مدخل إلى علم العقيدة
تأليف
د/ محمد يسري
أهل السنة والجماعة ليس لهم رسم ولا اسم يتسمون به خصوصًا غير أهل السنة والجماعة، ذلك الاسم الذي يعني في الحقيقة التزام الجادة والمحجة البيضاء التي تركنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"(1).
وهذا بخلاف أهل البدع الذين انتحلوا لأنفسهم أسماء أرادوا أن تميزهم عن غيرهم، أو سماهم غيرهم بها فقبلوا تسميته لهم، كما أنه ما من فرقة إلا وابتدعت لأهل السنة اسمًا يناسب ما خالفها فيه أهل السنة، ومع ذلك بقي أهل السنة لم يلزمهم اسم من هذه الأسماء الباطلة.
سئل مالك رحمه الله عن السنة، فقال: "هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]" (2)، وروى ابن عبد البر قال: "جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله U . قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي"(3).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ فقال: ما لا اسم له سوى السنة. يعني: أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها"(4).
ويقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى: "وليس لهم -أي أهل السنة والجماعة- رسم ومنهاج سوى منهاج النبوة (الكتاب والسنة)؛ إذ الأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه، إنما الذي يحتاج إلى اسم معين هو الخارج من هذا.
الباب الأول
مفهوم أهل السنة والجماعة
الفصل الأول
التعريف بمصطلح أهل السنة والجماعة وبيان مشروعيته
أولاً: تعريف المصطلح باعتبار مفرداته.
ثانيًا: تعريف المصطلح باعتبار تركيبه الإضافي.
ثالثًا: بيان مشروعية هذا المصطلح.(1/1)
أولاً: تعريف المصطلح باعتبار مفرداته:
أ- تعريف السنة لغة واصطلاحًا:
? السنة لغة(1):
1- السيرة والطريقة: حسنة كانت أو قبيحة، وهي مأخوذة من السَنَن وهي الطريق. وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [النساء:26]، يعني طرائقهم الحميدة(2). ومن ذلك الحديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة ... ومن سن في الإسلام سنة سيئة"(3). قال ابن منظور: "وقد تكرر في الحديث ذكر السنة، وما تصرف منها، والأصل فيه: الطريقة والسيرة"(4).
2- الصقل والتزيين: فيقال: سن الشيء أي: صَقَله وزيَّنَه.
3- التقوية: فالعرب تقول: الحمض يسن الإبل على الخلة أي: يقويها، كما يقوّي السَّنُّ حدَّ السكين. والسِّنان، (الاسم) من يَسُنّ: وهو القوة.
4- البيان: فسنة الله أي: أحكامه، وسن الله سنة: أي بيّن طريقًا قويمًا، قال الله تعالى: { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } [الأحزاب:38، 62].
5- العادة الثابتة المستقرة: فسنة الله أيضًا بمعنى: حكمه وقضاؤه الثابت الذي لا يختلف، قال تعالى: { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23]، وقال: { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } [الإسراء:77]. فالسنة هنا تعني: العادة الثابتة التي حكم الله بها وقضاها(5).
_____________________________
(1) يراجع في معناها اللغوي: لسان العرب لابن منظور (6/365-402)، والقاموس المحيط للفيروز أبادي ص1557-1559، ومختار الصحاح للجوهري ص133.
(2) تفسير ابن كثير (1/480).
(3) رواه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه .
(4) لسان العرب (6/399).
(5) انظر: تفسير ابن كثير (3/54).
? السنة اصطلاحًا:(1/2)
السنة لها معان اصطلاحية متعددة بحسب الفن الذي ترد فيه، فالسنة عند الفقهاء غيرها عند المحدثين، غيرها عند الأصوليين، ولكن يعنينا هنا معناها عند علماء الاعتقاد، فمن ذلك:
1- اتباع العقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة:
يطلق السلف: "السنة" على أصول الدين وفرائض الإسلام وأمور الاعتقاد، والأحكام القطعية في الدين، وعلى هذا جرى الإمام أحمد وغيره في تصنيفهم كتب الاعتقاد باسم السنة(1). وعلى هذا فالسنة تطلق عندهم على: "ما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، و في مسائل القدر، وفضائل الصحابة"(2).
ويلحظ في سبب هذا الإطلاق للفظ السنة؛ أن السنة من مصادر التلقي للعقيدة الصحيحة؛ ولذا جعل بعض السلف السنة بمعنى الاتباع، وبعضهم جعلها بمعنى الإسلام، فإذا قيل مذهب أهل السنة؛ فالمراد: معتقداتهم وأقوالهم في أصول الدين.
2- ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والعمل والهدي وكل ما جاء به مطلقًا:
قد تطلق السنة باصطلاح أعم فتشمل التوحيد وغيره، وهو: "طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه علمًا وعملاً، اعتقادًا وسلوكًا، خلقًا وأدبًا، وهي السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها"(3). ويشهد لهذا المعنى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وفيه: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"(4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن السُنَّة التي يجب اتباعها ويُحمَد أهلها ويذم من خالفها: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الاعتقاد، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات"(1).
_____________________________
(1) المدخل لدراسة العقيدة د. إبراهيم البريكان ص12.
(2) كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب الحنبلي ص26-28.
(3) مباحث في عقيدة أهل السنة د. ناصر العقل ص13.
(4) رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
ب- تعريف الجماعة لغة واصطلاحًا:
? الجماعة لغة(2):(1/3)
1- الاجتماع: وهو ضد التفرق، والفرقة، فالجماعة اسم مصدر اجتمع يجتمع اجتماعًا وجماعة، ويقال تجمَّع القوم، إذا اجتمعوا من هنا وهناك.
قال ابن تيمية: "الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين"(3).
2- الجمْع: وهو اسم لجماعة الناس، والجمع مصدر قولك: جمعت الشيء.
3- الإجماع: وهو الاتفاق والإحكام، يقال: أجمع الأمر أي أحكمه، ومنه إجماع أهل العلم، أي: اتفاقهم على حكم مسألة.
? الجماعة اصطلاحًا:
تعددت الأقوال الواردة في معنى الجماعة شرعًا، وبمحاولة الجمع والتوفيق بين هذه الأقوال المتعددة نلاحظ أن جملة هذه المعاني تؤول إلى معنيين اثنين:
الأول: ما عليه أهل الحق من الاتباع وترك الابتداع، وهو مذهب الحق الواجب اتباعه والسير على منهاجه، ولو كان المتمسك بهذا قليلاً، وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو أئمة العلماء المجتهدين المتبعين لمنهج الفرقة الناجية، أو الإجماع، أو السواد الأعظم من أهل الإسلام(4).
الثاني: هم الذين اجتمعوا على أمير على مقتضى الشرع، فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم الخروج عليها وعلى أميرها(1)، وهذا ما رجحه جمع من أهل العلم كالقاضي ابن العربي(2) وغيره.
_____________________________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/378).
(2) لسان العرب (2/355-361)، والمعجم الوسيط (1/140، 141).
(3) العقيدة الواسطية لابن تيمية ص46.
(4) راجع: فتح الباري (13/37)، وفيه نقل ابن حجر رحمه الله أقوال الإمام الطبري في معنى الجماعة شرعًا
ثانيًا: تعريف مصطلح أهل السنة والجماعة باعتبار تركيبه الإضافي:
وعلى هذا، فإن مصطلح أهل السنة والجماعة يُعنى به "المستمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين اجتمعوا على ذلك، وهم الصحابة والتابعون، وأئمة الهدى المتابعون لهم، ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد والقول والعمل إلى يوم الدين"(3).(1/4)
فهم بالجملة كل من اجتمع على التمسك بالسنة ونبذ الفرقة، وجمع الدين قولاً وعلمًا وعملاً، مع الاجتماع على أئمة الحق والحرص على وحدة الصف، فيجمعون بذلك بين واجبي الاتباع والاجتماع.
ومما سبق.. فإن من الوجوه التي يمكن أن نتعرف منها على أهل السنة ما يلي:
- أنهم هم السلف الصالح، أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين علموا السنة وعملوا بها ونقلوها، والتابعين وتابعي التابعين من أئمة الهدى المتبعين لآثار الصحابة y .
- وهم الفرقة الناجية من بين الفرق، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي "الجماعة"(4)، وفي رواية قال: "ما أنا عليه وأصحابي"(5).
- وهم الطائفة الظاهرة المنصورة إلى قيام الساعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمَّتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة"(1).
- وهم الغرباء إذا كثرت الأهواء والضلالات والبدع وفسد الزمان، أخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم : "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا فطوبى للغرباء"(2).
- وهم أصحاب الحديث رواية ودراية علمًا وعملاً. روي ذلك عن ابن المبارك، والبخاري، وابن المديني، وأحمد بن سنان، وقال الإمام أحمد في الطائفة المنصورة: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم"، وقال القاضي عياض: "إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث"(3).
_____________________________
(1) موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبد الرحمن المحمود (1/16-17).
(2) عارضة الأحوذي المؤلف (9/10).
(3) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/544-546)، ورسائل في العقيدة لابن عثيمين، ومباحث في عقيدة أهل السنة د. ناصر العقل ص13، 14.
((1/5)
4) أخرجه أحمد (16490)، وأبو داود (4597)، والحاكم (443) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه . صححه الحاكم، والشيخ الألباني في صحيح الجامع (2641).
(5) أخرجه الترمذي (2641)، والحاكم (444) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. اهـ.، وقال المناوي في فيض القدير (5/347): وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، قال الذهبي: ضعفوه. اهـ.، وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (7/334): في سنده عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب. اهـ.، وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (5345).
ثالثًا: مشروعية هذا المصطلح:
1- إن هذا المصطلح والوصف مستمد في الحقيقة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الآمر بالعناية بالسنة "عليكم بسنتي"(4)، وهو الآمر بالجماعة "وأنا آمركم بخمس كلمات أمرني الله بهن: الجماعة،..."(5)، وهو الذي نهى عن الفرقة "من فارق الجماعة شبرًا فمات، إلا مات ميتة جاهلية"(6). "فأهل السنة والجماعة إنما سماهم الرسول ووصفهم بذلك"(7).
2- ثم إن هذا المصطلح مستمد من آثار الصحابة والسلف y . قال ابن عباس
_____________________________
(1) رواه مسلم (1923) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) أخرجه مسلم (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) انظر: سنن الترمذي (4/504، 505)، وفتح الباري (13/293)، وشرح النووي على صحيح مسلم (13/67)، وتحفة الأحوذي (6/360)، وعون المعبود (7/117)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (3/137،136).
(4) رواه أحمد (16692)، والدارمي (95)، وابن ماجه (44)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، والحاكم (329) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (4369).
((1/6)
5) أخرجه أحمد (16718، 17344، 22403)، والترمذي (2863)، وابن خزيمة (1895)، وابن حبان (6233)، والحاكم (404) من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم، والألباني في صحيح الجامع (1724).
(6) أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(7) مفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة د. ناصر العقل ص78.
رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران:106]: "فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة"(1). وقال سعيد بن جبير رحمه الله في قوله تعالى: { وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [طه:82]: "لزم السنة والجماعة"(2). وقال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة، وآخر بالمغرب، فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة"(3).
3- وقد نص العلماء على أن أهل السنة هم الصحابة ومن اقتفى آثارهم. قال شارح الطحاوية رحمه الله: "هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين"(4). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "صار المتمسكون بالإسلام المحض هم أهل السنة والجماعة"(5).
4- كما استعمل الأئمة هذا الاسم والمصطلح المبارك في النص على أمور الاعتقاد الصحيحة تمييزًا لها عن غيرها، كما فعل ذلك قتيبة بن سعيد الثقفي رحمه الله، ونقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء(6)؛ بل جعل بعض الأئمة هذا الاسم ضمن عناوين كتبهم في العقيدة كما فعل اللالكائي رحمه الله في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، وكما فعل قوّام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني رحمه الله في كتابه "الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة".(1/7)
5- ثم إن هذا المصطلح يرادف ويقارب عند الإطلاق مصطلحات شرعية أخرى مثل أهل الحديث والفرقة الناجية والطائفة المنصورة، والسلف الصالح، وعلي هذا أدلة كثيرة نعرض عنها رغبة في الاختصار.
ومن جملة هذا المبحث يتضح جليًّا أن مذهب أهل السنة قديم، وأن التسمية
_____________________________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (1/72).
(2) المصدر السابق (1/71).
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/64).
(4) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (2/544-546).
(5) مجموع الفتاوى (3/159).
(6) انظر على سبيل المثال: سير أعلام النبلاء (11/20).
قديمة، تبدأ ببداية الإسلام؛ لأن أهل السنة على الحقيقة هم أهل الإسلام، المتبعون لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم ، ويظهر هذا جليًّا بالنظر إلى صفاتهم وخصائصهم، وأن أول من دُعي بإمام أهل السنة هو الإمام أحمد بن حنبل، وفي هذا رد على من زعم أن مذهب أهل السنة والجماعة إنما عُرف وظهر في زمن أبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي، وأن أهل السنة هم الأشاعرة والماتريدية!! كما تبناه بعض العلماء قديمًا وحديثًا.
الفصل الثاني
الخصائص والصفات العامة
لأهل السنة والجماعة
أولاً: أهل السنة ليس لهم اسم يجمعهم سوى هذا الاسم.
ثانيًا: أهل السنة لا يجمعهم مكان واحد، ولا يخلو عنهم زمان.
ثالثًا: أهل السنة لا يجمعهم تخصص علمي ولا عملي بعينه؛ بل هم في أبواب الخير كافة.
رابعًا: أهل السنة على نمط واحد في باب الاعتقاد وأصول الدين.
خامسًا: أهل السنة أعلم الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
سادسًا: أهل السنة يجمعون بين واجب الاتباع والاجتماع على الأئمة وأهل الحل والعقد.
سابعًا: أهل السنة يوالون بالحق ويعادون بالحق ويحكمون بالحق.
ثامنًا: أهل السنة يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تاسعًا: لا تزال طائفة من أهل السنة قائمة بواجب الجهاد إلى قيام الساعة.(1/8)
عاشرًا: أهل السنة أكرم الناس أخلاقًا، موصوفون بالاستقامة في الهدي والسمت والسلوك الظاهر.
أولاً: أهل السنة ليس لهم اسم يجمعهم سوى هذا الاسم.
أهل السنة والجماعة ليس لهم رسم ولا اسم يتسمون به خصوصًا غير أهل السنة والجماعة، ذلك الاسم الذي يعني في الحقيقة التزام الجادة والمحجة البيضاء التي تركنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"(1).
وهذا بخلاف أهل البدع الذين انتحلوا لأنفسهم أسماء أرادوا أن تميزهم عن غيرهم، أو سماهم غيرهم بها فقبلوا تسميته لهم، كما أنه ما من فرقة إلا وابتدعت لأهل السنة اسمًا يناسب ما خالفها فيه أهل السنة، ومع ذلك بقي أهل السنة لم يلزمهم اسم من هذه الأسماء الباطلة.
سئل مالك رحمه الله عن السنة، فقال: "هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]" (2)، وروى ابن عبد البر قال: "جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله U . قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي"(3).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ فقال: ما لا اسم له سوى السنة. يعني: أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها"(4).
ويقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى: "وليس لهم -أي أهل السنة والجماعة- رسم ومنهاج سوى منهاج النبوة (الكتاب والسنة)؛ إذ الأصل لا يحتاج إلى سمة خاصة تميزه، إنما الذي يحتاج إلى اسم معين هو الخارج من هذا
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/346).
(2) الاعتصام للشاطبي (1/58).
(3) الانتقاء لابن عبد البر ص35.
((1/9)
4) مدارج السالكين (3/174).
الأصل"(1).
وعليه، فإن أهل السنة لا ينتمون للأحزاب، ولا الشعارات، ولا القوميات، ولا يتعصبون للأوطان ولا الشعوب، ولا الأجناس ولا القبائل؛ إنما يجمعهم شعار السنة والإسلام، في أي مكان وأي زمان. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "مَنْ أقرَّ باسم من هذه الأسماء المحدَثة؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"(2)، وقال ميمون بن مهران: "إياكم وكل اسم يسمى بغير الإسلام"(3).
وهذا لا يعني عدم مشروعية مطلق الانتماء إلى إمام، أو التسمي بأسماء المذاهب، أو الانتساب إلى القبائل، أو المشايخ، ونحو ذلك ... ؛ بل الممنوع منه هو اتخاذ هذه الأسماء معقدًا للولاء والبراء، وشعارًا يُمتحن الناس به، ويُفرق به بين الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها، مثل انتساب الناس إلى إمام: كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ: كالقادري والعدوي، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار: كالشامي والعراقي والمصري؛ فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها؛ بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان"(4).
ومما هو جدير بالتنبيه له في هذا المقام ما سبق أن تقرر من أن لأهل السنة والجماعة أسماء أخرى وردت بها النصوص؛ مثل أهل الحديث، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، والسلف الصالح.. وهذا من باب إطلاق الأسماء المختلفة على مسمى واحد
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية ص28.
(2) الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة لابن بطة ص137.
(3) الشرح والإبانة ص137.
(4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (3/416).
ثانيًا: أهل السنة لا يجمعهم مكان واحد، ولا يخلو عنهم زمان.(1/10)
إن أهل السنة هم أهل الحق، فكل من دان بهذا الحق فهو من أهل السنة، في أي مكان وجد، وفي أي زمان كان. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "ولا يلزم أن يكونوا -أي: الطائفة المنصورة- مجتمعين؛ بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض"(1).
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتابعون وأئمة الدين من بعدهم، مفرقين في الأمصار، لا يجمعهم مكان واحد، ومع ذلك كانوا جميعًا من أئمة أهل السنة وأعلامهم.
أما الأحاديث التي حدَّدت وجودهم بالشام(2)؛ فإنما يُراد بها -والله أعلم- فترة تاريخية معينة، هي التي تكون قبل قيام الساعة، حيث تدل النصوص الكثيرة على أن معظم الأحداث المتعلِّقة بالمهدي وعيسى بن مريم ونحوها من أشراط الساعة، إنما تكون بالشام. كما يحتمل أن يكون المقصود قتالهم للروم المذكور في الأحاديث، ثم قتالهم للدجَّال، حتى يأتيهم أمر الله وهم بالشام، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم : "وهم بالشام"؛ أي: حال إتيان أمر الله.
وأهل السنة كما أنه لا يجمعهم مكان واحد، فإنهم لا يخلو عنهم زمان حتى قيام الساعة، فقد صحَّت البشارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باستمرار وجود الطائفة المنصورة -أهل السنة والجماعة- من هذه الأمة إلى أن يأتي أمر الله، لا يضرهم خلاف المخالف، ولا خذلان الخاذل، وجاء ذلك في أحاديث كثيرة عن جمع من الصحابة، حتى لقد صرح عدد من العلماء المعتبرين بتواتر هذا الحديث؛ كشيخ
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (13/67).
((1/11)
2) من ذلك: ما رواه البخاري (7460)، ومسلم (1037) من قول مالك بن يخامر عن معاذ: "وهم بالشام"، وما رواه ابن ماجه (7)، والبخاري في التاريخ الكبير في ترجمة حسان بن وبرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تزال عصابة بدمشق ظاهرين"، وما رواه أبو نعيم في ترجمة محمد بن المبارك أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وهم بالشام"، ونحو ذلك من الأحاديث.
الإسلام ابن تيمية(1)، والسيوطي(2)، والزبيدي(3)، والكَتَّاني(4)، وغيرهم. فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لا يزال ناسٌ من أمَّتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون"(5). وعن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يبرح هذا الدين قائمًا، يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين، حتى تقوم الساعة"(6). وعن جابر بن عبد الله، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمَّتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة"(7).
فهذه الأحاديث وما ماثلها توضح أن أهل السنة -الطائفة المنصورة- سيستمر بقاؤهم إلى يوم القيامة، فلن يخلو عنهم زمان حتى يأتيهم أمر الله U . والمقصود أن بقاءهم يكون حتى يرسل الله ريحًا طيبة -وهي أمر الله-، فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ويكون ذلك قبيل قيام الساعة، قال الإمام النووي رحمه الله: "المراد برواية من روى: "حتى تقوم الساعة"، أي: تقرب الساعة وهو خروج الريح"(8)، وقال أيضًا: "فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة، على أشراطها ودُنوِّها المتناهي في القرب"(9).
ثالثًا: أهل السنة لا يجمعهم تخصص علمي ولا عملي بعينه؛ بل هم في أبواب الخير كافة.
أهل السنة لا يجمعهم تخصص علمي ولا عملي بعينه؛ بل منهم المشتغلون
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/6).
(2) قطف الأزهار المتناثرة (رقم 81) ص216.
((1/12)
3) لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص68.
(4) نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص93.
(5) رواه البخاري (3640)، ومسلم (1921) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .
(6) رواه مسلم (1922) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه .
(7) رواه مسلم (1923) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(8) شرح النووي على صحيح مسلم (13/66).
(9) شرح النووي على صحيح مسلم (2/132).
بألوان العلوم النافعة؛ بقصد حماية الدين وحفظ العلم -أصولاً وفروعًا ووسائل-، ومنهم المشتغلون بردِّ البدع وقمع أهلها، وبيان طريق المحجَّة، ودفع الالتباس عنها، ومنهم المرابطون في الثغور، المصابرون للأعداء، ومنهم المناهضون للمنكر الناهون عنه، الآمرون بالمعروف الداعون إليه.
ولا شك أن المشتغلين بعلم الشريعة -عقيدة وفقهًا وحديثًا وتفسيرًا، تعلُّمًا وتطبيقًا ودعوةً- هم أولى الناس بهذا الوصف، أولاهم بالدعوة، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على أهل البدع؛ إذ إن ذلك كله مقترن بالعلم الصحيح المأخوذ من الوحي.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "ويحتمل أن هذه الطائفة -يعني: الطائفة المنصورة- مفرقة بين أنواع المؤمنين؛ منهم شجعان مقاتلون، ومنهم زُهَّاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ... "(1).
وقد فسر بعض أئمة السلف -كما سبق- أهل السنة والجماعة بأنهم: أصحاب الحديث، أي المتبعون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، المجانبون لطريقة أهل البدعة، الملتزمون بالدليل في الاعتقاد والفقه، وهم -بهذا- الفئة المقابلة لأهل الكلام -أيًّا كانت بدعتهم-، والفئة المقابلة لأهل الرأي الذين يقدِّمون آراءهم أو أقوال شيوخهم على الدليل الصحيح.
لذلك عبَّر الإمام البخاري رحمه الله تعالى عنهم بقوله: "وهم أهل العلم"(2)، ومدلول العلم أوسع من مدلول الحديث، وإن كان الحديث قد يُطلق عليه العلم(3).(1/13)
فقد يكون الرجل من أهل السنة، ومن أهل العلم الذين يرابطون على ثغور
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح النووي على مسلم (13/67).
(2) صحيح البخاري (8/149).
(3) كما قال محمد بن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم". رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/14).
الإسلام، ويدافعون عنه، ولكنه ليس من أهل الحديث المشتغلين به رواية ودراية، حتى عُرفوا به، وأمثلة هذا كثيرة من المشتغلين بالتفسير، أو أصول الفقه، أو اللغة والأدب، أو التاريخ، أو غيرها..
وأما عبارة عليّ بن المديني في تعريفه أصحاب الحديث، والتي يقول فيها: "هم أصحاب الحديث الذين يتعاهدون مذاهب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويذبُّون عن العلم، لولاهم لم نجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الرأي شيئًا من سنن المرسلين"(1). ففي عبارة علي بن المديني نوعًا من التخصيص، إذ يفسر أهل الحديث بأنهم الذين يتعاهدون مذاهب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويذبُّون عن العلم، ويبلغون للناس سنن المرسلين. وهذا تفسير للشيء ببعض أجزائه، وأهل السنة الطائفة المنصورة أعم من ذلك، ولا شك أن قومًا كهؤلاء الذين ذكرهم ابن المديني هم أولى الناس بالدخول في هذه الطائفة، وإلى ما عندهم يَرجِع كلُّ مُتَّبع في أي تخصص كان، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكونوا -وحدهم- الطائفة المنصورة أو أهل السنة والجماعة.
ولذلك كانت عبارة الإمام أحمد دقيقة حين رأى قومًا يشتغلون بمدراسة الحديث، فأطلق عليهم أنهم (ممَّن) قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي..." الحديث(2).
إذن؛ فأهل السنة -كما قررنا- لا يجمعهم تخصص علمي ولا عملي بعينه؛ بل هم مفرقون في أبواب الخير كافة، يقولون بالحق، ويرحمون الخلق، ويجتمعون على منهج الاتباع.
رابعًا: أهل السنة على نمط واحد في باب الاعتقاد وأصول الدين.
لا منازعة بين المسلمين على خطورة أمر الاعتقاد، وعظم شأنه، وعلو قدره؛(1/14)
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه ابن عدي في الكامل (1/121) في ترجمة علي بن المديني، وانظر الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي (223).
(2) سبق تخريجه.
إذ المخالف فيه على شفا هلكة؛ ولهذا نجد أهل السنة جميعًا على قول واحد في أصول هذا الباب وكلياته، لم ينقل عنهم اختلاف في أمهات مسائل الاعتقاد وأصول الدين؛ بل المحفوظ عنهم اتفاقهم في هذه المسائل، وعدم اختلافهم عليها.
وهذا لا يعني أن كل مسائل الاعتقاد متفق عليها عند أهل السنة والجماعة، إذ قد وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم حول بعض مسائل العقيدة، ولكن لم تكن هذه المسائل من الأمهات والكليات في هذا الباب.
ومن الأمثلة على ذلك:
- اختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، هل وقعت أم لا؟ "فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها تنكر ذلك"(1).
- اختلافهم في أنه هل يكون للبدن في القبر عذاب أو نعيم دون الروح أم لا؟ فهذا فيه قولان مشهوران، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومعاد الأبدان متفق عليه عند علماء الحديث والسنة. وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب؟ أثبت ذلك طائفة منهم، وأنكره أكثرهم"(2).
- اختلافهم فيما يوزن يوم القيامة: هل هو العمل، أم صحائف العمل، أم العامل نفسه أي صاحب الأعمال؟(3).
وليس مقصودنا في هذا المقام استقصاء مثل هذه المسائل؛ وإنما المقصود أن نبيِّن أن بعض مسائل الاعتقاد قد وقع الخلاف عليها بين أهل السنة والجماعة، وإن كانت هذه المسائل -كما سبق- ليست من أصول العقيدة وكلياتها.
خامسًا: أهل السنة أعلم الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/386).
(2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/284).
((1/15)
3) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/608 - 613).
وأهل السنة هم أعلم الناس بأحوال صاحبها صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، وأعظمهم محبة وموالاة لها ولأهلها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها واتباع لها، تصديقًا وعملاً، وحبًّا وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة"(1).
ولا عجب في ذلك؛ فأهل السنة هم أصحاب الحديث، رواية ودراية، علمًا وعملاً؛ ولذلك فإن بعض أئمة السلف فسَّر الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة بأنهم أصحاب الحديث. قال الإمام أحمد رحمه الله: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم"(2). وقال عبد الله بن المبارك: "وهم عندي أصحاب الحديث"(3). وقال الإمام البخاري -وذكر حديث "لا تزال طائفة من أمَّتي..."-: "يعني: أصحاب الحديث"(4).
وفي الحق إن أهل السنة ما سُمُّوا بهذا الاسم؛ إلا لأنهم الآخذون بسنة المعصوم صلى الله عليه وسلم ، العالمون بها، العاملون بمقتضاها، والممتثلون لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي.."(5)، فالسُّنة هي: ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الشرع والدين، والهدي الظاهر والباطن، وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم، ثم أئمة الهدى العلماء العدول، المقتدون بهم، ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة(6). ومن هنا صار
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى (3/347).
(2) رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث، بعد قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي منصورين ... " (رقم 48)، ص27.
((1/16)
3) المصدر السابق، في نفس الموضع، (رقم 47)، ص26.
(4) المصدر السابق، في نفس الموضع، (رقم 51)، ص27.
(5) سبق تخريجه.
(6) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/358).
أهلُ الحق المتبعون للسُّنة العالمون بها مسمَّون بـ"أهل السُّنة"، فهم الجديرون بذلك على الحقيقة.
سادسًا: أهل السنة يجمعون بين واجب الاتباع والاجتماع على الأئمة وأهل الحل والعقد.
لا يخفى أن التمسك بالسنة والمحافظة على الجماعة كلاهما مقصود للشارع؛ ولهذا كانت الفرقة الناجية من بين زحام الفرق الهالكة هم أهل السنة والجماعة؛ أهل السنة بتمسكهم بالحق واستقامتهم عليه ودعوة الناس إليه، وأهل الجماعة بلزومهم لجماعة المسلمين، والتزام الطاعة لأولي الأمر في غير معصية.
ولهذا أيضًا أمرت الشريعة بالإنكار على أئمة الجور، وعدم تصديقهم على كذبهم، أو إعانتهم على ظلمهم؛ محافظة على السنة، وأمرت بعدم الخروج عليهم، والتزام الطاعة لهم في غير معصية؛ محافظة على الجماعة.
لذا كان منهج أهل السنة والجماعة هو الموازنة بين هذين الأمرين: المحافظة على السنة، والمحافظة على الجماعة؛ فلا يؤدي التزامهم بالطاعة لأهل الحل والعقد إلى الجور على السنة أو إقرار ما يخالفها، أو كتمان الحق، والتدليس على الأمة، كما أن التزامهم بالسنة وإنكارهم على المخالف لا يعني الخروج عن الطاعة أو مفارقة الجماعة؛ بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع لزوم الجماعة والانقياد لها بالطاعة هو منهجهم القويم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "إن الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض، جهاد من يستحق الجهاد - كهؤلاء القوم المسئول عنهم(1) - مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم، إذا لم يكن جهادهم إلا كذلك، واجتناب إعانة الطائفة التي يغزو معها على شيء من معاصي الله؛ بل يطيعهم في طاعة الله، ولا يطيعهم في معصية الله؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
((1/17)
1) يعني: التتار.
وهذه طريقة خيار الأمة قديمًا وحديثًا، وهي واجبة على كل مكلف، وهي متوسطة بين طريقة الحرورية وأمثالهم، ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم، وبين طريقة المرجئة وأمثالهم، ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقًا وإن لم يكونوا أبرارًا"(1).
وقد ضرب إمام أهل السنة -الإمام أحمدرضي الله عنه - أروع الأمثلة في تطبيق هذا المنهج العظيم، وذلك في فتنته المعروفة بفتنة خلق القرآن، فلم يؤد التزامه بالطاعة لأولي الأمر إلى الجور على السنة أو إقرار ما يخالفها، أو كتمان الحق والتدليس على الأمة؛ بل أعلن الحق، وأظهر السنة، ونصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وبذل نفسه رخيصة في سبيل ذلك. ومن ناحية أخرى، لم يدفعه التزامه بالسنة والمحافظة عليها، والإنكار على المخالف إلى الخروج عن الجماعة أو الطاعة؛ بل رفض كل المحاولات التي قام بها أصحابها ليحملوه على الخروج على السلطان؛ بل وأكثر من هذا أنه كان يدعو للإمام -الذي يذيقه ألوان العذاب- لينصره الله على أعدائه من الكفار.
إذن نخلص إلى أن أهل السنة والجماعة يحملون أمانة مزدوجة لا يقل ثقل إحداها عن الأخرى: الأولى: أمانة العلم والسنة والالتزام والدعوة والجهاد، والثانية: أمانة المحافظة على الجماعة المسلمة بمعناها العام والشامل، وهم يسيرون في ذلك بميزان دقيق على هدي من الشرع الحكيم وحده.
سابعًا: أهل السنة يوالون بالحق ويعادون بالحق ويحكمون بالحق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/508).
أهل السنة والجماعة ولاؤهم للحق وحده، ومن هذا المنطلق فإنهم ينظرون إلى كل فرد أو طائفة أو تجمع على هذا الأساس وحده، وليس على أساس من التعصب الجاهلي للقبيلة، أو المدينة، أو المذهب، أو الطريقة، أو التجمع، أو الزعامة...(1/18)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة، والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علَّق الله بها ذلك؛ مثل: أسماء القبائل، والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ، ونحو ذلك مما يراد به التعريف ... فمن كان مؤمنًا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرًا وجبت معاداته من أي صنف كان ... ومن كان فيه إيمان وفيه فجور، أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره"(1).
وكتطبيق عملي لهذا الأصل ينهى رحمه الله عن امتحان الناس بالموقف من أحد الأمراء فيقول: "فالواجب الاقتصار في ذلك، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به؛ فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة. وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله، مثل: أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرقندي؟ فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان... وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟"(2).
ثامنًا: أهل السنة يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أهل السنة والجماعة هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا أصل عظيم عندهم، ولكنهم يقومون بذلك على ما توجبه الشريعة، فيلتزمون في نفس الوقت
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/227 - 229).
(2) المصدر السابق (3/414 - 421).
أصلاً آخر، وقاعدة أخرى عظيمة، هي الحفاظ على الجماعة، وتأليف القلوب، واجتماع الكلمة، ونبذ التفرق والاختلاف. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج والجهاد، والجمع والأعياد مع الأمراء -أبرارًا كانوا أو فجارًا-، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة"(1).(1/19)
فأهل السنة قد حملوا على عاتقهم مهمة مقاومة المنكر، وجهاد الدعاة إليه من المنافقين ومَن آزرهم من الفاسقين، والعمل على إضعاف شأن أهل الريب والفساد؛ تحقيقًا لقوله تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، فهم -من بين سائر الناس- قد نذروا أنفسهم لمحاربة المنكرات وأهلها، وإنكارها، وبيان حرمتها وخطرها، وأمر الناس بضدها من الخير والبر والمعروف.
وإذا كان الله U قد علَّق خيرية هذه الأمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان به سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران:110]، كما أنه سبحانه قد امتدح المؤمنين بقيامهم بهذا الواجب العظيم، كما ورد ذلك في قوله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71]، إذا كان هذا الأمر كذلك؛ فلا شك أن أهل السنة والجماعة هم أصحاب القدح المعلَّى، والنصيب الأوفر في هذا الباب؛ إذ هم خير هذه الأمة وأفضلها.
ومن اطَّلع على سيرة أئمة أهل السنة وتاريخهم ظهر له هذا الأمر واضحًا جليًّا، وعلم أن أهل السنة لا يتركون هذا الواجب حتى لو أصابهم الأذى في سبيل ذلك. فمن ذلك ما روي أن محمد بن المنكدر وأصحاب له كانوا يأمرون بالمعروف
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق (3/158).(1/20)
جليًّا، وعلم أن أهل السنة لا يتركون هذا الواجب حتى لو أصابهم الأذى في سبيل ذلك. فمن ذلك ما روي أن محمد بن المنكدر وأصحاب له كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ونالهم في ذلك الأذى من السلطان(1)، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يخرج بتلاميذه، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدورون على الخمارات والحانات، فيكسرون أواني الخمور، ويشقِّقون الظروف، ويعزِّرون أهل الفواحش(2)، وقد قاموا بتأديب أهل الجبل المعروفين بالنُّصيرية، والانتصار عليهم، وإلزامهم بأحكام الإسلام الظاهرة، كما كان له رحمه الله ولأتباعه دور عظيم في دفع التتر عن الشام، وهزيمتهم في وقعة (شقحب) وغيرها(3)، وله موقفه العظيم المعروف مع السلطان حين تأخر عن المجيء إلى دمشق، مع اقتراب التتر منها(4).
ولا يزال أعلام وأئمة أهل السنة على هذا الدرب سائرين، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، لا يتخلون عن هذه الشعيرة أبدًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
تاسعًا: لا تزال طائفة من أهل السنة قائمة بواجب الجهاد إلى قيام الساعة.
الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام، وأعظم مهمات الدين، وهو شريعة ماضية إلى يوم القيامة، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"(5)، وفي رواية: "الخيل معقود في نواصيها إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم"(6).
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الجامع للقيرواني ص155.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (14/11).
(3) المصدر السابق (14/8، 10، 13-15، 21-24).
(4) انظر: الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (2/395 - 396)، والبداية والنهاية (14/14).
(5) رواه البخاري (2849)، ومسلم (1871) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(6) رواه البخاري (2852)، ومسلم (1873) من حديث عروة البارقي رضي الله عنه .(1/21)
ولا تزال الطائفة المنصورة قائمة بأمر الجهاد، تقاتل في سبيل نصرة هذا الدين، ولا تتخلى عن هذا الأمر، تنتقل من معركة إلى معركة، ومن ميدان إلى ميدان، تُدال على أعدائها فتشكر، ويُدالون عليها فتصبر، ولا يخطر ببالها اعتزال الميدان أو ترك الجهاد حتى يقاتل آخرها المسيح الدَّجَّال، فقد روى جابر بن سَمُرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن يبرح هذا الدين قائمًا، يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين، حتى تقوم الساعة"(1)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله يقول: "لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة"(2)، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرُهم المسيح الدجَّال"(3).
فهذه الروايات -وغيرها- تبيِّن أن الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة لا تقف عند حد جهاد الكلمة؛ ببيان الحق، والدعوة إليه بالحسنى، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل من خصائصها أيضًا القيام بواجب الجهاد في سبيل الله، وقتال أعداء الله من الكفَّار والمنافقين وغيرهم.
وهذا لا يعارض ما وُجد ويوجد في بعض الأمكنة والأزمنة من ترك الجهاد، ممَّا أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وحَذَّر منه، فوقع في الأمة كما أخبر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"(4).
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) رواه أحمد (19419)، وأبو داود (2484)، ورواه الحاكم (2392) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. اهـ، ووافقه الذهبي.
((1/22)
4) رواه أبو داود (3462)، وأبو يعلى في مسنده برقم (5659)، والبيهقي في السنن الكبرى (10484)، وقد صححه ابن القيم في تعليقه على مختصر سنن أبي داود، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (423).
فإن راية الجهاد لا تكاد تسقط من يد قوم إلا وتلقَّفتها يد أخرى؛ مصداقًا لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54]، ومقتضى هذا الوعد ألا يزال في الأمة مؤمنون مجاهدون، باذلون، صابرون في سبيل الله، وقد ظل بعض المخلصين -ومن هؤلاء من هو مستمسك في الجملة بالأصول العامة لأهل السنة والجماعة- يقاتلون أعداء الله من المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين والطليان وغيرهم من أمم الكفر، ولا زال المسلمون يقاتلون الكفار في فلسطين والفلبين وأريتريا وغيرها.
فالمقصود أن الجهاد ماض ومستمر لا ينقطع، ولا تزال طائفة من الأمة قائمة به، وهؤلاء هم الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة.
عاشرًا: أهل السنة أكرم الناس أخلاقًا، موصوفون بالاستقامة في الهدي والسمت والسلوك الظاهر.
قال الله U مادحًا نبيهصلى الله عليه وسلم : {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وقال صلى الله عليه وسلم : "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(1)، وقد ندبنا الله U إلى الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
ـــــــــــــــــــــــــــ
((1/23)
1) أخرجه أحمد (8729)، والبخاري في الأدب المفرد (273) وفي التاريخ الكبير (835)، والحاكم في المستدرك (13)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/191، 192) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وصححه ابن عبد البر في التمهيد (24/333، 334)، والألباني في صحيح الجامع (2349). قال فضل الله الجيلاني: "لا يكون دين من الأديان خاليًا من مكارم الأخلاق، لكن لم تكن الأخلاق الكريمة مجموعة كلها في دين من الأديان السابقة حتى جمع الله في دين الإسلام كل ما كان من أخلاق حسنة في أي دين، فهذا معنى: "أتمم مكارم الأخلاق".. أي: أبلغ نهايتها" باختصار من فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد (1/271).
إن أهل السنة والجماعة هم حملة ميراث النبوة في جانبيها العلمي والعملي، ولا شك أن أبرز الجوانب العملية في الهدي النبوي هو الجانب الأخلاقي، ولذلك فإن أخلاق النبوة -من الرحمة، ومحبة الخير للناس، واحتمال أذاهم، والصبر على دعوتهم، إلى آخر ذلك- هي المنبع الذي يستقي منه أهل السنة خصائصهم السلوكية والأخلاقية، والتي لا تقل أهمية في منظور الحق عن ميراث العلم والهدي الذي اختص به الله هذه الفرقة الناجية بفضله ورحمته.(1/24)
قال شيخ الإسلام: "الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى هدى ورحمة للعالمين، فإنه كما أرسله بالعلم والهدى والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم واحتماله، فبعثه بالعلم والكرم والحلم؛ عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح... فهو يعلّم، ويهدي، ويصلح القلوب، ويدلها على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا عوض... وكذلك نعت أمته بقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس: تأتون بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة، فيجاهدون ويبذلون أنفسهم وأموالهم؛ لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك لجهلهم"(1).
وقال أيضًا: "يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"(2)، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى، والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها، وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجموع الفتاوى (16/313-317).
(2) أخرجه أحمد (7354)، والدارمي (2792)، والترمذي (1162) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.اهـ
فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة"(1).(1/25)
وقد تميَّز أهل السنة بهذه الخصلة الجميلة -كرم الخلق وحسن الهَدْي والسمت-، وحرصوا عليها ذلك أشدَّ الحرص، قال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهَدْي كما يتعلمون العلم"(2)، وقال حبيب بن الشهيد لابنه: "يا بنيّ ايت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث"(3)، وقال بعضهم لابنه: يا بنيَّ، لأن تتعلم بابًا من الأدب؛ أحبُّ إليَّ من أن تتعلم سبعين بابًا من العلم.
! ! !
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق (3/158).
(2) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/79).
(3) المصدر السابق (1/80).
الفصل الثالث
مبادئ علم التوحيد
تمهيد
المبحث الأول: حد علم التوحيد.
المبحث الثاني: أسماؤه.
المبحث الثالث: موضوعه.
تمهيد
كان طلب العلم زمن الصحابة رضي الله عنهم اشتغالاً بالقرآن الكريم والسنة المطهرة حفظًا وفهمًا، بطريقة موسوعية جامعة، فلما تطاول الزمان، كثرت المسائل، وتنوعت النوازل، واتسعت البلدان، واختلط اللسان العربي بالأعجمي، فعمد أهل العلم إلى جمل من المسائل العلمية التي تشترك في وحدة موضوعية جامعة، فأفردوها باسم يخصها عن غيرها من المسائل، فتمايزت بذلك العلوم، "وعرَّفوا تلك العلوم بما يضبط مسائلها بطريقين غالبًا، إما بذكر الموضوع والمسائل التي يحتويها العلم، وسموا ذلك حدًّا أو تعريفًا، وإما بذكر الفائدة والثمرة والغاية من دراسة ذلك العلم، وسموا ذلك رسمًا، فصار العلم عند علماء التدوين هو: "المسائل المضبوطة بجهة واحدة، موضوعية كانت أو غائية"(1).
ثم إنه جرت عادة المصنفين -من المتأخرين- أن يدوِّنوا مقدمة عن العلم ومسائله وثمراته وما يتعلق به في صدر مصنفاتهم؛ وذلك لفوائد، منها:(1/26)
1- أن يحصِّل طالب العلم بصيرة بالفن وتصورًا إجماليًّا له قبل أن يدخل إلى تفاصيله، فيعرف الوحدة الجامعة لمسائل هذا العلم، فيأمن عندئذ من اشتباه مسائل العلوم عليه، ومن دخوله في مسائل ليست من مسائل العلم الذي عوّل عليه، وقصد إليه.
2- أن يتحقق من فائدة العلم ونفعه؛ لينشط في طلبه وتحصيله؛ وليستعذب المشاق في سبيله؛ وليكون عند طلبه هذا العلم النافع المفيد مجتنبًا للعبث والجهالة.
هذا وقد استقر عمل المصنفين على ذكر مبادئ عشرة لكل علم وفن، تمثِّل مدخلاً تعريفيًّا لطالب هذا العلم، وجمع بعضهم هذه المبادئ العشرة في قوله:
مبادئ أي علم كان حدُّ
وموضوعٌ وغايةٌ مستمدُّ
وفضل واضع واسم وحكم
مسائل نسبةٌ عشر تعدُّ
وهذه المبادئ العشرة اسم لمجموعة من المعاني والمعارف يتوقف عليها الشروع في طلب العلم، وبيانها كالتالي:
- الحد: ويقصد به التعريف الجامع لمسائل العلم ومباحثه، المانع من دخول غيره فيه.
- الموضوع: وهو المجال المحدد الذي يبحث فيه العلم، والجهة التي تتوحد فيها مسائله.
- الغاية أو الثمرة: الفائدة التي يحصِّلها دارس العلم في الدارين.
- الاستمداد: الروافد والأسباب العلمية التي يستقي منها العلم مسائله ومطالبه.
- الفضل: ما للعلم من منزلة وشرف وأهمية بين العلوم.
- الواضع: أول من ابتدأ التدوين والتصنيف في العلم، ووضع أساسه وأرسى قواعده.
- الاسم: الألقاب التي أطلقها أهل هذا العلم عليه لتمييزه عن غيره.
- الحكم: الحكم الشرعي المتعلق بتعلم هذا العلم من بين الأحكام التكليفية الخمسة.
- المسائل: وهي المطالب التي يبحثها ويقررها العلم والتي تندرج تحت موضوعه.
- النسبة: صلة العلم وعلاقته بغيره من العلوم.
المبحث الأول
حد علم التوحيد(1/27)
الحد لغةً: المنع، وسمي التعريف حدًّا؛ لمنعه الداخل من الخروج، والخارج من الدخول(2)، واصطلاحًا: الوصف المحيط بموصوفه(3)، أو هو اللفظ المفسِّر لمعناه على وجه يجمع ويمنع(4)، أو هو القول الدال على ماهية الشيء(5)، وقد يسمَّى بـ"القول الشارح" أو "التعريف".
فإذا قيل: حد علم التوحيد، فإنه يراد به تعريف ذلك العلم الذي يحيط بمعناه ويجمع قضاياه، ويمنع من التباس غيرها بها، بعبارة ظاهرة.
أولاً: تعريف المصطلح باعتبار مفرداته:
درج العلماء عند تعريف ما تركب من كلمتين في مركب إضافي كـ"علم التوحيد" أن يبدأوا بتعريف مفرديه أولاً، ثم تعريفه باعتباره لقبًا وعَلَمًا على الفن المعين ثانيًا.
أ- معنى التوحيد:
لغة: باستنطاق معاجم اللغة، فإنها تفصح بأن مادة (وَحَدَ) تدور حول انفراد الشيء بذاته أو صفاته أو أفعاله، وعدم وجود نظير له فيما هو واحد فيه.
وللتوحيد لغة معنيان: الأول: جعل المتعدد واحدًا بنفي الحكم عما سوى الموحَّد وإثباته له، والثاني: اعتقاد الشيء واحدًا، وهذا بمعنى النسبة إلى الوحدانية، وليس في هذا تصيير أو جعل(6).
اصطلاحًا: على الإطلاق العام هو: إفراد الله بالعبادة حسب ما شرع وأحب، مع الجزم بانفراده في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا نظير له ولا مثيل له في ذلك كله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من الممكنات سواه"(7)، وقال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله: "هو إفراده تعالى بالعبادة التي تتضمن غاية الحب ومنتهاه، مع غاية الذل وأقصاه، والانقياد لأمره والتسليم له"(8)، وقال الشيخ علي بن محمد بن ناصر الدين الشافعي الشهير بالسويدي رحمه الله: "التوحيد فعل للموحد، وهو وصف الله تعالى بالوحدانية، وذلك نوعان: توحيد في ربوبيته، وهو الحاصل بعد توحيد الذات والصفات، وتوحيد في ألوهيته"(9).(1/28)
وهذا المعنى الاصطلاحي العام للتوحيد متفق عليه بين أهل السنة وغيرهم(10)، وعلى هذا فالتوحيد في معناه الاصطلاحي العام يقترب من أحد معنيي اللغة، وهو نسبته تعالى إلى الوحدانية واعتقاد ذلك، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والتوحيد هنا ليس بمعنى التصيير والجعل، فالله واحد اعتقدت ذلك أم لم تعتقده"(11).
ب- معنى العلم:
يطلق العلم ويراد به: إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع سواء أكان جازمًا أو لا، فيشمل الظن والوهم والشك، كما في قوله تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف:51)، فهو يشمل الأمور السابقة جميعًا.
وقد يطلق العلم على الظن الغالب، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الممتحنة:10) أي: غلب على ظنكم، قال النسفي رحمه الله: "العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بظهور الأمارات"(12)، ثم قال معلقًا: "وفي تسمية الظن علمًا إشارة إلى أن الظن وما يفضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم"(13).(1/29)
وعليه فإن العلم اصطلاحًا يطلق على مجموعة من المعارف الظنية الراجحة ومنها ما هو قطعي، بشرط أن تكون منظمة حول موضوع ما، كعلم التوحيد، وعلم الفقه، ونحو ذلك.
وبناء على ما تقدم، فإن المختار في تعريف العلم أنه: الإدراك الحاصل بالدليل والشامل لليقين الجازم والظن الغالب، وما بينهما من درجات ومراتب.
ثانيًا: تعريف المصطلح باعتبار تركيبه الإضافي:
إذا أضيفت كلمة العلم إلى كلمة التوحيد، فإن معنى هذا المركب الإضافي هو: الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل بانفراد الله تعالى بالعبادة حسب ما شرع وأحب، مع انفراده في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
ثالثًا: علم التوحيد باعتباره اللقبى:
يعرَّف هذا الاصطلاح باعتباره لقبًا على فن مخصوص على أنه: "العلم بالأحكام الشرعية العقدية المكتسب من الأدلة اليقينية، ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية"(14).
ويرد على هذا التعريف أن أحاديث الآحاد مما يحتج به في العقائد والأحكام سواء؛ فلو قيل "بالأدلة المرضية" لتشمل الأدلة اليقينية والظنية لكان أولى.
كما يمكن أن يعرف باعتبار موضوعه فيقال: "علم التوحيد: هو العلم الذي يبحث في ذات الله وما يجب له وما يجوز وما يمتنع، وهذا يشمل الأنواع الثلاثة من التوحيد: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات"(15).
ويلاحظ من جملة التعاريف السابقة أن علم التوحيد بمعناه اللقبي يقوم على دعامتين:
الأولى: التصديق بجملة من العقائد المتعلقة بالله تعالى، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر.
الثانية: القدرة التامة على إثبات تلك العقائد المنسوبة إلى دين نبينا محمد e، بإيراد الحجج الباهرة، ودفع الشُّبَه الباهتة.
المبحث الثاني
أسماء علم التوحيد(1/30)
المقصود بأسماء العلم ما يطلق عليه من الأسماء المعتبرة عند أهل هذا العلم، والمسمى إذا كثرت أسماؤه دل ذلك على شرفه وفضله وأهميته غالبًا، وعلم التوحيد من أكثر العلوم أسماء، وله أسماء شرعية وأخرى محل نظر، وبيان كلٍّ فيما يلي:
أولاً: الأسماء الشرعية لعلم التوحيد:
1- علم التوحيد:
لعل السبب في إطلاق اسم التوحيد على هذا العلم، هو أن مبحث وحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله هو أهم مباحث هذا العلم، فهو من باب تسمية الكل بأشرف أجزائه، أو تسمية العلم بأشهر بحوثه، ثم إن ما عدا مبحث الوحدانية قائم ومعتمد عليه، فهو الأصل الذي يتفرع عنه غيره.
ولقد كثرت الكتب المصنفة في باب الاعتقاد التي تحمل اسم التوحيد قديمًا وحديثًا، فمن ذلك: "كتاب التوحيد" لأبي العباس أحمد بن سريج البغدادي، و"كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب سبحانه وتعالى" للإمام أبي بكر بن خزيمة رحمهما الله تعالى.
2- العقيدة:
العقيدة لغةً: مأخوذة من العَقْد، وهو الجمع بين أطراف الشيء على سبيل الربط والإبرام والإحكام والتوثيق، ويستعمل ذلك في الأجسام المادية، كعقد الحبل، ثم توسع في معنى العقد فاستعمل في الأمور المعنوية،كعقد البيع وعقد النكاح(16). وقد ذكر المعجم الوسيط أن العقيدة: هي "الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، ويرادفها الاعتقاد والمعتقَد.. وجمعها عقائد"(17).(1/31)
وكلمة العقيدة لم ترد في القرآن الكريم وإنما وردت مادتها فقط في مثل قوله تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (النساء:33) ، وقوله تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة:235) .
أما العقيدة في اصطلاح علماء التوحيد فهي "الإيمان الذي لا يحتمل النقيض"(18)، ويلاحظ اقتراب أو تطابق المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة العقيدة.
العلاقة بين علمي العقيدة والتوحيد:
"وعلم العقيدة وعلم التوحيد مترادفان عند أهل السنة، وإنما سمي علم التوحيد بعلم العقيدة بناء على الثمرة المرجوة منه، وهي انعقاد القلب انعقادًا جازمًا لا يقبل الانفكاك"(19). ومن الباحثين من فرق بينهما فاعتبر علم التوحيد هو العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة المرضية، وأن علم العقيدة يزيد عليه برد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية، فيجتمعان في معرفة الحق بدليله، وتكون العقيدة أعم موضوعًا من التوحيد.
وقد جرى السلف على تسمية كتبهم في التوحيد والإيمان بكتب العقيدة، كما فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، واللالكائي رحمه الله في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة".
3- الإيمان:(1/32)
معنى الإيمان في اللغة: قال ابن فارس: "للهمزة والميم والنون أصلان متقاربان، أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق، والمعنيان متدانيان... وأما التصديق فقول الله تعالى:{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يوسف:17) ، أي مصدِّق لنا"(20).
معنى الإيمان في الاصطلاح:
وأما الإيمان الاصطلاحي فيطلق على الاعتقاد القلبي، والإقرار اللفظي، والعمل الحسي، امتثالاً للأوامر، واجتنابًا للمناهي.
وهذا التعريف الاصطلاحي للإيمان مأخوذ من تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان في حديث جبريل سبحانه وتعالى(21)، وفيه: "فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، وحديث وفد بني عبد القيس(22)، وفيه: "هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة ألا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس"، حيث عرف الإيمان في الحديث الأول بالاعتقادات الباطنة، وفي الحديث الثاني بالأعمال الظاهرة، ثم صار الإيمان يطلق ويراد به مسائل الاعتقاد كلها.
وصنَّف السلف كتبًا باسم الإيمان بحثت قضايا التوحيد ومسائل الاعتقاد جميعًا، ومن أولها: "كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمال درجاته"، للإمام أبي عبيد القاسم البغدادي، و"كتاب الإيمان" للحافظ ابن أبي شيبة العبسي، و"كتاب الإيمان" للحافظ ابن منده.
4- السنة:
سبق أن السنة في اللغة تطلق على الطريقة المسلوكة، محمودة كانت أو مذمومة، كما تطلق على العادة الثابتة المستقرة، وعلى غير ذلك(23).(1/33)
والسنة في اصطلاح علماء العقيدة والتوحيد معناها كما قال ابن رجب رحمه الله: "وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد؛ لأنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم"(24)، وهذا الإطلاق للسنة على العقيدة من باب إطلاق الاسم على بعض مسمياته، فإن الاعتصام بالسنة من أهم أصول أهل السنة.
على أن وصف العقيدة بالسنة كان معروفًا زمن الصحابة رضي الله عنهم، ويدل عليه قول علي رضي الله عنه: "الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه"(25)، وهذا لا يكون إلا فيمن خالف في الاعتقاد مخالفة عظيمة.
وبناء على ذلك، فقد أطلق اسم السنة على عقيدة أهل السنة والجماعة، هذا بالإضافة إلى أن السنة لغة هي الطريقة، فأطلقت على عقيدة السلف لاتباعهم طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في الاعتقاد خاصة، واستفاض ذلك المصطلح في الناس حتى إذا قيل: فلان صاحب سنة، كان معناه أنه على معتقد سلفي.
وقد عرفت كتب الاعتقاد باسم كتب السنة، وساد ذلك في القرن الثالث الهجري، في عصر الإمام أحمد رحمه الله، حيث أظهر أهل البدع بدعهم وجاهروا بها تصنيفًا ومناظرة، فألَّف أهل السنة في الرد عليهم كتبًا أسموها كتب السنة؛ وذلك لأنهم لم يكن لهم اسم يتسمون به خصوصًا بخلاف أهل الابتداع، ومن تلك الكتب:
"السنة" للإمام أحمد بن حنبل، و"السنة" لأبي بكر بن الأثرم، و"السنة" لابن أبي عاصم رحمهم الله جميعًا.
5- أصول الدين:
وهذا المصطلح مركب من مضاف ومضاف إليه، فيعرف باعتبار مفرديه أولاً.
فالأصل لغة: "ما يبنى عليه غيره، أو ما يتفرع عنه غيره"(26).
ويعرَّف في الاصطلاح المناسب لهذا الموضع بأنه "القواعد الكلية والأسس العامة".
والدين يطلق في اللغة على الذل والخضوع،كما يطلق على الحساب والجزاء(27)، واصطلاحًا: "جملة الأحكام الاعتقادية التي تحدِّد ما ينبغي أن يتصف به الله من صفات، وجملة الأحكام العملية التي ترسم طريق عبوديته سبحانه"(28).(1/34)
"والمعنى المستفاد من هذا المركب الإضافي، أن أصول الدين هي المبادئ العامة، والقواعد الكلية الكبرى، التي بها تتحقق طاعة الله ورسوله، والاستسلام لأمره ونهيه"(29)، فأصول الدين بهذا الاعتبار تشمل أركان الإسلام من الأعمال الظاهرة، وأركان الإيمان من الاعتقادات الباطنة، ثم غلب على العلماء المصنفين في الاعتقاد استعمال هذا الاصطلاح في قضايا التوحيد والعقيدة، وعللت هذه التسمية بأن بحوث علم الاعتقاد أصل لما يتلوها من علوم الدين الأخرى كالفقه والحديث، ومن جهة أخرى، فإن هذا العلم يبحث في العقائد التي هي الأصول الواجب على المكلف اعتقادها قبل أن يبدأ العمل، فلا يثمر العمل في الآخرة إلا باعتقاد هذه الأصول في الدنيا.
وقد اعترض شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على أن يكون مصطلح أصول الدين قاصرًا على العقائد دون مسائل العمل الكبار، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، أو أن يدخل فيه مسائل العقائد المختلف فيها داخل دائرة أهل السنة، كما قد يعترض أيضًا على هذه التسمية لعلم التوحيد بأنها لا تكشف عن طبيعة هذا العلم الذاتية وخصائصه التي يمتاز بها، حيث لوحظ فيها ما يقابله من فروع الدين فحسب.
ومهما يكن من أمر، فإن عمل العلماء سلفًا وخلفًا جرى على اعتماد هذه التسمية حين ألَّفوا وصنفوا في هذا العلم المبارك، ومن أمثلة ذلك:
"الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة" لأبي عبد الله بن بطة، و"الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري رحمهما الله تعالى.
6- الشريعة:
الشريعة لغة: "من الشَّرْع وهو السَّن والبيان والمورد والطريق"(30).(1/35)
واصطلاحًا: ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، سواء أكانت متعلقة بكيفية عمل أو اعتقاد،.. ويسمى الشرع أيضًا بالدِّين والملَّة، فإن تلك الأحكام من حيث إنها تطاع دين، ومن حيث إنها تملى وتكتب ملَّة، ومن حيث إنها مشروعة شرع، فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار لا بالذات"(31).
وقد تطلق الشريعة على ما شرعه الله تعالى لجميع رسله من أصول الاعتقاد والبر والطاعة مما لا يختلف من دعوة لأخرى، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى:13) .
ثم أطلقت الشريعة أخيرًا وبإطلاق أخص -كما قال ابن تيمية رحمه الله- على: "العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق... إلخ" (32).
والشريعة هنا كالسنَّة، فقد يراد بها ما سنه الله وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد بها كلاهما.
وقد ألف بعض العلماء كتبًا في الاعتقاد تحمل اسم الشريعة، ومن أولها:
"الشريعة" لأبي بكر الآجري، و"الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" لابن بطة رحمهما الله تعالى.
7- الفقه الأكبر:(1/36)
أطلق الفقه في الاصطلاح الأقدم على ما هو أعم من علم الفروع، بحيث يشمل الأصول والفروع، وعن هذا المعنى عبر الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال: "الفقه: معرفة النفس مالها وما عليها" وذلك من كل ما تنتفع به وتتضرر في الآخرة، من الاعتقادات والأعمال والأخلاق ونحو ذلك، ثم لما أراد أبو حنيفة رحمه الله تمييز الاعتقادات عن غيرها، جاء بهذا الاصطلاح الذي لم يسبق إليه في التعبير عن التوحيد فسماه الفقه الأكبر، تمييزًا له عن الأصغر وهو فقه الفروع.
وفي تعليل هذه التسمية يقول الإمام عبد العزيز الحنفي رحمه الله: "سمي بالفقه الأكبر؛ لأنه أكبر بالنسبة للأحكام العملية الفرعية التي تسمى الفقه الأصغر؛ ولأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته الذي يبحث فيه هذا العلم؛ لذلك سمي الفقه الأكبر"(33).
وقال أبو حنيفة: "الفقه الأكبر في الدين أفضل من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه، خير له من أن يجمع العلم الكثير"(34).
8- التصور:
وهذا المصطلح مختلف في مشروعيته، إذ إنه مصطلح محدث أطلقه بعض الباحثين على هذا العلم، كما فعل ذلك سيد قطب رحمه الله في كتابه "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"، حيث قال: "فالتصور الإسلامي يقوم على أساس أن هناك ألوهية وعبودية، ألوهية ينفرد بها الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه، وكما ينفرد الله سبحانه بالألوهية كذلك ينفرد -تبعًا لهذا- بكل خصائص الألوهية"(35).
وقد أفصح سيد عن موقفه بجلاء من الفلسفة وعلم الكلام ومنهاجهما، فقال: "وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية، وبخاصة شروح فلسفة أرسطو -أو المعلم الأول كما يسمونه- وبالمباحث اللاهوتية، وظنوا أن الفكر الإسلامي لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي -زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات!" (36).(1/37)
ثم يقرر منهجه فيقول: "منهجنا إذن في هذا البحث عن خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً، وأن نستحضر -بقدر الإمكان- الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر.. ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقًا، لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية.. ثم إننا لا نحاول استعارة القالب الفلسفي في عرض حقائق التصور الإسلامي.. لابد أن نعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ إن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها، ويطفئ إشعاعها وإيحاءها.. ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها"(37).
وعلى هذا يمكن القول بأن هذا المصطلح يدل على معنى صحيح عند من استعمله من المعاصرين(38)، وإن كان الأولى موافقة الشرع في اللفظ والمعنى معًا، مع التقيد بأسماء هذا العلم المبارك كما نقل عن السلف، فإنه أسلم وأحكم وأقوم.
التطور التاريخي لتدوين علم التوحيد:
لعله من المناسب قبل مغادرة هذه النقطة تلخيص ما سبق وإلقاء أضواء على التطور التاريخي لظهور هذه المصطلحات، فلا ريب أن مصطلحي الإيمان والفقه الأكبر قد ظهرا في القرن الثاني وبرزا، واستمر مصطلح الإيمان في الذيوع خلال القرن الثالث حيث برز مصطلح السنة، وظهرت الكتب الاعتقادية التي حملت اسم السنة، وتوالى التصنيف في القرن الرابع بهذه الأسماء الاصطلاحية.(1/38)
ثم ظهر في القرن الرابع أربعة مصطلحات شاعت وذاعت، وهي: التوحيد، الشريعة، أصول الدين، العقيدة، وإن كان مصطلح العقيدة قد ظهر أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الهجري كما يبدو هذا من كتاب الحافظ اللالكائي رحمه الله "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، وكذا فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، وتتابع بعد ذلك المصنفون على استعمال هذا المصطلح.
ثم يبقى بعد ذلك مصطلح التصور الذي نقل إلينا من الفلسفة، فلو سلم مما فيه من مشابهة الفلاسفة في مناهجهم في النظر والاستدلال، وانطلق من مصادر العقيدة المعتبرة لدى أهل السنة، فلا يبقى فيه إلا عدم استعمال السلف له، والأولى -كما تقدم- الاستغناء بالمنقول عن السلف عما نقل عن أهل التفلسف.
ثانيًا: أسماء علم التوحيد عند الفرق الإسلامية:
1- علم الكلام:
وهذا هو أشهر الإطلاقات عند سائر الفرق الإسلامية من أشاعرة ومعتزلة وغيرهم في القديم والحديث.
ويعلّل المتكلمون تسميتهم للتوحيد بعلم الكلام بعلل شتى، منها: "أن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام..."(39)، أو "لأن أصحابه كانوا يترجمون لمسائله بقولهم: الكلام في القدرة، الكلام في العلم، الكلام في الوحدانية، فجاءت التسمية من باب الشيوع والذيوع والغلبة"(40)، "وقد يكون سبب التسمية أنه أكثر من غيره خلافًا ونزاعًا بين الخائضين فيه بعقولهم، فهو مفتقر إلى الكلام أكثر من غيره لتحقيقه وللرد على المخالف فيه"(41)، ويرى بعض الباحثين أنه سمي بذلك؛ لأنه يكسب المتكلم قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات، وإلزام الخصوم(42).(1/39)
ويرى أهل السنة هذه التسمية لهذا العلم المبارك تسمية مبتدعة، وهي تنطبق على غير علم التوحيد الذي جاء به المرسلون، فإنه ليس من الكلام في شيء لا اسمًا ولا معنى، ولا مقصدًا ولا غاية ولا استمدادًا، وأهل السنة لا يعتبرون الكلام وتعلمه علمًا؛ بل يعدونه جهلاً، فإن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال لبشر المريسي: "العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم"(43)، وقال شيخ الإسلام: "إن الجدال في علم العقائد يسمى كلامًا"(44).
وأهل السنة يذكرون أسبابًا أخرى لهذه التسمية المحدثة لعلم التوحيد منها: "أنه سمي كذلك لأن المشتغلين به تكلموا فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، مثل الكلام في ذاته تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتأويل المتشابه، والبحث في القدر، ونحو ذلك"(45)، أو "تأسيًا بالفلاسفة في تسميتهم فنًّا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان"(46)، أو لأن المتكلمين "لم يفيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد"(47).
ثم إن علماء الإسلام الثقات قد زجروا عن علم الكلام وبالغوا في النهي عنه، فقال الشافعي رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"(48).
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "لا يفلح صاحب كلام، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دخل"، وقال أيضًا: "علماء الكلام زنادقة"(49).
وقال الإمام مالك لرجل جعل يسأله عن القرآن: "لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد؟ لعن الله عمرًا، فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل"(50).
2- الفلسفة:(1/40)
الفلسفة إعمال للعقل في أي مجال وكل مجال بلا أي منطلقات سابقة من دين أو وحي؛ للوصول إلى الحقائق الأزلية -بزعمهم-(51)، فهي محاولة إدراك الفاني القاصر للأول والآخر -سبحانه-، وبالتالي فهي محاولة محكومة بالفشل؛ إذ الفلسفة تنتهي حتمًا إلى التعقيد والتخليط والجفاف كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة.
ولقد دخل من سمي بفلاسفة المسلمين في جحيم الفلسفة فما خرجوا منها إلا إلى نار الجحيم، فأنكروا البعث والمعاد، وقالوا بقدم العالم، وجاءوا بالكفريات، كما أوضح ذلك الغزالي رحمه الله في كتابه المسمى "تهافت الفلاسفة".
بين الفلسفة وعلم الكلام:
إن الكلام يتعلق بدين بعينه، ولكن الفلسفة تبحث عن الحقائق والأصول بتجرد من كل دين ومذهب، ومن حيث المنهج فإن علم الكلام يبدأ من مسلمات عقدية يفترض صحتها، ثم يشرع في التماس الطريق العقلية المؤدية لإثباتها، وهذا بخلاف الفيلسوف الذي يتشكك في البدهيات، ويماري في الأوليات، حتى يثبتها عقله أولاً، ثم يتدرج منها إلى النتائج، مستخدمًا منهجًا عقليًّا صرفًا، فالمتكلم يبدأ بذكر الأدلة على وجود الله، والفيلسوف يبدأ بإنكار وجود الله، والعياذ بالله.
والحاصل أن تسمية علم التوحيد بالفلسفة هو تسمية للإيمان بضده، وللنور والهدى واليقين بالظلمة والضلال والشك، والعلماء متفقون على حرمة تعلم الفلسفة، متفقون على ذمها وذم من دخل فيها من علماء الكلام سواء في ذلك أهل السنة أو الأشاعرة أو الماتريدية.(1/41)
وأخيرًا فإن طائفة من علماء الكلام الفحول الذين دخلوا في الفلسفة قد رجعوا عن الكلام ومسالكه، كما فعل الإمام الأشعري، حيث قال رحمه الله: "فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا سبحانه وتعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، و بما قال به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضَّر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مجانبون"(52).
وهذا الإمام الجويني رحمه الله يقول في آخر عمره: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به"(53)، وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل للجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال على عقيدة عجائز أهل نيسابور"(54).
وقال الرازي: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"(55).
وقال الغزالي: "الدليل على أن مذهب السلف هو الحق، أن نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة"(56)، وقال أيضًا: "إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محتاجين لمحاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فما زادوا على أدلة القرآن شيئًا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن، لا يقمعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان"(57).(1/42)
وأخيرًا فإن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وذكر هذه الأخبار عن علماء أهل الإسلام يدل على كمالهم وحسن مقصدهم، رحمهم الله وغفر لهم أجمعين.
المبحث الثالث
موضوع علم التوحيد
إن موضوع أي علم هو ذلك المعنى العام الذي يشتمل كل مسائله التي يتخذها دائرة لبحثه دون غيره من العلوم، وذكر موضوع العلم بعد تعريفه مما يزيده تمييزًا عن غيره.
وموضوع علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة يدور على أمور منها: بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى وتوحيده وما يجب له تعالى من صفات الجلال والكمال، مع إفراده وحده بالعبادة دون شريك، والإيمان بالملائكة الأبرار والرسل الأطهار وما يتعلق باليوم الآخر، والقضاء والقدر، كما يدور على بيان ضد التوحيد وهو الشرك والكفر وبيان حقيقتيهما وأنواعهما.
وقد يقال إن موضوع علم التوحيد هو الله تعالى من حيثيات معينة، على النحو التالي:
أولاً: ذات الله تعالى أو (الإلهيات):
والبحث في ذات الله تعالى من حيثيات ثلاث، هي:
1- ما يتصف به تعالى من العلم والحياة والقدرة والصفات، وسائر كمالاته تعالى. قال تعالى:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11) .(1/43)
2- ما يتنزه عنه من الظلم والنقص والعجز والمثالب، وسائر ما لا يليق بجلاله وكماله. قال تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255) .
3- حقه على عباده، وهو أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئًا، وأن يطيعوه وينقادوا له وحده. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) ، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5) .
وقد أغفل كثير من المخالفين لأهل السنة في الاعتقاد هذه الحيثية الثالثة عند البحث في موضوع علم التوحيد، حيث قصروه على ما يشمل إثبات وجوده وربوبيته وأسمائه وصفاته، رغم أن الأمم التي بعثت إليها الرسل كانت تقر بالربوبية إجمالاً، ولم يقع نزاع فيه بينهم وبين الرسل، وإنما كان النزاع في توحيد الإلهية والعبادة؛ ولهذا لم يجئ على لسان الرسل عليهم السلام الدعوة إلى اعتقاد أن الله هو وحده الخالق -وإن وردت أدلة ذلك في ثنايا الرسالات-، وإنما كان مدار دعوتهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل منهم كان مفتتح دعوته لقومه: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (لأعراف:65) .(1/44)
وسبب إغفال المخالفين توحيد العبادة أنهم قصروا الإيمان على التصديق وأخرجوا عنه العمل بالطاعات، واجتناب الشركيات، وجعلوا الكفر مجرد التكذيب، وهو عمل القلب، ولا دخل لعمل الجوارح في الكفر، إلا إذا دل على انتقاض عمل القلب فحسب.
ثانيًا: ذوات الرسل الكرام أو (النبوات):
والبحث في ذوات الرسل الكرام من الحيثيات التالية:
- ما يلزمهم ويجب عليهم من صدق وأمانة وبلاغ ونصح لأممهم ونحو ذلك، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة:99) .
- ما يجوز في حقهم من أكل ونكاح وأمراض غير منفرة وموت، ونحو ذلك مما يعرض للبشر، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد:38) .
- ما يستحيل في حقهم من الكذب والخيانة والكفر والكبائر والموبقات.
- وأخيرًا ما يجب لهم على أتباعهم من الحب والطاعة والاتباع والتعظيم. قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء:64) .
ثالثًا: السمعيات أو (الغيبيات):
وهي ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود الوحي به، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل، كأشراط القيامة، وتفاصيل البعث والجزاء، ونحو ذلك. والبحث في السمعيات أو الغيبيات يكون من حيث اعتقادها، وهو يقوم على دعامتين اثنتين هما:
أولاً: الإقرار بها مع التصديق، ويقابله الجحود والإنكار لها.
ثانيًا: الإمرار لها مع إثبات معناها، ويقابله الخوض في الكنه والحقيقة، ومحاولة التصور والتوهم بالعقل بعيدًا عن النقل.(1/45)
وضابط السمعيات: أن العقل لا يمنعها، ولا يقدر على ذلك، ولا يوجبها، ولا يقدر على ذلك، فمتى ما صح النقل عن الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الواجب اعتقاد ذلك والإقرار به، ودفع كل تعارض موهوم بين شرع الله وهو الوحي، وبين خلقه وهو العقل، والقاعدة الذهبية أنه لا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح عند التحقيق.
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (1/12).
(2) المصباح المنير (1/124، 125)، والقاموس المحيط ص352.
(3) المفردات للراغب الأصفهاني ص108.
(4) المستصفى للغزالي (1/21).
(5) التعريفات للجرجاني ص 112.
(6) انظر: معجم مقاييس اللغة (6/90، 91).
(7) درء التعارض بين العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/306).
(8) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ الغنيمان (1/38).
(9) العقد الثمين في بيان مسائل الدين للسويدي ص66.
(10) يقول البيجوري: "هو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته، والتصديق بها ذاتًا وصفات وأفعالاً". شرح جوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم البيجوري ص10.
(11) أشرطة "شرح السفارينية" للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
(12) مدارك التنزيل وحقائق التأويل. النسفي (3/515).
(13) المصدر السابق (3/515).
(14) المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة. د. إبراهيم البريكان ص9.
(15) أشرطة شرح السفارينية للشيخ ابن عثيمين.
(16) المصباح المنير (2/421)، والقاموس المحيط ص383، 384، ولسان العرب (9/309-312).
(17) المعجم الوسيط (2/637).
(18) المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية ص8.
(19) المصدر السابق ص10.
(20) معجم مقاييس اللغة (1/ 133-135).
(21) رواه مسلم (9) من حديث عمر رضي الله عنه.
(22) رواه البخاري (7001)، ومسلم (24) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(23) راجع ص2.
(24) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (1/263).
(25) الشرح والإبانة ص122.
((1/46)
26) معجم مقاييس اللغة (1/109)، وكشاف اصطلاحات الفنون (1/122).
(27) انظر: لسان العرب (4/458-461)، والمعجم الوسيط (1/317، 318).
(28) الدين د. محمد عبد الله دراز ص44.
(29) مدخل إلى عقيدة أهل السنة ص11.
(30) لسان العرب (7/86-89).
(31) كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (4/129).
(32) مجموع الفتاوى (19/ 306، 307).
(33) كشف الأسرار على أصول البزدوي للإمام عبد العزيز البخاري الحنفي (1/8).
(34) نظم الدرر في شرح الفقه الأكبر للقاضي عبيد الله الحنفي ص 28.
(35) خصائص التصور الإسلامي. الأستاذ سيد قطب ص183.
(36) المصدر السابق ص183.
(37) المصدر السابق ص12-18.
(38) ومنهم د. عثمان جمعة ضميرية في كتابيه "التصور الإسلامي للكون والحياة" و"مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية".
(39) الملل والنحل (1/30).
(40) مباحث في علوم العقيدة. د. آمنة نصير ص77.
(41) توضيح العقائد النسفية. د. سليمان خميس ص6.
(42) علم العقيدة بين الأصالة والمعاصرة د. أحمد السايح ص 55.
(43) شرح العقيدة الطحاوية (1/17).
(44) مجموع الفتاوى (11/ 336).
(45) مدخل نقدي لدراسة علم الكلام. د. محمد السنهوتي ص19.
(46) المل والنحل (1/30).
(47) شرح العقيدة الطحاوية (1/242).
(48) الإحياء للغزالي (1/130).
(49) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص102.
(50) ذم الكلام للهروي ص294.
(51) انظر: المعجم الفلسفي ص139، 140.
(52) الإبانة عن أصول الديانة للأشعري ص17.
(53) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (5/186)، وتلبيس إبليس ص105.
(54) شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري الحنفي ص6، وتلبيس إبليس ص104، 105.
(55) درء التعارض (1/160).
(56) إلجام العوام عن علم الكلام للغزالي ص96.
(57) المصدر السابق ص89-90.
المبحث الرابع حكم علم التوحيد
المبحث الخامس فضل علم التوحيد
المبحث السادس استمداد علم التوحيد
المبحث السابع نسبة علم التوحيد
المبحث الثامن واضع علم التوحيد(1/47)
المبحث التاسع غاية علم التوحيد
المبحث العاشر مسائل علم التوحيد
المبحث الرابع
حكم علم التوحيد
المقصود بحكم تعلم علم التوحيد: ما ثبت بخطاب الله تعالى من أثر متعلق بتعلم هذا العلم، كالإيجاب أو الندب مثلاً، "وينبغي أن يعلم أن حكم العلم كحكم معلومه، فإن كان المعلوم فرضًا أو سنة فعلمه كذلك، إذا توقف حصول المعلوم على تعلم ذلك العلم"( 1 ).
والحق أن تعلم علم التوحيد منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية، و هذا شأن العلوم الشرعية عامة، وإن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} {محمد:19} ، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} {الإسراء:23} ، وفي حديث معاذ رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟"، قلت: "الله ورسوله أعلم"، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا"( 2 )، وفي حديث معاذ الآخر قال صلى الله عليه وسلم: "فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"( 3 ).(1/48)
فكان أول الواجبات وأوجب التكليفات، هو إفراد الله تعالى بالتوحيد والبراءة من الشرك باتفاق أهل السنة، قال الإمام ابن أبي العز رحمه الله: "اعلم أن التوحيد هو أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل... ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر( 4 )، ولا القصد إلى النظر( 5 )، ولا الشك(5).. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب"( 6 ).
وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في منظومته:
أول واجب على العبيد معرفة الرحمن بالتوحيد
إذ هو من كل الأوامر أعظم وهو نوعان أيا من يفهم
ومما يدل على أنه آخر واجب، حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"( 7 )، وفي الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة"( 8 ).
فتعلم فرض العين من علم التوحيد هو أول الواجبات وأولاها على المكلفين أجمعين.
وفرض العين منه هو: ما تصح به عقيدة المسلم في ربه، من حيث ما يجوز ويجب ويمتنع في حق الله تعالى، ذاتًا وأسماء وأفعالاً وصفات، على وجه الإجمال، وهذا ما يسميه بعض العلماء بالإيمان المجمل أو الإجمالي أو مطلق الإيمان.
وأما فرض الكفاية من علم التوحيد، فما زاد على ذلك من التفصيل والتدليل والتعليل، وتحصيل القدرة على رد الشبهات، وهذا ما يسمى بالإيمان التفصيلي، وهو من أجلِّ فروض الكفايات في علوم الإسلام؛ لأنه ينفي تأويل المبطلين وانتحال الغالين، فلا يجوز أن يخلو الزمان والمكان ممن يقوم بهذا الفرض الكفائي المهم؛ إذ لا شك أن حفظ عقائد الناس أكثر أهمية من حفظ أبدانهم وأموالهم وأعراضهم.
ويشترط للتكليف بالتوحيد أربعة شروط، وهي:
أولاً: العقل:(1/49)
ويسمى بالعقل الغريزي أو الطبعي، فإذا غاب تمامًا أو زال بالكلية، فقد أصبح الإنسان غير مكلف، وإذا أخذ الله ما وهب أسقط ما أوجب، وفي الحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"( 9 ).
فالعقل الطبعي الموهوب هو شرط التكليف، ولكن لما كان التكليف لا يناط بكل مقدار من العقل، وإنما هناك درجة من العقل إذا بلغها الصبي كان مكلفًا، ولما كان من الصعب معرفة بلوغ الصبي تلك المرتبة التي هي مناط التكليف، فقد أقام الشارع البلوغ -كوصف ظاهر منضبط- دليلاً على اكتمال القدر المطلوب من العقل للتكليف.
ثانيًا: البلوغ:
ويقصد به انتهاء حد الصغر، وانتقال الصبي من حالة الطفولة إلى حالة الرجولة، وعنده يتم التكليف ويجري القلم، ويدرك الصغير قضاياه المصيرية، ويفكر بجدية في إجابات الأسئلة الضرورية، فإذا مات الصبي قبل البلوغ، فقد مات مرفوعًا عنه القلم وناجيًا عند الله تعالى، سواء في ذلك أبناء المسلمين والكفار على الراجح.
وللبلوغ علامات وأمارات، اثنتان يشترك فيها الذكر والأنثى، وهما الإنزال أو الاحتلام وإنبات شعر العانة، واثنتان تخص الأنثى وهما الحيض والحبل، فإن لم يوجد شيء من ذلك فبالسن، فمتى بلغ الصغير خمس عشرة سنة ذكرًا كان أو أنثى، عدَّ بالغًا ما لم يبلغ بأمارة أخرى قبل ذلك.
ثالثًا: سلامة الحواس:(1/50)
الحواس خمس وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وهي تنقل إلى الأذهان ما تستطيع الإحساس به، "وهذه الحواس لا تستقل بإدراك المعاني والحقائق دون مساعدة العقل أو الدماغ، فالعقل أو الدماغ هو الذي يترجم هذه المحسوسات إلى معان، ودليل ذلك قوله {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} {البقرة:171} ، حيث شبه الله الكافرين بالبهائم التي يناديها الراعي، فالبهائم تسمع الصوت، لكن لعدم المقدرة العقلية التي تمكنها من التمييز بين الأصوات ومعرفتها، فإن الأصوات عندها سواء، لا تحمل إليها شيئًا من المعاني المعينة"( 10 ).
وأهم الحواس للتكليف حاسة السمع، فإن فقدت قبل حصول العلم فقد انسدت منافذ المعرفة الصحيحة، وامتنع بلوغ الدعوة وقيام الحجة على وجهها التام -وإن أمكن نوع معرفة بالإشارة والكتابة ونحو ذلك-، فعن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أربعة يحتجون يوم القيامة"، وذكر منهم: "أصم لا يسمع شيئًا..، فأما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام ولا أسمع شيئًا..، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها كانت عليهم بردًا وسلامًا"، وفي رواية أبي هريرة: "فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها"( 11 ).
رابعًا: بلوغ الدعوة وقيام الحجة:(1/51)
فلا حساب ولا عذاب إلا بعد قيام الحجة الرسالية وقطع العذر على أكمل وجه، قال تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} {الاسراء:15} ، وقال:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} {النساء:165} ، والناس بحسب بلوغ الدعوة وقيام الحجة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
- أهل القبلة: وهم الذين بلغتهم دعوة الرسول فآمنوا وشهدوا بالتوحيد، وماتوا على ذلك، قال النووي رحمه الله: "اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادًا جازمًا خاليًا من الشكوك، ونطق بالشهادتين"( 12 )، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة"( 13 )، وقال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، إلا حرمه الله على النار"( 14 ).
- أهل الفترة: وهم كل من لم تبلغه دعوة الرسل، ولم تقم عليه الحجة، أو عاشوا بين موت رسول وبعثة رسول آخر، ولم تبلغهم دعوة الأول( 15 )، فمن لم تبلغه دعوة الرسول مطلقًا ومات على الشرك فهو معذور في الدنيا، ممتحن في الآخرة -على الراجح- بنار يؤمر باقتحامها، فمن أطاع في الآخرة فإنه من أهل الطاعة في الدنيا لو جاءته الرسالة، ومن عصى في الآخرة فإنه من أهل الكفر في الدنيا لو جاءته الرسالة، وهذا مذهب السلف وعامة أهل السنة، كما نقله ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين( 16 ).(1/52)
- الكفار: وهم كل من سمع بدين الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى: ...ومن يبتغ........ آل عمران:85 ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أهل النار"( 17 ).
المبحث الخامس
فضل علم التوحيد
وهو مزيته وقدره الزائد على غيره من العلوم الشرعية إذ إنه في الذروة من هذا الفضل العميم، وذلك يظهر بالنظر إلى جهات ثلاث: موضوعه، ومعلومه، والحاجة إليه.
أولاً: فضله من جهة موضوعه:
- من المتقرر أن المتعلِّق يشرف بشرف المتعلَّق، فالتوحيد يتعلق بأشرف ذات، وأكمل موصوف، بالله الحي القيوم، ثم بصفوة خلق الله أجمعين، ومآل العباد إلى جحيم أو نعيم، لأجل هذا سماه السلف الفقه الأكبر.
- وتحقيق التوحيد هو أشرف الأعمال مطلقًا، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي العمل أفضل؟"، فقال: "إيمان بالله ورسوله"( 18 ).
- وهو موضوع دعوة رسل الله أجمعين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وجميع الرسل إنما دعوا إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} {الفاتحة:5} ، فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {الأعراف:59} ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} {النحل:36}( 19 ).
ثانيًا: فضله من جهة معلومه:(1/53)
- إن معلوم علم التوحيد هو مراد الله الشرعي الذي يجمع أمورًا ثلاثة، وتترتب عليه أمور ثلاثة، فهو يجمع أن الله تعالى أراده وأحبه فأمر به، ويترتب على كونه أمر به أن يثيب فاعله، ويعاقب تاركه، وأن ينهى عن مخالفته؛ لأن الأمر بالتوحيد نهي عن الشرك ولابد.
فالقرآن من فاتحته إلى خاتمته في تقرير التوحيد بأنواعه، أو في بيان حقوق التوحيد ومقتضياته ومكملاته، أو في البشارة بعاقبة الموحدين في الدنيا والآخرة، أو في النذارة بعقوبة المشركين والمعاندين في الدارين.
ثم إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته في بيان القرآن بيانًا عمليًّا "إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك، إذ هذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب لكمال المحبة والتعظيم، والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف"( 20 ).
ثالثًا: فضله من جهة الحاجة إليه:(1/54)
- أن الله تعالى طلبه، وأمر به كل مكلَّف، وأثنى على أهله، ومدح من توسل به إليه، ووعدهم أجرًا عظيمًا، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} {محمد:19} ، وقال عز من قائل:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} {البينة:5} ، وقال {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} {البقرة:136} ، وقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {المؤمنون:1} ، وقال {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} {النساء:146} .
- ومنها أن عقيدة التوحيد هي الحق الذي أرسلت من أجله جميع الرسل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} {الانبياء:25} ، وهي ملة أبينا إبراهيم عز وجل التي أمرنا الله باتباعها، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {النحل:123} .
- وهي حق الله على عباده كما في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا"( 21 ).(1/55)
- ومنها أن الله تعالى جعل الإيمان شرطًا لقبول العمل الصالح وانتفاع العبد به في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} {الاسراء:19} ، فإذا جاء العبد بغير الإيمان فقد خسر جميع عمله الصالح، قال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} {الزمر:65} .
لهذا سمى الله تعالى غير الموحِّد ميتًا حقيقة، قال تعالى:{فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} {الروم:52} ، فمقابلة الموتى بالسامعين تدل على أن الموتى هم المشركون والكافرون، وهذا تفسير جمهور السلف( 22 )، ومما يشهد لذلك أن الله تعالى سمى ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم نورًا لتوقف الهداية عليه، وسماه شفاء لأنه دواء للنفوس من عللها، قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {الأنعام:122} ، فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات، وسمى الله تعالى الرسالة روحًا، والروح إذا عدمت فقد فقدت الحياة، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {الشورى:52} ( 23 ).(1/56)
وما ذلك إلا لأن أكبر معضلة في حياة البشرية على ظهر الأرض هي الإجابة على ما يسمى بأسئلة التصور: من خلقني؟ ولم خلقت؟ وإلى أي شيء أصير؟ ومن خلق الكون من حولي؟ وما علاقتي به؟ وإلى أي شيء سيصير؟ والإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة هي ما قدمه الوحي لأنها متسقة مع الفطرة والعقل الصحيح.
قال بعض السلف: "ما طابت الدنيا إلا بتوحيده، وما طابت الآخرة إلا بجنته والنظر إليه تعالى"( 24 )، فالمؤمن في الدنيا ينعم بحياة طيبة باطمئنان نفسه، واستراحة عقله، وطهارة قلبه، وصلاح عمله، فإذا مات وصار إلى قبره كان في حياة طيبة في روضة من رياض الجنة، فإذا قامت القيامة وصار إلى الجنة دار الطيبين فقد كملت النعمة وتمت المنة.
المبحث السادس
استمداد علم التوحيد
يُستمد علم التوحيد من فهم دلالات ألفاظ الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وذلك بمعرفة مناهج الاستنباط، وطرائق الاستدلال، واستخراج الأحكام، وهذا يلزم له إلمام بالعربية التي هي لسان الوحي، قرآنًا وسنة، وبها نطق أهل العلم في الأمة من السلف الصالح، كما يلزم له إدامة نظر في كتب الشروح والتفسير المأثور للقرآن والحديث، مع بلوغ غاية من علم الأصول، إذ هو سبيل الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية، العقدية والعملية، التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية.
وعلم التوحيد هو أوثق العلوم الشرعية دليلاً، وأصرحها برهانًا، وأظهرها بيانًا، تقوم دعائم دلائله على أربعة أمور:
أولاً: صحائح المنقول:(1/57)
إن صحائح المنقول تشمل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وبيان مسائل الاعتقاد من أول وأولى ما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نصوص السنة، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الأمة وأفصحها، وأحرصها على أمانة البلاغ والرسالة، لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب هي معول السلف ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحتج بها مطلقًا -بشرط الصحة-، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها.
ثانيًا: الإجماع المتلقى بالقبول:
والإجماع مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من كتاب وسنة، وأكثر مسائل الاعتقاد محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، ولا تجتمع الأمة في أمور العقيدة ولا غيرها على ضلالة وباطل، وعلى هذا فإجماع السلف الصالح في أمور الاعتقاد حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، وهو إجماع معصوم، ولا تجوز مخالفته.
ثالثًا: العقل السليم:
"العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدرًا مستقلاً؛ بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة؛ لأن الاعتماد على محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع"( 25 )، فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.
والنصوص الشرعية قد جاءت متضمنة الأدلة العقلية صافية من كل كدر، فما على العقل إلا فهمها وإدراكها، فمن ذلك: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} {الأنبياء:22} ، وقوله سبحانه:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} {الطور:35} .(1/58)
والعقل قد يهتدي بنفسه إلى مسائل الاعتقاد الكبار على سبيل الإجمال، كإثبات وجود الله مع ثبوت ذلك في الفطرة أولاً، أما مسائل العقيدة التفصيلية مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ورسوله وأنبيائه، فما كانت العقول لتدركها لولا مجيء الوحي، ثم إن كثيرًا من مسائل الاعتقاد بعد معرفتها والعلم بها لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد من أمور اليوم الآخر من الغيبيات التي لا يحيلها أو يردها العقل، ولا يوجبها أو يطلبها، قال السفاريني رحمه الله: "لو كانت العقول مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص:{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} {الاسراء:15} ، فكذا الملزوم"( 26 ).
وأخيرًا فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح؛ لأن الأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {لأعراف:54} ، "وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل كالعاميّ المقلد مع العالم المجتهد؛ بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالمًا، ولا يمكن العالم أن يصير نبيًّا رسولاً"( 27 ).
رابعًا: الفطرة السوية:(1/59)
أما الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} {الروم:30} ، قال ابن كثير رحمه الله: "فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"( 28 )، وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} معناه: أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، وفي الحديث الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تُنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء؟"( 29 ).
والفطرة السوية تهدي العبد إلى أصول التوحيد والإيمان، وجمهرة أهل العلم من أهل السنة وغيرهم على فطرية الإيمان، وليس يحتاج العبد لتحصيله من أصله إلى استدلال أو برهان، فضلاً عن أن يشك ويخرج من ثوب اليقين والإذعان، "والقلوب مفطورة على الإقرار به سبحانه أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل:{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {ابراهيم:10} "( 30 ).
والفطرة تهتدي إلى تفرده تعالى بالألوهية وإن غشيتها غاشية الإلحاد، يظهر ذلك في أوقات الشدة والمحنة، فإن القلب يفزع إلى خالقه، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} {الاسراء:67} .(1/60)
والعقل والفطرة وإن كانا من دلائل التوحيد، إلا أنه لا تقوم الحجة على بني آدم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقطع العذر، فإن قيل: إذا كان وجود الله وتعظيمه مركوزًا في الفطر، والعقول تستدل على ذلك، فعلام توقف التكليف على مجيء الرسول، وإنزال الكتاب؟ فيقال: إن الله تعالى تكرمًا منه لا يعاقب قبل بلوغ الحجة الرسالية{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} {الأنعام:131} ؛ بل تمتنع المؤاخذة حتى يبعث إليهم الرسول، ومن حكمة ذلك أن معرفة الله وإثبات وجوده المركوز في الفطرة والعقول إجمالي لا تفصيلي، فلابد له من وحي يهديه ويرشده، ويبين له معاقد الحل والحرمة في أفعال المكلفين.
المبحث السابع
نسبة علم التوحيد
نسبة العلم هي علاقته بغيره من العلوم وصلته بها، ونسبة أي علم إلى غيره من العلوم تتردد بين أربع نسب، هي:
1- الترادف: فتطلق الأسماء المختلفة على مسمى واحد وعِلْمٍ محدد، فتختلف الأسماء وتتفق المسميات.
2- التخالف: فتتباين الأسماء والمسميات، بحيث لو نسب أحد العلمين إلى الآخر، لم يصدق على شيء مما صدق عليه الآخر.
3- التداخل: كأن يكون أحد العلمين أعم من الآخر فأحدهما داخل بتمامه في الآخر، وهو العموم والخصوص المطلق.
4- التقاطع: وهو العموم والخصوص الوجهي أو النسبي، بأن يكون كل من العلمين أعم من جهة، وأخص من جهة أخري.
وعلى ما سبق يمكن القول بأن علم التوحيد نسبته إلى سائر العلوم الشرعية هي التخالف والتباين، فهو فن مستقل بذاته، قائم بنفسه، له أصوله ومصادره، ومناهجه ومسائله، ولا يغني عنه غيره، وإن كان كالأساس لعلوم الإسلام، ولذا مال بعض العلماء إلى أن نسبته إلى غيره من العلوم أنه أصلها وما سواه فرع عنه، باعتبار أن علوم الإسلام تقوم أولاً على معرفة الله تعالى وتوحيده والتصديق ببعثة نبينا e وأمور الغيب، وهذا موضوع علم التوحيد.(1/61)
ولذا قال الإمام السفاريني في منظومته:
وبعد فاعلم أن كل العلم كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي
ولأجل هذا المعنى سماه الإمام أبو حنيفة بالفقه الأكبر.
المبحث الثامن
واضع علم التوحيد
لقد مر علم التوحيد في وضعه وتدوينه بدورين:
الأول: دور الرواية (ما قبل التدوين):
لم يكن الرعيل الأول من الصحابة y بحاجة إلى التدوين في العلوم الشرعية، فقد كانوا يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيين، "ويوردون عليه ما يشكل عليهم من الأسئلة والشبهات فيجيبهم عنها بما يثلج صدورهم"( 31 )، فكانت مسائل الاعتقاد محفوظة في أذهانهم، مستدلاً عليها بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يقع بينهم اختلاف في شأن العقيدة؛ بل اجتمعوا على عقيدة صحيحة، فكانوا "أقرب إلى أن يوفقوا إلى الصواب من غيرهم بما خصهم الله به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وتقوى الرب...، فهم أسعد الأمة بإصابة الصواب، وأجدرها بعلم فقه السنة والكتاب"( 32 )؛ لأجل هذا ما كان الصحابة y بحاجة إلى تدوين علم التوحيد أو تصنيف كتب فيه.
الثاني: دور التدوين:
وبدأ هذا الدور في حياة التابعين بكتابة السنة وتدوين الحديث كما ابتدأ ذلك الزهري رحمه الله تعالى، ثم شاع ذلك في النصف الأول من القرن الثاني الهجري كما فعل الإمام مالك في الموطأ، حيث رتبت الأحاديث على أبواب تتعلق بالتوحيد مثل: باب الإيمان، وباب التوحيد، وباب العلم، الخ... ولعل هذا التبويب للأحاديث كان النواة الأولى في استقلال كل باب فيما بعد بالتصنيف والبحث.(1/62)
ومما أوقد جذوة التدوين ما وقع في آخر زمن الصحابة من بدع واختلاف في العقيدة، كما في مسألة القدر، وكان أول من تكلم به معبد الجهني (ت:80هـ)، ومسألة التشيع والغلو في آل البيت، وفتنة عبد الله بن سبأ، كما وقعت من قبل بدعة الخوارج وصرَّحوا بالتكفير بالذنوب، وبعد ذلك نشأ مذهب المعتزلة على يد واصل بن عطاء (ت:131هـ)، وصنَّف في مسائل من العقيدة ما خالف به الصحابة والتابعين، وخرج على إجماع خير القرون في الاعتقاد، فتصدى له التابعون بالرد عليه والمناظرة في هذه المسائل.
ثم بدأ التصنيف في عقيدة أهل السنة حين أصبح ضرورة لابد منها لنفي تأويل المبطلين، ورد انحراف الغالين، وكان أول مدوَّن عرفناه في العقيدة -على هذا النحو- هو كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة رحمه الله (ت:150هـ) وهو ثابت النسبة إليه، حدد فيه أبو حنيفة عقائد أهل السنة تحديدًا منهجيًّا ورد فيه على المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والشيعة، واشتمل على خمسة أبواب -في أتم رواياته-: الأول في القدر، والثاني والثالث في المشيئة، والرابع في الرد على من يكفر بالذنب، والخامس في الإيمان، وفيه حديث عن الأسماء والصفات، والفطرة، وعصمة الأنبياء، ومكانة الصحابة، وغير ذلك من مباحث العقيدة.
فلو قال قائل: إن واضع علم التوحيد -بمعنى أول من وضع مؤلفًا خاصًّا في الفن من أهل السنة- هو الإمام أبو حنيفة؛ لكان صادقًا ولم يبعد عن الصواب، ولقد نسب كتاب بنفس اسم الفقه الأكبر للإمام الشافعي رحمه الله( 33 ) (ت 204 هـ)، إلا أن نسبة الكتاب إلى الإمام الشافعي غير موثقة.(1/63)
ثم تتابع التأليف بعد أبي حنيفة في علم التوحيد ولكن بأسماء مختلفة لهذا العلم، فمن أول ذلك كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم (ت:224هـ)، وتبعه على هذا كثيرون إلى يوم الناس هذا، كما ظهر مصطلح السنة للدلالة على ما يسلم من الاعتقادات، واشتهر ذلك زمن الإمام أحمد رحمه الله، ومن الكتب المصنفة باسم السنة، كتاب السنة لابن أبي شيبة رحمه الله (ت:235هـ) والسنن للإمام أحمد رحمه الله (ت:240هـ) وغير ذلك، ثم ظهر مصطلح التوحيد في مثل كتاب التوحيد لابن سريج البغدادي رحمه الله (ت:306هـ)، وكتاب التوحيد لابن خزيمة رحمه الله (ت:311هـ)، وواكب ذلك ظهور مصطلح أصول الدين، ثم ظهر التأليف باسم العقيدة أوائل القرن الخامس الهجري، واستقرت حركة التصنيف ومنهج التأليف، واستقل علم التوحيد علمًا متميزًا عن غيره بلقب ومنهج مخصوص.
المبحث التاسع
غاية علم التوحيد
وتظهر ثمرة دراسة علم التوحيد -على منهج أهل السنة والجماعة- من جهات وحيثيات كثيرة، إلا أنها تعود إلى أمرين أساسيين، الأول: باعتبار المكلف، والثاني: باعتبار العلم نفسه وعلوم الإسلام الأخرى، وما يتعلق بالمكلف يعود إلى منفعة دنيوية وأخروية، والدنيوية ترجع إلى منفعة علمية وعملية، وتفصيل هذه المنافع على النحو التالي:
أولاً: بالنسبة لحياة المكلف في الدنيا:
إن قيام المدنية، وطيب العيش، لمن ثمرات التوحيد المباركة، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} {الأعراف:96} .(1/64)
"إن الإيمان يثمر طمأنينة القلب وراحته، وقناعته بما رزق الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة، فإن أصل الحياة الطيبة راحة القلب وطمأنينته، وعدم تشوشه مما يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح"( 34 )، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} {الرعد:28} ، وفي الصحيح: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن"( 35 ).
والمؤمن يتلذذ بلذات معنوية هي أعظم من كل اللذات الحسية، ولذا قال بعض السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه؛ لجالدونا عليه بالسيوف"( 36 )، وقال غيره: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"( 37 ).
ومظاهر الحياة الطيبة التي خص الله بها عباده المؤمنين في الدنيا كثيرة نذكر منها:(1/65)
ولاية الله عز وجل فقد قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {البقرة:257} ، ومحبة الله عز وجل للمؤمنين ومحبة الخلق لهم حيث قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} {مريم:96} ، ومدافعة الله عن المؤمنين وإنجائه لهم ونصرهم على أعدائهم، قال سبحانه:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} {غافر:51} ، وحصول نور البصيرة التي تفرق بين الحق والباطل، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} {لأنفال:29} ، وحصول العزة وتمام الكرامة والشرف: قال تعالى:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} {المنافقون:8} .
ثانيًا: من حيث قوة المكلف العلمية:
وهي القوة التي يدرك الإنسان بها، ويفرق بين الحق والباطل، وتظهر ثمرة علم التوحيد العلمية من خلال الأمور التالية:(1/66)
- معرفة الله تعالى معرفة يقينية: فكلما ازداد العبد علمًا بالتوحيد، ازداد رقيًّا في مدارج الإيمان ومعارج اليقين، وارتقى من الإيمان المجمل إلى الإيمان المفصَّل، ومن حال التقليد إلى حال اليقين والإذعان، والتصديق عن حجة وبرهان، وهذا أفضل ما اشتغل بعلمه إنسان، كما في الحديث: "أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه"( 38 )، والعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته سبيل لرفع الدرجات وحصول البركات، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} {المجادلة:11} .
- انشراح الصدر وطمأنينة القلب: وهذا الأمر ثمرة حصول المعرفة الصحيحة بالله تعالى، والإجابة على أسئلة الفطرة حول الكون والحياة، فنفس لا إيمان فيها مضطربة، قلقة، تائهة خائفة، قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} {الزمر:29} . فإذا تعددت الأسياد على المملوك، فقد شقي حاله، واضطرب أمره.(1/67)
وفي النفس قلق على المستقبل وطلب لاستجلاء الغيوب، ولا يزيل هذا القلق كالإيمان بخيرية الذات، وخيرية العمل، وخيرية المآل والمصير، فالمؤمن الموحِّد ينظر إلى الغيب بعين التفاؤل والرضا عن الله تعالى في قضائه وقدره، فيسكب في النفس برد اليقين، ومشاعر الأمن والاطمئنان، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} {الأنعام:82} ، فمن أراد الله له الهداية وانشراح الصدر هداه إلى الإسلام أولاً، ثم إلى سلامة العقيدة من شوائب البدع ثانيًا.
- هداية العقل واستنارته: إن دراسة علم التوحيد على منهج السلف الصالح يقضي على الخصومة المفتعلة بين النقل والعقل، وبين الوحي والرأي، وبين النص والفكر، ويبدو هذا جليًّا في النقاط التالية:
1- إن عقيدة أهل السنة تحترم العقل وتعلي من شأنه، وتحث على التعقل والتدبر: قال تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {يوسف:2}، { أَفَلا تَعْقِلُونَ} {هود:51} ،{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ}{محمد:24}، ويثني على العقلاء:{ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}{صّ:43}.
2- إن هذه العقيدة تذم التقليد الأعمى الذي هو حجاب العقل، وغطاء الفهم، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} {البقرة:170} .
3- وهي تهدي العقل إلى مجالاته النافعة، قال{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} {قّ:6} ، وقال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} {الذريات:21} .(1/68)
4- وهي تحظر على العقل ما لا يمكن الخوض فيه، فتوفر طاقته فيما يطيق ويحسن، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} {الاسراء:85} ، وقال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} {طه:110} .
5- وهي في شأن العقل وسط بين طرفين، المهملون للعقل -مثل كثير من المتصوفة الجهال-، والمقدسون له -كالمتكلمة-، فمن انضبط بمنهج أهل السنة في دراسة العقيدة وعلم التوحيد، اهتدى عقله، وسلم ذهنه من الانحراف، ووقف على الحجج البينة، وكثر صوابه، وقل خطؤه، وأمن من شرور البدع.
ثالثًا: من حيث قوة المكلف العملية:
وهي القوة التي تحمل الإنسان على السير إلى الله تعالى، والاجتهاد في عبادته، والتقرب إليه بما يرضيه، واجتناب ما يسخطه، وتظهر ثمرة علم التوحيد العملية من خلال الأمور التالية:
- تحقيق الإخلاص وأعمال القلوب على الوجه الصحيح: فالإخلاص هو حقيقة الدين، ومفتاح دعوة رسل الله أجمعين، وهو روح التوحيد ولب الرسالة، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} {البينة:5}، والإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد، وهو تصفية العمل من كل شوب، وفي أهمية الإخلاص وأعمال القلوب يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات... فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح"( 39 ).(1/69)
والإخلاص يتوقف في حصوله وكماله على معرفة العبد لربه، وتعظيمه وتأليهه، ومعرفة أسمائه تعالى وصفاته، وإحصائها والتعبد لله بمقتضاها، فمن كان بالله أعرف كان له أخلص، وفيما عند الله تعالى أرغب، ومن عقوبته أرهب، والإخلاص إذا تمكن من طاعة من الطاعات مهما كانت يسيرة، فإن الله تعالى يغفر بها الذنب ويضاعف الأجر، كما في حديث البطاقة( 40 )... فهذه حال من قال كلمة التوحيد بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم يقولون لا إله إلا الله، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم، كما ترجح قول صاحب البطاقة، كذلك البغي التي سقت كلبًا فغفر الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، "فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص"( 41 ).
- اشتغال الجوارح بالطاعات: إذا عمَّر الإخلاص قلب العبد، وتحققت أعمال القلوب من محبة الله ورسوله، والتوكل على الله والصبر له، والخوف منه والرجاء فيما عنده، انطلقت الجوارح ولابد في طاعة الله تعالى، ولا يتخلف ذلك أبدًا، وفي الصحيح: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"( 42 )، فصلاح الظاهر تابع لصلاح الباطن في الأصل، والارتباط بينهما حاصل.
رابعًا: بالنسبة للمكلف في الآخرة:(1/70)
إن امتناع الخلود في النار لمن ظلم نفسه من الموحِّدين، ودخول الجنة ابتداء لمن اقتصد من أصحاب اليمين، والفوز بالدرجات العلى لمن سبق بالخيرات، مع رضوان الله تعالى ورؤية وجهه الكريم في الجنات، هو غاية المطالب، ونهاية الرغائب لجميع المؤمنين، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير ُ- 32- جَنَّاتُ عَدْنٍ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير ُ- 32- جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} {فاطر:32-33} يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} {فاطر:32-33} ، ففي هذه الآية حرف من الحيف أن يُكتب بالمداد، وإنما ينبغي أن يكتب بماء الذهب فرحًا وطربًا؛ لأنه يشير إلى كرامة من الله لهذه الأمة لا تعدلها كرامة، ألا وهو حرف الواو في قوله تعالى:{يَدْخُلُونَهَا} ، فالداخلون هنا هم الموحِّدون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأصنافها الثلاثة المذكورة في الآية، وعندما خطب عمر رضي الله عنه وتلا الآية السابقة قال: "سابقنا مقرب، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"( 43 ).(1/71)
والجنة لا يدخلها إلا مؤمن موحد وإن ظلم نفسه بغير الشرك، ولا يخلَّد في النار إلا كافر أو منافق، ففي الحديث: "لا يدخل الجنة إلا مؤمن"( 44 ), وفي الحديث القدسي: "يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة"( 45 )، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} {النساء:48} ، قال علي رضي الله عنه: "ما في القرآن آية أحب إليَّ منها"( 46 ).
خامسًا: بالنسبة للعلم نفسه وعلوم الإسلام:
وثمرة علم التوحيد باعتبار العلم نفسه هي حفظ هذا العلم بحفظ قواعده، وأصوله ومسائله، وفي هذا حفظ الله للدين نفسه؛ لأن العلم الشرعي دين يدان الله تعالى به، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"( 47 )، وإذا كان العلم الشرعي مطلوب الحفظ عامة، فلا شك أن علم الاعتقاد يطلب حفظه على وجه الخصوص؛ لأنه أصل لما عداه، ولأنه أول الواجبات وآخرها وألزمها على المكلف، قال ابن القيم رحمه الله: "إن العبد لو عرف كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا"( 48 ).
وحفظ العلم كما يكون بتعلمه يكون بتعليمه وتوريثه وبذله لطالبيه، وهذا من أفضل القرب وأعلى الرتب، وفي الحديث: "خير ما يخلف الرجل بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية يبلغه أجرها، وعلم يعمل به من بعده"( 49 )، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "بلغني أن العلماء يُسألون يوم القيامة كما تُسأل الأنبياء، يعني عن تبليغه"( 50 ).(1/72)
- كما أن من ثمرات تعلم علم التوحيد وتعليمه تحصيل القدرة على إرشاد المسترشدين، وهداية المنحرفين، والوقوف أمام التيارات الإلحادية، والأهواء البدعية، وفي ذلك ثواب المنافحة عن الإسلام، والمدافعة عن السنة، وقد افتتح الإمام أحمد رحمه الله كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" بذكر أوصاف أهل العلم، فكان من جملة ما قال: "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"( 51 ).
- ومن ثمرات هذا العلم إقامة ما عداه من علوم الشريعة والفروع، فإنها تتعلق بعد ذلك بالعمل، "والعلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع"( 52 )، فإقامة علوم الفروع تبنى على إثبات إله عالم، مرسل للرسل، منزل للكتب، وبغير هذا العلم لا يتصور علم تفسير أو حديث أو فقه ونحو ذلك.
المبحث العاشر
مسائل علم التوحيد
"إن مسائل كل علم هي معرفة الأحوال العارضة لذات موضوع العلم"( 53 )، فإذا كان تعريف علم التوحيد هو "العلم بالأحكام الشرعية العقدية، المكتسب من أدلتها المرضية، ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية"، وكان موضوع علم التوحيد هو الله تعالى، والملائكة، والرسل الكرام، وقضايا اليوم الاخر والغيبيات؛ فإن مسائله هي معرفة أحكام القضايا الاعتقادية المتعلقة بذلك كله من الوجوب والجواز والاستحالة، وما توقفت عليه تلك الأحكام لاستفادتها على منهج أهل السنة والجماعة.
فمسائل علم التوحيد تتضمن معرفة الأحكام الشرعية العقدية كأحكام الألوهية، وعصمة الرسل، وقضايا اليوم الآخر ونحو ذلك، وقد عنيت كتب العقائد به أعظم عناية، وكتبت في تحريره وتقريبه -على منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة- مطولات ومختصرات، ومنظومات ومنثورات من زمن السلف وإلى يوم الناس هذا.
! ! !
( 1 ) ترتيب العلوم للمرعشي ص90.
( 2 ) أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30).
( 3 ) أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19).
((1/73)
4 ) وهذا مذهب الأشاعرة. انظر: "الإنصاف" للباقلاني ص22.
( 5 ) وهذا مذهب الجويني. انظر: "الإرشاد" ص3.
(5) وهذا مذهب المعتزلة. انظر: "الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار، وهذا كله مبني على أن الإيمان بالخالق كسبي نظري في أصله، وأهل السنة على أن الإيمان بالخالق في أصله فطري وهبي.
( 6 ) شرح العقيدة الطحاوية (1/21-23).
( 7 ) أخرجه مسلم (917).
( 8 ) أخرجه مسلم (26).
( 9 ) أخرجه أحمد (1187)، والبخاري (5/2019-تعليقًا)، وأبو داود (4402)، والترمذي (1423)، والحاكم (949) من حديث علي رضي الله عنه. قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة، وحديث علي حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن علي رضي الله عنه...، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم. اهـ.، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. اهـ.، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4/35).
( 10 ) العلم أصوله ومصادره ومناهجه. محمد الخرعان ص28، 29.
( 11 ) رواه أحمد (15866)، وابن أبي عاصم (404)، وأورده الهيثمي في المجمع وقال: رجاله رجال الصحيح، وصححه الحافظ في الفتح (3/246) والألباني في صحيح الجامع (881).
( 12 ) صحيح مسلم بشرح النووي (1/149).
( 13 ) رواه مسلم (27) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
( 14 ) رواه البخاري (128)، ومسلم (32) من حديث أنس رضي الله عنه.
( 15 ) تفسير الطبري (10/ 156).
( 16 ) انظر: طريق الهجرتين ص587، 588.
( 17 ) أخرجه مسلم (153).
( 18 ) أخرجه البخاري (1519)، ومسلم (83) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
( 19 ) التنبيهات السنية على شرح الواسطية ص 33.
( 20 ) مجموع الفتاوى (1/136).
( 21 ) تقدم تخريجه.
( 22 ) انظر: تفسير الطبري (20/12)، وتفسير القرطبي (13/232).
( 23 ) مجموع الفتاوى (19/ 93-94).
( 24 ) عزو
( 25 ) إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص13.
( 26 ) لوامع الأنوار (1/105).
( 27 ) شرح الطحاوية (1/231).
((1/74)
28 ) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/433).
( 29 ) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
( 30 ) مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية (2/347، 348).
( 31 ) زاد المعاد لابن القيم (3/680).
( 32 ) إعلام الموقعين بتصرف (4/148-150).
( 33 ) طبع بتحقيق أ.د. محمد محمود فرغلي.
( 34 ) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان. الشيخ السعدي ص73.
( 35 ) أخرجه مسلم (2999) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.
( 36 ) القائل هو الفضيل بن عياض. انظر: الجواب الكافي ص168.
( 37 ) القائل هو ابن تيمية. انظر: الوابل الصيب ص69.
( 38 ) تقدم تخريجه.
( 39 ) بدائع الفوائد، ابن القيم (3/705).
( 40 ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئًا ? أظلمك كتبتي الحافظون ? فيقول : لا يا رب، فيقول : أفلك عذر ? فيقول : لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول : احضر وزنك فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ? فيقال : فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء ". صححه الألباني في صحيح الجامع (1776).
( 41 ) منهاج السنة النبوية (6/218-220) بتصرف يسير.
( 42 ) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
( 43 ) عزو.
( 44 ) أخرجه البخاري (4204)، ومسلم (111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
((1/75)
45 ) رواه الترمذي (3540) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. اهـ.، وأخرج مسلم نحوه (2687) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
( 46 ) رواه الترمذي (3037)، وانظر: تفسير القرطبي (5/246)، وتفسير ابن كثير (1/556)
( 47 ) تقدم تخريجه.
( 48 ) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/68).
( 49 ) أخرجه ابن ماجه (241) من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه. وقد صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/46).
( 50 ) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/149).
( 51 ) الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص6.
( 52 ) مجموع الفتاوى (4/53).
( 53 ) شرح الكوكب المنير (1/33).
الفصل الرابع
خصائص العقيدة
عند أهل السنة والجماعة
أولاً: الربانية:
فأهل السنة لا يقبسون عقيدتهم إلا من مشكاة النبوة، قرآنًا وسنة، لا عقل ولا ذوق ولا كشف...؛ بل هذه إن صحت كانت معضدة لحجة السمع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قال الخطابي: وكان الذي أنزل عليه -أي النبي صلى الله عليه وسلم- من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه، لقوله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}{المائدة: من الآية3}، فلم يترك شيئًا من أمور الدين؛ قواعده وأصوله، وشرائعه وفصوله، إلا بيّنه وبلّغه، على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه؛ إذ لا خلاف بين فرَق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال، ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدًا في كل وقت وزمان، ولو أخّر عنه البيان لكان التكليف واقعًا بما لا سبيل للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز"[1].(1/76)
قال ابن القيم: "فعرَّف - أي النبي صلى الله عليه وسلم- الناس ربهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدأ وأعاد واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، حتى تجلت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب عنها، كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده؛ بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {العنكبوت:51} ، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله، وما طائر يقلّب جناحيه في السماء إلا وهو يذكرنا منه علمًا"[2]."[3].
يقول ابن عبد البر رحمه الله: "ليس في الاعتقاد كله، في صفات الله وأسمائه، إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يُسلَّم له ولا يناظر فيه"[4].
فالوحي هو الأصل المعتمد في تقرير مسائل الاعتقاد، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ولا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل يجعلون ما بُعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه"[5].(1/77)
والوحي هو المرد عند النزاع، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} {النساء:59} ، قال ابن تيمية رحمه الله: "ما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات، والقدر، والوعيد، والأسماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف: فما كان من معانيها موافقًا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان فيها مخالفًا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم"[6].
ثانيًا: التوقيفية:
المراد بالتوقيفية شرعًا عند الإطلاق أمران:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوقف أمته على حقائق العقيدة الإسلامية بحيث لم يترك من تفاصيلها شيئًا إلا بيَّنه، وهذا المعنى من ضرورات إكمال الدين الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }{المائدة: من الآية3}؛ إذ العقيدة هي أهم ما في الدين.
الثاني: حبس اللسان عن الكلام في العقائد الإسلامية إلا بدليل هاد من الكتاب والسنة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {الحجرات:1} . قال ابن عباس: " أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة"[7]، وقال مجاهد: "لا تفتئتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضيه الله على لسانه"[8].(1/78)
"فلابد من الالتزام بالكتاب والسنة ومعقولهما لفظًا ومعنى، فلا يستعمل في التعبير عن العقيدة إلا الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة، ويجب أن تستعمل هذه الألفاظ فيما سيقت فيه من المعاني المرادة بها في الكتاب والسنة، فهو توقيف في مصادر العقيدة، وفي ألفاظها وأساليب التعبير عنها"[9].
وقد انطلق أهل السنة في موقفهم هذا من كون الله تعالى حرَّم القول عليه سبحانه بغير الحق، وبغير علم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وقد حرَّم سبحانه الكلام بلا علم مطلقًا، وخصَّ القول عليه بلا علم بالنهي، فقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} {الاسراء:36} ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} {لأعراف:33} "[10]، فإن من قال غير الحق، فقد قال على الله ما لا يعلم"[11].
"فالذين يزعمون أنهم يستمدون شيئًا من الدين عن طريق العقل والنظر، أو علم الكلام والفلسفة، أو الإلهام والكشف والوجد، أو الرؤى والأحلام، أو عن طريق أشخاص يزعمون لهم العصمة غير الأنبياء، أو الإحاطة بعلم الغيب من أئمة أو رؤساء أو أولياء أو أقطاب أو أغواث ... أو نحوهم، أو يزعمون أنه يسعهم العمل بأنظمة البشر وقوانينهم؛ من زعم ذلك فقد افترى على الله أعظم الفرية"[12].
موجَبات التوقيفية:
أولاً: التسليم لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم، من غير تعرض لنصوص الوحيين بتحريف أو تأويل أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين العقل والنقل فمرده إلى الوهم في قطعية أحدهما ثبوتًا أو دلالة.(1/79)
ثانيًا: الاعتماد على الكتاب والسنة في تلقيهما بفهم الصحابة y، فما أجمعوا عليه فهو الحق ولابد، وما اختلفوا فيه فإن الحق لا يجاوز أقوالهم.
ثالثًا: اعتماد ألفاظ ومصطلحات الكتاب والسنة عند تقرير مسائل الاعتقاد وأصول الدين، والتعبير بها عن المعاني الشرعية، وفق لغة القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: سد باب الابتداع والإحداث في الدين، ورد جميع ما خالف سنة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، فمستند المشروعية -أبدًا- هو موافقة الشريعة المطهرة.
خامسًا: اعتماد مرجعية كتب أهل السنة والجماعة في العقيدة والتوحيد، والتعويل على إجماعهم في هذا الباب، والتلقي عن أشياخهم والأثبات من علمائهم، وتصفية في مصادر التلقي من كل نفَس كلامي مردود، أو شوب فلسفي مذموم، أو دَخَل مسلكي مبتَدَع.
وأخيرًا فإن هذه الخاصية لها أثرها العظيم في عصمة أهل السنة من الخطأ والزلل والانحراف والاضطراب في فهم العقيدة؛ وذلك لأنها ترجع إلى مصدر موثوق تكفَّل الله تعالى بحفظه وهو الوحي، كما أنها ضمانة لتوحيد كلمة الأمة على منهج واحد، عندما تلتقي على هذا الوحي الإلهي بما فيه من موازين لا تضطرب ولا تتأثر بالهوى والدوافع الذاتية.
ثالثًا: الغيبية:
والغيبية نسبة إلى الغيب، فالغيب هو ما غاب عن الحس بحيث لا يُرى، ولا يُشَم، ولا يُلمَس، ولا يُذاق، ولا يُسمَع؛ إذ الحواس الخمس هي نوافذ العقل وطرقه في الحصول على المعلومات، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} {المؤمنون:78} ؛ ولذلك فإن ما غاب عن هذه الحواس لا يمكن إدراكه إلا عن طريق قياسه على المشاهد المحسوس أو بالنقل والخبر الصادق.(1/80)
والغيب شرعًا يأتي لمعان، قال القرطبي -في تفسير قوله تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {البقرة:3} -: "اختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه، وضعّفه ابن العربي، وقال آخرون: القضاء والقدر، وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب، وقال آخرون: الغيب: كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر، والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض؛ بل يقع الغيب على جميعها، وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل u، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت... وذكر الحديث"[13].
ولما كان الإيمان بالغيب واحدًا من الركائز الكبرى والأصول العظمى في هذه العقيدة، حيث إن كثيرًا من أصولها وأركانها يقع في نطاق الغيب، كان من المناسب أن يبتدئ الباري I كتابه العزيز بذكر هذه الركيزة كخاصية من خواص المؤمنين اللازمة، وصفة من صفاتهم البارزة، قال تعالى:{الم – 1- ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ – 2 - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}{البقرة:1-3}.(1/81)
والإيمان بالغيب هو أفضل الإيمان، فعن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا ثَمَّ عبد الله ابن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيّنًا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانًا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الم – 1- ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ – 2 - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}{البقرة:1-3}[14].
وكما أن الإيمان بالغيب يقوم على أساس متين من الشرع، فهو يقوم كذلك على أساس متين من الفطرة والعقل، فالإيمان بالغيب نزعة فطرية عند الإنسان؛ تميزه عن سائر الحيوانات التي تشترك معه في إدراك المحسوسات.
كما أن الأمور الغيبية التي قامت عليها العقيدة غير متناقضة مع العقل، فلا يمانعها ولا يدافعها في أي مرحلة من مراحل الارتقاء العقلي والعلمي.
وإذا كان الإيمان بالغيب من خصائص المؤمنين بصفة عامة، فإن أهل السنة تميزوا -في هذا الباب- بقبول كل ما ورد على لسان الرسل الكرام من أمور الغيب إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا، وتجنب الشبهات والشكوك الناشئة عن إقحام العقول في مجال غير مجالها، يقول ابن القيم رحمه الله: "الثاني: قبول ما غاب من الحق، وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله، من أمور المعاد وتفصيله، والجنة والنار، وما قبل ذلك من الصراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تشقق السماء وانفطارها، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال، وطي العالم، وما قبل ذلك من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه، فقبول هذا كله إيمانًا وتصديقًا وإيقانًا هو اليقين، بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه، فإنه إن لم يهلك يقينه أفسده وأضعفه"[15].
رابعًا: الشمولية:(1/82)
الشمولية هي الموسوعية في المعنى والتطبيق، والمراد بالموسوعية في المعنى: شمولها للتصور الكامل للقضايا الكبرى التي ضل في تصورها كثير من الناس، والمراد بالموسوعية في التطبيق: شمولية آثار هذه العقيدة لحياة المسلم من جهاتها المختلفة، بحيث تكون هذه العناصر تكمل بعضها بعضًا في تحقيق مفهوم كامل لعقيدة الإسلام؛ ولذلك فإن العقيدة الإسلامية عقيدة شاملة فيما تقوم عليه من أركان الإيمان وقواعده وما يتفرع عن ذلك، وشاملة في نظرتها للوجود كله، تعرِّفنا على الله والكون والحياة والإنسان معرفة صحيحة شاملة.
ولهذه الشمولية عدة عناصر وصور، أهمها: أن أركان الإيمان كلها مترابطة ارتباطًا وثيقًا، يكمل كل منها الآخر، وقد جاءت النصوص القرآنية لتؤكد على الارتباط بين الإيمان بالله والإيمان بالملائكة، وتقرن الإيمان بالله مع الإيمان باليوم الآخر، وتجعل الإيمان بالرسل أمرًا لا يتجزأ، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعًا؛ بل كفر بالله تعالى؛ لأنهم جميعًا جاؤوا برسالة واحدة من عند الله I.
وشمولية العقيدة ظاهرة جلية عند أهل السنة بشكل خاص، وهي تعني عندهم عدم الاقتصار على طلب علمها وممارسة أعمالها والتحقق بمقتضياتها في باب دون باب، وفي أصل دون أصل، إذ ليس شيء من العقيدة مهجورًا، والجمع بين علمها ومقتضياتها وآثارها في القلب والجوارح، هو تحقيق العبودية، ولهذه الشمولية مظاهر وصور متعددة:
فمن ذلك: الاعتناء بنوعي التوحيد: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، وعدم إغفال عرض أحدهما لحساب الآخر، مع الاهتمام بتوحيد الأسماء والصفات بجانبيه النظري والعملي، والتوجيه إلى ضرورة أن يكون السلوك المستقيم الناشئ عن تدبر مدلولات الأسماء والصفات مترابطًا ومتكاملاً مع البناء العلمي والفكري الصحيح في هذا الباب.
ومن ذلك: الاهتمام ببيان الكفر وشعبه بيانًا شافيًا، كالاهتمام ببيان الإيمان وشعبه سواءً بسواء.(1/83)
ومن ذلك: سد الطرق الموصلة إلى الشرك كافة، سواء كان شرك القبور والأضرحة، أو شرك العلمانية والتشريع.
ومن ذلك: الاعتناء بعقيدة الولاء والبراء، والتوجيه إلى تحقيق الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وتحقيق البراء من كل ما يخالف هذه العقيدة، وكل من يخالفها، وكل بحسبه.
ومن ذلك: العناية بتأصيل منهج وعقيدة أهل السنة والجماعة بقواعده وضوابطه، مع الاهتمام -في ذات الوقت- بمواجهة الانحرافات العقدية المعاصرة -وإن لم يتعرض لها السلف لعدم ظهورها في زمانهم-، وعدم التوقف عند انحرافات أو خلافات كان لها الظهور والانتشار في زمن مضى، ثم اختفت واندثرت.
خامسًا: التوازن والوسطية:
إن التوازن بين الأمور المتقابلة والتوسط بين الأطراف المتباعدة من أظهر خصائص العقيدة عند أهل السنة والجماعة، "والصور التي تأتي شاهدًا على هذا التوازن تعزُّ على الحصر، فإن كل ما في العقيدة الإسلامية ناطق بهذا التوازن الدقيق... ومن ذلك:
التوازن بين ما يتلقاه الإنسان عن طريق الوحي وبين ما يتلقاه عن طريق وسائل الإدراك البشري، والتوازن بين طلاقة المشيئة وثبات السنن الكونية، والتوازن بين المشيئة الإلهية الطليقة ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة، والتوازن في مصادر المعرفة بين الوحي والعقل.. وبين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب..، وبين القيم المادية والقيم المعنوية"[16].(1/84)
وباستقراء مواقف الفرق من أبواب العقيدة المختلفة تظهر الطرفية الشديدة لدى أهل الأهواء والبدع؛ ولذلك فأهل السنة والجماعة هم أهل التوسط والاعتدال بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم: فهم وسط في باب صفات الله I بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج"[17]، وقال: "وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان"[18].
ولا تجد فرقة من الفرق إلا وقد خالفت أهل السنة والجماعة في هذا الأصل العظيم، فإما أن تغلو في جانب، أو تُفَرِّط في جانب، وهذا الخلل في التوازن مطَّرد عند جميع أهل البدع في أبواب الاعتقاد، قلَّ ذلك أو كثر، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه"[19].
! ! !
[1] درء تعارض العقل والنقل 7/295، 296.
[2] رواه الطبراني في المعجم الكبير 1647.
[3] جلاء الأفهام لابن القيم ص179-181.
[4] جامع بيان العلم وفضله 2/118،117.
[5] مجموع الفتاوى 3/347.
[6] مجموع الفتاوى 3/347.
[7] انظر: روح المعاني للألوسي 26/131، وتفسير ابن كثير 4/206.
[8] انظر: تفسير البغوي 4/208.
[9] المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية د. إبراهيم البريكان. ص62، 63.
[10] مجموع الفتاوى 16/97.
[11] المصدر السابق 12/465،464.
[(1/85)
12] بحوث في عقيدة أهل السنة والجماعة. د. ناصر العقل ص33.
[13] تفسير القرطبي 1/163.
[14] رواه الحاكم 3033 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. اهـ.
[15] مدارج السالكين 2/402.
[16] مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية عثمان ضميرية. ص393،392.
[17] مجموع الفتاوى 3/141، وانظر أيضًا نفس المصدر 3/373-375.
[18] المصدر السابق 3/375.
[19] المصدر السابق 3/381.
الفصل الخامس
قواعد وضوابط الاستدلال على مسائل الاعتقاد
مقدمة
لم يفرد السلف الأوائل مؤلفات خاصة في قواعد الاستدلال على مسائل الاعتقاد؛ بل اكتفوا بما ورد في ثنايا كتب العقائد من تقعيدات وتأصيل، ومناظرات ورد للشبه والأباطيل، ويظهر ذلك بوضوح في مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، كما يظهر في كتب أهل السنة والجماعة المتقدمين عامة، إلا أن الدراسات المعاصرة عنيت بتحرير تلك القواعد، وبيان الضوابط، والكشف عن مناهج السلف والأئمة في الاستدلال على مسائل الاعتقاد، وفي الرد على أهل البدع والإلحاد.
وفيما يلي تنبيه على أهم تلك القواعد والضوابط المنهجية في تقرير مسائل الاعتقاد، كما أشارت إليها كتب المتقدمين، وجمعتها ورتبتها كتب المتأخرين:
أولاً: الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين:(1/86)
لقد تقدم أن أدلة مسائل التوحيد من أقوى الأدلة ثبوتًا وأصرحها دلالة، وعامة مسائل الاعتقاد -لأجل هذا- متفق عليها بين سلف الأمة، والله تعالى أمر بالدخول في شرائع الإيمان كافة، ونهى عن الإيمان ببعض والتكذيب ببعض، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} {البقرة:208} وأمر المؤمنين أن يقولوا:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} {آل عمران:7} ، وفي الحديث: "إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا؛ بل يصدِّق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه"[1].(1/87)
"فينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله، فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس"[2]، فكل ما أمر به الشارع أو نهى عنه، أو دلَّ عليه وأخبر به، فحقه، التصديق والتسليم مع الإجلال والتعظيم، وما كان متعلقًا بعمل فحقه الامتثال بلا تردد، والاتباع بلا هوى، قال تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} {الأحزاب:37} .
والسنة صنو الكتاب في وجوب التسليم والتعظيم، قال رجل للزهري: يا أبا بكر، حديث رسول الله e: "ليس منا من لطم الخدود"[3]، و"ليس منا من لم يوقر كبيرنا"[4] وما أشبه من الحديث ما معناه؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: "من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"[5]، ومثل هذا قول الإمام مالك رحمه الله حين سئل عن الاستواء، فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة..."[6].
"والإنسان إذا علم أن الله تعالى أصدق قيلاً، وأحسن حديثًا، وأن رسوله هو رسول الله بالنقل والعقل والبراهين اليقينية، ثم وجد في عقله ما ينازعه في خبر الرسول، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، فإن العامّي يصدق لأهل الاختصاص ما يقولونه دون اعتراض، وإن لم يتضح له وجهه، وإذا اتضح ازداد نورًا على نور.. فكيف حال الناس مع الرسل وهم الصادقون المصدَّقون؟!"[7].(1/88)
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسًا تائهًا، شاكًّا زائغًا، لا مؤمنًا مصدقًا، ولا جاحدًا مكذِّبًا"[8].
وبضدها تتميز الأشياء، فأين هذا المنهج السديد، والتقعيد الرشيد، الذي سار عليه أهل السنة، من مثل قول عمرو بن عبيد -إمام المعتزلة-: "لو كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} {المسد:1} في اللوح المحفوظ، لم يكن لله على العباد حجة!"[9].
أو قوله في حديث الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة.. الحديث"[10]، قال -قبح الله قوله-: "لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدَّقته، ولو سمعت ابن مسعود يقول هذا لما قبلته، ولو سمعت رسول الله e يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا"[11].
ثانيًا: جمع النصوص في الباب الواحد ورد المتشابه إلى المحكم:(1/89)
إن معقد السلامة من الانحراف عند بيان قضية عقدية وتفصيل أحكامها هو جمع ما ورد بشأنها من نصوص الكتاب والسنة على درجة الاستقصاء، مع تحرير دلالات كلٍّ، وتصحيح النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماد فهم الصحابة والثقات من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين نصوص الوحيين عند المجتهد -لا في الواقع ونفس الأمر-، فينبغي الجمع بين هذه الأدلة برد ما غمض منها واشتبه إلى ما ظهر منها واتضح، وتقييد مطلقها بمقيدها، وتخصيص عامها بخاصها، فإن كان التعارض في الواقع ونفس الأمر فبنسخ منسوخها بناسخها -وذلك في الأحكام دون الأخبار فلا يدخلها نسخ-، وإن لم يكن إلى علم ذلك من سبيل، فبرده إلى عالمه I، الذي يقول:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} {آل عمران:7}.
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زاجرًا وآمرًا، وحلالاً وحرامًا، ومحكمًا ومتشابهًا، وأمثالاً، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا"[12].(1/90)
وقال الربيع بن خثيم رحمه الله: "يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه، لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} {صّ:86} [13].
وإذا اتضح هذا، فإنه لا يجوز أن يؤخذ نص وأن يطرح نظيره في نفس الباب، أو أن تعمل مجموعة من النصوص وتهمل الأخرى؛ لأن هذا مظنة الضلال في الفهم، والغلط في التأويل، قال الإمام أحمد رحمه الله: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا"[14].
وقال الشاطبي رحمه الله: "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها.."[15].
وقد كانت لأهل البدع مواقف خالفوا بها إجماع أهل السنة بسبب مخالفتهم لهذا الأصل العظيم، فكانوا يجتزئون من النصوص بطرف، مع إغضاء الطرف عن بقية الأطراف، فصارت كل فرقة منهم من الدين بطرف، وبقي أهل السنة في كل قضية عقدية وسطًا بين طرفين، والقاعدة الهادية عند اشتباه الأدلة: "أن من رد ما اشتبه إلى الواضح منها، وحكَّم محكمها على متشابهها عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس"[16].(1/91)
واتفق أهل السنة والجماعة على "رد المتشابه إلى المحكم، والأخذ من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضًا، ويصدق بعضها بعضًا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره"[17]، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - 41- لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ -42} {فصلت:41، 42}، وقد حكى الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقًا، كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك[18].
ولما خالف أهل البدع هذه القاعدة كفَّر بعضهم بعضًا، حيث آمن بعضهم بنصوص وكفروا بأخرى، فقد آمن -مثلاً- الوعيدية بنصوص الوعيد، وكفروا بنصوص الوعد، وقابلهم المرجئة آمنوا بنصوص الوعد وكفروا بنصوص الوعيد، وأهل السنة والجماعة آمنوا بكل وجمعوا بين النصوص، واعتمدوا على قول الله تعالى:{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} {لأعراف:156}.
"وقد استعمل هذه القاعدة كثير من أئمة العلم والدين في كسر المبتدعة وتفنيد شبهاتهم، كصنيع الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة، وفي كتاب مختلف الحديث، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، والإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتاب مختلف الحديث، والطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار، وغير هؤلاء كثير من أئمة السنة"[19].
ثالثًا: اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها:(1/92)
إن المصدر الذي تؤخذ منه مسائل أصول الدين هو الوحي، سواء عن طريق كتاب الله عز وجل أو من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو ما يرجع إليهما من إجماع صحيح، أو عقل صريح دل عليه النقل وأرشد إليه، قال تعالى:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} {النحل:89} ، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "..وأيم الله، لقد تركتكم على البيضاء، ليلها ونهارها سواء"، قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء"[20]، وفي رواية أخرى: "لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"[21].
وفي صحيح مسلم لما قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: "قد علَّمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة! فقال: أجل.."[22]، ودخول مسائل التوحيد وقضاياه في هذا العموم من باب الأولى؛ بل "من المحال أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب"[23].
والرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن مسائل التوحيد تارة بأدلتها النقلية مباشرة كأحوال البرزخ، ومسائل اليوم الآخر، وتارة يجمع إلى الأدلة النقلية الأدلة العقلية ويرشد إليها، فإما أن تكون أدلة مسائل علم التوحيد أدلة نقلية، أو أدلة نقلية عقلية.(1/93)
وبهذا الأصل المبارك اعتصم أهل السنة والجماعة، "ولم ينصبوا مقالة ويجعلوها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول؛ بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة، هو الأصل يعتقدونه ويعتمدونه"[24]، وردوا عند التنازع في مسألة ما إلى نصوص الوحي، امتثالاً لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} {النساء:59}، ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: الرد إلى سنته بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين"[25].
وفي إعمال هذه القاعدة نظر إلى الوحي بعين الكمال، واستغناء به عن غيره، واعتماد عليه، وتجنب اللوازم الباطلة لمذهب من يعوِّل على العقل أو الذوق دون الشرع، وتحقيق للإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ونجاة من مسالك أهل الأهواء الذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله بعلومهم وعقولهم وأذواقهم، وحسم لمادة التقليد الباطلة، مع تحقيق الاجتماع والألفة ونبذ الاختلاف والفرقة.
رابعًا: حجية فهم السلف الصالح لنصوص الوحي:(1/94)
إذا اختلف أهل القبلة وتنازعوا الحق فإن أجدر الفرق بالصواب وأقربها إلى التوفيق من كان في جانب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الكتاب الكريم حمال أوجه مختلفة في الفهم، فإن بيان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم له حجة وأمارة على الفهم الصحيح؛ فهم أبر الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأصحها فطرة، وأحسنها سريرة، وأصرحها برهانًا، حضروا التنزيل وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وأدركوا مراده، اختارهم الله تعالى -على علم- على العالمين سوى الأنبياء والمرسلين، "فكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين، معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة رضي الله عنهم"[26].
قال ابن حزم رحمه الله: "فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، فرضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة"[27]، وقال قتادة رحمه الله -في قوله تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {سبأ:6} -: "أصحاب محمد e"[28]، وقال سفيان رحمه الله -في قوله تعالى:{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} {النحل:59} -: "هم أصحاب محمد e"[29]، وقال عنهم الشافعي رحمه الله: "..فعلموا ما أراد رسول الله e عامًّا وخاصًّا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا"[30].(1/95)
وأفضل علم السلف ما كانوا مقتدين فيه بالصحابة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "ولا تجد إمامًا في العلم والدين، كمالك، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل... وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب"[31].
ثم إن التابعين وتابعيهم قد حصل لهم من العلم بمراد الله ورسوله ما هو أقرب إلى منزلة الصحابة ممن هم دونهم؛ وذلك لملازمتهم لهم، واشتغالهم بالقرآن حفظًا وتفسيرًا، وبالحديث رواية ودراية، ورحلاتهم في طلب الصحابة وطلب حديثهم وعلومهم مشهورة معروفة.
والمسلمون في شأن العقيدة يحتاجون إلى "معرفة ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة، عرَّفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه، فإن المعاني العامة التي يحتاج إليها عموم المسلمين، مثل معنى التوحيد، ومعنى الواحد والأحد والإيمان والإسلام، ونحو ذلك... فلابد أن يكون الصحابة يعرفون ذلك، فإن معرفته أصل الدين"[32].(1/96)
وفي تحديد مفهوم السلف، قال سبحانه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {التوبة:100} ، وفي الصحيح: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.."[33]، وهذه الخيرية خيرية علم وإيمان وعمل، إذ إن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، ولقد حكى ابن تيمية رحمه الله الإجماع على خيرية القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة[34].
ولقد اعتصم أهل السنة والجماعة بحجية فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين فعصمهم هذا من التفرق والضلال، فقالوا بما قال به السلف، وسكتوا عما سكتوا عنه، ووسعهم ما وسع السلف.
أما أهل الضلال والابتداع، فمذهبهم الطعن في الصحابة وتنكب طريق السلف، قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يذكر أحدًا من الصحابة بسوء، فاتهمه على الإسلام"[35].
فالصحابة يكفرهم الرافضة تارة، والخوارج أخرى، والمعتزلة يقول قائلهم -عمرو ابن عبيد-: "لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان، على شراك نعل ما أجزت شهادتهم!"[36]، وصدق أبو حاتم الرازي رحمه الله حين قال: "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر"[37].
خامسًا: الإيمان بالنصوص على ظاهرها ودرء التأويل:(1/97)
ويقصد بظاهر النصوص مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، لا ما يقابل النص عند متأخري الأصوليين، والظاهر عندهم ما احتمل معنى راجحًا وآخر مرجوحًا، والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا، "فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين"[38]، فالواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، واعتقاد أن هذا المعنى هو مراد المتكلم.
ومراد المتكلم يُعلم إما باستعماله اللفظ الذي يدل بوضعه على المعنى المراد مع تخلية السياق عن أية قرينة تصرفه عن دلالته الظاهرة، أو بأن يصرِّح بإرادة المعنى المطلوب بيانه، أو أن يحتف بكلامه من القرائن التي تدل على مراده، وعلى هذا فصرف الكلام عن ظاهره المتبادر -من غير دليل يوجبه أو يبين مراد المتكلم- تحكم غير مقبول سببه الجهل أو الهوى، وهذا وإن سماه المتأخرون تأويلاً إلا أنه أقرب إلى التحريف منه التأويل، ولا يسلم لهذا المتأول تأويله حتى يجيب على أمور أربعة:
أحدها: أن يبين احتمال اللفظ لذلك المعنى الذي أورده من جهة اللغة.
الثاني: أن يبيِّن وجه تعيينه لهذا المعنى أنه المراد.
الثالث: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره؛ لأن الأصل عدمه.
الرابع: أن يبيِّن سلامة الدليل الصارف عن المعارض، فالدليل إما قطعي، وإما ظاهر، فإن كان قطعيًّا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرًا فلابد من الترجيح[39].(1/98)
ومما يدل على إعمال الظواهر أنه لا يتم بلاغ ولا يكمل إنذار، ولا تقوم الحجة ولا تنقطع المعذرة بكلام لا تفيد ألفاظه اليقين، ولا تدل على مراد المتكلم بها؛ بل على خلاف ذلك، فينتفي عن القرآن -والعياذ بالله- معنى الهداية، وشفاء الصدور، والرحمة، التي وصف الله تعالى بها كتابه الكريم، ومعاني الرأفة والرحمة والحرص على رفع العنت والمشقة عن الأمة، التي وصف الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، وهو الذي ترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلا التباس في أمره ونهيه، ولا إلغاز في إرشاده وخبره، باطنه وظاهره سواء،كيف لا، وهو القائل: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم.." [40].
ودلالته صلى الله عليه وسلم للأمة في شأن اعتقادها أهم أعماله، وأولاها بالإيضاح والإفهام بلسان عربي مبين، والجزم واقع بأن الصحابة رضي الله عنهم فهموها على وجهها الذي يفهمه العربي، بغير تكلف ولا تمحل في صرف ظواهرها، ومن كان باللسان العربي أعرف ففهمه لنصوص الوحي أرسخ، وقد قال عمر رضي الله عنه: "يا أيها الناس، عليكم بديوان شعركم في الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم"[41].(1/99)
ومما يشهد للصحابة في فهمهم مراد الله ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم، قول ابن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه"[42]، وقال مسروق رحمه الله: "كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها ويفسرها عامة النهار"[43]، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "نعم ترجمان القرآن ابن عباس"[44]، وقال مجاهد رحمه الله: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها"[45].
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يُعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يُعلم معناها، ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه"[46]، بل كان قول أهل العلم: من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.
قال الذهبي: "قال سفيان الثوري وغيره: قراءتها -أي آيات الصفات- تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف"[47].(1/100)
وفي إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل -ولو كان مستكرهًا- ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف"[48].
ويقول ابن القيم رحمه الله مبينًا خطورة التأويل "فأصل خراب الدين والدنيا، إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصًا بدين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد"[49].
"وهذه القاعدة تفيد بطلان مذهب المفوضة في الصفات، الذين يفوضون معاني النصوص إلى الله، مدعين أن هذا هو مذهب السلف، وقد علم براءة مذهب السلف من هذا المذهب بتواتر الأخبار عنهم بإثبات معاني هذه النصوص على الإجمال والتفصيل، وإنما فوضوا العلم بكيفيتها لا العلم بمعانيها"[50].
سادسًا: درء التعارض بين العقل والنقل(1/101)
مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالاً وتفصيلاً، فأما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة، وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقًا وتعضيدًا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.
فإن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحًا ليس فيه دلالة صحيحة على المدعي، وإما أن يكون العقل فاسدًا بفساد مقدماته، فمن احتج مثلاً- في إنكار الصفات الإلهية بأن لازم ذلك إثبات آلهة مع الله، قد احتج بعقل غير صحيح؛ بل لا يجوز تسمية ذلك عقلاً أصلاً، إذ لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات؛ بل هو من أعظم الممتنعات العقلية، لأنه يستلزم رفع النقيضين، حيث يقال: هو موجود ولا موجود، ولا يقال هذا في حق المخلوق، فلا يستلزم إثبات المخلوق متصفًا بصفات السمع والبصر والكلام والحياة أن يتعدد المخلوق، بحيث تكون كل صفة منها إنسانًا قائمًا بنفسه، وهذا معلوم البطلان في حق المخلوق، وبطلانه في حق الخالق أظهر وأولي فهذا عقل فاسد لا يقاوم النقل الصحيح الصريح من آيات الصفات وأحاديثها.(1/102)
وقد يكون النقل مكذوبًا والعقل صحيحًا، كما في حديث يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "قيل يا رسول الله مم ربنا؟ قال: من ماء مرور، لا من أرض، ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق..."[51]، ففي هذا الكذب وأمثاله لا يقال إنه يعارض دليل العقل، فلا يصلح أن يكون دليلاً فضلاً عن أن ينسب إلى الشرع ليعارض به العقل، علاوة على أن الأدلة الشرعية تنقضه وتبطله.
وقد يكون النقل صحيحًا، إلا أنه لا يدل على المعنى المدعى، فيتوهم التعارض بين المنقول والمعقول، كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني،.. الحديث"[52]، فمن فهم من الحديث أن الله I يمرض أو يجوع ويعطش لم يفهم معنى الحديث لأن الحديث فسره المتكلم به، وبين المراد منه، وهو أن العبد هو الذي جاع وعطش ومرض، وأن الله تعالى منزه عن ذلك.
"والمقصود هو بيان أنه إذا ظهر تعارض بين الدليلين النقلي والعقلي، فلابد من أحد ثلاثة احتمالات:
الأول: أن يكون أحد الدليلين قطعيًّا والآخر ظنيًّا، فيجب تقديم القطعي نقليًّا كان أم عقليًّا، وإن كانا ظنيين فالواجب تقديم الراجح، عقليًّا كان أم نقليًّا.
الثاني: أن يكون أحد الدليلين فاسدًا، فالواجب تقديم الدليل الصحيح على الفاسد سواء أكان نقليًّا أم عقليًّا.
الثالث: أن يكون أحد الدليلين صريحًا والآخر ليس بذاك، فهنا يجب تقديم الدلالة الصريحة على الدلالة الخفية، لكن قد يخفي من وجوه الدلالات عند بعض الناس ما قد يكون بينًا وواضحًا عند البعض الآخر، فلا تعارض في نفس الأمر عندئذٍ.
أما أن يكون الدليلان قطعيين -سندًا ومتنًا- ثم يتعارضان، فهذا لا يكون أبدًا، لا بين نقليين، ولا بين عقليين، ولا بين نقلي وعقلي"[53].(1/103)
وخلاصة اعتقاد أهل السنة في هذا الباب "أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه"[54]، وقد أعمل الصحابة رضي الله عنهم هذا الأصل، وتلقاه عنهم التابعون، وتواترت عبارات أهل العلم بهذا المعنى.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم"[55].
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر هو به"[56]، وقال الإمام مالك رحمه الله: "أوكلما جاء رجل أجدل من الآخر، رد ما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم"[57].
ومن ثمرات الالتزام بهذه القاعدة، إثبات عصمة الشرع الحكيم إذ ليس فيه ما يخالف العقل الصحيح، وسد باب التأويل والتفويض، واستقامة الحياة على الوجه الأتم الأكمل عند نفي التعارض بين وحي الله تعالى وخلقه، فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه وتنتفع بما أنعم على خلقه.
[1] أخرجه أحمد في المسند 6663، وابن ماجه 85 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 6702: إسناده صحيح. اهـ.، وأصل الحديث في صحيح مسلم 2666.
[2] الإيمان لابن تيمية ص 33 باختصار.
[3] أخرجه البخاري 1294، ومسلم 103 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[(1/104)
4] أخرجه أحمد 27823، وهناد في الزهد 1321، والبخاري في الأدب المفرد 355، والترمذي 1920، وأبو داود 4943 وقد صححه النووي في الرياض، وحسنه العراقي والسيوطي. انظر: الجامع الصغير 9575.
[5] السنة، للخلال، 3/579، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/111، وانظر: فتح الباري، 13/504.
[6] أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/398، والبيهقي في الاعتقاد 1/116، وأبو نعيم في حلية الأولياء 6/326، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 1/365.
[7] انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/141.
[8] شرح الطحاوية 1/233، 242.
[9] تاريخ بغداد 12/182، وانظر: سير أعلام النبلاء 6/104.
[10] أخرجه البخاري 3208، ومسلم 2643 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[11] تاريخ بغداد 12/170، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 6/104، 105.
[12] أخرجه ابن حبان 745، والطبراني في المعجم الكبير 9/26، والحاكم في المستدرك 2031، من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة برقم: 587.
[13] الاعتصام للشاطبي 2/336.
[14] الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي 2/212.
[15] الموافقات للشاطبي 1/245، 246.
[16] تفسير ابن كثير بتصرف يسير 1/345.
[17] إعلام الموقعين لابن القيم 2/294.
[18] انظر: الكفاية للخطيب البغدادي ص433.
[19] منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد 1/348.
[20] أخرجه ابن ماجه 5، وابن أبي عاصم في السنة 49 من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقد حسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 688.
[21] أخرجه أحمد 16692، والدارمي 95، وأبو داود 4607، والترمذي 2676، وابن ماجه 44. وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 937.
[22] أخرجه مسلم 262، من حديث رضي الله عنه.
[23] مجموع الفتاوى 5/7، 8.
[24] مجموع الفتاوى 3/ 347.
[(1/105)
25] شرح الصدور بتحريم رفع القبور. الشوكاني ص593.
[26] شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص165.
[27] الفصل في الملل والنحل 4/116.
[28] تفسير الطبري 22/44.
[29] تفسير ابن كثير 3/370.
[30] إعلام الموقعين 1/80 ونسبه إلى الشافعي في الرسالة البغدادية القديمة.
[31] شرح العقيدة الأصفهانية ص165.
[32] مجموع الفتاوى 17/ 353.
[33] صحيح البخاري 2652، ومسلم 2533 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
[34] مجموع الفتاوى 4/157، 158.
[35] الصارم المسلول 3/1058، وانظر: شرح السنة ص35.
[36] الاعتصام للشاطبي 1/119.
[37] شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/179.
[38] مجموع الفتاوى 33/175.
[39] مجموع الفتاوى 6/360-362، والصواعق المرسلة 1/288-290، وبدائع الفوائد لابن القيم 4/1009
[40] أخرجه مسلم 1844 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
[41] الموافقات للشاطبي 2/88.
[42] أخرجه البخاري 5002، ومسلم 2463 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[43] تفسير الطبري 1/36.
[44] تفسير الطبري 1/40.
[45] تفسير الطبري 1/36.
[46] مجموع الفتاوى 13/ 285.
[47] العلو للذهبي ص251.
[48] فتح الباري، لابن حجر، 13/ 267.
[49] أعلام الموقعين، لابن القيم، 4/ 216.
[50] القواعد المثلى، لابن عثيمين، ص 35.
[51] تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، 1/ 134.
[52] صحيح مسلم، برقم: 2569.
[53] منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، 1/366.
[54] درء التعارض، 1/231، 232.
[55] مجموع الفتاوى، 13/ 28.
[56] الأم، للشافعي، 2/193.
[57] شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 1/ 144.(1/106)