ماذا تعرف عن التوحيد ؟
إعداد
إسلام محمود دربالة
مدير مركز أبحاث ودراسات
المستقبل للإسلام
تعريف التوحيد :
التوحيد لغة : الإفراد .
ولا يكون الشيء مفرداً إلا بأمرين :
أ - الإثبات التام .
ب - النفي العام .
فلو قلت : زيد قائم . لم تفرده لاحتمال أن يكون غيره قائماً أيضاً .
لكن إن قلت : ما قائم إلا زيد ، فقد أفردته ، بإثباتك القيام التام له ، ونفيك العام للقيام عن غيره .
وكلمة التوحيد ، لا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات ، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى ، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم ليس بإله ، ولا له من العبادة شيء ، وأثبتت الإلهية لله وحده بمعنى أن العبد لا يأله غيره ، أي لا يقصد بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة .
والتوحيد شرعاً : إفراد الله بحقوقه .
ولله سبحانه وتعالى ثلاثة حقوق
1- حقوق عبادة .
2- حقوق أسماء وصفات .
ويمكن أن يقال : التوحيد : هو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والتدبير وعدم صرف شيء من أنواع العبادة إلا له، والإيمان بما وصف وسمى به نفسه ، ووصفه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم .
أقسام التوحيد :
ذكر أهل العلم - رحمهم الله تعالى - بعد استقراء نصوص الكتاب والسنة أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- توحيد الربوبية .
2- توحيد الألوهية .
3- توحيد الأسماء والصفات .
قال الشيخ بكر أبو زيد - نفع الله به - : " هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير الطبري وغيرهما وقرره شيخاً الإسلام ابن تمية وابن القيم ، وقرره الزبيدي في " تاج العروس " وشيخنا الشنقيطي في " أضواء البيان " في آخرين رحم الله الجميع .(1/1)
وهو استقراء تام لنصوص الشرع ، وهو مطر لدى أهل كل فن ، ما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف ، والعرب لم تفه بهذا ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب ، وهكذا من أنواع الاستقراء " (1)
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله " وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توحيده في ربوبيته ، وهذا النوع جبلت عليه فطر العقلاء قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] وقال ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [يونس:31] .
وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله ( قال فرعون وما رب العالمين ) [الشعراء:23] تجاهل من عارف أن عبد مربوب ، بدليل قوله تعالى ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ) [الإسراء:102] .
وقوله ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا ) [النمل:14] وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [يوسف:106] والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً .
الثاني : توحيده جل وعلا في عبادته . وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى " لا إله إلا الله " وهي متركبة من نفي وإثبات .
فمعنى النفي منها خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت .
ومعنى الإثبات منها ، إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ص:5] .(1/2)
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى ( فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفره لذنبك ) الآية .
وقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وقوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وقوله ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [الزخرف:45]
وقوله ( قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ) [الأنبياء:108] فقد أمر في هذه الآية أن يقول أن ما أوحى إليه محصور في هذا النوع من التوحيد لشمول كلمة لا إله إلا الله لجميع ما جاء في الكتب لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده . فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي ، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب . والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة .
النوع الثالث : توحيد الله جل وعلا في أسمائه وصفاته . وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين :
الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ، كما قال تعالى (ليس كمثله شيء ).
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الإتصاف بهذه الصفات قال تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) [طه:110] .
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافه بربوبيته جل وعلا وجوب توحيده في عبادته ، ولذلك يخاطبه في توحيد الربوبية باستفهام التقرير .
فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأنه يعبد وحده ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره ، مع اعترافهم بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده .(1/3)
ومن أمثله ذلك قوله تعالى ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار) [يونس:31] إلى قوله ( فسيقولون الله ) فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكراً عليهم شركهم به غير بقوله ( فقل أفلا تتقون ) .
ومنها قوله تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ، سيقولون لله ) فلما اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركه بقوله : ( قل أفلا تذكرون ) ثم قال ( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، سيقولون لله ) فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله ( قل أفلا تتقون ) ثم قال ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ، سيقولون الله ) فلما أقروا ، وبخهم منكراً عليك شركهم بقوله : ( قل فأنى تسحرون ) [المؤمنون:84-89]
ومنها قوله تعالى ( قل من رب السموات والأرض قل الله ) فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقولهم : ( قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ) [الرعد:16] .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله ( فأنى يؤفكون ) [الزخرف:87].
ومنها قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله : ( فأنى يؤفكون ) .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)
فلما صح إقراره وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله : ( قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ) [العنكبوت:61].
إلى أن قال الشيخ الأمين رحمه الله ( والآيات بنحو هذا كثيرة جداً ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع : أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير ، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار ، لأن المقر بالربوبية يلزم الإقرار بالألوهية ضرورة نحو قوله تعالى : ( أفي الله شك ) [إبراهيم:10] .(1/4)
وقوله ( قل أغير الله أبغي رباً ) وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار ، لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار لأنهم لا ينكرون الربوبية كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه " (1) .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله - رحمه الله - موضحاً تلازم أنواع التوحيد الثلاثة : " والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيداً ، أي جعله واحداً .
سمى دين الإسلام توحيداً ، لأن مبناه على أن الله واحداً في ملكه وأفعاله لا شريك له ، وواحد في ذاته لا نظير له ، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له .
وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا به من عند الله ، وهي متلازمة ، كل نوع منها ينفك عن الآخرة .
فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر ، فما ذاك إلا لأنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب " (2)
ومن أهل العلم من قسم التوحيد إلى قسمين :
1 - توحيد في المعرفة والإثبات ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
2 - توحيد في الطلب والقصد : وهو توحيد الإلهية والعبادة .
قال ابن القيم " رحمه الله " :
" واعلم أن التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ، ونزلت به كتبه ، نوعان :
1- توحيد في المعرفة والإثبات .
2- توحيد في الطلب والقصد .
فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه ، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده ، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه .
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح ، كما في أول سورة الحديد ، وسورة طه ، وآخر سورة الحشر ، وأول سورة تنزيل السجدة وأول سورة آل عمران ، وسورة الإخلاص بكاملها وغير ذلك .(1/5)
النوع الثاني : مثل ما تضمنته سورة ( قل يأيها الكافرون ) وقوله ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) الآية ، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها ، وأول سورة يونس ووسطها وآخرها ، وأول سورة الأعراف وآخرها ، وجملة سورة الأنعام ، وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد (1)
(1) توحيد الربوبية
هو الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير ، وأنه المحيي المميت النافع الضار ، المتفرد بإجابة الدعاء عند الضراء ، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بربوبية خلقه إيجاداً وإمداداً ، وخلقاً وتدبيراً .
ويمكن أن نقول : هو إفراد الله بالخلق ، والملك والتدبير .
وكذلك هو : توحيد الله بأفعاله سبحانه .
ودليل إفراده بالخلق قوله تعالى ( هل من خالق غير الله ) [فاطر:3]
وقوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) [النحل:17] .
ودليل إفراده بالملك قوله تعالى : ( تبارك الذي بيده الملك ) [الملك:1].
وقوله تعالى ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ) [المؤمنون:88] .
ودليل التدبير قوله تعالى : ( ألا له الخلق والأمر ) [الأعراف:54] . والمراد بالأمر هنا التدبير .
وربوبية الله عز وجل لخلقه على نوعين :
الأول : ربوبية عامة ، شاملة لجميع المخلوقات ، وهي : أن الله هو المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها .
الثاني : ربوبية خاصة ، وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه ، وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان.
قال العلامة السعدي : " وتربيته تعالى لخلقه نوعان : عامة وخاصة " .
فالعلامة : هي خلقه للمخلوقات ، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة : تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه .
وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير ، والعصمة من كل شر .(1/6)
ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ ( الرب ) فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبية خاصة " (1)
ويقول ابن القيم في بيان معنى هذا القسم من أقسام التوحيد : " أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه ، يدبر أمر عباده وحده ، فلا خالق ولا رازق ، ولا معطي ولا مانع ، ولا مميت ولا محيي ، ولا مدبر لأمر المملكة - ظاهراً وباطناً - غيره : فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا يجري حادث إلا بمشيئته ولا ستقط ورقة إلا بعلمه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه ، وأحاطت بها قدرته ونزلت بها مشيئته واقتضتها حكمته " (2)
تنبيه : هذا القسم من أقسام التوحيد لا يكفي العبد في حصول إسلامه ، بل لابد من أن يأتي بلازمة ، من توحيد الألوهية ، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد وحده ، ولم ينفعهم ذلك الإقرار .
قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] .
وقال ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله)[العنكبوت:63]. (3)
(2) توحيد الألوهية
وهو إفراد الله بالعبادة ومبناه على إخلاص التأله لله تعالى في العبادات كلها ظاهرها وباطنها ، لا يجعل فيها شيء لغيره ، لا لملك مقرب ، ولا لنبي مرسل ، فضلاً عن غيرهما (4)
ويمكن أن يقال : هو إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولاً وعملاً ، ونفى العبادة عن كل ما سواه سبحانه كما قال تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [الإسراء:23] (5) .(1/7)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده . فلا يدعى إلا هو ، ولا يخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم(1)
ويبين ابن القيم حاجة البشرية إلى توحيد الله ، وإلى هذا القسم من أقسامه خاصة فيقول : "اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب ، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها ، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به .
فإن حقيقة العبد وروحه قلبه لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ، ورضاه وإكرامه لها " (2)
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : " وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو أول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول : لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة ، والخشية ، والإجلال ، والتعظيم ، وجميع أنواع العبادة ، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة ، وأرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار ، وسعداء أهل الجنة ، وأشقياء أهل النار " (3).(1/8)
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي " رحمه الله " : " أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة ، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق ، وأكملها وأفضلها ، وأوجبها وألزمها لصالح الإنسانية ، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله ، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه ، وبوجوده يكون الصلاح ، وبفقده يكون الشر والفساد وجميع الآيات إما أمر به أو بحق من حقوقه ، أو نهى عن ضده ، أو إقامة حجة عليه أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة ، أو بيان الفرق بينهما وبين المشركين .
ويقال له : توحيد الإلهية فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم ، وهو مستلزم جميع صفات الكمال .
ويقال له توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى ، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه مخلصاً له جميع عبادته محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره " (4)
تعريف العبادة :
فالعبادة :الطاعة مع الخضوع - قال الراغب : العبودية : إظهار التذلل ، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل (4)
وقال الزجاج " ومعنى العبادة في اللغة : الطاعة مع الخضوع " (1) وقال الجوهري " أصل العبودية " الخضوع والتذلل " (2)
ومن التعريف اللغوي السابق يمكن أن يقال عن العبادة الشرعية إنها : الانقياد والخضوع لله تعالى على وجه التقرب إليه بما شرع مع المحبة .
بيان إطلاقات العبادة :
للعبادة معاني بحسب ما تتعلق به ، وبحسب كونها مصدراً أو اسماً ، وبحسب المتوجه به إليه ، وبحسب ما يلاحظ فيها من حق ، فهذه أربعة إطلاقات .
الإطلاق الأول : إطلاقات العبادة بحسب ما تتعلق به .
فالعبادة من حيث تعلقها بعموم الخلق وخصوصهم تنقسم إلى عبادة عامة كونية وإلى خاصة شرعية (3) .(1/9)
فالعبادة العامة : هي عبادة القهر والملك وهي تشمل أهل السموات والأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم فالجميع عبيد مربوبون لله قال الله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ، لقد جئتم شيئاً إدا ، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [مريم:88-93] .
وقد ذكر ابن القيم أن هذا النوع يأتي على خمسة أوجه (4) وهي :
1- إما منكراً كما في الآية المذكورة سابقاً .
2- أو معرفاً باللام ، كقوله تعالى : ( وما الله يريد ظلماً للعباد ) [غافر:31] .
3- أو مقيداً بإشارة أو نحوها ، كقوله تعالى ( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل )[الفرقان:17]. .
4- أو أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله تعالى : (أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) [الزمر:46] .
5- أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) [الزمر:53] .
وهذا المثال المذكور في الوجه الخامس لا يسلم من اعتراض كما قال ابن القيم نفسه : " وقد يقال : " إنما سماهم عباده إذا لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة (5) أهـ
وأما العبادة الخاصة الشرعية فهي ، عبادة الطاعة والخضوع والذل والمحبة الاختيارية ، وهي خاصة لمن وفقه الله من المكلفين من الأنبياء والمرسلين وعامة المؤمنين بهم .
ومن الآيات الواردة فيها قول الله تعالى : ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) [الزخرف:68] وقوله ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [الزمر:17-18] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
الإطلاق الثاني : إطلاقات العبادة بحسب الإسمية والمصدرية .(1/10)
فالعبادة باعتبارها مصدراً تعني التعبد ، وهو فعل العابد (1) وتعريفها " التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه " (2) اهـ
وأما باعتباره اسماً فهي تعني : المتعبد به (3) وتعريفها : " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " (4) .
ومن التعريف المذكور في معنى العبادة باعتبارها اسماً يتضح أن للعبادة أربع مراتب وهي : قول القلب ، وقول اللسان ، وعمل القلب ، وعمل الجوارح وهذا معنى قوله : " من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " وقد فصل ابن القيم هذه المراتب فقال :
" قول القلب : هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله ، وملائكته ولقائه على لسان رسله .
وقول اللسان : الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له ، والقيام بذكره وتبليغ أوامره .
وعمل القلب : كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له ، وإخلاص الدين له ، والصبر على أوامره ونواهيه وعلى أقداره والرضى به عنه ، والموالاة فيه والمعاداة فيه ، والذل له ، والخضوع ، والإخبات إليه والطمأنينة به ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، التي فرضها من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها ، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة .
وأعمال الجوارح : كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ، ومساعدة العاجز والإحسان على الخلق ، ونحو ذلك " (5) اهـ
فظهر من هذا أن جميع أمور الديانة من الاعتقادات والإرادات والأقوال والأعمال داخلة في مسمى العبادة .
ولما جهل كثير من المتأخرين حقيقة العبادة على الوجه المذكور أعلاه كان من الأفضل زيادة البيان لبعض أنواع العبادة بذكر أمثلة لها - خاصة المتنازع فيها - مع نقل أقوال الأئمة الأعلام وبيانهم أنها من العبادة وأن صرفها لغير الله لا يجوز .(1/11)
ومن هذه الأمثلة : الاستعاذة والاستغاثة والحلف .
فالاستعاذة : طلب العوذ - وهي الالتجاء إلى الله تعالى من الشر لإزالته أو دفعه (1) والاستغاثة : طلب الغوث وهي : إزالة الشدة ، كالاستنصار وهو طلب النصر . ولا خلاف في أنه تجوز الاستغاثة بالمخلوق فيما كان قادراً عليه من الأمور (2) ومنه قول الله تعالى (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) [الأنفال:72] وقوله : ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) [القصص:15] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله كغفران الذنوب وإنزال الرزق وكل ما هو من خصائص الربوبية فلا يستغاث فيه إلا بالله جل وعلا . قال الله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) وقال تعالى ( يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ) [فاطر:3] . .
والاستعاذة والاستغاثة نوعان من أنواع الدعاء والدعاء عبادة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " الدعاء هو العبادة " (3) ثم تلا قول الله تعالى : ( قال ربكم ادعوني استجب لكم) [غافر:60] ومن أقوال أهل العلم في أن الدعاء عبادة : " قال نعيم بن حماد في كتابه الرد على الجهمية (4) دلت هذه الأحاديث (5) على أن القرآن غير مخلوق ، إذ لو كان مخلوقاً لم يستعذ به ، إذً لا يستعاذ بمخلوق قال الله تعالى ( فاستعذ بالله ) . (6) اهـ
وهذا الكلام ساقه نعيم بن حماد ليدلل على أن القرآن غير مخلوق وحجته في ذلك ما ورد في الاستعاذة بكلمات الله وأسمائه الحسنى ، فلو كانت مخلوقة لما جازت الاستعاذة بها وهذا يؤكد أن هذه المسألة وهي عدم جوز الاستعاذة بغير الله - كانت معلومة عند الموافق والمخالف ، وإلا لما أوردها عليهم .(1/12)
ونظير هذا الاستدلال وهذا القول : قول ابن خزيمة : فإنه قال : " أفليس العلم محيطاً يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه ؟ هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي : أعوذ بالكعبة من شر خلق الله ؟ أو يجيز أن يقول الداعي : أعوذ بالصفا والمروة ، أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟ هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله ، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه (1) .
وقد أورد الإمام البخاري في كتابه الصحيح باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها ضمن كتاب التوحيد ، ثم ساق فيه تسعة أحاديث ، ومقصوده بهذه الترجمة : إثبات أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة ، لأنه قد وردت الاستعاذة بها والسؤال بها ، لأن المخلوق لا يستعاذ به ولا يسأل به .
ويؤكد صحة هذا المعنى الذي تدل عليه ترجمته هو أنه أورد في الباب تسعة أحاديث وتاسعها لفظه : " لا تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفاً فليحلف بالله " (2) وقد قال في كتابه خلق أفعال العباد (3) " وليس لأحد أن يحلف بالخواتيم والدراهم البيض وألواح الصبيان التي يكتبونها ثم يمحونها مرة بعد مرة وإن حلف فلا يمين عليه لقول الله عز وجل ( فلا تجعلوا لله أنداداً ) [البقرة:22].
فهذا نص واضح من الإمام البخاري يفيد أن الحلف بغير الله يعتبر شركاً وإيراده حديث الأمر بالحلف بالله وحده في باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها يدل على أنه يرى عدم جواز السؤال والاستعاذة بغير الله تعالى ، وهذا واضح .
والإطلاق الثالث للعبادة هو باعتبار المتوجه بها إليه :(1/13)
فمن توجه بعبادته لله تعالى كانت هذه العبادة توحيداً ، ومن توجه بها إلى غير الله كانت شركاً ، فعن الثاني يقول الله جل وعلا فيمن دعا غيره : (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ) [فاطر:13،14] فدعاؤهم لغير الله عبادة لهم ، وسماها الله تعالى شركاً ، وهكذا كل عبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك إذا توجه بها صاحبها إلى الله تعالى كان ذلك توحيداً ، وإذا صرفها إلى الله غير الله تعالى كانت شركاً .
الإطلاق الرابع للعبادة : باعتبار ما يلاحظ فيها من حلق :
فإن العبادة قد تطلق على معنى أخص وهو ما يقابل المعاملات ولذلك فإن الفقهاء في كتب الفقه يدرجون أبواباً في قسم العبادات وهي : الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وما عداها في باب المعاملات وهذا لا يعني أن العبادات منحصرة في المذكورات فقط بل تشمل غيرها ، بل إن المعاملات نفسها داخلة في مسمى العبادة العام وذلك من جهة التزامها وفق الشرع .
أركان وشروط العبادة :
من التعريف الشرعي السابق لكلمة العبادة يتضح أن لها ركنين وهما : كما الخضوع والذل ، وكمال المحبة وشرطها : الاتباع
الركن الأول وهو : كمال الخضوع والذل وهو أن يستكين العبد لله تعالى ويخضع له ويذل . والذل أربع مراتب كما ذكر ابن القيم
"المرتبة الأولى " مشتركة بين الخلق ، وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله ، فأهل السموات والأرض جميعاً محتاجون إليه فقراء إليه ، وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السموات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحداً .
المرتبة الثانية : ذل الطاعة والعبودية ، وهو ذل الاختيار وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية .
والمرتبة الثالثة : ذل المحبة ، فإن المحب ذليل بالذات ، وعلى قدر محبته له يكون ذله .(1/14)
والمرتبة الرابعة : ذل المعصية والجناية : فإذا اجتمعت هذه الأربع : كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم ، إذ يذل له خوفاً وخشية ، ومحبة وإنابة وطاعة وفقراً وفاقة " (1) اهـ .
وأما الركن الثاني وهو : كمال المحبة .
فإن الذي يدل على اعتبار كمال الحب مع كمال الذل هو أن أصل التأله : العبد وهو كما يقول ابن القيم : " العبد آخر مراتب الحب ، يقال : عبده الحب وتيمه إذا ملكه ، وذلك لمحبوبه " (2)اهـ
وقال شيخ الإسلام بن تيمية : " والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل ، فالعابد محب خاضع ، بخلاف من يحب من لا يخضع له ، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر ، وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم فإن كلاً من هذين ليس عبادة محضة " (3) .
ومما يدل على أن هذا الحب ركن لا بد منه قول الله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العقاب ) [البقرة:165] قال ابن القيم " فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً ، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية ، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية بخلاف ند المحبة " (4) اهـ .
فإذا تبين هذا علم أن إفراد الله بالمحبة أصل العبادة ، وهذا يستلزم أن يكون الحب كله لله ولأجله وفيه (1) .
ويوضح شيخ الإسلام بن تيمية حقيقة حب الله وما يحب لله فيقول : " وكل ما أمر الله أن يحب ويعظم فنما محبته وتعظيمه لله ، فالله هو المحبوب المعظم في المحبة والتعظيم ، والمقصد المستقر الذي إليه المنتهى ، وأما ما سوى ذلك فيحب لأجل الله ، أي لأجل محبة العبد لله يحب ما أحبه الله ، فمن تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه ، ويشهد لهذا الحديث " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله(3) " (2) اهـ.(1/15)
وشرط صحة المحبة : المتابعة التي لابد فيها من الصدق والإخلاص . ومما يدل على أن اتباع أمر المحبوب واجتناب نهي لازم للمحبة قول الله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [آل عمران:31] . فجعل الله تعالى اتباعهم لرسوله صلى الله عليه وسلم علامة على صدق محبته لله ، وجعل حبه لهم مشروطاً باعتباعهم له ، فعلهم بهذا استحالة ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن المحبة مستلزمة للمتابعة (4)
فإن لم تتحقق المتابعة والطاعة يكون مدعى المحبة كاذباً في دعواه محبة الله ويكون من الكافرين ، وهذا المعنى هو ما قررته الآية التي تلي الآية التي تقدم ذكرها ، وهي قول الله تعالى : ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) [آل عمران:32] .
ومن العرض السابق يعلم أن للعبادة بمعنى التعبد شرطين هما : معرفة المعبود ، ومعرفة دينه
فأما الشرط الأول وهو : معرفة المعبود سبحانه وتعالى فهو واضح جداً فإنه حتى يتحقق الذل والخضوع للمعبود فإن يشترط أن تتحقق معرفته والسبيل إلى ذلك هو العلم بما للمعبود سبحانه من الأسماء والصفات ومعاني الربوبية فإنه " لا تكون العبادة إلا مع المعرفة للمعبود " (5)(1/16)
وأما الشرط الثاني : وهو معرفة دينه - فإن واضح من البيان المتقدم في شرط المحبة - فإن شرطها هو متابعة أوامر المعبود واجتناب نواهيه ، وأوامره ونواهيه هي دينه الذي أنزله ، ولا يمكن أن تتحقق المتابعة لدينه إلا بعد معرفته ولذلك كانت معرفة دين الله شرطاً في التعبد. وقد بين ابن القيم مراتب العلم بالله وبدينه بقوله : " فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب " العلم بذاته ، وصفاته وأفعاله ، وأسمائه ، وتنزيهه عما لا يليق به . العلم بدينه مرتبتان : إحداهما : دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه ، والثانية : دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه ، وقد دخل في هذا العلم : العلم بملائكته وكتبه ورسله " (1) اهـ
بيان مستحق العبادة :
الذي يستحق العبادة هو الله جل وعلا وحده دون غيره ، فإن العبادة لا تكون إلا للخالق المنعم ، وسيأتي بيان السبب الذي استحق الله به العبادة دون ما سواه إن شاء الله .(1/17)
قال الله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهذا أسلوب يفيد الحصر والاختصاص (2) ومعنى هذه الآية مركب من أمرين : نفى وإثبات ، فالنفي : خلع جميع المعبودات بغير حق في جميع أنواع العبادات . والإثبات : إفراد الله تعالى وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع ، فقوله : (إياك) يفيد الحصر : أي لا أحداً سواك ، وهذا هو النفي ، أما الإثبات ففي قوله : (نعبد ) أي وحدك ، وهذا المعنى يستفاد من آيات كثيرة في القرآن ، منها قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن ابعدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وقوله : (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) [البقرة:210] فهذا إثبات ، ثم ذكر النفي في آخر الآية التالية : ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) [البقرة:22] ومنها قوله : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [البقرة:256] فالنفي في قوله : " فمن يكفر " والإثبات في قوله : " ويؤمن بالله " (3) .
ومن الآيات الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه قول الله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) [الزخرف:87] .
والمعنى كما قال ابن جرير : "فأي وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم ويحرمون إصابة الحق في عبادته (4)!
وبالجملة فإن العبادة " لا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى " (5)
بيان سببها الذي تستحق به :(1/18)
وأما سببها الذي تستحق به فهو الاتصاف بصفات المال والتنزه عن النقص فالله هو الخالق لجميع الخلق والمسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة ، وكلهم مفتقرون إليه ويرغبون نعمته وفضله فالحاجة والرغبة في نعمته وفضله يبعثان على الانقياد لله والخضوع له (6)وبه يعلم أن العبادة : " لا تستحق إلا بغاية الإنعام " (1)وقال ابن كثير " إنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ، ولهذا قال : ( فلا تجعلوا مع الله أنداداً وأنتم تعلمون ) [ البقرة : 22 ] (2)اهـ
فلما كان هو المالك المتصرف في الأمور كيف شاء ، كان له سبحانه أن يأمر بما يشاء وينهى ، وإنه سبحانه قد أمر بعبادته وحده لا شريك له ونهى عن عبادة غيره .
ويدل على صحة ما ذكرته من السبب الذي تستحق به العبادة ما يذكره الله تعالى من أدلة دالة على استحقاقه وحده العبادة دون غيره ، ومن ذلك : بيان أنه الخالق الرازق المنعم ، وبيان أن غيره عاجز ضعيف لا يملك شيئاً وبيان أن الأمر كله له شرعاً وجزاءً.
وبهذا يتضح سبب وقوع بعض الناس في الشرك بالله تعالى ، وذلك لظنهم أن غير الله تعالى يكون منعماً بشيء استقلالاً أو له تأثير في التصرف ونحو ذلك فيقع في تعظيمه والخوف منه ورهبته ورجائه ، وتلك هي عبادته .
والأدلة الدالة على استحقاق الله تعالى العبادة والسبب الذي استحق به العبادة كثيرة ، وسأكتفي بذكر دليلين فقط - الأول : في أفضل سورة في القرآن والثاني : في أعظم آية في القرآن .(1/19)
فالدليل الأول وهو سورة الفاتحة : فغن قول الله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) جاء بعد آيات تضمنت الحمد لله والثناء الحسن له ، وأنه رب العالمين المنعم عليهم بأنواع النعم التي لا تحصى ، وأنه الرحمن الرحيم بعباده ، والمجازي لهم يوم الدين ، فمجئ تلك الآية بعد هذه الآيات يدل على أن ما ذكر قبله السبب في استحقاق الله جل وعلا للعبادة وحده دون سواه ، فإنه قد حمد نفسه بما له من الصفات العظيمة ، وبين أنه رب العالمين أي سيدهم وخالقهم ومربيهم ومدبر أمرهم ، فله أن يأمرهم بما يشاء ، وبين أنه الرحمن الرحيم ، فهذان اسمان يبعثان على الرغبة فيما عند الله ، ويدفعان توهم بعض المشركين من أنه لا يمكن التقرب إلى الله إلا بواسطة لكثرة الذنوب والمعاصي ، ثم بين ملكه ليوم الدين ، فيبعث هذا على عبادة الله وحده لأنه هو المجازي وحده ، وهو الذي يملك الشفاعة ولا يشفع عنده أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له .(1/20)
وأما الدليل الثاني وهو : آية الكرسي التي هي أعظيم آية في القرآن - فإن فيها بيان استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والسبب الذي استحق به العبادة - وبيان ذلك : أن الله تعالى بدأها بأنه هو المستحق للعبادة فقال : ( الله لا إله إلا هو ) ثم ذكر بعد ذلك من الصفات ما يدل على أنه بها قد استحق العابدة فقال : (الحي القيوم ) فالحي اسم دال على حياة الله الكاملة المقتضية كمال علمه وعزته وقدرته وغير ذلك من صفاته الذاتية ، و ( القيوم) اسم دال على قيام الله بنفسه وقيامه بخلق الموجودات وإحكامها ورزقها وتدبيرها ثم قال : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) فنفى هذه النقائص ليؤكد كمال ما ذكره من اسميه ( الحي القيوم) وهذا يقتضي الاعتماد على الله جل وعلا وحده كما قال ( وتوكل على الحق الذي لا يموت) [الفرقان : 58] وقال : (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم) [ الرعد:33] والمعنى كما قال بان جرير : " أفالرب الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق ، متضمن لها ، عالم بهم وبما يسكبونه من الأعمال ، رقيب عليهم لا يعزب عنه شيء أينما كانوا كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئاً ولا يدفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضراً ولا يجلب إليهما نفعاً كلاهما سواء ؟! " (1) اهـ والمقصود هنا ذم من أشرك بالله غيره وهو يعلم أن غيره لا يستحق العبادة ، وقد بين الله أنه هو وحده المستحق للعبادة بما ذكره من صفاته سبحانه . ثم بين الله ملكه لكل شيء في آية الكرسي فقال : ( له ما في السموات وما في الأرض) قال ابن جرير : " وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه ، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه وليس له خدمة غيره إلا بأمره " (2) اهـ(1/21)
ثم قال الله تعالى بعدها ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وفيه رد على زعم المشركين بعد إقرارهم ما تقدم في أول آية الكرسي من أن الله هو الخالق والمالك فزعموا : (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [ الزمر:3] فبين الله تعالى أنه لا يشفع عنده أحد لأحد إلا بعد تخليته إياه من العذاب وإذنه بالشفاعة لمن يشفع من رسله وأوليائه وأهل طاعته (3) ثم قال تعالى (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) والمقصود بيان وجوب إخلاص الدين لله تعالى الذي هو محيط بكل شيء علماً . ثم بين الله تعالى أن ما سواه لا يعلم شيئاً إلا إذا شاء تعليمه فقال ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) والمقصود بيان أن العبادة لا تنبيعي لمن كان جاهلاً (4) وهكذا سياق الآية إلى آخرها ...
وعليه فإنه يعلم مما تقدم أن لاستحقاق الله وحده للعبادة دون سواه سببين :
الأول : اتصاف الله جل وعلا بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص ، ومن صفاته : إنعامه وإفضاله على خلقه الباعثان على الرغبة فيما عند الله والقيام بعبادته وشكره ، والخوف منه .
الثاني : أمره الشرعي ، فالله جل وعلا له الملك وله الأمر فهو مالك لخلقه يتصرف فيهم بأمره ، وقد أمرهم بعبادته وترك عبادة غيره (5)
(3)
توحيد الأسماء والصفات
هو الإقرار بأن الله بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم . له المشيئة النافذة والحكمة البالغة . وأنه سميع بصير ، رؤوف رحيم ، على العرش استوى ، وعلى الملك احتوى ، وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، سبحان الله عما يشركون ، إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى(1) .
ويمكن أن يقال : هو إفراد الله عز وجل بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بإثبات ما أثبته من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل (2) .(1/22)
الأركان التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات :
يقوم توحيد الأسماء والصفات على أسس ، من حاد عنها لم يكن موحداً لربه في الأسماء والصفات .
الركن الأول : تنزيه الله عن مشابهته الخلق ، وعن أي نقص.
الركن الثاني : الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة ، دون تجاوزها بالنقص منها أو الزيادة عليها أو تحريفها أو تعطيلها .
الركن الثالث : قطع الطمع عن إدراك كيفية هذه الصفات (3) .
ويجمع هذه الأركان قول الإمام مالك حين سئل عن الاستواء ، فقد دعاه رجل فقال له : يا أبا عبد الله : ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء (أي العرق) ثم قال : الاستواء غير مجهول والكيف غير مقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعاُ ثم أمر به أن يخرج .
فقوله : "الاستواء غير مجهول".
أي غير مجهول المعنى في اللغة ، فإن معناه العلو والاستقرار .
وقوله : "والكيف غير معقول " .
معناه : أنا لا ندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا ، وإنما طريق ذلك السمع ، ولم يرد السمع بذكر الكيفية ، فإذا انتفى عنها الدليلان العقلي والسمعي كانت مجهولة يجب الكف عنها .وقوله : "الإيمان به واجب" معناه : أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق واجب ، لأن الله أخبر به عن نفسه ، فوجب تصديقه والإيمان به .
وقوله :"والسؤال عنه بدعة " معناه : أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة ، لأنه لم يعهد السؤال عن كيفية الاستواء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين .
هذا الذي ذكره الإمام مالك رحمه الله في الاستواء ميزان عام لجميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .(1/23)
فإن معناه معلوم لنا ، وأما كيفيتها فمجهولة لنا لأن الله أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها ، ولأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، فإذا كنا نثبت ذات الله تعالى من غير تكييف لها ، فكذلك يكون إثبات صفاته من غير تكييف (1) .
قواعد وضوابط هامة في إثبات صفات الله عز وجل وأسمائه .
أهل السنة يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه .
التحريف :
لغة : التغيير ، وفي الاصطلاح تغيير النص لفظاً أو معنى ، والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى وقد لا يتغير ، فهذه ثلاثة أقسام :
1- تحريف لفظي ، لا يتغير معه المعنى كفتح الدال من قوله تعالى (وكلم الله موسى تكليما ) إلى نصب لفظ الجلالة ليكون التكليم من موسى .
2- تحريف لفظي ؛ لا يتغير معه المعنى ، كفتح الدال من قوله تعالى ( الحمد لله رب العالمين ) وهذا - في الغالب - لا يقع إلا من جاهل ؛ إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالباً .
3- تحريف معنوي ؛ وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل ، كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك .
التعطيل:
لغة : التفريغ والإخلاء . وفي الاصطلاح هنا : إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات ، أو إنكار بعضها ، فهو نوعان :
1- تعطيل كلي ؛ كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات ، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً.
2- تعطيل جزئي ؛كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض ، وأولو من عرف بالتعطيل من هذه الأمة هو الجعد بن درهم .
التكييف :
أي حكاية كيفية الصفة ، كقول القائل : كيفية يد الله أو نزوله إلى السماء الدنيا كذا وكذا .
التمثيل والتشبيه :
التمثيل : إثبات مثيل لشيء .
والتشبيه : إثبات مشابه له .
فالتمثيل يقتضي المماثلة وهي المساواة من كل وجه .(1/24)
والتشبيه يقتضي المشابهة وهي المساواة في أكثر الصفات ، وقد يطلق أحدهما على الآخر.
والفرق بينهما وبين التكييف من وجهين :
أحدهما : أن التكييف أن يحكي كيفية الشيء ، سواء كانت مطلة أم مقيدة بشبيه ، وأما التمثل والتشبيه فيدلان على كيفية مقيدة بالمماثل والمشابه .
ومن هذا الوجه يكون التكييف أعم لأن كل ممثل مكيف ولا عكس .
ثانيها : أن التكييف يختص بالصفات ، أما التمثل فيكون في القدر والصفة والذات ، ومن هذا الوجه يكون أعم لتعلقه بالذات والصفات والقدر .
ثم التشبيه الذي ضل به من ضل من الناس على نوعين:
أحدهما : تشبيه المخلوق بالخالق .
والثاني : تشبيه الخالق بالمخلوق .
فأما تشبيه المخلوق بالخالق ؛ فمعناه إثبات شيء للمخلوق ما يختص به الخالق من الأفعال والحقوق والصفات فالأول : كفعل من أشرك في الربوبية ، ممن زعم ا، مع الله خالقاً ، والثاني : كفعل المشركين بأصنامهم ، حيث زعموا أن لها حقاً في الألوهية فعبدوها مع الله ، والثالث : كفعل الغلاة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره .
وأما تشبيه الخالق بالمخلوق ، فمعناه أن يثبت لله تعالى في ذاته أو صفاته من الخصائص مثل ما يثبت للمخلوق من ذلك .
كقول القائل : إن يدي الله مثل أيدي المخلوقين واستواءه على عرشه كاستوائهم ونحو ذلك (1)
أهمية توحيد الأسماء والصفات :
يقول الإمام أحمد - رحمه الله - عن أحاديث الصفات : " فعليه الإيمان بها والسليم ؛ مثل أحاديث الرؤية كلها ، وإن نبت عن الأسماع واستوحش مها والمستمع ، وإنما عليه الإيمان بها ، وأن لا يرد منها حرفاً واحداً ، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات " (2) .
ويقول ابن القيم : " لا يستقر للعبد قد م في المعرفة - بل ولا في الإيمان - حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله . ويعرفها معرفة تخرج عن حد الجهل بربه ، فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام والإيمان ، وثمرة شجرة الإحسان " (1) .(1/25)
ويقول أيضاً : "والرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أرسلوا بالدعوة إلى الله ...، فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً ، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه ، يكلم ملائكته ، ويدبر أمر مملكته ، ويسمع أصوات خلقه ، ويرى أفعالهم حركاتهم ...، ويرضى ويغضب ، ويحب ويسخط ، ويميت ويحيي ، ويمنع ويعطي ، ويغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ... وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة " (2) .
ثمرات الإيمان بصفات الله عز وجل :
اعلم - وفقني الله وإياك - أن العلم بصفات الله عز وجل ، والإيمان بها على ما يليق به سبحانه ، وتدبرها : يورث ثمرات عظيمة وفوائد جليلة ، تجعل صاحبها يذوق حلاوة الإيمان ، وقد رحمها قوم كثيرون من المعطلة والمؤولة والمشبهة ، وإليك بعضاً منها:
1- فمن ثمرات الإيمان بصفات الله عز و جل : أن العبد يسعى إلى الاتصاف والتحلي بها على ما يليق به ؛ لأنه من المعلوم عند أرباب العقول أن المحب يحب أن يتصف بصفات محبوبة ؛ كما ، المحبوب يحب أن يتحلى محبة بصفاته ؛ فهذا يدعو العبد المحب لأن يتصف بصفات محبوبه ومعبوده كل ما يليق . فالله كريم يحب الكرماء ، رحيم يحب الرحماء ، رفيق يحب الرفق . فإذا علم العبد ذلك ؛ سعى إلى التحلي بصفات الكرم والرحمة والرفق ، وهكذا في سائر الصفات التي يحب الله أن يتحلى بها العبد على ما يليق بذات العبد.
2- ومنها : أنه إذا آمن العبد بصفات " العلم ، والإحاطة ، والمعية " ؛ أورثه ذلك الخوف من الله عز وجل المطلع عليه الرقيب الشهيد . فإذا آمن بصفة "السمع" ؛ علم أن الله يسمعه ؛ فلا يقول إلا خيراً .(1/26)
فإذا آمن بصفات " البصر ، والرؤية ، والنظر ، والعين " ؛ علم أن الله يراه ؛ فلا يفعل إلا خيراً ، فما بالك بعبد يعلم أ، الله يسمعه ، ويراه ويعلم ما هو قائله وعامله ، أليس حرى بهذا العبد أن لا يجده الله حيث نهاه ، ولا يفتقده حيث أمره ؟! فإذا علم هذا العبد وآمن أن الله " يحب ويرضى " ؛ عمل ما يحبه معبوده ومحبوبه وما يرضيه . فإذا آمن أن من صفاته " الغضب ، والكره ، والسخط ، المقت ، واللعن " ؛ عمل بما لا يغضب مولاه ولا يكرهه حتى لا يسخط عليه ويقمته ثم يلعنه ويطرده من رحمته . فإذا آمن بصفات "الفرح ، والبشبشة ، والضحك "؛ أنس لهذا الرب الذي يفرح لعباده ويتبشبش لهم ويضحك لهم ؛ ما عدمنا خيراً من رب يضحك.
3- ومنها : أنه إذا علم العبد وآمن بصفات الله من " الرحمة ، والرأفة ، والتوب ، واللطف ، والعفو ، والمغفرة ، والستر ، وإجابة الدعاء " ؛ فإنه لكما وقع في ذنب ؛ دعا الله أن يرحمه ويغفر له ويتوب عليه ، وطمع فيما عند الله من ستر ولطف بعباده المؤمنين ، فأكسبه هذا رجعة وأوبه إلى الله كلما أذنب ولا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً ؛ كيف ييأس من يؤمن بصفات " الصبر ، والحلم " ؟! كيف ييأس من رحمة الله من علم أن الله يتصف بصفة " الكرم ، والجود ، والعطاء " ؟!. .
4- ومنها : أن العبد الذي يعلم أن الله منتصف بصفات " القهر ن والغلبة ، والسلطان ، والقدرة والهيمنة ، والجبروت " ؛ يعلم أن الله لا يعجزه شيء ؛ فهو قادر على أن يخسف به الأرض ، وأن يعذبه في الدنيا في الدنيا قبل الآخرة ؛ فهو القاهر فوق عباده ، وهو الغالب عن غالبه ، وهو المهيمن على عباده ، ذو الملكوت والجبروت والسلطان القديم . فسبحان ربي العظيم .(1/27)
5- ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عز وجل أن يظل العبد دائم السؤال لربه ، فإن أذنب ؛ سأله بصفات " الرحمة ، والتوب ، والعفو ، والمغفرة " أن يرحمه ويتوب عليه ويعفو عنه ويغفر له ، وإن خشي على نفسه من عدو متجهم جبار ؛ سأل الله بصفات " القوة ، والغلبة ، والسلطان ، والقهر والجبروت " ؛ رافعاً يديه إلى السماء قائلاً : يا رب ! يا ذا القوة والسلطان والقهر والجبروت ! اكفنيه . فإن آمن أن الله " كفيل ، حفيظ ، حسيب ، وكيل " ؛ قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، وتوكل على " الواحد ، الأحد ، الصمد " ، وعلم ا، الله ذو " العزة ، والشدة والمحال ، والقوة ، والمنعة " مانعه من أعدائه ، ولن يصلوا إليه بإذنه تعالى .
فإذا ما أصيب بفقر ؛ دعاء الله بصفات " الغني ، والكرم ، والجود ، والعطاء " فإذا أصيب بمرض ؛ دعاه لأنه هو " الطبيب ، الشافي ، الكافي " ، فإن منع الذرية ؛ سأل الله أن يرزقه ويهبه الذرية الصالحة؛ لأنه هو ( الرزاق الوهاب ) ... وهكذا ، فإن من ثمرات العلم بصفات الله والإيمان بها دعاؤه بها .
6- ومنها : أن العبد إذا تدبر صفات الله من " العظمة ، والجلال ، والقوة، والجبروت ، والهيمنة " ؛ استصغر نفسه ، وعلم حقارتها . وإذا علم أن الله مختص بصفة " الكبرياء" ؛ لم يتكبر على أحد ، ولم ينازع الله فيما خص نفسه من الصفات . وإذا علم أن الله متصف بصفة "الغني ، والملك والعطاء " ؛ استشغر افتقاره إلى مولاه الغني ، مالك الملك ، الذي يعطي من يشار ومنع من يشاء ..
7- ومنها :أنه إذا علم أن الله يتصف بصفة "القوة ، والعزة ، والغلبة " ، وآمن بها ؛ علم انه إنما يكتسب قوته من قوة الله ، وعزته من عزة الله ؛ فلا يذل ولا يخنع لكفار ، وعلم أنه إن كان مع الله ؛ كان الله معه ، ولا غالب لأمر الله .(1/28)
8- ومن ثمرات الإيمان بصفات الله : أن لا ينازع العبد الله في صفة "الحكم ، والألوهية"؛ فلا يحكم إلا بما أنزل الله ، ولا يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله .
9- ومنها : أن صفات " الكيد ، والمكر ، والاستهزاء ، والخداع " إذ آمن بها العبد على ما يليق بذات الله وجلاله وعظمته ؛ علم أن لا أحد يستطيع أن يكيد لله أو يمكر به ، وهو خير الماكرين سبحانه ، كما أنه لا أحد من خلقه قادر على أن يستهزئ به أو يخدعه ؛ لأنه الله سيستهزئ به ويخادعه . ومن أثر استهزاء الله بالعبد أن يغضب عليه ويمقته ويعذبه ، فكان الإيمان بهذه الصفات وقاية للعبد من الوقوع في مقت الله وغضبه .
10- ومنها : أن العبد يحرص على ألا ينسى ربه ويترك ذكره ، فإن الله متصف بصفة "النسيان ، والترك " ؛ فالله قادر على أن ينساه - أي : يتركه - ، ( نسوا الله فنسيهم) [التوبة:67] فنجده دائم الذكر لله ، ودائم التذكر لأوامره ونواهيه .
11- ومنها : أن العبد الذي لا يعلم أن الله متصف بصفة " السلام ، المؤمن ، والصدق " ؛فإن يشعر بالطمأنينة والهدوء النفسي ؛ فالله هو السلام ، ويحب السلام ، وينشر السلام بين المؤمنين ، وهو المؤمن الذي أمن الخلق من ظلمه .
وإذا اعتقد العبد أن الله متصف بصفة " الصدق " ، وأنه وعده إن هو عمل صالحاً جنات تجري من تحتها الأنهار ؛ علم أن الله صادق في وعده ، لن يخلفه ، فيدفعه هذا لمزيد من الطاعة ؛ طاعة من يثق أنه إن جد وجد ، وإن زرع حصد .(1/29)
12- ومنها : أن صفات الله الخبرية كـ "الوجه ، واليدين ، والأصابع ، والأنامل ، والقدمين، والساق ، وغيرها " تكون كالاختبار الصعب للعباد ، فمن آمن بها وصدق بها عل وجه يليق بذات الله عز وجل بلا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف ، وقال : كل منه عند ربنا ، ولا فرق بين إثبات صفة العلم والحياة والقدرة وبين هذه الصفات ، ومن هذا إيمانه ومعتقده ؛ فقد فاز فوزاً عظيماً . ومن قدم عقله السقيم على النقل الصحيح ، وأول هذه الصفات ، وجعلها من المجاز ، وحرف فيها ، وعطلها ؛ فقد خسر خسراناً مبيناً ؛ إذ فرق بين صفة وصفة ، وكذب الله فيما وصف به نفسه ، وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلو لم يكن من ثمرة الإيمان بهذه الصفات إلا أن تدخل صاحبها في زمرة المؤمنين ؛ لكفى بها ثمرة .
ولو لم يكن من ثمراتها إلا أنها تميز المؤمن الحق الموحد المصدق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبين ذاك الذي تجرأ عليهما ، وحرف نصوصهما ، واستدرك عليهما ؛ فكيف إذا علمت أن هناك ثمرات أخرى عظيمة للإيمان بهذه الصفات الخبرية ؛ منها أنك إذا آمنت لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته ، وأن النظر غليه من أعظم ما ينعم الله على عبده يوم القيامة ، وقد وعد به عباده الصالحين ؛ سألت الله النظر إلى وجهه الكريم ، فأعطاكه ، وأنك إذا آمنت أن لله يداً ملأى لا يغيضها نفقة ، وأن الخير بين يديه سبحانه ؛ سألته مما بين يديه . وإذا علمت أن قلبك بين أصبعين من أصابع الرحمن ؛ سألت الله أن يثبت قلبك على دينه ... وهكذا .
13- ومن ثمرات الإيمان بصفات الله عز وجل : تنزيه الله وتقديسه عن النقائص ، ووصفه بصفات الكمال ، فمن علم أن من صفاته "القدوس ، السبوح " ؛ نزه الله من كل عيب ونقص ، وعلم أن الله ( ليس كمثله شيء ) .
14- ومنها : أن العبد الذي يؤمن أن من صفات الله الخاصة به "المصور" ؛ فإنه لا يحاول مضاهاة الله في ذلك ، ولا منازعته فيه ، فيبتعد عن التصوير المحرم من ذوات الأرواح .(1/30)
15- ومنها : أن من علم أن من صفات الله " الحياة ، والبقاء " ؛ علم أن يعبد إلهاً لا يموت ، ولا تأخذه سنة ولا نوم ، أورثه ذلك محبة وتعظيماً وإجلالاً لهذا الرب الذي هذه صفته .
16- ومن ثمرات الإيمان بصفة " العلو ، والفوقية ، والاستواء على العرش ، والنزول ، والقرب ، والدنو "؛ أن العبد يعمل ا، الله منزه - عز وجل - عن الحلو بالمخلوقات ، وأنه فوق كل شيء ، بائن عن خلقه ، مستو على عرشه وهو قريب من عبده بعلمه . فإذا احتاج العبد إلى ربه ؛ وجده قريباً منه ، فيدعوه ، فيستحب دعاءه . وينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من الليل - كما يليق به سبحانه - فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، فيورث ذلك حرصاً عند العبد بتفقد هذه الأوقات التي يخلو فيها مع ربه القريب منه . فهو سبحانه قريب في علوه ، بعيد في دنوه .
17- ومنها : أن الإيمان بصفة "الكلام" وأن القرآن كلام الله يجعل العبد يستشعر وهو يقرأ القرآن أنه يقرأ كلام الله . فإذا قرأ : لا ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم)؛ أحس أن الله يكلمه ويتحدث إليه ، فيطير قلبه وجلا ، وأنه إذا آمن بهذه الصفة ، وقرأ في الحديث الصحيح أن الله سيكلمه يوم القيامة ، ليس بينه وبينه ترجمان ؛ استحى أن يعصي الله في الدنيا ، وأعد لذلك الحساب والسؤال جواباً .
وهكذا ؛ فما من صفة لله تعالى ؛ إلا وللإيمان بها ثمرات عظيمة وآثار كبيرة مترتبة على ذلك الإيمان . فما أعظم نعم الله على أهل السنة والجماعة الذين آمنوا بكل ذلك على الوجه الذي يليق بالله تعالى (1)
كلمة التوحيد " لا إله إلا الله محمد رسول الله "
معناها وشروطها
ومعناها : لا معبود بحق إلا الله ، وبذلك تنفي الإلهية عما سوى الله وتثبتها لله وحده (2) .(1/31)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله ، والتقرب إليه بما يحبه ، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه ، وهذا حقيقة "لا إله إلا الله " وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين " (3) أما شقها الثاني "محمد رسولا لله" فمعناه تجريد متابعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر .
ومن هنا كانت "لا إله إلا الله " ولاء وبراءة ، نفياً وإثباتاً .
ولاء لله ولدينه وكتابه وسنة نبيه وعبادة الصالحين .
وبراء من كل طاغوت عبد من دون الله (4) ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [البقرة:256].
وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب : " واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت والدليل هذه الآية (5) يعني الآية السابقة 256 سورة البقرة.
وكلمة التوحيد ولاء لشرع الله : ( اتبعوا ما أنزل غليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ) [3:الأعراف]
( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها ) [30:الروم]
وبراء من حكم الجاهلية : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) [50:المائدة] .
وبراء من كل دين غير دين الإسلام : ( ومن يبغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [85:آل عمران]
ثم هي نفي وإثبات تنفي أربعة أمور . وتثبت أربعة أمور .
"تنفي : الآلهة ، والطواغيت ، والأنداد ،و الأرباب " .
فالآلهة : ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر ، أنت متخذه إلهاً.
والطواغيت : من عبد وهو راض ، أو رشح للعبادة .
والأنداد : ما جذبك عن دين الإسلام ، من أهل ، أو مسكن ، أو عشيرة ، أو مال : فهو ند ، لقوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ) [165:البقرة].(1/32)
والأرباب : من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته ، مصداقاً لقوله تعالى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) [31:التوبة] .
وتثبت أربعة أمور : القصد : وهو كونك ما تقصد إلا الله .
والتعظيم والمحبة : لقوله تعالى : ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) [165:البقرة] .
والخوف والرجاء : لقوله تعالى : ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) [107:يونس].
فمن عرف هذا قطع العلاقة مع غير الله ولا تكبر عليه جهامة الباطل ، كما أخبر تعالى عن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام بتكسير الأصنام ، وتبريه من قومه : (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [4:الممتحنة] (1).
ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى لا إله إلا الله ، بنفى الشرك وتوابعه ، ويقرر الإخلاص وشرائعه ، فكل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلول كلمة الإخلاص ، لأن دلالتها على الدين كله إما مطابقة وإما تضمناً وإما التزاماً(2) ، يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى .
والتقوى : أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي ، وإخلاص العبادة لله ، وإتباع أمره على ما شرعه . كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - " أن تعمل بطاعة الله ، على
نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله ، تخاف عقاب الله" (1)(1/33)
أما كيف تم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة هذه الكلمة والتزام أحكامها والعمل بمقتضياتها ولوازمها فيشرح ذلك الإمام الجليل سفيان بن عيينة : حدث محمد بن عبد الملك المصيصي قال : كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة ، فسأله رجل عن الإيمان ظ فقال : قول وعمل . قال : يزيد وينقص ؟ قال : يزيد ما شاء الله ، ويقنص حتى لا يبقى منه مثل هذه ، وأشار سفيان بيده . قال الرجل : كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون : إن الإيمان قول بلا عمل ؟ قال سفيان : كان القول قولهم قبل أ، تقرر أحكام الإيمان وحدوده .
إن الله عز وجل بعث نبيناً محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا : لا إله إلا الله ، وأنه رسول الله . فملا قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم ، أمره أن يأمرهم بالصلاة ، فأمرهم ففعلوا فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم .(1/34)
فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا ، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ، فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم ، ويصلوا صلاتهم ويهاجروا هجرتهم ، فأمرهم ففعلوا ، حتى أتى أحدهم برأس أبيه فقال : يا رسول الله : هذا رأس شيخ الكافرين ، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ، ولا قتالهم ، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً ، وأن يحلقوا رؤوسهم تذللاً ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ، ولا صلاتهم ، ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم ، فلم علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها ، فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها ، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ، ولا هجرتهم ، ولا قتلهم آباءهم ولا طوافهم . فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهما من شرائع الإيمان وحدوده قال عز و جل : قل لهم : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) [3:المائدة].
قال سفيان : فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافراً ، ومن تركها كسلاً أو تهاوناً بها ، أدبناه وكان بها عندنا ناقصاً . هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس (2)
شروط " لا إله إلا الله " :
ذكر العلماء رحمهم الله شروطاً سبعة لـ "لا إله إلا الله " لا تنفع صاحبها إلا باجتماع هذه الشروط فيه . وإليك شرحها :
ينبغي أن نعلم أن " ليس المراد من هذا عد ألفاظها وحفظها ، فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها ، ولو قيل له أعددها لم يحسن ذلك ، وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم ، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله" (1) .(1/35)
وقد قال وهب بن منبه لمن سأله : أليس " لا إله إلا الله " مفتاح الجنة ؟ قال : بلى . ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح لك (2) .
وأسنان هذا المفتاح هي شروط " لا إله إلا الله " الآتية :-
الشرط الأول : العلم بمعناه المراد منها نفياً وإثباتاً ، المنافي للجهل بذلك قال تعالى : (فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [19:محمد] .
وقال : (إلا من شهد بالحق ) [86:الزخرف].
أي : بلا إله إلا الله : "وهم يعلمون " بقلوبهم ما نطقوا به ألسنتهم .
وقال تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) [18:آل عمران] .
وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة" (3)
الشرط الثاني : اليقين المنافي للشك . ومعنى ذلك : أن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة ، يقينا جازماً ، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن (4)قال تعالى : (إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) [15:الحجرات] .
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " (5) وفي رواية " لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة ". وعن أبي هريرة أيضاً من حديث طويل " من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة "(6) .(1/36)
وقال القرطبي : في " المفهم على صحيح مسلم " : " باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين ، بل لابد من استيقان القلب . وهذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان ، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده . بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها ، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق ، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعاً " (1).
الشرط الثالث : القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه ، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها ، وانتقامه ممن ردها وأباها كما قال تعالى : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مفتدون ، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ). [23:25الزخرف] .
وقال تعالى : ( ثم ننجي رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين ) [103:يونس]
ويقول تعالى : ( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، ويقولون أءنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون ) (2) [35-36 الصافات] .
الشرط الرابع : الانقياد لما دلت عليه ، المنافي لترك ذلك .
قال تعالى : ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) [54 الزمر] .
قوال : ( ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ) [125 النساء].
وقال : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [22:لقمان] أي بلا إله إلا الله .
وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [65:النساء] .(1/37)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها : يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً ، ولهذا قال : " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما " أي : إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حجراً مما حكمت به ، ويناقدون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ، ولا منازعة (3) .
الشرط الخامس : الصدق المنافي للكذب ، وهو أن يقولها صدقاً من قلبه ، يواطئ قلبه لسانه ، قال تعالى : ( ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا بالله وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [العنكبوت 1-3] (1)
وقال تعالى : ( ومن الناس من يقول أمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) [1-8 البقرة] .
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " (2)
قال العلامة ابن القيم : " والتصديق بلا إله إلا الله يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقهم وهي شرائع الإسلام التي هفي تفضيل هذه الكلمة بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه .. فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله ، ومعلوم أن عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها ، وكذلك النجاة من العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبحقها " (3) .
وفي الحديث : قال صلى الله عليه وسلم "شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه "(4) .(1/38)
وقال ابن رجب : " من قال لا إله إلا الله بلسانه ، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله ، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى " .
( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) [القصص:50].
( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) (5) [ص:26] .
الشرط السادس : الإخلاص ، وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك (6) قال تعالى ( ألا لله الدين الخالص ) [3 الزمر] .
وقال تعالى : ( وما أمرو إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) [5 البينة] .
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه " : أو نفسه (7) .
وفي الصحيح عن عتبان بن مالك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل " (1)
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : " إن العمل إن العمل إذا كان خالصاً لله ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً . والخاص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة " (2) .
ولقد ضرب الله سبحانه في القرآن العظيم مثلاً واضحاً للمخلص في توحيده وللمشرك قال تعالى : ( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً) [29:الزمر] .(1/39)
" فهذا مثل يضربه الله للعبد الموحد والعبد المشرك ، بعبد يملكه شركاء يخاصم بعهم بعضاً فيه ، وهو بينهم موزع ، ولكل منهم فيه توجيه ، ولكل منهم عليه تكليف ، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ولا يملك أن يرضى أهواءهم المتنازعة المتشاكسة.. وعبد يملكه سيد واحد ، وهو يعلم ما يطلبه منه ، ويكلفه به ، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح " ( هل يستويان ) ؟ لا . لأن الذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين ، وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ، ووضع الطريق والذي يخضع لسادة مشتركين معذب مقلقل ، لا يستقر على حال ، ولا يرضى واحداً منهم فضلاً عن أن يرضى الجميع . وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد ، وحقيقة الشرك في جميع الأحوال . فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يسير على هدى من الله يستمد منه وحده ويتجه إليه وحده".
ويقول الشيخ القاسمي رحمه الله : " إن القصد هو توحيد المعبود في توحيد الوجهة ، ودرء الفرقة كما قال تعالى : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (3) [39:يوسف].
إن الإسلام لابد فيه من الاستسلام لله وحده ، وترك الاستسلام لما سواه وهذا حقيقة "لا إله إلا الله" فمن أسلم لله ولغير الله فهو مشرك ، والله لا يغفر أن يشرك به ، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته وقد قال تعالى : ( إن الذين يستكبرون عن عباداتي سيدخلون جهنم داخرين) (4) [60:غافر] .
العاملين بها الملتزمين لشروطها ، وبعض ما ناقض ذلك ، قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حباً لله ) (5) [165:البقرة] .
وقال تعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبونهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) [54:المائدة].(1/40)
وفي الحديث : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب غليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذ الله منه كما يكره أن يقذف في النار " (1) .
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله : " وعلامة حب العبد ربه : تقديم محابه وإن خالفت هواه ، وبغض ما يبغض ربه وإن مال غليه هواه ، وموالاة من والى الله ورسوله . ومعاداة من عاداه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، واقتفاء أثره وقبول هداه " (2)
ويقول ابن القيم في النونية :
شرط المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا عصيان فإذا دعيت له المحبة مع خلافك ما يحب فأنت ذو بهتان أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في إمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان ليس العبادة غير توحيد المحبة مع خضوع القلب والأركان إلى أن يقول :
ولقد رأينا من فرق يدعى سلام شركا ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم وسو وهم في الحب لا السلطان (3)
آثار الإقرار بلا إله إلا الله في حياة الإنسان :
(1) إن المؤمن بهذه الكلمة لا يكون ضيق النظر ، بخلاف من يقول بآلة متعددة ، أو من يجحدها.
(2) إن الإيمان بهذه الكلمة ينشيء في النفس من الأنفة وعزة النفس ما لا يقوم دونه شيء ؛ لأنه لا نافع إلا الله ولا ضار إلا الله ، وهو المحيي المميت ، وهو صاحب الحكم والسلطة والسيادة . من ثم ينزع من القلب كل خوف إلا منه سبحانه فلا يطأطيء الرأس أمام أحد من الخلق ، ولا يتضرع إليه ، ولا يتكفف له ، ولا يرتعب من كبريائه وعظمته ؛ لن الله هو العظيم القادر ، وهذا بخلاف المشرك والكفار والملحد .(1/41)
(3) ينشأ من الإيمان بهذه الكلمة مع أنفة النفس وعزتها : تواضع من غير ذلك ، وترفع من غير كبر ، فلا يكاد ينفخ أوداجه شيطان الغرور ويزهيه بقوته وكفاءته ؛ لأنه يعلم ويستيقن أن الله الذي وهبه كل ما عنده قادر على سلبه إياه إذا شاء ، أما الملحد فإنه يتكبر ويتبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة .
(4) المؤمن بهذه الكلمة : يعلم علم اليقين أنه لا سبيل على النجاة والفلاح إلا بتزكية النفس والعمل الصالح ، أما المشركون والكفار فإنهم يقضون حياتهم على أماني كاذبة . فمنهم من يقول . إن ابن الله قد أصبح كفارة عن ذنوبنا ، عند أبيه ، ومنهم من يقول ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) فلن يعذبنا بذنوبنا . منهم من يقول : إنا سنستشفع عند الله بكبرائنا وأتقيائنا . ومنهم من يقدم النذور والقرابين إلى آلهته زاعماً أنه قد نال بذلك رخصة في العمل بما يشاء . أما الملحد الذي لا يؤمن بالله يعتقد أنه حر في هذه الدنيا غير مقيد بشرع الله ، وإنما إلهه هواه وشهوته وهو عبدهما .
(5) قائل هذه الكلمة لا يتسرب إليه اليأس ، ولا يقعد به القنوط ؛ لأنه يؤمن أن الله له خزائن السموات والأرض . ومن ثم فهو على طمأنينة وسكينة وأمل ، حتى ولو طرد وأهين وضاقت عليه سبل العيش .
إن عين الله لا تغفل عنه ولا تسلمه إلى نفسه ، وهو يبذل جهده متوكلاً على الله ، بخلاف الكفار الذي يعتمدون على قواهم المحدودة ، وسرعان ما يدب لهم اليأس ، ويساورهم القنوط عند الشدائد ؛ مما يفضي بهم أحياناً إلى الانتحار.
(6) الإيمان بهذه الكلمة يربي الإنسان على قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل ، حينما يضطلع بمعالي الأمور إبتغاء مرضاة الله .
إنه يشعر أن وراءه قوة مالك السماء والأرض ؛فيكون ثباته ورسوخه وصلابته التي يستمدها من هذا التصور ، كالجبال الراسية ، وأني للكفر والشرك بمثل هذه القوة والثبات ؟! .(1/42)
(7) هذه الكلمة تشجع الإنسان وتملأ قلبه جرأة ؛ لأن الذي يجبن الإنسان ويوهن عزمه شيئاً: حبه للنفس والمال والأهل ، أو اعتقاده أن هناك أحداً غير الله يميت الإنسان . فإيمان المرء بلا غله إلا الله ينزع عن قلبه كلا من هذين السببين ؛ فيجعله موقناً أن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله ، فعندئذ يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده . وينزع الثاني بأن يلقى في روعه أن لا يقدر على سلب الحياة منه إنسان ولا حيوان ولا قنبلة ولا مدفع ، ولا سيف ولا حجر ، وإنما يقدر على ذلك الله وحده .
من أجل ذلك لا يكون في الدنيا أشجع ولا أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى ، فلا يكاد يخيفه أو ثبت في وجهه زحف الجيوش ، ولا السيوف المسلولة ، ولا مطر الرصاصات والقنابل ، فإنه عندما يتقدم في سبيل الله للجهاد ، يهزم قوة تزيد على قوته بعشر مرات ، وأني بمثل هذا للمشركين الكفار والملحدين ؟!.
(8) الإيمان بلا إله إلا الله يرفع قدر الإنسان وينشىء فيه الترفع والقناعة والاستغناء ، ويطهر قلبه من أوساخ الطمع والشره والحسد والدناءة واللؤم ، وغيرها من الصفات القبيحة .
(9) وأهم شيء وأجدره في هذا الصدد : أن الإيمان بـ "لا إله إلا الله " يجعل الإنسان مقتدياً بشرع الله ومحافظاً عليه ، فإن المؤمن يعتقد بيقين أن الله خبير بكل شيء ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد وأنه إن كان يستطيع أن يفلت من بطش أي كان ؛ فإنه لا يستطيع أن يفلت من الله عز وجل . وعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان يكون متبعاً لأحكام الله ، قائماً عند حدوده ، لا يجرؤ على اقتراف ما حرم الله ، ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله .(1/43)
ومن أجل ذلك جعل الإيمان بلا إله إلا الله أول ركن وأهمه ؛ ليكون الإنسان مسلماً والمسلم هو : العبد المطيع المنقاد لله تعالى ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان مؤمناً من قلبه بأن لا إله إلا الله ، وهذا هو أصل الإسلام ، ومصدر قوته ، وكل ما عداه من معتقدات الإسلام وأحكامه إنما هي مبنية عليه ، ولا تستمد قوتها إلا منه ، والإسلام لا يبقى منه شيء لو زال هذا الأساس .
(10) ومن فضائلها ما ذكره ابن رجب ، حيث أورد قول سفيان بن عيينة : ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله ، وأن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ، ولأجلها أعدت دار الثواب ودار العقاب ، ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد ، فمن قالها عصم ماله ودمه ، ومن أباها فماله ودمه هدر ، وهي مفتاح الجنة ، ومفتاح دعوة الرسل (1)
(1) " التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير " ص : (30 ) وانظر كتاب شيخنا عبد الرزاق العباد " القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد " ص (26 )
(1) "أضواء البيان " ( 3 / 410 - 414 )
(2) " تيسير العزيز الحميد " ص : ( 33 ) .
(1) " مدارج السالكين " ( 3 / 499 ) .
(1) " تفسير السعدي " ( 1 / 14 ).
(2) " مدارج السالكين " ( 3 / 510 ) .
(3) انظر " تيسير العزيز الحميد " ص : ( 35 ).
(4) انظر " تيسير العزيز الحميد " ص : ( 36 ).
(5) "أعلام السنة المنشورة " ص : ( 40 ) .
(1) "منهاج السنة" (3/490)
(2) "طريق الهجرتين" ص(57 ، 58 )
(3) "تيسير العزيز الحميد " ص (36)
(4) "القواعد الحسان" ص: (192)
(4) " مفردات ألفاظ القرآن " ص : ( 542 )
(1) لسان العرب ( 3 / 273 ) مادة : " عبد "
(2) لسان العرب ( 3 / 271 ) ، مادة : " عبد "
(3) انظر مدارج السالكين ( 1 / 125 )
(4) أنظر مدارج السالكين ( 1 / 126 )
(5) مدارج السالكين ( 1 / 127 )
(1) انظر " تقريب التدمرية " لابن عثيمين ص : 1290(1/44)
(2) انظر " المجموع الثمين من فتاوى العثيمين " 2 / 25
(3) انظر " " تقريب التدمرية " لابن عثيمين 129
(4) هذا التعريف لشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة " العبودية ضمن مجموعة التوحيد (2/454 )
(5) مدراج السالكين لابن القيم ( 1 / 120- 121 ) وانظر تطهير الاعتقاد ص : (11)
(1) انظر " فتح المجيد " ص ( 173 )
(2) انظر : فتح المجيد ص : ( 176 ) ، " والدر النضيد " للشوكاني ص : ( 144 )
(3) أخرجه الإمام أحمد في " مسنده " ( 4/267 ، 271 ، 276 ) وابو داود في سننه كتاب الصلاة ( 1479 ) - والترمذي في " سننه " في كتاب تفسير القرآن رقم : 3247 - وفي كاب الدعوات رقم ( 3372 ) - وقال في الموضعين : " هذا حديث حسن صحيح " وأخرجه بن ماجة في سننه كتاب الدعاء باب فضل الدعاء رقم : ( 3828 ) ولحاكم في مستدركه - كتاب الدعاء - رقم ( 1802 - 1803 - 1804 ) وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي 0- ثم اخرج عن عباس موقوفاً قوله أفضل العبادة هو الدعاء ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
(4) وقد أورد عنه الإمام البخاري في كتابه خلق أفعال العباد ص 143 كلاماً نحو هذا فقال : " وقال نعيم بن حماد الخزاعي : لا يستعاذ بالمخلوق وبكلام العباد والجن والإنس والملائكة وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق وأن سواه مخلوق " اهـ
(5) ويعني بها أحاديث الاستعاذة بكلمات الله والسؤال بأسمائه كحديث " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " وحديث " باسم الله ارقيك " فالأول عند أبي داود برمق 3898 وصححه النووي في الأذكار ص : 127 - والثاني عند مسلم برقم 2186 .
(6) ورد هذا الجزء من الآية في عدة آيات من السور : الأعراف : 200 ، النحل : 98 ، غافر : 56 ، فصلت 36
(1) التوحيد لابن خزيمة ( 1/401 - 402 )
(2) " صحيح البخاري " انظره مع شرح " فتح الباري " ( 13 / 390 - 391 )
(3) " خلق أفعال العباد " ص : 195
(1) مدارج السالكين ( 1 / )224
(2) مدراج السالكين ( 3 / 28 )(1/45)
(3) قاعدة في المحبة ضمن " جامع الرسائل " ( 2 م 284 )
(4) مدارج السالكين ( 3 / 21 )
(1) نظر " مدارج السالكين " ( 1 / 119 )
(3) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن مسعود وأحمد في المسند وابن أبي شيبة في الإيمان من حديث البراء وقد حسنه الشيخ الألباني
(2) قاعدة في المحبة ضمن " جامع الرسائل " 2 / 287 - 288
(4) انظر " جامع البيان " للطبري ( 3/3/232 ) و " مدارج السالكين " ( 1/119)
(5) " الفروق في اللغة " لأبي هلال العسكري ص 215
(1) " مدارج السالكين " ( 1/128)
(2) انظر " شرح الكوكب المنير " (3/521) - و " أضواء البيان " ( 1/41 - 42 ) .
(3) انظر : أضواء البيان (1/41 - 42 )
(4) " جامع البيان" لابن جرير الطبري (13/25/106 )
(5) "مفردات ألفاظ القرآن " للراغب ص ( 542)
(6) انظر : رسالة الشرك ومظاهره ص : (88)
(1) "الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص : (215)
(2) تفسير ابن كثير (1/75 )
(1) " جامع البيان " للطبري ( 8/13/158 - 159 )
(2) "جامع البيان" للطبري (3/3/8)
(3) أنظر : " جامع البيان " للطبري ( 3/3/8)
(4) انظر : "جامع البيان" للطبري (3/3/9)
(5) ما تقدم من الكلام عن معنى العبادة وإطلاقها مستفاد من كتاب منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى - تأليف / خالد بن عبد اللطيف .
(1) "تيسير العزيز الحميد" ص (34 ، 35 )
(2) "فتاوى الشيخ العثيمين" (2/112 ، 113)
(3) انظر "منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات " للشيخ الأمين الشنقيطي ص : (3 - 5 )
(1) انظر "فتح رب البرية بتلخيص الحموية " لشيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله ونفع بعلمه .
(1) " فتح رب البرية بتلخيص الحموية " ص (54 - 56 )
(2) "المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة " ( 1/277 )
(1) "مدارج السالكين" ( 3/347)
(2) "مدارج السالكين " (3/348/ ن 349 ) باختصار .(1/46)
(1) نقلاً عن كتاب " صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة " لعلوي بن عبد القادر ص (31 - 36)
(2) انظر فتح المجيد ص : (36)
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/32
(4) عرف ابن القيم الطاغوت تعريفاً جامعاً فقال : " الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصير من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله".
انظر " فتح المجيد" لعبد الرحمن بن حسن ص : (16)
(5) الدرر السنية : (1/95) جمع عبد الرحمن بن قاسم .
(1) بضع رسائل في عقائد الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب .
(2) دلالة المطابقة : هي دلالة اللفظ على كل معناه .
دلالة التضمن : هي دلالة اللفظ على جزء من معناه .
دلالة الالتزام : هي دلالة اللفظ على معنى خارج عنه لكنه لازم له .
(1) انظر " المورد العذب الزلال " ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية .
(2) كتاب "الشريعة" لأبي بكر محمد بن الحسين الأجري ص : (104)
(1) معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي (1/377) .
(2) رواه البخاري تعليقاً في كتاب الجنائز باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ص (3/109)
(3) معارج القبول (1/378) وانظر الجامع الفريد ص : (356) . والحديث مروي في "صحيح مسلم" : كتاب الإيمان (1/55)
(4) معارج القبول (1/378)
(5) صحيح مسلم كتاب الإيمان (1/56)
(6) صحيح مسلم كتاب الإيمان (1/60)
(1) فتح المجيد ص : (36) .
(2) معارج القبول : (1/380)
(3) تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (2/306)
(1) معارج القبول (1/381) .
(2) صحيح البخاري / كتاب العلم ( 1/266)
(3) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص : (43)
(4) أخرجه الحاكم في كتاب الإيمان من مستدركه (1/70) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(5) كلمة الإخلاص : (28)
(6) معارج القبول (1/382) وانظر الجمع الفريد ص : )356) .(1/47)
(7) صحيح البخاري كتاب العلم باب الحرص على الحديث ج 1/193 ج99
(1) صحيح مسلم كتاب المساجد (1/456)
(2) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 451
(3) "محاسن التأويل" للشيخ محمد جمال الدين القاسمي (4/5138) .
(4) انظر "اقتضاء الصراط المستقيم " ص : 454 و"التحفة العراقية " لشيخ الإسلام ابن تيمة ص : (41 ) .
(5) "أعلام السنة المنشورة " لحافظ الحكمي ص : (14)
(1) "صحيح البخاري " كتاب الإيمان (1/60) و"صحيح مسلم" كتاب الإيمان (1/66).
(2) " معارج القبول" (1/383).
(3) "النونية" ص : (158)
(1) كلمة الإخلاص ص (53) لابن رجب وانظر حول آثار "لا إله إلا الله" ، "معنى لا إله إلا الله " . للشيخ صالح الفوزان ص(40) ومنهاج الفرقة الناجية للشيخ محمد جميل زينو ص : (35) والولاء والبراء - للشيخ محمد بن سعيد القحطاني .
??
??
??
??
13(1/48)