طريفة اسمها " الحرية والإخاء والمساواة " ! وهذا كله فى السياسة الداخلية ..
أما فى السياسة الخارجية فالأمر أدهى وأمر .
فالقرن الجاهلى العشرون هو الذى شهد ابشع حالات قانون الغاب : القوى يأكل الضعيف !
فى حربين عالميتين متتاليتين شهد الناس أفظع فنون العدوان فى التاريخ ، من غازات سامة وقنابل محرقة وتدمير جماعى وقتل للنساء والأطفال والشيوخ والمدنيين غير المحاربين .. إلى أن كانت القمة قنبلتى هيروشيما ونجازاكى الذريتين ، اللتين ما تزالان حتى اليوم بعد أربعين سنة من إلقائهما تنتجان أجنة مشوهة بفعل الإشعاع الذى السام ، وذلك غير الخراب المدمر الذى أحدثتاه وقت إلقائهما فى مساحة كبيرة من الأرض قتلتا فيها كل من عليها من الأحياء من البشر والدواب والشجر ، وحرمتا الحياة فيها لأجل غير معلوم !(2/50)
والقنبلة الذرية لعبة صغيرة إلى جوار المدمرات التى اخترعت بعد ذلك ، والتى تهدد الحياة فى أى حرب تالية تقوم بين الجيوش ويصلاها الآدميون !
وذلك إلى إباحة الكذب الدولى والخيانة على أنهما عملة " شرعية " فى عالم السياسة الدولية !
تبرم المعاهدات لكى تنقض ! ويعلم المبرمون جميعا أنها حبر على الأوراق ! وأنه لن يتقيد بها أى طرف إلا ريثما يجد الفرصة السانحة للخروج عليها وإلقائها طعمة للنيران !
وتتكون عصبة للأمم وهيئة للأمم كلتاهما ستار للسياسة العدوانية التى تتخذها " الدول العظمى " ضد الدول الصغار ! وانظر موقف هيئة الأمم " الموقرة " من أية قضية يكون المسلمون طرفا فيها أمام غير المسلمين ! يقع العدوان على المسلمين فى أى مكان فى الأرض فتمرره الهيئة الموقرة باحتجاج شفوى على أقصى تقدير لا يغير شيئا من الواقع ولا يسمن ولا يغنى من جوع ! ويقع الدفاع من المسلمين ضد أى عدوان واقع عليهم فتجند هيئة الأمم قواتها لتأديب المدافعين ! لأنهم تجرءوا فردوا على المعتدين !س
وذلك بخلاف الوسائل الفردية التى تستخدمها " الدول العظمى ! " بطريقها المباشر لتنفيذ " غاياتها " النبيلة !
حين قامت ثورة المجر سنة 1956 ميلادية وجدت روسيا فى نفسها من " النيل " ما تحرك به الدبابات الشاهقة تهدم به البيوت على أصحابها أحياء وتردمهم فى الركام لأنهم تجرءوا فطلبوا أن يمنحوا حرية التصرف بأنفسهم فى أمر أنفسهم دون وصاية الدولة الروسية عليهم .. فهل تقاوم الردة إلا بالقتل الجماعى ؟! إلا أن تكون ردة عن دين الله ! فما أشد همجية المقاتلين يومئذ إذا قاموا يقاتلون المرتدين ويدعونهم إلى الرجوع فى دين الله !(2/51)
كذلك حين قام الأفغانيون يقولون نريد أن تكون لنا الحرية فى أن تكون مسلمين ! فما " أنبل " الجيوش الروسية التى تصب فوقهم القنابل السامة وقنابل النابالم والتدمير الجماعى للقرى وتحريق المزروعات من الجو وحرب الجراثيم وكل محرم فى عرف " الإنسان " ..
أما المخابرات الأمريكية فالأرض كلها مجال لمؤامراتها بغير حساب ..
نريد انقلابا هنا .. ونريد تغييرا هناك !
وسرعان ما تنقلب الأرض وتتغير الأحوال !س
وكل الوسائل حلال !
الكذب والغش والتصفية الجسدية وشراء الضمائر بالمال !
المهم أن تنفذ الغاية .. والغاية والوسيلة كلتاهما غارقة فى الأوحال !
يقول كاتب غربى مشيرا إلى هذه الحقائق بلسان ساخر :
" بعض الناس يقض مضاجعهم ما يقترفه العالم الرأسمالى من جرائم وآثام ، فيظلون عميا لا يرون جرائم البلشفية وإفلاسها .. وكثير منهم يستغلون نقائض العالم الغربى ليصرفوا الانتباه عن فظائع موسكو البشعة .. أما أنا فأقول : لعن الله كليهما " " 231"
(2) فى الاقتصاد :
لم يكن النظام الإقطاعى متمشيا مع الدين الربانى فى صورته ومضمونه ، وال كانت فيه أى ذرة من العدل ، وإن كانت الكنيسة أوهمت الناس أنه هو النظام الربانى الدائم الثابت الذى لا يتغير ، لأن أوضاع الناس فيه هى الأوضاع التى قدرها الله منذ الأزل ورضى عنها ، واقتضت مشيئته أن يظل الناس عليها إلى الأبد ! وأنه من رضى بما فيه من هوان ومذلة وشظف ومشقة فقد استحق من الله الجنة والرضوان !(2/52)
ولكن الناس حين خرجوا من الدين على خط العلمانية لم يستبدلوا بالإقطاع ما هو خير منه ، سواء فى الرأسمالية أو الشيوعية ، بل ظلوا ينتقلون من جاهلية إلى جاهلية حتى هذه اللحظة ، وكلما حاولوا أن يصلحوا الظلم جاءوا بظلم جديد . وهذا هو شأن البشر دائما حين يشرعون لأنفسهم ويرفضون الهدى الربانى ، ينقسمون أولا إلى سادة وعبيد ، سادة فى أيديهم المال والسلطان ، يشرعون ، وحين يشرعون فإنهم يضعون القوانين التى تضمن مصلحتهم وتسخر الآخرين لهم ، وعبيد ليس فى أيديهم مال ولا سلطان ، فلا يشرعون ، إنما يقع عليهم ما يضعه السادة من تشريعات ، ويسخرون - رضوا أم أبوا - لمصلحة أصحاب السلطان .. ومن جهة أخرى يصيبهم الخبل والاضطراب والتخبط نتيجة القصور البشرى والجهل البشرى والعجز عن الإحاطة والعجز عن رؤية المستقبل الذى ينبنى على الحاضر ، نعم ، ولكنه مع ذلك غيب لا يمكن التنبؤ به عن يقين .(2/53)
ولم يكن الإقطاع - كما أسلفنا - نظاما ربانيا ، ولا كانت فيه ذرة من عدل .. ولكن النفوذ الذى كان للدين على القلوب - مع كل ما كان فى ذلك الدين من تحريفات ، وفى أهله من فساد - كانت له جملة من الآثار فى أهل الريف الأووربى الذى يعيش فى ظل الإقطاع . فمن جهة كان عند الناس " أخلاق " يتعاملون بها ، مستمدة من تعاليم ذلك الدين ، وكانت هذه الأخلاق أبرز ما تكون فى قضية العفة الجنسية وقدسية الرباط المقدس بين الزوجين ، وكانت كذلك تشمل حسن الجوار وترابط أفراد المجتمع عن طريق التزاور والمجاملات الاجتماعية ، ومن جهة أخرى كان فى نفوس الناس رضى وقناعة تجعل الحمل العصبى الذى يعانونه محتملا فى النهاية رغم سوء الأحوال الاقتصادية إلى أقصى حد .. وما بنا أن ندافع عن الظلم المتمثل فى الإقطاع ، ولا حتى عن الرضى الذليل الذى كانت الكنيسة تطلبه من الفلاحين مقابل الوعد بنعيم الآخرة ، فإن الدين الصحيح يطلب من الناس أن يثوروا على مثل ذلك الظلم ويصححوه بتحكيم شريعة الله . ولكنا نقرر واقعا تاريخيا كان قائما بالفعل بخطئه وصوابه ، لنقيس به الواقع التاريخى الذى تلاه على خط العلمانية حين خرج الناس من نفوذ ذلك الدين .. فقد بقى الظلم - من يحث المبدأ - كما هو ، ولكن ذهبت الأخلاق ، وذهب الرضى من نفوس الناس ! واصبح الحمل العصبى الذى يعانونه أبشع من أن يطاق ! فانتشر الجنون والقلق والانتحار والحالات العصبية والنفسية وإدمان الخمر والمخدرات والجريمة ..
لم تكن " المكيافيللية " فى الحقيقة مقصورة على عالم السياسة . إنما كانت دينا جديدا حل محل الدين المخلوع ! الغاية تبرر الوسيلة . لا فى السياسة فقط ، ولكن فى الاقتصاد والاجتماع كذلك .. بل فى كل شئ تدخل فيه الوسائل والغايات ..(2/54)
يقول " سول " فى كتاب " المذاهب الاقتصادية الكبرى " (ترجمة الدكتور راشد البراوى ، ص 50 - 51 من الترجمة العربية) عن الفترة التى نبذ فيها الدين ولكن ظلت بقايا القيم - قبل اندثارها - يبحث الناس لها عند سند غير الدين :
" سيطرت فكرة الآخرة على المذاهب السائدة خلال العصور الوسطى وإن لم تسيطر على العادات والتقاليد ، والمجال الدنيوى بما فيه الحياة الإنسانية نفسها ليس سوى مكان يستعد فيه الناس للحياة بعد الموت بما يشتمل عليه من ثواب وعقاب ، فكان على المرء أن يتحمل الألم وهو عالم أنه ليس إا مقدمة لما يتوقع فى حياة مستقبلية .. أما الدافع الفكرى على تقويم العادات الاجتماعية أو زيادة الرفاهية الدنيوية فكان ضئيلا ، اللهم إلا من حيث الفائدة الروحية التى يمكن اجتناؤها .
" والآن تحول الاهتمام فأصبح محصورا فى تحسين الحياة على الأرض ، وكشفت العلوم والمخترعات عن إمكانيات الأرض لذاتها ، لقد كانت المكاسب المادية ظاهرة فى كل شئ ، وكان لا حد لها من يحث وجود أساليب أفضل وأيسر لإنتاج الأشياء ، وسرت روح المغامرة .
" وهنا برز السؤال التالى : أليس فى وسع الفلسفة أن تعالج النظم البشرية بنفس الطريقة التى تدرس بها الأشياء المادية ؟
" وكان الجواب بالإمكان . ذلك أن المطلوب إنما هو تطبيق العقل على الأساليب التى يستخدمها الناس كيما يعيشوا (فى الأصل : كيما يعيشون) معا ، وراح الكثيرون يصوغون الخطط والمشروعات التى تكفل قيام الحياة المثالية أو اليوتوبيا .(2/55)
" وصار لزاما على الذين نبذوا الإيمان باله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ، ووجدوه فى الطبيعة .. أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان - وإن لم يكن فى الواقع كما هو أغلبهم - فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها وليس بوسيلة مباشرة . وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شئ له وجود فحسب ، وإنما هو شئ ينبغى أن يطاع ، وصارت مخالفتها دليلا على نقص فى التقوى والأخلاق " .
ويقول راندال فى كتاب " تكوين العقل الحديث " (ج 2 ، ص 468 من الترجمة العربية) عن الفترة التالية التى تم فيها الانسلاخ من القيم كلها بعد فقدان معينها الحقيقى وهو الدين :
" هكذا كان العلم (يقصد علم الاقتصاد السياسى) يبدو فى الظاهر محاولة مجردة عن المصلحة ، للوصول إلى فيزياء اجتماعية للثورة ، لكنه كان فى الحقيقة تبريرا منظما للمطالب التى تهدف إلى زيادة حرية جمع المال وتستعين بالعلوم الجديدة البشرية والطبيعية "
ويقول " روبرت داونز " فى كتاب " كتب غيرت وجه العالم " (ترجمة أحمد صادق وزميله ، ص 73 من الترجمة العربية) :(2/56)
" النظرية الأساسية فى كتاب ثروة الأمم " 232" نظرية ذات نزعة مكيافللية ، وهى أن العامل الأول فى نشاط الإنسان هو المصلحة الشخصية ، وأن العمل على جمع الثروة ما هو إلا مظهر من مظاهرها . وبذلك قرر أن الأنانية والمصلحة الشخصية تكمن وراء كل نشاط للجنس البشرى . وصارح الناس باعتقاده أنها ليست صفات ممقوتة يجب الابتعاد عنها ، وإنما هى على العكس عوامل تحمل الخير إلى المجتمع برمته . وفى رأيه انه إذا أريد توفير الرفاهية للأمة فلابد من ترك كل فد يستغل أقصى إمكانياته لتحسين مركزه بشكل ثابت منظم دون تقيد بأى قيود . فللحصول على غذائنا لا نعتمد على كرم الخمار " 233 " أو الخباز أو الجزار ، وإنما هم يقدمونه لنا بدافع من مصلحتهم الشخصية ، وإنا عندما نخاطبهم لا نتجه إلى ما فيهم من دوافع إنسانية ، وإنما نتجه إلى مصلحتهم المادية ، ولا نكلمهم عن احتياجاتنا ، بل عما يعود عليهم من نفع وفائدة " .
هذه الصورة المادية البحتة هى التى شكلت روح الرأسمالية ورسمت سمات الحياة فى ظلها ، ففقد الناس آدميتهم بالفعل وصاروا إلى ذلك المسخ الذى يعيش اليوم فى الغرب الرأسمالى .
ينقل كنث لن فى كتابه " تطور المجتمع الأمريكى " (ترجمة نعيم موسى - ص 112 من الترجمة العربية) من كلام جروج فيتزهيو ، أحد الذين ساءهم وضع الرأسمالية فى نهاية القرن الماضى ما يلى :
" إننا جميعا فى الشمال والجنوب نعمل فى تجارة الرقيق الأبيض . وبقدر نجاح الشخص فيها يزداد احترامه .. وهذه التجارة أشد قسوة من تجارة الرقيق الأسود لأنها تفرض المزيد من العمل على عبيدها .. وفى الوقت الذى لا تحميهم فيه ولا تسوسهم برفق تفاخر بأنها تفرض المزيد (أى من العمل) ..(2/57)
" نعم إنه (أى العامل) بعد انتهاء عمل اليوم يصبح حرا ، إلا أنه يظل يرزح تحت عبء العناية بعائلته وبيته ، مما يجعل حريته سخرية جوفاء باطلة ، فى حين يبقى رب العمل حرا بالفعل ، ويستطيع أن يتمتع بالأرباح التى جناها من عمل الآخرين دون اهتمام بمصلحتهم ورفاهيتهم ".
أما ما تلا تلك الفترة حتى اليوم فى العالم الرأسمالى فمعروف لا يحتاج إلى بيان .. ففوارق الدخل بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال فوارق بشعة إلى حد مذهل .. ولا يأتى هذا الربح المتضخم - كما أسلفنا فى فصل الديمقراطية - إلا من الوسائل الخسيسة التى تستخدمها الرأسمالية لتحقيق غاياتها الخسيسة ، وكلها محرم فى دين الله :
(1) الربا ..
(2) أكل مال الأجير وعدم توفيته حقه ..
(3) إفساد فطر الناس وأخلاقهم ليقبلوا على منتجات ليس فيها فائدة حقيقية لهم ، ولكنها تدر على الرأسماليين أرباحا طائلة لا تدرها المنتجات الجادة التى يحتاج إليها الناس حقا فى حياتهم النظيفة المستقيمة .
(4) وأخيرا الاحتكار ..
والنتيجة الأخيرة التى تحققها الرأسمالية العلمانية من طرفيها المتمثلين فى أصحاب رؤوس الأموال والعمال ، هى الفساد الخلقى الفاحش ، والقلق العصبى الذى يؤدى إلى الانتحار والجنون والخمر والمخدرات والجريمة وتفكك الأسرة وتشريد الأطفال والهبوط المستمر بالإنسان إلى عالم الآلة وعالم الحيوان ..
أما الشيوعية فربما كانت أسوأ بديل عرفته البشرية إلى اليوم ..
حقيقة إن الشيوعية هى النظام الجاهلى الوحيد - حتى اليوم - الذى فرض على الدولة كفالة كل فرد يعيش فى ظلها ، ولكن ذلك - كما أسلفنا - لم يكن كرما إنسانيا منها ، فهى تأخذ مقابل ذلك الجهد الفرد كله ، و" من لا يعمل لا يأكل " على الحقيقة لا على المجاز . ثم إن الدولة تستذل الناس بلقمة الخبز على نحو غير مسبوق فى كل النظم التى مرت بها الجاهلية البشرية على الأقل فى التاريخ الحديث .(2/58)
وربما كان من الحق أن الناس كانوا دائما فى جاهليات التاريخ مستذلين بلقمة الخبز ، يبيعون مقابلها بعض كرامتهم أو كلها ، وبعض إنسانيتهم أو كلها .. ولكن النظام البوليسى الصارم الذى يحكم الناس بالحديد والنار والتجسس ، ويمنع الناس بالرعب و الإرهاب أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة ضد الدولة أو الزعيم المقدس أو المذهب أو النظام .. إنه ليفرض على الناس - مقابل لقمة الخبز - قدرا من الذل ومن ضياع الكرامة الإنسانية لا مثيل له - فى نوعه ودرجته - فى كل النظم التى تزعم أنها نظم " حضارية " على مدار التاريخ !
وهذا فوق التفرقة الضخمة فى كل جانب من جوانب الحياة بين أن يكون الإنسان مجرد فرد فى القطيع ، وبين أن يكون عضوا فى الحزب ولو فى أسفل درجاته فضلا على الدرجات العليا .
يقول " ميليوفان دجيلاس " نائب الرئيس " تيتو " فى كتاب " الطبقة الجديدة " :
" إن الطبقة البيروقراطية الشيوعية الجديدة صاحبة الامتيازات الضخمة تستخدم جهاز الدولة كستار وأداة لتحقيق مآربها وأغراضها الخاصة .. وإذا ما عدنا لدراسة الملكية فإننا سنجدها ليست أكثر من حقوق الربح وحرية السيطرة ، وإذا ما اتجه المرء إلى تحديد ربح الطبقة من خلال هذه الحقوق فى إطار تلك الحرية فإن الشيوعية تتجه فى النهاية إلى خلق شكل جديد من أشكال الملكية وخلق طبقة حاكمة مستثمرة جديدة.
" إن الطغيان الشيوعى والإرهاب فى أساليب الحكم هما الضمانة لامتيازات طبقة جديدة تبرز على المسرح السياسى " .
" لقد سبق أن أعلن ستالين عام 1936 مع صدور الدستور الجديد للاتحاد السوفيتى أن الطبقة المستثمرة قد تم القضاء عليها نهائيا .. وفى الحقيقة لقد تم فى المعسكر الشيوعى القضاء التام على قوى الرأسمالية الوطنية التى استؤصلت تماما من الجذور . ولكن مع زوالها بدأت تبرز فى صلب المجتمع الشيوعى طبقة جديدة لم يسبق للتاريخ أن رأى مثيلا .(2/59)
" ولقد أكدت هذه الطبقة أنها أكثر تسلطا فى الحكم من أى طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ ، كما أثبتت فى الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام ، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم فى مجتمع طبقى جديد.
" لقد تم تأميم المقدرات المادية إلا أنه لم يجر توزيعها على أبناء الشعب ، بل أصبحت ملكا مكتسبا للطبقة الحاكمة وللأعضاء القياديين للحزب والبيروقراطيين السياسيين "
" لقد حاز الأعضاء الكبار من أفراد النخبة الممتازة أفضل المساكن والبيوت كما شيدت لهم الأحياء الخاصة ومنازل الاصطياف ، وحصل أمناء سر الحزب ورؤساء البوليس السرى ليس على السلطة العليا وحسب ، إنما على أجمل المساكن وأفخم السيارات وسواها من مظاهر الأبهة والعظمة والامتيازات ، أما بقية الأعضاء من دونهم فقد حازوا امتيازات متناسبة مع مراكزهم الحزبية "
" وليس هناك أية طبقة أخرى فى التاريخ تشابه الطبقة الجديدة فى وحدة تماسكها ، ووحدة الفكر والعمل فى دفاعها عن نفسها ، وفى قدرتها على إحكام القبضة على كل ما هو واقع تحت سيطرتها منا لملكية الجماعية حتى السلطة الاستبدادية المطلقة " " 234"
وأما " الأخلاق " فى ظل الاقتصاد العلمانى الشيوعى فلا مجال للحديث عنه بعد الذى فصلناه فى فصل " الشيوعية " . ولسنا نقول : إن هناك " أخلاقا " أفضل منها فى ظل الاقتصاد العلمانى الرأسمالى . كلاهما بلا أخلاق ، كلا المعسكرين يهبط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان . فإذا كان هناك فارق بين الحيوانات السائبة والحيوانات المقيدة داخل الحظيرة فهو الفرق بين التسييب والتقييد .. وليس فارقا فى " نوع " الحيوان ..
(3) فى الاجتماع :(2/60)
كان الإقطاع ظالما كما قلنا ، ولكن بعض الجوانب الاجتماعية فيه كانت تحكمها أعراف مستمدة من روح الدين .. ومن ذلك الحفاظ على الأسرة ، والزواج المبكر ، وقوامة الرجل وقيامه بالإنفاق ، واستقرار المرأة فى بيتها ، وتفرغها للأمومة وتدبير المنزل ورعاية النشء ، ومحافظتها على عرضها قبل الزواج وبعده ، واعتبار ذلك جزءا من مقومات الأسرة وركنا أساسيا من أركانها ، والتعاون بين أفراد المجتمع .. وما إلى ذلك من العلاقات الاجتماعية القائمة على وصايا الدين .
ولكن ذلك كله لم يعجب المنسلخين من الدين فقرروا تغييره ، وإنشاء بديل منه لا يقوم على أساس الدين !
كان التغيير فى المبدأ هو تغيير " السند " أو " المنبع " مع محاولة المحافظة على شئ من الأخلاق ، أى البحث عن منبع آخر للقيم الاجتماعية غير الدين .. فليكن هو " الطبيعة " أو يكن هو " النفس الإنسانية " ذاتها .. المهم ألا يكون المنبع هو الدين ، ولا يكون المرجع الذى تستمد منه القيم هو الوحى الربانى !
ولكن القيم لم تكن لتستمر فى فاعليتها بعد أن تنقطع عن معينها الحقيقى وهو الدين والوحى الربانى ..
ثم إن الهزات العنيفة التى أحدثتها الثورة الصناعية جاءت والقيم مهتزة بالفعل ، قائمة على غير أساس حقيقى يقيها من الهزات . فإذا انهارت هذه القيم سريعا فلا عجب .. وإذا أفلح الشريرون فى هدمها بوسائلهم الشريرة بعد أن استعصت عليهم خلال عدد متطاول من القرون فلا عجب كذلك .. فالجدار القائم على غير أساس ينتظر من يهزه ليسقط إا لم يتداع من تلقاء نفسه ، بينما الجدار القائم على أساس متين لا يتزلزل إلا بالجهد الجهيد .
جاءت الثورة الصناعية " فتحررت " المرأة .. أى استعبدتها (والرجل كذلك) لأغراضها الخاصة . وكانت " أغراضها " قدرا من الشر لا يخطر على بال إنسان ..
تحررت المرأة فتحلت من القيود كلها ، وفى مقدمتها قيود الدين وقيود الأخلاق .(2/61)
وطالبت بالمساواة الكاملة مع الرجل فرفضت أن يكون قيما عليها لأن القوامة لا تصلح بين الأنداد !
واشتغلت ، فانشغلت عن مهمتها الأولى فى تربية النشء ..
وتفككت الأسرة وانحل البيت وتشرد الأطفال ، وتكونت منهم عصابات جانحة ترتكب الجرائم لمجرد سد الفراغ .
وانحلت روابط المجتمع فصار كل إنسان يعيش وحده .. حتى الأسرة .. الزوج له عمله ومغامراته ، والزوجة لها عملها ومغامراتها .. والأولاد يغادرون البيت فى سن معينة ولا يعودون بعد ذلك ، ولا يربطهم بالأب والأم رباط ، إلا زيارات خاطفة فى مناسبات متباعدة فى أحسن الأحوال .. ويكبر الأبوان فى تلك العزلة الباردة فلا يجدان من يطرق عليهما الباب .. فينشدان سلواهما فى الكلاب !
وانتشر الشذوذ لأسباب كثيرة ، من بينها - كما يقولون هم بأفواههم - رفض المرأة للقوامة وضياع سيطرة الأب ..
وفى جانب آخر من الأرض قامت " فلسفة " بشرية مغايرة ، وإن كانت تشترك مع سابقتها فى كثير من السمات !
تشترك معها فى إخراج المرأة من البيت وشغلها عن الأسرة والأولاد .
وتشترك معها فى تحطيم كيان الأسرة ..
وتشترك معها فى حل روابط المجتمع ..
ولكنها تختلف عنها فى الطريقة !
فى الأولى يتم تحطيم المجتمع عن طريق تضخيم الفرد وجعله هو الأساس . فيتحطم المجتمع نتيجة المبالغة فى إحساس الفرد بذاتيته الزائدة عن الحد .
وأما الثانية فتجعل المجموع هو الأساس إلا الفرد ، فتسحق الفرد من أجل المجموع ، ثم تعود فتحطم المجتمع نتيجة تحويله إلى مجموعة من الأصفار كل منهم بلا مشاعر ولا كيان !
(4) فى العلم :(2/62)
بدأ الصراع بين الدين والعلم حين هاجمت الكنيسة العلماء الذين قالوا بكروية الأرض وهددتهم بالحرق أحياء فى الأفران .. وكانت الكنيسة هى المعتدية بلا شك ، وكانت حماقة شنيعة منها أن تقف هذا الموقف من أمور علمية بحتة ، يخطئ العلماء فيها أو يصيبون ولكنها تظل فى دائرة العلم لا يتدخل فيها " رجال الدين " لأن الدين الصحيح لم يحرم البحث العلمى ، وإنما لفت نظر البشر إلى آيات الله فى الكون ، وقال لهم تفكروا فيها وتدبروا لتعرفوا قدرة الخالق العظيم ، دون أن يقيدهم بنظرية معينة فى تفسير ظواهر الكون ، بل ترك ذلك للعقل البشرى يحاول فيه بقدر ما يطيق ..
ولكن الاحتجاج بحماقة الكنيسة لفصل الدين عن العلم أو بذر بذور العداء بين الدين والعلم كان فى ذاته حماقة أشد !
فلتكن الكنيسة حمقاء بقدر ما تكون .. ولكن الفطرة السوية لا تفصل بين الدين والعلم ، لأن كلا منهما نزعة فطرية سوية لازمة للكيان البشرى ، ولازمة لمهمة الخلافة التى وجد الإنسان من أجلها فى الأرض .
الإنسان عابد بطبعه ، راغب فى المعرفة بطبعه ..
ولا تعارض فى الفطرة السوية بين نزعة العبادة ونزعة المعرفة ، ولا بين الإيمان بالغيب والإيمان بما تدركه الحواس .
ولقد خلق الله الإنسان ليعبده :
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [سورة الذاريات 51/56]
وجعل من بين العبادة عمارة الأرض :
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
وجعل من الأدوات المعينة على عمارة الأرض العلم النظرى فى صورة " معلومات " عن الكون ، والعلم التطبيقى فى صورة تسخير طاقات السماوات والأرض للإنسان .
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق 96/4-5](2/63)
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)} [سورة الإسراء 17/12]
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [سورة الجاثية 45/13]
ومن هنا يكون العلم ذاته جزءا من العبادة المطلوبة من الإنسان ، يستوى فى ذلك العلم بأمور الدنيا والعلم بأمور الدين ، فإن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى تحتاج إلى هذا العلم وذاك .. العلم الدنيوى من أجل العمارة المادية . والعلم الدينى لجعل هذه العمارة المادية مستقيمة على المنهج الربانى ، وتلك هى الخلافة الراشدة المطلوبة من الإنسان .
من أجل ذلك لا يوجد فى الدين الصحيح ولا فى الفطرة السوية تعارض ولا تنازع ولا خصومة بين الدين والعلم ! إنما تعمل نزعة العبادة ونزعة المعرفة فى تناسق كامل فى النفس السوية دون قلق ولا حرج ولا تصادم ولا نزاع ..
وكذلك قامت الحركة العلمية الهائلة التى قامت فى العالم الإسلامى فى ظل العقيدة ، بل بدافع من العقيدة ! فمن المعلوم من التاريخ أن المسلمين لم يصبحوا أمة علم إلا بعد أن دخلوا فى الإسلام !(2/64)
ولقد كان النموذج الإسلامى قائما حول أوروبا من الشرق والغرب والجنوب .. بل إن أوروبا لم تعرف العلم الحقيقى إلا حين أرسلت أبناءها يتعلمون فى مدارس المسلمين فى الأندلس والشمال الإفريقى وصقلية الإسلامية ، فلئن كانت الكنيسة قد ارتكبت حماقتها بمعاداة العلم والعلماء ، فلقد كان الحل هو نبذ دين الكنيسة الفاسد لا نبذ الدين كله ، وقد رأوا نموذجا مفلحا ومثمرا منه فى العالم الإسلامى .. ولئن كانت " المكايدة " قد أصبحت هى العملة المتبادلة بين الكنيسة من جهة والعلماء من جهة ، فلقد كان المقتضى السليم لذلك هو أن يرد العلماء للكنيسة إلهها الزئاف الذى تعذب العلماء باسمه وتطاردهم ، ويفروا إلى الله الحق الذى وجدوه معبودا عند أولئك العلماء الأفذاذ الذين تتلمذوا عليهم وتعلموا العلم على أيديهم ، والذى وجدوا العبادة الصحيحة له تخرج مثل هؤلاء الأفذاذ ، وتتيح لهم حرية البحث العلمى بلا قيود .
ولكن رد الفعل للحماقة التى ارتكبتها الكنيسة كان حماقة جديدة ارتكبها " العلماء " !
لقد كانوا معذورين فى أن يتشككوا فى كل حرف تقوله الكنيسة وتزعم أنه من عند الله ، وفى أن يبدأوا العلم كله من نقطة الصفر ، ويجربوا لأنفسهم ليثبتوا .. فهذا على أى حال هو المنهج العلمى الصحيح الذى تعلموه على أيدى أساتذتهم المسلمين . وكلنهم غير معذورين حين تصل بهم حقائق العلم إلى رؤية القدرة المعجزة للخالق ، فيلوون رؤوسهم فى كبر ، أو يهزون أكتافهم فى استهتار " غير علمى " ! ويقولون إنه ليس الله ، ولكنه الطبيعة !
هنا الحماقة التى لا يبررها شئ .. لا الأمانة العلمية ولا الإنسانية الحقيقية للإنسان !
ولكن أوروبا بدأت من هذه الحماقة ثم لجت فيها إلى أبعد الحدود ..
مجرد ذكر اسم الله فى البحث العلمى يعتبر إفسادا للروح العلمية ، ومبررا لطرح النتائج العلمية كلها ولو كانت كلها صحيحة بمقياس العلم ذاته الذى جعلوه إلها من دون الله !(2/65)
بل مجرد الاعتقاد بوجود الله ، وأنه هو خالق الخلق وخالق الكون كفيل بإخراج العالم من دائرة العلماء الذين يعتد بهم ويؤخذ بآرائهم ولو كانت آراؤه صحيحة بمقياس البحث العلمى ، بل إنه يحيط ذلك العالم بالارتياب والشك فى كل ما يقول ، ويجعله موضع الزراية من العلماء " الحقيقيين " ! الذين لابد أن يكونوا ملحدين لتكون آراؤهم موضع التسليم !
أى زراية بالعلم ذاته تؤدى إليه هذه الحماقة ؟!
بل أى روح " غير علمية " تلك التى تسيطر على " العلماء " فى تلك الجاهلية التى تقوم باسم العلم ؟!
ما التعصب إذن ، وما فقدان " الروح العلمية " والأمانة العلمية إذا كان هذا علما وأمانة وروحا علمية؟
وأى انتكاسة فى عالم " القيم " وعالم " الإنسان " أكبر من تلك الانتكاسة الشنيعة التى ترفض " الحقائق " بمجرد الأهواء ؟!
وكيف - كما قلنا من قبل - كيف يكون الشئ ذاته صحيحا " وعلميا " إذا نسب إلى الطبيعة وغير صحيح وغير علمى إذا نسب إلى الله ؟! ويكون هذا هو الشرط الذى لا يقبل غيره للدخول فى مجال العلم والعلماء ؟!
وكيف يتأتى لهذه الجاهلية أن تفصل - فى النفس الواحدة - بين نزعتين فطريتين : نزعة العبادة ونزعة العلم ، فتقول للناس : إذا أردتم الله فاتركوا العلم وإذا أردتم العلم فاتركوا اله ، وتسمى هذا " علما " و" روحا علمية " ؟ وما الفرق بين هذه الحماقة وحماقة الكنيسة التى من أجلها حاربها العلماء ؟!
ألم تقل الكنيسة نفس القولة ولكن من الجانب الآخر ؟! قالت ك إذا أردتم الله فاتركوا هذا العلم ، وإذا أردتم هذا العلم فأنتم خارجون على الله !
وحين نستبدل حماقة بحماقة هل نكون راشدين ؟ وهل يحق لنا أن نستعلى بحماقتنا على حماقة الآخرين ؟!(2/66)
على أن الحماقة البديلة لا تقف عند حد تمزيق البشرية بين نزعتيها الفطريتين ، مما يشكل سببا من الأسباب الكثيرة للاضطراب والقلق النفسى والعصبى الذى تعانيه الجاهلية المعاصرة . إنما يستخدم العلم عن قصد فى إفساد العقيدة وإفساد الأخلاق ..
فبين الحين والحين تخرج " أبحاث علمية " كاذبة - ويعلم أصحابها أنهم كاذبون - تزعم أن الإنسان قد " خلق " الخلية الحية فى المعمل ! وتسفر الحقيقة بعد الاستفسار والتقصى أنهم أعادوا تركيب خلية حية فى المعمل من أجزاء حية أخذت من مجموعة من الخلايا الحية !!
ولكن هذا الدجل " العلمى " يراد به أن يقال للناس ها هو ذا الإنسان قد خلق فلم تعد هناك ضرورة للخالق ! أى يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد فى الأرض ، وتتقبله المجلات " العلمية " الرصينة التى ترفض أى بحث علمى يذكر فيه اسم الله !
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [سورة الزمر 39/45]
وسيظل التحدى الربانى قائما فى وجه الملحدين :
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35)} [سورة الطور 52/35]
وكما يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد تستخدم ثمار العلم لإفساد الأخلاق . وأوضح الأمثلة على ذلك حبوب منع الحمل التىي قول الأطباء " الأمناء " - وقليل ما هم - إنها ليست مأمونة تماما ، وإنها قد تسبب أضرارا خطيرة ن وإنها ينبغى ألا تستخدم إلا بإشراف الطبيب .. هذه الحبوب تباع فى الصيدليات بسعر منخفض يكاد يساوى سعر التكلفة ، ويباع لأى فتاة تطلبه - وتكرره - دون تذكرة طبية .. لأنها - كما لا يخفى - أداة جبارة لنشر الفاحشة فى الأرض ، لأن الفتاة التى تستطيع أن تأمن نتائج اتصالاتها الجنسية غير المشروعة أيسر انزلاقا من التى تخشى حدوث المتاعب من هذه الاتصالات .(2/67)
وذلك فضلا عن صرف جهود كثيرة فى أبحاث " علمية " بقصد اختراع المدمرات البشعة بغير موجب حقيقى ، فقد كان انتصار بعض البشر على بعض ممكنا بغير كل تلك البشاعة فى أدوات التدمير .. " 235"
وهذا الشر العميق كله قد نشأ من " علمانية " العلم .. أى من ذلك المبدأ الملوث الشرير : مبدأ فصل الدين عن الحياة ..
(5) الأخلاق :
ربما لم يكن هناك مجال تأثر بالعلمانية بقدر ما تأثرت الأخلاق ..
ذلك أن الدين هو المنبع الطبيعى للأخلاق ، فإذا جفف هذا المنبع أو جف بسبب من الأسباب فلابد أن يتبعه حتما انهيار تدريجى فى الأخلاق ينتهى إلى " اللاأخلاق " .
ولقد كانت " النهضة " فى أول عهدها تعتقد - ربما بإخلاص وحسن نية - أن فى إمكانها أن تجد للأخلاق منبعا آخر غير الدين .. من الطبيعة أو من النفس البشرية أو من أى مكان آخر .. والواقع أنهم كانوا فى أول مرحلة الفساد ، فكانوا هم أنفسهم لا يتصورون أن البشرية يمكن أن تعيش بلا أخلاق ، أو أنه سيأتى وقت عليها تكون عارية من الأخلاق . فكان المشكل بالنسبة لهم هو محاولة البحث عن منبع للأخلاق غير الدين ، حتى لا تتخذ تلك ثغرة يهاجمون منها من قبل ذوى الغيرة على الأخلاق وهم يومئذ غير قليل .. ولكن المنبع البديل - أيا كان هو - قد أثبت عجزه عن إنبات القيم التى يحتاج إليها الإنسان فى حياته ، ككل التصورات التى تخطر فى بال الفلاسفة ولا تتعدى أذهانهم إلى واقع الحياة !
ثم جاءت أجيال أكثر علمانية من السابقة ، لأنها كانت قد بعدت أكثر عن المنبع الحقيقى للقيم ، فبدأت تناقش مبدأ القيم ذاته : هل هى ضرورية حقا للحياة البشرية ؟ وهل هى حقائق واقعية أم مجرد مثل خيالية معلقة فى الفضاء غير قابلة للتطبيق ؟ وإذن فلماذا لا نكون " واقعيين " ونتعامل مع الواقع البشرى كما هو ؟ أى بغير مثل وبغير قيم ؟!(2/68)
وكانت هذه بداية موجة جديدة من الانحدار على المنزلق .. فإننا إذا سلمنا بالواقع الموجود اليوم على أنه هو الواقع الذى لا يمكن أن يوجد أفضل منه ، فما الذى يمنع هذا الواقع أن ينحدر غدا إلى هوة جديدة ، ثم ما الذى يمنعنا من مجاراته فى الهبوط بحجة الواقعية ؟!
إن الذى يمنع من هذا شئ واحد ، هو وجود القيم الأصيلة التى نقيس إليها أفعالنا ومستوانا ، لنعرف على ضوئها أهابطون نحن أم مرتفعون .. فإذا وجدنا أننا هبطنا حاولنا أن نوقف هبوطنا ونصعد من جديد .. أما فى غياب الميزان فما المعيار ؟ إن الواقعية ليست معيارا يقاس إليه أى شئ ، ما دامت تعتبر الواقع هو المقياس ! والناس إذا أفلتت أيديهم من خيط الصعود الذى يشدهم إلى أعلى فلابد أن تهبط بهم ثقلة الشهوات وجواذب الأرض فيزداد واقعهم هبوطا على الدوام .. وما دام معيارنا هو الواقع ، فسيظل المعيار ذاته يهبط مع هبوط الإنسان ! ونظل نحن - بحجة الواقعية - نتابع الهبوط .
لقد كان القرن التاسع عشر " واقعيا " فنبذ القيم التى سماها مثالية - بمعنى غير واقعية - واعتبرها ترفا عقليا لا تطيقه طبيعة الحياة ..
وكانت نتيجة ذلك هى القرن العشرين ! قرن التفلت من القيود كلها ، والهبوط إلى الحمأة التى يستعفف عنها الحيوان !
وذلك أمر معروف من التاريخ وإن جادلت فيه الجاهلية المعاصرة ، وهى ليست أول جاهلية تجادل فى الحق وتنكر البديهيات ! إن أى جيل من أجيال البشرية أنكر القيم الإنسانية لم يقف حيث كان يوم أنكرها ، إنما ازداد هبوطا .. حتى أدركه الدمار !
ولنستعرض خط العلمانية مع الأخلاق من أوله لنعلم مدى الهبوط ..
ولنبدأ بالمفهوم الحقيقى للأخلاق ، الذى كانت تؤمن به أوروبا ذات يوم ثم ظلت تتخلى عنه خطوة خطوة وهى تسير مع الشيطان .
إن الأخلاق " ميثاق " شامل .. يشمل كل أعمال الإنسان .(2/69)
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [سورة الرعد 13/19-22]
والميثاق هو أصلا ميثاق مع الله ، تتفرع منه وتندرج تحته جميع المواثيق :
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء 4/58]
وأول الأمانات هى الأمانة المؤداة إلى الله ، ثم تأتى بعدها جميع الأمانات التى أبرز سياق الآية منها الحكم بين الناس بالعدل ..
وعلى هذا الأساس يكون للسياسة أخلاق ، وللاقتصاد أخلاق ، وللاجتماع أخلاق ، وللعلم أخلاق ، ولكل شئ على الإطلاق أخلاق .. ولا يكون هناك شئ واحد فى حياة الإنسان بلا أخلاق ..
ومنشأ الأخلاق ليس هو الفرض من الخارج . فى صورة أوامر ونواه وزواجر من عند الله أو من عند غيره ، إنما الله سبحانه وتعالى هو الذى يحدد ما هو حلال وما هو حرام ، وما هو حسن وما هو قبيح ، وما هو خير وما هو شر .. الخ فيتبعه المؤمنون التزاما بما أنزل الله ، وأما غير المؤمنين فيستمدون ذلك كله من عند غير الله . وفى الحالين لا يكون هذا هو منشأ " الأخلاق " عند هؤلاء وهؤلاء .. إنما يكون فقط هو منشأ " المعايير " التى تضبط الأخلاق .
إنما تنشأ الأخلاق - كما قلنا منق بل فى أكثر من موضع فى الفصول السابقة - من طبيعة الإنسان ذاته ، ومن أن له طريقين ، وأن له القدرة على التمييز والاختيار بين الطريقين :(2/70)
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [سورة الشمس 91/7-10]
ومن ثم فالقيمة الخلقية لاصقة بأعمال الإنسان بحكم طبيعته .. وإنما تختلف القيم باختلاف واضعها : هل هو اله أم هم البشر . فإن كانت من عند الله فهذه هى القيم الحقيقية الصالحة ، لأنها من عند خالق الإنسان العليم به وبما يصلح له وما يصلحه :
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14]
وإن كانت من عند البشر فهى عرضة للأهواء وعرضة للاختلاف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار . وتاريخ البشرية فى جاهليتها هو الدليل ، يستوى فى ذلك أن يكون الجاهليون من الفلاسفة أو من عامة الناس !
ولقد كان هذا كله واضحا لأوروبا المسيحية فى الفترة التى سيطر فيها الدين على قلوب الناس ، بصرف النظر عما فى ذلك الدين الكنسى من انحرافات .. فقد سبق أن قلنا إن وجود الانحراف والتحريف فيه لم يمنع وجود بعض الحقائق لأنهم كما يقول الله عنهم : " فنسوا حظا مما ذكروا به " وبقى مما ذكروا به بعض أشياء .. وكانت القيم الخلقية من بعض هذه الأشياء .
ثم زحفت العلمانية شيئا فشيئا على الحياة الأوروبية فأقصت الدين عن الحياة بقدر ما تمكنت هى من الحياة .. ومع إقصاء الدين أقصيت الأخلاق ، لأنها أصلا مستمدة من الدين .
وأول مجال أزيحت الأخلاق عنه هو مجال السياسة منذ قال مكيافيللى : إن الغاية تبرر الوسيلة .. ومعناها بصريح العبارة إسقاط الأخلاق من مجال السياسة ، وممارسة السياسة بلا أخلاق !(2/71)
ثم أزيحت الأخلاق من المجال الاقتصادى منذ الثورة الصناعية بتحليل الربا ، وتحليل الغش والخداع والكذب وسرقة أجر الأجير وشغل الناس بتوافه الأشياء من أجل الربح ، وتحليل شن الحروب والاستعمار من أجل إيجاد أسواق لتصريف البضائع .. إلى آخر ما قامت به الرأسمالية من حيل غير شريفة للاستزادة من المال على حساب البشرية .
ثم أزيحت الأخلاق من مجال العلم ، فلم يعد هدف العلم البحث عن الحقيقة المجردة - له - إنما صارت تصاحبه المصالح والأهواء والشهوات التى أسلفنا نماذج منها فى إبعاد اسم الله عمدا من البحث العمى مع وضع بديل مزيف هو الطبيعة ، لا لأن هذه حقيقة ولكن لأنها تخدم هدفا معينا فى معركة معينة بين العلماء وبين الكنيسة ! ومن نشر أبحاث كاذبة بقصد نشر الإلحاد . ومن استخدام ثمار العلم لإفساد الأخلاق .. وغير ذلك مما كان مستحيلا أن يحدث فى ظل سيطرة الدين على مشاعر الناس ، ومن ثم التزامهم بأخلاقيات الدين .. ولكنه يحدث بسهولة فى ظل العلمانية التى تفاخر بإقصاء الدين عن كل مجالات الحياة !
ثم أزيحت الأخلاق من مجال الفكر . فلم يعد يحس المفكر أنه ملتزم بأمانة معينة هى فى أصلها الأمانة المؤداة إلى الله .. فحفلت وسائل الإعلام جميعا من أول لكتاب إلى التليفزيون ، مرورا بالصحيفة والمسرح والسينما والإذاعة ، بكل صنوف التضليل والكذب والخداع والغش وإفساد العقيدة وإفساد الأخلاق .
ثم أزيحت من مجال العلاقات الجنسية بصفة خاصة - وهى أدق مجالات الأخلاق - فقيل إن الجنس مسألة " بيولوجية " لا علاقة لها بالأخلاق ! أى مسألة ذكر وأنثى يجرى بينهما ما يجرى بين الذكر والأنثى .. بلا قيود ولا أخلاق ولا ضبط ولا تصعيد .. وكانت الحمأة الدنسة التى تردت فيها البشرية ، وكان السعار الجنسى المجنون الذى لا يشبع ولا يرتوى ولا يفيق ..(2/72)
وأخيرا أفرغت الأخلاق ذاتها من مضمونها حين قبل إنه ليس لها وجود ذاتى ، إنما هى انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية ، أو إنها من مصنع العقل الجمعى وإنها تتغير على الدوام ولا تثبت على حال !
وسقط " الإنسان " بسقوط الأخلاق !
(6) فى الفن :
كان الفن فى أوروبا فى فترة الجاهلية الكنسية فنا دينيا بمعنى أنه موجه لخدمة الدين ، وكان يحمل كل ما فى العقيدة الكنسية من انحراف ، إذ كان كله موجها لتمجيد " الرب " الذى ألهته الكنسية وهو المسيح عيسى بن مريم ، أو تمجدي الأقانيم الثلاثة عامة : الأب والابن وروح القديس ، مع مريم البتول ومجموعة من القديسين .. سواء بالشعر أو النثر أو الرسم أو التصوير (بمعنى إقامة التماثيل) .
وقد لاحظت فى كتاب " جاهلية القرن العشرين " ملاحظة خاصة بالفن الأوروبى ، وقلت إنها معروضة للدراسة لمن أراد أن يدرس ، تلك هى أن الفن الأوروبى فى جميع أدواره التاريخية كان مشغولا بالمعبود .. فحين كان المعبود فى الجاهلية الإغريقية مجموعة من الآلهة المختلفة توجه الفن الإغريقى إلى تلك الآلهة سواء فى الأساطير أو المسرحيات أو التماثيل . وحين انتقلت أوروبا إلى المسيحية عنى الفن بالإله كما صورته الكنيسة ، وحين كفرت أوروبا بإله الكنيسة وألهت الطبيعة اتجه الفن إلى المعبود الجديد وخاصة فى الفترة الرومانسية ، وحين صار المعبود هو " الإنسان " اتجه الفن كله إلى دراسة الإنسان فى جميع أوضاعه .
واليوم صارت المعبودات فوضى ، وتمثلت الفوضى كذلك فى الفن الأوروبى الحديث !
وهذه نقطة فنية على أى حال ليس مجالها التفصيلى فى هذا الكتاب إنما ينبغى أن تدرس دراسة نقدية متخصصة .(2/73)
ثم إنى ألفت كتابا كاملا هو " منهج الفن الإسلامى " لأبين العلاقة بين الفن الصحيح والدين الصحيح ، وكيف تكون مجالات الفن الملتزم بالدين ، وكيف أن ارتباط الفن بالدين لا يضيق مجالاته كما يفهم البعض ، ولا يحوله إلى مواعظ دينية كما يفهم البعض الآخر ن إنما يوسع مجالاته فى الحقيقة ويعمقها ، ولكنه ينظفها فقط ويطهرها من الأرجاس .
وليس هنا مجال إعادة الحديث فى هذه الموضوعات ..
إنما نحن هنا نتحدث فقط عن آثار العلمانية فى الفن الأوروبى ..
فأول آثارها - فى التسلسل التاريخى - هو عبادة الطبيعة فى الفترة الرومانسية .
وليس ثمة عيب - كما قلنا من قبل - فى مناجاة الطبيعة والتفاعل معها والحفاوة بها ، فذلك كله أمر طبيعى فى النفس السوية . ذلك أن الله خلق الكون جميلا ثم جعل فى النفس البشرية حاسة تلتقط الجمال وتنفعل به . والقرآن يوجه الحس توجيها صريحا لرؤية الجمال فى الكون والإحساس به ، لا فى الورود والأزهار والجبال والوديان فحسب ، بل فى الأنعام كذلك ، التى هى مظنة الفائدة وحدها .
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)} [سورة النحل 16/5-6]
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [سورة الأنعام 6/99](2/74)
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} [سورة النمل 27/60]
ولكن رؤية هذا الجمال والتفاعل معه والانفعال به تحدث به فى النفس السوية توجها إلى الله بالعبادة لأنه هو خالق هذا الكون الجميل ومسخره للإنسان ، وخالق هذه الحاسة الجمالية فى تركيب الإنسان ليستمتع بهذا الجمال .
أما النكسة العلمانية فى الحس الأوروبى المنسلخ من الدين فقد ذهبت فى طريق آخر مخالف ، فجعلت من هذا الحس الجمالى وثنية كاملة تعبد الطبيعة بدلا من عبادة الله . وقد وردت كلمة الوثنية بالذات ورودا مكررا فى شعر الرومانسيين كأنما هو أمر مقصود !
بل إن الرومانسية فى الحقيقة هى التى يسرت للحس الأوروبى الانزلاق إلى تلك المغالطة المكشوفة التى جعلت الطبيعة إلها بدلا من الله ، حتى سرت هذه المغالطة إلى " العلماء " أنفسهم فتعاملوا معها كأنها حقيقة واقعة .. بل صاروا فى النهاية يقبلونها - وحدها - على أنها هى العلم ، ويرفضون الحقيقة الأصلية وهى كون الله هو الخالق ، ويعتبرونها إفسادا لروح البحث العلمى !
ثم ذوت الرومانسية بعد فترة من الوقت وحلت محلها الواقعية رد فعل لها ، إذ كانت الرومانسية مغرقة فى الخيال المغرب فجاءت الواقعية لترد الناس وترد الفن إلى الواقع ..
ولكن أى واقع هو الذى ارتد إليه الفن وارتد إليه الناس ؟!
إنه الواقع الصغير .. الهابط .. المنسلخ من الدين .. من القيم .. من الأخلاق !
ففى الفترة التى استغرقتها الرومانسية وارتدت بعدها إلى الواقع كان الناس قد ساروا خطوات على خط العلمانية المنسلخة من الدين فهبطوا ، فجاءت الواقعية لترصد واقعهم حيث هم .. ثم تقول هذا هو الواقع البشرى !(2/75)
فأما كون هذا هو الواقع الذى كان عليه الناس وقتئذ فهذا حق لا شك فيه ، وأما أن هذا الواقع البشرى على إطلاقه فأمر يكذبه التاريخ . تكذبه فترات الهدى فى حياة البشرية ، التى ارتفع الناس فيها إلى قمم تبدو - فى هذا الواقع المنحرف - كأنها خيالات ، ولكنها كانت واقعا عاشه الناس بالفعل ، وينبغى أن يحاولوا على الدوام أن يعودوا إلى ذلك المستوى السامق أو يعودوا إلى قريب منه . وليس المطلوب من الفن الواقعى أن يدارى على هبوط الناس ولا أن يصورهم فى صورة غير واقعية من أجل إرضاء المثل العليا ! كلا فالفن المزور لا يستطيع أن يعيش . ولكن هناك فرقا بين تصوير الواقع على أنه واقع نعم ، ولكنه منحرف عن الأصل الذى كان ينبغى أن يكون عليه ، وبين تصويره على أنه هو الواقع الإنسانى الذى لا يمكن تعديله أو لا ينبغى تعديله أو لا يعنينا تعديله ! كلاهما تصوير للواقع . وكلن أحدهما يصور الواقع المنحرف بروح الإنكار ، ويدعو إلى الارتفاع عنه ، والآخر يعطيه شرعية الوجود فتكون النتيجة الحتمية - دائما - مزيدا من الهبوط !
نموذج الواقعية الهادفة هو سورة يوسف فى القرآن الكريم :
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف 12/23-24](2/76)
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} [سورة يوسف 12/31-32]
ولكن هذه ليست اللقطة الأخيرة .. إنما اللقطة الأخيرة هى الأوبة والتوبة والترفع والارتفاع :
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [سورة يوسف 12/51-53]
ونموذج الواقعية الهابطة هو الأدب الذى يدعى الواقعية وهو فى الواقع يدعو إلى الهبوط ! وهبه صادقا فى ادعاء الواقعية فلماذا يصر على التقاط اللحظات الهابطة وحدها ويتجنب لحظات الارتفاع ؟! ثم لماذا لا يسمى الهبوط باسمه الحقيقى وهو الهبوط ؟!
ثم .. تبعثرت الاتجاهات الفنية فى الفترة الأخيرة .. ولكنها حافظت على طابع واحد .. هو الهبوط !
من السريالية إلى الوجودية إلى اللامعقول .. إلى أدب الجنس المكشوف ..(2/77)
أما السريالية فقد تتبعت التلحيل النفسى الذى أنشأه فرويد وقال فيه إن حقيقة النفس الإنسانية ليست فى النفس الواعية التى تتعامل مع الواقع الخارجى ، إنما هى فى العقل الباطن الذى لا ترتيب فيه ولا منطق ! فحاولت فى نماذج أقرب إلى الخبل منها إلى العقل أن تبرز " حقيقة النفس الإنسانية " ! فلم تصنع شيئا فى الحقيقة إلا بعثرة هذه النفس إلى قطع متناثرة لا دلالة لها ولا معنى ولا طعم .
وأما اللامعقول فقد كان هروبا من " المعقول " هروبا من العقلانية التى طغت على الفكر والحياة الأوروبية ، ومحاولة للقول بأن الحياة ليست معقولة .. ليس لها هدف ..ليس لها نظام .. ليس لها منطق .. ليس لها غاية .. إنما تحدث فيها الأحداث لمجرد الحدوث ! وحين تحدث فإنه يكون لها ثقل " الواقع " . ولكن حدوثها وعدم حدوثها سيان ! وحدوثها على هذه الصورة وحدوثها على صورة أخرى سيان ! لأن كل الصور تتساوى فى عدم المعقولية وفى الافتقار إلى معنى واضح وغاية واضحة .
ولقد كان هذا تعبيرا باطنيا حقيقيا عن أن الحياة فقدت معناها وفقدت غايتها حين فقدت الخيط الذى ينظمها جميعا وينظمها ويفسر غايتها ويفسر أحداثها ، وهو الدين .. ولكن الجاهلية لا تدرك ذلك ، وتأخذ الأمر على أنه مجرد فن ! أو إن أدركت فإنها تدرك أن الحياة البشرية أصبحت فى حاجة إلى " فلسفة " جديدة تعطيها معنى وتعطيها غاية ، بشرط ألا تكون هذه " الفلسفة " مستمدة من الدين !!
وأما الوجودية فهى أخبث من ذلك لكه .. ولا تنس أن سارتر - " الكاتب الإنسانى الغظيم " - يهودى من أم يهودية .
تقول وجودية سارتر إن الكون والحياة لا هدف لها ولا غاية .. ولا عدل فيها ولا حق . إنما كله ضلال وعبث . وإن الوجود الإنسانى ضياع كله ، ومن المستحيل أن يحقق الإنسان فيه وجوده !(2/78)
وإلى هنا نستطيع أن نقول إن هذا أيضا تعبير باطنى صادق عن فقدان الحياة معناها وهدفها حين تفقد العنصر الذى يوجد الترابط بن أجزائها ويعطى أحداثها تفسيرها ومعناها وهو الدين .
ولكن وجودية سارتر لا تقف عند تسجيل الضياع والعبثية وفقدان المعنى والغاية .. ولكنها تقدم حلا للمشكلة ! وياله من حل !
الحل أن يعيش كل إنسان وحده ، وأن يحقق وجوده بأن يفعل م يرى هو أنه حق وأنه واجب وأنه حسن !
فى مسرحيته " الجحيم هو الآخرون " يرسم الجحيم فى نفس إنسان - إذا كان إنسانا ! - يتعذب من أول المسرحية إلى آخرها من جود آخرين لا يكفون عن الوجود من حوله ، ويفرضون عليه أن يكونوا موجودين معه ، فيمنعونه أن يكون نفسه .. أن يحس بذاتيته .. أن يفعل ما يمليه عليه هواه الشخصى . فيظل ساكنا ساكتا يتعذب . يتطلع إلى اللحظة التى يذهب فيها عنه " الآخرون " لينطلق بوجوده الذاتى ، ليحقق ذاته .. وكلنهم لا ينصرفون .. فيظل هو فى الجحيم !
أما أدب الجنس المكشوف - إن كان يسمى " أدبا " - فو واضح من أن يحتاج إلى تعليق !
وفى تاريخ البشرية كله ط آداب " تعالج الجنس بقصد الإثارة ، أو تعبر عن تجارب هابطة لإنسان شهوان .. ولكنها كانت تأخذ فى عالم الأدب مكانا منزويا ، يتستر بها صاحبها فى الظلام ، ويسقط عمن يتعاطونها رداء التوقير والاحترام ، ويقبل عليها ط المراهقون " من أى عمر كانوا ، فليست المراهقة فترة معينة من عمر الإنسان كما هى فى اصطلاح علم النفس ، إنما هى حالة نفسية غير مستقرة وغير متزنة يمكن أن يصاب بها الفتى فى إبان طيشه ، ويمكن أن يصاب بها ابن السبعين .. فتخف أحلامه ويذهب وقاره وتذهب عنه قدرته على الحكم المتزن على الأشياء ..(2/79)
ولكن الجديد الذى أحدثه " التطور " العلمانى هو إعطاء " الشرعية " لهذا الهبوط الحيوانى ، وكشفه فى النور ، وإعطاؤه صفة " الفن " ، ووضع منتجيه فى قائمة المشاهير ، بل فى قائمة العظماء من الفنانين ! وينشغل النقد الأدبى والنقد الفنى بتتبع آثارهم وكشف جوانب العظمة الفنية فيهم .. بل يتبجح نقاد فيبحثون لهم عن عظات " نفسية " فى وسط الماخور الكبير الذى يعيش فيه هؤلاء وهؤلاء من نقاد و" فنانين "
لقد سقط " الإنسان " كله إلى السراديب ، وقرر المقام هناك ، وأضاء الأنوار على قاذوراتها وعرضها على أنها " البضاعة الحاضرة " ! ولم تعد سرا يستخفى منه .لم تعد قذارة تستنكر .ز لم تعد شيئا يتقزز منه الناس .
أرأيت إلى دودة الأرض اللاصقة بالطين ؟! إنها تستروح أنسام المستنقع الآسن الذى تعيش فيه ، وترى أنه بالنسبة لها هو الوضع الطبيعى .. هو الأصل الذى ينبغى أن تعيش فيه !
أرأيت لو أنك أردت أن ترفعها من الطين وتنظفها ؟
إنها تستنكر وترفض .. وتتفلت من بين أصابعك لتزداد لصوقا بالطين !
وهكذا لم يعد أدب الجنس المكشوف قذارة يترفع عنها الفن . إنما صار هو الفن الذى يتفنن فيه الكتاب ، يعرضون مفاتنه - أو بالأحرى مباذله - فى تفصيل دقيق مكشوف ، ويعرضونه على أنه قاعدة الحياة أو قمة الحياة !
هل هى عدوى " فرويد " فى عالم الفن ؟
لاشك أن فرويد مسئول عن البداية التى ابتدأ بها هذا الفن الهابط . وقد كانت البداية هى قصة " عشيق ليدى تشاترلى Lady Chatterly's Lover للقصاص الإنجليزى د . هـ . لورنس D. H. Lawrence المتتلمذ على فرويد ، والذى يعتبر هو نفسه " حالة فرويدية " . تلك القصة التى صودرت وصودرت وصودرت .. ثم أبيحت مع حذف الجزء الشديد الإفحاش منها . ثم أبيحت مع جزء منه .. ثم أبيحت كاملة كما هى .. عارية من كل حياء .. وطبع منها ملايين !
ولكن فرويد وحده لا يكفى لتفسير كل ذلك الهبوط ..(2/80)
إنه الانسلاخ من الدين ، الذى يسمى " العلمانية " !
ففرويد لم يكن يتصور - وإن تمنى - أن تأتى يوم تعرض فيه العملية الجنسية على المسرح بوصفها جزءا من مسرحية " فنية " ! ثم ينقلها التليفزيون على شاشته ليراها الأولاد والبنات فى البيوت !
وذلك إلى آلاف وآلاف من المسرحيات والقصص والأفلام والأغانى والصور والصحف والمجلات ، لا تعرض شيئا إلا الجنس ، ولا تعرضه إلى وضع الحيوان .
تلك هى العلمانية فى مجالات الحياة المختلفة .. فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والعم والأخلاق والفن .. ولك نشاط يمكن أن يصدر عن " الإنسان " إن كان قد بقى له بعد ذلك كله مكان فى عالم " الإنسان "!
وتقول العلمانية - الغربية على الأقل - إنها لا تحارب الدين ! فمن شاء أن يتدين فليتدين ! وانظر حولك تجد متدينين بالفعل لا تتعرض لهم العلمانية من قريب ولا من بعيد !
أرأيت لو أن إنسانا أطلق حولك كل أنواع الجراثيم الموجودة فى الأرض ، فى الهواء الذى تتنفسه . فى الماء الذى تشربه . فى الطعام الذى تأكله . فى الوجود الذى تلمسه . ثم قال لك إن أردت أن تظل سليما معافى فكن كما شئت ، فنحن لا نتعرض لك ! كم يكون قوله مسخرة المساخر ، وكم يكون مغالطة مكشوفة ؟!
وذلك فضلا عن أنه فى عرف نفسه لا يعتبر ما يطلقه من حولك جراثيم .. بل يعتبرك أنت الجرثومة التى يخشى منها على كيانه ، والتى لم يستطع أن يقضى عليها قضاء كاملا فتركها وهو يتمنى - من الشيطان - أن تزول !
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [سورة النساء 4/89]
إن الدين - حتى بمعناه الغربى المشوه - لم يعد له مكان فى العلمانية المعاصرة .
فإذا كان قد أخرج من عالم الاقتصاد ومن عالم الاجتماع ومن عالم العلم ومن عالم الأخلاق ومن عالم الفن .. فماذا بقى له من واقع الحياة وماذا بقى له من النفس الإنسانية ؟!
بقيت له ساعة فى الكنيسة من يوم الأحد من كل أسبوع عند أفراد من الناس !(2/81)
نعم .. ولكن ما الدين حتى بالنسبة لهؤلاء ؟
هل له واقع فى حياتهم ؟
هل يمنح قلوبهم الطمأنينة اللازمة لحياة الإنسان .. الطمأنينة التى تتنع التمزق النفسى وتمنع القلق والاضطراب ؟
هل يمنح وجودهم معنى يحميهم من الإحساس بالضياع ؟
هل يمنحهم تصورا للكون والحياة والإنسان غير التصور المادى الذى تقدمه العلمانية الجاهلية ؟
لو سألت أولئك الخارجين من سماع الموعظة يوم الأحد عن رأيهم الدينى فى التعاملات الاقتصادية الربوية اتى تقوم عليها حياتهم فهل تجد عند أحد منهم تحريما لها أو استنكارا لقيامها ؟ أم يقول لك قائلهم : هذه مسألة اقتصادية .. ما علاقة الدين بالاقتصاد ؟!
ولو سألت أحدا منهم : ما رأيك فى كذب الساسة بعضهم على بعض فى السياسة الدولية ، وعلى شعوبهم فى السياسة الداخلية ؟ ومت رأيك فى الالتزام الحزبى الذى يلزم صاحبه بالمعارضة أو التأييد حسب وضع حزبه من السلطة ؟ وما رأيك فيما تكتبه الصحافة السياسية بقصد التشويش على الحقائق لا بقصد إظهار الحق ؟ أل يقول لك على الفور إن هذه مسائل سياسية .. ولا دخل للدين بالسياسة ؟!
ولو سألت الفتاة وصديقها الخارجين من " الصلاة " ما قولكما فى العلاقة القائمة بينكما ؟ ألسي الدين يحرمها ؟ ألا يقولان لك إن الدين مسألة اعتقادية ولا علاقة له بالعلاقات الاجتماعية ؟! إن لم يقولا لك - كما يقول الكثيرون والكثيرات - إن الجنس مسألة بيولوجية بحتة لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق ؟!
كلا ! ما يزيد " الدين " فى ظل العلمانية على أن يكون مجرد وجدانات حائرة لا تلبث أن تتبدد وتضيع فى الدوامة العاتية المعادية لكل ما يأتى من عند الله !
? ? ?
العلمانية والإسلام
إذا صحت دعوى العلمانيين فى الغرب بالنسبة للدين الكنسى أنهم يتعايشون معه ويتعايش معهم دون تدخل من أحدهما فى شؤون الأخر - وهى كما رأينا ليست صحيحة فى الحقيقة- فإنها بالنسبة للإسلام لا تصح على الإطلاق !(2/82)
لقد كان الدين الكنسى منذ اللحظة الأولى دينا يهتم بالآخرة ويدير ظهره للحياة الدنيا ، نتيجة ما دخل فيه من تحريف فصل الشريعة فيه عن العقيدة ، وجعله عقيدة صرفا إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية .. ومع ذلك فقد كان العمل من أجل الآخرة يلقى أثره على الحياة الدنيا ، قصد الناس أم لم يقصدوا ، ووعوا ذلك فى إدراكهم أم لم يعوه ، فكان ذلك الدين - رغم التحريف الضخم فى كل جوانبه - يعطى أثارا واقعية فى حياة الناس وسلوكهم ، وتصوراتهم ومشاعرهم ، وهى التى جاءت العلمانية لتزحزحها من مكانها رويدا رويدا حتى أجلتها إجلاء كاملا ، فلم يعد للدين عند الأكثرية العظمى من الناس فى الجاهلية المعاصرة مكان على الإطلاق ، وبقى عند الأقلية " المتدينة " مجرد مشاعر ووجدانات ، وعلى الأكثر بعض " العبادات " ولكن هذه وتلك لا تحكم شيئا فى واقع الحياة . وبهذا وحده - أى بمسخ الدين على هذه الصورة المزرية - أصبحت العلمانية تتعايش - على مضض ! - مع الدين ! وقد كان هذا مسخا بالنسبة للدين الكنسى ذاته ، الذى شوهته الكنيسة حتى قطعت صلته بالأصل السماوى .. فكيف يكون الأمر بالنسبة لدين الله الحق ؟!
إن الدين احق لا يمكن ابتداء أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة .. فالالتزام بالشريعة - فى دين الله الحق - هو مقتضى العقيدة ذاتها . مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى ، وهو الالتزام بما جاء من عند الله ، والتحاكم إلى شريعة الله ، ورفض التحاكم إلى أى شريعة سوى شريعة الله .
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)} [سورة النساء 4/65]
يقول ابن تيمية فى كتاب الإيمان (ص 33 من طبعة دار الطباعة المحمدية بالقاهرة) :(2/83)
" والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب فى ذلك المسمى .. ومن هذا قوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل ذلك على أن هذه الغاية فرض على الناس فمن تركها كان من أهل الوعيد " .
لقد نزل هذا الدين ليعطى التصور الصحيح لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، وليقيم فى عالم البشر واقعا محكوما بهذا التصور ، منبثقا عنه ، مرتبطا به ، متناسقا معه فى كلياته وجزئياته ، ولا يتصادم معه ولا ينحرف عنه .
فالله الخالق البارئ المصور ، الرازق المحيى المميت ، المدبر اللطيف الخبير ، عالم الغيب والشهادة .. بكل أسمائه وصفاته الواردة فى كتابه المنزل ، هو المتفرد بالألوهية والربوبية ، وهو المستحق للعبادة وحده بغير شريك ..
وكل ما فى الكون وكل من فى الكون غيره سبحانه هم خلقه وعباده .. واجبهم عبادته وحده بغير شريك .
والإنسان واحد من خلقه .. متميز .. نعم .. مكرم نعم .. ذو وعى وإدراك وإرادة وفاعلية .. نعم . ولكنه مخلوق من مخلوقات الله ، واجبه ككل خلقه الآخرين محصور فى عبادة الخالق وحده بغير شريك .
ولقد كرمه الله بالوعى والإدراك والإرادة والفاعلية ، وأعطاه قدرا من الحرية فى تصرفاته الإرادية يملك به أن يسير فى طريق الطاعة وأن يسير فى رطيق العصيان .. ولكنه لا يرضى من عباده إلا أن يعبدوه :
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [سورة الزمر 39/7]
والذى يقرر العبادة المفروضة على كل كائن من الكائنات هو خالق الكائنات جميعا ، الذى خلقها وحده بغير شريك ، ومن تفرده بالخلق ينشأ انفراده بالحاكمية :(2/84)
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]
وبحق الحاكمية الناشئ من التفرد بالخلق أمر الإنسان أن يعبده وحده ويخلص العبادة له :
{إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [سورة يوسف 12/40]
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر 39/3]
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)} [سورة الزمر 39/11]
وإخلاص العبادة يقتضى الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، ويقتضى توجيه الشعائر التعبدية له وحده ، ويقتضى كذلك التصديق بكل ما جاء من عنده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، والاحتكام إلى شريعته وحدها دون الشرائع الجاهلية التى يصنعها البشر من عند أنفسهم دون سلطان من الله والإخلال بأى واحدة من هذه الثلاثة يوقع الإنسان فى الشرك ويخرجه من دائرة الإيمان :
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35]
كما قالوا : {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [سورة ص 38/5]
فهذه هى الثلاثة التى أوقعتهم - أساسا - فى الشرك : توجيه الشعائر التعبدية لغير الله ، والتحليل والتحريم من دون الله ، والاعتقاد بوجود آلهة مع اله ..
وكلها مجتمعة شرك ، وكل واحدة بمفردها شرك لا يستقيم معه إيمان ..
والمعاصى تقع من البشر جميعا : كل بنى آدم خطاء " 236"
ولكنها لا تخرجهم من الإيمان باتفاق علماء الأمة ..
إلا أن يجعلوها شرعا فعندئذ يكفرون بها . بل هم يكفرون بالتشريع ولو لم يرتكبوا المعصية بأنفسهم .. فالذى يقول - بلسانه أو بفعله - إن الله أمر بقطع يد السارق ولكنى أرى أن العقوبة المناسبة للسارق هى السجن - وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية - فقد كفر بذلك وإن لم يسرق بنفسه ولم يفكر فى السرقة .(2/85)
والذى يقول - بلسانه أو بفعله - إن الله أمر برجم الزانى المحصن وجلد الزانى غير المحصن ، ولكنى أرى أنه لا عقوبة على الزنا إذا كان برضى الطرفين البالغين الراشدين (أى لم تكن الفتاة قاصرا) ولم تقع شكوى من أحد الزوجين ؛ فإن كان هناك اغتصاب أو اشتكى أحد الزوجين فالعقوبة هى السجن - وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية - فقد كفر بذلك وإن لم يرتكب الفاحشة بنفسه ولم يفكر فى ارتكابها ..
وكذلك كل شرع من شرع الله ..
من اعتقد بأفضلية غيره عليه ، أو حتي مساواته معه ، فعدل عنه إلي غيره ، أورضي بغيره ولم يجاهده بيده أو بلسانه أو بقلبه فقد خرج من دائرة الإيمان ، وأن صلي وزعم أنه مسلم !
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)} [سورة النور 24/47-51]
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [سورة النساء 4/65]
" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون . فمن كرة فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع "
" فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن . ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن . ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبه خردل "(2/86)
فإذا كان هذا أمر الله ورسوله فأني يقول قائل إن الإسلام يمكن أن يلتقي مع العلمانية التي تقول : لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ؟! أو تقول إن الاقتصاد لا علاقة له بالدين .. أو تفصل بين حكم الدين وبين أي شي في حياة الإنسان ؟!237
? ? ?
العقلانية
…العقلانية - بمعني التفسير العقلاني لكل شئ في الوجود ، أو تمرير كل شئ في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه - مذهب قديم في البشرية ، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة ، ويمثله أشد ما يمثله سقراط و أرسطو .
ولقد ظلت الاتجاهات الفلسفية الاغريقية التي تمثل العقلانية قسما بارزا منها - تسيطر علي الفكر الأوربي - حتي جاءت المسحية الكنسية فغيرت مجري ذلك الفكر الأوربي عدة قرون. فلم يعد العقل هو المرجع في قضايا الوجود إنما صار هو الوحي - كما تقدمه الكنيسة - وانحصرت مهمة العقل في خدمة ذلك الوحي في صورته الكنسية تلك ، ومحاولة تقديمه في ثوب " معقول "
يقول الدكتور محمد البهي في كتابه " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي " : " كان الدين أ, النص طوال القرون الوسطي سائدا في توجيه الإنسان في سلوكه وتنظيم جماعته ، وفي فهمة للطبيعة ، وكان يقصد بالدين " المسيحية " وكان يراد من المسيحية " الكتلكة " وكانت الكثلكة تعبر عن " البابوية " والبابوية نظام كنسي ركز " السلطة العليا " باسم الله في يد الباب ، وقصر حق تفسير " الكتاب المقدس" علي الباب وأعضاء مجلسة من الطبقة الروحية الكبري ، وسوي في الاعتبار بين نص الكتاب المقدس وأفهام الكنيسة الكاثوليكية "238(2/87)
وقد نشأت عن ذلك في الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي مجموعة من الاختلالات عرضنا لبعضها في الفصول السابقة ، وقد نعرض لها أو لغيرها مرة أخري في هذا الفصل ، ولكنا نبادر هنا فنقول إن هذه الاختلالات لم تنشأ - كما تصور الفكر الأوروبي في مبدأ عصر النهضة - من إهمال الفلسفة والعلوم الاغريقية والالتجاء إلي الفكر " الديني " فلم يكن " الفكر الديني " من حيث المبدأ ، ولا إخضاع العقل للوحي هو مصدر الخلل في فكر العصور الوسطي في أوروبا ، إنما كان الخلل كانا في ذلك الفكر الذي قدمته الكنيسة باسم الدين ، وفي إخضاع العقل لما زعمت الكنيسة أنه الوحي ، بعد تحريفها ما حرفت منه ، وإضافتها ما أضافت إليه ، ومزج كله بعضه إلي بعض وتقديمه باسم الوحي .
والفلسفة الإغريقية التي ظنت أوروبا في عصر النهضة أن ضلالها في العصور الوسطي كان بسبب إهمالها ، وأن العلاج هو الرجوع إليها والاستمداد منها ، لم تكن هي في ذاتها برئية من الخلل ولا سليمة من العيوب ، ولا كانت في صورتها التي قدمت فلاسفة الإغريق القدامي زادا صالحا لحياة إنسانية مستقيمة راشدة ، علي الرغم من كل ما احتوته من إبداع فكري في بعض جوانبها .. وإنما ظل الفكر الأوربي في الحقيقة ينتقل من جاهلية إلي جاهلية حتي عصره الحاضر . فمن الجاهلية الإغريقية والرومانية، إلي الجاهلية الدين الكنسي المحرف في العصور الوسطي ، إلي جاهلية عصر الاحياء ، إلي جاهلية عصر " التنوير " إلي جاهلية الفلسفة الوضعية .. إلي الجاهلية المعاصرة .
وليس همنا في هذا الفصل أن نستعرض انحرافات الفكر الغربي في جاهلياته المتتابعة ، إنما يهمنا فقط أن نتابع خط العقلانية في ذلك الفكر ، ثم نخص بالحديث العقلانية المعاصرة
? ? ?(2/88)
كانت العقلانية الاغريقية لونا من عبادة العقل وتألهيه ، وإعطائه حجما مزيفا أكبر بكثير من حقيقته ، كما كانت في الوقت نفسه لونا من تحويل الوجود كله إلي " قضايا " تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فهي بلا شك شئ مختلف عن الوجود ذاته ، حركته الموارة الدائمة ، بمقدار ما يختلف " القانون " الذي يفسر الحركة عن الحركة ذاتها ، وبمقدار ما تخلف البلورة عن السائل الذي نتجت عنه .. قضايا تعالج معالجة كاملة في الذهن بصرف النظر عن وجودها الواقعي ! وبصرف النظر عن كون وجودها الواقعي يقبل ذلك التفسير العقلاني في الواقع أو لا يقبله ، ويتمشي معه أ, يخالفه !
وكان أشد مايبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسفة " لقضية "الألوهية و " قضية " الكون المادي وما بينهما من علاقة ويتشعب هذا الانحراف شعبا كثيرة في وقت واحد .
فأول انحراف هو محاولة اقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلا عن أن يحيط بكنهة في قضية الذات الإلهية , فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعة وحدود مقدرته ، وما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلا لاقتحامه ، ولا قدرة له علي الخوض فيه .
وإن المحدود لا يتسني له أن يحيط بغير المحدود ، والفاني لا قدرة له علي الإحاطة بحقيقة الأزل والأبد ، حيث لا بداية ولا نهاية ولا حدود . إنما يستطيع العقل أن " يتصور " ذلك لونا من التصور ، وأن يدرك أنه يمكن أن يوجد علي هذه الصورة .. أما أن يحيط " بكنهة" علي أي نحو من الانحاء فقضية أخري خارجة عن نطاق العقل ، وهي التي نقول إن احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته هي التي توجب عليه أن يتجنب الخوض فيها لأنه لن يصل فيها إلي شئ له اعتبار .
وليس معني هذا أن" الدين " كله أمر خارج عن نطاق العقل ، أو أن الاعتقاد في وجود الله ومعرفة صفاته أمر لا نصيب فيه للعقل .(2/89)
كلا .. إنما يدخل العقل إلي هذا الميدان من بابن الذي هو مؤهل بطبيعته ان يدخل منه ، لا من الباب الذي لا يقدر علي فتحه ، والذي يضل فيه لو اقتحمه بغير أداتة ! يدخل من باب إدارك أثارة القدرة الإلهية والاستدلال من هذه الآثار علي وجود الله ، ومعرفة صفاته التي تفرد بها دون الخلق ، ولكن لا يدخل من باب " الكنة " الذي لا يقدر عليه ولا يصل إلي نتيجة فيه 239
أرايت لو أنك أدخلت مفتاحا في قفل أكبر منه ، فظل يدور في القفل ويدور دون أن يصل إلي فتحة ، فهل تظل تقول إن هذا المفتاح صالح لكل شئ ، ولا بد أن تفتح به جميع الأبواب ، ولو بقيت الدهور تدير المفتاح في القفل فلا يفتح لك الباب ؟! أم تتواضع أمام الأمر الواقع ، وتقر بأن هذا المفتاح لا يصلح لذلك الباب ، وتبحث له عن مفتاح أخر يناسبه ، وتحتفظ بمفتاحك للباب الذي يحسن فتحه !
ليس العيب في القفل ولا في المفتاح ! إنما العيب في إنك أنت تحاول أن تقتحم به باب لا يقدر علي اقتحامه !.
وحين اصرت الفلسفة اليونانية - ومن تبعها بعد من فلاسفة النصاري وفلاسفة المسلمين - أن يقتحموا باب الكنة بمفتاح العقل فقد وصلوا جميعا إلي ذلك التخبط الذي يملأ كتب الفلسفة كلها من أول التاريخ إلي آخر التاريخ !
لا جرم أن تجد ارسطو ، الذي يعتبره دارسو الفلسفة اعظم " عقل " في التاريخ القديم ، يصف إلهه - بعقله - علي هذه الصورة :
يقول " العقاد " في كتاب " حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ":(2/90)
" ومذهب أرسطو في الإله أ،ه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا أخر ولا عمل له ولا إرادة . منذ كان العلم طلبا لشئ والله غني عن كل طلب ، وقد كانت الإرادة اختياربين أمرين ، والله قد اجتمع عنده الأصلح والأفضل من كل كمال فلا حاجة به إلي الاختيار بين صالح وغير صالح ولا بين فاضل ومفضول وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطوا أن يبتدئ العمل في زمان لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلي العمل ، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم ، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها ، ولا تخرج عن نطاقها عناية تعنيه .
" فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولي وهي " الهيولي " .. ولكن هذه " الهيولي " قابلة للوجود يخرجها من القوة إلي الفعل شوقها إلي الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله ، فيدفعها هذا الشوق إلي الوجود ، ثم يدفعها من النقص إلي الكمال المستطاع في حدودها ، فتتحرك بما فيها من الشوق والقابلية ، ولا يقال عنها إنها من خلقه الله إلا أن تكون الخلقة علي هذا الاعتبار ..240
ويعلق العقاد - بصدق - علي هذا التصور فيقول :
" كمال مطلق لا يعمل ولا يريد
" أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو و العدم المطلق علي حد سواء 241
والانحراف الثاني هو تحويل الموضوع كله إلي قضايا فلسفية ذهنية بحته ، تبدأ في العقل وتنتهي في العقل ، ويثبت ما يثبت منها وينفي ما ينفي بالعقل ، فلا تمس الوجدان البشري ، ولا تؤثر في سلوك الإنسان العملي ، فتفقد قيمتها في واقع الحياة ..(2/91)
إن موضوع الألوهية ليس موضوعا فلسفيا بالصورة التي تتناوله بها الفلسفة ، إنما هو موضوع ط العقدية " والرق بين الفلسفة والعقيدة أن الفلسفة تخاطب الذهن وحده ، تبدأ من هناك وتنتهي هناك .. ولا تتجاوز الذهن إلي الواقع الحي الذي يعيشه الإنسان في الأرض , أما العقيدة فتخاطب الكيان الإنساني كله / عقله وجسمه وروحه وكل شئ فيه . إنها لا تسكن كما تسكن الفكرة في الذهن ، ولا تتحرك حول نفسها في الفراغ كما تتحرك الفكرة في الذهن أن تحركت ، إنما هي دائما تدفع الإنسان إلي " سلوك " معين ينبثق منها ويتناسق معها ، وإلي " حركة " معينة وجدانية وسلوكية وفكرية في عالم الواقع .
ومن ثم لم تكن الفلسفة قط من وسائل الهداية للبشرية ! إن غاية ما يمكن أن تصل إليه هو نوع من المتعة العقلية عند هواة هذا اللون من المتعة ، وهم بطبيعتهم محدودون ولكنها - وحدها - لم تنشئ قط أمة ولم تحرك أمة ، والقليلون الذين يجدون فيها المتعة العقلية ينتهي بهم الأمر إلي هذا المتاع الذاتي ولا زيادة . أو أن تحركوا فلا تزيد حركتهم علي محاولة إحداث هذه المتعة عند محموعة قليلة حولها . ولا زيادة إنها لا تهدف إلي إحداث " سلوك" معين في واقع حياة الناس ، ولا تملك ذلك ونظرة سريعة إلي واقع المجتمع الإغريقي الذي عاش فيه أولئك الفلاسفة والمفكرين الكبار تبين هذه الحقيقة بوضوح ، فما كانت هناك صلة علي الإطلاق بين " أفكار " هؤلاء الفلاسفة " و " واقع " الناس هؤلاء يتكلمون في " الحكمة " وفي السلوك الإنساني " كما ينبغي أن يكون " والمجتمع غارق في كل أنواع الفسق والرذيلة والفساد والظلم ولا يعني نفسه بشئ مما يملأ " أذهان " أولئك المفكرين
أما العقيدة فلها شأن أخر(2/92)
أنها تخاطب العقل فيما تخاطبه من كيان الإنسان ، ولكن لا من أجل المتعة العقلية كما تصنع الفلسفة ، بل من أجل إحداث الوعي اللازم بحقيقة الألوهية ، الذي يترتب عليه الوعي بالالتزام الواجب تجاه تلك الحقيقة .. أي الالتزام بمقام العبودية ، الذي يستلزم الحب والخشية والطاعة والاستقامة علي أمر الله
ثم إنها تخاطب الوجدان .. أو قل إنها تركز خطابها مع الوجدان - وإن كانت قط لا تهمل مخاطبة العقل - لأن الوحدان أن هو الإداة المثل لتحويل قيم العقيدة ومبادئها إلي سلوك عملي ، لأنه حي منفعل متحرك . فهو الأقدر علي تلقي الشحنة العقيدية ، هو الأقدر علي ترجمتها في صورة واقعية حية ، لأن من طبيعته أن ينفعل بما يتلقي ، ويشع من هذا الانفعال في داخل النفس يقينا اعتقاديا من جهة ، وتوجها متحركا يتناسق مع هذا اليقين من جهة أخري .
ولذلك كانت العقدية الحية دائما هي التي تنشئ الأمم وتحكم السلوك البشري ، وكانت دائما هي سبيل الهداية للبشرية ..
ويحدث ولا شك فتور في العقيدة في نفوس الأمر ونفوس الأفراد ، ويحدث ولا شك تفلت من المقتضيات السلوكية للعقيدة في صورة معاص وانحرافات ، ولكن يظل الأمر في اسوأ حالاته مختلفا عن الشأن مع الفلسفة فمع العقيدة هناك ارتباط قوي في أصله يمكن أن يطرأ عليه الضعف ، ومع الفلسفة لا يوجد ارتباط علي الإطلاق .(2/93)
وموضوع الأولهية هو أصلا موضوع عقيدة .. أو هو موضوع " العقيدة " باعتبار الانسان كائنا معتقدا بطبعه ، عابدا بفطرته ، حتي أن ضلت هذه الفطرة عن طريقها السوي لسبب من الأسباب وليس معني ذلك أنه محرم علي الفلسفة - أو الفكر - أن يتناوله . ولكنه حين يتناوله علي النحو الذي تناولته به الفلسفة الإغريقية العقلانية ، وتبعها فيه فلاسفة النصاري فيما يعرف " باللاهوت" وفلاسفة المسلمين فيما يسمي " الفلسفة الإسلامية " أي التناول الذهني التجريدي الخالص ،يكون قد انحرف به عن طريقه الأصيل ، وحوله إلي " كلام " و " أفكار" لا تنشئ سلوكا واقعيا ، ولا تغير شيئا في حياة الناس ... فيتحول إلي زبد لا ينفع.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [سورة الرعد 13/17]
وأما الإنخراف الثالث الناشئ من التناول العقلاني لقضية الأوهية ، وعدم الرجوع فيها إلي المصدر اليقيني الأوحد وهو الوحي الرباني ، فهو تخبط الفلاسفة فيما بينهم وتعارض ما يقوله كل واحد منهم منع ما يقوله الآخر .
ولا عجب في ذلك ، فما دام " العقل " هو المحكم في هذه القضية ، فعقل من ؟! إن العقل المطلق أو العقل المثالي وتجريد لا وجود له في عالم الواقع ! إنما الموجود في الواقع هو عقل هذا المفكر وذاك المفكر لكل منهم طريقته الخاصة في " تعقل " الأمور ،ولكل منهم "نوازعه " الخاصة التي يحسبها بعيدة عن التأثير في عقله وهو واهم في حسابه ، ولكل منهم اهتماماته الخاصة التي تجعله يركز علي أمور ويغفل غيرها من الأمور .
ومن ثم لا تصبح تلك الفلسفة في هذه القضية بالذات أداة هداية وإنما أداة تشتيت وأداة تضليل .(2/94)
وما نريد أن نتطرق لتقويم موقف تلك الفلسفة العقلانية من القضايا الأخري غير قضية الألوهية فقد يكون لها توفيقاتها في بعض جوابها الفكر البشري ، وقد تكون فائدتها الأساسية تنمية القدرة علي إدراك الكليات التي تحكم الجزئيات ، وتلك مباحث لا تبتغي في مثل بحثنا الحاضر .. ولكننا نشير إشارة موجزة هنا ، نعود إلي تفصيلها فيما بعد ، إلي أن هذه العقلانية تكاد تقف نفس الموقف من قضية أخري لا تقل خطورة في حياة الناس عن قضية الألوهية ، وهي قضية " منهج الحياة" الذي ينبغي أن يسير عليه البشر فقد تخطبت تلك " الفلسفة " 242 في تلك المسألة من اقصي اليمين إلي أقصي الشمال فضلا عن كونها حولتها إلي أحلام طوباوية أو ذهنية لا علاقة لها بواقع الحياة ، ومن ثم لا أثر لها في واقع الحياة !
? ? ?
من هذه الجاهلية انتقل الفكر الأوروبي إلي عصر " سيادة الدين "
وكان المفروض أن يخرج ذلك الفكر إذن من الجاهلية إلي النور ، ولكنه في الحقيقة دخل إلي ظلمات حالكة ليس فيها حتي ذلك " البريق" الذي تيمزت به الفلسفة الاغريقية في كثير من المواضع بصرف النظر عن القيمة الحقيقة لذلك البريق ، وعن كونه بريقا هاديا ام مضللا عن الطريق !
كان المفروض وقد التزم العقل بالوحي ، واستمد منه اليقين والهدي 0- في المسائل التي لا يهتدي فيها وحده ولا يستيقن فيها بمفرده - أن ينطلق الفكر في ميادينه الأصلية يبدع وينتج ، ويمد " الإنسان " بما يحتاج إليه في شئون " الخلافة " وعمارة الأرض
ولكن الكنيسة الأوروبية افسدت ذلك كله بما أدخلته من التحريف علي الوحي الرباني المنزل من السماء لهداية البشرية علي الأرض ، وتخبطت في قضية الألوهية تخبطا من نوع جديد ، حين قالت إن الله ثلاثة أقانيم ، وإن المسيح ابن مريم عليه السلام واحد من هذه الأقانيم الثلاية ، وإنه ابن الله وفي الوقت ذاته إله ، وشريط لله في تدبير شئون الكون .(2/95)
وفضلا عن ذلك - أو ربما بسبب ذلك - حجر علي العقل البشري أن يعمل وأن يفكر
فإن هذه الألغاز التي ابتدعتها المجامع المقدسة في شأن الألوهية لم تكن " معقولة ط ولا مستساغة . فما يمكن للعقل البشري أن يتصور ثلاثة أشياء هي ثلاثة وهي واحد في ذات الوقت ، وما يمكن أن يتصور أن الله سبحانه وتعالي ظل متفردا بالألوهية وتدبير شأن هذا الكون مالا يحصي من الزمان ، ثم إذا هو - فجأة- يوجد كائنا أخر ليكون شريكا له في الألوهية ومعينا له في تدبير الكون !!! تعالي الله عن ذلك علو كبيرا
ومن أجل كون هذا العبث " المقدس "! " الذي ابتدعته المجامع " المقدسة " ! وغير معقول ولا مستساغ ، فقد سخرت الكنيسة " العقل " في محاولة إخراج هذا المزيج المتنافر المتناقض في صورة "فلسفية " مستساغة ( أو هم قالوا عنها إنها مستساغة !) وفي الوقت ذاته حجرت علي العقل أن يناقشها ، لئلا تجر المناقشة إلي القول بأنها غير معقولة علي الرغم من كل الصناعة " العقلية" التي وضعت فيها !
ومن ثم نشأت في الكفر الأوروبي تلك " المسلمات" أو العقائد المفروضة فرضا التي لا يجوز مناقشتها Dogmas ،لا لأنها - في حقيقتها - من الأمورالتي ينبغي للعقل أن يسلم بها دون مناقشة ـ ولكن لأنها مناقضة للعقل ، ومفروضة عليه فرضا من قبل رجال الدين ، الذين زعموا لانفسهم حق صياغة العقائد وفرضها علي النسا بالقوة دون أن يكون لهم حق المناقشة أو الاعتراض وإلا كانوا مهرطقين مارقين ، يجوز فيهم كل حتي إهدار الدم وإزهاق الأرواح - كما مر بنا من شأن محاكم التفتيش التي قال عنه " ويلز" في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية ( ص 902 - 903 من الترجمة العربية )(2/96)
" فأصبح قساوستها وأساقفتها علي التديج رجالا مكيفين وفق مذاهب واعتقاديات حتيمة Dogma وإجراءات مكررة وثابتة .. ونظرا لأن كثير ا منهم كانوا علي الأرجح يسرون الريبة في سلامة بينان مبادئهم الضخم المحكم وصحته المطلقة لم يسمحوا بأية مناقشة فيه ، كانوا لا يحتملون اسئلة ولا يتسامحون في مخالفة ، لا لأنهم علي ثقة من عقيدتهم ، بل كانوا غير واثقين فيها
" وقد تجلي في الكنيسة عندما وافي القرن الثالث عشر ما يساورها من قلق قاتل حول الشكوك الشديدة التي تنخر بناء مدعياتها بأكلمه ، وقد تجعله أثر بعد عين ، فلم تكن تستشعر أي أطمئنان نفسي وكانت تتصيد الهراطقة في كل مكان كما تبحث العجائز الخائفات -فيما يقال - عن اللصوص تحت الأسرة وفي الدواليب قبل الهجوع في فراشهن
ومن الأدلة التاريخية التي تثبت أن النصاري - علي الرغم من تشبثهم الشديد بمقررات المجامع المقدسة بشأن قضية الألوهية - لم يكونوا يؤمنون بها في دخيله أنفسهم إلي درجة اليقين ، ماحدث من وفد نصاري نجران مع الرسول صلي الله عليه وسلم حين دعاهم - بأمر ربه - إلي المباهلة :
{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [سورة آل 3/61]
فقد امتنعوا عن المباهلة وانصرفوا رغم جدالهم الشديد مع رسول الله صلي الله عليه وسمل حول بنوة عيس لله وألوهيته مع الله .. ولو كانوا علي يقين حاسم ما أمتنعوا !
وأيا كان الأمر فقد استخدمت الكنيسة كل طغيانها الروحي للحجر علي العقل .. وصنعت ذلك باسم " الدين " !
والدين الصحيح ليس في حاجة إلي شئ من ذلك الذي صنعته الكنيسة
حقيقة إ، في الدين الصحيح " مسلمات " لا تناقش ، تعتبر من أصول الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام :(2/97)
" قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره 243
وبعض هذه الأمور ليس للعقل سبيل إليها من ذات نفسه ، إنما يتعرف عليها عن طريق الوحي ، ويسلم بها تسليما ، كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وما يشتمل عليه من بعث ونشور وحساب وجزاء وجنة ونار .. وكان هذا كله واردا في " مسلمات "الدين الكنيسي ، ولا اعتراض عليه .
ولكن هناك فارقا أساسيا بين " مسلمات" الدين الصحيح والمسلمات الكنسية الأخري التي كانت تجبر الناس عليها إجبارا وتمنعهم من مناقشتها في أمر صحتها ، وتتهمهم بالمروق عن الدين إن خالفوها أو هموا مجرد هم بمناقشتها !
فالمدخل إلي هذه المسلمات في الدين الصحيح هو الإيمان بالله والتعرف علي صفاته التي لا يشاركه فيها أحد، وفي مقدمتها انه هو الخالق وأنه علي كل شئ قدير ، والإيمان بالرسول المرسل ( وصدقه وأمانته 244، والإيمان بأن ما يخبر به عن ربه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكل هذه يدعي العقل دعوة صريحة إلي التفكير فيها ، والتأكد منها قبل الإيمان بها ، وخذ مثالا علي ذلك ما جاء في كتاب الله من خطاب للقوم المدعوين للإسلام :
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)} [سورة النحل 16/17]
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [سورة الأحقاف 46/4]
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)} [سورة لقمان 31/11](2/98)
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سورة سبأ 34/46]
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 21/22]
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [سورة المؤمنون 23/91]
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)} [سورة النساء 4/82]
فإذا آمن الإنسان - وهو مدعو للتفكير والتدبير وإعمال العقل ليؤمن - بأن الله هو الخالق وهو علي كل شئ قدير ، وآمن بصدق الرسول المرسل ( ، وأمن بأن ما يخبر به الرسول عن ربه وحي لا شبهة فيه ، فقد أخبره الوحي بأمور لا سبيل للعقل أن يصل إليها من تلقاء نفسه لأنها ليست مما يقع في محيط رؤيته ولا تجربته ، وطلب منه التسليم بها لأنها آتية من المصدر الحق الذي آمن بصدقه وصدق كل ما يجئ من عنده . وهي في الوقت نفسه مما لا يملك العقل دليلا حقيقيا ينفيها .. فوجب عليه أن يسلم بها وقت آمن بمقدماتها التي توصله إلي التسليم بها .
هذا شأن المسلمات في الدين الصحيح : أمور لا يملك العقل ان يستدل عليها من تلقاء نفسه ، ولا يملك في الوقت ذاته دليلا حقيقيا ينفيها ، ثم إنه لا يدعي إلي التسليم بها قبل أن يسلم بالمقدمات التي توصل إليها عن طريق التفكر والتدبر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض .
أما المسلمات التي فرضتها الكنيسة فرضا وأرهبت الناس من مناقشتها فهي غير ذلك تماما .(2/99)
فحيث يتجه العقل والتدبر والتأمل إلي الإيمان بأن الله واحد أحد ، وانه لو كان في السماوات والأرض ألهه إلا الله لفسدتا .. تقول له الكنيسة إن الله ثلاثة ، ثم تزيد الأمر تعقيدا فتقول له إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، ثم تمنعه من المناقشة عن طريق الإرهاب .
وحيث يتجه العقل - بوسائل تفكيره - إلي الإيمان بأن الله الذي خلق كل شئ وقدره تقديرا هو في غني عن كل شريك لأنه( بيده ملكوت كل شئ ) ولأنه يقول للشئ ( كن فيكون ) ومن ثم فهو الجدير بالعبادة وحدة .. تقول له الكنيسة إن هناك شريكا لله هو المسيح عيسي ابن مريم عليه السلام ، هو إله مع الله ، ومعبود كذلك مع الله ثم تمنعه من المناقشة وتتهمه بالمروق إن خالف ..
وحيث يتجه العقل - بمنطقة الذاتي - إلي الإيمان بأن الله ليس في حاجة إلي اتخاذ الولد - والخلق كلهم خلقه ، خلقهم بمشيئته وهم عباد له - وليس من شأنه سبحانه أن يتخذ مالا حاجة له إلي اتخاذ ، وهو المهيمن الذي يدبر أمر الوجود كله بمفرده ، بلاكلفة عليه سبحانه ولا جهد ولا حاجة إلي معين .. تقول له الكنيسة إن الله ولدا، خلقه بمشيئته كما يخلق كل شئ بمشيئته ثم تبناه - سبحانه وتعالي عن ذلك علوا كبيرا - ليضعه بعد ذلك علي الصليب ويجرعه آلام الصلب ، فيكفر بذلك عن خطيئة لم يرتكبها ذلك الإبن إنما أرتكبها آدم وحواء قبل ذلك بزمن لا يحصيه إلا الله ! ثم تفرض عليه ذلك فرضا وتقول له هذه هي العقيدة .. ومن لم يعتقدها فقد حلت عليه لعنة السماء .(2/100)
تلك هي المسلمات التي لا يمكن التسليم بها لأن العقل يملك كل دليل ينفيها ، ولأنها لا تستند إلي شئ إلا قرارات المجامع المقدسة التي تبتدعها من عند نفسها وتزعم مجرد زعم أنها من عند الله ، بينما الناس يرون رجال الدين في تلك المجامع يتناقشون ويتحاورون ، ويختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف ، ثم يصدرون القرار من تفكيرهم الذاتي- ولو كان وحيا سماويا لالتزموا به عقيدة ولم يجزلهم الاختلاف فيه - ثم يرون أسوأ من هذا أن الأقلية تصدر القرار أو تفرضه فرضا علي الأكثرية ثم تطرد الأكثرية بالقوة كما حدث في مجمع خلقدونية .. ولا تطردهم من المجمع فحسب ، بل تزعم كذلك أنها تطردهم من رحمة الله !
ومن أجل أن هذه المسلمات المزعومة لا يمكن للعقل التسليم بها فقد حظرت الكنيسة علي العقل أن يفكر فهيا او يناقشها ، وزعمت الناس أن التفكير فيها مناف للإيمان ، وأن الموقف الصحيح للمؤمن هو التسليم بها بغير جدال ، وتفويض الأمر فيها لا - لله ! - بل " لقداسة " الباب ومن حوله من " كبار " رجال الدين !
وفي ظل الإرهاب الفكري الذي مارسته الكنيسة انكمش نشاط العقل الأوربي وانحصر في التسليم بما تمليه الكنيسة والمجامع المقدسة ، ومحاولة التوفيق بينه وبين مقتضيات التفكير السليم ، في مغالطات " فلسفية " هي أقرب إلي التلفيق منها إلي التوفيق !(2/101)
ومن ناحية أخري انصرف الفكر الأوربي عن النظر في هذا العالم وفي الحياة الدنيا بتأثير أخر من تأثيرات الدين الكنسي المحرف ، فقد أوحت المسيحية المحرفة إلي الناس بأن هذه الدنيا لا سبيل إلي إصلاحها أو تقويم معوجها لأنها ناقصة بطبيعتها . وأن الطبيعة الإنسانية ناقصة كذلك ، ولا سبيل إلي إصلاحها إلا بصرفها عن الاهتمام بالحياة الدنيا جملة ، وصرف اهتمامها إلي اليوم الآخر كما المحنا في فصل " العلمانية "، وإنه بقدر ما ينصرف الإنسان عن هذا العالم والتفكير فيه - بالرهبانية - يكون أقرب إلي الصلاح ، وأقرب إلي الفوز بملكوت الرب في العالم الآخر .
هذا اللون من التفكير صرف التفكير الأوربي عن النظر في شئون العالم الأرضي والكون المادي إلا في أضيق نطاق مستطاع . ففي أمور الحياة رضي الناس عامة - والمتدينون خاصة - بعيش الكفاف 245 ولم يتطلعوا إلي زيادة الإنتاج أو تحسينه ، لأن ذلك يخالف روح الدين ، ومن ثم لم يسعوا إلي زيادة في العلم تمكنهم من زيادة الإنتاج أو تحسينه .
كذلك لم يهتموا بزيادة معلوماتهم عن الكون المادي من حولهم من فلك أو رياضيات أو كيمياء أو فيزياء ..إلخ ، لأن الأمر - في حسهم - لا يستحق الاهتمام من ناحية ، ولأن المعلومات التي تقدمها المصادر " الدينية ط عن هذا الكون فيها كفاية لهم من ناحية أخري ، ولم تكن تلك المعلومات تعدو أن الله خلق الأشياء علي صورتها لحكمة هو يعلمها ، ولغاية هو يريديها ، وأن كل شئ يجري علي النحو الذي أراده الله منذ الأزل بلا تغيير ، وهذا في ذاته حق ولا شك ، ولكنه لا يعطي التفسير التفصيلي لظواهر الكون المادي المحيط بالإنسان ! ولا ما يحدث من التحول الدائم في الكون والحياة والإنسان !(2/102)
علي هذا النحو الضيق المغلق المحصور كان الفكر الأوروبي فيما يسمي - هناك - بالعصور الوسطي المظلمة ، التي استمرت زهاء عشرة قرون ، خيم فيها علي أوروبا ظلام الجهل والانحسار والانحصار ، في ظل الطغيان الكنيسي المتعدد الألوان المتشعب الأطراف .
فلما بدأت أوروبا في عصر النهضة نتيجة احتكاكها بالمسلمين في الحروب الصليبية من ناحية ، والاتصال السلمي بمراكز العلم والثقافة في الاندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها ، كان العقل الأوروبي في حالة تشوق عنيف لاستيراد حريته في العمل ، أي حرية التفكير . ولكن ، كما اتسمت فترة العصور الوسطي المظلمة بالتطرف في إلغاء دور العقل والحجر علي حرية الفكر ، كذلك اتسمت فترة النهضة وما بعدها التطرف في الجانب الآخر ، جانب إعمال الفكر في كل شئ ، سواء كان داخلا في مجال العقل اوغير داخل فيه ، وإعمال " بحرية " لا تقبل القيد ، سواء كان القيد مشروعا أوغير مشروع !
كان عصر" الإحياء " هو عصر العودة إلي الجاهلية الإغريقية بكل انحرافاتها .. مع زيادة انحراف جديد . هو النفور من الدين ، ومحاولة إبعاده عن كل مجال من مجالات الحياة .
والحقيقة أن الحياة الأوروبية في تلك الفترة تستلزم نظرة فاحصة تفق علي التيارات والعوامل المختلفة التي كانت تمور في كيانها ، والتي تمخضت فيما بعد عن الصورة الحالية " للحضارة " الغربية .
لقد أخذت أوربا في نهضتها شيئا كثيرا من الإسلام والمسلمين ، ورفضت في الوقت ذاته أن تعتمد الإسلام دينا وعقيدة ومنهج حياة - كما بينا في الفصل السابق - وكان من جراء ذلك أثار بعيدة المدي في الحياة الأوربية إل وقتنا الحاضر .
فقد صحت أوربا من غفوتها الطويلة بالاحتكاك الحربي والسلمي بالمسلمين في الشرق والغرب .
وتزعم أوروبا أنها لم تأخذ عن المسلمين إلا التراث الإغريقي الذي كانت قد أضاعته في عصورها المظلمة، فوجدته محفوظا عند المسلمين فاستردته ، وأقامت نهضتها علي أساسه .(2/103)
وفي هذا الزعم شئ قليل من الحق وشئ كثير من المغالطة التي لم ينج منها إلا عدد قليل من كتاب أوربا المنصفين .
قأما أن التراث الإغرقي الذي فقدته أوروبا في عصورها المظلمة كان محفوظا عند المسلمين فيما يسمي " الفلسفة الإسلامية " وفي التراجم التي كان المسلمون قد ترجموها عن الإغريقية ، وان أوروبا استردته عن طريق التعلم في مدارس المسلمين ، وأقامت جانبا من نهضتها عليه ... فهذا صحيح .
ولكن هذا التراث الإغريقي ، علي كل اعتزاز أوربا به وتعصبها له ، لم يكن صالحا - وحده - لإقامة النهضة الأوربية ، ولا أي نهضة علي الإطلاق ، باعتباره مجموعة من " الأفكار" التجريدية الذهنية المنقطعة عن واقع الحياة ، وهو - بكل لمعانة الفكري - لم يستطيع أن يداوم الحياة في بيئته الأصلية التي أنبتته ، فضلا عن أن يكون - وحده - باعث نهضة جديدة علي اتساع أوربا كلها ،وعلي اتساع العالم كله في العصر الحديث !
نعم ، يوجد في هذه الأفكار قيم ومبادئ يمكن أن تكون زاد لقوم " يرغبون" في الحياة ، ويرغبون في إقامة نهضة شاملة ، ولكنها - وحدها - لا تبعث فيهم هذه الرغبة ولا تلك .
إنما الرغبة في الحياة ، والرغبة في إقامة نهضة شاملة ، كانت هي الأثر الذي أخذته أوربا من احتكاكها بالمسلمين ، وملامستها للحياة الموارة في العالم الإسلامي ، وللنهضة الشاملة فيه .
وليس هذا فقط ..
فإن أوروبا لم تغنم من احتكاكها بالمسلمين تلك الرغبة في الحياة والحركة وإقامة النهضة الشاملة فحسب ، بل وجدت كذلك " مومقات" تلك النهضة بكاملها موجودة عند المسلمين ، فأخذت منها كل ما وسعها أخذه ، والعنصر الذي رفضته أخذه - وهو الإسلام - كان هو العنصر الوحيد القمين بترشيد تلك النهضة وإقالة أوربا من عثرتها ... ولكنها رفضت - بدافع من العصبية الصليبية - فخسرت العنصر الجوهري ، وأقامت نهضة عرجاء .. هي التي يعاني منها اليوم كل سكان الأرض !(2/104)
نعم ، لم تكن رغبة الحياة ورغبة النهوض وحدها هي كل ما أخذته أوربا عن المسلمين .
لقد كانت أوروبا في جهالة تامة من كل علم إلا ما تملكه الكنيسة ورجال دينها من معلومات سطحية معظمها محشو بالأخطاء
وعند المسلمين وجدوا " العلم " .. في كل مجالات العلم .. في الطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء ، إلي جانب العلوم الدينية الإسلامية التي كانت تدرس - جنبا إلي جنب - في الجماعات الإسلامية .
وقد مر بنا قول " روجر بيكون " من أراد أن يتعلم ، فليتعلم العربية ، فأنها هي لغة العلم "
ونضيف هنا قوله " ألفارو القرطبي " قبل ذلك بقرون في الأندلس :
" يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم ، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها ، بل للحصول علي أسلوب عربي صحيح رشيق ، فأين تجد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات اللاتينية علي الكتب المقدسة ؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل ؟ وأسفاه ! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب ، ليسوا علي علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية ، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف ، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهضة ن وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخري يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم ، فواحر قلباه ! لقد نسب المسيحيون لغتهم ، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر علي إنشاء رسالة إلي صديق بلاتينية مستقيمة ! ولكن إذا استدعي الأمر كتابة العربية ن فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة ، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم 246
ولم يكن العلم وحده هو الذي اخذته أوروبا عن المسلمين بجانب الرغبة في الحياة والرغبة في النهوض ، وإما أخذت كذلك المنهج الذي تقيم عيه العلم ، وهو المنهج التجريبي .(2/105)
يقول بريفولت في كتاب " بناء الإنسانيةMaking of Humanity : " فالعامل القديم - كما رأينا - لم يكن للعلم فيه وجود . وعلم النجوم عند اليونان ورياضياتهم كانت علوما أجنبية استجلبوها من خارج بلادهم وأخذوها عن سواهم ، ولم تتأقلم في يوم من الأيام فتمتزج امتزاجا كليا بالثقافة اليونانية . وقد نظم اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات ولكن أساليب البحث في دأب وأناة ، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها ، والمناهج التفصيلية للعلم ، والملاحظة الدقيقة المستمرة ، والبحث التجريبي ، كل ذلك كان غريبا تماما عن المزاج اليوناني ، أما ما ندعوه " العلم " فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة ، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة ، من طرق التجربة والملاحظة والمقاييس ، ولتطور الرياضيات إلي صورة لم يعرفها اليونان .. وهذه الروح ، وتلك المناهج العلمية ، ادخلها العرب إلي العالم الأوربي 247
كذلك لم يكن العلم وحده ولا المنهج التجريبي وحده .. يقول .. بريفولت :
" لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية ( يقصد الإسلامية ) علي العالم الحديث ، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج .. عن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا ، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل من اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام . ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد أوربا إلي الحياة ، بل إن مؤثرات أخري كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلي الحياة الأوربية فإنه علي الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الأزدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلي مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة ـ، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون وأهم ما تكون ، في نشأة تلك الطاقة التي تكون من للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة ، وفي المصدر القوي لازدهاره : أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي 248(2/106)
ويطول بنا الاستطراد لو رحنا نحصي بالتفصيل ما اخذته أوربا في بدء نهضتها من الإسلام والمسلمين ، ولكنا نعود إلي موضوعنا الأصيل فنقول إن أوربا اخذت ما أخذت ولكنها رفضت أن تأخذ الإسلام ذاته عقيدة ومنهج حياة ، وعادت إي الجاهلية الإغريقية والرومانية تستمد منهما بدلا من الدين الكنسي الذي لفظته ، والدين الصحيح الذي رفضت بدافع العصبية أن تدخل فيه , ومن ثم عادت - كما قلنا - إلي العقلانية اليونانية بزيادة انحراف جديد هو النفور من الدين ، والسعي إلي إخراجه من مجالات الفكر والحياة.
لقد كانت الجاهلية الإغريقية جاهلية وثنية خالصة في واقع حياتها ، ولكن " المفكرين" و " الفلاسفة " فكروا في الله سبحانه وتعالي ، وحاولوا تصوره علي قدر ما اجتهدت عقولهم ، فاهتدوا إلي وحدانيته وكماله وجلالة ولكن تشعبت بهم الظنون في متاهات لا قرار لها حين أخذوا يصفون كنه هذا الكمال وهذا الجلال كما مر بنا من تصور أرسطو .
أما جاهلية عصر الإحياء وعصر النهضة فقد سخرت " عقلها" في كيفية الاستغناء عن الله ، وإخراج موضوع الألوهية من ميادين الفكر والحياة واحدا إثر الآخر .
كان " التفكير الحر" معناه الإلحاد ! ذلك أن التفكير الديني معناه الخضوع للقيد الذي قيدت الكنيسة به العقل وحجرت عليه أن يفكر . فمعني الحرية الفكرية هو تحطيم ذلك القيد الذي يغل العقل من التفكير ، ولم يكن أمام أوربا بعد أن رفضت الإسلام إلا ذلك السبيل الواحد إلي الحرية الفكرية .. وهو الخروج علي الدين !
يقول برنتون كما سبق أن نقلنا من كلامه في كتاب " منشأ الفكر الحديث ) ( ص 103 من الترجمة العربية - ترجمة عبد الرحمن مراد )
" فالمذهب العقلي يتجه نحو إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون .. فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون .."(2/107)
ويقول عن قانون السببية الذي كشفه نيوتن :" إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة ( يقصد المعتقدات الدينية ) في هذا العالم " ( ص 151 من المرجع السابق )
ويقول : " الاله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة ولكن صانع هذه الساعة الكونية ونعني بها الكون ، لم يلبث أن شد علي رباطها إلي الأبد ، فبإمكانة أن يجعلها تعمل حتي الأبد.
" أما الرجال علي هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها . وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع او فائدة من الصلاة إلي الإلة صانع هذه الساعة الضخمة الكونية ، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله " !!
ولنا وقفه عند هذه النصوص
إن الاتجاه الفكري النافر من الدين ، المتجه إلي الالحاد ، لم يكن رد فعل لخطأ واحد من اخطاء الكنيسة وهو الحجر علي العقل خوفا من مناقشته " المسلمات "المفروضة ، إنما كان في الحقيقة رد فعل أو نتيجة لأخطاء متعددة في وقت واحد .. فالجهالة العلمية التي عانتها أوروبا عدة قرون في ظل السيطرة الكنسية جعلت للعلم -حين بدأت أوربا تتعلم - فتنة ليست من طبيعته في الأحوال العادية وفي النفوس السوية ، فضلا عن حرب الكنيسة للعلم والعلماء في عهد النهضة - باسم الدين - جعلت طريق البحث العلمي هو طريق معاداة الدين .(2/108)
إن الدين والعلم كما بينا في فصل "العلمانية " ليسا ندين متنافرين متعاديين كل منهما يسعي للسيطرة علي حساب الآخر ورغما عنه ! فنزعة العبادة ونزعة المعرفة كلتاهما نزعة فطرية ، والفطرة - في النفس السوية - لا يتنافر بعضها مع بعض ، إنما تتعاون جوانبها المختلفة لبناء الشخصية السوية المتوازنة . وقد تختل الشخصية لزيادة او نقص في أحد الجوانب بالقياس إلي حدة المفروضة ، وبالقياس إلي الجوانب الآخري في النفس ، ولكنها لا تختل قط من اجتماع جوانب الفطرة كلها في النفس ، فهذا هو الأمر الطبيعي الذي لا تستقيم النفي بدونه ، بل العكس هو الصحيح ، تختل النفس خللا مؤكدا حين يزاح جانب من جوانب الفطرة أو يضمر ليحل محله جانب آخر .
وفي العالم الإسلامي الذي استقت أوربا العلم منه ، كان هذا هو الأمر الواقع / كان الدين والعلم يعيشان معا متساندين متعاونين بلا تنازع ولا تنافر ولاخصام . بل كان العلم في حقيقة الأمر نابعا من العقدية منبثقا عنها ، يعمل في خدمتها ، ومع ذلك كان له ذلك المجال الواسع كله الذي يعمل فيه ، والحرية التي يمارسها في البحث وتحصيل النتائج وتدوينها والثمار العملية المفيدة التي تقوم عليها نهضة علمية زاهرة .
ولم يكن للعلم في نفوس المسلمين فتنة !
لا هو فتنهم عن الدين ، ولا صار في حسهم إلها مكان الله !
لانهم كانوا يتناولونه كما تتناوله الفطرة السوية ، التي تأخذ حظها من العبادة كما تأخذ حظها من المعرفة العلمية ، وتطلب هذه وتلك بلا تنافر بينهما ولا صدام !
وقد كان العالم الواحد - في كثير من الأحيان - عالما في الطب أو الفلك أو الرياضيات .. إلخ ، وعالما بالعلوم الدينية في نفس الوقت ، متبحرا في هذه وتلك ، متوازنا في ذات الوقت ، لا يصرفه الدين عن العلم ولا يصرفه العلم عن الدين(2/109)
وكان الحسن بن الهيثم - علي سبيل المثال - الذي ظلت أوربا تدرس نظرياته في علم الضوء ( البصريات ) إلي بداية القرن التاسع عشر لتوفقها وتقدمها الباهر ، والذي أثبت ملاحظة كانت بالقياس إلي وقته من أعجب العجب ، وهي انحناء الشعاع الضوئي عند ملامسته جسما منحنيا وعدم سيره في خط مستقيم 249 - كان علي كل عبقريته العلمية تلك يقدم انتاجة العلمي باسم الله ، ويحمد الله ويثني عليه ويشكره علي فيض نعمة عليه !
كلا! لم يكن العلم عند المسلمين مثارا للفتنة ، لأنهم صاحبوه عدة قرون علي رزانة وروية ، فلم يفاجئوا به كما فوجئت أوربا في عصر النهضة ، ولأن نبع في حياتهم من نبع الدين فلم يثر بينه وبين الدين ذلك الخصام الذي ثار بين الدين والعلم في أوربا ، ولأن المعرفة كلها في حس المسلم نفحة ربانية يفتح بها علي عبادة ، فيكون جزاؤها في حسه مزيدا من التقرب إلي الله ، لا بعدا عنه وازورارا عن عبادته .
كذلك كان اكتشاف قانون السببية بالذات باعثا نم بواعث الإلحاد كما مر بنا من كلام " برنتون"
والمسئول في ذلك أيضا هو الكنيسة !
لقد ظلت الكنيسة تصرف الناس عن العلم عدة قرون ، وتوحي إليهم الاكتفاء بما عندها من العلم ، الذي لم يكن يتجاوز - كما قلنا - إن الله خلق الأشياء علي صورتها لحكمة يعلمها ولغاية يريدها .. أي ارجاع الأمور كلها والظواهر كلها إلي إرادة الله ومشيئة . ومن شأن الدين أن يركز دائما علي هذا المعني ، انظر إلي بعض ما جاء في القرآن الكريم في هذا الشأن .
" وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون "(2/110)
" هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون . وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر . والنجوم مسخرات بأمره . أن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . ذرا لكم في الأرض مختلفا ألوانه . إن في ذلك لآية لقوم يذكرون . وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ، وتري الفلك مواخر فيه ، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم . وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ، وعلامات وبالنجم هم يهتدون . أفمن يخلق كمن لا يخلق ؟ أفلا تذكرون ؟ إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الله لغفور رحيم "
وحكمة ذلك واضحة . . " فالدين " يذكر الإنسان دائما بالله لكي يظل قلبه معلقا بالله في جميع حالاته ، فيحبه ويخشاه ، ويتطلع إليه في كل أمر من أموره .وبهذا وحده تصلح نفس الإنسان وتستقيم .. ولإن الإنسان عرضه دائما أن ينسي فإن الدين الصحيح يلح في تذكيره حتي لا تدركه الغفلة التي ينشأ عنها كل شر في حياة البشر علي الأرض .
ولكن هذا التركيز الشديد في الدين الصحيح علي رد الأمور كلها إلي مشيئة الله ، لم يمنع المسلمين من البحث عن " الأسباب الظاهرة " في الكون المادي وفي الحياة البشرية ، بلا تعارض في حسهم بين هذا وذاك .
ذلك أن الدين الصحيح -وقد رد كل شئ بحق إلي مشيئة الله وقدرة 250 - نبه البشر إلي أن هناك سننا كونية تعمل إرادة الله من خلالها في الكون المادي ، كما أن هناك سننا أخري تعمل تلك الإرادة من خلالها في الحياة البشرية ، ودعاهم إلي التعرف علي هذه وتلك ، الأولي ليقوموا بتعمير الأرض - وهو جزء من مهمة " الخلافة "التي خلق الإنسان من أجلها - والأخري لتكون هذه الخلافة راشدة حين يتم تعمير الأرض بمقتضي المنهج الرباني .(2/111)
لقد ظل القرآن يلفت نظر الناس إلي آيات الله في الكون انتظامها ورتابتها ودقتها وانضباطها
{أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46)} [سورة الفرقان 25/45-46]
{وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [سورة يس 36/33-40]
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)} [سورة الذاريات 51/20-21]
وفهم المسلمون من هذه التوجيهات المتكررة أن الله يدعوهم إلي التأمل في هذا الكون من حولهم ، ليتعرفوا علي قدرة الله القادرة التي لا يعجزها شئ ، وليتعرفوا كذلك علي السنن الربانية التي أودعها في هذا الكون ، والطاقات التي سخرها لهم فيه ليقوموا بعمارة الأرض ، ويبتغوا من فضل الله(2/112)
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12)} [سورة الإسراء 17/12]
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [سورة الملك 67/3]
ومن ثم انطلقوا " يدرسون " هذا الكون ويتعرفون علي أسراره .. فتقدم العلم علي أيديهم تقدما ضخما ، في الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب وغيرها من العلوم النظرية والتجريبية .. وأكتشفوا -من بين ما اكتشفوا - أن هناك سببا لكل شئ يحدث في الكون المادي ، من نور وظلام وكسوف وخسوف ، ورياح ومطر ، وجدب وخصب وزيادة ونقص ..إلخ
ولكن اكتشاف " السبب الظاهر " لم يكن فتنة لهم كما كان بالنسبة لنيوتن ومن بعده من " العلماء " !
فلم يجعلوه بديلا من السبب الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالي ، ولم يستغنوا به عن الله ، ولم يتصوروا أن له حتمية تقيد مشيئة الله الطليقة بحيث يعجز سبحانه عن التصرف في الكون بما يشاء ، كما توهم نيوتن ومن بعده .(2/113)
إنما عرفوا أن هذا " السبب الظاهر" هو " السنة الجارية " التي تجري شئون الكون المادي من خلالها ، ومن ثم فهي ليست بديلا من الله سبحانه وتعالي ، وهي جزء من مشيئته ، ولا تعارض بين تفسير أي أمر من أمور هذا الكون بسببه الظاهر وتفسيره بأنه راجع إلي مشيئة الله ، مادام السبب الظاهر أو" السنة الجارية" من مشيئة الله ، ومن ثم فلا تعارض بين ماسموه " الطبيعة " وما سموه " ما وراء الطبيعة " بحيث يمتنع عليك الإيمان بهذه وتلك في آن واحد كما توهمت عقلانية ما بعد النهضة في أوربا ، نتيجة أن ما وراء الطبيعية في ظل السيطرة الكنسية ولحجر علي العقل كان ينفي الأسباب الظاهرة أو لا يعول عليها في تفسير أمر من أمور الكون ، وأن اكتشاف " السبب " جاء في جو من العداء للدين والكنيسة ، فوضع - من ثم - مناهضا ومعاديا لما رواء الطبيعية ، بالإضافة إلي أن القوم هناك ظلوا - في ظل الإيمان بما وراء الطبيعة علي الطريقة الكنسية - في جهل مطبق بكثير مما يحيط بهم في هذا الكون ، بينما جاء اكتشاف السبب الظاهر في وسط معلومات عن هذا الكون تبهر العقول !
كلا ! لم يفتن المسلمون باكتشاف السبب الظاهر كما فتنت أوربا في جاهلية ما بعد القرون الوسطي ، المظلمة عندهم ، بل ظلوا يكشفون كل يوم جديد من أسرار هذا الكون يحققون به تسخيرا جديدا لطاقات السماوات والأرض ، المسخرة من الله أصلا للإنسان ، والتي يحتاج تحقيق تسخيرها من قبل الإنسان إلي جهد عقلي يتعرف به علي السنن الربانية وجهد عضلي لتحويل المعرفة النظرية إلي واقع
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13]
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78](2/114)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك 67/15]
ولم يتصور المسلمون في بلاهة تلك الجاهلية " أنه ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلي الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية " لمجرد أنهم عرفوا سرا من أسرارها ، بل أحسوا - كما بينا من قبل - أن العلم نفحة ربانية يمن الله بها علي عبادة ، فينبغي أن يشكروه عليها بإقامة الصلاة لا بقطعها ، وإدامه التعبد والخشية لله . كما عرفوا أنهم مهما تعلموا من أمور الكون فعلمهم قليل ، وانهم في فقر دائم إلي الله واحتياج:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر 35/28]
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)} [سورة الإسراء 17/85]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [سورة فاطر 35/15](2/115)
كذلك لم يتصوروا في بلاهة أن الله عاجز عن التصرف في شئون الكون بمشيئته الطليقة لمجرد أنه ثبت سنته الجارية كما تصور نيوتن : " ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلي الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله " ! ! ومن ثم لم ينكروا المعجزات كما أنكرتها عقلانية النهضة وما بعدها . إنما عرفوا أن الله سبحانه وتعالي ثبت سنته - بمشيئته الطليقة - رحمة بالإنسان ، وإعانة له علي القيام بدور الخلافة . ولكنه سبحانه وتعالي طليق المشيئة يصنع في هذا الكون ما يشاء ، لا يقيد مشيئته شئ عي الإطلاق .. و ثبوت سنته الجارية 251فإن شاء سبحانه وتعالي أن يغير شيئا من نظام الكون - لحكمه يريدها ليظهر للناس معجزة من معجزاته ، أو يغير نظام الكون كله يوم القيامة كما أخبر عباده في كتبه المنزلية ، فلن يقف ثبوت السنة الجارية أمام مشيئة جل وعلا ، إذا السنة الجارية من مشيئته ، والسنة الخارقة من مشيئته ، وهو سبحانه يستخدم هذه السنة أو تلك وقتما يشاء وكيفما يشاء لا قيد علي مشيئته يمنعه من التصرف كيف يشاء .
و" المعجزة " كما نطلق عليها هي شئ خارق للسنة الجارية .. نعم .. ولكن " الإعجاز " في السنة الجارية هو الإعجاز في الخارقة . مصدرهما واحد وحوهرهما واحد .. هو القدرة الإلهية التي لا يعجزها شئ في السموات ولا في الأرض .. وإلا فهل خلق الحياة من الموات - الذي هو في حسنا من السنة الجارية - أقل روعة أو أقل إعجازا من شق البحث بالعصا ، أو وقف دوره الشمس لفترة من الوقت أو غير ذلك من المعجزات ؟ وهل الذي يخلق الكون كله من العدم يعجز عن تصرف جزئ في هذا الكون تقتضيه حكمته سبحانه ؟!(2/116)
وكما لم تكن معرفة المسلمين المبكرة بالأسباب الظاهرة وثبوت السنة الجارية مانعا لهم من الإيمان بالمعجزات التي جاءت في الكتب المنزلة ، كذلك لم يكن إيمانهم بالمعجزات داعيا إلي الخرافة ، ولا الاعتقاد بأن الكون فوضي لا يضبطه ضابط ولا يربطه نظام و ط العلم " الذي أخرجوه هو البرهان علي ذلك ، فقد كان هذا العلم من الدقة والانضباط - بحسب المتاح في وقته من الأدوات - لدرجة شهد لها كل منصف في التاريخ وكله شاهد بأن المسلمين كانوا يتعاملون مع هذا الكون علي أساس أن هناك نظاما دقيقا يربطه ، نظاما من " الأسباب" و" النتائج " معجزة بدقته ، رائع بانضباطه
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} [سورة الملك 67/3]
إنما كانوا علي " التوازن" الذي علمهم أياه الإسلام
أما " عقلانية " النهضة " وما بعدها فقد خرجت علي الناس بأمور " غير معقولة ط علي الإطلاق .. من نفي لوجود الله تارة ، ومن إثبات له تارة أخري مع نفي قدرته علي التصرف ، ومن جعل السبب الظاهر بديلا من السبب الحقيقي ، ومن جعل ثبوت الاسباب الظاهرة حتميات252 تفرض نفسها علي مشيئة الله !
? ? ?
…ودار الزمن دورة أخري فانتقلت أوروبا - فيما يقال - من سيادة العقل إلي سيادة الطبيعة ، حين كشف العلم مزيدا من أسرار الكون واقتنع " المفكرون" أن الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه هو " الطبيعة " لأنها هي التي تنقش في العقل ما يتولد فيه من أفكار . فليس مصدر المعرفة إذا هو الوحي الرباني - وقد نبذوه وراءهم ظهريا سواء منه ما كان حقيقيا بلا تحريف ، وما اخترعته الكنيسة من عندها ، وقالت إنه من وحي الله - ولا هو العقل ، الذي لا ينشئ - ولا ينبغي له أن ينشئ - شيئا من عنده - إنما هو الطبيعة : هو عالم الحس .. هو الحقيقية الموضوعية ..(2/117)
يقول الدكتور محمد البهي في تلخيصه الجيد الذي نقلناه من قبل عن الفلسفة الوضعية وتقديرها للطبيعة
" ومعني تقديرها للطبيعة علي هذا النحو أن الطبيعة - في نظرها - هي التي تنقش الحقيقة في ذهن الإنسان ، وهي التي توحي بها وترسم معالمها الواضحة ، هي التي تكون عقل الإنسان ، والإنسان - لهذا لا يملي عليه من خارج الطبيعة ، أي لا يملي عليه مما وراءها ، كما لا يملي عليه من ذاته الخاصة ، إذ ما يأتي من ما وراء الطبيعة خداع للحقيقة وليست (هي) حقيقة ايضا !
" وبناء علي ذلك يكون " الدين" - وهو وحي ( أي ما بعد الطبيعة ) - خداعا ! وهو وحي ذلك الموجود الذي لا يحده ولا يمثله كائن من كائنات الطبيعة هو وحي الله الخارج عن هذه الطبيعة كلية .
" وكذلك " المثالية العقلية " وهم لا يتصل بحقيقة هذا الوجود الطبيعي ، إذ هي تصورات الإنسان من ( عند ) نفسه ، من غير ان يستلم فيها الطبيعة المنثورة التي يعيش فيها وتدور حوله
" إن عقل الإنسان في منطق هذه الفلسفة - أي ما فيه من معرفة - وليد الطبيعة التي تتمثل في الوراثة والبيئة والحياة الاقتصادية والاجتماعية ، إنه مخلقو ، ولكن خالقه الوجود الحسي 253
ولقد يفهم من هذا لأول وهلة أن العقلانية التي تتبعنا أطوارها في عصر النهضة وما بعدها قد انتهت وحل محلها طور جديد لا يمت لها بصلة .. ولكن هذا غير الواقع
لقد تغير الإله المعبود عندهم بالفعل فلم يعد هو العقل ، وإنما صار هو الطبيعة التي قال عنها دوران " الطبيعة تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها علي الخلق"(2/118)
ولكن الإله الجديد لم يقتل الإله الأول ، ولم يخرجه من الساحة ليحل محله ، إنما قيده فقط بقيوده وأخضعه لشروط ه ، وإن كان قد شد علي يديه في حرارة مؤيدتا ومؤازرا في نقطة واحدة معينة هي نفي الإله الحقيقي - سبحانه وتعالي- واخراجه نهائيا من الساحة ( نستغفر الله ) وإن اختلفت زوايا الرصد واختلف " المنطق " المستخدم فالإله الأول - العقل - ينبذه بحجة أنه " غير معقول" !! والإله الثاني - الطبيعة - ينبذه لأنه لا يدرك بالحس ولا يخضع للتجربة في المعمل !! تعالي الله عما يقولون علوا كيرا ..
إن المنهج التجريبي الذي تعلمته أوربا من المسلمين لم يؤث ثماره الظاهرة في ميدان العلم إلا في القرن التاسع عشر علي وجه التقريب ، ولكنه تحول عندهم إلي فتنة طاغية ، لأن أوروبا أخذته دون أن تأخذ اقاعدة الإيمانية التي كان يقوم عليها عند المسلمين ، وهي قاعدته الأصلية ، فكأنه نبات انتزع من بيئته انتزاعا وغرس في بيئة أخري لا تناسب الأولي ، ولا تشبهها في مكوناتها ومقوماتها ،فطال وارتفع ، ولكنه أثمر ثمارا شيطانية غير الثمار الطيبة التي كان يؤتيها من قبل .
كان المنهج التجريبي عند المسلمين نابعا من التوجيه الإسلامي الإيماني .. نابعا من مثل هذه التوجيهات :
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)} [سورة الإسراء 17/36]
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} [سورة البقرة 2/189]
{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)} [سورة الذاريات 51/20-21]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)} [سورة السجدة 32/27](2/119)
" تداووا . عباد الله فإن الله تعالي لم يضع داء إلا وضع له دواء ، إلا داء واحد: الهرم " وغيرها .. وغيرها .. مما جاء في الكتاب والسنة .. كثير
وكانت هذه التوجيهات - التي حولت المسلمين من أمة لا اهتمام لها بالعلم في جاهليتها إلي أمة عالمة في كل فروع العلم المتاحة لها بحسب وقتها ، وحولت العلم من الاتجاه النظري الإغريقي إلي الاتجاه العملي التجريبي - موجه إلي غايتين في آن واحد " الفكر في أيات الله في الكون للتعرف علي قدرته المعجزة من أجل إخلاص العبادة له وحده ، والفكر في تلك الآيات للتعرف علي السنن الكونية الربانية لتحقيق معني الخلافة وعمارة الأرض
ومن ثم لم تفترق الغايتان في حس المسلمين كما افترقتا - وتعارضتا - في حس أوروبا !
لم يشعر المسلمون أن تفكرهم في آيات الله في الكون من أجل إخلاص العبادة له ، مانع لهم من البحث عن السنن الكونية الربانية من أجل عمارة الأرض ولم يشعروا كذلك أن البحث عن هذه السنن من أجل عمارة الأرض مانع لهم من إخلاص العبادة لله . لأنه لا تعارض في الحقيقة . والله يقول لهم :
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77]
ويقول لهم :
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [سورة الملك 67/15](2/120)
فالمشي في مناكب الأرض والأكل من رزق الله - المؤدي إلي عمارة الأرض - يصحبه في التوجيه الرباني التذكير بالآخرة ، وواجب إخلاص العبادة لله من أجل النشور ، يوم يحاسب الناس علي ما عملوا في الحياة الدنيا . فلا العمل من أجل الحياة الدنيا مانع من اخلاص العبادة وتذكر النشور ، ولا تذكر النشور مانع من عمارة الأرض . وهكذا يتوازن " الإنسان " بين مطالب الجسد ومطالب الروح ، ومطالب الدنيا ومطالب الآخرة ... بل هكذا في الواقع يصبح الإنسان إنسان علي الحقيقة لا حيوانا في صورة إنسان كما هو في الجاهلية المعاصرة . إنسان يسعي بكل فاعليته في واقع الأرض لعمارتها والهيمنة عليها والإنشاء والتغيير فيها بما يحقق معني الخلافة ، وهو في الوقت ذاته محكوم " بالقيم " المرتبطة بيوم النشور ، النابعة كلها من إخلاص العبادة لله ، ونبذ الأرباب المزعومة كلها ، المؤدية إلي عبادة الشيطان من سبله المتعددة :
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام 6/153]
أما في الجاهلية المعاصرة فقد سارت الأمور في طريق آخر ..
ذلك أن أوروبا استنبتت المنهج التجريبي الذي أخذته من المسلمين ، في أرض سبخة يملؤها العداء للدين والفرار من الله بدلا من الفرار إليه :
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ...} [سورة الذاريات 51/50-51](2/121)
وكانت النتيجة أن أصبح المنهج التجريبي فتنة لأوروبا ، كلما فتح عينيها علي مزيد من أسرار الكون زادوا بعدا عن الله ! أو كما يقول جوليان هكسلي في كتابه " الإنسان في العالم الحديد " إن الإنسان كان يعبد الله من قبل في عصر العجز والجهل بسبب عجزه وجهله . أما الآن وقد تعلم وسيطر علي البيئة فقد 'ن له أن يحمل علي عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل علي عاتق الله .. ومن ثم يصبح هو الله !
ولم تكن الفتنة هي غرور الإنسان بنفسه وظنه أنه مستغن عن الله فحسب 254 بل كانت بالإضاقة إلي ذلك قتنة بالعلم وبالمنهج التجريبي ، فأصبحت التجربة الحسية المعملية هي " الميعار" الذي تقاس به " حقيقة " كل شئ ، ويرد إليه " صدق " كل شئ ! فما أمكن إثباته عن طريق التجربة المعملية فهو الموجود علي الحقيقة، وهو الموثوق بصدقه ، وما لا يمكن إثباته عن هذا الطريق فهو إما شئ لا وجود له وإما شئ ساقط من الحساب . ودخلت في هذا القبيل قضية الألوهية بكاملها ، بكل ما حولها من وحي ورسل وكتب وبعث ونشور وحساب وجزاء .. أو باختصار : قضية الإيمان 255
وإذا كانت عقلانية عصر النهضة وما بعدها قد اغلقت كل منافذ المعرفة إلا العقل ،/ ولكنها تركته يسرح حيث يشاء ، ويشطح كيف يشاء ، فإن " العقلانية التجريبية " التي سيطرت علي الفكر الأوروبي منذ القرن التاسع عشر ، قد اغفلت كل منافذ العقل إلا التجربة والحس ! وتلك هي اللعنة التي نجا منها الفكر الإسلامي الأصيل 256 وقت أن كان المسلمون مستقيمين علي نهج الإسلام الصحيح .
لقد كانت المسلمون - كما بينا - هم الذين أنشأوا المنهج التجريبي في البحث العلمي . ولكنهم أدركوا - بداهة - أنه ليس كل شئ يدخل المعمل للتجربة ! إنما الذي يصلح لذلك هو " المادة " والجسم " ولم يتوانوا هم في إدخال المادة والجسم معمل التجربة ، فتقدمت الفيزياء والكيمياء والطب علي أيديهم تقدما يعتبر بالنسبة إلي وقتهم فتوحات .(2/122)
ولكنهم - فيما عدا القلة الشاذة التي تأثرت بالفكر الإغريقي - لم يغفلوا .
كل منافذ المعرفة غير العقل 257 ثم إنهم - قط لم يغلقوا كل منافذ العقل غير التجربة والحس
لقد أدركوا ، وصدقوا وآمنوا أن الله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [سورة الأنعام 6/103] ومن ثم لم يجعلوا الذي يرجعون إليه في إثبات وجود الله ووحدانيته وتفرده بصفاته التي يتصف بها هو التجربة الحسية ! إلا من جانب واحد هو رؤية أثار قدرة الله في الكون ، والاستدلال منها عل كل ما تدل عليه من وجود الله ووحدانيته وتفرده . وهذا هو المنهج العلمي الصحيح الذي فاء إليه أخيرا نفرد من العلماء في الجاهلية المعاصرة في القرن العشرين 258
ثم إن المسلمين لم تكن لديهم كنيسة تدفعهم - بتصرفاتها - إلي حماقة عدم تسمية الله باسم الصحيح ! ولا إضفاء الله علي إله آخر مزعوم أسمه الطبيعة ، أو اسمه المادة ، لمجرد الهروب من طغيان الكنيسة .. فإذا ذكر الله أشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الإله المزعوم إذا هم يستبشرون ! وإذ ظلوا يعرفون الله باسمه الصحيح ، ويعبدونه - من ثم - العبادة الصحيحة ، فإن السبل لم تختلط عليهم ، ولم يجعلوا قضايا الوحي والرسالة واليوم الآخر قضايا تجريبية ، إنما قضيا إيمانية يسلمون بها بعد أن تتأكد عقولهم بكل وسائل الاستدلال - من وجود الله سبحانه وتعالي ، وقدرته التي لا تحدها حدود ، وتتأكد من صدق الرسول المرسل إليهم صلي الله عليهم وسلم ، ومن أن ما يخبر به عن ربه وحي لا شك في .
ولم يتعارض في حسهم الإيمان بما تدركه الحواس مع الإيمان بما لا تدركه الحواس ، أو الإيمان بالغيب ، فهذا له قناة في الفطرة وذاك له قتاة ، كلتاهما تمد الإنسان بلون من المعرفة غير الذي تمده به الأخري ، ومن مجموعها معا تتكون المعرفة اللازمة للإنسان(2/123)
لم يغلقوا علي أنفسهم نافذة الغيب في سبيل تأكيد العالم المحسوس وتأكيد عرفتهم به . كما لم يغلقوا علي انفسهم نافذة المحسوس في سبيل تأكيد إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره
وبذلك تقدموا بالمنهج التجريبي ذلك التقدم الهائل الذي أحرزوه دون ان يحتاجوا إلي مسخ الإنسان وطمس بصيرته وتعتيم روحه علي النحو الكريه الذي صنعته الجاهلية المعاصرة ، فظلت تهبط بالإنسان دركا وراء درك حتي لتوشك أن تسلمه إلي الدمار
ونريد ان نتعرف علي الموقف الصحيح للعقل والعقلانية كما يقدمه الإسلام وكما مارسه المسلمون وقت أن كانوا مستقيمين علي المنهج الصحيح
ولكنا لا نستطيع أن نختم الحديث عن عقلانية الجاهلية ، والعقلانية المعاصرة بصفة خاصة قبل أن نشير إلي قوله عجيبة وردت في كتاب من كتب سارتر ، الكاتب الوجودي المعروف ، ذات صلة بالموضوع ، ودلالة لا تحتاج إلي تعليق !
وسارتر يهودي وإن كان كثير من الناس لا يعلمون ذلك ! فقد ورد في الدستور اليهودي أن اليهودي من كانت أمه يهودية ، وأم سارتر يهودية كما ذكر هو في هذا الكتاب المشار إليه ، والذي عنوانه " تأملات في المشكلة اليهودية Reflec - tions sur la question juive والذي أنصح بقراءته كل قارئ يملك قراءته بلغته الأصلية الفرنسية - أو ترجمته بالإنجليزية بعنوان " Anti- Srmite and Jew " ذلك أنه لم يترجم إلي الغربية فيما أعلم .
…صدر هذا الكتاب عام 1946م بمناسبة الحديث عن تقسيم فلسطين وإنشاء الدولة اليهودية .. وقيمته من وجهة نظرنا إنه يعترف بأفاعيل اليهود في إفساد البشرية في أثناء محاولته الدفاع عنهم ! ذلك أن طريقته في الدفاع عن اليهود هي ن يذكر التهم الموجهة إليه ، ثم يقول إنها صحيحة ! ولكنهم معذورون في إتيانها بسبب كذا وكذا!(2/124)
وسواء اقتنعت بوجاهة الأسباب أم لم تقتنع - وهي في مجموعها متهافتة لا تقنع أحد - فإنها تؤكد التهمة ولا تنفيها ! ويزيد من قيمة شهادته أنه " شاهد من أهلها" لا يتهم بالتعصب ولا التحيز ولا التقول ولا الافتئات !
يقول : إن اليهود متهمون بتهم ثلاث كبري ، هي عبادة الذهب ، وتعرية الجسم البشري ونشر العقلانية المضادة للإلهام الديني ، ويقول إن المتهم كلها صحيحة ! ثم يروح يقدم لكل منها ما يقدم عليه من المعاذير
قال عن عبادة الذهب أن اليهود مضطهدون في كل الأرض وكل التاريخ ، وإنهم لابد ان يسعوا إلي امتلاك القوة ليقاوموا هذا الاضطهاد والوسيلة التي لجأوا إليها هي السعي إلي امتلاك الذهب وتجميعه ليكون لهم عدة وقوة !
وقال عن تعرية الجسم البشري أن اليهود متهمون بقبح اجسامهم وعدم استقامتها ! فأرادوا ان يثبتوا للبشرية أن القبح كامن في الجسم البشري ذاته لا في اجسام اليهود وحدهم ! فعملوا علي تعرية الجسم البشري ليستيقن البشر من هذه الحقيقة ! ( أرأيت إلي مدي السخف والتهافت ..؟!)
أما نشر العقلانية المضادة للالهام الديني Rationalism as against in tuition ( كما ورد في الترجمة الانجليزية ) فقد كشف فيه الغطاء دون مواربه ! قال : إنه طالما كان البشر يؤمنون بالدين ، فيسظل يقع علي اليهود تمييز مجحف علي اعتبار أنهم يهود ، أما إذا زال الدين من الأرض ، وتعامل البشر بعقولهم ، فعلق اليهود كعقل غير اليهودي ، ويؤمئذ لن يتميز اليهود بكونهم يهودا ، ولن يقع عليهم التمييز المجحف ـ وسيعيشون في سلام مع غير اليهود ( أي بعد أن يغطوا علي حقيقتهم ويندسوا في وسط البشرية مبهمين بين الجموع !!)(2/125)
ومهما يكن في هذا الكلام من المغالطات المكشوفة التي قصد بها التغطية علي الأهداف الحقيقية لليهود من وراء هذه الأفعال ( وهي نشر الفساد في صفوف الأمميين لإفساد عقائدهم وأخلاقهم بالإضافة إلي سب أموالهم ، لتيسير استعبادهم للشعب الشرير ) فإن ثبوت التهمة بشهادة شاهد من أهلها أمر غني عن التعليق 259
? ? ?
ونعود الآن إلي تبين الموقف الصحيح للعقل والعقلانية كما يرسمه الإسلام
يقدر الإسلام العقل باعتباره من أكبر النعم التي أنعم بها الله علي الإنسان : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [سورة النحل 16/78]
ولكنه لا يبالغ في تقدير قيمة العقل كما كانت تفعل العقلانية الإغريقية ومن ورثها من بعد ، بحيث يجعله هو المحكم في كل شئ ، وهو المرجع الأخير لكل شئ !
فهناك أمور لا يستطيع العقل من ذات نفسه أن يصل إليها لأنها ليست في محيط تجربته ، ولا تستطيع الأدوات التي يحصل بها المعرفة وهي أدوات الحس أن تصل إليها لأنها خارجة عن نطاق المحسوس .. وأن كان في إمكان العقل أن " يعقلها " حين تبين له؛ فهذه تلقن للعقل تلقينا عن طريق الوحي ، ويكون دور العقل فيها أن يعقلها لا بطريق التجربة المباشرة ولا بطريق الحس ، ولكن عن طريق التيقن من صدق الخبر وصدق المخبر ، وهومدعو - كما أسلفنا - إلي القيام بعملية التيقن هذه بكل الوسائل التي يملكها .. وهي مؤدية إلي الغاية الصحيحة حين يستقيم العقل علي الطريق .
وهنا نقطة مهمة في الموضوع(2/126)
فالعقل المجرد عن الهوي ، المتمحص لتمحيص الحائق ، المنزه عن كل شابئه تشوب التفكير أو تشوب الحكم وهم توهمته الفلسفة الإغريقية كما توهمته من بعدها كل عقلانية بالغت في تقدير دور العقل وتقدير قدراته والواقع البشري الطويل يشهد بأحد أمرين أو بهما معا في الحقيقة : أما أن هذا العقل - في صورته المجردة تلك - لم يوجد قط في واقع الأمر ، وإما أن البشرية لا تحكم عقلها في حميع أحوالها ، وكلا الأمرين صحيح ! فلا هذا العقل المطلق موجود عند أحد من البشر العاديين ولا الفلاسفة ولا المفكرين ، ولا البشرية تخضع لنداء العقل (_ علي فرض صحته) وتصيخ إليه ! إلا من رحم ربك !
والدليل - العقلي - علي الأمر الأول ، أنه لا يكاد ينطبق عقلان من عقول البشرية في تاريخها الطويل كله علي تصور واحد بجميع تفصيلاته ، ولو كانت العقول - حتي عقول الفلاسفة والمفكرين - بالصورة الوهمية التي تصورها العقلانية لتلاقت وتطابقت لأن الحق لا يتعدد
والدليل الثاني - العقلي كذلك - علي الأمر الثاني هو هذا الجنوح الدائم والتخبط الذي يمارسه البشرية وتلك الحروب المجنونة وذلك الاتباع الجنوني للهوي والشهوات ولو كانت البشرية تصيخ لنداء العقل في جميع أحوال ما جنحت ولا تخبطت ولا أصابها الجنون !
أنما الحق - الذي تشير الدلائل كلها إليه - أن العقل - في خارج ميدانية الأصيل - أداة طيعة لمن يسيطر عليه ! فإذا سيطرت عليه الروح المهتدية استقام منطقة واستقام تفكيره ن وأصبح خادما أمينا للهدي يسخر طاقاته كلها في خدمته ، وإذا سيطرت عليه الروح الضالة ، أي سيطر عليه الهوي والشهوات ، فهو خادم للضلال يسخر طاقته كلها في خدمته ، ويجادل أشد الجدل لتبرير موقفه .
{وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)} [سورة الكهف 18/54]
{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر 40/5]
{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [سورة الأعراف 7/179](2/127)
ومعرفة هذه الحقيقة عن العقل لا تنقص من قدرة كأداة للتفكير ، بل أن هناك ميادين من الفكر هي خالصة للعقل لا يشاركه فيها غيره من أدوات التلقي وأدوات تحصيل المعرفة ، كما سيجئ بيانه . وإنما معرفة هذه الحقيقة تجعلنا نحتفظ فقط في تقديرنا للقيمة النهائية للعقل ، بحيث لا نجعله هو المحكم في كل شئ ، ولا المرجع الأخير لكل شئ ! إنما ننزله منزلة الحق ، فما كان فيه هو المرجع الوحيد أو المرجع النهائي وكلناه إليه كله ، وما كان فيه قمينا أن يضل إذا ترك وحده جعلنا له الصحبة التي تمنع ضلالة وما كان عاجزا عن الوصول فيه إلي شئ لم نفحمه فيه ,.. وهذا هو منهج الإسلام
يمنح الإسلام العقل مجالا واسعا للعمل ، هو أوسع مجال سليم للعقل منحه إياه نظام من النظم أو عقيدة من العقائد ., وفي الوقت نفسه يمنعه من مجالات بعينها ويحظر عليه التفكير فيها ، أو ينكر عليه حق التفكير.
ونبدأ بالحديث عن الأخيرة لأنها - في الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة - مظنة الحجر علي العقل بغير موجب !
يحظر الإسلام علي العقل أمورا ثلاثة : التفكير في ذات الله ، والتفكير في القدر . والتشريع من دون الله
"تفكروا في خلق ولا تفكروا في الله "
" وإذا ذكر القدر فأمسكوا "
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)} [سورة المائدة 5/44]
وأما الأولي والثانية فالحظر فيها ليس حجرا علي " حرية الفكر " إنما هو صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه ، وإلا فلننظر في " الإنتاج البشري " كله فيما يتعلق بذات الله /، في الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي وما يسمي بالفلسفة الإسلامية وعلم الكلام .., إلي أي شئ وصل ؟! وإلي أي شئ كان قمينا أن يصل
لا شئ !
لأنه اقتحام بلا أداة .. أو بغير الأداة الصالحة للوصول
كالمفتاح الذي يدور في القفل ويدور .. والقف لا يفتح.. لأن المفتاح أضأل من أن يفتح القفل !(2/128)
كما قلنا من قبل : ليس العيب في القفل ولا في المفتاح ، ولكنه في إصرارنا نحن أن نفتح القفل بغير مفتاحه !
الروح هي أداة الوصول
لا نعرف نحن كيف تصل .. ولكنها تصل ! في لحظة الإشراف .. في لحظة التوهج .. تصل ! وتحس بالوصول ! وتنعم بالوصول ! وليس معني ذلك - كما أوضحنا من قبل - أن العقل ليس له دور في عملية الإيمان . كلا ! إن له دوره المخصص له لكن الإيمان بالله شئ ، والإحاطة بكنة الذات الإلهية - وهو ما يحاوله العقل - شئ أخر لا يمكن أن نصل إليه
والذي تصل إليه الروح ليس هو الإحاطة بكنة الذات الإلهية كذلك . إنما هو القرب الذي يتلقي النور ويفيض عليه النور ، فيستغني عن " البحث " في الكنة ن الذي يحاوله العقل ولا يصل إلي شئ منه ! وهذه المشاعر يملكها كل إنسان في لحظات التوجه الصادق إلي الله . وإن كان الإنسان - بطبيعته - لا يثبت عليها كما تثبت الملائكة الإطهار .. ولا هو مطلوب منه أن يثبت عليها لأن الله لا يكلف كل نفس إلا وسعها
شكا الصحابة رضوان الله عليهم إلي رسول اله صلي الله عليه وسلم أنهم حين يكونون معه يكونون في حال ، وإذا خرجوا من عنده وانساحوا في الحياة تغيرت بهم الحال . فقال لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم ما معناه إنهم لو ظلوا علي حالتهم التي يكونون عليها وهم في صحبته لصافحتهم الملائكة !
ذلك هو الوصول الذي تقدر عليه الروح .. ولا يستطيع العقل أن يمارسه لأنه ليس من شأنه
وأما القدر فشأنه كذلك ..ليس للعقل فيه مجال ..
إنما يحتاج الإنسان لكي يدرك كيف يجري الله قدرة ، بخيره وشره ، إن يكون علي مستوي الإله ! وذلك أمر لن يكون . فالله وحده هو المتفرد بالألوهية والعلم المحيط بالزمان والمكان والأشياء والأشخاص والأحداث
ومن ثم ضل " العقل " حيثما تكلم في القدر .. واسترح القلب المؤمن المطمئن بذكر الله(2/129)
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [سورة الرعد 13/28]
ومن لم يطمئن قلبه .. وسعي "بعقله" أن يعقل القدر .. فلاي شئ وصل من خلال الفلسفة والفكر والكلام ؟!
كلا ! لم يكن حجرا علي " حرية الفكر" إنما صيانة لطاقة العقل أن تتبدد فيما لا طائل وراءه .. ومن أبي أن يلتزم بالحظر فقد إنهك عقله ، وشقي ، ولم يجد في النهاية الظل الذي يفئ إليه من لفحة الرمضاء ! وهي علي أي حال نصيحة يلتزم بها العاقل فيجد فيها الخير ، ويتجنبها من يتجنبها فيلقي جزاء المخالفة اضطرابا وحيرة ولا تستقر .
أما التشريع بغير ما انزل الله فليس الأمر فيه " نصيحة" توجه إلي الناس . إنما هي قضية كفر وإيمان
والقضية علي أي حال ذات شقين ، كلاهما يتعلق بالألوهية وما ينبغي لها في شأن التشريع
الشق الأول من القضية هو المتعلق بمقام الألوهية : من الإله ؟ من المعبود ؟ من صاحب الأمر ؟ وهي كلها مترتبة علي سؤال أولي : نم الخالق ؟ من المدبر ؟ من المهيمن ؟ من صاحب السلطان ؟ الله أم الإنسان؟
فإذا كان الله هو الخالق والإنسان هو المخلوق ، فقد تحدد مقام الألوهية ومقام العبودية ، وأصبح صاحب الحق في أمر التشريع - كما في كل أمر آخر - هو الله الخالق لا الإنسان المخلوق.. إلا أن يأذن له صاحب الأمر
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف 7/54]
{إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [سورة يوسف 12/40]
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر 39/3]
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى 42/21](2/130)
وقضية الكفر والإيمان - أو قضية الجاهلية والإسلام - هي دائما هذه القضية ، مصحوبة - في الغالب - بقضية العبادة بمعني أداء الشعائر التعبدية
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة النحل 16/35]
فالأولي متعلقة بالألوهية : هل الله واحد أم آله شتي ؟ فإذا كان واحد فمن حقه أن يعبد وحده ، أي تقدم الشعائر التعبدية له وحده. والثانية متعلقة بخصيصة من خصائص الألوهية وهي الحاكمة : هل الله الذي يحكم ، فيحل ويحرم ، ويبيح ويمنع ، أم له شركاء في التشريع ، يقولون من عند أنفسهم : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا مباح وهذا غير مباح ، بغير سلطان من الله ؟ فما دام الله واحد في أولهيته ، فالحاكمة - من ثم - له وحده لأنها خصيصة الألوهية .
والإيمان هو التوحيد في هذه وتلك ، والكفر هو الشرك في هذه أو تلك أو فيهما جميعا
وقضية الجاهلية دائما هي الاستكبار عن عبادة الله - سواء كانت العبادة هي أداء الشعائر التعبدية لله وحده ، المترتب علي الاعتقاد القلبي بوحدانية الله ، أو كانت هي التحاكم إلي شريعة الله ، المترتب كذلك علي الاعتقاد القلبي بوحدانية الله .
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [سورة غافر 40/56](2/131)
وفي الجاهليات القديمة كلها كان الناس يؤمنون بأن الله هو الخالق ، ولكنهم يشركون معه إلهه أخري يضفون عليها بعض صفات الألوهية . اما في قضية التشريع فكان كبراؤهم يتنكبون الطريق ، فيعطون لأنفسم حقا من الحقوق المتعلقة بالألوهية - هو حق الحاكمية - فيشرعون بغير سلطان من الله ، ويجعلون من أنفسهم أربابا مع الله . وأما المستضعفون فيخضعون لهؤلاء الأرباب المزيفين بحكم ما في أيديهم من السلطان القوي فيعطونهم حق التشريع ، ويستعبدون أنفسهم لهم بالخضوع لما يشرعونه من تشريع ... فيشترك الذين استكبروا والذين استضعفوا في شرك العبادة ، ثم ينقسمون بعد ذلك إلي سادة وعبيد . السادة يملكون ويحكمون ، والعبيد لا يملكون ولا يحكمون ..إنما يقع عليهم الذل والهوان والضياع والبؤس كشأن كل جاهلية في الماضي .. وكل جاهلية أتية إلي قيام الساعة
أما الجاهلية المعاصرة فقد استكبرت استكبارا من نوع آخر فنفت وجود الله أصلا ، وزعمت أن الطبيعة أو المادة هي الخالق الأزلي الأبدي ذو السلطان . ولكنها في قضية التشريع سارت علي ذات النمط الذي سارت عليه كل جاهلية من قبل ، فاستأثر بالتشريع ذوو السلطان ، وخضع لهم العبيد ، فاستوي بذلك عهد الرق وعهد الإقطاع وعهد الرأسمالية وعهد الشيوعية علي خلاف في الصورة لا يقدم ولا يؤخر كثيرا في واقع الأمر 260
هذا هو الشق الأول من قضية التشريع المتعلق بمقام الألوهية . أما الشق الآخر فهو متعلق كذلك بقضية الألوهية ولكن من جانب آخر .
كان الشق الأول من القضية : من الذي يحق له أن يشرع ، الخالق أم المخلوق ؟ أما الشق الآخر فهو : من الذي يحق له أن يشرع ، العلم الخبير أم الذين لا يعلمون ؟
والإنسان - في الجاهلية الأخيرة خاصة - يزعم أنه هو العليم الخبير ، ومن ثم فهو الذي يحق له أن يضع التشريع(2/132)
وبصرف النظر عن أن الأصل في القضية هو الاستكبار عن عبادة الله فلننظر في هذا الإنسان الذي يزعم أنه هو العليم الخبير ، كيف يعالج شؤون حياته في معزل عن منهج الله !
كان العمال في الرأسمالية خاضعين للظلم الواقع عليهم من أصحاب رؤوس الأموال ، يسرقون كدحهم ويأكلون جهدهم ولا يعطونهم إلا الكفاف .. ففكر " الإنسان" في طريقه لرفع ذلك الظلم فابتدع الشيوعية .. فأزيلت الملكية الفردية كلها وأصبحت الدولة هي المالك الوحيد . فوقع الناس جميعا في الذل المهين للمالك الجديد ، يستعبدهم بلقمة الخبز ، فلا يملكون أن يفتحوا أفواههم بكلمة نقد واحدة للسيد المعبود!
وكانت المرأة في الجاهلية الأوروبية في عهد الإقطاع مهينة محقرة ، تعير بأنها تحمل وتلد ، ولا تعطي وضعها الإنساني الكريم ، ففكر " الإنسان" في طريقه لرفع الظلم عن المرأة ورد الإنسانية المفقودة إليها ..فكيف فكر وكف قدر ؟! أخرجها من البيت وشغلها في المصنع والمكتب وجعلها تختلط مع الرجل ،فاشتغل الرجل والمرأة كلاهما بفتنة الجنس ، وفسدت الأخلاق ، وتحطمت الأسرة ،ـ وتشرد الأطفال ، وانتشر الشذوذ ، وفسدت الحياة !
وكانت الكنسية في العصور الوسطي تفسد الحياة كلها بإفساد الدين ، ففكر " الإنسان " في طريقه للإصلاح .. فكيف فكر وكيف قدر ؟ ألغي الدين كله . بل نفي وجود الله أصلا .. ثم راح يتخبط في الظلمات !
هذا هو الإنسان " العلمي الخبير!" الذي يزعم أنه شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلي وصاية الله ! وهذه هي طريقة تفكيره حين يضع لنفسه منهج الحياة !
إنه يقع فريسة لقصور العقل البشري ، وفريسة للهوي والشهوات !(2/133)
إنما يلزم لمن يضع للإنسان منهج حياته أن يكون بادئ ذي بدء عالما بذلك " الإنسان " ليضع له منهجا علي قده ، ويلزم له أن يكون محيط العلم بماضي ذلك الإنسان وحاضره ومستقبله ، لكيلا يعالج مشكلة بمشكلة جديدة ، ولا يقوم انحرافا بانحراف جديد .. ويلزم له أن يكون منزها عن الغرض ، منزها عن الهوي والشهوات ، ليكون منهجه " موضوعيا " خالصا بالنسبة لحياة الإنسان
فهل كذلك الإنسان ؟! وهل يمكن أن يكون كذلك في يوم من الأيام !
يقول الكسس كاريل عن معرفة الإنسان بنفسه :
" وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه ، ولكنه بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعور وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان ، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسها . أننا لا نفهم الإنسان ككل . إننا نعرف علي أنه مكون من أجزاء مختلفة . وحتي هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا، فكل واحد منا مكون من مكون من الإشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة !
" وواقع الأمر أن جهلنا مطبق . فأغلب الأسئلة التي يلقيها علي أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب .." 261
ومر بنا من نماذج القصور في رؤية الإنسان وطريقة علاجه للأمور ما يغنينا عن المزيد
إنما الله هو العليم الخبير لا الإنسان !
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [سورة الملك 67/14]
{وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)} [سورة البقرة 2/216]
{قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)} [سورة الطلاق 65/12]
{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة فاطر 35/15](2/134)
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28)}[سورة النساء 4/26-28]
من أي جانب إذن عالجت قضية التشريع ، فالتشريع هو حق الله تبارك وتعالي ، وليس الإنسان مأذونا ولا هو صالح لوضع منهج حياته .. إلا ما إذن الله له فيه . وسنري في النقاط التالية بأي شئ أذن الله للإنسان ، يعمل فيه عقله ويجتهد فيه .
إذا جاوزنا هذه الأمور الثلاثى ، التي نصح العقل ألا يتناولها كقضية الذات الإلهية وقضية القدر ، أو منع منعا حازما منها كقضية التشريع ، فكل المجالات الأخري مباحة للعقل ومتاحة له ، بل هو - في الإسلام - مدعو إليها دعوة صريحة ، ويعتبر مقصرا إذا لم يقم بها
وهناك خمسة مجالات رئيسية يدعي العقل للعمل فيها في ظل الإسلام :
أولا : تدبر آيات الله في الكون للتعرف علي قدرة الله المعجزة ، وتفرده بالخلق والتدبير والهيمنة والسلطان، بما يؤدي إلي إخلاص العبادة له وحده سبحانه ، وطاعته فيما أمر به وما نهي عنه
ثانيا : تدبر آيات الله في الكون للتعرف علي السنن الكونية التي يجري بها قدر الله في الكون ، لتحقيق التسخير الرباني لما في السموات وما في الأرض للإنسان ، من أجل تعمير الأرض والقيام بالخلافة بها
ثالثا : تدبر حكمة التشريع الرباني لإحسان تطبيقه علي الوجه الأكمل ، والاجتهاد فيما أذن الله فيه بالاجتهاد
رابعا : تدبر السنن الربانية التي تجري الأمور بمقتضاها في حياة البشر ، لإقامة المجتمع الإيماني الراشد الذي يريده الله .
خامسا : تدبر التاريخ
ولنقل كلمة موجزة عن كل مجال من هذه المجالات
? ? ?(2/135)
أولا : في قضية الإيمان- كما أسلفنا - يخاطب الإسلام الإنسان كله ، بكل جانب من جوانبه ويركز علي الجانب الوجداني لأن العقدية دائما تخاطب الوجدان وتحيي فيه وتتحرك به ، ولكنه يخاطب العقل كذلك في ذات الوقت ، ويستنهضه للتفكر والتدبر والتأمل ، للتتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلي الحقيقة ، حقيقة الألوهية ، وما يترتب علي معرفتها من التزامات في كل مجالات الحياة والشعور والفكر والسلوك
يخاطبه ليتدبر في آيات الخلق .. خلق الكون وخلق الإنسان .. هل من خالق غير الله ؟
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ (36)} [سورة الطور 52/35-36]
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)} [سورة لقمان 31/10-11]
ومازال هذا التحدي قائما .. وسيظل قائما إلي أن يرث الله الأرض وما عليها .. وكل محاولات الجاهلية المعاصرة أن تزيغ عن مجابهة التحدي ، بالقول بالمصادقة تارة ، وبالخالق الذاتي تارة ، وبأي كلام تارة أخري إنما هي محاولات متهافتة لا يقبلها " العقل " لو تجرد للتفكر بغير ضغوط وبغير شهوات ! والإسلام يخاطب العقل ليتجرد في تفكره ، وليصل إلي النتيجة الموضوعية العلمية التي يدل عليها كل ما في السماوات والأرض من شئ ويتخلي عن الهوي الذي يعمي وعن الكبر الذي يضل .. فيجد الحقيقة بارزة تملأ اليقين .
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)} [سورة النحل 16/17](2/136)
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 21/22]
{إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [سورة المؤمنون 23/91]
وكما يخاطبه ليستيفن من حقيقه الألوهية وتفرد الله بالخلق والتدبير .. - بطرق استدلالاته الخاصة من استقرار واستنباط وقياس ومنطق ..إلخ - يخاطب ليرتب علي يقينه ذلك ما يستتبعه من نبعات .. فإذا كان الله متصفا بتلك الصفات التي استدل عليها وتيقن منها فمن الجدير بالعبادة غيره ، ومن الجدير بالطاعة غيره؟
كذلك يخاطبه ليستيقن الحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، وما يستتبع هذا الحق من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب :
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115)} [سورة المؤمنون 23/115]
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا...} [سورة ص 38/27]
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [سورة آل 3/190-194](2/137)
إن الله الذي صفاته هي تلك التي عرفها العقل واستيقن منها لا يمكن - عقلا - إن يخلق شيئا عبثا ، أوأن يخلق شيئا باطلا ، إنما يخلق كل شئ بالحق ، والحق يقتضي أن يكون هناك يوم يحاسب فيه الناس علي ما عملوه في الحياة الدنيا ، لأنه لا يتم الجزاء الحق في الحياة الدنيا كما يري الإنسان بنفسه .. فكم من ظالم ظل يظلم حتي مات ، وكم من مظلوم ظل مظلوما حتي مات . فلو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف فأين الحق؟ إنما يحق الحق حين يبعث الناس فيحاسبون علي السيئة والحسنة ، ويأخذ كل إنسان جزاءه بالحق ..
وإذا كان الأمر علي هذه الصورة فإن " العقل " يقتضي أن يحسب الإنسان لهذا اليوم حسابه ، وأن يعمل من الأعمال ما يقربه من لجنة ويبعده عن النار .. وألا تفتنة اللذة العاجلة عن النعيم المقيم .
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} [سورة آل 3/185]
" كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور :
وهذا الأمور كلها يخاطب فيها الوجدان - مع العقل - لتتربت عليها حركة سلوكية واقعية ، ولكن نصيب العقل فيها واضح لا يحتاج إلي تأكيد
? ? ?
ثانيا : يوجه العقل بعد ذلك إلي تدبير آيات الله في الكون للتعرف علي أسراره . للتعرف علي خواص ذلك الكون ، لإمكان تسخيرها لعمارة الأرض .
والتسخير قائم من عند الله ابتداء :
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [سورة الجاثية 45/13](2/138)
ولكن تحقيق هذا التسخير في عالم الواقع لا يتم بمجرد رغبة الإنسان في ذلك ،فهو ليس إلها يقول للشئ كن فيكون ، إنما يتحقق هذا التسخير بجهد معين يبذله الإنسان ، جهد عقلي يتعرف به الإنسان علي أساس الكون وخواصه ، وجهد عضلي يطبق به الإنسان ثمار معرفته في صورة عمل منتج .
وكل ذلك يوجه العقل لآدائه . بل هو ميدانة الأصيل الذي تتجلي فيه كل عبقريته ، والذي لا يشاركه فيه غيره . وليس معني ذلك أنه في هذا الميدان لا يخطئ ولايتوهم ، فكثير ما يقع في الخطأ والوهم كما بين تاريخ العلوم ، ولكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلي الحقيقة فيما قدر الله أن يكشف له من أمور هذا الكون . ولكنه يوجه إلي ذلك بعد أن يوجه إلي التعرف علي الخالق ، وعلي كل قضايا العقيدة
ولذلك حكمة واضحة
فالعقل البشري ما لم يعوقه معوق - كما كان من أمر الكنيسة الأوروبية وحجرها علي العقل أن يفكر - مفطور بطبعه علي التفكير فيما حوله ، واستنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجاته ، ثم تحسينها ومحاولة الوصول بها إلي أقصي حد من الاتقان والفاعلية ، من أجل الحصول علي القدر من " المتاع" الذي قدره الله للإنسان في الأرض .
{وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} [سورة البقرة 2/36]
ولكن العبرة في حياة " الإنسان " ليست بمجرد العمارة المادية للأرض ، ولا مجرد الحصول علي المتاع من أي لون ومن أي طريق إنما " الإنسان" خلق لشئ أرفع من ذلك وأسمي .. خلق لحمل " الأمانة" التي اشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال :
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [سورة الأحزاب 33/72](2/139)
وحمل الإمانة لا يتم بمجرد العمارة المادية ولا المتاع الحسي .. إنما يتم بإقامة ذلك كله علي أساس من " القيم " .. والقيم الحقيقية هي التي حواها المنهج الرباني للحياة " وقد رأينا من دراستنا السابقة أن كل ما عداها زائف لا يلبث أن تعبث به الأعاصير " ومن ثم كان لابد من توجيه العقل أولا- والكيان الإنسان كله في الحقيقة - للتعرف علي الله والإيمان به وطاعته ، حتي إذا جاء العقل يتعرف علي الكون ، ويعمل علي تسخير طاقاته في عمارة الأرض ، كان مهتديا بالهدي الرباني ، فأقام عمارة الأرض علي أساس المنهج الرباني الذي به وحده تصلح الحياة .
وقد مر بنا في هذا الفصل وما قبله كيف صارت الأرض حين قامت عمارتها المادية علي" قيم "أخري غير القيم التي قررها الله وأمر بإقامتها في الأرض ، وحاضر الجاهلية المعاصرة غني عن الإشارة وغني عن التعليق .
فتوجيه العقل - في الإسلام - إلي التعرف علي السنن الكونية من أجل عمارة الأرض بعد توجيهه إلي الإيمان بالله ، وهو المنهج الصحيح لتنشئة " الإنسان الصالح" الذي تسعي البشرية - نظريا - إلي تنشئة ، ولكنها تخفق دائما حين تتنكب المنهج الرباني ، وتنشئ من عندها مناهج تؤدي إلي البوار .(2/140)
وإن كان لن من شئ نذكر به أو نعيد التذكير به في هذا المجال ، فهو أن الأمة المسلمة -ب توجيه الإسلام -0 هي التي أنشأت المنهج التجريبي في البحث العلمي ، الذي قامت عليه كل نهضة أوروبا العلمية فيما بعد ، ولكنها تفردت في التاريخ بأنها هي التي أنشأت حضارة "إنسانية " حقيقية ، تمثل " الإنسان " كل لا جانبا واحد من جوانبه ، وتمثله متوازنا كما ينبغي للإنسان ، لا العمل في الدنيا يشغله عن الآخرة ، ولا المتاع الحسي يشغله عن المتاع الروحي المتمثل في العبادة ، وفي الجهاد لإقامة الحق والعدل في الأرض ، ولا رؤية الأسباب الظاهرة تفتنة عن السبب الحقيقي ، ولا العلم يفتنه عن الدين .. إلي آخر تلك الانحرافات التي وقعت فيها الجاهلية الأوروبية حين رفضت الهدي الرباني وجعلت " عقلها" يرسم لها الطريق !
? ? ?
ثالثا : يوجه العقل في الإسلام إلي تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه ، ومن أجل الاجتهاد فيما أذن الله فيها بالاجتهاد ، وحقيقة إن هذا في الإسلام فرض كفاية لا فرض عين ، لأنه لا يتيسر لكل الناس - وإن كانوا مؤمنين - إن يتفقهوا في أحكام الدين ـ، إنما الفقهاء لهم استعداد خاص ، ويحتاجون إلي دربة خاصة لا تتاح لكل إنسان .
ولكن فرض الكفاية معناه أن يتخصص له فريق من الأمة - ممن يحملون الاستعداد وينالون الدربة - فيسقط التكليف عن الآخرين ، فإن لم ينتدب له أحد من أفراد الأمة فهي كلها أثمة حتي تهيئ من يقوم عنها بهذا الأمر .
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [سورة التوبة 9/122]
وأعمال العقل لتدبر حكمة التشريع أمر واضح الضرورة وواضح الحكمة فالتشريع أولا لا ينطبق انطباقا آليا علي كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر
إنما يحتاج الأمر إلي إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم ، ولمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه .(2/141)
ثم إن هذه التشريعة التي نزلت لتواكب حياة البشرية كلها منذ نزولها إلي قيام الساعة ، قد روعي فيها أن تواجه الثابت والمتغير في حياة الناس
فأما الثابت - الذي لا يتغير ، أو لا ينبغي أن يتغير لأن تغييره يحدث فسادا في الأرض - فقد أتت فيه الشريعة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم بتفصيلات وافية تشمل الأصول والفروع والكليات والجزئيات.
وأما المتغير - الذي يجد في حياة الناس بحكم التفاعل الدائم بين العقل البشري والكون المادي وما ينشأ عن ذلك من علوم وتطبيقات وتحويرات في أنماط الحياة ، والذي أذن الله فيه بالتغيير لأن ثباته يجمد الحياة ويوقف نموها - هذا المتغير لم تتناوله الشريعة بالتفصيل - بحكم تغييره الدائم - إنما وضعت له الأسس التي ينمو نموا سليما في داخل إطارها ن وتركت للعقل المؤمن المهتدي بالهدي الرباني ، المتفقة في أمور الدين ، أن يستنبط له من الأسس الثابتة ما يناسبه في كل طور من اطواره .
لذلك كان الفقة عملا دائم النمو لا يتفق ، ولا يجوز له أن يتوقف .. لأنه إذا توقف فليس لذلك من نتيجة إلا أن تجمد الحياة أو تخرج من إطار الشريعة الربانية الحكيمة
ولقد قام العقل الإسلامي في ميدان الفقة في فترة نشاط هذه الأمة وحيويتها بجهد رائع ، ما زال يعد تراثا إنسانيا ثمينا إلي هذه اللحظة ، رغم ما أصاب الأجيال المتأخرة من الجمود ، وما أصاب الأجيال الأخيرة من الإعراض!
والذي يطلع علي هذا الفكر يدرك مدي شمول هذه الشريعة وحيويتها وقدرتها علي مواكبة النمو البشري من جهة ، ويدرك من جهة أخري ما قام به العقل الإسلامي المفكر من فتوحات في هذا الباب ، كانت كلها وليدة توجيهات الإسلام .
? ? ?(2/142)
رابعا : ترد في كتاب الله مجموعة من السنن التي يجري الله بها قدرة في حياة البشر ، وترد الإشارة المكررة بأن سنة الله لا تتبدل ولا تتغير ، ولا تتوقف محاباة لأحد من الخلق ، ويوجه العقل إلي تدبر هذه السنن من أجل غقامة المجتمع الصالح الذي يتمشي مع مقتضياتها ولا يصادمها .
فالحياة البشرية ابتداء ليست فوضي بلا ضبابط . إنما يضبطها نظام رباني دقيق ، يسير بحسب سنن ثابتة ، ترتب نتائج محددة علي السلوك البشري في جميع أحواله . ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتبين السلوك الصائب الذي ينبغي أن يسلكه ، كما يتبين النتائج المتوقعة من سلوكه ، لا رجما بالغيب ، ولكن تحقيقا لسنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير .
وهذه السنن تتناول حياة الجماعة ، فهي سنن اجتماعية في غالبها . أما ما يرد بشأن الفرد فغالبا ما يكون متعلقا بالجزاء الذي يجزاه في الآخرة لقاء عمله في الدنيا ، وإن كان بعض السنن يأتي فيه ذكر المفرد كقوله تعالي :
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً " 262" وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} [سورة طه 20/124]
ونعرض هنا بعض هذه السنن علي سبيل المثال لا الحصر ، فليس همنا تتبعها واستقصاءها ، إنما التنويه بعمل العقل إزاءها .
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [سورة الروم 30/41]
{اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد 13/11]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الأنفال 8/53](2/143)
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [سورة الأنعام 6/65]
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [سورة الأعراف 7/96]
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [سورة العنكبوت 29/2-3]
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [سورة هود 11/15-16]
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [سورة الزخرف 43/23](2/144)
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} [سورة غافر 40/84-85]
ونفق وقفة قصيرة عند هذه السنة الربانية :
{وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [سورة البقرة 2/124]
فقد ابتلي الله إبراهيم عليه السلام بجملة ابتلاءات صبر فيها صبرا جميلا ، وكان قمة الابتلاءات أمره - في الرؤيا - بذبح ولده الحبيب إسماعيل واستسلامه وولده للأمر الرباني :
{قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [سورة الصافات 37/102-105]
ولقد أكرمه الله جزاء نجاحه الباهر في هذه الابتلاءات فاجتباه واتخذه خليلا :
{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)} [سورة النساء 4/125](2/145)
وجعله للناس إماما .. وتلك نعمة كبري يمن الله بها علي عبادة المقربين .. فلما نال تلك الحظوة عند الله تحركت رغبته البشرية الطبيعية في أن يكون هذا العهد ماضيا في ذريته ، فيكونوا أئمة للهدي ، يهدون الناس إلي الإيمان ، فهل حابه السنة الإلهية وهو في موضع التكريم والتقريب والترحيب ؟ كلا ! لقد كان الجواب حاسما : " لا ينال عهدي الظالمين " أي أن العهد ماض فيهم إذا هم استقاموا علي الطريق ، فإذا ظلموا فلا عهد لهم عند الله . ذلك أن الله لا يمكن للناس في الأرض لأن أباءهم أو أجدادهم كانوا مؤمنين ! بل حين يكونون هم بأنفسهم مستقيمين علي الطريق .. أما الذين يؤثون العهد وراثة ، أو يرثون كتاب الله وراثة - أي يتخذونه تراثا !- فيصبح في حسهم أنه كتاب الآباء والأجداد وليس كتابهم هم ، ولاهم مكلفون بتطبيقه ، فأولئك يقول الله فيهم وفي أمثالهم :
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [سورة الأعراف 7/169-170]
والذي يعنينا من هذه السنن هنا - كما أسلفنا - هو دور العقل في تدبرها ، لا تدبرا نظريا فلسفيا يبدأ في العقل وينتهي في العقل كما كان شأن عقلانية الإغريق . إنما يتدبرها ليعمل - بوعي - علي إقامة المجتمع الصالح الذي يستحق التمكين في الأرض يمقتضي الوعد الرباني .(2/146)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...} [سورة النور 24/55]
وليتجنب النذير الرباني :
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [سورة محمد 47/38]
والنذير الآخر
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال 8/25]
لسكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي هو قوام خيرية هذه الأمة
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
فحين تسكت الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبيها الفتنة ولا تصيب الذين ظلموا وحدهم ، ولكن تصيب المجموع كله لتقصيرة في مقوم أصيل من مقومات الحياة الاجتماعية والسياسية
ولا تقتصر " التوعية " السياسية علي قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إنما تتعداها إلي التوعية بالدور التاريخي والإنساني لهذه الأمة :
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143](2/147)
والتوعية بأعداء هذه الأمة ، ومخططاتهم ضدها ، وأهدافهم من هذه المخططات ، وواجبهما إزاءهم ، وطريقة التعامل معهم في السلم والحرب ، وقضية الولاء ومع من يكون ، وما حدوده وطبيعته .. إلخ .. مما لامجال لتفصيلة هنا ، فله مباحثه الخاصة ، وإنما نتحدث هنا عن دور " العقل " في كل ذلك .. ودوره هو تدبر السنن الربانية التي يتحصل منها الوعي الاجتماعي والوعي السياسي ، وهو أمر واجب في الإسلام ليتم تنفيذ المنهج الرباني علي وجه الصحيح .
خامسا : يوجه العقل إلي دراسة التاريخ
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} [سورة آل 3/137]
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ 263 وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)} [سورة الروم 30/9]
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [سورة الحج 22/46]
وواضح أن دراسة التاريخ المطلوب هي للعبرة لا للتسلية وتزجية الفراغ ! ولكن ينبغي أن نعرف موطن العبرة من دراسة التاريخ(2/148)
أن السنن الربانية التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة ، والتي يجري قدر الله بمقتضاها في حياة البشرية ،والتي قلنا إن العقل البشري مدعو إلي تدبرها والتفكر فيا من أجل إقامة المجتمع الصالح القائم علي المنهج الرباني .. هذه السنن - بطبيعتها - نادرا ما تتحقق بتمامها في داخل عمر الفرد المحدود ، لأن السنن الاجتماعية بطبيعتها تستغرق اجيالا متوالية حتي يتم التحول الاجتماعي سواء إلي الخير أو إلي الشر ( فيما عدا القلة النادرة التي تقتضي حكمة الله فيها تحقيق سنة بكاملها في أمد قصير ، تأييد لنبي أو تمكينا لجماعة مؤمنة ، كما حدث مع الرسول صلي الله عليهم وسلم وبناء هذه الأمة الشامخة في سنوات قصار )
وأنظر مثلا إلي هذه السنة :
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [سورة الأنعام 6/44]
فالجزء الأول من هذه السنة يمثل الواقع الأوروبي في وقته الحاضر .. نسوا ما ذكروا به ، وكفروا وجحدوا ، ففتح الله عليهم أبواب كل شئ ، من قوة سياسية وقوة عسكرية وقوة علمية وقوة تكنولوجية وقوة اقتصادية .. وكل ما يمكن أن يدخل في " أبواب كل شئ " وهذا الجزء وحده من هذه السنة قد استغرق قرنين كاملين من الزمان ، ولد فيه أفراد - بل أجيال - قضوا أعمارهم في هذه الحياة ورحلوا ، ولما تتحقق بقية السنة المذكورة في الآية ،" حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " ! بل توهم أناس في وقت من الأوقات أن هذه الأبواب المفتوحة ستظل مفتوحة إلي الآبد لا تغلق ولا تتهدم علي أصحابها مهما ارتكبوا من آثام !
واليوم بدا مفكرو الغرب أنفسهم يدركون أن " حضارتهم " آيلة إلي الانهيار .. وبدأو ينذرون قومهم إذا استمروا في البعد عن " القيم الروحية" كما يسمونها 264(2/149)
أن يصيبهم الدمار الذي أصاب أمما من قبلهم .. ولكن كم يستغرق ذلك من الزمان ؟ جيلا أو اجيالا كما استغرق تحقيق الجزء الأول من سنة الله !
لذلك يوجه الله " العقل " أن تتدبر التاريخ ! فالتاريخ هو المجال الواسع الذي تتحقق فيه السنن الربانية بأكملها ، سواء منها ما يتحقق في عمر الفرد وما يتحقق في عمر الأجيال . والأغلب هو الأخير !
تدبر التاريخ إذن هو في الواقع تدبر السنن الربانية في واقعها التاريخي الذي يمتد خلال القرون ، ورؤية الطريقة الواقعية التي تتحقق بها تلك السنن في حياة الأمم والأفراد ، لتتحقق العبرة الكاملة في نفوس الناس ، فيسايروا هذه السنن ولا يصادموها ، ولا يقول قائل لنفسه - علي سبيل المثال - ها أنذا قد عشت في المجتمع الفاسد عمري كله وشاركته الفساد فلا أنا أصابني الدمار ولا المجتمع الذي عشت فيه ! ولا يقول قائل لنفسه لماذا أجهد نفس في تقويم المجتمع من انحرافه الخلقي أو الفكري أو الروحي .. ما دام هذا المجتمع يملك القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الاقتصادية التي تستند وتنعه من الدمار ! ولا يقول قائل لنفسه : ما قيمة "القيم " ؟ وما فائدة " الدين " ؟ وما معني " الأخلاق " ؟ إذا كان يمكن للمجتمع أن يعيش متماسكا قويا بغير ذلك كله عدة قرون ؟
تلك عبرة دراسة التاريخ ..
إن التاريخ لا يدرس - من وجهة النظر الإسلامية - لتسجيل انتصارات الجيوش وانكساراتها ، ونشاة الدولة وزوالها مجردة عن القيم المصاحبة لها ، وعن مجري السنن الربانية فيها ، إنما يدرس بادئ ذي بدء لتتبع حياة " الإنسان" في حالتيه : حالة الهدي وحالة الضلال ، وما يجري خلال كل من الحاليتين من أحداث ، ونتائج تترتب علي الأحداث ، مضبوطة بالمعيار الذي لا يخطئ ، معيار السنة الربانية الحتمية التحقيق .(2/150)
و" الإنسان" ابتداء هو ذلك المخلوق الذي خلقه الله من قبضة من طين الأرض ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، لا " الحيوان " الذي ابتدعه دارون ، ولا " المادة" التي زعمها التفسير المادي للتاريخ .. ومقياس علوه وهبوطه ليس هو الانتاج المادي والعمارة المادية للأرض :
{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} [سورة الروم 30/9]
ولكنهم كانوا جاهلين ، لأنهم رفضوا الهدي الرباني ، وأصابهم في النهاية ما يصيب الجاهلية من الدمار ، علي الرغم من كل القوة التي يملكونها ، ومن إثارة الأرض وعمارتها .
إنما مقايس علو " الانسان " او هبوطه هو مقياس " الإنسانية " .. مقياس التزامه بالهدي الرباني الذي يحقق - وحده - إنسانية الإنسان ، والتزامه بمقتضيات الخلافة الراشدة ، أي عمارة الأرض بمقتضي المنهج الرباني لا بأي منهج سواه .
وحين يتحقق هذه الوعي التاريخي - لا في صورة فلسفية ذهنية تجريدية - ولكن في صورة وعي حركي واقعي ، يكون هذا عونا كبيرا للإنسان الراشد ، يوجه إلي السلوك الناضج المستقيم ، الذي يتحقق به الوجود الأعلي للإنسان .
? ? ?
تلك عقلانية الإسلام .. عقلانية سليمة ناضجة تمثل الرشد البشري في أعلي حالاته
عقلانية تعطي العقل مكانة اللائق به ، بلا إفراط ولا تفريط .. فلا هي تغالي في تقدير قيمة العقل فتقحمه فيما ليس من شئونه أو تجعله المرجع الأخير لكل شئ حتي الوحي الرباني ، ولا هي تبخسه قدرة فتمنعه من مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها ويحسن العمل فيها .
عقلانية تكل إلي العقل مهام خطيرة وواسعة .. تكل إليها مهمة حراسة الوحي الذي تكفل بحفظه الله " 265من كل تأويل فاسد مضل ، وحراسة أحكام الله من الانحراف بها عن " مقاصد الشريعة " وحراسة المجتمع في الآفات الاجتماعية والسياسية والفكرية والخلقية التي تؤدي إلي تدميره .. كما تكل إليه مهمة التقدم العلمي والبحث التجريبي وعمارة الأرض .(2/151)
ولكنها لا تكل إليه - ولا تسمح له - إن يحيد عن الوحي الرباني والمنهج الرباني ، ولا أن يجتهد من عنده ما لم يأذن به الله ، لأنه عندئذ بجانب الصواب ، ويحيد عن الخير ، ويمكن للفساد :
وتلك هي العقلانية المتوازنة .. أين منها عقلانية الإغريق الغابرة ، والعقلانية التجريبية التي يمارسها الغرب في جاهلية القرن التاسع عشر والقرن العشرين !
? ? ?
القومية والوطنية
الوطنية معناها أن يشعر جميع أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك الوطن ، والتعصب له، أيا كانت أصولها التي ينتمون إليها ، وأجناسهم التي انحدروا منها . أي أن الولاء فيها للأرض بصرف النظر عن القوم أو اللغة او الجنس .
والقومية معناها أن أبناء الأصل الواحد واللغة الواحدة ينبغي أن يكون ولاؤهم واحدات وإن تعددت أرضهم وتفرقت أوطانهم ،وأن كان معناها أيضا السعي في النهاية إلي توحيد الوطن بحيث تجتمع القومية الواحدة في وطن شامل ، فيكون الولاء للقومية مصحوبا بالولاء للأرض .. ولكن الولاء للقومية يظل هو الأصل ولو لم تتحقق وحدة الأرض .
وأيا كانت التعريفات النظرية للقويمة والوطنية ، فالذي يهمنا بادئ ذي بدء أن نتعرف علي منشئها في أوربا ، ثم أثارها التي ترتبت عليها في التاريخ البشري الحديث .
كانت أوربا في وقت من الأوقات وحدة سياسية تجمع قوميات ولغات وأجناسا شتي ، في ظل الإمبراطورية الرومانية . ولم يكن هذا التجمع يشكل " أمة " بالمعني الحقيقي . فقد كانت الدولة الأم هي " الأمة" في نظر نفسها وفي نظر المستعمرات التي استولت عليها والحقتها بالإمبراطورية ، كما كانت الدولة الأم هي " السيدة " والمستعمرات هي " العبيد " ولم تمتزج شعوب الإمبراطورية قط في وحدة حقيقية كالتي جمعت الأمة الإسلامية - - أمة العقيدة - التي انصهرت القوميات والأجناس واللغات فيها في بوتقة العقيدة فصارت أمة واحدة علي مستوي واحد ، وهي " الأمة الإسلامية "(2/152)
في مجتمع المدينة كان بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي في القمة من ذلك المجتمع ، مع السادة من قريش ، وكان الرسول صلي الله عليه وسلم يقول " سلمان منا أهل البيت " وكان عمر رضي الله عنه يقول : " ابو بكر سيدنا ، واعتق سيدنا" إشارة إلي بلال رضي الله عنه ،فكانه - وهو في الذؤابة من قريش - يقول عن بلال : " سيدنا بلال " وهي قمة لم تصل إليها البشرية في تاريخها كله إلا في أمة العقيدة.
ثم انساح المسلمون في الأرض وفتحوا ما فتحوا من البلاد لا لينشئوا إمبراطورية ولكن لينشور العقيدة . لم تكن توسعه الأرض قط هي التي تهمهم أو تدفعهم إلي الخروج من أرضهم ، ولم يكن ضم موارد جديدة ، واستخدامها - أو تسخيرها - للدولة الأم لتغني وتكتنز ، خاطرا يدفع قائدا من القواد أو جنديا من الجنود ، إنما كان الدافع الأصيل هو إزالة " الجاهلية " ليحل محلها الإسلام دون إكراه للناس علي عقيدة الإسلام إزالة الجاهلية ممثلة في دول وجيوش ونظم لا تؤمن بالله ولا تطبق المنهج الرباني ، ليحل محلها النظام الإسلامي ممثلا في تطبيق شريعة الله ، وتطبيق العدل الرباني والحكمة الربانية ، مع ترك الناس أحرارا في عقائدهم بإذن الدولة الإسلامية بل بحراستها وحمايتها !
إنها تجربة فريدة في التاريخ ، لم تتكرر ، وليس من شأنها أن تتكرر مع أي نظام آخر ،/ إلا أن يكون نظاما قائما علي العقيدة الصحيحة في الله ، مطبقا لشريعة الله
ومهما يكن من أمر فإن أوربا لم تعرف هذا اللون من التجمع في تاريخها كله ، حتي بعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية - أو أدعي ذلك - وفرضها علي الإمبراطورية كلها عام 325م
وقد كان المفروض حين تصبح الإمبراطورية مسيحية أن يجمعها ذلك اللون من التجمع الذي وحده الأمة الإسلامية فيما بعد ، وصهر أجناسها وألوانها ولغايتها في كيان واحد متحد ، ليس فيه اتباع ومتبوعون ، بل فيه " مسلمون" علي قدم المساواة(2/153)
ولا شك أن دخول الإمبراطورية في المسيحية قد أنشأ - لفترة من الوقت - لونا من التجمع الشعوري .. وقد كان هذا هو هدف قسطنطين الحقيقي من دخوله المسيحية ، فلم يكن همة " العقيدة" إما كان همه توحيد الإمبراطورية التي كانت توشك علي التمزق والافتراق .. ولكن هذا التجمع لم يرتق قط إلي الصورة التي مارستها الأمة الإسلامية لأكثر من سبب واحد .
أحد الأسباب - أولعله السبب الرئيسي - أن الدين لم يصل إلي الأمبراطورية في صورته الكاملة ، إنما وصل إليها - كما بينا في التمهيد الأول من هذا الكتاب - عقيدة مفصولة عن الشريعة ، وقد كان لتلك العقيدة سلطانها علي القلوب ولا ريب ، ولكن لا يستوي الدينان : دين متكامل يحكم مشاعر القلب وواقع الحياة ، ودين ممسوخ ، يقبع في وجدانات الناس ، وقد يحكم بعض سلوكهم الشخصي ، ولكنه عاجز عن حكم الواقع العملي للناس ، يستكبر عنه الأباطرة فيحكمون بالقانون الروماني ولا يحكمون بشرائع ذلك الدين .. ولا يستوي الدينان في أثرهما علي الواقع ، ولا في قدرتهما علي تجميع الناس في صورة "أمة" موحدة :
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [سورة الزمر 39/29](2/154)
والسبب الثاني أن العقيدة حين وصلت للامبراطورية الرومانية - أو حين فرضها عليها الإمبراطور قسطنطين - لم تكن علي صورة واحدة ، فقد كانت قد نقسمت إلي مذاهب ومعتقدات شتي- لا في الفروع كما هو شان المذاهب الإسلامية - إنما في أصل الاعتقاد ، بحيث لا يمكن أن يلتقي أصحاب مذهب ومذهب علي شئ ، فالدين قد انحصر في العقيدة ، والعقيدة أصبحت عقائد مختلفة متعارضة متعادية .. ويكفي نموذج واحد من هذا التعارض والعداء ـ، وهو ما كان بين الدولة الرومانية وأقباط مصر .. فقد كانوا كلهم " مسيحيين " ولكن الخلاف بين مذهب الدولة الكاثوليكي ومذهب الاقباط الأرثوذكسي كان من السعة وعدم الالتقاء بحيث كان الاقباط يسامون الخسف والعذاب من أجل عقيدتهم ، حتي ليستخفون بها عن أعين الدولة ، ويقام في الكنيسة الواحدة عبادتان مختلفتان، إحداهما علوية ظاهرة والأخري سفلية سرية ، كما كان الحال في كنيسة " مار " 266 " جرجس " حيث كانت تقام صلاة علنية علي مذهب الدولة في أورقة الكنيسة العلوية الظاهرة وصلاة أخري سرية في سراديب تختية خفية ت يختفي فيها الأقباط عن عيون الدولة الرومانية التي تتعقبهم بالعذاب والإرهاب .. وشأن هذا الخلاف ان يمزق ويفرق لا أن يجمع الصفوف ويوحد البناء
وصحيح أن أوربا في مجموعها كانت كاثوليكية لعدة قرون ـ،وكان اتحادها في المذهب عاملا من عومل تجمعها ،ـ كما سنبين بعد ، ولكن حجم هذا التجمع وتأثيره في حياة الناس كان يمكن أن يكون أكبر من واقعة الذي كان عليه ، لو كان فيء حس أصحابه أن دينهم واحد في كل الأرض ، وأنهم ليسوا مجدر قطاع
من هذا الدين - وإن يكن القطاع الاعظم - تغايره بقية القطاعات في أصول الاعتقاد 267
فإذا اجتمع إلي هذين السببين أن اللاتينية - لغة الكتاب المقدس 268(2/155)
لم تكن قط لغة الكلام في الإمبراطورية الرومانية ، وإنما لغة المثقفين ورجال الدين فقط ، إلي جانب كونها اللغة "الرسمية " للدولة وإنما الشعوب داخل الإمبراطورية تتكلم لغات أخري يختلف بعضها عن بعض اختلاف رئيسيا .
إذا اجتمعت هذه الأسباب كلها وضح لنا أن التجمع الذي تم في ظل الإمبراطورية الرومانية المسيحية لم يكن في شأنه أن يرتقي إلي تكوين " أمة " واحدة علي النسق الذي تم به الأمر في ظل الإسلام ، الذي لم تنفصل فيه الشريعة عن العقيدة ، والذي لم تحدث فيه خلافات عقيدية تمزق وحدته ، والذي كانت لغته - لفترة طويلة من الوقت - لغة واحدة هي لغة القرآن ؟
ومع ذلك كله فقد كان لسلطان العقيدة في نفوس المسيحيين الأوروبيين ، وسلطان الكنيسة البابوية من جهة اخري ، تأثيرا ملموسا لا شك فيه ، أوجد لونا من التجمع والوحدة رغم كل أسباب الفرقة والخلاف.
ولكن حماقات الكنسية التي اشرنا إليها في التمهيد الأول مالبثت أن عملت علي تقويض ذلك التجمع من أكثر من باب
لقد كان طغيانها في كل جانب مثيرا لردود فعل مختلفة تلتقي كلها عند الرغبة في تخطيم نفوذ الكنيسة والتفلت منه ، فضلا عما حدث فيما بعد من النفور من الدين ذاته والانسلاخ منه
وإذا كان الدين ونفوذ الكنيسة هما الرباط الذي أوجد ذلك القدر من التجمع في أوراب فلنا أن توقع أن يكون أثر ردود الفعل المشار إليها هو انفراط عقد هذا التجمع وفصم روايطه . وذلك الذي كان !
كان تمرد الملوك علي طغيان الكنيسة السياسي أول بادرة من بوادر التمزق في الوحدة الأوروبية ولكن هذا التمرد وحده كان يمكن أن يظل محدود الاثر لو لم يصاحبه في ذات الفترة تقريبا تمرد من نوع آخر وفي جهة أخري ، هو أشد خطر علي الوحدة من تمرد الملوك . ذلك هو تمرد رجال الدين ، المعروف باسم " حركة الإصلاح الديني "!(2/156)
لقد كان تمرد الملوك نزاعا سياسيا علي السلطة الزمنية . البابا يدعي لنفسه السلطة الروحية والسلطة الزمنية كليهما ، والملوك يطالبون بالسلطة الزمنية أن تكون في أيديهم ، علي أن تبقي السلطة الروحية وحدها في يد الباب .. وإلي هنا كان يمكن أن يستقل الملوك بالسلطة الزمنية ولك تظل الوحدة الدينية قائمة ، ويظل السلطان الروحي للبابا قائما ، فتظل الدعامتان اللتان كونتا الوحدة الأوربية قائمتين .
ولكن حركة الاصلاح الديني كانت موجهة إلي صميم العقيدة الجامعة وهي العقيدة الكاثوليكية التي لم تكن - حتي ذلك الحين - موضع نزاع في داخل أوروبا .
كان من نتيجة الطغيان الروحي للبابا ورجال دينه أن رغبت " كنائس" مختلفة في أوربا أن تنفصل عن كنيسة روما وتستقل عنها ، متخذة في الغالب صورة خلاف مذهبي مع الكاثوليكية التي كانت تخضع لها كل الكنائس من قبل ، فانفصلت كنيسة بريطانية وكنيسة ألمانية وتبعتها كنائس أخري ، وحرص الملوك علي السيطرة علي تلك الحركات لا رغبة في الإصلاح الديني الذي كانت تنشق تلك الكنائس روما باسمه ، ولا رغبة في تنمية روح التدين الحقيقية عند شعوبهم ، فليس شئ من ذلك في صالح السيطرة السياسية المطلقة التي ادعوها لانفسهم حين طالبوا بفصل السلطة الزمنية عن السلطة الرومية ، ولكن لأ، كل حركة تمرد علي الكنيسة البابوية من أي نوع هي كسب لهم في معركتهم ضدها ، لأنها تضعفها وتضعف سلطانها ، فيسهل عليهم التخلص من نفوذها
يقول ولز في كتاب " معالم تاريخ الإنسانية " ( جـ3 مقتطفات من ص 989 - 991 من الترجمة العربية )
" كانت الكنيسة تفقد سيطرتها علي ضمائر الأمراء وذوي اليسار والاقتدار من الناس , وكذلك شرعت تفقد إيمان عامة الناس بها وثقتهم فيها . وكان من نتيجة انحطاط سلطانها الروحي علي الطبقة الأولي أن جعلتهم ينكرون تدخلها في شئونهم وقيودها الخلقية عليهم ومدعياتها بالسيادة العليا فوقهم .(2/157)
وادعاءها الحق في فرض الضرائب وفي حل ارتباطات الولاء .. لذلك كفوا عن احترام مالها من سلطان وممتلكات
" و لقد ظل هذا الخروج عن الطاعة يصدر من الأمراء والحكام طوال العصور الوسطي بأكملها، بيد أن الأمراء لم يشرعوا في التفكير جديا في الانفصال عن المذهب الكاثوليكي وإقامة كنائس جزئية منفصلة إلا عندما أخذت الكنيسة في القرن السادس عشر تنضم علنا لخصمها القديم - الإمبراطور - عندما قدمت إليه التأييد وقبلت منه المساعدة في حملتها علي الهراطقة . وما كانوا ليقدموا علي ذلك أبدا لولا أنهم أيقنوا أن سيطرة الكنيسة علي آذهان الجماهير قد ضعفت .
" ولما انفصلت انجلترة ، واسكتلندة والسويد والنرويج والدانمارك ، وشمال ألمانيا وبوهيميا عن الارتباط بروما ، أظهر الأمراء وغيرها من الوزراء أقصي بوادر القلق والاهتمام بحفظ زمام الحركة في أيديهم .. وذلك أنهم كانوا لا يسمحون من الإصلاح إلا بالقدر الذي يمكنهم من فصهم العلاقة مع روما . فأما ما تجاوز ذلك ، وأما أي انفصام خطر يتجه بالأفكار إلي تعاليم يسوع البدائية ، أو التفسير الفج المباشر للكتاب المقدس فكانوا يقاومونها "
والذي يهمنا الآن - بصدد موضوعنا الذي نعالجه - ان حركات الانفصال هذه - أيا كان العنوان الذي قامت تحته - كانت هي البداية لظهور القوميات في أوروبا
يقول الاستاد الندوي ( ص 211 - 212 من كتاب " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين "(2/158)
" والدين السماوي مهما تحرف وتغير لا يعرف الفرق المصطنعة بين الإنسان والإنسان ، والإنسان ولا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان ، فجمعت النصرانية الأمم الأوروبية تحت لواء الدين ، وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدة ، واخضعت الشعوب الكثيرة الكنيسة اللاتينية فقلت العصبية القومية والنعرة الوطنية ، وشغلت الأمم عنها لمدة طويلة ، ولكن لما قام لوثر ( 1483-1546) بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية رأي أن من مصلحة مهمته أن يستعين بالألمان بني جنسه ، ونجح في عمله نجاحا لا يستهان بقدره ، وانهزمت الكنيسة اللاتينية في عاقبه الأمر فانفرط عقدها ، واستقلت الأمم ، واصبحت لا تربطها رابطة ولم تزل كل يوم تزداد استقلالا في شئونها وتشتتا ، حتي إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوربا قويت العصبية القومية والوطنية . وكان الدين والقومية ككفتي ميزان ، كلما رجحت واحدة طاشت الأخري .. ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تخف كل يوم ، ولم تزل كفة منافستها راجحة . وقد أشار إلي هذه الحقيقة التاريخية الانجليزية المعروف لورد لوثين - السفير البريطاني في أمريكا - في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة 1938م.
وربما يعجب الإنسان لأول وهلة حين يعرف أن " حركة الإصلاح الديني " هذه كانت نابعة من مؤثرات إسلامية ، ومع ذلك لم تؤث الثمار الطيبة التي كان يمكن أن تنشأ عنها . ولكن العجب يزول حين يدرك الإنسان أوربا - وهي تقتبس جزئيات من الحياة الإسلامية - كانت ترفض الإسلام ذاته بدافع العصبية الصليبية ، ومن ثم يضيع الخير الجزئي الذي اقتبسته من الإسلام !(2/159)
ولسنا هنا بصدد رصد المؤثرات الإسلامية التي انتجت حركة الاصلاح الديني في أوربا ، وكيفينا أن نشير إلي كلمة الفاروالقرطبي التي نقلناها في الفصل السابق عن تأثير شباب النصاري في الأندلس بالوجود الإسلامي هناك ، إلي حد أنهم كانوا ينظرون بزراية إلي كتب اللاهوت المسيحي ويعتبرونها غير جديرة بالالتفات . ولنا أن نتوقع أن تأثيرات مشابهة - ولو كانت علي درجة أقل - قد سرت في أوربا عند احتكاكها بالمسلمين سواء في الحروب الصليبية أو في الاحتكاك السملي حني بدأت أوروبا مبعوثيها إلي مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من البلاد الإسلامية ليتعلموا العلم ، حيث لم يكن هناك علم في الأرض إلا عند المسلمين .
وقد رأي النصاري عند احتكاكهم بالمسمين عالما مختلفا تمام الاختلاف ، عالما لا كنيسة فيه ولا " بابا " ولا رجال دين .. إنما فيه علماء يتفقهون في الدين ، وغالبا ما يتفقهون في علوم أخري مع العلوم الدينية كالطب أو الفلك أو الرياضيات ..إلخ .. بلا تعارض بين تفقههم هنا وهناك .. وليس لهم - مع تفقههم - كهانة علي الناس ولا سلطان إلا توقير العلماء من أجل علمهم فحسب ، ولا وساطة لهم بين الناس وبين ربهم الذي يعلمهم أنه لا وسطاء ولا شفعاء عنده ، وأنه ما علي العباد إلا أن يدعوه ، فيستجيب لهم بلا وسيط :
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [سورة غافر 40/60]
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [سورة البقرة 2/186](2/160)
عندئذ تحركت نفوس الذين يرغبون في الإصلاح لمحاولة إصلاح مفاسد الكنيسة المتراكمة خلال القرون ، وخلع السلطان الطاعي الذي فرضه الباب ورجاله علي الناس باسم الدين ، ولكن محاولاتهم كانت كالرقعة في الثوب الخلق بسبب رفضهم الدخول في الإسلام ، وسعيهم إلي الإصلاح بغير عدته الحقيقية التي تؤدي إليه .. واستغل الملوك هذه الحركات لحسابهم الخاص كما أسلفنا ، لا يريدون الإصلاح الديني الحقيقي ولا يريدون للناس أن يستقيموا علي دين صحيح فيخرجوا علي طاعتهم ! إنما رأوا فيها أداة تساعدهم علي الإنسلاخ من سلطان الباب فاستغلوها في هذه الحدود
ولم يكن الملوك وحدهم وراء اللعبة ، إنما كان وراءها كذلك اليهود ، المتربصون لأية فرصة تسنح لهم للانتقال من النصاري الذي اضطهدوهم وأذلوهم علي أساس أنهم تسببوا في صلب السيد المسيح " 269 فلما قامت حركات تؤذن بتفريق كلمة النصاري وتشتيت سلطان الكنيسة ، كان من صالحهم ولا شك أن يحتضنوها ويوجهوها خلسة أوعلانية لتوسيع الشقة بينها وبين الكنيسة الأصلية ، وكل فرقة =- سواء قامت باسم الإصلاح أو بهدف الإفساد - هي في النهاية في صالح اليهود ما دامت لا تؤدي إلي إصلاح حقيقي ! وإن صلة اليهود بالبروتستانتية بالذات لأمر معلوم لكل من يدرس تاريخ تلك الحركة وإن انكر تلك الصلة هؤلاء وهؤلاء
هكذا كان مولد القوميات في أوربا
حركات إصلاحية مبتورة غير ناضجة ، أستغلها ذوو الأهواء لحسابهم الخاص ، فأفسدوها وحولوها إلي اتجاه شرير .(2/161)
إن القومية في ذاتها نزعة غير إنسانية ، لا يتوقع أن ينشأ منها إلا الشر ، إنها بادئ ذي بدء تحد عالم " الإنسان" فبدلا من أن يكون أفقه العالم والإنسان ، إذا أفقه هو قومه ، والرقعة الضئيلة من هذا العالم التي يسكن فيها قومه ، وهي مصالح مادية يتعارك عليها مع غيره من الهابطين مثله إلي دركه ، كالمصالح " التي يتعارك عليها الحيوان ، من أرض وكلأ إذا كان من الضعاف أكله العشب ، أو أرض وصيد إذا كان من الوحوش التي يفترس القوي منها الضعيف !
ثم إنها تقيم تجمعها علي الأمور التي لاخيار فيها للإنسان .. من المولد في أرض معينة ، والكلام بلغة الأرض التي ولد فيها ، والمصالح المادية القاهرة ، في الوقت الذي تنبذ فيه كل الأمور التي يكون للإنسان فيها الخيار ، والتي يتفاضل فيها إنسان علي إنسان بناء علي ذلك الخيار .. تنبذ العقيدة في الله ، التي يختار فيها الإنسان بين الإيمان والكفر ، ويتفاضل الناس فيها علي أساس الإيمان والكفر .. وتنبذ القيم المنبثقة من العقيدة ، وهي نظافة المشاعر ونظافةا لسلوك مع الأصدقاء والاعداء سواء .. أي الصدق مع كل الناس ، والأمانة مع كل الناس ، والعدل مع كل الناس ، ثم الحب في الله والبغض في الله ( لا للمصالح الأرضية ) أي الحب لمن هو جدير بالحب بالفعل بالمقاييس الانسانية الرفيعة ، والبغض حقا بتلك المقاييس .. وهي القيم التي يختار فيها الإنسان بين الالتزام وعدم الالتزام . أي بين الرفعة والهبوط ..
أنظر في مقابل ذلك هذه الآية الكريمة من القرآن :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات 49/13](2/162)
فكون الناس شعوبا وقبائل ، هذه حقيقة واقعة ملموسة ، وهي من إرادة الله لأنه هو الذي " جعل " الناس كذلك ، ولكن الله لم يشأ سبحانه أن ينحبس الناس في داخل شعوبهم وقبائلهم وينغلقوا في حدودها وهو ما تفعله القوميات والوطنيات بادئ ذي بدء ، ولا أراد للناس أن يلتقوا من داخل الإطار الذي تشكله شعوبهم وقبائلهم في عراك مع الشعوب والقبائل الأخري ، وهو ما تفعله القوميات الوطنيات بعد ذلك أي بعد انحسارها في داخل حدودها ، وبحثها عن " مصالحها القومية "!
إنما جعل الله الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا .. يتعارفو كما بنو الإنسان .. لأن الخطاب في الآية كان للناس : " يا أيها الناس .. " لا للوحوش ولا للأفاعي ولا للحشرات ! ثم قرر الله قاعدة التعارف التي تليق ببني الإنسان حني يتعارفون ، وهي التقوي " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وهي الكلمة الجامعة لكل ما في الحياة الإنسانية من معاني الخير ..
ولكن الجاهلية الأوروبية ما كان لها أن تهتدي إلي هذه المعاني وهي ترفض أصل الهدي ومنبعه ، وهو الإسلام .. ولو اهتدت إلي شئ من تلك المعاني لا ستصغرت الأفق الذي تجور فيه القومية والوطنية وأحست نحوه بالأزدراء ! ففي اللحظة التي تحس أنو الرباط الحقيقي الذي يربط " نفسا إنسانية " بنفس أخري إنسانية ليس هو المصالح المادية ، ليس هو الأرض والكلأ والمتاع الحسبي ، وليس هو الأمور التي لا اختيار للإنسان فيها من الأرض والمولد واللسان والدم .. إنما هو " المشاعر " التي ميزت الإنسان من لحظة مولده عن سائر المخلوقات من دونه ، وهي العقيدة الواعية في الله ،ـ والقيم المتعلقة بالعقيدة من نظافة سلوكية مع الناس ، وحب في الله وبغض في الله ... في اللحظة التي ترفع فيها إلي ذلك المستوي ستحس علي الفور بأن ما تمارسه القوميات والوطنيات هبوط لا يليق " بالإنسان " ! ونكسة إلي الوراء في ميزان " الإنسانية " وليس تقدما إلي الأمام !(2/163)
وعلي الرغم من أن هذه الجاهليات قد حاولت أن تستعير من الإسلام رقعة ترقع بها ثوبها الخلق ، فيما يسمي بحركة الإصلاح الديني ، فإن رفضها الأساسي لأصل الهدي وقاعدته الحقيقية قد جعل هذه الرقعة تضيع ضياعا كاملا في ذلك الثوب .. وسرعان ما بليت الرقعة كما بلي الثوب من قبل ، وألقي صاحب الثوب ثوبه البالي كله ، وخرج من الدين ، واستبدل به قوميات علمانية لا صلة لها بالدين ، أقصي ما يتسع صدرها له ان تتسامح في وجوده فلا تنبذ أصحابه ولا تطاردهم ، وإن كانت كثيرا ما يضيق صدرها به وبهم ، فتلفظهم لفظا وتلقي بهم خارج الساحة ، إن لم تفعل ماهو أسوأ من ذلك كثيرا ، فتلقيهم في غياهب السجون !
علي أن الشر الذي نجم من القوميات والوطنيات لم يكن شرا شخصيا ينتهي أمره بهبوط أصحابه عن إنسانيتهم ، وقبوعهم في داخل حدودهم وهم متشحون بذلك الهبوط .كلا ! ليس ذلك من " شم " القوميات والوطنيات ، إلا أن تكون في حالة من الضعف الشديد لا تقدر فيها علي العدوان ! أما أن كانت في حالتها " الطبيعية " أي تملك وسائل القوة ، فإن أول ما تتجه إليه هو السعي إلي توسيع رقعتها علي حساب قومية اخري أضعف منها ، أو تظن فيها أنها أضعف منها ! كما يسعي الوحش إلي الصدام مع من يتوسم فيه الضعف ليفترسه !
يقول الاستاذ الندوي بعد النص الذي نقلناه :
" لما قضت حركة لوثر التي تدعي حركة إصلاح الدين علي وحدة أوروبا الثقافية والدينية انقسمت هذه القارة في إمارات شعبية مختلفة ، وأصبحت منازعاتها ومنافساتها خطرا خالد علي أمن العالم270
وبالفعل نشب صراع عنيف داخل أوربا بين هذه القوميات الناشئة بعضها وبعض
ولنأخذ مثالا واحدا علي ذلك ما يعرف في التاريخ الأوربي بالحروب الإيطالية(2/164)
يقول الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي أستاذ التاريخ الحديث بقسم الدراسات العليا بكلية البنات الإسلامية بجامعة الأزهر في كتابه " أوربا في مطلع العصور الحديثة " تحت عنوان" تعريف بمصطلح الحروب الإيطالية " :
" الحروب الإيطالية هي حروب منقطعة نشبت بين فرنسا وأسبانيا خلال فترة استطالت خمسة وستين عاما ( 1494-1559 ) وكانت هذه الحروب مظهرا من مظاهر التنافس الدولي بين هاتين الدولتين من أجل السيطرة والنفوذ في أوروبا ، والرغبة في التوسع الإقليمي داخل القارة ، وقد بدأ هذا التنافس بين فرنسا وأسبانيا قبل أن يلفظ القرن الخامس عشر أنفاسه الأخيرة ،واقترن بصراع حربي مرير خاضته الدولتا ، وكانت شبه الجزيرة الإيطالية ميدانيا لتصارع الجيوش الفرنسية والأسبانية خلال المراحل الأولي لهذه الحروب التي تطورت بعد ذلك إلي نضال أوربي استع نطاقه وانتقل إلي ميادين متعددة خارج شبه الجزيرة الإيطالية 271
ثم يقول بعد ذلك بصفحات تحت عنون " الموقف الدولي عند نشوب الحروب الإيطالية(2/165)
" كانت فرنسا وأسبانيا قد تطلعتا إلي إيطاليا واستهدفتا تحقيق غرضين هما : التوسع الإقليمي بالاستيلاء علي ممتلكات جديدة في شبه الجزيرة الإيطالية ، ثم السيطرة والتفوق السياسي في القارة الأوروبية ،. كانت كل منهما تمثل الدولة الملكية الموحدة ذات الحكومة المركزية ن وكانت كما منهما أيضا ، ( والقرن الخامس عشر يلفظ أنفاسه الأخيرة ) في طليعة الدول اللاتينية والكاثوليكية في غرب أوربا ، وقد بلغت كلتاهما مستوي من التقدم الحضاري - الثقافي والمادي - يفوق كثيرا المستوي السائد في شرق أوربا ، وكان من المتوقع أن تركز هاتان الدولتان جهودهما لتنشيط حركة البعوث الكشفية الجغرافية لتحقق مزيد من النجاح بعد أن بدت تباشير اكتشاف عالم جديد يتيح أفاقا جديدة رحيبة للتجارة والثراء والقوة ولكن بدد ملوك أسبانيا وفرنسا قواهم طوال فترة رحيبة للتجارة والثراء والقوة ، ولكنبدد ملوك أسبانيا وفرنسا قواهم طوال فترة امتدت زهاء خمسة وستين عاما في صراع مرير استهدف السيطرة علي إيطاليا ، وأنظر بهم جميعا اضرار فادحة ، وأذل بلادا متحضرة شهدت مولد النهضة الأوربية في فجر التاريخ الحديث .. وقد أدي هذا الصراع إلي أفول النهضة الأيطالية ، وخضوع إيطاليا لصرامة الحكم الأجنبي 272(2/166)
ولنستعرض فقط بعض عناوين الكتاب ذات الدلالة علي الدوامة التي اجتاحت أوربا في ذلك الحين بسبب التنافسات القومية : أحلام شارل الثامن ملك فرنسا - مقدمات التدخل الفرنسي في إيطاليا - الزحف الفرنسي الخاطف علي إيطاليا - نحاج انسحاب الجيش الفرنسي من إيطاليا - هزيمة ملكة نابولي - بابا جديد يكتل نصف أوربا ضد جمهورية البندقية - الحلف المقدس ضد فرنسا سنة 1511 - انتصار الفرنسيين في معرفكة رافنا سنة 1512- توسيع قاعدة الحلف المقدس ضد فرنسا - انتكاس فرنسا عسكريا - انتقام البابا - اطماع البابا - عودة إلي سياسة الأحلاف العسكرية - القوات السويسرية تحسم الموقف لصالح حلف مالين - اطماع فرنسوا الأول ملك فرنسا - موقعة مارينيان ونتائجها - اشتداد المنافسة بين ملكي فرنسا وأسبانيا علي منصب الإمبراطور - انتخاب ملك أسبانيا إمبراطورا - عودة إلي الصدام المسلح - عدوان ثلاثي علي فرنسا - معركة باقي ( 24 من فبراير 1525 ) - الموقف الداخلي في فرنسا بعد كارثة باقي - حملة سنة 1528 - فرنسا تحرز انتصارات خاطفة - جيش فرنسي جنوبي إيطاليا يضطر إلي التسليم - هزيمة جيش فرنسا في شمال إيطاليا وأسر قائدة - أسباب التعجيل في عقد الصلح تجدد الحرب ومعركة سيريزول - استمرار الصراع بين فرنسا وأسبانيا علي عهد هنري الثاني - الصدام السملح بين فرنسا والإمبراطورية - استمرار الصراع الحربي علي عهد فيليب الثاني - البابا يورط ملك فرنسا في صدام مسلح ضد ملك أسبانيا الجديد - فرنسا تتعرض لهزيمة محققة - فرنسا تنتزع ثغر كالية من انجلترا - نهاية الحروب الإيطالية !!(2/167)
وهذه كلها حرب واحدة من الحروب العديدة التي جرت في أوروبا علي فترات متتابعة .. وتكفي حروب نابليون الشهيرة مثلا ثانيا علي تلك الروح الشريرة التي اجتاحت أوربا منذ ظهرت فيها حمي القومية ، ولسنا في حاجة إلي تتبع تفصيلاتها فلن يزيدنا ذلك معرفة بتلك الروح التعسة ، كما أن قصة نابليون بصفة عامة معروفة عند كثير من القراء .
ثم جد عامل جديد زاد من حدة الصراع .. ذلك هو الثورة الصناعية ..
إن " أخلاق " الثورة الصناعية هي " الاخلاق " اليهودية - أن سميت هذه أخلاقا - أي السعي إلي الربح بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة ، ولم يكن غيريبا أن تتخلق الثورة الصناعية بهذه الأخلاق الهابطة ، منذ كانت خاضعة للسيطرة اليهودية منذ نشأتها ، كما بينا في التمهيد الثاني من هذا الكتاب 273
ولما كانت القوميات قد اتجهت اساسا إلي تحقيق " المصالح القومية " بصرف النظر تماما عن " المصالح الإنسانية " .. وإذا كانت المصالح القومية مصالح مادية بالدرجة الأولي .. فنستطيع أن نتصور الحال حين تدخل القوميات بصراعاتها المادية في دوامة الثورة الصناعية ، فإن هذه الصراعات لابد أن تتضاعف عدة مرات ، ولا بد أن تأخذ صورة الصراع المادي البحت ..
وكانت " الفلسفة " التي قام عليها هذا الصراع - إن سميت هذه فلسفة - هي الفلسفة الرأسمالية المتذرعة بقول الداروينية ": " البقاء للإصلاح " 274 ولما كانت كل قومية تزعم لنفسها أنها هي الأجدر بالبقاء ، وتريد أن تثبت ذلك بالفعل ، فلنا أن نتصور كيف يعنف الصراع بين القوميات المختلفة ويصل إلي حد الوحشية ! وتموت في دوامة الصراع الوحشي كل المعاني " الإنسانية " ويسمي هذا " تقدما" حسب التفسير الدارويني للحياة ، والتفسير المادي للتاريخ !
ومع الثورة الصناعية الرأسمالية المتلبسة في ذات الوقت بالقومية ، اتسعت رقعة " الاستعمار :
لقد كان الاستعمال الأوربي في منشئة دفعة صليبية بحتة(2/168)
فحين سقطت الاندلس في يد المسيحيين أصدر الباب قرارا بتقسيم أرض " الكفار " - أي المسلمين !- إلي دولتين هما أسبانيا والبرتغال 275 وقامت محاكم التفتيش بمجهود وحشي ضخم للقضاء علي بقايا الإسلام في الأندلس ، فاستخدمت أبشع وسائل التعذيب التي عفها التاريخ لمطاردة الإسلام في كل شبر من أرض ما صار يسمي أسبانيا والبرتغال ، حتي صارت الهينمة في جوف الليل مبررا لدخول رجال التفتيش أي بيت تسع فيه ، لأنها مظنة قراءة القرآن سرا في هداه الليل ، وصار وجود حمام في أي بيت يدخل رجال التفتيش مبررا لصب أفظع ألوان التعذيب علي اهله ،لأن الحمامات داخل البيوت كانت في ذلك الوقت خصيصة من خصائص المسلمين ! ومع ذلك كله فقداستغرق الأمر مائتي عام حتي أفلح التعذيب الوحشي في تنصير الأندلس كلها ، ومحو كل أثر الإسلام فيها .
ولما تم " رسميا" إزالة الحكم الإسلامي - أي منذ 1492 م - شجع الباب النصاري علي متابعة المسلمين خارج الأندلس ، في حرب صليبية جديدة ، بغية القضاء علي الإسلام في كل الأرض . ولكن وجود الدولة العثمانية القوية في الشرق ، التي أزلت الدولة البيزنطية باستيلائها علي القسطنطينية عام 1453م ، لم يكن يتيح للحرب الصليبية الجديدة أن تتجه إلي الشرق نحو بيت المقدس كما اتجهت الحروب الصليبية الأولي الفاشلة ، فحاولت الدور أن حول العالم الإسلامي من جهة الغرب ، وكانت البرتغال أول دولة استجابت للتحريض البابوي وسارعت إلي تنفيذ .(2/169)
في عام 1497 قام فاسكودادجاما برحلته الشهيرة التي كشف فيها للأوربيين طريق رأس الرجاء الصالح 276 وبمعاونة البحار العربي المسلم " ابن ماجد" وعلي هذي الخرائط الإسلامية للشواطئ الأفريقية والآسيوية 277 ، دار فاسكوداجاما حول افريقيا متجها إلي الشرق حتي وصل إلي جزر الهند الشرقية ، وهنا كقال قولته الصليبية المشهورة ، التي تقطع بأن رحلته كما قيل عنها ، فقد قال عند وصله إلي تلك الجزر " الآن طوقن عنق الإسلام ، ولم يبق إلا جذب الحبل ليختنق فيموت !
وبعد ذلك تتابعت :" الكشوف " " وتتابعت " الرحلات العلمية " التي مهدت للاستعمار الصليبي للعالم الإسلامي ..
ولما برزت القوميات في أوربا تلبست بالروح الصليبية تجاه المسلمين ن فأصبح التنافس يتمثل - من بين ما يتمثل - في التنافس علي استعمار العالم الإسلامي ، ومحاولة تنصير أهله عن طريق الحملات التبشيرية التي صاحبت الأستعمار الصليبي دائما ، ممهدة له أحيانا ، ومستندة إلي وجوده أحيانا ، ولكنها مصاحبة له علي الدوام !
وحتي حين أصبحت تلك القوميات "علمانية " تماما لم يؤثر ذلك في صليبية الحملات الاستعمارية ولا قللت مقدار ذرة نم النشاط التبشيري المصاحب للاستعمار الصليبي .
وقد يبدو ذلك تناقضا لأول وهلة .. فكيف تهمل أوروبا " الدين" في حياتها الخاصة ، ثم تتذكره في الهجوم علي العالم الإسلامي ؟ الواقع أن الذي تذكرته أوروبا - ولا تزال إلي هذه اللحظة تتذكره - تجاه العالم الإسلامي ليس هو " الروح الدينية " فقد انسلخت أوربا من دينها تماما .. إنما هو " الروح الصليبية " التي كانت ذات يوم متلبسة بالدين ، ولكنها ظلت علي ضراوتها حتي بعد أن فقدت منبعها الأصلى ، وصارت شيئا قائما بذلته ، لا علاقة له بتدين أصحابه .. إنما هى كراهية وحقد ومقت للإسلام والمسلمين ، لا لحساب النصرانية كدين ، ولكن لحساب الأوروبيين بوصفهم أعداء للمسلمين .(2/170)
يقول ليوبلدفايس (محمد أسد) فى كتابه " الإسلام على مفترق الطرق " :
إن الاصطدام العنيف الأول بين أوروبة المتحدة من جانب وبين الإسلام من جانب آخر - أى الحروب الصليبية - يتفق مع بزوغ فجر المدنية الأوروبية . فى ذلك الحين أخذت هذه المدينة - وكانت لا تزال على اتصال بالكنيسة - تشق سبيلها بعد تلك القرون المظلمة التى تبعت انحلال رومية . حينذاك بدأت آداب أوروبة ربيعا منورا جديدا . وكانت الفنون الجميلة قد بدأت بالاستيقاظ ببطء من سبات خلفته هجرات الغزو التى قام بها القوط والهون والآفاريون . ولقد استطاعت أوروبا أن تتملص من تلك الأحوال الخشنة فى أوائل القرون الوسطى ، ثم اكتسبت وعيا ثقافيا جديدا ، وعن طريق ذلك الوعى كسبت أيضا حسا مرهفا . ولما كانت أوروبة فى وسط هذا المأزق الحرج حملتها الحروب الصليبية على ذلك اللقاء العدائى بالعالم الإسلامى .. إن الحروب الصليبية هى التى عينت فى المقام الأول والمقام الأهم موقف أوروبة من الإسلام لبضعة قرون تتلو ، فى العهد الذى كانت فيه الخصائص الثقافية الخاصة قد أخذت تعرض نفسها " 278" ، وكانت لا تزال فى طور تشكلها . والشعوب كالأفراد ، إذا اعتبرنا أن المؤثرات العنيفة التى تحدث فى أوائل الطفولة تظل مستمرا ظاهرا أو باطنا مدى الحياة التالية ، وتظل تلك المؤثرات محفورة حفرا عميقا ، حتى إنه لا يمكن للتجارب العقلية فى الدور المتأخر من الحياة ، والمتسم بالتفكير أكثر من اتسامه بالعاطفة التى تمحوها إلا بصعوبة ، ثم يندر أن تزول آثارها تماما . وهكذا كان شأن الحروب الصليبية ، فإنها أحدثت أثرا من أعمق الآثار وأبقاها فى نفسية الشعب الأوروبى . وإن الحمية الجاهلية العامة التى أثارتها تلك الحروب فى زمنها لا يمكن أن تقارن بشئ خبرته أوروبة من قبل ولا اتفق لها من بعد ..(2/171)
" ومع هذا كله فإن أوروبة قد استفادت كثيرا من هذا النزاع . إن " النهضة " أو إحياء الفنون والعلوم الأوروبية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص ، كانت تعزى فى الأكثر إلى الاتصال المادى بين الشرق والغرب . لقد استفادت أوروبة أكثر مما استفاد العالم الإسلامى ، ولكنها لم تعترف بهذا الجميل : وذلك بأن تنقص من بغضائها للإسلام ، بل كان الأمر على العكس ، فإن تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن ، ثم استحالت عادة . ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبى كلما ذكرت كلمة " مسلم " ولقد دخلت فى الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت فى قلب كل أوروبى ، رجلا كان أم امرأة . وأغرب من هذا كله أنها ظلت حية بعد جميع أدوار التبدل الثقافى . ثم جاء عهد الإصلاح الدينى حينما انقسمت أوروبة شيعا ، ووقفت كل شيعة مدججة بسلاحها فى وجه كل شيعة أخرى ، ولكن العداء للإسلام كان عاما فيها كلها . وبعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الدينى فيه يخبو ولكن العداء للإسلام استمر .
" ولقد يتساءل بعضهم فيقول : كيف يتفق أن نفورا قديما مثل هذا - وقد كان دينيا فى أساسه وممكنا فى زمانه بسبب السيطرة الروحية للكنيسة النصرانية - يستمر فى أوربة فى زمن ليس الشعور الدينى فيه إلا قضية من قضايا الماضى !(2/172)
" ليست مثل هذه المعضلات موضع استغراب أبدا ، فإنه من المشهور فى علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات الدينية التى تلقنها أثناء طفولته ، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة - والتى كانت من قبل تدور حول هذه الاعتقادات المهجورة - فى قوتها تتحدى كل تعليل عقلى فى جميع أدوار ذلك الإنسان ، وهذه حال الأوروبيين مع الإسلام . فعلى الرغم من أن الشعور الدينى الذى كان السبب فى النفور من الإسلام قد أخلى مكانه فى هذه الأثناء لاستشراف على الحياة أكثر مادية ، فإن النفور القديم نفسه قد بقى عنصرا من الوعى الباطنى فى عقول الأوروبيين . وأما درجة هذا النفور فإنها تختلف بلا شك بين شخص وآخر ، ولكن وجوده لا ريب فيه . إن روح الحرب الصليبية - فى شكل مصغر على كل حال - ما زال يتسكع فوق أوروبة ، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامى موقفا يحمل آثارا واضحة من ذلك الشبح المستميت فى القتال " " 279" .
ويقول " ولفرد كانتول سميث " المستشرق الكندى المعاصر فى كتاب " الإسلام فى التاريخ الحديث Islam in Modern History :
" إلى أن قام كارل ماركس وقامت الشيوعية ، كان النبى (يقصد الإسلام) هو التحدى الحقيقى الوحيد للحضارة الغربية الذى واجهته فى تاريخها كله ، وإنه لمن المهم أن نتذكر كم كان هذا التحدى حقيقيا ، وكم كان يبدو فى يوم من الأيام تهديدا خطيرا حقا .(2/173)
" لقد كان الهجوم مباشرا ، فى كلا الميدانين الحربى والعقيدى ، وكان قويا جدا . ولا شك أنه بالنسبة للمسلمين يبدو أنه الحق والصواب ، والأمر الطبيعى المحتوم ، أن يمتد الإسلام كما امتد . ولكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لشخص الواقع خارج نطاق الإسلام ، الذى لم يكن يرى فيه شيئا من ذلك كله ، والذى كان التوسع الإسلامى يقع على حسابه . وقد كان هذا التوسع إلى حد كبير على حساب الغرب . فقد فقدت المسيحية دفعة واحدة " أجمل مقاطعات الإمبراطورية الرومانية " لتتسلمها منها القوة الجديدة ، وكانت فى خطر من ضياع الإمبراطورية بكاملها . وعلى الرغم من أن القسطنطينية لم تقع - تماما - فى يد الجيوش العربية كما وقعت مصر وسوريا ، فقد استمر الضغط عليها فترة طويلة . وفى موجة التوسع الإسلامى الثانية وقعت القسطنطينية بالفعل سنة 1453 ، وفى قلب أوروبا المفزعة ذاتها أحاط الحصار بفينا سنة 1529 بينما ظل الزحف الذى بدأ عنيدا لا يلين ، مستمرا فى طريقه . وحدث ذلك مرة أخرى فى وقت قريب لم يتطاول عليه العهد فى سنة 1683 ، وإن وقوع تشيكوسلوفاكيا فى قبضة الشيوعية عام 1948 لم يكن له قط فى العصر الحديث ذلك الفزع فى نفوس الغرب المتهيب ، كما كان لذلك الزحف المستمر قرنا بعد قرن ، من تلك القوة الضخمة المهددة التى كان لا تكف ولا تهدأ ويتكرر انتصارها مرة بعد مرة .(2/174)
" وكما هو الأمر مع الشيوعية كذلك كان التهديد والانتصارات (الإسلامية) قائمين فى عالم القيم والأفكار أيضا . فقد كان الهجوم الإسلامى موجها إلى عالم النظريات كما هو موجه إلى عالم الواقع .. وقد عملت العقيدة الجديدة بإصرار على إنكار المبدأ الرئيسى للعقيدة المسيحية ، التى كانت بالنسبة لأوروبا العقيدة السامية التى أخذت فى بطء تبنى حولها حضارتها .. وكان التهديد الإسلامى موجها بقوة وعنف وكان ناجحا ومكتسحا فى نصف العالم المسيحى تقريبا .. والإسلام هو القوة الإيجابية الوحيدة التى انتزعت من بين المسيحيين أناسا دخلوا فى الدين الجديد وآمنوا به .. بعشرات الملايين . وهو القوة الوحيدة التى أعلنت أن العقيدة المسيحية ليست مزيفة فحسب ، بل إنها تدعو إلى التقزز والنفور .
" وإنه لمن المشكوك فيه أن يكون الغربيون - حتى أولئك الذين لا يدركون إطلاقا أنهم اشتبكوا فى مثل هذه الأمور - قد تغلبوا قط على آثار ذلك الصراع الرئيسى المتطاول الأمد .. أو على آثار الحروب الصليبية التى استغرقت قرنين من الحرب " العقيدية " العدوانية المريرة " " 280" .
وفى هذا وذاك تفسير لهذه الظاهرة التى تبدو غريبة لأول وهلة ، وهى أن أوروبا قد أهملت الدين فى حياتها ، ولكنها لم تنس الروح الصليبية التى أججتها ظروف الحرب والصراع فى نفوسهم من قديم .
? ? ?(2/175)
وحين قامت الثورة الصناعية اتسم " الاستعمار " عامة بالصبغة الاقتصادية لأنه كان بحثا عن الموارد الرخيصة من جهة ، والأسواق المضمونة لتوزيع فائض الإنتاج من جهة أخرى .. وشمل الاستعمار كل أرض مستضعفة سواء كانت أرضا إسلامية أو غير إسلامية . ومع ذلك لم ينس الصليبيون صليبيتهم إزاء المسلمين . فحيثما كانت الأرض المستعمرة غير إسلامية اكتفى الاستعمار بنهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج .. أما حيث تكون الأرض إسلامية فالعناية الأولى موجهة لمحو الإسلام عن طريق التبشير والغزو الفكرى ومناهج التعليم التى تفرض على المسلمين ووسائل الإعلام التى توجه إليهم . ثم يأتى بعد ذلك نهب الخيرات وتوزيع فائض الإنتاج . وخير مثال لذلك استعمار البريطانيين للهند . فقد كان أول عمل لهم هناك هو إزالة الحكم الإسلامى فى الهند . ثم تركوا الهنود لمعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم لم يتعرضوا لهم بشئ ، ووجهت الحرب الضارية ضد المسلمين وحدهم ، فصودرت الأوقاف المرصودة للتعليم الإسلامى فجفت منابعه ، وحورب المسلمون فى الوظائف العامة وأعطيت للوثنيين الهنود ، ووجه الغزو الفكرى ضد المسلمين لإخراجهم من حقبة الإسلام !
وأيا ما كان الأمر فقد ارتبطت القوميات فى أوروبا بالاستعمار بكل سفالاته ، وكل بشاعاته ، ونشبت الحروب بين القوميات المختلفة أبشع ما تكون .. وصارت نهاية الأمر حروبا عالمية ، تشترك فيها كل القوميات ، ويصلاها العالم كله بذنب وبغير ذنب .
فى الحرب الكبرى الأولى التى استمرت من 1914 - 1918م قتل عشرة ملايين شاب ، غير الذين شوهوا أو أصيبوا إصابات تقعدهم عن العمل ، واستخدمت الغازات السامة والقنابل المحرقة وغيرها من الوسائل الإجرامية ، التى لم تجد أوروبا فى ضميرها حرجا من استخدامها ، لأن الغاية تبرر الوسيلة ، ولأن المصالح القومية مقدمة على كل اعتبار !(2/176)
صحيح أنه كان هناك تكتل بين مجموعة من القوميات سمت نفسها " الحلفاء " لأنها - فى لحظة من اللحظات - وجدت أن مصالحها القومية - رغم اختلافها فيما بينها وتنافسها - تقتضى التجمع لتحقيق هدف مشترك .. وكان الهدف فى الحرب الأولى مزدوجا : القضاء على الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية - لأمر يراد " 281" - والقضاء على القومية الألمانية التى تطالب بأن يكون لها مستعمرات كما لبقية القوميات مستعمرات .. !!
وربما يظن الإنسان لأول وهلة أن أوروبا قد فطنت إلى حماقة التجمع القومى وما يؤدى إليه من فساد فى الأرض وتقطيع للروابط الإنسانية فأنشأت تجمعا جديدا على أساس المبادئ لا على أساس القوميات .. أو هكذا قالوا هم فى دعاياتهم ! ولكن الحقيقة أن التجمع الجديد كان هو أيضا تجمع مصالح يتستر وراء المبادئ ، ويريد لمجموعة من الشعوب ، أو مجموعة من القوميات على الأصح ، أن يكون لها السيطرة على العالم ، وحدها من دون العالمين .. لأمر يراد !(2/177)
وتم - على أى حال - لهذا التجمع ما أريد له من السيطرة فى الأرض ما يقرب من عشرين عاما ، حتى قامت الحرب العظمى الثانية ، التى استمرت من عام 1939 إلى عام 1945م ، وقتل فيها أربعون مليونا من الشباب ، غير المدن التى دمرت ، والمدنيين الذين قتلوا فى الغارات الجوية .. وغير قنبلتى هيروشيما ونجازاكى الذريتين ، اللتين قضتا على الوجود الحى كله من نبات وحيوان وإنسان فى مساحة واسعة من الأرض ، وما تزال تولد أجنة مشوهة من أثر الإشعاع الذرى السام الذى انتشر من القنبلتين فى أماكن بعيدة عن مكان الانفجار ، بعد ما يقرب من أربعين عاما من الحدث البربرى الفظيع ، الذى سمح به الضمير الأمريكى بلا تحرج ولا تأثم تأمينا " لمصالح " ذلك التجمع الشرير ! وما كان التجمع الآخر الذى انهزم بأقل شرا ولا خبثا ولا انعدام إنسانية عن التجمع الذى انتصر ! فلو أن هتلر سبق إلى استكمال القنبلة الذرية قبل أن يداهمه " الحلفاء " ويسرقوا " العلماء " الذين يعملون فى صنعها ، لكان قمينا أن يفعل بها مثل ما فعلوا أو أشد !
وبرز من الحرب الثانية " معسكران " مختلفان ، هما المعسكر الشيوعى والمعسكر الرأسمالى ، يبدو فى ظاهر الأمر أنهما تجمعان قائمان على " مبادئ " مختلفة .. خاصة وأن الشيوعية على الأقل تحمل مبادئ محددة ، وتحمل دعوة عالمية لنشر هذه المبادئ فى الأرض .
وقد مر بنا الرأى فى هذا الاختلاف وهل هو فى الجوهر الحقيقى أم فى القشرة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .. ولكن هذا ليس معرض حديثنا هنا .. إنما نتكلم عن " المبادئ الإنسانية " التى تقوم عليها هذه المجتمعات أو تزعم أنها تقوم عليها !(2/178)
تعلن الشيوعية - دائما - أن الدين لا يجوز أن يكون أساسا للتجمع ! إنما هو الآثار البالية التى أحدثتها عصور الرق والإقطاع والرأسمالية .. وأن تصحيح الأوضاع الذى تحدثه الشيوعية يقضى على تلك الآثار البالية ، ويقيم مجتمعا إنسانيا " حرا " لا تقوم فيه التفرقة على أساس الدين .. وطالما أبدت رأيها صريحا فى استنكار رغبة المسلمين فى شبه القارة الهندية فى إنشاء دولة " إسلامية " وقالت إن هذه اتجاهات رجعية لا ينبغى تشجيعها .
ثم قامت الدولة اليهودية عام 1948م ، على أساس الدين ، فهى من منشئها ، أو من منشأ الدعاية لها وطن " لليهود " ودولة " لليهود " وتجمع " لليهود " .
وفى منتصف الليل ، بتوقيت المنطقة التى أقيمت فيها الدولة اليهودية ، أعلنت أمريكا اعترافها بالدولة ، وبعد عشر دقائق اعترفت روسيا ! روسيا القائمة على أساس " المبادئ " التى تنكر قيام أى تجمع على أساس الدين !
ومنذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة ، تجتمع أمريكا الرأسمالية الإمبريالية التوسعية الرجعية ، وروسيا الشيوعية العقائدية التقدمية على الوقوف فى صف إسرائيل وعدوانها المستمر الذى لم ينقطع ، ضد العرب والمسلمين !
ثم تختصم روسيا وأمريكا فى كل شئ عدا ذلك ، ففى أى شئ تختصمان ؟!
على إقامة الحق والعدل فى الأرض ؟!
على تقرير حرية الشعوب فى اختيار مصيرها ؟!
كذلك تقول الدعاية المستمرة من الجانبين .. ولكن ما حقيقة الواقع ؟
ما الذى يحدث حين تمس المصالح القومية لأمريكا أو لروسيا .. أو يقف حائل دون " التوسع " و" السيطرة " و" السلطان " ؟!
إنهما تختصمان على توزيع " مناطق النفوذ " فى العالم .. أى تختصمان على توزيع " المستضعفين فى الأرض " هل يكونون فى هذا المعسكر أم ذاك المعسكر ، وكلتاهما لا تسمح لأحد من " الخاضعين لنفوذها " أن يتحرر ويقرر لنفسه مصيره .(2/179)
كيف فعلت روسيا فى المجر حين أرادت الأخيرة أن تختار مصيرها بنفسها وترجع عن الشيوعية عام 1956م ؟ كيف هدمت الدبابات الروسية البيوت على أصحابها تأديبا لهم على تجرؤهم على هذا العمل الشنيع الذى ارتكبوه ؟
وكيف فعلت حين أراد العمل فى بولندا ، الذين تزعم الشيوعية أنها قمت لتحريرهم ورد الحقوق المغتصبة إليهم .. كيف فعلت حين أراد هؤلاء العمال أن يعلنوا أن الشيوعية لم تحقق مطالبهم ، ولم ترد إليهم إنسانيتهم الضائعة ، وأنهم فى ظلها مقهورون مظلومون مسحوقون ،وأن لهم " مطالب " يريدون تحقيقها فى مقدمتها ممارسة الحرية ، والمشاركة فى إدارة دفة الأمور ؟!
أما أمريكا ودورها الاستعمارى ، ودور أجهزتها الخفية فى نشر الفساد فى الأرض عن طريق الانقلابات العسكرية ، التى يختار أصحابها من غلاظ الأكباد قساة القلوب المرضى بجنون العظمة المتعطشين إلى السلطة لينفذوا لها مخططاتها فى إذلال الشعوب وجرها إلى العبودية .. فأمر غنى عن البيان . وإن كان الذى يغيب عن أذهان كثير من الناس مداراة كل من المعسكرين على عميل المعسكر الآخر ومده بالمساعدة حين يكون دوره هو تذبيح المسلمين والقضاء على حركات البعث الإسلامى !
وتلك هى المجتمعات التى قامت فى العالم على أساس قومى .. وإن تسترت أحيانا وراء مختلف العناوين !
? ? ?
إلى هنا كنا نتحدث عن القوميات والوطنيات فى أوروبا ، كيف نشأت وكيف تطورت خلال التاريخ الحديث والمعاصر ، وما كان من آثارها الشريرة فى حياة العالم كله ، حين صارت " المصالح القومية " هى الأصل المعترف به فى حياة الناس ، على حساب القيم والمبادئ وكل ومعنى من معانى " الإنسانية " عرفته البشرية فى يوم من الأيام ..
ولكن هناك جانبا من الموضوع ما زال فى حاجة إلى بيان .. ذلك هو " تصدير " دعاوى القومية والوطنية إلى الشرق الإسلامى !(2/180)