لا دفاعا عن الالباني فحسب بل دفاعا عن السلفية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ،بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ،أما بعد:
فهذه فصول من كتاب ( لا دفاعا عن الالباني فحسب بل دفاعا عن السلفية ) لمؤلفه الشيخ ( عمروبن عبدالمنعم سليم ) في رده على السقاف و افتراءاته على السلف الصالح.
(****الفصل الأول*****)
(نسبة التأويل إلى الصحابة رضي الله عنهم والتابعين – رحمهم الله – وبيان عدم ثبوت ذلك عنهم )
حاول السقاف إثبات مذهب الرديء ، وطريقته المبتدعة في تأويل النصوص الشرعية الواردة في الصفات بنسبة هذا المذهب إلى الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعين – رحمهم الله تعالى – وحاشاهم أن يثبت عنهم ذلك . فقال في مقدمة تعليقه على كتاب ابن الجوزي (( دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه )) – وهو كتاب خالف قيه ابن الجوزي مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات واعتقادهم فيها(1) – ( أوَّل ابن عباس قوله تعالى :{ يوم يكشف عن ساق } فقال : يكشف عن شدة ، فأول الساق بالشدة ، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (( فتح البارى )) ( 13/ 428) ، والحافظ ابن جرير الطبرى في تفسيره ( 29/38 ) ، حيث قال في صدر كلامه على هذه الآية : (( قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل : يبدو عن أمر شديد )) . قلت : ومنه سيتضح أن التأويل كان عند الصحابة والتابعين وهم سلفنا الصالح . قلت : ونقل ذلك الحافظ ابن جرير أيضاً عن : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغيرهم ) .
?(1/1)
قلت : هذا الذي نقله السقاف ونسبه إلى ابن عباس وجماعة من التابعين لا يصح عنهم وإليك ما ورد عنهم في ذلك ، مع بيان علل طرق كل خبر من هذه الأخبار .
? خبر ابن عبدا ? في ذلك(2) : وقد ورد عنه من طرق :
? الأول : ما رواه ابن جرير في (( التفسير ))(29/24) ، والحاكم في (( المستدرك )) (2/499) ، والبيهقي في (( الأسماء والصفات )) (746) من طريق : ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يوم يكشف عن ساق } . قال : (( هو يوم كرب وشدة )) . ولفظه عند البيهقي : (( هذا يوم كرب وشدة )) وصححه الحاكم .
? قلت : بل هذا سند ضعيف ، ففيه أسامة بن زيد ، وهو وإن كان ابن أسلم أو الليثى فكلاهما ضعيف لا يحتج به ، إلا أن ابن أسلم ضعيف جداً . وأما الليثى : فقال أحمد : (( ليس بشىء )) ، وقال عبد الله بن أحمد ، عن أبيه : (( روى عن نافع أحاديث مناكير )) ، فقلت له : (( أُراه حسن الحديث )) ، فقال :(( إن تدبرت حديثه فستعرف فيه النكرة )) . وقال ابن معين في بعض الروايات : (( ثقة )) ، وزاد في رواية الدورى : (( غير حجة )) ، أى أنه ثقة من حيث العدالة ، إلا أنه ضعيف من حيث الضبط ، وبسط الكلام في حاله يطول.
? الثاني : ما رواه ابن جرير في (( تفسيره )) (29/24) ، والبيهقى في (( الأسماء والصفات )) من طريق : محمد بن سعد بن الحسين بن عطية ، حدثني أبي ، حدثني الحسين ين الحسن بن عطية ، حدثني أبي ، عن جدي عطية ابن سعد ، عن ابن عباس : في قوله : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود } يقول :((يكشف الأمر ، وتبدو الأعمال ، كشفه دخول الآخرة ، وكشف الأمر عنه)).
?(1/2)
قلت : أما محمد بن سعد فهو ابن محمد الحسين ، قال الخطيب – كما في (( الميزان )) (3/560) - : (( كان ليناً في الحديث )) . وأما أبوه سعد بن محمد بن الحسين العوفى فله ترجمة في (( تاريخ بغداد ))(9/127) ، وفيه نقل الخطيب البغدادى عن الأثرم قوله : قلت لأبي عبد الله – ( أي الإمام أحمد ) – أخبرني اليوم إنسان بشيء عجب ، زعم أن فلانا أمر بالكتابة عن سعد بن العوفى ، وقال: هو أوثق الناس في الحديث ، فاستعظم ذاك أبو عبدالله جداً ، وقال : لا إله إلا الله ، سبحان الله ، ذاك جهمي امتحن أول شيء قبل أن يُخَوّفوا ، وقبل أن يكون ترهيب ، فأجابهم ؟! قلت لأبي عبدالله : فهذا جهمي إذاً ؟ فقال : فأي شيء ؟! ، ثم قال أبو عبدالله : (( لو لم يكن هذا أيضاً لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه ، ولا كان موضعاً لذلك )) . والحسين بن الحسن العوفى له ترجمة في (( تاريخ بغداد ))(8/29) ، وقد ضعفه ابن معين النسائي . والحسن بن عطية بن سعد العوفى وأبوه كلاهما من رجال التهذيب ، وهما ضعيفان، والأخير مدلس .
? الثالث : ما رواه ابن جرير في (( تفسيره ))(29/24) : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سيفان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس : { يوم يكشف عن ساق } قال : (( عن أمر عظيم ، كقول الشاعر : وقامت الحرب بنا على ساق )) .
? وسنده ضعيف ، فيه شيخ ابن جرير ، وهو محمد بن حميد وهو ضعيف الحديث ، وإبراهيم النخعى لم يدرك ابن عباس ومهران بن أبي عمر شيئ الحفظ . وقد اختلف فيه على مهران : فرواه ابن جرير عن ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن سعيد بن جبير ، قال : عن شدة الأمر . وهذا يدل على الاضطراب فيه .(1/3)
*الرابع : ما رواه ابن جرير في (( تفسيره ))(29/24) ، والبيهقى في (( الأسماء والصفات )) من طريق : أبى صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : قوله :{ يوم يكشف عن ساق } قال : (( هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة )) .
قلت : فيه أبو صالح عبدالله بن صالح – كاتب الليث – وهو ضعيف من قبل حفظه ، وعلى هو ابن أبي طلحة ، روى عن ابن عباس ولم يسمع منه ، فهو منقطع .
الخامس : ما رواه ابن جرير الطبري في (( تفسيره ))(29/24) : حُدَّثت عن الحسين ، قال سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله :{ يوم يكشف عن ساق } – وكان ابن عباس يقول : (( كان أهل الجاهلية يقولون : شمرت الحرب عن ساق )) - : (( يعني إقبال الآخرة وذهاب الدنيا )) .
وسنده ضعيف لجهالة شيخ ابن جرير، ورواية الضحاك عن ابن عباس منقطعة، ثم ليس هو من مسند ابن عباس ، وإنما هو من قول الضحاك .
السادس : ما رواه الطستى في (( مسائله عن ابن عباس )) – كما في (( الدر المنثور ))(8/254) – أن نافع بن الأزرق سأله عنم قوله : { يوم يكشف عن ساق } قال : (( عن شدة الآخرة )) . وقد أورده السيوطى في (( الإتقان ))(1/120) من طريق الطستى : حدثنا أبو سهل السرى بن سهل الجند يسابورى ، حدثنا يحيى بن أبي عبيدة بحر بن فروخ الملكى ، أخبرنا سعيد بن أبي سعيد ، أخبرنا عيسى بن داب ، عن حميد الأعرج ، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد ، عن أبيه ، عن نافع به ، وفيه قصة .
قلت : وهذه القصة موضوعة ، فإن حميداً الأعرج ضعيف جداً ، وله ترجمة في ((التهذيب )) ، وعيسى بن داب ، هو ابن يزيد بن داب ، قال الذهبي في ((الميزان))(33/328) : (( كان أخبارياً علامة نسابة ، لكن حديثه واه ، قال خلف الأحمر : كان يضع الحديث ، وقال البخاري وغيره : منكر الحديث ، وقال أبو حاتم : منكر الحديث )) . وفي الإسناد لم أعرفه .(1/4)
السابع : وأخرج ابن جرير (24/29) : حدثنى الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { يوم يكشف عن ساق } قال : شدة الأمر . وقال ابن عباس : (( هي شر ساعة تكون في يوم القيامة )) .
قلت : وهذا سند ضعيف ، ورقاء ضعفه أحمد في التفسير ، وابن أبي نجيح مدلس وقد عنعن ، ثم إنه لم يسمع التفسير من مجاهد بن جبر .
الثامن : ما رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة))(724) : أخبرنا علي بن عمر بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الصمد بن علي ، قال : حدثنا الحسين بن سعيد السلمي ، قال : حدثنى أحمد بن الحسن بن علي بن أربان البصرى المرادى ، قال : حدثنا الحسن بن محبوب ، عن علي بن دياب ،عن أبان بن ثعلب ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس - في قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } – قال : (( عن بلاء عظيم )) .
قلت : وآفة هذا الإسناد جهالة رواته ، فإني اجتهدت في البحث لهم عن تراجم ، فلم أقف على من ترجمهم ، أو ذكرهم بجرح أو تعديل .
التاسع : وأخرج ابن منده في (( الرد على الجهمية )) : حدثنا عمرو بن الربيع بن سلمان ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا موسى بن عبد الرحمن ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وعن مقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : في قوله : { يوم يكشف عن ساق } ، قال : (( شدة الآخرة )) .(1/5)
قلت :وهذا إسناد موضوع ، والمتهم به موسى بن عبد الرحمن الثقفي الصنعانى، قال ابن حبان : (( دجال ، وضع على ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس كتاباً في التفسير )) ، وقال ابن عدى : (( منكر الحديث )) وذكر له جملة من الأخبار ، ثم قال : (( هذه الأحاديث بواطيل )) . وعبد الغني بن سعيد أورده الذهبي في (( الميزان ))(2/642) ، وقال : (( ضعفه ابن يونس )) ، وبكر بن سهل هو الدمياطى ، ضعفه النسائي ، وقال الذهبي (1/346) في (( الميزان )) : (( حمل الناس عنه وهو مقارب الحال )) ، ومقاتل في السند الثاني هو ابن سليمان ، قال الحافظ في (( التقريب )) (6868) : (( كذَّبوه وهجروه ورمى بالتجسيم )) . والضحاك بن مزاحم لم يلق ابن عباس .
العاشر : وروى البيهقي في (( الأسماء والصفات )) .من طريق : محمد بن الجهم، حدثنا يحيى بن زياد الفراء ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قرأ : { يوم يكشف عن ساق } . يريد : يوم القيامة لشدتها .(1/6)
قلت : وهذا سند صحيح لاعلة فيه (3) . إلا أنه ورد في (( المطبوعة )) ( يكشف ) بالياء ، وهو تصحيف ، وإنما هي ( تكشف ) فقد أورد السيوطي هذا الخبر في (( الدر المنثور ))(6/255) وقال : (( وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن منده من طريق : عمرو ابن دينار ، قال : كان ابن عباس يقرأ : { يوم يكشف عن ساق } – بفتح التاء - . قال أبو حاتم السجستاني : أي تكشف الآخرة عن ساقها ، يستبين منها ما كان غائباً. قلت : وهذا الوجه هو الثابت عن ابن عباس ، وليس فيه على ما يدل على التأويل ، فإن قراءته على بناء الفعل للمعلوم المؤنث ثم إنه لم يفسر قراءته بالشدة – وإن حدث وفعل على هذه القراءة لم يقع في التأويل – بل الذي فسرها هو عمرو بن دينار ، وليس هو متأول بل مبين لبناء الفعل ، وصفة الفاعل . وقد ذهب ابن جرير إلى إثبات هذا القول عن ابن عباس ، فقال في (( التفسير )) (29/27) . (( وذكر عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك { يوم يكشف عن ساق } بمعنى يوم تكشف عن شدة شديدة ، والعرب تقول : كشف هذا الأمر عن ساق إذا صار إلى شدة ومنه قول الشاعر : كشف لهم عن ساقها وبدا من الشعر الصراح )) فقول ابن عباس هذا تبعاً لهذه القراءة لا يعد تأويلاً للنص . وسوف يأتي ذكر من قال بالساق من الصحابة وأئمة السلف في باب : إثبات صفة الساق للرب جل وعلا – إن شاء الله تعالى - .
( ***** الثاني ********)
فصل : في بيان عدم ثبوت التأويل عن مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وغيرهم من أئمة السلف
وأما ما ذكره السقاف من نسبة التأويل إلى جماعة من أئمة السلف فغير صحيح ، وأفضل وسيلة لإثبات ذلك : ذكر الأخبار الواردة عنهم في التأويل وبيان عللها .(1/7)
1 – خبر مجاهد بن جبر – رحمه الله - : أخرجه ابن جرير (29/24) من طريق : ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد به . وقد سبق ذكر علة هذا الإسناد . وأخرج ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربى ، وابن حميد ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد { يوم يكشف عن ساق } قال : شدة الأمر وجده . قال ابن عباس : هي أشد ساعة في يوم القيامة .
قلت : ابن جريج مدلس وقد عنعن ، ثم إنه لم يسمع التفسير من مجاهد كما نص عليه ابن معين . ففي (( سؤالات ابن الجنيد )) له (37) : (( سألت يحيى بن معين ، قلت : ابن جريج سمع من مجاهد شيئاً ؟ قال : حرفاً أو حرفين ، قلت : فمن بينهما ؟ قال لا أدري )) . وقال : (595) : (( وسمعت يحيى بن معين يقول : سمع ابن جريج من مجاهد حرفاً واحداً في القراءة : { فإن الله لا يهدي من يضل } قال : لا أدري كيف قرأه يحيى بن معين ، ولم يسمع منه غيره ، كان أتاه ليسمع منه ، فأتاه فوجده قد مات ))
2 – خبر سعيد بن جبير – رحمه الله - : أخرجه ابن جرير (29/24) : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن جبير قال : عن شدة الأمر .
قلت : وهذا إسناد ضعيف ، وقد سبق بيان علته . لكن قال السيوطي في (( الدر المنثور ))(6/255) : (( وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير ، أنه سئل عن قوله عز وجل : { يوم يكشف عن ساق } ، فغضب غضباً شديداً ، وقال : إن أقواماً يزعمون أن الله يكشف عن ساقه ، وإنما يكشف عن الأمر الشديد )) . قلت : وهذا الخبر لم يورد لنا السيوطي إسناده حتى نتبينه من حيث الصحة والضعف ، فلا حجة للسقاف فيه ، خصوصاً مع ما فيه من النكارة ، من حيث إنكار سعيد بن جبير على من يثبت صفة الساق للرب جل ذكره ، مع أن جمعاً من الصحابة أثبتوها له كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في باب أدلة إثبات الساق .(1/8)
3 – خبر قتادة بن دعامة – رحمه الله : ثابت عنه ، وقتادة من الموصوفين بالكلام في القدر وهي بدعة مأخوذة عليه ومثلها هذا التأويل ، فهو مخالف لما ورد به الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعوام أهل العلم من الأئمة ، وسوف يأتي تفصيل ذلك . وأزيد السقاف بياناً ، فأقول له : وممن رُوى عنه أنه فسر هذه الآية على تأويل عكرمة ، وإبراهيم النخعي ، والربيع بن أنس وإليك خبر كل واحد منهم .
4 – خبر عكرمة – رحمه الله - : أخرجه البيهقي في (( الأسماء والصفات )) من طريق : أبي بكر يحيى بن أبي طالب ، أخبرنا حماد بن مسعدة ، أخبرنا عمر بن أبي زائدة ، قال : سمعت عكرمة سئل عن قوله عز وجل : { يوم يكشف عن ساق } قال : قال : (( فأخبرهم عن شدة ذلك )) .(1/9)
قلت : وهذا إسناد ضعيف ، فيه يحيى بن أبي طالب ، وهو مختلف فيه بين أهل العلم ، وعلى التحقيق فهو ضعيف . فأما من عدله : فالدار قطنى ، قال : (( لا بأس به عندي ، ولم يطعن فيه أحد بحجة )) وأمر البرقاني أن يخرج له في (( الصحيح )) ، قال الذهبي : (( الدار قطنى فمن أخبر الناس به )) . وقال أبو حاتم : (( محله الصدق )) ، وليس صاحب هذا الوصف ممن يحتج به عنده. وجرحه غيرهم : فقال أبو أحمد الحاكم : (( ليس بالمتين )) . وقال موسى بن هارون : (( أشهد عليه أنه يكذب )) . قال الذهبي : (( عنى في كلامه ولم يعن في الحديث فالله أعلم )) . قلت : هذه إحالة على جهالة ، ولا بد لهذا القول من دليل . وخط أو داود على حديثه . قلت : أما الدار قطنى فمتساهل في التوثيق ، وأما قول أبي حاتم : (( محله الصدق )) فهذا الوصف يطلقه على من توقف فيه ، فلم يطرح حديثه ، ولم يحتج به ، بل يُلحق بأحد القسمين بعد السبر والتتبع . فقد روى الخطيب في (( الكفاية )) بإسناده إلى ابن أبي حاتم قال : (( وإذا قيل أنه صدوق ، أو محله الصدق ، أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه )) . قلت :فأفضل أحوال يحيى بن أبي طالب أن يكون محتجاً به إذا لم يتفرد برواية الحديث أو الخبر ، فكيف إذا تفرد بخبر في تأويل صفة من صفات الرب جل وعلا ؟! لا شك أن حديثه – أو خبره – يكون منكراً ، ولا يحتج به في هذه الحالة ، وقد أكثر السقاف بوصف أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم – مع أن رواتها ثقات – بالشذوذ لتفرد أحد الرواة بذكر صفة من صفات الرب جل وعلا .
5 - خبر إبراهيم النخعي – رحمه الله - : فرواه ابن جرير (29/24) : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { يوم يكشف عن ساق } : (( ولا يبقى مؤمن إلا سجد ، ويقسو ظهر الكافر ، فيكو عظماً واحداً )) .
قلت : وسنده ضعيف لضعف ابن حميد .(1/10)
6 – خبر الربيع بن أنس – رحمه الله - : أخرجه ابن جرير (29/27) من طريق : أبي جعفر الرازي ، ع الربيع في قول الله : { يوم يكشف عن ساق } ، قال : (( يكشف عن الغطاء )).
وسنده ضعيف لضعف أبي جعفر الرازي ، وسوف يأتي الكلام على حاله تفصيلاً في الجزء الثاني .
خلاصة البحث : فمما سبق : يتبين لنا أن ابن عباس لم يصح عنه التأويل ، ولا عن أئمة التابعين كمجاهد ، وعكرمة ، وغيرهم الذين نسبهم السقاف إلى التأويل ، ليشيد بدعته بهذا النسب الزائف ، وهذا التدليس الفاحش .
( ***** الثالث ********)
ما نسبه السقاف إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان من تأويل صفة اليد والرد عليه
قال السقاف : ( وأوّل سيدنا ابن عباس ? أيضاً قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } قال : بقوة ، كما في (( تفسير )) الحافظ ابن جرير الطبري (27/7)) . حتى قال : ( وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره (27/7) تأويل لفظة (أيد ) الواردة في قوله تعالى : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } بالقوة أيضاً عن جماعة من أئمة السلف منهم : مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان )) .
قلت :وهذا فيه نظر من حيث الإسناد عنهم ، وسوف نبين علة إسناد كل خبر من هذه الأخبار فأقول وبالله التوفيق :
1 – خبر ابن عباس ? : أخرجه ابن جرير (27/6) من طريق : أبي صالح ، عن معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس به . قلت : وهذا سند ضعبف ، فأبي صالح هو كاتب الليث وهو ضعيف من قبل حفظه ، وعلى هو ابن أبي طلحة ، متكلم في ضبطه ، وروايته عن ابن عباس منقطعة ، وقال ابن حبان : (( لم يره )) .
2 – وأما خبر مجاهد – رحمه الله - : فراوية عنه ابن أبي نجيح ولم يسمع التفسير منه كما مر ذكره .(1/11)
3 – وأما خبر سفيان – رحمه الله - : ففيه شيخ ابن جرير ابن حميد وهو ضعيف ، ومهران وهو سيئ الحفظ . ولكن هو صحيح من قول قتادة ، ومنصور بن المعتمر ، وابن زيد ، ولا حجة في تأويلهم لمخالفته للصحيح الثابت عن النبي ? في إثبات صفة اليد كما سوف يأتي ذكره وبيانه – إن شاء الله تعالى - . ثم إن هذا لا يعني أنهم لا يثبتون صفة اليد كما قد يتوهم ، فتنبه .
وقد أنكر الإمام أحمد – رحمه الله – على من يقول : إن معنى اليد القوة . قال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي في ((اعتقاد الإمام أحمد)): (( وكان يقول : إن لله تعالى يدين ، وهما صفة في ذاته ليستا بجارحتين وليستا بمركبتين ، ولا جسم ، ولا جنس من الأجسام ، ولا صفة من جنس المحدود والتركيب والأبعاض والجوارح ، ولا يقاس على ذلك ، ولا مرفق ، ولا عضد ، و فيما يقتضي ذلك من إطلاق قولهم يد ، إلا ما نطق القرآن به ، أوصح عن رسول الله ? فيه . قال الله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } . وقال رسول الله ? : (( كلتا يديه يمين )) . وقال الله عز وجل : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } . وقال : { والسموات مطويات بيمينه } . ويفسد أن تكون يد : القوة والنعمة ، والفضل ، لأن جمع يد ايد ، وجمع تلك أياد ، ولو كان اليد عنده القوة لسقطت فضيلة آدم ، وثبت حجة إبليس )) .(1/12)
قلت :ولو كانت هذه الأخبار التي أوردها ابن جرير في التفسير (( التفسير )) حجة في الباب لكان أول من قال بها ، ولتأول الآية ، إلا أنه صرح بإثبات اليد لله عز وجل . قال الذهبي في (( الأربعين في صفات رب العالمين )) . ((وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب ((التبصير في معالم الدين)): القول فيما أدرك علمه من الصفات خبراً ، نحو إخباره أن سميع بصير ، وأن له يدين بقوله : { بل يداه مبسوطتان } )) . وأنكر الخطيب البغدادي من يتأول اليد ، فقال في (( الكلام على الصفات )) – بتحقيقنا - : (( فإذا قلنا : لله تعالى يد وسمع وبصر ، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ، ولا نقول : إن معنى اليد القدرة ، ولا إن معنى السمع والبصر العلم ، ولا نقول : إنها جوارح ، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار ، والتي هي جوارح وأدوات للفعل ، ونقول : إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ، ووجب نفي التشبيه عنها )) .
قلت : والخطيب منسوب إلى مذهب الأشعري ، وفيه نظر . قال إبراهيم بن محمد بن الأزهر الصريفيني في (( المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور )) : (( وكان أشعري العقيدة )) . ونقل الذهبي في ترجمة من (( السير )) (18/277) : ((وقال عبد العزيز بن أحمد الكتاني:وكان يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري)) .
فدل على ذلك أمرين :
? الأول : أن المنع من تأويل الصفات كان المذهب الأخير الغالب على الأشعري ، إذ لو يكن ، وكان التأويل هو ما مات عليه الأشعري لما نُسب الخطيب إليه وهو يقول بالمنع من التأويل .
? الثاني : وهو مترتب على الأول ، أن كتاب الإبانة آخر ما صنفه الأشعري وليس من أول مصنفاته كما ادعى السقاف ، فإنه قد صرح فيه بإثبات اليدين لله تعالى ، ونافح عن ذلك منافحة شديدة ورد على المتألة – امثال السقاف – فلو كان هذا الكتاب من أول مصنفاته ، وأن القول بالتأويل هو آخر أقواله ، لما نُسب إلى مذهبه الخطيب – رحمه الله - .
((1/13)
***** الرابع ********)
ما نسبه السقاف إلى ابن عباس وغيره من تأويل قوله تعالى :{ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا }
قال السقاف : (وأول أيضاً سيدنا ابن عباس النسيان الوارد في قوله تعالى : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } بالترك ، كما في تفسير الحافظ الطبري ) .
قلت : الآثار الواردة في ذلك ضعيفة من حيث الإسناد . فالطريق إلى ابن عباس : فيه علي بن أبي طلحة ، وهو لم ير ابن عباس ، وفيه لين كما مر بيانه . وله طريق آخر من رواية : أبناء وأحفاد عطية بن سعد العوفى عن ابن عباس ، وقد مر بيان عوار هذه الترجمة . ورواية مجاهد وردت عنه من ثلاث طرق :
? الأول : عن ابن أبي نجيح عنه ، ولم يسمع منه التفسير كما مر ذكره .
? الثاني : فيه جابر بن يزيد الجعفي وهو تالف ، وسفيان بن وكيع وقد ابتلى بوراقه ، وكان يدس له الأحاديث فيرويها ، وروجع في ذلك فلم يرجع .
? الثالث : من رواية عبد العزيز ، عن أبي سعد ، عن مجاهد .
قلت : وأبو سعد هذا لم أتبينه .
التنبيه هنا على أن النسيان ليست صفة من صفات الله عز وجل ، تعالى الله وتنزه ، وإطلاق الترك على النسيان هنا واجب ، وليس بتأويل . ذلك لأن صفات الرب عز وجل على قسمين ؛ صفات ثبوتية ، وصفات سلبية .
? والصفات الثبوتية : هي ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه في الكتاب ، أو على لسان نبيه ? ، وهي صفات كمال لا نقص ، مثل العلم ، والحياة ، والقدرة ، واليد ، والاستواء على العرش ، .. ولم يرد في الكتاب أو في السنة نفي صفة من هذه الصفات حتى نحكم على أنها صفات سلبية – أي صفات نقص – بل الأحاديث كثيرة في إثبات هذه الصفات ، وتلقاها العلماء بالقبول والتصديق والإيمان .
? والصفات السلبية : هي ما نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عنها في الكتاب ، أو على لسان نبيه ? ، كالموت ، أو النسيان ، أو العجز ، أو الجهل .(1/14)
وصفة النسيان في حق المخلوق صفة نقص وعيب تدل على قصوره ، وحدود قوته ، فكيف إذا وصف بها الخالق ؟؟!! ولذلك نزه الله نفسه عن هذه الصفة ، فقال : { وما كان ربك نسيا } { مريم :64 } . وقال : { قل علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } { طه : 52 } فلما يرد في الشرع نفي صفة من الصفات عن الرب عز وجل – خصوصاً إذا عُلم أنها صفة نقص وقصور – ثم تُذكر في موضع آخر من الكتاب أو السنة مضافة إلى الله عز وجل يعلم بذلك أن المراد بهذه النسبة إحدى معاني الصفة التي لا تدل على النقص إذا أضيفت إلى الرب تعالى . والنسيان يأتي بمعنى الترك ، فيكون معنى الآية أن الله عز وجل يتركهم في العذاب ، وهذا من تمام عدله وكماله عز وجل .
( ***** الخامس ********)
نفي التأويل – الذي ادَّعاه السقاف - عن الإمام مالك – رحمه الله -
وادعى السقاف - زوراً وبهتاناً – أن الإمام مالك قد أوَّل صفة النزول ، بنزول الأمر . فقال : ( روى الحافظ ابن عبد البر في (( التمهيد ))(7/143) ، وذكر الحافظ الذهبي في ((سير أعلام النبلاء ))(8/105) أن الإمام مالكاً رحمه الله تعالى ، أوَّل النزول الوراد في الحديث بنزول أمره سبحانه وهذا نص الكلام من ((السير)) : قال ابن عدي : حدثنا محمد بن هارون بن حسان ، حدثنا صالح بن أيوب ، حدثنا حبيب بن أبي حبيب ، حدثني مالك ، قال : (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى : أمره ، فأما هو فدائم لا يزول )) . قال صالح ، فذكرت ذلك ليحيى بن بكير ، فقال : حسن والله ، ولم أسمعه من مالك . قلت – ( القائل هو السقاف ) - : ورواية ابن عبد البر من طريق أخرى فتنبه ) .
قلت : هذا والله عين التبجح بنسبة الأقوال إلى العلماء بالأسانيد الساقطة ، والتدليس بأن ثمة طريقاً آخر يعضد طريق ابن عدي . وإليك تفصيل الكلام على هذه الطرق – الواهية – التي اعتمدها السقاف ليثبت ما ادعاه من نسبة التأويل إلى الإمام مالك – رحمه الله -.
{(1/15)
الكلام على طريق ابن عدي } : أما طريق ابن عدي : ففيه حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك ، قال أحمد : (( ليس بثقة ، . . كان يكذب )) وأثنى عليه شراً وسوءاً ، وقال أبو داود : (( كان من أكذب الناس )) ، وقال أبو حاتم : (( متروك الحديث ، روى عن ابن أخي الزهري أحاديث موضوعة )) ، وقال الأزدى : (( متروك الحديث )) ، وقال أبو داود في رواية : ((يضع الحديث )) ، وقال النسائي : (( متروك الحديث ، أحاديثه كلها موضوعة عن مالك )) ، وتكلم فيه ابن معين والحاكم . وصالح بن أيوب هذا مجهول . والغريب أن السقاف نقل هذا الخبر من (( السير )) ، ولم ينقل ما علقه الذهبي عليه أداءً للأمانة . قال الذهبي – رحمه الله – بعد إيراده هذا الخبر : (( قلت : لا أعرف صالحاً ، وحبيب مشهور ، والمحفوظ عن مالك – رحمه الله – رواية الوليد بن مسلم أنه سأله عن أحاديث الصفات ، فقال أمروها كما جاءت بلا تفسير ، فيكون للإمام في ذلك قولان إن صحت رواية حبيب )) .
قلت : لم تصح رواية حبيب ، فهو تالف الحال كما ذكرنا آنفاً . ولعله يُروى عن حبيب نفسه ، وليس هو بحجة ، فقد قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (7/143) : (( وروى ذلك عن حبيب كاتب مالك ، وغيره )) ، فلم ينسبه لمالك ، فيكون صالح بن أيوب قد رواه على التوهم فنسبه لمالك ، ولا إخاله يثبت عن حبيب نفسه ، فصالح مجهول كما سبق ذكره .
{ الكلام على الطريق المعضد !!}: وأما الطريق الآخر الذي ذكره السقاف – وكأنه يعضضد الطريق الأول !! – فأورده ابن عبد البر في (( التمهيد ))(7/143) وقال : (( وقد روى محمد بن علي الجبلي – وكان من ثقات المسلمين بالقيروان – قال : حدثنا جامع بن سوادة بمصر ، قال : حدثنا مطرف ، عن مالك بن أنس ، أنه سئل عن الحديث : (( إن الله ينزل في الليل إلى سماء الدنيا )) فقال مالك : يتنزل أمره .(1/16)
قلت: وهذا سند ساقط ، فيه جامع بن سوادة ، ترجمه الذهبي في ((الميزان))(1/387) فقال : (( وعن آدم بن أبي إياس بخبر باطل في الجمع بين الزوجين ، وكأنه آفته )) . وأما محمد بن علي الجبلي ، فلعله الذي ترجمه الخطيب في (( تاريخه )) (3/101) ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، ولكن قال : (( علقت منه مقطعات من شعره ، وقيل إنه كان رافضياً شديد الرفض )) . فهذان هما طريقا هذا الأثر ، الأول : موضوع ، والثاني : رواية متهم ، فأنى يكون لهذا الخبر ثبوت ؟!! .
( ***** السادس ********)
الجواب عما نسبه السقاف إلى الإمام أحمد - رحمه الله – من التأويل
وقد نسب السقاف التأويل – أيضاً – إلى الإمام أحمد في أربعة مواضع :
قال : ( روى الحافظ البيهقي في كتابه (( مناقب الإمام أحمد )) – وهو كتاب مخطوط – ومنه نقل الحافظ ابن كثير في (( البداية والنهاية )) (1/327) ، فقال : (( روى البيهقي عن الحاكم ، عن أبي عمرو بن السماك ، عن حنبل ، أن أحمد ابن حنبل تأول قوله تعالى : { وجاء ربك } أنه جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي ، وهذا إسناد لا غبار عليه )) انتهى كلام ابن كثير . وقال ابن كثير أيضاً في (( البداية )) (10/327) : (( وكلامه – أحمد – في نفي التشبيه ، وترك الخوض في الكلام ، والتمسك بما ورد في الكتاب والسنة عن النبي ? وعن أصحابه )) اهـ.
قلت :ومثل هذا لا يصح عن الإمام أحمد ، وإن ورد عنه بإسناد رجاله ثقات ، من وجهين :
?(1/17)
أولهما : أن روايه عنه هو حنبل بن إسحاق ، وهو وإن كان ثقة ، ومن تلاميذ الإمام أحمد – وابن عمه – إلا أنه يغرب ويتفرد عنه ببعض المسائل . قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – في (( السير ))(3/52) : (( له مسائل كثيرة عن أحمد ، ويتفرد ، ويغرب )) . ونقل العليمى في (( المنهج الأحمد ))(1/245) عن أبي بكر الخلال قوله : (( قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية ، وأغرب بشيء يسير ، وإذا نظرت في مسائله شبهتها في حسنها وإشباعها وجودتها بمسائل الأثرم )) . قلت : فإن صح هذا الخبر عن حنبل ، فيكون قد أغرب به على أبي عبد الله – رحمه الله – فإن المحفوظ عنه إمرار النص على وجهه ، والتصديق ، وعدم التأويل (4) .
ثم وقفت بعد ذلك على كلام لابن رجب الحنبلي في شرحه على البخاري المسمى بـ((فتح الباري)) في دفع هذه النسبة ، فقال – رحمه الله – (9/279) في معرض الكلام على حديث النزول : (( ومنهم من يقول : هو إقبال الله على عباده ، وإفاضة الرحمة والإحسان عليهم . ولكن يردُّ ذلك : تخصيصه بالسماء الدنيا ، وهذا نوع من التأويل لأحاديث الصفات ، وقد مال إليه في حديث النزول – خاصة – طائفة من أهل الحديث ، منهم : ابن قتيبة ، والخطابي ، وابن عبد البر ، وقد تقدَّم عن مالك ، وفي صحته عنه نظر ، وقد ذهب إليه طائفة ممن يميل إلى الكلام من أصحابنا ، وخرجوا عن أحمد من رواية حنبل عنه في قوله تعالى : { وجاء ربك } أن المراد : وجاء أمر ربك . وقال ابن حامد : رأيت بعض أصحابنا حكى عن أبي عبدالله الإتيان ، أنه قال : تأتي قدرته ، قال : وهذا على حدَّ التوهم من قائله ، وخطأ في إضافته إليه )) .(1/18)
حتى قال : (( والفرقة الثالثة : أطلقت النزول كما ورد ، ولم تتعد ماورد ، ونفت الكيفية عنه ، وعلموا أن نزول الله تعالى ليس كنزول المخلوق . وهذا قول أئمة السلف : حماد بن زيد ، وأحمد ، فإن حماد بن زيد سئل عن النزول فقال :هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء . وقال حنبل : قلت لأبي عبدالله : ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا ؟ قال : نعم ، قلت: نزوله بعلمه أو بماذا ؟ قال لي : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ، أتقن الحديث على ما روي بلا كيف ولا حدٍّ ، إلا بما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب ، فقال الله عز وجل: {فلا تضربوا لله الأمثال} { النحل :74} ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته ، أحاط بكل شيء علماً ، لا يبلغ قدره واصف ، ولا ينأى عنه هارب )) .
ثانيهما : أن هذه الرواية الأخيرة تدل على مذهب الإمام أحمد في حديث النزول ، وهي موافقة لسائر الروايات عنه في ذلك ، مما يدل على أن الرواية الأولى من المفاريد والغرائب عنه ، فهي غير مقبولة . ثم إن هذا الخبر من زيادات إحدى نسخ البداية والنهاية ، وهي النسخة المصرية ، وباقي النسخ لم يرد فيها هذا الخبر ، فثبوته محل نظر .(1/19)
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا : أن السقاف أورد كلام ابن كثير الأخير مورد الاستدلال على المخالف بأن أحمد نفى التشبيه ، يقصد بذلك صفات اليد ، والضحك ، والوجه ، والساق . وهذا فهم خاطئ ، وإنما التشبيه المقصود به هنا أن يقول : وجه كوجه ، أويد كيد ، أو ساق كساق . . وهكذا . قال الإمام الترمذي – رحمه الله – في (( جامعه ))(3/50) : (( قد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه : اليد ، والسمع ، والبصر ، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم ، وقالوا : إن الله لم يخلق آدم بيده ، وقالوا : إن معنى اليد هاهنا القوة . وقال إسحاق بن إبراهيم – ( وهو ابن راهويه ) - : إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد ، أو مثل يد ، أو سمع كسمع ، أو مثل سمع ، فإذا قال : سمع كسمع ، أو مثل سمع فهذا هو التشبيه . وأما إذا قال كما قال الله تعالى : يد وسمع وبصر ، ولا يقول كيف ، ولا يقول مثل سمع ، ولا كسمع ، هذا لا يكون تشبيهاً ، وهو كما قال الله تعالى في كتابه : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . ))
قلت : ونمثل للسقاف هنا بصفة الحلم . فإن الله عز وجل وصف نبيه إبراهيم بهذه الصفة فقال : { إن إبراهيم لأواه حليم } { التوبة : 114 } وقال : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } {هود :75 } . ووصف سبحانه وتعالى نفسه بنفس الصفة فقال : { والله شكور حليم } { التغابن :17 } { وإن الله لعليم حليم } { الحج : 59 } {إنه كان حليماً غفوراً } {الإسراء : 44 } ولكن اختلفت كيفية الصفة في ذلك ، ولا أظن أن السقاف يقول بأن حلم الله كحلم إبراهيم – والعياذ بالله – وإلا لكان هو المشبه .(1/20)
وقال السقاف : ( تأويل آخر للإمام أحمد : قال الحافظ ابن كثير أيضاً في (( البداية والنهاية ))(10/327) : (( ومن طريق أبي الحسن الميموني ، عن أحمد بن حنبل أنه أجاب الجهمية حين احتجوا عليه بقوله تعالى :{ وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون } قال : يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث ، لا الذكر نفسه هو المحدث ، وعن حنبل ، عن أحمد أنه قال : يحتمل أن يكون ذكراً آخر غير القرآن )).اهـ . قلت – ( القائل هو السقاف ) -: وهذا تأويل محض ، ظاهر ، واضح ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره ، وعدم إرادته حقيقة ظاهره ) .
قلت : لا يصفو له هذا القول أيضاً في إثبات التأويل عن الإمام أحمد – رحمه الله – والجواب عنه من وجوده :
? الأول : أن الخبر قد أورده ابن كثير معلقاً ، ولم يورده بإسناده حتى نحكم عليه بالثبوت أو البطلان !!
? الثاني : أن هذا الخبر من زيادات إحدى نسخ (( البداية والنهاية )) – كسابقه – فهو محل نظر ، فكتاب البيهقي (( مناقب أحمد )) ، غير موجود بين أيدينا مطبوعاً حتى نحكم إذا ما كان هذا الخبر فيه حقاً ، أم أن بعض المعطلة قد زاد هذه الزيادات في نسخة البداية والنهاية .
?(1/21)
الثالث : أن هذا الخبر قد أورده الذهبي في (( السير ))(11/245) بسياق آخر يدل على أن الإمام أحمد لم يؤول النص ، بل فسره بنص آخر من القرآن . قال الذهبي – رحمه الله -: (( . . فقال بعضهم : { يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } ، أفيكون محدث إلا مخلوقاً؟ فقلت : - ( القائل : هو الإمام أحمد ) - : قال الله : { ص *والقرآن ذي الذكر } ، فالذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولام )) . فهذا النص يوضح مقصد الإمام أحمد (( يحتمل أن يكون ذكراً آخر )) ، فإن القرآن لا يطلق عليه ( ذكر ) بغير ألف ولام في القرآن . . ، فكأنه قصد هنا سنة رسول الله ? ، بل هو ما قصده . وقد خشى السقاف أن تنكشف حيلته ، فحذف الشطر الأخير من الخبر ، وهو : (( يحتمل أن يكون ذكراً آخر غير القرآن ، وهو ذكر رسول الله ? )) .
فدل ذلك دلالة واضحة على أن الإمام أحمد – رحمه الله – لم يتأول النص بما يخرجه عن ظاهره كما ادعى السقاف ، بل فسره بالقرآن ، فرد المتشابه إلى المحكم .
ثم قال السقاف : (تأويل آخر عن الإمام أحمد : قال الحافظ الذهبي في (( سير أعلام النبلاء ))(10/578) : (( قال أبو الحسن عبد الملك الميموني : قال رجل لأبي عبدالله – أحمد بن حنبل:- ذهبت إلى خلف البزار أعظه ، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص ، عن عبدالله بن مسعود ، قال : ما خلق الله شيئاً أعظم من آية الكرسي .. وذكر الحديث . فقال أبو عبدالله – أحمد بن حنبل -: ما كان ينبغي أن يحدث بهذا في هذه الأيام – يريد زمن المحنة – والمتن : (( ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي )) . وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة : إن الخلق واقع هاهنا على السماء والأرض وهذه الأشياء ، لا على القرآن ) .
قلت : هذا النقل دليل على جهل السقاف ، وقلة بضاعته في العلم ، أو تجاهله وتدليسه لإثبات مذهبه الردىء . فالتأويل يأتي بمعنيين :
الأول : الحقيقة التي يؤول إليها الكلام .(1/22)
والثاني: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به.
والتأويل بالمعنى الثاني هو المذموم الذي عليه كثير من المتأخرين والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم ، وهو الذي يحاول السقاف إثباته على الإمام أحمد .
والتأويل بالمعنى الأول هو التفسير وهو الذي سار عليه الإمام أحمد مع هذا النص فحقيقة الكلام تؤول إلى أن الله عز وجل لم يخلق شيئاً أعظم من آية الكرسي من كلام الله ، وكلام الله غير مخلوق – وليس كما يدعي السقاف – أن حقيقة الكلام تؤول إلى أن آية الكرسي مخلوقة والعياذ بالله – فصرف الإمام أحمد الكلام عن هذا الوجه فقال بأن الخلق لم يقع عليها . وهذا التفسير الذي ذكرناه للحديث هو ما ذهب إليه ابن عيينة – رحمه الله - . قال الترمذي في (( جامعه ))(2884) : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان بن عيينة – في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال : ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي – قال سفيان : لأن آية الكرسي هو كلام الله ، وكلام الله أعظم من خلق الله ، من السماء والأرض . وسنده صحيح .
وبهذا يُعلم أن ما ذهب إليه أحمد – رحمه الله – هو ما يدل عليه ظاهر النص ، وليس وجهاً مرجوحاً متأولاً – بالمعنى الثاني للتأويل - .
وأخيراً قال هذا السقاف : ( تأويل آخر عن الإمام أحمد يتعلق بمسألة الصفات : روى الخلال بسنده ، عن حنبل ، عن عمه الإمام أحمد بن حنبل أنه سمعه يقول : احتجوا على يوم المناظرة ، فقالوا : (( تجيء يوم القيامة سورة البقرة ... )) الحديث . قال : فقلت لهم : إنما هو الثواب . فتأمل في هذا التأويل الصريح ) . وقال في (( الحاشية )) : ( وقد نقل هذا لنا عن الخلال المحدث الإمام محمد زاهد الكوثرى رحمه الله تعالى في تعليقه على (( دفع شبه التشبيه )).(1/23)
قلت : إسناده لا نعرفه عن حنبل حتى نثبته من قول الإمام أحمد ، ولو صح عنه فليس بتأويل ، إنما فسر هذا الحديث على النحو لرواية أخرى للحديث ورد فيها ما يدل على أن الذي يجيء يوم القيامة هو الثواب . وهذه الرواية هي حديث نواس بن سمعان مرفوعاً : (( يأتي القرآن وأهله الذين يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران ... الحديث )). قال الإمام الترمذي في (( الجامع ))(5/148) : (( ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم هذا الحديث أو ما يشبه من هذه الأحاديث أنه يجيء ثواب قراءة القرآن . وفي حديث النواس عن النبي ? ما يدل على ما فسروا ، إذ قال النبي ? : وأهله الذين يعملون به في الدنيا ، ففي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل )) . قلت : وحديث النواس هذا صحيح مخرج عند مسلم والترمذي . فتأملوا تلبيس هذا السقاف !! وقد نسب السقاف التأويل إلى الإمام البخاري والنضر بن شميل وغيرهما ، وسوف يأتي الجواب عن ذلك عند الكلام على إثبات صفة الضحك ، والاستواء للرب تعالى .
(******* السابع **********)
تصريح السقاف بمخالفته للأشعري وموافقته لأهل الاعتزال والرد عليه في ادعائه أن كتاب (( الإبانة )) من أول كتب الأشعري
والعجيب حقاً من أمر هذا السقاف أنه دائماً يهتف في كتبه عديمة النفع ، كثيرة الضرر ، بأن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة ، ثم يأتي ليوافق المعتزلة بعد ذلك ، ويخالف الأشعري – إمام مذهبه في الأصول - .(1/24)
قال في حاشيته على كتاب ابن الجوزي – بعد أن ذكر كلام الأشعري في الإستواء من كتاب (( الإبانة ))-: ( أما رد الإمام أبي الحسن الأشعري تفسير الاستواء بالاستيلاء فنحن لا نوافقه في ذلك أبداً ، ونقول إنه قال ذلك بسبب ردة فعل حصلت عنده من المعتزلة ، وهم وإن لم نوافقهم في كثير من مسائلهم إلا أننا هنا نوافقهم ونعتقد أنهم مصيبون في هذه المسألة ) . وقال : ( وهذا الإمام أبو الحسن الأشعري يقوده بغضه للمعتزلة ، وإرادته لمعاندتهم أن ينكر أن معنى الاستواء : الاستيلاء ، لأن المعتزلة تقول به ، مع أنه قال معناه ، وقولهم في تأويله صحيح لا غبار عليه ، فتأملوا ) .
أقول : بل تأملوا أنتم أيها القراء هذا التناقض العجيب في اعتقاد هذا الرجل ، الذي أبان لنا جانب من جوانب معتقده ، وهو مرافقته لأهل الاعتزال ، فكيف تنسب نفسك بعد ذلك إلى الأشعري الذي يصرح في (( الإبانة )) وفي (( رسالة إلى أهل الثغر )) بإثبات الصفات على الوجه المذكور في النصوص الشرعية التي تأولتها أنت – والمعلوم أنه قد صنف هذه الكتب بعد رجوعه عن الاعتزال وتوبته منه ، فعلى هذا أنت أشعري على المذهب القديم للأشعرى وهو الاعتزال !! . وأما ادعاؤك أن (( الإبانة )) كان من أوائل ما صنف الأشعري ، فمجرد دعوى لا دليل عليها .(1/25)
وقد ثبت لنا بالنص الصريح أن الإبانة قد صنفه الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال . ففي ترجمة شيخ الحنابلة أبي محمد الحسن بن علي بن خلف البربهارى – رحمه الله – من (( سير أعلام النبلاء))(15/90) : (( فقيل : إن الأشعري لما قدم بغداد جاء إلى أبي محمد البربهارى ، فجعل يقول : رددت على الجبائى ، رددت على المجوس ، وعلى النصارى ، فقال أبو محمد : لا أدري ما تقول ، ولا نعرف إلا ما قاله الإمام أحمد فخرج ، وصنّف الإبانة فلم يقبل منه )) . فهذه الحادثة دالة على أنه صنف هذا الكتاب بعد رجوعه عن الاعتزال ولم يكن هذا في بداية عمره وأول طلبه كما ادعى السقاف . ولذلك قال ابن العماد في الذرات (2/303) : (( قال في كتاب (( الإبانة في أصول الديانة )) وهو آخر كتاب صنفه ، وعليه يعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه )) . وهناك دلائل أخرى تجدها مذكورة في بعض فصول هذا الكتاب .
(******* الثامن *********)
طعنه في كتب أئمة أهل السنة والجماعة أمثال : عبدالله بن أحمد بن حنبل ، والخلال ، واللالكائي . . وغيرهم لمخالفتها مذهبه العقدي المبتدع
وقد دأب السقاف على الطعن في كتب السنة التي اتبع فيها مصنفوها الطريقة الحديثية في إثبات مسائل العقيدة من رواية الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة والأخبار المقطوعة الواردة في كل باب من أبواب العقيدة ، وهذه هي طريقة أهل السنة والجماعة في إثبات مسائل العقيدة ، إذ اعتمادهم في ذلك على الكتاب والسنة لا تحكيم الأهواء والعقول ، كما يفعل السقاف ، ومن على طريقته .
قال في مقدمته على كتاب ابن الجوزي (( دفع شبه التشبيه )) : ( جميع الكتب التي أطلق عليها كتب (( السنة )) .. هي في الحقيقة مليئة بالأحاديث الموضوعة والتالفة والمنكرة والضعيفة ، وما أشبه ذلك ، ومنها :
1 – كتاب (( السنة )) المنسوب لابن أحمد والذي في سنده : الخضر بن المثنى وهو : مجهول .
2 – كتاب السنة للخلال .(1/26)
3 – السنة للالكائي ، و (( اعتقاد أهل السنة )) له أيضاً .
4 – كتب عثمان بن سعيد الدارمى التي منها : (( الرد على بشر المريسي )) .
5 – الإبانة لا بن بطة الوضاع ، كما في كتابنا (( إلقام الحجر )) .
6 – إبطال التأويل لأبي يعلى المجسم .
7 – التوحيد لابن خزيمة الذي ندم على تصنيفه كما روى عنه ذلك الحافظ البيهقي في (( الأسماء والصفات )) .
8 – كتاب (( الصفات )) و كتاب (( الرؤية )) المنسوبين غلطاً للدار قطنى .
9 – (( الإيمان )) لا بن منده .
10- (( شرح العقيدة الطحاوية )) لابن أبي العز ، وقد بينا ما فيها في عدة كتب من كتبنا أهمها : (( التنبيه والرد على معتقد قدم العالم والحد )) و (( التنديد بمن عدد التوحيد )) فافرأهما فإن فيهما كشف تلك الأخطاء الجسيمة التي في (( شرح العقيدة الطحاوية )) .
11- كتب ابن تيمية ، فإن جميعها لا يخلو من التشبيه .
12- كتب ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية .
13- كتاب (( العلو )) الذي بينا أنه صنفه في أول حياته ثم تبين له خطأ ما قاله فرجع عنه في كتبه الأخرى .
14- كل كتاب في العقيدة على نسق عقيدة هؤلاء ، وغالب ما فيها يدور حول ما أبطلناه في مقدمة هذا الكتاب والتعليق عليه ) .
قلت : وهذا الكلام عليه اعتراضات من وجوه :
? أولها : أن كثيراً من الأحاديث الواردة في هذه الكتب إن كانت ضعيفة الإسناد من طريق مصنفيها ، فهي صحيحة من طرق أخرى غير طرق مصنفيها .
? ثانيها : أن كثيراً من الأحاديث التي احتج بها أصحاب هذه الكتب على مسائل المعتقد مروية في (( الصحيحين )) ، إلا أن السقاف يحكم بالشذوذ على كل ما كان في (( الصحيحين )) مما ورد في إثبات صفات الرب عز وجل كاليدين ، والوجه ، والساق ، والضحك فاحتجاج أصحاب هذه الكتب بهذه الروايات الصحيحة على إثبات صفات الرب مقدم عندنا على كلام من غرق في بحور الكلام والعقلانيات ، ورد النصوص الشرعية لهواه المفرط ، ولشدة ابتداعه .
?(1/27)
ثالثها : أنه نفي صحة كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ، مع أنه صحيح النسبة إليه كما سوف نبينه قريباً .
والداعي عنده إلى ذلك ، أنه من أصح الكتب في مذهب الإمام أحمد في مسائل الاعتقاد ، لاسيما في باب الأسماء والصفات ، وعامة ما روي فيه عن أحمد – رحمه الله – مما يخالف اعتقاده ، ولذا فقد سعى إلى التشكيك في صحته ، بل ونفيها بالكذب والتلفيق ، ولكن كما قال تعالى : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } {الأنفال :30}
? رابعها : أن الكتب التي ذمها السقاف أكثر مصنفوها من إيراد الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لإثبات ما بوبوه من أبواب العلم والاعتقاد ، فما وجه ذم كتب هذه صفتها ؟!! . وقد أثنى أهل العلم على هذه المصنفات .
? فكتاب السنة للخلال : أثنى عليه الذهبي في (( السير ))(11/291) ، فقال : ((ومن نظر في((كتاب السنة))لأبي بكر الخلال رأى فيه علماً غزيراً ونفعاً كثيراً)) . وقال : ( 14/298) : (( وألف كتاب (( السنة )) وألفاظ أحمد والدليل على ذلك من الأحاديث في ثلاثة مجلدات تدل على إمامته وسعة علمه ، ولم يكن قبله للإمام مذهب مستقل ، حتى تتبع هو نصوص أحمد ، ودونها وبرهنها بعد الثلاث مائة )) .
? وكتاب (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة )) للالكائي : فيدل على جلالته كثرة نقل أهل العلم عنه في مصنفاتهم ، كالحافظ ابن حجر والسيوطى - وهما أشعريان – وقبلهما ابن الجوزي – وهو أشعرى أيضاً - ، وابن أبي شامة ، وغيرهم .
? وأما كتاب (( الرد على بشر المريسى )) لعثمان بن سعيد الدرامى . فإنه رد فيه على من قال بخلق القرآن ، فكيف يذم كتاباً هذا موضوعه ، والتزام السنة في المسألة صفته . ومثلها باقي الكتب التي ذكرها . وكل يؤخذ من قوله ويرد ، ولا نقول في الله إلا ما أثبته لنفسه ، أو أثبته على لسان نبيه ? ، ولا نحكّم العقول ، ونجعلها ، أداة لرد النصوص من الكتاب والسنة التي لا توافق الهوى أو المذهب .(1/28)
وظنى أن هذا السلف قد حذر من هذه الكتب لأنها حوت مادل على العقيدة السليمة من نصوص شرعية وأقوال السلف بالسند ، فإن السند إذا صح ، ثبت القول بما ورد فيه ، ومثل هذا يخالف ما يذهب إليه المبتدعة من الأشاعرة والماتريدية ، ومنهم السقاف . وسوف يأتي الرد على ما ادعاه السقاف من أن كتاب ((العلو)) للذهبي من أول ما صنفه وأنه رجع عنه في مصنفاته ، ومثله كتاب ابن خزيمة في باب (( إثبات صفة العلو للرب تعالى )) .
(*********** التاسع ************)
تلفيق السقاف إسناداً مزوراً لكتاب السنة لعبد الله بن أحمد للتشكيك في صحة نسبته
قال : (كتاب السنة المنسوب لابن أحمد ، والذي في سنده الخضر بن المثنى وهو المجهول ) .
قلت : إسناد كتاب السنة ليس فيه الخضر بن المثنى ، وإنما (( كتاب الرد على الجهمية )) هو الذي في سنده الخضر بن المثنى .(1/29)
وأما إسناد كتاب (( السنة )) لعبد الله بن الإمام أحمد : أنبأنا الأشياخ : محمد بن أحمد بن عمر القطيعى ، وعمر بن كرم بن أبي الحسن الدينورى ، وأبو نصر بن أبي الحسن بن قنيدة ، وعبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران الداهرى ، وغيرهم ، قالوا : أنبأنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروى الصوفي ، قال : أخبرنا الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري من كتابه أخبرنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن القراب كتابة ، أخبرنا أبو النصر محمد بن الحسن بن سليمان السمسار ، وحدثنا أبو عبدالله محمد بن إبراهيم بن خالد الهروى ، حدثنا أبو عبدالله أبو عبد الرحمن عبدالله بن أحمد بن محمد بن حنبل . وقد توسع أخونا الفاضل الشيخ أخونا الفاضل الشيخ محمد بن سعيد القحطاني في ذكر أدلة إثبات نسبة هذا الكتاب إلى مصنفه ، وأما إسناد (( الرد على الجهمية )) فقد رواه أبو بكر غلام الخلال ، عن الخلال ، عن الخضر بن المثنى ، عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه .فلا أدري كيف أدعى السقاف أن في سند كتاب (( السنة )) لعبد الله بن أحمد خضر بن المثنى هذا ، هل سبب ذلك جهلة وتسرعه ، أم محض كذبه لترويج بدعه ؟! .
(********* العاشر *********)
الجواب عن حديث (( يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى )) . الذي احتج به السقاف على وجوب التأويل
قال السقاف في مقدمته على كتاب ابن الجوزي : ( ثبت في (( صحيح مسلم ))(4/1990برقم 2569 ) عن سيدنا رسول الله ? أن الله تعالى يقول . (( يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى ، قال : يارب كيف أدعوك وأنت رب العالمين ، قال : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لوعدته لوجدتني عنده ... الحديث . فهل يا قوم يجوز لنا أن نقول : نثبت لله صفة المرض ، ولكن ليس كمرضنا ؟!! وهل يجوز أن نعتقد أن العبد إذا مرض مرض الله تعالى أيضاً وكان عند المريض على ظاهره وحقيقته ) .(1/30)
قلت : المرض صفة نقص إذا لحقت بالمخلوق ، فكيف تلحق بالخالق سبحانه وتعالى ؟! وقد سبق وبينا عند الكلام على النسيان بأن الصفة إذا أضيفت إلى الرب عز وجل في موضع ، ونفيت عنه في موضع آخر – من الكتاب أو السنة – دلت على أن المراد من إضافة هذه الصفة إلى الرب أحد المعاني التي تدل عليها الصفة التي إذا نسبت إلى الرب جل وعلا لم تقدح ولم تكن صفة ذم ، وبينا أن الترك معنى من معاني النسيان وهو الذي دل عليه قوله تعالى : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } .
قال ابن منظور في (( لسان العرب ))(6/4416) : (( وقوله عز وجل : { نسوا الله فنسيهم } قال ثعلب : لا ينسى الله عز وجل ، إنما معناه تركوا الله فتركهم ، فلما كان النسيان ضرباً من الترك وضعه موضعه )) . وأما إضافة المرض لله جل وعلا فلا يجوز لأن المرض من صفات النقص المنزه عنها الله سبحانه وتعالى ، والسلف ? لما فسروا المرض هنا فسروه بما فسره به الله سبحانه وتعالى وهو : ( مرض العبد ) ، ومثل هذا ليس فيه صرف للكلام عن ظاهره ، لأن ذلك تفسير الله سبحانه – وهو المتكلم بهذا الكلام – فهو كما لو تكلم بهذا المعنى ابتداءً ، وإنما أضاف الله ذلك إلى نفسه أولاً للترغيب والحث ، كقوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله }(5) .
(******* الحادي عشر *********)
خلط السقاف بين التفويض والتأويل وبين تفويض المعنى وتفويض الكيف ليثبت التأويل عند السلف الصالح !!(1/31)
والعجيب من هذا السقاف استخفافه بالقراء الكرام ، بخلطه بين المصطلحات والإطلاقات ليثبت ما يدين به من ضرورة التأويل لصفات الرب عز وجل ، وقد ظهر هذا جلياً في مقدمته على (( دفع شبه التشبيه )) ، حيث قال : ( التفويض أيضاً كان مذهب السلف ... ونصوص أئمة السلف في قولهم أمروها كما جاءت مع عدم الخوض في بيان معناها أكثر من أن تحصر ، من ذلك ما قاله الإمام الحافظ الترمذي في ((سننه ))(4/692): (( والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ، ثم قالوا : تُروى هذه الأحاديث ، ونؤمن بها ، ولا يقال : كيف ، وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت : ويؤمن بها ، ولاتُفسر ، ولاتتوهم ، ولايُقال : كيف ، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه )) اهـ . قلت – القائل هو السقاف - : وقوله : ( لايُفسر ) هي نفس قول بعض أئمة السلف ( قراءتها تفسيرها ) ، وقوله : ( لاتتوهم ) معناه : يُصرف ظاهرها الذي يوهم مشابهة الله لخلقه ، مع تفويض المعنى الحقيقي لله تعالى ، وأما الكيف فلا نحتاج إلى تفويضه لأن الكيف محال على الله تعالى كما قال الإمام مالك : ولا يقال كيف ، والكيف عنه مرفوع ).(1/32)
قلت : يظهر للقارئ الكريم من كلام السقاف أنه يحاول بشتى الطرق – محاولة المستميت – أن يثبت أن التأويل والتفويض من مذاهب السلف . ولذلك أتى بكلام الإمام الترمذي ، وهو كلام حسن رائق لاشوب فيه البتة ، وهو حقيقة مذهب السلف ، إلا أن السقاف المبتدع جاء ففسره كما يحب ، فنسب إلى السلف ما ليس من مذهبهم البتة . فقال : ( قوله : (لاتتوهم ) معناه : يُصرف ظاهرها الذي يوهم مشابهة الله لخلقه، مع تفويض المعنى الحقيقي لله تعالى ). وهذا ليس من مذهب أهل السنة والجماعة . وإنما معنى قولهم : ( لا تتوهم ): أي لا تتوهم أنها كصفات المخلوقين ، ففيها نفي الشبه بصفات المخلوقين ، لأنه سبحانه ليس كمثله شيء ، والسبب في ذلك أن معنى الصفة معروفة عندهم في لغة العرب ، فدفعوا التوهم في المشابهة في الكيفية . وهذا ولا شك بخلاف ما ذكره السقاف ، فإنه قد نفى المعنى أيضاً ، فهل يُعقل أنهم لم يكونوا يعرفون الفرق بين الوجه واليد ، والفرق بين الرحمة والسمع ، والفرق بين الاستواء والنزول ؟!!(1/33)
من نسب إليهم ذلك فقد خاض غمار الجهل ، بل قد نسب نفسه إلى قول المعتزلة الملحدين . فهذا القول الذي بثه الخبيث من أنهم كانوا يفوضون المعنى يقتضى أنهم كانوا يثبتون للرب ما لا يعرفون معناه ، بل وهو يجر إلى قول آخر ، وهو إثبات الاسم دون الصفة ، كما ذهبت المعتزلة ، فهم يقولون : وهو سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر . وإنما كان مذهب السلف الصالح – رحمهم الله تعالى - : إجراء النصوص على ظاهرها ، ولا يقولون كيف هذا ، لأن الصفة ثابتة بنص الكتاب أو السنة أوكليهما ، وهم يعرفون معنى الصفة إذا أطلقت ، فيعرفون ماذا تعني كلمة وجه ، ويد ، واستواء ، ونزول ، وإلا لو كانوا لا يعرفونها من حيث المعنى لجل الله سبحانه وتعالى أن يخاطبهم بما لا يعلمون ، فإنه لما خاطبهم ، خاطبهم باللسان العربي – وهذا خلاف ما يعتقده السقاف !! – ومعاني هذه الصفات معروفة عندهم في اللسان العربي ، إلا أنها لما أضيفت إلى الله تعالى لم يتعرضوا إلى كيفيتها ، لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء .
وقد دل على ذلك دلالة قوية قول الإمام مالك – رحمه الله تعالى – لما سئل عن الاستواء ، فأجاب : (( الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ..)) . فنفى الكيف ، وأثبت المعنى ، ألا تراه قال : الاستواء غير مجهول ، أي معناه . ولكن السقاف قد حرّف هذا المفهوم ، فقال : ( الاستواء غير مجهول – أي أنه قد ذُكر في القرآن -..) .(1/34)
فأقول لهذا السخاف : وهل يذكر ربنا في القرآن ما لا يُعلم معناه ؟!! وهو القائل في محكم التنزيل : { لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } {النحل :103} . قال شيخنا العلامة المحدث عبدالله بن يوسف الجديع – حفظه الله – في كتابه ((العقيدة السلفية)) : (( السلف كانوا يعملون معاني الصفات ، ويفرقون بينها بحسب ما دلت عليه مما تعرفه العرب من لسانها ، فالعلم غير الحياة ، والإتيان غير الاستواء على العرش ، واليد غير الوجه ، وهكذا سائر الصفات . وفي هذا إبطال قول الملحدين في أسماء الله وصفاته في حكايتهم مذهب السلف : أنهم كانوا مفوّضة !! ، ويعنون بهذا أنهم لم يكونوا يعلمون معاني الصفات ، ولا التمييز بينها ، وأنها من المتشابه الذي يكلون العلم به إلى الله تعالى ، وهذا معنى قولهم ((أمروها إذا جاءت)) . وهذا القول من أفسد ما ينسب إلى السلف ، وهو من الكذب والبهتان والافتراء البيّن ، وذلك لأن الصفات إنما تُعرف بالوصوف ، فإذا كان السلف يجهلون معانيها فكيف كانوا أعلم من غيرهم بالله تعالى ؟! وبماذا عرفوه إذاً ؟! إن هذا لمن أسوأ ما يُظن بهم ن وهم خير هذه الأمة ، وفيهم أصحاب رسول الله ? الذين لم يقدر الله أحد مثلهم .(1/35)
وإنما كان السلف أبعد الناس عن الخوض فيما لم يحيطوا به علماً مما أخبر الله تعالى عنه من الغيب ، فكما أنهم لم يكونوا يحيطون بذات الله عليماً ، لم يكونوا يحيطون بصفاته علماً ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، إلا أن صفاته كانت دليل المعرفة به ، ولا تصلح أن تكون كذلك وهي من المتشابه الذي ليس للعباد أن يعلموا حقيقته ، وإنما كانت معلومة المعاني عندهم ، مجهولة الكيف ، كما أن ذاته تعالى معلومة عندهم بصفاته ، مجهولة الكيف ، وهذا معنى إمرار الصفات كما جاءت . بل تضمن قوله : (( نمرها كما مرت )) إثباتها على الحقيقة ، فإن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالعلم صفة على الحقيقة ، والقدرة صفة على الحقيقة ، واليد صفة على الحقيقة ، مع أن لكل صفة معنى غير الأخرى ، تعرف ذلك العرب من لغاتها )) .
(****** الثاني عشر *******)
إثبات أن كلام الله عز وجل بصوت والرد عليه في نفي ذلك
وقد صرح بمعتقده في هذه المسألة في مواطن عدة من كتبه ، نذكر منها ما ورد في كتابه (( إلقام الحجر للمتطاول على الأشاعرة من البشر )) ( ص 29 ) ، حيث قال – في معرض رده على عمر محمود صاحب كتاب (( الرد الأثري المفيد على البيجورى في شرح جوهرة التوحيد )) : - ( وأما ادعاؤه بأن كلام الله تعالى حروف وأصوات فادعاء باطل لا أساس له ، ولا دليل عليه ، وخصوصاً أنه نقل كلام ابن تيمية فقال : إن الله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف ... . إلخ .(1/36)
فنقول : أما قوله ( كما ثبت بالكتاب ) فليس صحيحاً ، فأين ذكرت لفظة ( صوت ) في القرآن صفة لله تعالى ، وأين في القرآن الآية التى فيها أن الله يتكلم بصوت ؟ ! . قال ا|لإمام البيهقي في (( الأسماء والصفات )) ( 273 ) : ولم يثبت صفة الصوت في كلام الله عز وجل أهـ . وأما قوله : ( والسنة ) فجوابه : لم يثبت في السنة أن الله تعالى يتكلم بصوت البتة ، أو أن لله صوتاً بتاتاً ... ) إلى أخر كلامه .
? قلت : بل الكلام بصوت ثابت لله تعالى بنص الكتاب والسنة :
? فأما ما دل على ذلك من الكتاب :
فقوله تعالى : { وأنا أخترتك فاستمع لما يوحى } { طه : 13 } . وقول الله تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } { النساء : 164 } . وقوله تعالى : { منهم من كلم الله } { البقرة : 253 } . وقوله سبحانه وتعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب ... } الآية { الشورى : 51 } . وقوله تعالى : { وإذ نادى ربك موسى } { الشعراء : 10 } . (( فدل هذا على أن سمع كلام الله تعالى ، ولا يسمع إلا الصوت ، وربنا تعالى قد خاطبنا باللسان العربي الذي نفهمه ، وليس فيه سماع يحصل من غير صوت ))(1) .
?(1/37)
وأما ما دل على ذلك من السنة : فحديث عبدالله بن مسعود ? قال : إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع صوته أهل السماء ، فيخرون سجداً ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قال : سكن عن قلوبهم ، ونادى أهل السماء : ماذا قال ربكم ؟ قال : الحق ، قال : كذا ، وكذا . رواه عبدالله بن الإمام أحمد في السنة ( 536 ) بسند جيد . وفي رواية : (( إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء له صلصلة كصلصلة الحديد على الصفا )) . أخرجه عبدالله في السنة ( 537 ) ، وابن خزيمة في التوحيد ( ص : 145 – 147 ) ، والدرامي في (( الرد على الجهمية )) ( ص : 91 ) . وسنده صحيح . ونقل عبدالله بن الإمام أحمد عن أبيه قوله : (( حديث ابن مسعود ? : إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت حجر السلسلة على الصفوان ، قال أبي : وهذا الجهمية تنكره )) . ومثله لا يقال بمجرد الرأى أو العقل ، فله على ذلك حكم الرفع ، كما قرر علماء الحديث ، بل وردت بعض روايات هذا الخبر مرفوعة ، إلا أنها شاذة ، فقد تفرد برفعها بلفظ مغاير عن العمش أبو معاوية الضرير محمد بن خازم ، عن النبي ? ، قال : (( إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ... . )) الحديث أخرجه أبو داود ( 4738 ) ، والآفة في هذا الخبر من أبي معاوية ، وإن كان رواه مرة على الجادة فوافق كل من رواه عن الأعمش موقوفاً باللفظ الأول ، فقد رواه – مرة أخرى – مرفوعاً ببغداد فيما ذكره عبدالله بن الإمام أحمد في (( السنة )) ( 1 / 282 ) ، وأبو معاوية وإن كان من اصحاب الأعمش إلا أنه يخطئ في أحاديث عنه ، بل قال عن نفسه : حفظت من الأعمش الفاً وست مائة فمرضت مرضة فذهب عني منها أربه مائة . وقال الإمام أحمد : (( يخطئ في أحاديث من أحاديث الأعمش )) .(1/38)
وقد خالف كل من رواه موقوفاً باللفظ الأول ، ولذا رجع البخاري الرواية فأخرجها تعليقاً في (( صحيحه )) ( 9 / 612 – اليونينية ) : (( وقال مسروق ، عن ابن مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً ، فإذا فزع قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق )) .
? وقد أثبت الإمام أحمد الكلام بصوت لله عز وجل : فقال عبدالله بن الإمام أحمد – رحمهما الله – في السنة ( 533 ) : سألت أبي – رحمة الله – عن قوم يقولون : لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ، فقال أبي : ، بلى ، إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت )) . وهذا الخبر رواه النجاد في (( الرد على من يقول القرآن مخلوق )) ( ق : 87 / ب ) عن عبدالله به .
? فدل هذا الخبر على أمرين :
أحدهما : إثبات معتقد الإمام أحمد في المسألة ، وانه يثبت الكلام بالصوت لله عز وجل ، وفي هذا رد على هذا السخاف فيما ذكره في ( ص 21 ) من كتابه المذكور حيث قال :
(( حاول الكاتب أن يرد قول أهل السنة والجماعة : أن الله تعالى متكلم ، وان كلامه ليس بحرف ولا صوت ولا لغة )) . فلا أدرى : هل يعتبر الإمام أحمد مبتدعأ ويخرجه من أهل السنة والجماعة بعد هذا النقل الصحيح عنه في بيان مذهبه في مسألة الصوت ؟! . وخصوصاً أنه منقول عنه بإسناد صحيح عند النجاد في كتابه (( الرد على من يقول القرآن مخلوق )) ، فالسقاف ينفي صحة نسبه كتاب (( السنة )) !! . أم سوف يتأول هذا النص كما تأول صفات الرب سبحانه وتعالى ؟ !(1/39)
ثانيهما : تصحيحه لهذه الأخبار الواردة في إثبات الصوت ، حيث قال : (( هذه الأحاديث نرويها كما جاءت )) ، فدل بذلك على أنه يثبت الصفة كما جاءت ولا يتاولها كما أدعى هذا الأفاك الأثيم . وقال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي – رئيس الحنابلة في عصره – المتوفي سنة 410هـ في كتابه (( اعتقاد الإمام احمد )) مخطوط – وهو مروي عنه بإسناد صحيح – ( ق : 52 / ب ) : ((وكان يقول – أي الإمام أحمد : - إن القرآن كيف يصرف غير مخلوق ، وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف ، وكان يبطل الحكاية ويضل القائل بذلك )) . وفي هذا رد على ملا على القاري فيما نقله عنه السقاف في (( إلقام الحجر )) ( ص : 24 ) حيث قال : ( قال المحدث علي القاري في شرح الفقه الأكبر ( ص : 29 – 30 ) : ومبتدعه الحنابلة قالوا كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته ، وهو قديم ) . فهذا الذي بدع به بعض الحنابلة من إثبات الصوت واحرف منقول باسانيد صحيحة عن الإمام احمد – رحمه الله - .
وممن أثبت الصوت لله عز وجل الإمام البخاري رحمه الله كما سوف ياتي ذكره .
وأصرح من خبر ابن مسعود : حديث عبدالله بن انيس ? قال : سمعت النبي ? يقول : (( يحشر الله العباد – أو الناس – عراة غرلاً بهماً )) ، قلنا : ما بهماً ؟ قال : (( ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد – أحسبه قال : كما يسمعه من قرب – أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من اهل الجنة يدخل الجنة ... ..الحديث )) . وهذا الخبر قد أعله السقاف في كتابه إلقام الحجر ( ص : 29 – 31 ) . وفي كلامه على إعلال هذا الحديث ما يدل على جهله بهذه الصناعة ، وقلة باعه فيها ، وعدم تجريه لأقوال العلماء ، هذا إذا حسناً فيه الظن ، وإلا فهو متجاهل ملبس ، يدلس الأقوال ويبتر منها مالا يوافق رأيه ، ليثبت بدعه . وسوف نتكلم بشيء من التفصيل على طرق هذا الحديث إن شاء الله تعالى .
(************الجزء الثالث عشر************)(1/40)
الكلام على حديث عبدالله بن أنس ? في كلام الرب تعالى بصوت وإثبات صحته
قد ورد هذا للحديث من طرق عن جابر بن عبدالله ، عن عبدالله بن انيس رضي الله عنهما .
? فأما الطريق الأول : فمن رواية القاسم بن عبد الواحد ، عن عبدالله بن محمد بن عقيل ، عن جابر به . أخرجه الإمام أحمد ( 3 / 1495 ) ، والبخاري في (( الأدب المفرد )) ( 999 ) ، والحاكم في (( المستدرك )) ( 4 / 574 ) ، والخطيب في (( الرحلة في طلب الحديث )) ( 31 ) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي . وقد أعله هذا السقاف بضعف القاسم بن عبدالواحد وعبدالله بن محمد بن عقيل فيما ادعاه . بل اشد من ذلك قوله : ( والكل يعرف أنه لا عبرة بتصحيح الحاكم في المستدرك خاصة ، ولا بإقرار الذهبي له هناك ، لأنه لم يحرره ما لم يطابق الواقع ، أو يوافق على ذلك الحفاظ ) .(1/41)
قلت : وفي هذه العبارة تهوين من شأن الحافظ الذهبي – رحمه الله – وأما تحريفه لكلام العلماء في رواة هذا الإسناد فكثير ، من ذلك : قوله في القاسم بن عبدالواحد ( ص : 30 ) : ( قال عنه أبو حاتم : لا يحتج به كما في الحرج والتعديل بمعناه ( 7 / 114 )) . فاحتاط لنفسه بقوله : ( بمعناه ) لئلا يتعقب ، والذي في (( الجرح والتعديل )) . قال ابن أبي حاتم : (( سألته عنه ، فقال : يكتب حديثه ، قلت يحتج بحديثه ؟ قال : يحتج بحديث سفيان وشعبه )) . وشتان بين هذا النقل ، وبين ما حرفه ذلك المؤول من قول أبي حاتم ، فإن هذا الوصف مشعر بأنه عنده من أهل الصدق والعدالة ، بل إن هذا الوصف يدل على تشدد أبي حاتم ، إذ قال : (( يحتج بحديث سفيان وشعبه )) ، أي أن القاسم هذا لم يصل إلى درجة الحافظ المحتج بحديثه دون سبر كسفيان وشعبة ، وهذا لا يمنع من كونه ثقة محتجاً به عند غير أبي حاتم ، فلا شك أن هذا الراوى أعلى درجة ممن يقول فيه أبو حاتم : (( لا يحتج به )) . وقد أورده أبن حبان في (( الثقات )) ( 7 / 337 ) ، وذكره الحافظ الذهبي في (( الميزان )) ( 3 / 375 ) ، وقال : (( راوى حديث الصوت ، ولم ينكره عليه ، مع أنه ذكر له حديثاً عدة من مناكيره )) . وهو ما اخرجه النسائي في (( عشرة النساء )) ( 256 ) ، والذهبي في (( الميزان )) ( 3 / 375 ) من طريق : محمد بن محمد بن نافع ، حدثني القاسم بن عبدالواحد ، قال حدثني عمر بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : فخرت بمال أبي في الجاهلية ، وكان قد ألف ألف وقية ، فقال النبي ? : (( أسكتى يا عائشة ، فإنى كنت لك كأبي زرع لأم زرع )) . ثم نشأ رسول الله يحدث : (( إن إحدى عشرة امرأة اجتمعن في الجاهلية وذكر ... الحديث بطوله )) . قال الذهبي – وقد وقع في روايته : (( وكان ألف ألف وقية )) : - (( قلت : ألف الثانية باطلة قطعاً ، فإن ذلك لا يتهيأ لسلطان العصر )) .(1/42)
قلت : إن كان هذا هو وجه النكارة في هذا الحديث ، فهو مردود بما فسرته رواية النسائي وبينته : (( قد ألف ألف وقية )) . فليست هناك ثمة ألف ثانية ، بل الظاهر أنها تصحفت على الذهبي ، فخففها والصواب أنها بلام مشددة . وإن كان وجه النكارة قوله : (( ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث : ... الحديث )) – إذ المحفوظ أن الذي حدثت بهذا الحديث هي عائشة – فالأولى الحمل فيه على من هو دون القاسم بن عبد الواحد ، وهو محمد بن نافع ، فقد قال فيه الذهبي نفسه في (( الميزان )) ( 4/25) : (( لا يكاد يعرف )) . وقد تفرد بالرواية عنه عبد الملك الجدي ، فالحمل عليه أولى في رواية هذا الخبر . وبهذا يتضح لك القاسم بن عبد الواحد ثقة محتج به ، لا سيما وقد ثبت البخاري له هذا الحديث كما سوف يأتي ذكره .
وأما كلامه في عبد الله بن محمد بن عقيل ، فقال ( ص : 30) : ( وأما شيخه عبد الله بن محمد بن عقيل ، في تهذيب التهذيب ( 6/13) : قال يعقوب : صدوق ، وفي حديثه ضعف شديد جداً ، وكان ابن عيينة يقول : أربعة من قريش يترك حديثهم ، فذكره فيهم ، وذكر أنه تغير ، وقال الإمام أحمد : منكر الحديث ، وقال الدورى عن ابن معين : ابن عقيل لا يحتج حديثه ، وقال ابن المدينى : كان ضعيفاً، وقال النسائي : ضعيف ، وقال ابن خزيمة : لا أحتج به لسوء حفظه . أهـ مختصراً ، وفصل القول فيه الإمام الحافظ الذهب في سير أعلام النبلاء ( 6 / 205 ) ، فقال : قلت : لايرتقى خبره إلى درجة الصحة والاحتجاج ) .
? قلت : قد اهتم هذا المحرف بنقل كلام من جرح عبد الله بن محمد بن عقيل ، وضرب صفحاً عن ذكر أقوال من عدله واحتج به . ففي التهذيب : (( قال الترمذي : صدوق ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل ، قال محمد بن إسماعيل ، وهو مقارب الحديث )) .
?(1/43)
قلت فاحتج هؤلاء الأئمة بحديثه يدل على أن من ضعفه إنما ضعفه لعلة وردت عليه ، وهي تغيره ، وذلك نقل عن يحيى بن سعيد الوجهان في الرواية عنه . فقال ابن المدينى : (( وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه )) وقال عمرو بن على : (( سمعت يحيى وعبد الرحمن يحدثان عنه )) . وأما قول أحمد ك (( منكر الحديث )) فالإمام أحمد قد يطلق النكارة على ما تفرد به الثقة . وقد صرح ابن حجر العسقلاني في (( هدي الساري )) ، وفي (( فتح الباري )) في مواضع عدة بذلك عن الإمام أحمد (1) . وأما قول الذهبي : (( لا يرتقى خبره إلى درجة الصحة والاحتجاج )) . فليس معناه تضعيف حديثه ، وإنما غايته أن يكون حديثه من رتبة الحسن ولاشك أنه أدنى من الصحيح في الدرجة والاحتجاج . وإلى ذلك ذهب شيخ السقاف الغمارى في (( الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين )) ( ص : 180 ) .
? وإلى هذا المدعى الأثيم ، والمتشبع بما لم يعط نقول : لقد صحح هذا الحديث الإمام البخارى – رحمه الله – فأورده في (( صحيحه )) ( العلم / باب : الخروج في طلب العلم ) ( 1/25) معلقاً بصيغة الجزم ، قائلاً : (( ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد )) . (( وقال في خلق أفعال العباد )) ( ص:30 ) : (( وقال عبد الله بن أنيس رضي الله عنه : ... )) فذكره تاماً . وقال ( ص : 149 ) : (( وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بُعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا )) فاستدلاله بهذا الحديث على إثبات الصوت لله عز وجل يدل على تصحيحه حديث عبد الله بن أنيس الوارد في ذلك.(1/44)
ولا أظن أن السقاف لم يقف على كلام الإمام البخارى ذكره ، وكلام البخارى المشار إليه سابقاً موجود في نفس الكتاب قبل هذا الحديث مباشرة . لكن السقاف احتال لنفسه بحيلة أخرى لدفع الاحتجاج بتعليق البخارى – رحمه الله – لهذا الحديث بصيغة الجزم في (( صحيحه )) ، فذكر كلاماً لابن حجر يشيد في ظاهره ما ادعاه من ضعف هذا الحديث ك . فقال ( ص : 31 – 32 ) : ( مرض الحافظ ابن حجر الحديث من جهة ورود لفظة الصوت ، وجزم بأن البخارى مرضه أيضاً حي قل الحافظ ما نصه في (( الفتح )) ( 1 / 174 ) : (( نظر البخارى أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا ، فإنه حيث ذكر الارتحال فقط حزم به ، بل مرضه ، لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل ، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ، ولو اعتضدت ومن هنا يظهر شفوف علمه – آي البخارى – ودقة نظره وحسن تصرفه رحمه الله تعالى )) .أ هـ كلام الحافظ من الفتح ) .
?(1/45)
قلت : وأين تعليق البخاري للحديث بصيغة الجزم في كتابه (( خلق أفعال العباد )) واحتجاجه بالرواية التي ذُكر فيها الصوت ، وقوله رحمه الله : (( وفي هذا دليل أن صوت الله لايشبه أصوات الخلق ، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب )) . فهذه العبارة الأخيرة ههي نفسها التي وردت في حديث عبدالله بن أنيس فكيف يقال بعد ذلك أنه مَرّضه تضعيفاً لهذا الحرف ؟!! ثم إن كلام ابن حجر – رحمه الله – فيه تضارب – فكيف يجزم بحسن إسناد الحديث عند كلامه على الارتحال ، ثم يطعن في الإسناد بقوله : ( فلا يكفى فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ) عند الكلام على الصوت ، مع أن شطري المتن وردا بنفس الأسانيد ؟!! . وعلى تقدير صحة ما ذهب إليه السقاف فكلام البخاري هذا أقل ما يدل عليه أنه يذهب إلى إثبات الصوت لله عز وجل . فهل تعد البخاري بذلك من أهل السنة والجماعة ، أم أنه خرج من دائرتهم إلى دائرة المبتدعة أو الزنادقة كما وصفه شيخ شيوخك ، الكوثرى المتهالك .
? أما الطريق الثاني :
فأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (156) ، وتمام الرازي في ((فوائده)) (928) من طريق : عثمان بن سعيد الصيداوي ، عن سليمان بن صالح – وعند تمام : سليم بن صالح – عبد الرحمن بن ثابت بن ثروان ، عن الحجاج بن دينار ، عن محمد بن المنكدر عن جابر به . قال الحافظ في الفتح (1/141) : (( إسناده صالح )) . وأما السقاف فرد حكم الحافظ عليه (ص :31) ، فقال : ( كيف يقبل – أي عمر محمود – هو وسادته قول الحافظ ابن حجر : وإسناده صالح هنا ، مع أن إسناده غير صالح لوجود المجاهيل في طريق الطبراني في مسند الشاميين ، وتمام ) . حتى قال : ( فعثمان الصيداوى الذي في سند الطبراني في مسند الشاميين وشيخه سليمان بن صالح مجهولان ، وشيخ الثاني : وهو عبد الرحمن بن ثابت : صدوق يخطئ رمى بالقدر تغير باخرة كما في التقريب ) .
قلت : وهذا الكلام يُظهر جهله من وجهين :(1/46)
الأول : قوله بجهالة عثمان الصيداوي وسليمان بن صالح ، فكأنه لم يقف لهما على تراجم . فأقول له : أما الأول : فترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج11/ق:99) فقال : (( عثمان بن سعيد بن محمد بن بشير أبو بكر الصفراوى ، من أهل صيدا ، الصيداوى ، من ساحل دمشق ، روى عن محمد بن شعيب وسليم بن صالح ، ومحمد بن عبدك الرازي . روى عنه : الحسن بن جرير الصورى ، ومحمد بن المعافى الصيداوي ، وأحمد بن بشر بن حبيب ، وأبو جعفر أحمد بن عمر بن أبان الصورى الأصم ، وأبو عبد الملك بن عبدوس الصورى . . . )) . وأما سليمان بن صالح فهو نفسه سليم بن صالح كما في رواية تمام ، وقد ذُكر في شيوخ الصيداوى باسم سليم ، وله ترجمة في تاريخ دمشق ولكن في الجزء المفقود منه. دل على ذلك أن ابن منظور أورد ترجمته في (( مختصر تاريخ دمشق ))(10/205) ، فقال : (( سليم بن صالح أبو سفيان العنسى سكن جبلة حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ابن ثوبان . . الحديث )) . وأما قول الذهبي فيه في (( الميزان )) : (( لا يعرف )) فمتعقب بما ذكرناه ، فإن ترجمته في (( تاريخ دمشق )) ونسبته وموطن سكنه ترفع عنه جهالة العين . وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فمع ما فيه من اللين إلا أنه عند ابن حجر ممن يتابع على حديثه ، فهؤلاء الثلاثة ضعفهم محتمل ، فمن أجل ذلك وصف الحافظ هذا الإسناد بأنه صالح ، أي أنه يقوي سابقه – وهو طريق ابن عقيل - .(1/47)
والوجه الثاني :أنه ذكر ضعف عبد الرحمن بن ثابت على سبيل القدح فيه ، لكي يغلط الحافظ ابن حجر في حكمه على إسناد الحديث من هذا الطريق ، فكأنه ظن أن حكمه على الإسناد بالصلاح يعنى أنه محتج به ، أو أنه مثل الحسن في الرتبة ، والصواب أنه يدل على ضعف الإسناد ، إلا أن هذا الضعف محتمل غير شديد . فتدبر وتأمل . وأما ما لمز به زهير الشاويش في حاشية كتابه ( ص : 35 ) حيث قال : ( تنبيه : قوله : رفيع غير فظيع لعله من تفسير ابن بشر ، فلم أره في شئ من طرق الحديث . أهـ . دال على أنه لا يعى – أي زهير – ما يقول ، إذ كان عليه أن يقول : وهذا قول باطل من رجل أجمعوا على أنه كذاب ) . فلا يصفو له : لأن هذا الحرف : (( رفيع غير فظيع )) ورد في رواية تمام من أصل الحديث ، وليس من تفسير أحد الرواة ، وهو حرف منكر .
? وأما الطريق الثالث :
فأخرجه الخطيب في (( الرحلة في طلب الحديث )) (928) من رواية عمر بن الصبح ، عن مقاتل بن حيان ، عن أبي الجارود العنسى ، عن جابر . قال الحافظ : (( في إسناده ضعف )) . قلت : بل إسناده تالف ، فعمر بن الصبح كذاب متهم بالوضع وأبو الجارود العنسى لم أقف على ترجمة له ، وليس هو الكوفى الأعمى – زياد بن المنذر – فالكوفى عامة روايته عن طبقة التابعين .
فمما سبق يتضح لنا أن حديث عبد الله بن محمد بن عقيل حديث حسن لذاته ، ويقويه طريق الحجاج بن دينار . ومثل حديث عبد الله بن أنيس في الدلالة : حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قال النبي ? : (( يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم ! فيقول لبيك ربنا وسعديك فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ، قال : يارب ! وما بعث النار؟ قال من كل ألف – أراه قال : تسع مائة وتسعين – حينئذ تضع الحامل حملها ، وترى الناس سكارى ، وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )) . وهو حديث صحيح مخرّج في (( الصحيحين )).(1/48)
وقد حاول السقاف رد هذا الدليل أيضاً ، فقال : ( قال الجاحظ في ((الفتح))(13/460) نافياً إثبات الصوت لله تعالى ، وعدم دلالة الحديث على ذلك : (( ووقع فينادى مضبوطاً للأكثر بكسر الدال ، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول ، ولا محذور في رواية الجمهور ، فإن قرينه قوله (إن الله يأمرك) تدل ظاهراً على أن المنادى ملك يأمره الله أن ينادي بذلك ))). قلت : وليس الأمر كما ادعى الحافظ ، فإن قوله ( إن الله يأمرك ) قد تحتمل الوجهين نعم ، ولكن وردت قرينة هنا تدل على أن المنادي هو الله وهي :-جواب آدم للنداء بقوله : (( يارب وما بعث النار؟ )) فإنه صريح الدلالة على أن المنادي هو الله ، وليس الملك ، إذ لو كان ملكاً ، لما أجابه آدم بقوله : (( يارب ... )) ، ولا يصرف النص عن حقيقته إلا بصارف صحيح . وصنيع البخاري يدل على ما ذكرناه ، إذ أورد هذا الحديث في كتابه (( خلق أفعال العباد )) استدلالاً به على إثبات الصوت عقب إيراده حديث عبد الله بن أنيس في نفس الكتاب ( ص:150 رقم :464) .
وفيما ذكرناه كفاية في إثبات الصوت لله عز وجل وفي الرد على السقاف في نفيه ذلك ، ولولا خشية الإطالة لأوردنا أكثر ما روي في هذا الباب من الأخبار .
(**********الجزء الرابع عشر **********)
إثبات الكلام بحرف لله تعالى والرد على السقاف في نفيه ذلك(1/49)
كما حاول السقاف أن ينفي الكلام بصوت عن صوت الله سبحانه وتعالى ، حاول أن ينفي عنه أيضاً الكلام بحرف ، فقال في كتابه (( إلقام الحجر للمتطاول على الأشاعرة من البشر )) – رداً على عمر محمود صاحب (( الرد الأثري المفيد على البيجورى في شرح جوهرة التوحيد )) - : ( حاول الكاتب أن يرد قول أهل السنة والجماعة : أن الله تعالى متكلم ، وأن كلامه ليس بحرف ولا صوت ولا لغة ، يعنون الصفة بذات المولى تبارك وتعالى ، وأن هذه الألفاظ والكتابة كلها صارت عبارات دالة على الكلام الأزلى ، وهو متعلق بعلم الله تعالى ، فلا يوصف بالحدوث كصفة العلم ) .
قلت : ويرد هنا عدة اعتراضات على كلامه هذا : الأول : أن نفي الكلام بحرف عن الرب عزّ وجل ليس قولاً لأهل السنة والجماعة كما ادعى السقاف ، وإنما هو قول الأشاعرة والماتريدية والكلابية ومن شابههم من أهل البدع . وأما أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم إمامهم الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السلف – رضوان الله عليهم – فيثبتون الكلام بحرف للمولى عزّ وجل . قال الإمام عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمى – رئيس الحنابلة في عصره – في كتابه (( اعتقاد الإمام أحمد )) - مخطوط – (ق: 52/ب) : (( وكان يقول – أي الإمام أحمد - : إن القرآن كيف يصرف غير مخلوق ، وإن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف ، وكان يبطل الحكاية ويضلل القائل بذلك )). وصنَّف الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني كتاباً في إثبات الحرف ، والرد على من ينفيه ، سامه : (( الرد على من يقول : {ألم} حرف لينفي الألف واللام والميم عن كلام الله عز وجل ))(8) .
وأما أدلة إثبات الحرف لله تعالى ، فهي :(1/50)
1 – حديث عبدالله بن عباس ? قال : بينما جبريل قاعد عند النبي ? سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : (( هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض ، ولم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته )) .
أخرجه مسلم (1/554) ، والنسائي (2/138) من طريق : عمار بن رزيق ، عن عبد الله بن عيسى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس به .
2 – حديث عبدالله بن مسعود – ? - قال : (( تعلموا القرآن ، فإنه يُكتب بكل بحرف منه عشر حسنات ، ويكفر عن عشر سيئات ، أما إني لا أقول : { ألم } ولكن أقول : ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر )) .
أخرجه ابن أبي شيبة (6/118) بسند صحيح ، واختلف في وقفه ورفعه ، والأصح الوقف ، وله حكم الرفع .
3 – قول ابن عباس – ? - : (( ما يمنع أحدكم إذا رجع من سوقه ، أو حاجته ، إلى أهله ، أن يقرأ القرآن فيكون له بكل حرف عشر حسنات )) .
أخرجه ابن المبارك في (( الزهد ))(807) بسند جيد (9) .
وأما السقاف : فيذهب إلى القرآن الذي نقرؤه مخلوق ، وهو معبِّر عن كلام الله الأزلى . قال في كتابه (( إلقام الحجر )): (( أخبر المولى تبارك وتعالى الخلق أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه العبارات المخلوقة – { يقصد القرآن الكريم } - المعبرة عن كلامه الأزلى الأبدى الذي ليس بحرف ولا صوت ولا لغة ، كما أخبر أنهم عاجزون أن يخلقوا إنساناً بل بعوضه ... .. وأن هذه الألفاظ المخلوقة باللغة العربية المنزلة على سيدنا رسول الله ... ولو كانت قديمة لما كانت في كتاب حادث مخلوق ولما تصوّر مسها ولا كتابتها في اللوح المحفوظ الذي خلقه الله تعالى وأحدثه وأجرى القلم عليه بأشياء كثيرة ) .(1/51)
قلت : هذا والله اعتقاد الجهمية ولكن بطريقة توهم القارئ بأنه مخالف له ، ولنا مع هذا الكلام وقفه . فإنه قد استدل على كون القرآن الذي نقرؤه ونحفظه ، ويسطر في المصاحف ، ويحفظه الصبيان في الكتاتيب مخلوق !! – والعياذ بالله – بأنه لو كان قديماً لم يسطر في كتاب حادث ، ولما تصور مس هذا الكتاب ، ولا كتابته في اللوح المحفوظ المخلوق ، وجوابنا عن هذا : بأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز بتكليمه لموسى ، فقال { وكلم الله موسى تكليماً } { النساء : 164 } وقال له : { فاستمع لما يوحى } { طه : 13 } . (( فدل هذا على أنه سمع كلام الله تعالى ، ولا يسمع إلا الصوت ، وربنا تعالى قد خاطبنا باللسان العربي الذي نفهمه ، وليس فيه سماع يحصل من غير صوت ( 10 ) ، فهو كلام مسموع بالآذان وليس من قبيل الإلهامات . فهل سماع موسى عليه السلام بأذنه الحادثة المخلوقة يمنع منكون كلام اله الذي تكلم به إليه قديم غير حادث ؟! وقال تعالى لنبيه ? : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } {التوبة :6} . فوصف سبحانه وتعالى هذا القرآن الذي نتلوه بألسنتنا الحادثة ، وتحفظه قلوبنا المخلوقة بأنه كلام الله ، وأنه يا محمد إذا استجار بك أحد من المشركين فأجره حتى يسمع بأذنه – وهي مخلوقة – كلام الله سبحانه وتعالى الُمنزل إليك – غير المخلوق - ، وإن كنا أثبتنا الكمال المطلق لله سبحانه ، فلا يعزب عن قدرته أن يُسمع موسى المخلوق باذنه الحادثة كلام الله سبحانه الذي هو صفة من صفاته غير المخلوق ، وإلا لو نفينا ذلك ، لتناقض الإثبات مع النفي .(1/52)
ولكن السقاف تأول هذه الآية ، فقال : ( وأما معنى قوله تعالى { فأجره حتى يسمع كلام الله }أي اتل عليه هذه الألفاظ التي خلقتها وعلمتك إياها ، والتي تعبر عن كلامي الأزلى ، والتي لم يصنفها أحد واتي تقرؤها بفمك الحادث ، وتقرير ذلك في كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري – رحمه الله تعالى - ) .
قلت : وهذا صرف لظاهر الكلام عن حقيقته ، وهو التأويل المذموم الذي ذمه السلف ، والذي نُهينا عنه ، ثم تناقض هنا فقال في أول كلامه : (( أي اتل عليه هذه الألفاظ التي خلقتها )) ، ثم قال بعد ذلك : (( والتي لم يصنفها أحد )) . والأعجب من ذلك أن السقاف تمادى في تدليسه فأحال القارئ إلى كتاب (( خلق أفعال العباد )) للبخاري ، وكأن البخاري يقول بمثل قوله !! وهاهو إمام رضي من أئمة السلف – رضوان الله عليهم أجمعين – يثبت أن هذا القرآن المثبت في المصحف ، المتلو بالألسنة ، المحفوظ في الصدور هو من كلام الله سبحانه غير حادث . هذا الإمام هو : سفيان بن عيينة – رحمه الله - .
قال الترمذي في (( الجامع )) (2884) : حدثنا محمد بن إسماعيل – ( وهو البخاري ) – قال : حدثنا الحميدى ، حدثنا سفيان بن عيينة – في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال : ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي – قال سفيان : لأن آية الكرسي هو كلام الله ، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء و الأرض. وسند هذا الخبر صحيح . وفيه ما يدل على أن آية الكرسي من كلام الله – على الحقيقة – غير الحادث ، بل الذي هو صفة من صفاته .(1/53)
وعلى قول السقاف ، فلا بد أن يقول أيضاً أن تلاوة جبريل للنبي ? مخلوقة ، فإن قال بذلك خالف ما عليه السلف ، وإن لم يقل لزمه التسليم بأن ما في المصحف من قرآن غير مخلوق . قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابورى في (( مسائله للإمام أحمد ))(1853) : ((وسمعت أبا عبدالله يقول : من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي . وقال : أرايت جبريل عليه السلام ، حيث جاء إلى النبي ? فتلا عليه ، تلاوة جبريل للنبي ? ، أكان مخلوقاً ؟! ما هو مخلوق )) .
وقد أنكر العلماء – رحمهم الله أجمعين – من قال بمثل مقولة السقاف ، بل كفر بعضهم من اعتقدها أو دان بها ، وإليك جملة من اقوالهم – رحمهم الله تعالى .
قال الإمام احمد بن حنبل – رحمه الله - : (( القرآن علم من علم الله ، ومن زعم أن القرآن مخلوق ، فقد كفر بالله تعالى ))(11) . ونقل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمى في (( اعتقاد الإمام أحمد )) عنه : (( وكان يبطل الحكاية ، ويضلل القائل بذلك ، وعلى مذهبه : أن من قال : إن القرآن عبارة عن كلام الله عز وجل فقد جهل وغلط ))(12) . والحكاية : هي ما ذهب إليه السقاف ، من أن كلام الله عز وجل معنى قائم بذاته ، وأن ما تتلوه الألسنة وتحفظه القلوب ، وما يسطر في الصحف عبارة عنه ، وحكاية له ، وهي دلالات ، والدلالات مخلوقة ، كذا زعموا !!
وقال الإمام البخاري – رحمه الله – (13) : سمعت عبيدالله بن سعيد ، يقول : سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة . قال أبو عبدالله – ( هو البخاري ) - : حركاتهم ، وأصواتهم ، واكتسابهم ، وكتابتهم مخلوقة ، فأما القرآن المتلو المبين ، المثبت في المصحف ، المسطور ، المكتوب ، الموعي في القلوب ، فهو كلام الله ليس بخلق ، قال الله : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } { العنكبوت : 49 } .(1/54)
وقال الإمام الحافظ بن محمد بن الحسين الآجرى رحمه الله (14) : (( من قال : إن هذا القرآن الذي يقرؤه الناس ، وهو في المصاحف : حكاية لما في اللوح المحفوظ ، فهذا قول منكر تنكره العلماء ، يقال لقائل هذه المقالة : القرآن يكذبك ، ويرد قولك ، والسنة تكذبك وترد قولك )) . ثم قال (15) : (( حكمه : أن يهجر ، ولا يكلم ، ولا يصلى خلفه ، ويحذر منه )).
وقال الإمام المفسر الحافظ محمد بن جرير الطبري – رحمه الله – في ذكر اعتقاده المسمى بـ (( صريح السنة )) (16) : (( فأول ما نبدأ فيه بالقول من ذلك كلام الله عز وجل وتنزيله ، إذ كان من معاني توحيده : فالصواب من القول في ذلك عندنا : أنه كلام الله عز وجل غير مخلوق ، كيف كُتب ، وكيف تُلي ، وفي أي موضع قرئ ، في السماء وجد ، أو في الرض حيث حفظ ، في اللوح المحفوظ كان مكتوباً ، أو في ألواح صبيان الكتاتيب مرسوماً في حجر منقوش ، أو في ورق خُطّ ، في القلب حُفظ ، أو باللسان لفظ ، فمن قال غير ذلك ، أو ادعى أن قرآناً في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ، أو اعتقد غير ذلك بقلبه أو أضمره في نفسه ، أو قال بلسانه دائناً به فهو كافر ، حلال الدم ، وبريء من الله والله بريء منه لقول الله جل ثناؤه : { بل هو قرىن مجيد في لوح محفوظ } ، وقال – وقوله الحق - : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } فأخبرنا جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب ، وأنه من لسان محمد ? مسموع ، وهو قرآن من محمد مسموع ، وفي اللوح المحفوظ مكتوب ، وكذلك في الصدور محفوظ ، وبألسن الشيوخ والشبان متلو )) .(1/55)
وقال أبو القاسم بن منده – رحمه الله - : بعد روايته لحديث عوف بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعاً : (( من قرأ حرفاً من القرآن كُتبت له حسنة ، ولا أقول { ألم ذلك الكتاب } ولكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم ... )) . قال : (( والمبتدع يشير بهذه الحروف إلى قرآن سوى ذلك الكتاب ، فقد صار القرآن عنده قرآنين : مجازاً وحقيقته ، والمجاز عنده مخلوق ، وصاحب الحديث يعرف قرآناً غير هذا الذي يراه المبتدع مخلوقاً )) (17) .
وفيما ذكرناه كفاية للبيب في إثبات الكلام لله تعالى ، والرد على السقاف فيما نفاه من ذلك ، وقوله بالحكاية . أعاذنا الله وعامة المسلمين من الضلال بعد الإيمان .
ملاحظة فصول الكتاب كثيرة فمن كانت عنده موجودة على ملف فليرسها إلينا مشكوراً.
لا دفاعا عن الالباني فحسب بل دفاعا عن السلفية
الرد على الجهمي المعطل حسن السقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
نتابع الردود على الجهمي المعطل حسن السقاف.
الجزء السادس عشر
إثبات صفة النزول للرب عز وجل والرد على السقاف في نفيه ذلك
وقد صرح السقاف بمعتقده في هذه المسألة في كتابه (( إلقام الحجر )) ، وفي تعليقه على كتاب ابن الجوزى : (( دفع شبه التشبيه )) .
فقال في الأول (ص:10) : ( وأما نأويل النزول بنزول ملك فهو الصحيح كما قال الباجورى ، لوروده في حديث صحيح ، ونصه : (( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ، ثم يأمر منادياً ينادي يقول : هل من داع يستجاب له ، هل من يستغفر له ؟ هل من سائل يعطي )) . رواه النسائي بسند صحيح في عمل اليوم والليلة (ص :340) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ، وقد فصلت الكلام عليه وبيان طرقه ، ومتابعاته وشواهده في (( الأدلة المقومة لاعوجاجات المجسمة )) ، وبينت بطلان كلام الألباني في تضعيفه ، وبطلان طعنه بحفص بن غياث الثقة الإمام الذي أخرج أحاديثه الستة ) .(1/56)
وقال في الثاني (ص:193) نحواً من ذلك ، وزاد زيادات سوف يأتي التنبيه عليها ، والرد على ما ورد فيها من ضلالات ، فالله المستعان .
قلت : ويكفي لإثبات صفة النزول للرب سبحانه وتعالى ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم – رحمهما الله – في (( صحيحيهما )) من حديث أبي هريرة ? : عن النبي ? ، قال : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له )) .
قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – في (( الأربعين في صفات رب العالمين ))(ص:100): (( هذا حديث حسن ، متفق عليه من حديث أبي هريرة وغيره ، وقد أفردت له جزءاً ، وقد ذكرت فيه عن أكثر من عشرين صحابياً عن النبي ? نزول الرب عز وجل بطرق كثيرة إليهم ، ومنها لمسلم : (( فينزل : فيقول : لا أسأل عن عبادي غيري )) . وقد حدّث بهذا الحديث حماد بن سلمة ، فقال : من رأيتموه ينكر هذا فاتهموه )) .
قلت : وهذا الحديث لم يسلم من طعون السقاف وتأويلاته فادعى أن الذي ينزل هو أحد الملائكة ، واستدل على ذلك بما رواه النسائي في (( عمل اليوم والليلة ))(486) : أخبرني إبراهيم بن يعقوب ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو إسحاق ، حدثنا أبو مسلم الأغر ، سمعت أبا هريرة و أبا سعيد يقولان : قال رسول الله ? : (( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ، ثم يأمر منادياً ينادي ، هل من داع يستجاب له ، هل من مستغفر يغفر له ، هل من سائل يعطى )) . وهذه الرواية شاذة ، من جهة ذكر المنادي .
فقد رواه جماعة عن أبي إسحاق فأثبتوا النزول والنداء لله عز وجل ، وهم :
1 – شعبة بن الحجاج : أخرجه الإمام أحمد (3/34) ، ومسلم (1/52) ، وابن خزيمة (1146) ، والآجرى في ((الشريعة )) (ص:310) .
2 – سفيان الثوري : أخرجه الآجرى (ص:309) .(1/57)
3 – أبو عوانة : أخرجه أحمد (2/383) ، والرامهرمزى في (( المحدث الفاصل ))(552) .
4 – معمر : أخرجه عبد الرزاق (1/444-445/19654) .
5 – إسرائيل : أخرجه الآجرى (ص:310) .
6 – شريك : أخرجه الآجرى (ص:310) .
7 – منصور بن المعتمر : أخرجه مسلم (1/523) ، والنسائي في (( اليوم والليلة ))(485) .
وليس الحمل فيه على الأعمش ، فقد رواه الآجرى (ص:309) من طريق : مالك بن سعير ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي مسلم الأغر ، عن أبي هريرة مرفوعاً: (( إن الله عز وجل يمهل حتى إذا كان شطر الليل نزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ، فقال : هل من مستغفر ... ... ... الحديث )) . وسنده صحيح . فالحمل في رواية النسائي – الشاذة – على حفص بن غياث أولى ، فقد تغير بعدما تولى القضاء ، وقد خالف الأكثر والأوثق . والحديث محفوظ من طرق أخرى – غير طريق الأغر – عن أبي هريرة بلفظ نزول الرب عز وجل . وأما زعمه أن هذا الحديث كان في كتاب حفص ، فمردود عليه .
قال في تعليقه على (( دفع شبه التشبيه ))(ص:193) : ( وقد زعما – أي الألباني وشعيب الأرناؤوط – أن حفص بن غياث تغير حفظه قليلاً بأخرة ، وأقول : إن هذا تضعيف مردود لأن رواية حفص عن الأعمش كما في إسناد هذا الحديث كانت في كتاب عند ابن حفص – عمر – كما في ترجمة حفص في (( تهذيب الكمال ))(7/60) ، و ((تهذيب التهذيب ))(2/358) ، فلا يضرها اختلاط حفص بأخرة على تسليم وقوعه ) .
*قلت : هذه إحالة على جهالة ، فالذي ورد في (( تهذيب التهذيب )) : (( قال ابن خراش :بلغني عن على بن المديني، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول : أوثق أصحاب الأعمش حفص بن غياث ، فأنكرت ذلك ، ثم قدمت الكوفة بأخرة ، فأخرج إلى عمر بن حفص كتاب أبيه ، عن الأعمش ، فجعلت أترحم على يحيى )) .(1/58)
*قلت : هذا الإسناد منقطع بين ابن خراش وعلى بن المديني من جهة ، ومن جهة أخرى لم يرد في هذا الخبر ما يدل على أن هذا الحديث من كتاب حفص ، ولم يرد في إسناد الخبر نفسه ما يدل على ذلك ، وقد يكون الحديث من رواية صاحب كتاب او صاحب نسخة ، إلا أن حديثاً بعينه من روايته لا يكون من هذه النسخة .
ونضرب على ذلك مثالاً : ما أخرجه أحمد والترمذى والحاكم من طريق :عمرو بن الحارث ، عن دراج أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد مرفوعاً : (( لاحكيم إلا ذو تجربة ، ولا حليم إلا ذو عثرة )) . قال الحافظ ابن حجر مدافعاً عن هذا الحديث في (( أجوبته عن أحاديث المصابيح )) (المشكاة :1786) : (( صحيح ابن حبان هذه النسخة من رواية ابن وهب ، عن عمرو ابن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، فأخرج كثيراً من أحاديث في صحيحه )) . فاحتج على تقوية الحديث بأنه من نسخة ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، لأن من رواه رواه من طريق ابن وهب ، فظن أنها من نسخته ، والأمر خلاف ما ذكر . قال ابن عدي في (( الكامل ))(3/1256) : (( وهذا لا يرويه مصرى عن ابن وهب ، إنما يرويه قوم غرباء ثقات سمعوه من ابن وهب بمكة ، وليس هذا في نسخة عمرو بن الحارث من رواية ابن وهب عنه )) . قلت : فكون الحديث من رواية عمر بن حفص ، عن أبيه ، عن الأعمش لا يعنى أنه في كتاب حفص عن الأعمش ، ولو سلمنا بذلك فقد خالف حفص بن غياب الأكثر والأحفظ ، فروايته على ذلك شاذة بل منكرة .(1/59)
ولا يفوتني في المقام أن أنبه على ما تعلم به السقاف في تعليقه السابق ذكره ، وحاول به أن ينقض من منزلة الشيخ الألباني – حفظه الله – من استدراكه – كذا زعم !! – وصفه لرواية حفص بن غياث بالنكارة ، حيث قال (ص:193) : ( وقوله – المعلق على (( أقاويل الثقات )) – عن حديث النسائي : منكر بهذا الشياق غريب !! بل من القول ، ويصح ذلك لو كان حفص ضعيفاً ، وليس هو كذلك ، ثم لانكارة في المتن ألبتة ، فلو كان ادعاه الألباني ، ومتابعة حقاً لكان شاذاً لا منكراً لقول أهل الحديث : وما يخالف ثقة به الملا فالشاذ والمقلوب قسمان تلا)
قلت :وهذا استدراك في غير محله ، فقد سبقهما إلى وصف ما تفرد به حفص بن غياث بالنكارة الحافظ الجهبذ أبو عبدالله الذهبي ، فقال في (( الموقظة ))(ص:77) : (( وقد يسمى جماعة من الحفاظ الحديث الذي يتفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكراً )) .
قلت : وفي هذا الإطلاق نكتة لطيفة ، وهي أن وصف حديثه بالنكارة لأنه اعتراه بعض الضعف الذي نزل به عن درجة الثقة الحافظ لحديثه المتثبت فيه ، وإطلاق النكارة مختص بالضعيف لا بالثقة المتثبت ، وابن غياث اعتراه ضعف بعد توليه القضاء . قال ابن رجب في (( شرح علل الترمذي ))(ص:297) : (( وأما حفص ابن غياث فقد كان أحمد وغيره يتكلمون في حديثه لأن حفظه كان فيه شيء )) .(1/60)
وقد حاول السقاف أن يقوي استدلاله بالحديث السابق ، فاستشهد له بشاهد عن عثمان بن أبي العاص ? مرفوعاً : (( تفتح أبواب السماء نصف الليل ، فينادي مناد ، هل من داع فيستجاب له ، هل من سائل فيعطى ، هل من مكروب فيفرج عنه ، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له ، إلا زانية تسعى بفرجها ، أو عشاراً )). قال السقاف بعد أن عزاه إلى الإمام أحمد (4/22و217) ، والبزار (4/44كشف الأستار ) ، والطبراني (9/51) : ( وهو صحيح الإسناد ، وانظر مجمع الزوائد (10/209) ، وفيه : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) . وقد نقل هناك تصحيح الألباني لهذا الحديث . والحق أن هذا الحديث : معلول . كما سوف يأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء السابع عشر
فصل في :ذكر علة خبر عثمان بن أبي العاص
ورد هذا الحديث من طريقين عن عثمان بن أبي العاص :
الأول : من رواية على بن زيد بن جدعان ، عن الحسن ، عن عثمان باللفظ المذكور . أخرجه أحمد ( 4/22و217) ، والبزار ( 4/44:كشف ) .وهذا الإسناد معلول بعلتين :
? الأولى : ضعف علي بن زيد بن خدعان .
? والثانية : الانقطاع ، فالحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص كما في ترجمته من (( تهذيب التهذيب )) (2/231)
والثاني : من رواية هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عثمان بن أبي العاص به . أخرجه الطبراني في (( الكبير ))(9/51) : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا عبد الرحمن بن سلام الجمحى ، حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار ، عن هشام بن حسان به .(1/61)
قلت : وقد اختلف في هذا الإسناد على داود بن عبد الرحمن . فأخرجه البيهقي في (( الشعب ))(7/418/3555) ، وفي (( فضائل الأوقات ))(25) من طريق : جامع بن الصبيح الرملي ، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز عن داود بن عبد الرحمن ، عن بن حسان ، عن الحسن ، عن عثمان مرفوعاً بلفظ : (( إذا كان ليلة النصف من شعبان ، نادى مناد ، هل من مستغفر فأغفر له ، هل من سائل فأعطيه ، فلا يسأل الله عز وجل أحد شيئاً إلا أعطاه إلا زانية بفرجها أو مشرك )) .
وجامع بن صبيح هذا ترجمه ابن أبي حاتم في (( الجرح والتعديل )) (2/1/530) وسكت عنه ، وضعفه لأزدى كما في (( لسان الميزان ))(2/93) .
ولكن تابعه على هذه الرواية راو ثقة وهو محمد بن بكار بن الزبير ، فرواه عن مرحوم به .
أخرجه الخرائطي في (( مساوئ الأخلاق ))(رقم :490) : حدثنا عبدالله بن أحمد بن إبراهيم الدورقى ، حدثنا محمد بن بكار ، عن مرحوم به .
قلت : وهذا سند صحيح إلى مرحوم بن عبد العزيز . ومرحوم بن عبد العزيز أثبت من مخالفة داود بن عبد الرحمن . فالأول : وثقة أحمد ، وابن معين ، والنسائي ، والبزار ، ويعقوب بن سفيان ، وابو نعيم ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج له الستة .
وأما الثاني : فقال أبو حاتم : (( صدوق )) ومثله نقل عن صالح جزرة ، وذكره ابن حبان في (( الثقات )) ، وأخرج له مسلم . فالأصح رواية مرحوم من حديث الحسن عن عثمان في فضل ليلة النصف من شعبان . وهي معلولة بالانقطاع بين الحسن وعثمان كما تقدم والله أعلم .
قلت : وقد استدل السقاف بالحديثين السابقين – وهما ضعيفان كما بينا - على أن الذي ينزل وينادي هو ملك إعمالاً لما نقله الحافظ في (( الفتح )) عن بعض المشايخ من ضبطهم لفظ : ( ينزل ) بضم الياء ، وهذا وجه ضعيف مخالف لعامة الروايات الواردة في هذا الحديث والتي تثبت النزول لله سبحانه وتعالى .
وقد أنكر بعض أهل العلم هذا الضبط .(1/62)
قال أبو القاسم الأصبهاني المعروف بـ((قوام السنة )) في كتابه (( الحجة في بيان المحجة ))(1/248) :
(( ذكر على بن عمر الحربي في كتاب (( السنة )) : أن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، قاله النبي ? من غير أن يقال : كيف ؟
فإن قيل : ينزل أو ينزل ؟ قيل : يَنزل بفتح الياء وكسر الزاي ، ومن قال : يُنزل بضم الياء فقد ابتدع ، ومن قال : ينزل نوراً وضياءً فهذا أيضاً بدعة )) .
وعلى بن عمر الحربي هذا إمام محدث زاهد ثقة صاحب معرفة وعلم وكرامات ، وانظر ترجمته في (( تاريخ بغداد )) : (12/43) ، و(( سير أعلام النبلاء )) : (17/69) .
والعجيب حقاً من السقاف – غفر الله لنا وللمسلمين – أن يصر على تجنيه على الأئمة ، فيذكر في مقام إثبات ما ذهب إليه أنه مذهب مالك ، فيقول في ( ص:194 تعليق رقم :129) :
( وممن أوّل حديث النزول بنزول رحمته سبحانه الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى ، وهو من أئمة السلف ، فيما رواه عنه الحافظ ابن عبد البر في كتابه ((التمهيد)) (7/143) ، وفي (( سير أعلام النبلاء ))(8/105) :
(( قال ابن عدي : حدثنا محمد بن هارون بن حسان ، حدثنا صالح بن أيوب ، حدثنا حبيب بن أبي حبيب ، حدثني مالك ، قال : يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمره ، فأما هو فدائم لا يزول ، قال صالح : فذكرت ذلك ليحيى بن بكير ، فقال : حسن والله ، ولم أسمعه من مالك )) .
قلت : وفي هذا أن مالكاً ينزه الله عن الحركة ، ولا نقول : إنه ساكن ، سبحان ربي العظيم الأعلى ) .
وكنت قد أجبت عن هذه الشبهة قبل تفصيلاً ، ولا مانع من استحضار علة عدم ثبوت هذا الخبر هنا ، وهي :
وهاء حبيب بن أبي حبيب ، قال أحمد : (( ليس بثقة . . . . كان يكذب )) ، وأثنى عليه شراً وسوءاً ، وقال أبو داود : (( كان من أكذب الناس )) ، وفي رواية عنه : (( يضع الحديث )) ، وقال النسائي : (( متروك الحديث ، أحاديثه كلها موضوعة عن مالك )) ، ووهاه آخرون ذكرتهم هناك .(1/63)
وصالح بن أيوب هذا مجهول .
وقد علق الذهبي على هذه الرواية بعد إيرادها في كتاب بقوله :
(( قلت : لا اعرف صالحاً ، وحبيب مشهور ، والمحفوظ عن مالك – رحمه الله – رواية الوليد بن مسلم أن سأله عن أحاديث الصفات ، فقال : أمروها كما جاءت بلا تفسير )) .
وأما طريق ابن عبد البر ففيه جامع بن سوادة وهو متهم ، وفيه علة أخرى ذكرتها في الموضع المشار إليه فلتراجع .
ثم وقفت للحافظ الكبير ابن رجب – رحمه الله – على تضعيفه لنسبة هذا القول إلى مالك ، فقال في (( فتح الباري شرح صحيح البخاري )) له ، وهو من أعظم الشروح على الإطلاق وصل فيه إلى جنائز (9/279) :
(( وقد تقدم عن مالك ، وفي صحته عنه نظر )) .
والسقاف فيما فعل تبع شيخه عبدالله بن الصديق الغمارى الذي يحذف من كلام العلماء ما يخالف مذهبه ن ويعكر مشربه .
وقد تصرف التلميذ تصرف أستاذه ، لا أعلم لأي منهما السبق في هذا المضمار !!
فقال في كتابه : (( فتح العين بنقد كتاب الأربعين ))(ص:55) :
( (( باب : نقد باب إثبات نزوله إلى السماء الدنيا )) – بعد أن أورد حديث رفاعة عن عرابة الجهنى في النزول :
((1/64)
قال الحافظ – [ أي ابن حجر ] – استدل به من أثبت الجهة ، وقال : هي جهة العلو وأنكر ذلك الجمهور ، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز ، تعالى الله عن ذلك ، وقد اختلف في معنى النزول أقوال : فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة ، تعالى الله عن قولهم ، ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة ، وهم الخوارج والمعتزلة ، وهو مكابرة ، ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال ، منزها الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف ، ومنهم من أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب ، ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد يخرج إلى نوع من التحريف ، ومنهم من فصل بين ما يمون تأويله قريباً مستعملاً في كلام العرب ، بين ما يكون بعيداً مهجوراً ، فأول في بعض ، وفوض في بعض ، وهو منقول عن مالك ، وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد ) .
قلت : فمن يقرا هذا الكلام يظن للوهلة الأولى أن الإمام مالك قد أول وفوض في أحاديث النزول ، هذا لأن الغمارى قد أسقط من الكلام ما يدل على خلاف ذلك .
فنص كلام ابن حجر في (( الفتح )) (3/23) : ( استدل به من أثبت الجهة ، وقال : هي جهة العلو ، وأنكر ذلك الجمهور ، لأن معنى القول بذلك يفضي إلى التحيز ، تعالى الله عن ذلك ، وقد اختلف في معنى النزول على أقوال : فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة ، تعالى الله عن قولهم ، ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة ، وهم الخوارج والمعتزلة ، وهو مكابرة ، ومنهم من أجراه على ما ورد ، مؤمناً به على طريق الإجمال ، ومنزهاً الله تعالى الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف ، { ونقله البيهقي عن الأئمة الأربعة ، والسفيانين ، والحمادين ، والأوزاعي والليث ، وغيرهم}، ومنهم من أوله على وجه ... .) .(1/65)
فما أسقطه الغمارى يدل على دلالة قاطعة على أن مذهب الإمام مالك هو مذهب السلف من حيث الإيمان بصفة النزول ، مع عدم الخوض في كيفيتها ، وأن ما نقله الحافظ عن الإمام مالك في التأويل والتفويض فالأغلب أنه اعتمد في ذلك على الروايات الضعيفة الواردة عنه في ذلك ، والتي سبق ذكرها ، والتي لينها ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - ، والله أعلم .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الثامن عشر
ذكر أقوال من أثبت النزول للرب عز وجل من أهل العلم
* قال الإمام الترمذي – رحمه الله – في (( الجامع ))(3/50-51): بعد أن أخرج حديث : (( إن الله يقبل الصدقة ، ويأخذها بيمينه ... ..)) . قال الترمذي : (( قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ، وقالوا : قد ثبت الروايات في هذا ، ويؤمن بها ، ولا يتوهم ، ولا يقال : كيف ؟ هكذا روى عن مالك وسفيان بن عيينة وعبدالله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث : أمروها بلا كيف ، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا : هذا تشبيه )) .
قلت : والمعنى بـ(الإمرار ) أي إثبات الصفة كما وردت ، ولا يقال : كيف ينزل ؟ ولا يقال : ينزل كنزول ... أو مثل نزول ... وإنما يثبت له الصفة مع اعتقاد الكمال له سبحانه فيها وعدم التشبيه أو التجسيم أو التكييف .
? وقال إسحاق بن راهوية – رحمه الله - : جمعنى هذا المبتدع – إبراهيم بن أبي صالح – مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ، فسألني الأمير عن أخبار النزول ،فسردتها ، فقال ابن أبي صالح : كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء ، فقلت : آمنت برب يفعل ما يشاء (20) .
?(1/66)
وقال حنبل بن إسحاق : سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروي عن النبي ? : (( إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا )) ؟ فقال أبو عبدالله : نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا نرد شيئاً منها إذا كانت أسانيدها صحاح ، ولا نرد على رسول الله ? قوله ، ولا نعلم أن ما جاء به الرسول حق . قلت لأبي عبدالله : ينزل الله إلى سماء الدنيا ، قال : قالت : نزوله بعلمه ؟ بماذا ؟ قال لي : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ، أمض الحديث على ما روى ، بلا كيف ولا حد إنما جاءت به الآثار ، وبما جاء به الكتاب . قال الله عز وجل : { ولا تضربوا لله الأمثال } . ينزل كيف يشاء بعلمه ، وقدرته ، وعظمته ، أحاط بكل شيء علماً ، ولا يبلغ قدره واصف ، ولا ينأى عنه هرب هارب (21) .
? وقال إسحاق بن منصور الكوسج – رحمه الله - : قلت لأحمد – يعني ابن حنبل - : (( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة ، حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا )) ، أليس تقول بهذه الأحاديث ؟ و ((يراه أهل الجنة )) ، يعني ربهم عز وجل . و (( لاتقبحوا الوجه فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته )) . و (( اشتكت النار إلى ربها عز وجل حتى وضع فيها قدمه )) . و (( إن موسى لطم ملك الموت )) . قال أحمد : كل هذا صحيح . قال إسحاق : هذا صحيح ، ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي (22) .
?(1/67)
وأخيراً أقول للسقاف : أبو الحسن الأشعري الذي تنسب نفسك إليه يثبت للرب عز وجل ، ويثبت الأحاديث الواردة في النزول ، وانظر إن شئت كتابه (( الإبانة ))(ص:122) باب ذكر الاستواء على العرش . وكتابه (( مقالات الإسلاميين ))( ص: 220-225) حيث قال : (( هذه حكاية جملة أقوال أصحاب الحديث وأهل السنة . . . . فذكرها ، وذكر منها: (( ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله ? أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من مستغفر ، كما جاء في الحديث عن رسول الله ? ... . حتى قال : وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب )) .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء التاسع عشر
إثبات صفة العلو للواحد القهار والرد على السقاف في نفيه ذلك
لقد تأول السقاف صفة العلو للواحد القهار ، فادعى أنه علو معنوي ، وهذا خروج عن ظاهر النصوص ، فإنه يقصد بذلك علو المنزلة والمكانة ، وينفي العلو بالذات والصفات لله تعالى .
والأدلة على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى كثيرة من الكتاب والسنة . قال تعالى :{ ثم استوى على العرش } {يونس : 3 ، الفرقان : 59 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4 } .
وقال : { أأمنتم من في السماء } { الملك : 16 } . وقال عز من قائل :{ إليه يصعب الكلم الطيب } { فاطر : 10} . وقال سبحانه : { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } {السجدة : 5 } .
وقال تعالى : { تعرج الملائكة والروح } {المعارج : 4 } .
وقال لعيسى : { إني متوافيك ورافعك إلي } {آل عمران : 55 } .
وقال عنه : { بل رفعه الله إليه } { النساء : 158} .
وقال سبحانه وتعالى : { يخافون ربهم من فوقهم } {النحل : 50 } .
وأخبر سبحانه عن فرعون فقال : { ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً } { غافر :36 – 37 } .(1/68)
وقد تأول السقاف قوله تعالى : { إني متوفيك ورافعك إلي } ، فقال في كتابه (( إلقام الحجر ))(ص:16) : ( المقرر أن علو الله تعالى علو معنوي كما أثبت ذلك الحافظ في الفتح 6/136) .
وقال فيما علقه على كتاب قواعد العقائد من كتاب الإحياء للغزالي ، والذي نشره باسم (( عقيدة أهل السنة والجماعة ))(ص:33) :
( جميع الآيات والأحاديث التي ظاهرها جهة السماء المراد منها العلو المعنوي والفوقية القهرية ، والعرب الذين جاء القرآن بلغتهم إذا أرادوا وصف أي شيء بالعظمة والرفعة والكبرياء يشيرون في تعظيمه إلى جهة السماء ، وإلى العلو المعنوي كما هو مشهور ، فالعلو المراد بالفوقية ونحوها هو من جهة المعنى وليس من جهة الحس في حق المولى تبارك وتعالى ) .
قلت : إثبات العلو لله سبحانه والفوقية له عز وجل بذاته وصفاته ليس معناه التشبيه ، ولا يعني أن يرد عليه النقص بإثبات هذه الصفة فهو سبحانه فوق عباده بذاته وصفاته بغير كيف ، مع اعتقاد الكمال المطلق ، والتنزيه عن النقص والعيب .
? وأما أدلة إثبات الصفة العلو من السنة ، فكثيرة جداً ، نذكر منها :
1 – حديث الجارية الذي حكم عليه بشذوذ لفظه :
وهو عند مسلم في (( صحيحه )) وغيره ، عن معاوية بن الحكم السلمي ، قال : كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أُحد والجوانية ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها ، وأنا رجل من بني آدم ، آسف كما يأسفون ، لكني صككتها صكة ، فأتيت رسول الله ? ، فعظم ذلك علي ، قلت يا رسول الله !! أفلا أعتقها ؟ قال : (( ائتني بها )) ، فأتيته بها ، فقال لها : (( أين الله ؟ )) قالت في السماء ، قال : (( من أنا ؟)) ، قالت : أنت رسول الله ، قال : (( أعتقها فإنها مؤمنة )) .
قال السقاف في (( عقيدة أهل السنة والجماعة )) !! (ص:36) :
((1/69)
وقد صح حديث الجارية بلفظ : (( أتشهدين أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال نعم )) ونحن نقول : هذا هو الثابت عنه ? ، ولفظة (( أين الله )) لا تثبت لأنها مروية بالمعنى ) .
وقال في تعليقه على (( دفع شبه التشبيه )) لابن الجوزي (ص:186) :
( قد خالف كثير من الحفاظ في مصنفاتهم هذا اللفظ الذي جاء في ((صحيح مسلم)) فروه بلفظ :
(( قال أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ فقالت : نعم ، قال : أتشهدين أني رسول الله ؟ قالت : نعم ، قال : أتومنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت : نعم ، قال : فأعتقها )) .
رواه أحمد في (( مسنده ))(3/452) ، وقال الهيثمي في (( المجمع ))(4/244) : رجاله رجال الصحيح ، وعبد الرزاق في (( المصنف ))(9/175)، والبراز (1/14كشف ) ، والدرامى (2/187) والبيهقي (10/57) ، والطبراني (12/27) وسنده صحيح ، وليس فيه سعيد بن المرزبان كما قال الهيثمي ، وابن الجارود في (( المنتفي))(931) ، وابن أبي شيبة (11/20)) .
قلت : وهذا الكلام فيه تدليس عريض ، فظاهره أن الاختلاف في اللفظ دون السند ، فكأنه يشير بذلك إلى أنه اختلف في متن هذا الحديث على أحد رواة السند ، فرواه جماعة عنه بلفظ مسلم ، وجماعة آخرون باللفظ الآخر ، وهذا غير صحيح .
فما أورد من تخريج هذا اللفظ فلأحاديث عدة بأسانيد مختلفة .
وسوف أذكرها لك أخي القارئ ، حتى ترى أي درجة من التدليس وصل إليها السقاف .
? أما الحديث الأول :
فالذي أخرجه عبد الرزاق في (( مصنفه ))(9/175) – ومن طريقه الإمام أحمد في ((المسند ))(3/452) وابن الجارود (931) -:
عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، عن رجل من الأنصار ، جاء بأمة سوادء إلى النبي ? ، فقال : يارسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة ... ... الحديث .
وأخرجه البيهقي في (( الكبرى ))(10/57) من طريق :
يونس بن يزيد ، عن الزهري به .(1/70)
قلت : وهذا الإسناد معلول بجهالة صحابية ، فإن قيل ما وجه إعلاله بذلك ، والصحابة كلهم عدول ؟ فالجواب : أنه لم يرد في طريق من طرق الحديث ما يدل على أن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة قد سمعه من هذا الأنصاري ، فلعله لم يسمع منه ، وكما قال السقاف :
(( متى طرأ الاحتمال سقط الاستدلال )) .
وقد استظهر البيهقي في هذه العلة ، فقال عقب إخراجه هذا الحديث :
(( هذا مرسل )) .
وأما الحديث الثاني :
فما أخرجه البراز في (( مسنده ))(13/كشف ) والطبراني في (( الكبير ))(12/27) من طريق :
ابن ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
أتى رجل النبي ? ، فقال : إن على أمي رقبة ، وعندي أمة سوداء ... .الحديث .
قلت : وهذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، وعجباً للسقاف كيف صحح الإسناد ؟!! .
? وأما الحديث الثالث :
فهو الحديث الذي أشار إليه عند الدارمى (2348) من طريق :
حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن الشريد ، قال : أتيت النبي ? فقلت : إن على أمي رقبة ، وإن عندي جارية سوداء نوبية ، أفتجزي عنها ؟ قال : ادع بها ... ... ..الحديث .
قلت : وهذا الحديث دليل قاطع على تدليس السقاف ، فحديث مسلم إنما هو من رواية معاوية بن الحكم ، مما يدل على الواقعتين مختلفتان ، وأن واقعة الشريد في التفكير عن أمه ، وبها يفسر الحديثان السابقان ، وأما واقعة معاوية بن الحكم فتختص بعتقها لأنه صكها على وجهها .
فلا أدري كيف يُشذذ لفظة في حديث ورد في واقعة معينة بحديث آخر في واقعة أخرى ؟!!
وما أجود ما علقه شيخنا عبدالله بن يوسف الجديع على من يعل الحديث باختلاف اللفظ من أهل البدع .
قال حفظه الله – في تعليقه على (( ذكر الاعتقاد )) لأبي العلاء بن العطار (ص:75) :
(((1/71)
من زعم الاختلاف في متنه فلم يصب ، لأنه احتج لما ذهب إليه بروايات أحسن مراتبها الضعف ، على أنها عند التحقيق لا تُعد اختلافاً ، وإنما أراد بعض أهل البدع التعليق بهذا لإبطال دلالة هذا الحديث على اعتقاد أهل السنة من أن الله فوق خلقه وأنه في مكان .
كذلك تشكيك بعض أهل الزيغ في ثبوت هذا الحديث في (( صحيح مسلم )) هو أوهي من بيت العنكبوت لمن علم وفهم وأنصف ، وشبهات أهل البدع لم تسلم منها آيات الكتاب فكيف تسلم منها السنن ؟؟!)) .
? وأخيراً أقول للسقاف :
قد ورد في القرآن الكريم ما يشهد لحديث الجارية ، ألم تقرأ قوله تعالى :
{ أأمنتم من السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير } {الملك : 16-17} .
? ومما يدل على علو الله عز وجل أيضاً :
الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج ، ومعراجه ? إلى السماوات العُلا ، وتردده بين الله سبحانه وتعالى وبين موسى عليه السلام في أمر الصلاة .
وفي الباب أحاديث أخرى صحيحة تثبت صفة العلو وذكرها مبسوط في كتب أهل العلم ، ولكن كان الاهتمام بذكر ما أعله السقاف منها .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء العشرون
أقوال أهل العلم الدالة على ثبوت صفة العلو للواحد القهار
وإليك أقوال أهل العلم الدالة على إثباتهم العلو لله سبحانه بذاته وصفاته .
عبدالله بن المبارك – رحمه الله - : عن علي بن الحسن بن شقيق ، قال : سألت عبدالله بن المبارك : كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل ؟ قال : على السماء السابعة على عرشه ، ولا نقول كما تقول الجهمية : أنه هاهنا في الأرض . أخرجه عبدالله في (( السنة ))(22) ، والدارمى في (( الرد على الجهمية ))( ص: 23) ، والبيهقي في (( الأسماء والصفات ))(ص:427) وسنده صحيح . وأورده البخاري جازماً به في كتاب ((خلق أفعال العباد ))(14).
?(1/72)
لإمام مالك بن أنس – رحمه الله - : قال – رحمه الله - : الله عز وجل في السماء ، وعلمه في كل مكان ، ولا يخلو من علمه مكان . رواه أبو داود في (( المسائل ))(ص:263) ، وعبدالله في (( السنة )) ، والآجرى في ((الشريعة ))(ص:289) ، من طريق : الإمام أحمد ، عن سريج بن النعمان ، عن عبدالله بن نافع ، عن الإمام مالك به . وسنده حسن ، فعبدالله بن نافع الصائغ في حفظه لين ، إلا أنه صحيح الكتاب ، وحديثه عن الإمام مالك لا ينزل عن درجة الحسن .
? الحسن بن موسى الأشيب : قال : الجهمي إذا غلا قال : ليس ثم شئ – وأشار إلى السماء - . أخرجه الإمام البخاري في (( خلق أفعال العباد ))(69) بسند صحيح .
? حماد بن زيد : عن سليمان بن حرب قال : سمعت حماد بن زيد – وذكر هؤلاء الجهمية – قال : إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء . رواه عبدالله في (( السنة ))(41) ، وابن أبي حاتم في (( الرد على الجهمية )) كما في ((العلو)) للذهبي (ص:106-107) . وسنده صحيح .
? الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - : عن يوسف بن موسى البغدادي أنه قيل لأبي عبدالله أحمد بن حنبل : الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه ، وقدرته وعمله في كل مكان ؟ قال : نعم على العرش ، وعلمه لا يخلو منه مكان . أورده اللالكائي (3/401) معلقاً ، وعزاه ابن القيم في (( اجتماع الجيوش ))(ص:123) إلى الخلال في كتاب السنة ، فعلى هذا يكون سنده صحيحاً ، فيوسف بن موسى هذا له ترجمة في (( تاريخ بغداد ))(14/308) ذكر فيها رواية الخلال عنه وثناؤه عليه وهو صاحب مسائل عن الإمام أحمد .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الواحد والعشرون
معنى قول أهل السنة والجماعة : إن الله في السماء(1/73)
إثبات أهل السنة لصفة العلو ، واحتجاجهم بحديث الجارية على أن الله في السماء ، ليس معناه إثبات الحلول له ، تعالى عن ذلك عز وجل ، وإنما عنوا بـ ((في)) أي: ((على)) . وليس هذا تأويلاً كما ادعى السقاف ، بل له نظائر في القرآن الكريم : قال تعالى : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي : على جذوع النخل .
قال شيخنا العلامة المحدث المفيد عبدالله بن يوسف الجديع حفظه الله قي تعليقه المُنيف على كتاب (( ذكر الاعتقاد ، وذم الاختلاف )) لأبي العلاء بن العطار – رحمه الله – (ص:30) : (( الحق أن الله تعالى له جهة العلو ، وأنه مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، وقول من قال من السلف والأئمة : إن الله في السماء إنما أراد حكاية القرآن : { أأمنتم من في السماء } وما ورد في حديث الجارية ونحو ذلك ، وليس معنى ذلك عندهم على الظرفية ، بل إن نصوص الفوقية والاستواء والعلو مفسرة ، لكون ( في ) بمعنى على ، وذلك نظير قوله تعالى : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } )) .
قلت : وهذا يؤيده ما ذكره الذهبي في (( الأربعين في صفات رب العالمين ))(ص:87) حيث قال : (( ورد أنه – عز وجل – في السماء ، و ( في ) ترد كثيراً بمعنى ( على ) ، كقوله تعالى : { فسيحوا في الأرض } {التوبة :2} . أي : على الأرض . { ولأصلبنكم في جذوع النخل } {طه : 71} . أي على جذوع النخل ، فكذلك قوله : { أأمنتم من في السماء } {الملك :16} . أي : من على السماء )) .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الثاني والعشرون
طعن السقاف وشيخه عبدالله الغماري في حماد بن سلمة للطعن في أحاديث الصفات(1/74)
وقد سلك السقاف وشيخه عبدالله بن الصديق الغماري مسلك أهل البدع قبلهم في الطعن في أحاديث الصفات بالطعن في حماد بن سلمة – رحمه الله – الثقة الرضضي لنه روى جملة كبيرة من أحاديث الصفات ، حتى قالوا : عن شيطاناً ألقاها إليه ليضل بها أهل الحق ، ونسبوا هذا القول إلى إبراهيم بن عبد الرحمن ابن مهدي .
وأصل هذه القصة : وما أخرجه ابن عدي في (( الكامل ))(2/676) : عن الدولابي قال : حدثنا أبو عبدالله محمد بن شجاع بن الثلجي ، أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي ، قال : كان حماد بن سلمة لا يُعرف بهذه الأحاديث حتى خرج خرجة إلى عبادان ، فجاء وهو يرويها ، فلا أحسب إلا شيطاناً خرج إليه في البحر فألقاها إليه . وهذه قصة موضوعة ملفقة ، وضعها أبن الثلجي الكذاب ، فهو جهمي ضال خرب القلب ، كان يضع الحديث .
قال ابن عدي : (( كذاب ، وكان يضع الحديث ويدسه في كتب أصحاب الحديث بأحاديث كفريات )) .
وكان يفعل ذلك ليثلبهم ، ويلحق بهم في النقص .
والعدل والقسط في الحكم على أحاديثه التي رواها في الصفات ما ذكره شيخنا الجديع – حفظه الله - ، قال (23) :
(( ما صح سنده إليه وجب قبوله والإيمان به إن أسنده بالسند الصحيح ، وأهل البدع يجهلون طرق الحديث والمعرفة برواته ، ويتبعون الشبهات ، ولو أنهم علموا وتثبتوا وأخلصوا في النية لبان لهم أن ما ورد به الخبر الصحيح موافق لما ورد به القرآن ، ويحتذي فيه حذوه ، ولكن القوم عموا وصمّوا ، وتمكنت منهم الأهواء )) .
قلت : وقد صرح عبدالله الغماري بالطعن في في حماد بن سلمه في كتابه (( فتح المعين ))(ص:20) حيث قال :
((1/75)
حماد بن سلمة وإن كان ثقة ، فله أوهام ، كما قال الذهبي ، ولم يخرج له البخاري ، ومن أوهامه ما رواه عن عكرمة ، عن ابن عباس : (( رأيت ربي جعداً أمرداً عليه حلة خضراء )) وروى عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد دونه ستر في لؤلؤ ، قدميه أو رجليه في خضرة ، قال الذهبي في الميزان ، فهذا من أنكر ما أتى به حماد بن سلمة وهذه الرؤية منام إن صحت ) .
وقد علق السقاف على كلام شيخه هذا في الحاشية بقوله :
( وأقول : حماد بن سلمة إمام ثقة ، لكن لا ينبغي أن تقبل أخباره في الصفات البتة ، لأن ربيبيه كانا يدسان في كتبه ما شاءا ، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/452) : إلا أنه طعن في السن ساء حفظه ... فالاحتياط أن لا يحتج به فيما يخالف الثقات أ . هـ كلام الذهبي .
قلت : فما بالك برواياته التي يخالف بها نصوص التنزيه في الكتاب والسنة !! فتدبر ) .
قلت : أما كون البخاري لم يخرج من لحماد بن سلمة فقد أخذ عليه ذلك ، فقد أخرج عن قوم دونه في الضبط والإتقان .
قال الحافظ الذهبي في (( الميزان ))(1/594) :
(( نكت ابن حبان على البخاري ، ولم يسمعه حيث يحتج عبد الرحمن بن عبدالله بن دينار ، وبابن أخي الزهرى ، وبابن عياش ، ويدع حماداً )) .
قلت : والأصح أن يُقال : إن البخاري لم يمتنع عن إخراج حديثه مطلقاً ، بل له حديث عند البخاري في (( الصحيح )) .
قال الحافظ الذهبي في ترجمة حماد بن سلمة من (( السير ))(7/446) :
(( تحايد البخاري إخراج حديثه ، إلا حديثاً خرجه في الرقاق ، فقال : قال أبو الوليد : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس عن أبُي )) .(1/76)
وعدم إخراج البخاري له كما زعم شيخ السقاف فليس بقادح فيه ، فالبخاري لم يشترط أن يخرج حديث الثقات جميعاً كما يعلم المبتدئ من طلاب العلم ، فإقحام مثل هذا القول عند الكلام على حماد بن سلمة دون ذكر الجواب عنه إنقاص من قيمته ، وإنزال من رتبته ، وهو من هو من الحفظ والضبط والإتقان ، وأقوال أهل العلم شاهدة على ذلك .
وأما قول السقاف : (حماد بن سلمة إمام ثقة ، لكن لا ينبغي أن تقبل أخباره في الصفات ألبتة ، لأن ربيبيه كانا يدسان في كتبه ماشاءا ) .
فمتناقض ...
فكيف تقبل أحاديثه في غير الصفات ، وترد أحاديثه في الصفات مستدلاً على نحو ذلك بخبر موضوع وحكاية ملفقة .
إنما مستندك في ذلك :
ما رواه ابن عدي في (( الكامل ))(2/676) بالسند السابق ذكره إلى ابن الثلجي ، قال : سمعت عباد بن صهيب ، يقول : إن حماد بن سلمة كان لا يحفظ ، فكانوا يقولون ، إنها دست في كتبه ، وقد قيل : إن ابن أبي العوجاء كان ربيبه ، فكان يدس في كتبه هذه الأحاديث .
وابن الثلجي كذاب كما مر ذكره .
وأما الأحاديث التي أوردها الغماري من رواية حماد بن سلمة في الرؤية ، ليطعن بها فيه ، فليس فيها ما يدل على أن الحمل عليه فيها ، فهو لم يتفرد برواية هذه الأحاديث من جهة :
قال الحافظ أبو أحمد بن عدي في (( الكامل ))(2/678) عقب روايته أحاديث الرؤية من طريق حماد :
(( هذه الأحاديث التي رويت عن حماد بن سلمة في الرؤية ، وفي رؤية أهل الجنة خالقهم ، قد رواها غير حماد بن سلمة ، وليس حماد بمخصوص به فينكر عليه )) .
ومن جهة أخرى فهي غير محفوظة عنه باللفظ المذكور .
وأما قول الذهبي : (( فهذا من أنكر ما أتى به حماد بن سلمة )) .
فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أن الحديث بهذا التمام الذي ذكره الذهبي منكر ، غير محفوظ عن حماد بن سلمة ، فالآفة فيه من غيره .
تفصيل ذلك :(1/77)
أن الحديث صحيح من حديث حماد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ : (( بلفظ ربي عز وجل )) .
فقد أخرجه بهذا اللفظ :
الإمام أحمد ( 1/285) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، بإسناده ومتنه .
وأخرجه من طريقه : أبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة ))(1/509) . وقد اختلف في متنه على أسود بن عامر .
فرواه ابن عدي في (( الكامل ))(2/677) من طريق : النضر بن سلمة شاذان ، حدثنا الأسود بن عامر ، بسنده ، بلفظ : (( أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ ، قدميه ، أو قال : رجليه في خضرة )) .
وهذا سند واه بمرة ، آفته النضر بن سلمة – شاذان – قال أبو حاتم : (( كان يفتعل الحديث )) .
وقال عبدان : سألنا عباس العنبري عن النضر بن سلمة ، فأشار إلى فمه ، قال ابن عدي : (( أراد أنه يكذب )) .
ولكن رواه ابن عدي في (( الكامل ))(2/677) ، والدار قطنى في (( الرؤية ))(300) كلاهما عن الحسن بن علي بن عاصم ، حدثنا إبراهيم بن أبي سويد الذراع ، حدثنا حماد بن سلمة بإسناده .
ولفظه عند ابن عدي : (( رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء )) .
ولفظه عند الدار قطنى : (( رأيت ربي في أحسن صورة )) .
قلت : وهذا إسناد تالف ، آفته الحسن بن علي بن زكريا بن صالح بن عاصم ، وله ترجمة في (( تاريخ بغداد ))(7/382) .
قال ابن عدي : (( أبو سعيد الحسن بن علي العدوي يضع الحديث ، ويسرق الحديث ، ويلزقه على قوم آخرين ، ويحدث عن قوم آخرين ، ويحدث عن قوم لا يعرفون ، وهو متهم فيهم ، وإن الله لم يخلقهم ، وعامة ما حدث به – إلا القليل – موضوعات ، وكنا نتهمه بل نتيقنه أنه هو الذي وضعها )) ، وقال الدار قطنى : (( متروك )) ، وقال ابن حبان : (( لعله قد حدث عن الثقات بالأشياء الموضوعات ما يزيد على ألف حديث )) .
ورواه ابن عدي من طريق : محمد بن رزق الله موسى ، حدثنا السود ابن عامر ... .. بسنده وبلفظ :
(((1/78)
رأيت ربي في صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراء )) .
قلت : ومحمد بن رزق الله بن موسى هذا قد أطلت البحث عنه فلم أعرفه ، ولا أظنه الذي ترجمه الخطيب في (( تاريخ بغداد ))(5/27) باسم محمد بن رزق الله الكلوذاني .
ورواه ابن عدي من طريق محمد بن رافع ، حدثنا الأسود بن عامر بسنده وبلفظه حديث الحسن بن علي بن عاصم .
ومن طريقه البيهقي في (( الأسماء والصفات ))(ص:444) .
ومن طريق الذهبي في (( السير ))(10/113) ، وقال :
(( وهو خبر منكر )) .
قلت : لاشك في ذلك ، والحمل فيه على محمد بن رافع ، فهذه الزيادة في هذا الحديث قد تفرد بها عن الأسود ، وخالفه الإمام أحمد فرواه عن الأسود من غير زيادة ، ومحمد بن رافع وإن كان ثقة إلا أنه دون الإمام أحمد في الحفظ والضبط والإتقان ، فهذه الزيادة منكرة كما ترى .
فإن قيل : ولكن رواه غيره عن الأسود بهذه الزيادة ؟
فالجواب : إن الطرق ضعيفة إلى الأسود كما سبق أن ذكرنا بل بعضها تالفة واهية .
وقد رواه غير الأسود عن حماد ، فلم يذكر هذه الزيادة ، مما يدل على أن حماداً لم يحدث بهذا الحديث على هذا الوجه المنكر .
فالحديث قد أخرجه الآجرى في (( الشريعة ))(ص :494) حدثنا أبو بكر بن أبي داود ، قال : حدثنا الحسين بن كثير العنبري ، قال : حدثنا أبي ، قال :حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مرفوعاً :
(( رأيت ربي عز وجل )) .
وسنده صحيح .
رواه الإمام أحمد (1/290) ، وابن أبي عاصم في (( السنة ))(433) وابن عدي (2/677) من طريق : عفان ، حدثنا عبد الصمد بن كيسان ، حدثنا حماد بن سلمة بالسند والمتن السابق.
ولكن رواه الخطيب في (( تاريخه ))(11/214) من طريق : عمر ابن موسى ابن فيروز ، حدثنا عفان ، فذكره بإسناده ولكن زاد :
(( صورة شاب أمرد عليه حلة حمراء )) .(1/79)
قلت : وهذه زيادة منكرة ، تفرد بها عمر بن موسى بن فيروز التوزى ، وهو مستور ، ذكره الخطيب في ((تاريخه ))(11/214) ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وقد خالف كلاً من الإمام أحمد بن حنبل ، وحنبل بن إسحاق ، وفضل ابن سهل ، فرووه من غير هذه الزيادة .
ولكن في هذا الإسناد عبد الصمد بن كيسان ، قال الحافظ في ((تعجيل المنفعة))(ص:26):
(( عبد الصمد بن كيسان : عن حماد بن سلمة ، وعنه عفان ، فيه نظر ، قلت : أظنه الأول ، تصحف اسمه )) .
يقصد بذلك عبد الصمد بن حسان ، وهو صدوق حسن الحديث كما يظهر من ترجمته في (( التعجيل )) ، فقد وثقه ابن سعد ، وقال أبو حاتم : ((صالح الحديث ، صدوق)) ، وقال الذهبي : (( صدوق إن شاء الله )) .
فهذا يدلك على أن ما ورد في المتن من نكارة إنما هو من قلة ضبط من روى الحديث عن الأسود بن عامر ، وليس هو بمحفوظ بهذا المتن المنكر عن حماد بن سلمة ، وإنما المحفوظ عنه من حديثه ، لفظ :
(( رأيت ربي عز وجل )) .
وهذا الحديث قد صححه جماعة من الحفاظ منهم الإمام أحمد بن حنبل ، وأبو زرعة الرازي ، وغيرهما .
ففي (( رسالة عبدوس بن مالك العطار عن الإمام أحمد )) رحمه الله (ص:58) ، قال :
(( أصول السنة عندنا : ... ... والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روى عن النبي ? من الأحاديث الصحاح ، وأن النبي ? قد رأى ربه ، فإنه مأثور عن رسول الله ? ، صحيح ، رواه قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ورواه الحكم ابن أبان ، عن عكرمة عن ابن عباس ، ورواه علي بن الزيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس )) .
وقال عبدالله بن الإمام أحمد في (( السنة ))(584) :
(( رأيت أبي رحمه الله يصحح هذه الأحاديث أحاديث الرؤية ويذهب إليها وجمعها في كتاب وحدثنا بها )) .
وروى الضياء في (( المختارة )) عن أبي زرعة الرازي ، قال (24) :
(( وحديث قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس صحيح ، ولا ينكره إلا معتزلي )) . يعتني باللفظ المختصر .(1/80)
ولا يتوهم – كما يحاول أن يبث السقاف في روع القراء – أن أهل السنة والجماعة يثبتون الحديث بهذه الزيادة المنكرة الواردة فيه ، والتي سبق أن بينا أن الحمل فيها على من هو دون حماد بن سلمة وليست الآفة منه .
والوجه الثاني : أن قول الذهبي هذا مجمل ، وليس بحجة على أن الحمل في هذا الخبر عند الذهبي على حماد بن سلمة لأنه لما روي هذا الحديث في ((السير))(10/113)،قال :
(( خبر منكر نسأل الله السلامة في الدين فلا هو على شرط البخاري ، ولا مسلم ، ورواته وإن كانوا غير مهتمين ، فما هم بمعصومين من الخطأ والنسيان )) .
والوجه الثالث : أننا لو سلمنا بصحة أسانيد هذا الخبر – بهذه الزيادة – إلى حماد بن سلمة ، فكيف تغاضى السقاف عن عنعنة قتادة بن دعامة السدوسي وهو عنده وعند شيوخه مدلس ، ولو تعاضى عن هذه العلة فاين من أعل هذه الرواية بعكرمة ؟!
قال البيهقي في (( الأسماء والصفات )) : (( وقد حمل غيره من أهل النظر في هذه الرواية على عكرمة مولى ابن عباس )) .
قلت : ونحن لا نحاول دفع التهمة عن حماد ، لنصيب بها غيره ، وإنما غايتنا أن السقاف إنما تغاضى عن بيان هذه العلل كلها حتى يسلم له اتهام حماد بن سلمة ، كما هو الحال عند أسلافه من المعتزلة .
والسقاف متناقض ..
فتارة يوثق حماد بن سلمة في غير أحاديث الصفات ، فيقول – كما مر ذكره - :
( حماد بن سلمة إمام ثقة ، لكن لا ينبغي أن تقبل أخباره في الصفات ألبتة ) .
ثم يأتي في موضع آخر من قراطيسه – وهو تعليقه على (( دفع شبه التشبيه ))(ص :19) – فتدفعه عقيدته الاعتزالية إلى الطعن فيه بشدة فيقول :
( نحن نغمز حماد بن سلمة أشد الغمز ، خصوصاً في أحاديثه في الصفات ).
وتراه يتعالم بخبث طوية ، فيقول (ص : 178-179) :
( حماد بن سلمة ضعفه مشهور ، وإن كان من رجال مسلم ، وقد تحايده البخاري ، كما في (( الميزان ))(1/594) في ترجمته ) .(1/81)
فلا أدري كيف يقول في موضع : (( إمام ثقة )) ، ثم يتناقض نفسه في موضع آخر فيقول : (( ضعفه مشهور )) .
والأغرب من ذلك أن يعل حديث أبي رزين العقيلي مرفوعاً :
(( كان علماء ما تحته هواء ، وما فوقه هواء ، ثم خلق عرشه على الماء )) ،بحماد بن سلمة وفيه من هو أوهي منه .
قال (ص : 189) :
(وهذا حديث ضعيف لأجل حماد بن سلمة ، ولا تقبل أخباره في الصفات ألبتة ، وكذلك يضعف هذا الحديث بوكيع بن عدس ، لأنه مجهول لم يرو عنه إلا يعلى بن عطاء) .
قلت : فقدم إعلال الحديث بحماد مع أن فيه من هو أضعف منه – وهو وكيع – ووكيع هذا قد حدث بالحديث قبل حماد ، فالآفة فيه منه ، وليست من حماد ، ولكن دفعه إلى ذلك مادفع المعتزلة من قبله إلى الطعن في حماد .
ولن أكلف نفسي الجهد في جمع أقوال أهل العلم في تعديل وتوثيق حماد ابن سلمة فهي كثيرة جداً ، ومبسوطة في ترجمته في كتب الرجال و (( السير )) للذهبي ، حتى عُد حبه من علامة اتباع السنة ، وبغضه والقيعة فيه من علامة البدعة .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الثالث والعشرون
طعن السقاف في محمد بن إسحاق بن يسار صاحب (( السير ))
ولكن : هل اكتفى السقاف بالطعن في حماد بن سلمة فقط ؟ لا ، بل أيضاً في محمد بن إسحاق بن يسار صاحب (( السير )) وذلك لأنه روى حديثاً يخالف معتقد السقاف . قال السقاف في تعليقه على (( دفع شبه التشبيه ))(ص: 267) : ( محمد بن إسحاق عنعن هذا الحديث ولا حجة بحديثه إذا عنعن عند من يحسن حديثه ، والحقيقية أنه قد كذبه وطعن فيه جماعة من كبار الأئمة كما في ترجمته في (( التهذيب ))(9/34فكر ) ، فقد طعن فيه الإمام أحمد بن حنبل وكذبه الإمام مالك أيضاً ، وسليمان التيمي ، ويحيى القطان ، ووهيب بن خالد وهؤلاء من أئمة هذا الشأن ) .(1/82)
قلت : ولن أجيب على كلام السقاف السابق طعما في تصحيح الحديث الذي رواه ابن إسحاق ، بل للإنصاف وللأمانة العلمية وللعدل في القول الذي يجب على كل طالب علم أن يحرص عليه ، فقد قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً } {النساء :58} . وابن إسحاق هذا حافظ كبير ، عليه مدار أحاديث كثيرة في الأحكام ، وفي السير ، وفي غيرهما ، والتسرع في الحكم عليه ، أو تلفيق حكم زائغ عليه ، بلية من البلايا . وسوف أكتفي بالإجابة عما أورده السقاف من دعوى طعن أهل العلم فيه بما يرد حديثه .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الرابع والعشرون
((الجواب عما أورده السقاف من أسباب رد حديث ابن إسحاق مطلقاً ))
أما قوله : (وكذبه الإمام مالك أيضاً ، وسليمان التيمي ، ويحيى القطان ، ووهيب بن خالد ، وهؤلاء من أئمة هذا الشأن ) . فإنه لم يورد ما أجيب به عما ذكره من تكذيب سليمان التيمي ، ويحيى القطان ، ووهيب ، ففي (( التهذيب )) – ومنه نقل السقاف - : (( وقال ابن المديني : ثقة ، لم يضعه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب ، وكذبه سليمان التيمى ، ويحيى القطان ، ووهيب بن خالد ، فأما وهيب والقطان فقلدا فيه هشام بن عورة ، ومالكاً ، وأما سليمان التيمى ، فلم يبين لى لأي شئ تكلم فيه ، والظاهر أنه لأمر غير الحديث ، لأن سليمان ليس من أهل الجرح والتعديل )) .
قلت : فهذا دال على أن قول سليمان التيمي فيه لا يضره بنص حافظ كبير وإمام جهبذ في الجرح والتعديل وهو ابن المديني .
وأما دعوى تكذيب وهيب بن خالد ويحيى القطان فمستندها قصة موضوعة ، وأصلها :
ما أخرجه العقيلي في (( الضعفاء ))(4/24) ، وابن عدي في (( الكامل ))(6/2117) من طريق :(1/83)
عبد الملك بن محمد ، حدثني سليمان بن داود ، قال : قال لي يحيى بن سعيد القطان : أشهد أن محمد بن إسحاق كذاب ، قال : قلت : وما يدرك ؟ قال : قال لي وهيب بن خالد ، فقلت لوهيب : ما يدريك ؟ قال : قال لي مالك بن أنس ، فقلت لمالك بن أنس : ما يدريك ؟ قال : قال لي هشام بن عروة ، قال : قلت لهشام بن عورة : وما يدريك : قال : حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ، وقد دخلت علي وهي بنت تسع سنين ، وما رآها حتى لقيت الله عز وجل .
والإجابة عن هذه القصة من وجهين :
الأول : أن هذه القصة مختلفة موضوعة ، والمتهم بها سليمان ابن داود الشاذكوني ، وقد انتقدها الذهبي في (( سير أعلام النبلاء ))(7/49) ، فقال :
(( معاذ الله أن يكون يحيى وهؤلاء بدا منهم هذا بناء على أصل فاسد واه ، ولكن هذه الخرافة من صنعة سليمان وهو الشاذكوني – لا صبحه الله بخير – فإنه مع تقديمه في الحفظ ، متهم عندهم بالكذب ، وانظر كيف سلسل الحكاية .
ويبين لك بطلانها أن فاطمة بنت المنذر لما كانت بنت تسع سنين لم يكن زوجها هشام خلق بعد ، فهي أكبر منه بنيف عشرة سنة ، وأسند منه ، فإنها روت كما ذكرنا عن أسماء بنت أبي بكر ، وصح أن ابن أبي إسحاق سمع منها ، وما عرف بذلك هشام ، أفبمثل هذا القول الواهي يكذب الصادق )) .
الثاني : أنه لو صحت هذه القصة فمستند التجريح والطعن في ابن إسحاق ضعيف ، فإن سماعه من فاطمة ثابت وإن نفاه هشام بن عروة ، وإن أقسم على ذلك كما ورد في بعض الأخبار عنه .
قال الذهبي في (( السير ))(7/38) :
(( هشام صادق في يمنيه ، فما رآها ، ولا زعم الرجل – ( أي ابن إسحاق ) – أنه رآها ، بل ذكر أنها حدّثته ، وقد سمعنا من عدة نسوة وما رأيتهن )) .
وأما تكذيب الإمام مالك لابن إسحاق :
فإنما هو من قبيل كلام القرآن بعضهم في بعض ، فقد وقع ابن إسحاق في مالك ، ووقع مالك في ابن إسحاق ، هذا إن صح أنه قد كذبه .(1/84)
وقد تتبعت ما روى عن مالك في تكذيب ابن إسحاق فلم أجد ما يصح في ذلك ، وإنما أشد ما قال فيه : (( دجال من الدجاجلة )) ، ولا يقتضي هذا القول تجريحاً كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وأما الأخبار التي وردت في تكذيب مالك لا بن إسحاق ، فهي :
1 - ما رواه ابن عدي في (( الكامل ))(6/2116) : حدثنا ابن حماد ، حدثني أبو عون محمد بن عمرو بن عون الواسطى ، حدثنا محمد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا عفان ، عن وهيب ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : هو كذاب . قلت : وهذا إسناد ضعيف فيه شيخ ابن عدي ، وهو محمد بن أحمد بن حماد ، أبو بشر الدولابي ، قال ابن عدي : (( هو متهم فيما يقوله في نعيم بن حماد لصلابته في أهل الرأي )) ، وقال ابن يونس : (( كان يضعف )) ، وقال الدار قطنى : (( تكلموا فيه ، ما تبين من أمره إلا خير )) . ومحمد بن يحيى بن سعيد هو ابن القطان ، تفرد ابن حبان بذكره في (( الثقات ))(9/82) ، وأورده ابن أبي حاتم في (( الجرح والتعديل ))(1/4/123-124) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وأما ابن جحر فقال : (( ثقة )) ، فلا أدري ما مستند التوثيق عنده ، ولم يوثقه معتبر ؟!!
2 – ما رواه العقيلي في (( الضعفاء ))(4/24) : حدثنا أحمد بن علي الأبار حدثنا إبراهيم بن زياد – سبلان - ، حدثنا حسين بن عروة ، قال : سمعت مالك بن أنس يقول : محمد بن إسحاق كذاب . قلت : وهذا الإسناد فيه : حسين بن عروة ، ضعفه الساجي والأزدي ، وقال أبو حاتم : (( لا بأس به )) . وقول أبي حاتم هذا معناه أن يكتب حديثه وينظر فيه ، أي انه لا يحتج به على إطلاقه ، كما بين ذلك ابنه في (( الجرح والتعديل ))(1/1/37) . والحسين بن عروة قد تفرد بهذه الحكاية عن مالك ، ولم يشاركه أحد من أصحاب مالك في حكايتها عنه ، فهل أسر بها مالك إليه ؟!! .(1/85)
لقد تبين الإمام مسلم رحمه الله أن الرواي وإن كان ثقة أو صدوقاً إذا تفرد بحديث أو خبر عن حافظ كبير ، فلم يشاركه في هذا الخبر أحد من أصحاب هذا الحافظ ، كان تفرده بهذا الخبر منكراً مردوداً .
قال الإمام مسلم – رحمه الله – في مقدمة (( الصحيح ))(1/7) :
(( فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره ، أو لمثل هشام بن عروة ، وحديثها عند أهل العلم مبسوط مشترك ، قد نقل أصحابهما عنهما حديثها وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم ، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس )) .
ولكن صح عن مالك انه قال في ابن إسحاق : (( دجال من الدجاجلة )) .
وهذا الوصف لا يؤخذ منه جرح ، ولا يعول عليه خصوصاً وأنه قال هذا القول لما أخبر أن ابن إسحاق يقول : اعرضوا على علم مالك ، فإنى أنا بيطاره .
وقيل : إنه قال ذلك لما طعن ابن إسحاق في نسب الإمام مالك .
قال الذهبي في (( السير ))(8/711) :
(( وروي عن ابن إسحاق أن زعم أن مالكاً وآله موالي بني تيم ، فأخطأ ، وكان ذلك أقوى سبب في تكذيب الإمام مالك له ، وطعنه عليه )) .
ولو نظر السقاف إلى ترجمة ابن إسحاق في (( التاريخ الكبير )) للبخاري ، لوجد أن الإمام البخاري – رحمه الله – لم يورد فيه إلا التعديل ، ولم يورد فيه كلام الطعن وخصوصاً كلام مالك ، فكأنه لا يثبت عنده قول مالك بتكذيبه ، أو أن ذلك عنده لأمر غير الرواية ، فهو من قبيل كلام الأقران ، ولا يقبل كلام الأقران بعضهم في بعض .
يدل على ذلك ما نقله الذهبي في (( السير ))(7/4) ، قال :
(( قال البخاري : ولو صح عن مالك تناوله من ابن إسحاق ، فلربما تكلم الإنسان ، فيرمي صاحبه بشىء واحد ، ولايتهمه في الأمور كلها )) .
وقال الذهبي في (( الميزان ))(3/471) :
(( لم يذكر ابن إسحاق أبو عبدالله البخاري في كتاب الضعفاء له )) .
وقد نفى التهمة عن ابن إسحاق سفيان بن عيينة .(1/86)
قال ابن أبي حاتم في (( الجرح والتعديل ))(2/3/192) :
حدثنا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل ، حدثنا على بن المديني ، قال : سمعت سفيان بن عيينة سئل عن محمد بن إسحاق ، فقيل له : لم يرو أهل المدينة عنه ، قال :
جالست ابن إسحاق بضعاً وسبعين سنة ، وما يتهمه أحد من أهل المدينة ، ولا تقول في شيئاً .
وسنده صحيح .
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري– فيما نقله الذهبي في((السير))(7/39)-:
(( الذي يذكر عن مالك في ابن إسحاق لا يكاد يُتبن )) .
وقال الذهبي في (( السير ))(7/44) :
(( وقال يعقوب بن سيبة : سألت علياً – يعني ابن المديني - : كيف حديث ابن إسحاق عندك ، صحيح ؟ فقال : نعم ، حديثه عندي صحيح ، قال : فكلام مالك فيه ؟ قال: مالك لم يجالسه ولم يعرفه ، وأي شيء حدث به ابن إسحاق بالمدينة ؟!! )).
وأما قول السقاف :
( طعن فيه الإمام أحمد ) .
فإنما حمل عليه الإمام أحمد لتدليسه ، وأما صرح بالسماع فيحتج به إذا لم ينفرد بمنكر .
وقد نقل الذهبي في (( الميزان ))(3/469) عن الإمام أحمد قوله :
(( حسن الحديث )) .
وفي (( بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم )) ليوسف بن حسن ابن عبد الهادي (ص:363) :
(( قال ابن إبراهيم – (أي إسحاق بن إبراهيم بن هانئ ) - :
قلت : محمد بن إسحاق في الزهرى ؟ قال هو ثقة ، ولكن معمر ومالك وهؤلاء أوثق منه )) .
وأما ما نقل عنه أنه قال : (( كان ابن إسحاق يشتهي الحديث ، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه )) .
فلا يدل على جرح ، وقد أجاب عن ذلك الحافظ الذهبي في (( السير ))(7/46) ، فقال :
(( هذا الفعل سائغ ، فهذا الصحيح للبخاري فيه تعليق كثير )) .
والقول العدل في محمد بن إسحاق :
ما قاله الإمام الذهبي في (( السير ))(7/41) :
(((1/87)
له ارتفاع بحسبه ، ولا سيما في السير ، وأما في أحاديث الأحكام ، فينحط حديثه فيه عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن ، إلا فيما شذ فيه ، فإنه يعد منكراً هذا الذي عندي في حاله )) .
قلت : وهذا الذي نأخذ به ، ولا نحتج بما لم يصرح فيه بالسماء ، فإنه مكثر من التدليس ، ولا نغالي فيه فنقول : صحيح الحديث ، بل هو حسن الحديث إذا لم يخالف أو لم يتفرد بأصل أو سنة لم يأت بها غيره من الثقات . والله الهادي إلى سواء السبي
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الخامس والعشرون
إثبات رؤية الرب في الآخرة وتخبط السقاف في إثبات ذلك
وقد ذهب السقاف مذهب المعتزلة في نفي رؤية الرب عز وجل في الآخرة ، فقال في كتابه (( احتجاج الخائب بعبارة من ادعى الإجماع فهو كاذب ))(ص:39) : ( اعلم أولاً : أن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – كذب عليه الناس كثيراً ، من ذلك ما في كتاب السنة المنسوب لابنه ، ذكر فيه أن الإمام أحمد يقول بجلوس الله تعالى على العرش ، وحاشاه من ذلك ، ولو ثبت هذا عنه فهو مردود عليه بنصوص الكتاب والسنة المنزهة للمولى تبارك وتعالى عن مشابهة الحوادث والمخلوقات ، { ليس كمثله شيء } وإني أنقل أحد تلك النصوص الفظيعة الشنيعة المثبتة في كتاب الزيغ المسمى بكتاب السنة ، فأقول : لو نظرنا ص:79 لوجدنا مانصه : ذكر الكرسي : سئل – أي أحمد – عما روى في الكرسي وجلوس الرب عليه . رأيت أبي ? يصحح هذه الأحاديث – أحاديث الرؤيا – ويذهب إليها وجمعها في كتاب وحدثنا به .. إلى آخر ذلك الهراء الوثنى ، ومقام الإمام أحمد يجل عن هذه الوثنية التي تشمئز منها الأرواح ) .
قلت : بل هي سلفية تلين لها قلوب المؤمنين ، وتغلظ منها قلوب الزائغين أمثال السقاف المبتدع . والجواب عن هذا الكلام من وجوه :(1/88)
الأول : أن كتاب (( السنة )) لعبد الله بن الإمام أحمد – رحمهما الله – الذي حاول السقاف الطعن في نسبته لمصنفه ثابت النسبة حاول السقاف الطعن في نسبته لمصنفه ثابت النسبة إلى عبدالله بن أحمد كما بيناه من قبل في هذا الكتاب ، وقد ذكرنا هناك كذب السقاف في تلفيق إسناد كتاب الرد على الجهمية لهذا الكتاب – (( السنة )) - .
الثاني : أننا لو سلمنا للسقاف أن هذا الكتاب غير صحيح النسبة لعبدالله بن الإمام أحمد ، فليس هذا معناه أن هذا النص غير ثابت عنه ، بل هو صحيح ثابت عن الإمام أحمد . فقد رواه ابن النجاد الفقيه – رحمه الله – في كتاب (( الرد على من يقول القرآن مخلوق )) . وفي (( مسائل إسحاق بن إبراهيم النيسابوري ))(2/152/1850) قال : (( سمعت أبا عبدالله يقول : من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي ، والجهمي كافر )) .
الثالث : أن أحاديث الرؤية الصحيحة المثبتة لهذه السلفية – ( أو وثنيتك التي تدعيها خيبك الله ) – كثيرة بلغت حد التواتر ، وهو مما يفيد العلم اليقيني عندك كما أثبت في غير موضع من كتبك . قال أبو الفيض الكتاني في (( نظم المتناثر من الحديث المتواتر ))(ص:153) بعد أن ذكر أحاديث الرؤية : (( وقال اللقاني في شرح جوهرته : أحاديث رؤية الله تعالى في الآخرة بلغ مجموعها مبلغ التواتر ، مع اتحاد ما تشير إليه ، وإن كان تفاصيلها آحاداً )) .
فلا أدري كيف يخالف السقاف في هذه المسألة ، مع صحة الأحاديث الواردة في فيه ، ومع إثبات صاحب جوهرته للرؤية . بل قال شيخه–المنسوب إليه–أبو الحسن الأشعري في ((رسالته إلى أهل الثغر))(ص:76): (( وأجمعوا على أن المؤمنين يرون الله عز وجل يوم القيامة بأعين وجوههم )) .
وإليك أيها القارئ السلفي الأثري – وإليك أيضاً أيها السقاف المعتزلي – جملة مما صح في هذا الباب من أحاديث .(1/89)
1 – حديث جرير بن عبدالله البجلي ? : قال : كنا جلوساً عند رسول الله ? ، إذا نظرنا إلى القمر ليلة البدر ، فقال :(( أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها )) – يعني العصر والفجر – ثم قرأ جرير : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } {طه : 130} . أخرجه البخاري (1/105) ، ومسلم (1/4339) ، وأبو داود (4729) ، والترمذي (2551) ، والنسائي في (( الكبرى ))( تحفه : 2/427) ، وابن ماجة (177) من طريق : قيس بن أبي حازم ، عن جرير به .
2 – حديث أبي هريرة ? : قال : قال ناس : يارسول الله ! أنرى ربنا عز وجل يوم القيامة ؟ قال : (( هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة ؟!)) ، قالوا : لا ، قال : (( والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤية أحدهما )) . أخرجه مسلم (4/2279) ، وأبو داود (4730) من طريق : سفيان بن عيينة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة به .
3 – حديث أبي سعيد الخدري ? : قال :قلنا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : (( هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً ؟ )) قلنا : لا ، قال : (( فإنما لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضرون في رؤيتهما )) . أخرجه البخاري (4/285) ، ومسلم (1/167) من طريق : عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد مطولاً .
4 – حديث صهيب بن سنان النمري ? : مرفوعاً : (( إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال : يقول تبارك وتعالى ، تريدون شيئاً أزيدكم ، فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة ، وتنجينا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل )) . أخرجه مسلم (1/163) ، والترمذي (2552) ، وابن ماجة (187) من طريق : عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب به .(1/90)
5 - حديث أبي موسى الأشعري ? : مرفوعاً : (( جنتان من فضة آنيتهما وما فيها ، جنتان من ذهب آنيتهما وما فيها ،وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) . أخرجه البخاري (4/287) ، ومسلم (1/163) ، والترمذي (2528) ، من طريق : أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه به.
والعجيب حقاً : أن يتناقض السقاف : صاحب كتاب (( تناقضات الألباني ))؟!! – فيثبت حديث الرؤية في موضع آخر من كتبه . حيث قال في تعليقه على كتاب ابن الجوزي الجهمي (( دفع شبه التشبيه ))(ص:210) – تعليقاً على قول ابن الجوزي : (( كما وقع الشبه في رؤية الحق سبحانه برؤية القمر في إيضاح الرؤية لا في تشبيه المرئي )) -: قال السقاف : ( أي عندما قال ? في الحديث الصحيح : (( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته )) كان معنى كلامه : أي أنكم سترون ربكم ، وسوف لا تشكون هل الذي رأيتموه هو ربكم أم لا كما أنكم إذا رأيتم القمر فإنكم لا تشكون أن الذي ترونه هو القمر ليلة البدر ، وليس معنى ذلك أن الله يشبه البدر حاشاً وكلا )) . فانظر أيها اللبيب إلى هذا التناقض العجيب ، والتخبط الشديد في اعتقاد هذا الرجل.
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء السادس والعشرون
طعن السقاف المبتدع في السني ابن السني عبدالله بن الإمام أحمد ـ رحمهاالله ـ
والسقاف كعادته كثير الطعن في علماء أهل السنة والجماعة ، ولم يسلم منه أحد من أئمة السلف حتى عبدالله بن الإمام أحمد – رحمه الله – فقد قال في كتابه الخائب ((احتجاج الخائب ))(ص: 11) : (( فإذا علمت أنهم كذبوا على الإمام أحمد في كتب يدعون أن لها أسانيد صحيحة ، وأن عليها سماعات إلى غير ذلك من هذيان فارغ ، علمت أن هذه اللفظة ربما تكون من جملة تلك الكذبات أو الفريات وخصوصاً أنها من طريق ابنه عبدالله عنه ، ككتاب الزيغ )) .(1/91)
فقوله : (( وخصوصاً أنها من طريق ابنه عبدالله عنه )) يدل على ما يكنه قلب هذا الحاقد من كره لأهل السنة والجماعة ، ومنهم عبدالله بن الإمام أحمد – رحمه الله - . وإذا علمت أنه تطاول بخبث وعنجهية وتكلم في معاوية بن أبي سفيان – ? - كاتب الوحي ، وخال المؤمنين ، فلا تستكبر بعد ذلك أن يتكلم في عبدالله بن الإمام أحمد ، أو حتى في الإمام أحمد نفسه ، أو غيره من أئمة السلف .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء السابع والعشرون
بيان تلبيس السقاف في تضعيفه لحديث السبُحات الذي رواه مسلم والرد عليه
قال تعليقاً على الحديث الأول الذي رواه مسلم من رواية أبي موسى ? موفوعاً : (( إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام ، يخفض القسط ، ويرفعه . . .)) . إلى قوله : (( حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه )) . وفي تعليقه على كتاب ابن الجوزي (ص:200) : ( هذا الحديث من مشكل صحيح مسلم ، لما فيه من الألفاظ والمعاني الغريبة ، وقد أشار مسلم إلى عنعنة الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، وكان مدلساً كما هو معلوم ، فهذه رواية شاذة لا سيما وقد أشار مسلم بعدها إلى علة فيها ، ثم روى الحديث بعد ذلك بلفظ معقول شرعاً من طريق شعبة ، عن عمرو بن مرة بلفظ : (( إن الله لا ينام ، و لاينبغي له أن ينام ، يرفع القسط ويخفضه ، ويرفع إليه عمل النهار بالليل ، وعمل الليل بالنهار )) . فلفظ السبحات : لا يثبت ، ولا يجوز أن يجزم به صفة لله تعالى ، وخصوصاً أن الحافظ ابن الجوزى حكى عن أبي عبيدة : أنه لا يعرف السبحات في لغة العرب ، أي لم يسمعها إلا في هذا الحديث ) .
قلت : وهذا الكلام على وهنه ووهائه فيه ما فيه من التلبيسات والتدليسات .
أولها : قوله : (وقد أشار مسلم بعدها إلى علة فيها ) .
?(1/92)
قلت : إنما قال مسلم عقب رواية هذا الحديث – وهو الأصل في الباب عنده ، ومابعده متابعات له ، والمتابعة ليس لها شرط الصحيح ، وإنما كتاب مسلم هذا في الصحيح وليس في العلل أيها المتهالك - : وفي رواية أبي بكر : (( عن الأعمش )) ولم يقل حدثنا . يقصد هنا : أبا معاوية الضرير ، فهو الذي لم يصرح بالسماع في رواية أبي بكر بن أبي شبية ، ولم يقصد بذلك عنعنة الأعمش على أنها علة كما لبّس السقاف ، وهذا من باب ذكر الاختلاف في الرواية ، وهو مما ميز صحيح مسلم على صحيح البخاري ، وقد صرح أبو معاوية بالسماع في الرواية الأخرى عند مسلم ، وهي رواية أبي كريب عنه . وصرح في رواية علي بن حرب عند أبي عوانة في (( المستخرج ))(1/145) .
ثانيها :محاولته إعلال الحديث بعنعنة الأعمش .
وهذا مردود من وجهين :
الأول :أن هذا الحديث قد رواه عن الأعمش ثلاث أنفس ، وهم : ابو معاوية ن وسفيان الثوري (25) ، وجرير ولم يختلف على الأعمش فيه ، مما يدل على أنه لم يدلسه .
الثاني : أن الأعمش لم يتفرد برواية هذا الحديث عن عمرو بن مرة بهذا اللفظ ، وغنما تابعه عليه المسعودى . أخرجه الإمام أحمد في (( المسند ))(4/400-401) ، وابن ماجة (196) من طريق : وكيع ، عن المسعودى به .
قلت : والمسعودى ثقة اختلط ، إلا أن سماع وكيع منه قبل الاختلاط . قال الإمام أحمد – كما في (( العلل ومعرفة الرجال )) برواية عبد الله (1/325/575) - : (( سماع وكيع من المسعودى بالكوفة قديم وأبو نعيم أيضاً ن وغنما اختلط المسعودى ببغداد ، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعه جيد )) . فالحديث – على تقدير احتمال التدليس – بهذه المتابعة صحيح لا ريب في ذلك . ووصف السقاف لهذه الرواية بالشذوذ خطأ كبير ، وجهل واضح .(1/93)
ثالثها : محاولته لإعلال هذه الرواية شعبة الناقصة . وهذا مخالف للقواعد الحديثية ، فإنما روى شعبة الشطر الأول من الحديث ، وتفرد الأعمش والمسعودى وهم الأكثر برواية الشطر الأول والشطر الثاني من الحديث ، والتفرد بالزيادة من الحافظ مقبولة ، فكيف إذا توبع ؟!!
رابعها : تحريفه لكلام أبي عبيدة حيث قال : (( لم نسمع هذا الأمر إلا في هذا الحديث )) . فقال السقاف : (الحافظ ابن الجوزى حكى عن أبي عبيدة أنه لا يعرف السبحات في لغة العرب ، أي لم يسمعها إلا في هذا الحديث ) .
قلت : وهذا تدليس واضح ، بل كذب على أبي عبيدة ، فكلام أبي عبيدة لا يقتضي المعنى الذي ذكره السقاف فإنه يحتمل أنه لم يسمع هذا اللفظ في الأحاديث التي سمعها إلا في هذا الحديث ، وهذا لا يدل بأي حال من الأحوال على ضعف الحديث أو شذوذ اللفظة ، أو أن هذه اللفظة ليست في كلام العرب . *وهو كقول أبي هريرة ? في الحديث الذي أخرجه البخاري في((صحيحه))(2/252): والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الثامن والعشرون
تشكيك السقاف في صحة نسبة بعض أحاديث مسند أحمد إليه
واتهامه الحنابلة بالدس في المسند
ومن بلايا هذا السخاف الطعن في دواوين السنة ، سواءً الصحاح أو المسند . فهذا هو مسند الإمام أحمد – وهو أحد الدواوين المشهورة في السنة – لم يسلم من طعن هذا السقاف المبتدع ، وكيف يسلم من تششكيكه ولم يسلم من بلاياه الصحيحان اللذان رد كثيراً من أحاديثهما مما تخالف عقيدته .(1/94)
قال هذا الأفاك الأثيم في تعليقه على كتاب ابن الجوزى ( ص:18) عند الكلام على حديث : (( فضحك حتى بدت لهواته وأضراسه )) : ( هذه الزيادة المنكرة أنها من دس الحنابلة المجسمة ،لأنهم وخاصة رؤساؤهم متخصصون في الدس والوضع حتى في مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي ينتسبون إليه كما سأذكر أحد براهين ذلك في فائدة خاصة آخر هذا التعليق ) . ثم قال : ( فائدة خاصة مهمة : ذكر الحافظ الذهبي في ((الميزان ))(2/624) والحافظ ابن حجر في (( لسان الميزان))(4/26: الهندية ) و(4/32دار الفكر ) ترجمة : عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمى الحنبلي ، وقالا فيها : (( من رؤساء الحنابلة ، وأكابر البغاددة ، إلا أنه آذى نفسه ووضع حديثاً أو حديثين في مسند الإمام أحمد . قال ابن رزقويه الحافظ : كتبوا عليه محضراً بما فعل ، كتب فيه الدار قطنى وغيره ، نسأل الله العافية والسلامة ) .
قلت : هذا إن كان قد حدث من أحد الحنابلة فلم يحدث من غيره ، وإلا لما توانى هذا السقاف الخبيث عن ذكره ، فكيف يصف الحنابلة بهذا الوصف العجيب القبيح ، ويعمم فيهم الاتهام . وكذلك فإن كان هذا حدث من عبد العزيز بن الحارث فإن أهل الحديث لم يقفوا مكتوفي الأيدي أما هذا الحدث الجلل ، بل سطروا محضراً أثبتوا فيه تهمة هذا الرجل ، وهذا كاف لتبرئة ساحتهم ، وإبراء ذمتهم . فكفى منك أيها السقاف طعناً في دواوين السنة وأمهات الكتب .
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء التاسع والعشرون
نفى السقاف صفة الضحك عن الله عز وجل
و نسبة التأويل إلى الإمام البخاري والرد عليه في ذلك(1/95)
قال السقاف في تعليقه على (( دفع شبه التشبيه ))(ص:179) تعليقاً على ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ? مرفوعاً : (( يضحك الله من رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة )) : ( اعلم أن هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه ورد عند النسائي (6/38برقم 3165) بلفظ : (( إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه .. )) وإسناده صحيح ، ورواه ابن خزيمة كما في (( الجامع الكبير )) برقم (28615) للحافظ السيوطي ، ومنه تبين أننا لا نستطيع الجزم بواحد من اللفظين ) .
قلت : وهذا تدليس بين ، وتلبيس واضح . فلفظ الحديث عند النسائي : (( إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقل أحدهما صاحبه )) . وقال مرة أخرى : (( ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ، ثم يدخلان الجنة)). وهذا اللفظ الأخير لم يذكره السقاف لئلا تنكشف حيلته في رد الحديث بهذا اللفظ ، وهذا الحديث رواه بلفظ : (( يضحك )) الإمام مالك في موطئه (2/460) عن أبي الزناد به . ومن طريقه البخاري ومسلم والنسائي . والحديث بالوجهين رواه النسائي ، قال أخبرنا محمد بن المنصور ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة به . وسفيان هو ابن عيينة ، وهو وإن كان دون مالك في التثبت والحفظ ، إلا أنه رواه على وجه يوافق ما رواه مالك ن ولو تفرد مالك بالوجه الأول لرجح لتقدمه في الحفظ والتثبت ، والله أعلم .(1/96)
وأما الحديث الثاني :الذي رده السقاف المبتدع فهو حديث ابن مسعود ? الذي أخبر في عن النبي عليه السلام ، عن آخر رجل يدخل الجنة ، وضحكه عليه السلام ، فقيل : مم تضحك ؟ فقال : من ضحك رب العالمين حين قال : أتستهزئ مني . قال السقاف (ص: 178) : (وهي عندنا لا تثبت لأن راويها (( حماد بن سلمة )) ، ضعفه مشهور وإن كان من رجال مسلم ، وقد تحايده البخاري كما في (( الميزان )) وقد صح حديثه هذا في مسلم دون الزيادة التي ذكرناها هنا لمتابعة غيره له في الحديثين اللذين قبله في مسلم ، لاسيما والرواة قد اختلفوا في هذا اللفظ أو شكوا هل قال : أتسخر بي أو أتضحك بي كما في مسلم ) .
قلت : حماد بن سلمة ثقة رضي حافظ ، كما مر بيانه وذكره وهو حافظ مقدم في روايته عن ثابت البناني ، وهذا الحديث عند مسلم من روايته عن ثابت ، عن أنس ، عن ابن مسعود . قال ابن المديني – رحمه الله - : (( لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة )). ومثله عن الإمام أحمد . وقال ابن معين : (( من خالف حماد بن سلمه في ثابت فالقول قول حماد )) . فحديثه هذا حجة ، وقد احتج البخاري بروايته عن ثابت كما مر ذكره وتحقيقه ، خلافاً لما زعمه السقاف . وأما دعوى المخالفة التي ادعاها السقاف فواهية لأن الخبر الثاني الذي أعل به السقاف هذا الحديث من طريق آخر ، عن جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن ابن مسعود . وشك الراوي في اللفظ قد يكون سبباً في إعلال هذا الحرف إذا كان قد تفرد به على الشك ، أما إذا تابعه ثقة أحد اللفظين ، فهذا يدل دلالة قوية على ثبوت اللفظ المتابع عليه .
وبعد :فهذه طريقة أهل الزيغ والضلال في هدم الدين برد الأحاديث الثابتة ، والطعن في أحاديث الصحيحين ، مع أنه يكُثر من تأليب الناس على الشيخ الألباني بدعوى أنه يضعف بعض أحاديث الصحيحين .(1/97)
وأما ما ادعاه السقاف من نسبة التأويل إلى الإمام البخاري – رحمه الله – وأنه أول الضحك بالرحمة فغير صحيح . قال السقاف (ص:179) : ( قال البيهقي هناك – ( أي في الأسماء والصفات ) - : روى الفربرى عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى أنه قال : معنى الضحك في الحديث الرحمة ) .
قلت : هذا ليس بدليل كاف على إثبات التأويل على الإمام البخاري فأين إسناده إلى الفربرى ، وأين هو من الصحيح ، فالفربرى من رواة الصحيح . ولقد استحضر ابن حجر – وهو منسوب إلى الأشعرية - عدم صحة نسبة هذا القول إلى الإمام البخاري ، فقال : في (( الفتح ))(8/513) : (( لم أر ذلك في النسخ النسخ التي وقعت لنا من البخاري )) . وابن حجر معتبر عند هذا السخاف ، فكيف لم يعرج على قوله هذا ، ويأخذ به كعادته فيما وافق مذهبه ؟!!
--------------------------------------------------------------------------------
الجزء الثلاثون
مراوغة السقاف في الإحتجاج بأحاديث الآحاد
ليرد أحاديث الصفات التى توافق معتقدة
وقد سلك السقاف مسلك أهل البدع المعروفين به لرد أحاديث الصفات التي لا توافق معتقداتهم الباطلة ، وذلك عن طريق الطعن في هذه الأحاديث بأنها أحاديث آحاد ، وهي – كما يدعون – ظنية الثبوت ، ويجل الله سبحانه عن أن تثبت له صفة من الصفات بخبر ظني !! .
? وهذه الطريقة كما قال أبو المظفر السمعاني : (( رأس شعب المبتدعة في رد الأخبار )) .
?(1/98)
بل التعبير عن ذلك بالظن واليقين هو من محدثات هؤلاء المبتدعة تدليساً عن إطلاق الأئمة المتقدمين وهو : ( إفادة العلم والعمل ) ، فإنهم لما زأوا أن الأئمة المتبوعين ، وأهل النظر والتحقيق منهم يثبتون ذلك بقولهم أن أحاديث الآحاد تفيد العلم والعمل جميعاً ، أى أنها يقينية الثبوت على إطلاق هؤلاء المبتدعة أرادوا طمس هذا الوصف القديم بالوصف المحدث تمويهاً منهم وتلبيساً ، كما فعل اللفظية حين أطلقوا قولهم البدعي (( لفظنا بالقرآن مخلوق )) بعد أن تصدى لهم أهل السنة فيما ادعوه صراحة من أبي القرآن الكريم مخلوق ، فجنحوا للقول الثاني تمويهاً وتعمية ، وكذلك هم فعلوا في أحاديث الآحاد .
? والذي عليه متقدمو أهل الحديث ، وأهل السنة الجماعية : أن حديث الواحد الصحيح الإسناد بنقل العدل الضابط عن مثله ، إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة يفيد العلم والعمل جميعاً ، أي أنه قطعي الثبوت – كما يعبر عنه
? ونقل ابن عبدالبر في (( التمهيد )) ( 1/8 ) هذا القول عن :
(( قوم كثير من أهل الأثر ، وبعض أهل النظر ، منهم الحسين الكرابيسى وغيره ، وذكر خواز بنداذ أن هذا القول يخرج على مذهب مالك )) .
? وإليه ذهب ابن حزم ، ونه أخذ ، ونقله عن داود الظاهري ، والحارث ابن أسد المحاسبي ، كما في كتابه (( الإحكام في أصول الأحكام )) ( 1 / 115 ) .
? وهو مذهب البخاري والشافعي .
فأما البخاري فأفرد له باباً من أبواب (( صحيحه )) ( 4 / 252 ) فقال : ( باب : ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام ) .
وأورد فيه أخباراً على ما ترجم له .
وأما الشافعي فقال في (( الرسالة )) ( ص401 ) :
(( الحجة في تثبيت خبر الواحد )) .
ثم ساق الأدلة على ذلك .
فلا حجة بعد ذلك فيما نقله ابن عبدالبر من أن الشافعي يذهب إلى إثبات العلم دون العمل لأحاديث الآحاد .
?(1/99)
ونقل أبو القاسم الأصبهاني في كتابه (( الحجة )) ( 2 / 214 ) عن الإمام أبي المظفر السمعاني قوله – في الرد على ما قال بأنه لا يفيد العلم والعمل - :
(( وهذا رأس شغب المبتدعة في رد الأخبار ، وطلب الدليل من النظر والإعتبار فنقول ، وبالله التوفيق :
إن الخبر إذا صح عن رسول الله ? ، ورواه الثقات والأئمة ، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله ? ، وتلقته الأمة بالقبول : فإنه يوجب وتلقته الأمة بالقبول : فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم .
هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين على السنة ، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ، ولا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به : شيء أخترعه القدرية والمعتزلة ، وكان قصدهم منه رد الأخبار ، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم علم في العلم وقدم ثابت ، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول ، ولو أنصفت الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم ، فإنهم تراهم مع أختلاف في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد )) .
وقال : (( فإذا قلنا : إن خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم ، حملنا أمر الأمة في نقل الأخبار على الخطأ ، وعلناهم لاغين ، مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ، ولا ينفعه ، ويصير كأنهم قد دنوا في أمور مالا يجوز ارجوع إليه ، والاعتماد عليه ، وربما يرتقى هذا القول إلى أعظم من هذا ، فإن النبي ? أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من أصحابه ، ليؤدوه إلى الأمة ، ونقلوا عنه ، فإذا لم يقبل قول الراوى لأنه واحد ، رجع هذا العيب إلى المودى ، نعوذ بالله من هذا القول الشنيع ، والاعتقاد القبيح )) .
وأما ما احتج به ذلك الخائب في مقدمته لكتاب ابن الجوزي من فعل بعض الصحابة في رد بعض الأخبار التى رواها غيرهم عن النبي ? فلا تدل بحال من الأحوال على ماذهب إليه من نفي ذلك .
?(1/100)
وإليك الجواب عن كل خبر من هذه الأخبار . قال السقاف ( ص : 33 ) من مقدمة (( دفع شبه التشبيه )) : تحت عنوان : (( رد الصحابة بعض أحاديث الآحاد الثابتة واستيثاقهم منها أحياناً أخرى )) . ( رد السيدة عائشة – رضي الله عنها وأرضاها – على سيدنا عمر – رضوان الله عليه – في حديث (( تعذيب الميت ببكاء أهله )) ) . وقال ( ص : 34 ) : ( ردت السيدة عائشة على من قال أو روى أن سيدنا محمد ? رأى ربه ، وهو ابن عباس – ? - وغيره ) . وقال ( ص : 35 ) : ( وردت السيدة عائشة ? على من قال : (( بال رسول الله ? قائماً )) ) . وذكر عدة أخبار مثلها .
? قلت : هذا لا يفيد بحال من الأحوال أم مارواه غيرها عن النبي ? ظني الثبوت عندها ، وإن ما رأته منه يقيني ، وإنما ردت ما ردت لسبب من الأسباب التالية :
أحدها : أن يكون ما سمعه الصحابي من النبي ? يقتضي العموم ، فيحدث به على هذا الوجه ، فيفيد حكماً شرعياً ، يخالفه ما سمعته هي عن النبي ? مما يفيد الخصوص كما في استدراكها على عمر بن الخطاب ? .
ثانيها : أن يخبر أحد الصحابة بخلاف هديه الظاهر لها ، ويكون هذا الهدي مما اطلعت عليه هي بخلاف ماروى هذا الصحابي ، كما في ردها على من حدث بأن النبي ? بال قائماً .
ثالثهما : أن يخبر أحد الصحابة بحال من أحوال النبي ? مما لم تطلع عليه هي رضي الله عنها – فتسدل عليه بعموم القرآن ، كما ورد في إثبات ابن عباس لرؤية النبي ? لربه ، ونفيها هي ذلك .
وهذا كله لا يثبت بحال من الأحوال أن أقوال الصحابة عندها ظنية الثبوت ولو كان كذلك لكانت أقوالها ظنية عند الصحابة ، ولردوا سنناً كثيرة لم يروها عن النبي ? غيرها ، سواء في العقائد أو في الأحكام .
ثم قال السقاف تعضيداً لكلامه الواهي المتقدم ( ص : 37 ) تحت عنوان : (( خبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم عند سيدنا أبي بكر الصديق ? )) : ( قال الحافظ الذهبي في (( تذكرة الحافظ )) ( 1 / 2 ) :(1/101)
وكان أبو بكرأول من أحتاط في قبول الأخبار فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث ، فقال : ما أجد لك في كتاب الله شيئاً ، وما علمت أن رسول الله ? ذكر لك شيئاً ، ثم سأل الناس ، فقال المغيرة ، فقال : حضرت رسول الله ? يعطيها السدس ، فقال له : هل معك أحد ؟! فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك ، فأنفذه أبو بكر ? ) .
ثم قال السقاف في الحاشية عقب تخريج الحديث .
( وهو صحيح ) .
قلت : كذا قال ، وهو إما جهل بهذا العلم ، أو تجاهل وتدليس ، فإن هذا السند ضعيف لأنقطاعه ، فإ، قبيصة لا يصح سماعه من أبي بكر ، وكذا يستبعد أن يكون قد أدرك هذه الواقعة .
وقد استظهر الحافظ هذه العلة ، فقال :
(( إسناده صحيح لثقة رجاله ، وإلا أن صورته المرسل ، فإن قبيصة لا يصح سماعه من الصديق ، ولا يمكن شهوده القصة ، قاله ابن عبدالبر ، وقد أعله عبدالحق تبعاً لأبن حزم بالإنقطاع )) .
فهذا الخبر لا يدل على ماذكر لضعفه ، ولو صح فإنه لا يفيد الظن عنده وإنما هو من باب التثبت ، ولا يستطيع أحد أن يجزم برد الصديق لهذه السنة لو تفرد بروايتها المغيرة ، ولم يتابعه عليها أحد من الصحابة ، وكما يكثر السقاف من القول :
(( متى طرأ الاحتمال سقط الاستدلال )) .
ثم ، لو صح هذا الخبر ، فهل رواية الاثنين التواتر وتحقه كما أدعي هذا السخاف ؟!! .
وكذلك ، فهذه الأخبار واردة في الأحكام ، وليست في العقائد ، فهذا يلزم منه أيضاً أن لا نتعبد الله تعالى بشيء من الأخبار الآحاد ، وإنما يلزم أن نتعبده بالمتواتر ، فإن قال : نعم ، فقد خالف إجماع الأمة وخالف نفسه ، وإن قال : لا ، ردت عليه حجته ، وألزم بها .
ثم قال السقاف ( ص : 38 ) تحت عنوان : (( خبر الواحد يفيد الظن دون العلم عند سيدنا عمر ? أيضاً )) :(1/102)
ثم ذكر ما رواه مسلم من واقعته مع ابي موسى الأشعري في الانصراف إذا لم يؤذن له في الثالثة ، وما رواه أبو موسى في ذلك عن النبي ? ،وكيف توعده عمر إذا لم يأت بمن يعضده ممن سمع نفس الحديث من الصحابة .
وليس في هذا غلا التثبت ، لأن عمر – ? - قد وقع معه خلاف ما سمع ، فأراد أن يرجع الصواب بالكثرة لتساوي المتعارضين في العدد .
قال الترمذي عقب إخراج هذا الحديث في (( الجامع )) ( 5 / 54 ) :
(( وإنما أنكر عمر عندنا على أبي موسى حيث روى عن النبي ? أنه قال : الاستئذان ثلاث ، فإذا أذن لك وإلا فارجع ، وقد كان عمر استأذن على النبي ? ثلاثاً فأذن له ، ولم يكن علم هذا الذي رواه أبو موسى عن النبي ? أنه قال : فإن أذن لك فإلا فارجع )) .
فالذي دفع عمر الإنكار الزيادة الأخيرة التي تخالف ماوقع له مع النبي ? ، وكذلك فللترهيب من التساهل في الرواية ، والحث على الاحتياط فيها .
قال الخطيب البغدادي – رحمه الله – في (( شرف أصحاب الحديث )) ( ص : 92 – 93 ) :
(( لم يطلب عمر من أبي موسى رجلاً يشهد معه هذا الحديث لأنه كان لا يرى قبول خبر الواحد العدل !! وكيف يقول ذلك ، وهو يقبل رواية عبدالرحمن بن عوف عن النبي ? في أخذ الجزية من المجوس ، ويعمل به ، ولم يروه غير عبدالرحمن ، وكذلك حديث الضحاك بن سفيان الكلابي في توريث أمرأة اشيم الضبابي من دية زوجها ، ولا فعل عمر ذلك لأنه كان يتهم أبا موسى في روايته ، لكن فعله على الوجه الذي بيناه من الاحتياط لحفظ السنن والترهيب في الرواية )) .
ثم قال السقاف ( ص : 39 ) تحت عنوان : (( خبر الواحد ينبغي التثبيت منه ولو كان راويه صحابياً ، ويفيد الظن عند الإمام علي ? )) :
((1/103)
روى الإمام أحمد في (( المسند )) ( 1 / 10 ) بإسناد صحيح عن اسماء بن الحكم الفزاري ، قال سمعت علياً قال : كنت إذا سمعت من رسول الله ? حديثاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه ، وإذا حدثني غيري عنه استخلفه ، فإذا حلف لي صدقته ، وحدثني أبو بكر ، وصدق أبو بكر ... . فذكر حديثاً مرفوعاً ) .
قال السقاف :
( لو كان خبر الواحد بفيد العلم ولا يفيد الظن لاكتفى سيدنا علي عليه السلام و ? الله عنه بسماع خبر الواحد ، ولما استخلفه ، لأنه باستخلافه يؤكد خبره ، أو يصرح الراوي بأنه غير متأكد من الخبر ... .. ) .
? قلت : وقبل أن أجيب عن كلامه الواهي هذا ، أفطن القارئ الكريم وأنبهه إلى ذلك الحقد الشيعي ، بل الرافضي الخبيث الذي يكنه هذا المتهالك لجماعة صحابة رسول الله ? ، لا سيما معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص – ? - .
فأنظر إلى قوله الخبيث : (( خبر الواحد ينبغي التثبيت منه ولو كان راويه صحابياً ، ويفيد عند الإمام علي ? )) .
فهذا يحمل في طياته في عدالة الصحابة وحفظهم وأمانتهم ، فمن سلف هذا الطعان في البحث عن أحوال الصحابة وسبر مارووه عن النبي ? إلا الروافض الخبثاء ، وغلاة الشيعة اللئام .
? والجواب عن هذا الدليل الذي ذكره من وجهتين :
الأول : أن هذا الخبر مما استنكره ائمة الشأن كالبخاري والعقيلي ، ومن المتأخرين الحافظ ابن حجر.
فأما الإمام البخاري فأشار إلى إنكارته فقال في (( التاريخ الكبير )) ( 2 / 1 /54) : (( لم يتابع عليه ، وقد روي أصحاب النبي ? ، بعضهم عن بعض فلم يحلف بعضهم بعضاً )) .
وأما العقيلي ، فنقل في (( الضعفاء )) ( 1 / 107 ) كلام شيخه السابق ، ثم قال : (( وحدثني عبدالله بن الحسن ، وعن علي بن المديني ، قال : قد روى عثمان بن المغيرة أحاديث منكرة من حديث ابي عوانة )) .
كذا في الضعفاء ، والصواب : ( من حديث علي بن ربيعة ) كما في (( التهذيب )) .(1/104)
قلت : لأن هذا الخبر من رواية عثمان بن المغيرة ، عن علي بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم ، عن علي به .
وقد حاول الحافظ المزي أن يدافع عن هذا الخبر بمتابعات عدة ، فتعقبه الحافظ ابن الحجر في (( التهذيب )) ( 1 / 235 ) بقوله :
(( المتابعات التى ذكرها لا تشد هذا الحديث شيئاً لأنها ضعيفة جداً )) .
? قلت : وأسماء هذا لم يوثقه إلا العجلي وهو متساهل ، وأما البزار ، فقال : (( مجهول )) ، واستنكاره الأئمة لحديثه مما يوهن حاله ، خصوصاً إذا كان مقلاً جداً من الرواية .
والثاني : أنه لو صح هذا الحديث فليس بدليل على ما بوب له السقاف ، فإن الاستحلاف لا يفيد اليقين ، ولا يصح بأي حال من الأحوال أن يعدل بالمتابعة وتكثير الطرق ، وإنما الاستحلاف للترهيب من الرواية ، والتشديد على من تساهل فيها ، ثم إن علياً ? قبل الرواية من أبي بكر الصديق ? ولم يستحلفه ، فهذا خارم لما ادعاه السقاف ، وكذب السقاف فيما ادعاه .
? وأخيراً : أقول للسقاف رداً على ما ادعاه من أن الآثار المتقدمة تفيد الحكم بالظن عند الصحابة على أحاديث الآحاد : إن معظم هذه الآثار التى توقف فيها الصحابة – على حد زعمك الواهي عن قبولها ، لأنها من طريق الآحاد هي ما وردت في العبادات والأحكام ، لا في أبواب الاعتقاد ، فيلزمك على هذا أن ترد أخبار الآحاد أيضاً في أبواب الأحكام والعبادات ، لا في أبواب الصفات والعقائد ، وهذا يخالف ماذكرته من أن الآحاد إنما يحتج بها في الأحكام دون العقائد !! .
لا دفاعا عن الالباني فحسب بل دفاعا عن السلفية
الرد على الجهمي المعطل حسن السقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
نتابع الردود على الجهمي المعطل حسن السقاف.
الجزء الواحد والثلاثون
معنى قول أهل السنة والجماعة :
[ إن الله في السماء ](1/105)
وإثبات أهل السنة لصفة العلو ، واحتجاجهم بحديث الجارية على أن الله في السماء ، ليس معناه إثبات الحلول له ، تعالى عن ذلك عز وجل ، وإنما عنوا بـ ((في)) أي: ((على)) . وليس هذا تأويلاً كما ادعى السقاف ، بل له نظائر في القرآن الكريم : قال تعالى : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي : على جذوع النخل .
قال شيخنا العلامة المحدث المفيد عبدالله بن يوسف الجديع حفظه الله قي تعليقه المُنيف على كتاب (( ذكر الاعتقاد ، وذم الاختلاف )) لأبي العلاء بن العطار – رحمه الله – (ص:30) : (( الحق أن الله تعالى له جهة العلو ، وأنه مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، وقول من قال من السلف والأئمة : إن الله في السماء إنما أراد حكاية القرآن : { أأمنتم من في السماء } وما ورد في حديث الجارية ونحو ذلك ، وليس معنى ذلك عندهم على الظرفية ، بل إن نصوص الفوقية والاستواء والعلو مفسرة ، لكون ( في ) بمعنى على ، وذلك نظير قوله تعالى : { ولأصلبنكم في جذوع النخل } )) . قلت : وهذا يؤيده ما ذكره الذهبي في (( الأربعين في صفات رب العالمين ))(ص:87) حيث قال : (( ورد أنه – عز وجل – في السماء ، و ( في ) ترد كثيراً بمعنى ( على ) ، كقوله تعالى : { فسيحوا في الأرض } {التوبة :2} . أي : على الأرض . { ولأصلبنكم في جذوع النخل } {طه : 71} . أي على جذوع النخل ، فكذلك قوله : { أأمنتم من في السماء } {الملك :16} . أي : من على السماء )) .
الجزء الثاني والثلاثون
الكلام على حديث [ فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد]
وبيان تدليسات السقاف وتلبيساته في تضعيفه له(1/106)
ومن تدليسات وتلبيسات السقاف ذلك الجزء الذي ألفه في تضعيف حديث : (( فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد )) ، والذي سماه : (( أقوال الحفاظ المنثورة لبيان وضع رأيت ربي في أحسن صورة )) . وقد سلك فيه مسلكاً ينافي الأمانة والعدل في القول بل كلامه في هذا الجزء يدل على جهله بعلوم الحديث ، ولا سيما تخريج الأحاديث ، وجمع الطرق .(1/107)
قال السقاف في مطلع رسالته هذه – وهي مطبوعة مع (( دفع شبه التشبيه )) ( ص : 281 ) : ( حديث : رأيت ربي تبارك وتعالى في احسن صورة ، قال فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قال : قلت لا أعلم أي ربي ، قال : فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات والأرض ، ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد ؟ قلت : في الكفارات ، قال : وما هذه ؟ قلت : المشي إلى الجماعات ، والجلوس في المساجد وانتظار الصلاة ، وإسباغ الوضوء على المكاره ، قال : فمن يفعل ذلك يعيش بخير ، ويموت بخير ، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه . قلت : هذا الحديث لا يثبت من ناحية سنده ومتنه من وجوه : الأول : رواه الترمذي في سننه ( 5 / 366 ) وحسنه ، والخطيب البغدادي في تاريخه ( 8 / 152 ) وابن الجوزي في الموضوعات 10 / 125 ) والطبراني في (( الكبير )) ( 1 / 317 ) وأورده الحافظ السيوط في كتابه اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوة ( 1 / 31 ) وذكر أن في سنده حماد بن سلمه ، وقد روي الحديث عن حماد بلفظ آخر كما قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة ( 1 / 31 ) ذكر هذا اللفظ الذهبي في الميزان وابن عدي في (( الكامل في الضعفاء )) . قلت : أورد الذهبي صدر الحديث الذي نحن بصدده والذي اضطرب فيه الرواة وما جوا اضطراباً عجيباً في كتابه القيم (( سير أعلام النبلاء )) ( 10 / 113 – 114 ) من طريق حماد هذا ، وقال : وهو بتمامة في تأليف البيهقي ، وهو خبر منكر نسأل الله السلامة في الدين . ا . هـ . قلت : الإمام الحافظ البيهقي قال في كتابه الأسماء والصفات ( ص : 300 بتحقيق المحدث الكوثري ) : وقد روي من وجه آخر وكلها ضعيف . ا هـ . * قلت : هذا تصريح من البيهقي بضعف طرق هذا الحديث ، وقول الذهبي معه بأنه منكر ، مع إيراد الحافظ السيوطي وابن الجوزي له في الموضوعات يثبت وضعه بلا شك ولا ريب ، كما أن الحافظ ابن خزيمة أطال في رد أحاديث الصورة في كتاب الصفات ) ا.هـ .(1/108)
كلام السقاف .
قلت : والمآخذ على السقاف في هذا الكلام كثيرة ، منها :
أولاً : أنه لما خرج لم يميز بين الطرق وبين رواة الحديث من الصحابة ، ولا بين المتون ، حتى إذا نقل قولاً عن أحد الحفاظ كالذهبي مثلاً في تضعيف الحديث لبس على القارئ بأن الحديث لا يصح من كل الطرق ، وتفصيل الأحاديث كالتالي : الحديث عند الترمذي من رواية : 1 – ابن عياس ، عن النبي . 2 – معاذ بن جبل ، عن النبي . وعند الطبراني : من حديث أبي رافع – - عن النبي . وعند الخطيب : من حديث ابي عبيدة بن الجراح عنه ، عن النبي . وعند ابن الجوزي : من حديث أم الطفيل امرأة عمارة بن عامر ، عن النبي .
ثانياً : أنه لما خرج هذا الحديث من هذه الوجوه ذكر كلاماً للحافظ الذهبي في تضعيف حديث آخر غير هذا الحديث ، وهو الحديث الذي يروى عن حماد ابن سلمة – ولا يحفظ عنه – عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعاً : (( رأيت ربي جعداً أمرداً عليه حلة خضراء )) . وهذا بخلاف الحديث الذي فيه اختصام الملأ الأعلى .
ثالثاً : أنه لما نقل كلام الذهبي في تضعيف هذه الرواية لم ينقل كلامه بتمامه حتى لا ينكشف تدليسه ، وتمام كلام الذهبي كما في (( السير )) : (( حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله : (( رأيت ربي – يعني في المنام - ... ... . )) وذكر الحديث ، وهو بتمامه في تأليف البيهقي ، وهو خبر منكر ، نسأل الله السلامة في الدين ، فلا هو على شرط البخاري ، ولا مسلم ، ورواته وإن كانوا غير متهمين ، فما هو بمعصومين من الخطأ والنسيان ، فأول الخبر ، قال : (( رأيت ربي )) وما قيد الرؤية بالنوم )) .(1/109)
فقوله في أول الكلام : (( يعني في المنام )) من إدراج الذهبي نفسه ، فإنها ليست في مصنف البيهقي ، وهذا يدل على أن هذا الخبر غير خبر اختصام الملأ الأعلى ، فإن الثانية كانت رؤيا في المنام . وكذلك فإعلال البيهقي للحديث فللرواية التي فيها وصف الرب تعالى باللفظ المنكر ، ولا يختص بحديث الاختصام .
رابعاً : أنه دلس على القراء فقال : ( كما أن الحافظ ابن خزيمة أطال في رد أحاديث الصورة في كتابه الصفات ) . والجواب عن هذا : أن ابن خزيمة إنما ذكر طرق هذا الحديث بحسب ما وقعت له ، وذكر عللها ، ثم أورد طريقاً صحيحاً ، وأعله بأنه من رواية يحيى بن أبي كثير ، وقال : (( يحيى بن أبي كثير رحمه الله أحد المدلسين ، لم يخبر أنه سمع هذا من زيد بن سلام )) وهذه العلة مردودة كما سوف نبين قريباً إن شاء الله تعالى .
خامساً : أنه ضرب صفحاً عن ذكر الأسانيد الصحيحة لهذا الخبر ، وتصحيح أهل العلم لها ، وهذا مخالف للأمانة العلمية ، وميثاق أهل العلم .
الجزء الثالث والثلاثون
ذكر طريق صحيح لحديث : (( فيم يختصم الملأ الأعلى ))
وتصحيح أحمد والبخاري والترمذي له خلافاً لما أدعاه السقاف(1/110)
قال السقاف ( ص : 283 – 284 ) – بعد أن أورد كلامه السابق نقله - : ( فإن قال قائل : قد حسن الترمذي الحديث ، بل قد صححه في بعض الروايات عنه ، قلنا هذا لا ينفع لوجوه : منها : أن الترمذي رحمه الله تعالى متساهل في التصحيح والتحسين كما هو مشهور ، مثله مثل الحاكم رحمه الله في (( المستدرك )) يصحح الموضوعات كما هو مشهور عند أهل الحديث . ومنها : أن تضعيف هؤلاء الحفاظ الذين ذكرناهم وهم جهابذة أهل الحديث الذين حكموا على الحديث بأنه منكر وموضوع وغير مقدم على تحسين الترمذي أو تصحيحه . ومنها أن الثابت من كلام الترمذي رحمه الله من نسخ سننه أنه قال : حسن غريب ، كما نقل ذلك عنه الحافظ المزي في تحفه الشراف ( 4 / 382 ) ، والمنذري في الترغيب والترهيب. وقال ابن الجوزي في كتابه العلل المتناهية ( 1 / 34 ) عقب هذا الحديث : أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة ، قال الدارقطني : كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح ) .ا.هـ .
?(1/111)
قلت : الكلام كله الذي ذكره هذا السخاف إنما هو على حديث ابن عباس – ?. فأين رواية عبالرحمن بن عائش ، عن مالك بن يخامر ، عن معاذ بن جبل – ? - قال : احتبس عنا رسول الله ? ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس ، فخرج سريعاً ، فثوب الصلاة ، فصلى رسول الله ? وتجوز في صلاته ، فلما سلم دعا بصوته ، قل لنا : (( على مصافكم كما أنتم )) . ثم انتقل إلينا ثم قال : (( أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة ، إني قمت من الليل ، فتوضأت ، وصليت ما قدر لي ، فنعست في صلاتي حتى استثقلت ، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة ، فقال : يا محمد ، قلت : لبيك رب ، قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، قالها ثلاثاً ، قال : فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ، فتجلى لي كل شيء وعرفت ، فقال يا محمد ، قلت : لبيك رب ، قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات ، قال : ما هن ؟ قلت : مشي الأقدام إلى الحسنات ، والجلوس في المساجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء حين الكريهات ، قال : فيم – وعند أحمد : وما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام ، ولين الكلام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، قال : سل ، قلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي وترمني ، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون ، أسألك حبك ، وحب من يحبك ، وحب عمل يقرب إلى حبك ، قال رسول الله ? : إنها حق فاردسوها ثم تعلموها )) .
اخرجه كثير ، عن زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي ، أنه حدثه عن مالك الترمذي ( 3235 ) من طريق : جهضم بن عبد الله ، عن يحيى بن أبي بن يخامر السكسكي ، عن معاذ به .(1/112)
قلت : وهذا سند رجاله ثقات ، إلا أن رواية يحيى بن أبي كثير عن زيد ابن سلام تكلم بعضهم في اتصالها . ففي (( التهذيب )) : قال يحيى بن حسان ، عن معاوية بن سلام : أخذ مني يحيى بن أبي كثير كتب أخي زيد بن سلام . ولذا قال ابن معين : لم يلقه ، وما أحمد بن حنبل فسأله الأثرم : يحيى سمع من زيد ؟ قال : ما أشبهه . ? قلت : سماعه من زيد بن سلام ثابت ، لا سيما في هذا الحديث . فقد أخرج أحمد هذا الحديث في (( المسند )) ( 5 / 243 ) : ثنا أبو سعيد مولى بن هاشم ، ثنا جهضم يعني اليمامي ، ثنا يحيى يعني ابن أبي كثير ، ثنا زيد به . وهذا سند صحيح محفوظ إلى يحيى .
وقد صحح لهذا الحديث الإمام الترمذي والبخاري . قال الترمذي : (( هذا حديث حسن صحيح ، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ، فقال : هذا حديث حسن صحيح )) . وكذا هو النقل عنهما في (( تحفة الأشراف )) ، وأما ما نقله السقاف من قول الترمذي (( حسن غريب )) ، فإنما هو في حديث ابن عباس ، وليس في حديث معاذ هذا ثم أقول لهذا السقاف : ألم تر في كتاب المزي (( تحفة الأشراف )) في الموضع الذي أشرت إليه ( 4 / 382 – 383 ) أنت في كتابك قول المزي : (( وقال موسى بن خلف العمي ، عن يحيى ، عن زيد ، عن جده ابي سلام ، عن أبي عبد الرحمن السكسكي مالك بن يخامر ( وتصفحت في التحفة إلى : عن مالك ) عن معاذ بن جبل به . قال أبو أحمد بن عدي : وهذا له طرق ، ورأيت أحمد بن حنبل صحح هذه الرواية التى رواها موسى بن خلف ، عن يحيى بن أبي كثير حديث معاذ بن جبل ، وقال : هذه أصحها )) . فإن ادعى السقاف أن حكم الترمذي على هذا الحديث بالصحة مردود لتساهله ، فما بال تصحيح البخاري له ، وتصحيح الإمام أحمد له كذلك ، هل هما أيضاً موصوفان بالتساهل ؟ !! .(1/113)
ثم دعواه تلك أن الترمذي متساهل فيها نظر كبير ، ولن أتكلف الرد عليه في ذلك ، بل سوف أحيله على كتاب شيخه عبدالله الصديق الغماري الموسوم بـ: (( الرد المحكم المتين على كتاب القول المبين )) ( ص : 176 – 181 ) ، ففيه بحث مفحم للسقاف في الرد على من يقول :إن الترمذي لا يعول على تصحيحه ، وأنه من الموصوفين بالتساهل. ولكتاب شيخه هذا قصة طريفة معي يأتي ذكرها إن شاء الله في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، وهو الرد على التناقضات . فالحديث أخي القارئ صحيح ثابت إن شاء الله تعالى ، فالحمد لله على السنة وعلى الأتباع ، ونعوذ به من البدعة والابتداع .
الجزء الرابع والثلاثون
إثبات صفة الساق وصفة اليدين للرب تبارك وتعالى والرد على السقاف في نفيهما عنه
هاتان الصفتان لم تسلما من تعطيل السقاف أيضاً بتأويلهما تارة ، ونفيهما على الحقيقة تارة أخرى ، مع ورود النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بإثباتهما على الوجه الذي يليق بالله تبارك و تعالى . وقد قال تعالى في محكم التنزيل : { يوم سكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } { القلم : 42 } .
?(1/114)
وقد مر معنا أن ما نسبه السقاف من تأويل هذه الآية إلى الصحابة وجماعة من السلف لا يصح عنهم كما بيناه بالسانيد والأدلة الدامغة . وورد في تفسير هذه الأية ما أخرجه البخاري ( قتح : 8 / 531 ) من طريق سعيد بن ابي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ? قال : سمعت رسول الله ? يقول : (( يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة ... . )) . وأما ذلك السقاف ، فحكم على لفظه : (( ساقه )) بالشذوذ، وقوى القول بالتأويل والصرف عن الظاهر ، فقال ( ص : 118 ) حاشية ( 46 ) تعليقاً على ما نقله ابن الجوزي من التأويل المنسوب إلى بعض السلف للآية السابقة : ( وقد ثبت ذلك عن ابن عباس بثلاثة أسانيد صحيحة ، أنظر فتح الباري ( 13 / 428 ) ، ومسند أحمد ( 3 / 17 ) فهكذا أول هذه الاية الصحابة والسلف . وأما الحديث الذي وردت فيه لفظة ( ساقه ) فقد قال الحفاظ في شرحه أن لفظة ( ساقه ) غير محفوظه ، والمحفوظ لفظة ( ساق ) الموافقة للآية القرآنية ، وأما لفظة ( ساق ) فتسوق إلى التجسيم ، هذا معنى كلام الحافظ في (( الفتح )) ولذا نقطع أن هذه اللفظة لم يقلها ? ، ومتى طرأ الاحتمال سقط الاستدلال ، وقد أفاد غالب ما ذكرته هنا الحافظ ابن حجر في فتح الباري ، ونقله عن الحافظ افسماعيلي ، فليراجع ) .
?(1/115)
قلت : وللجواب عن هذه الترهات المذكورة ، نورد كلام الحافظ في (( الفتح )) تعليقاً على الحديث السابق ( 8 / 532 ) : (( ووقع في هذا الموضع : ( يكشف ربنا عن ساقه ) وهو من رواية سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، فأخرجها الإسماعيلي كذلك ، ثم قال : في قوله ( عن ساقه ) نكرة ، ثم أخرجه من طريق : حفص بن ميسرة ، عن زيد بن أسلم ، بلفظ : ( يكشف عن ساق ) ، قال الإسماعيلي : هذه أصح لموافقتها لفظ القرآن في الجملة ، لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين ، تعالى الله عن ذلك ليس كمثله شيء))
فهذا الكلام يدلنا على أن الإسماعيلي قد رجح الرواية دون الهاء الزائدة ، وهي : ( يكشف عن ساق ) ، لموافقتها للقرآن ، ولكن هذا ليس معناه أنه قد نفي هذه الصفة عن الرب جل وعلا ، والأقرب أن الجملة الأخيرة من كلام ابن حجر نفسه ، فإن الإسماعيلي معروف بافثبات ، وقد أثبت اليد وغيرها مما ينفيه أهل التاويل من صفات الرب كما في اعتقاده ، الذي ذكر الذهبي جملة منه في (( السير )) ( 16 / 295 ) .
ثم إن إيراد البخاري له في الصحيح واحتجاجه به ، دلالة على ثبوت هذه المسألة عنده ، ويستبعد أن لا يكون البخاري قد وقف على الرواية الناقصة ، فهو إمام جهبذ متفق على تقدمه وعلو مكانته . والحديث مفسر الأية ولا شك ، فلا وجه للنكارة التي يدعيها السقاف . و غثبات الساق لا يقتضي التشبيه ، لأن الاتفاق في الاسم لا يقتضي الاتفاق في الكيفية . قال محمد بن إسحاق بن منده – رحمه الله – ( 26 ) : (( التمثيل والتشبيه لا يكون إلا بالتحقيق ، ولا يكون باتفاق الأسماء ، وإنما وافق اسم نفس الإنسان الذي سماه الله نفساً منفوسه ، وكذلك سائر الأسماء التى سمى بها خلقه إنما هي مستعارة لخلقه ، منحها عباده للمعرفة ... . )) .
? وأما أدلة إثبات اليد لله تعالى :
?(1/116)
فمن الكتاب الكريم : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } { المائدة : 64 } . و { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيجي } { ص : 75 } . و { السماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } { الذاريات : 47 } .
? ومن السنة المطهرة : ? حديث عبدالله بن عمرو ? - : عن النبي ? قال : (( إن المقسطين عند الله على منابر من نور ، عن يمين الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا )) . والحديث رواه مسلم ( 3 / 1458 ) ، والنسائي ( 8 / 221 ) من طريق : عمرو بن أوس ، عن عبدالله بن عمرو – ? - به .
? وحديث أبي هريرة – ? - : عن النبي ? أنه قال : (( احتج آدم وموسى ، فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ، قال له آدم اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده ... .. )) الحديث . وهو متفق عليه عند البخاري ( 4 / 146 ) ، ومسلم ( 4 / 2042 ) . وفي رواية عند مسلم : (( قال موسى : أنت آدم الذي خلق الله بيده ... ... )) . ولم تسلم هذه الصفة من تأويل ابن الجوزي ، فقد أولها بالقوة ، وتبعه السقاف على ذلك ، وهو مذهب غالب من ينتسب إلى الأشعري ، مع أن الشعري خالفهم في هذا القول ، فقال في كتابه (( الإبانة )) ( ص : 131 ) : (( فإن سئلنا : أتقولون إن لله يدين ؟ قيل : نقول ذلك ... ... . )) . ثم اسهب في الرد على من يدعي أن المراد باليد النعمة أو القدرة . وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، يثبتون أن لله تعالى يدين كما ورد في الكتاب والسنة .
الجزء الخامس والثلاثون
أقوال أهل العلم الدالة على إثبات صفة اليد لله تعالى
وأقوال أهل العلم من أهل السنة والجماعة والأئمة المتبوعين المعتبرين تشهد بما ذكرناه من إثبات صفة اليد لله تعالى . وإليك جملة من أقوالهم في ذلك :
?(1/117)
الإمام أحمد – رحمه الله – ( 27 ) : كما في رواية أبي طالب عنه ، قال : (( قلب العبد بين أصبعين ، وخلق أدم بيده ، وكل ما جاء الحديث مثل هذا قلنا به )) . وفي رواية الميموني عنه : (( من زعم أن يديه نعمتاه فكيف يصنع بقوله : { خلقت بيدي } مشددة )).
? الحافظ افسماعيلي : قال في اعتقاده كما في (( السير )) للذهبي ( 16 / 295 ) : (( اعلموا رحمكم الله أن مذاهب أهل الحديث الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ... .، ويعتقدون بان الله مدعو بأسمائه الحسنى ، وموصوف بصفاته التي وصف بها نفسه ، ووصفه بها نبيه ، خلق آدم بيديه ، ويداه مبسوطتان بلا اعتقاد كيف ... . )).
? أبو عثمان الصابوني : قال – رحمه الله – في (( اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث )) ( ص : 26 ) : (( يقول : إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه في قوله عز وجل : { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين تحريف المعتزلة والجهمية أهلكم الله ، ولا ييفونهما بكيف أو يشبهونهما بايدي المخلوقين تشبيه المشبهة خذلهم الله ... ... . )) .
? أبو القاسم الأصبهاني المعروف بـ : (( قوام السنة )) : قال في كتابه : (( الحجة في بيان المحجة )) ( 2 / 291 ) في مذهب أهل السنة في الصفات : (( والإيمان بما ورد في القرآن من صفات الله تعالى كاليد ، والإتيان ، والمجيء ، وإمرارها على ما جاءت ، لا تكيف ، ولا تتأول )) .
?(1/118)
ابن قتيبة الدينوري : قال في (( الرد على الجهمية والمشبهه )) ( ص : 40 ) بعد أن فند أقوالهم في تأويل اليدين ، وردها بالأدلة الجازمة : (( فإن قال لنا : ما اليدان ها هنا ؟ قلنا : هما اليدان التان تعرف الناس كذلك ، قال ابن عباس في هذه الآية : (( اليدان : اليدان )) ، وقال النبي ? : (( كلتا يديه يمين )) ، فهل يجوز لأحد أن يجعل اليدين ها هنا نعمة ، أو نعمتين ، وقال : { لما خلقت بيدي } فنحن نقول كما قال الله تعالى ، وكما قال رسوله ، ولا نتجاهل ، ولا يحملنا ما نحن فيه من نفي على أن ننكر ما وصف به نفسه ، ولكنا لا نقول : كيف اليدان ، وإن سئلنا نقتصر على جملة ما قال ونمسك عما لم يقل )) .
? أبو الحسن الأشعري : الذي ينسب نفسه إليه . وقد تقدم نقل كلامه في ذلك ( ص : 167 ) .
لا دفاعا عن الالباني فحسب بل دفاعا عن السلفية
الرد على الجهمي المعطل حسن السقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
نتابع الردود على الجهمي المعطل حسن السقاف.
الجزء السادس والثلاثون
مواضيع الحلقة
1ـ تبرئة معاوية مما نسب إليه من الطعون
2ـ جواب عن شبهه السابقة وذكر شئ من فضائل معاوية
3ـاتهام الملحد لمعاوية بشرب الخمر
4ـاتهامه لمعاوية بقتل حجر بن عدي
5ـاتهامة لمعاوية بقتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد
6ـالجواب عن ذم الحسن البصري لمعاوية
6ـفتوى الإمام أحمد فيمن يطعن في معاوية
الرد على طعون الملحد في الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه و تبرئة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) مما نسب إليه من الزور والبهتان
قد صرح السقاف في غير ما وضع بالحط على معاوية بن أبي سفيان ، ووصفه بالنقائص ، وكيل الشتائم له واتهامه بابشع التهم ، يدفعه إلى ذلك تشيعه – بل رفضه الشديد – وكرهه العظيم لهذا الصحابي الجليل ، الذي هو كاتب الوحي ، وخال المؤمنين ، وهذا يظهر لنا بدعة أخرى من بدع هذا السقاف ، ألا وهي الغلو في الرفض .(1/119)
وقد قال في تعليقه عديم النفع (( دفع شبه التشبيه )) لابن الجوزي : ( ص : 102 ) ، وتعليق رقم : 18 : ( قال العلامة ابن الأثير في كتابه (( الكامل )) ( 3 / 487 ) : قال الحسن البصري : أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه بعده أبنه – يزيد – سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير – أي العود وهو من آلات اللهو – وادعاؤه زياداً ، وقد قال رسول الله ? : (( الولد للفراش وللعاهر الحجر )) وقتله حجراً – وهو أحد أصحابه العباد – وأصحاب حجر ، فيا ويلاً له من حجر ويا ويلا له من حجر واصحاب حجر!)) أنتهى كلام ابن الأثير وما بين الشرطتين إيضاح منى ، وحجر ابن عدى ? صحابي مترجم في (( سير أعلام النبلاء )) ( 3 / 462 ) والإصابة ( 1 / 329 طبعة دار الكتب العلمية ) وقد فشا النصب بين الحنابلة وهو بغضهم لآل البيت أو عدم احترامهم لهم موالاة طائفة معاوية أو الدفاع عنها بالحجج التي هي أوهى من بيت العنكبوت ، ويابى الله إلا أن يتم نوره ، ونحن نجد في هذه الأيام من يفتخر بالانتساب لآل النبي ? وخصوصاً لسيدنا الحسن ولسيدنا الحسين أنبى سيدنا علي والسيدة فاطمة عليهم السلام والحمد لله تعالى ، ولا نجد من يفتخر بالانتساب إلى معاوية وذريته ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) .
وقال ( ص : 236 ) تعليق رقم 181 :
((1/120)
وكان معاوية بن ابي سفيان هو الذي سن للناس لعن الخليفة الراشد ابن عم رسول الله ? على المانبر يوم الجمعه ، فجعل لعنه كأنه أحد أركان الخطبة ، ففي صحيح مسلم ( 4 / 1874 برقم 2409 ) عن سيدنا سهل بن سعد ? قال : (( استعمل على المدينة رجل من ىل مروان ، قال فدعا سهل بن سعد ... ... فأمره أن يشتم علياً ، قال : فأبى سهل ، فقال له : أما إذا أبيت فقل : لعن الله أبا تراب )) ولم يمتثل لأمره سهل ? . ? قلت : ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة قال له : (( ولست تاركاً إيصاءك بخصلة : لا تترك شتم علي وذمه )) أنتهى من الكامل ( 3 / 472 ) . وقد قتل معاوية الصحابي الجليل حجر بن عدى عندما أنكر على عمال معاوية وولاته سب سيدنا علي ? ، وهذا شىء مشهور قال الحافظ ابن حجر (( في الإصابة )) ( 1 / 314 ) في ترجمته : (( وقتل بمرج عذراء بأمر معاوية )) !!! . قلت : وقد قتل معاوية أناساً من الصالحين من الصحابة والفضلاء من أجل السلطة ومن أولئك ايضاً عبدالرحمن بن خالد بن الوليد قال ابن جرير في (( تاريخه )) ( 3 / 202 ) وابن الاثير في الكامل ( 3 / 453 ) واللفظ له : (( وكان سبب موته – عبدالحمن بن خالد بن الوليد – أنه كان قد عم شانه عند أهل الشام ومالوا إليه لما عنده من آثار أبيه ولغناه في بلاد الروم ولشدة باسه ، فخافه معاوية وخشي منه وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله ، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه جباية خراج حمص ، فلما قدم عبدالرحمن من الروم دس إليه ابن اثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه ، فشربها ، فمات بحمص ، فوفى له معاوية بما ضمن له )) أ هـ . ?(1/121)
قلت : فهل يجوز قتل المسلم والله تعالى يقول في كتابه العزيز : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } { النساء : 93 } ؟! وهل معاوية مستثنى من مثل هذه الآية ؟ !!! ، ولذلك قال في حقه الحسن البصري رحمه الله تعالى كما في (( الكامل )) ( 3 / 487 ) : (( أربع خصال كن في معاوية ، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه بعده ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زياداً ، وقد قال رسول الله ? : (( الولد للفراش وللهاعر الحجر )) وقتله حجراً وأصحاب حجر ، قيا ويلاً من حجر ! ويا ويلاً من أصحاب حجراً ! )) أ هـ . ? قلت : ولما كانت سيرة معاوية هكذا !! لم ترد له فضائل عن النبي ? ، نقل الحافظ الذهبي في (( سير أعلام النبلاء )) ( 3 / 132 ) عن إسحاق بن راهوية ، أنه قال : (( لا يصح عن النبي ? في فضل معاوية شىء )) أ . هـ . وقد ثبت في صحيح مسلم ( 4 / 2010 برقم 22604 ) عن ابن عباس أن النبي ? قال له : (( اذهب وادع لى معاوية )) قال : فجئت فقلت : هو يأكل فقال ? : (( لا أشبع الله بطنه )) وثبت في صحيح مسلم ( 2 / 1114 برقم 1480 ) أن النبي ? قال عنه لما شاورته في الزواج منه فاطمة بنت قيس : (( صعلوكاً لا مال له )) .(1/122)
قلت : وفي مسند الإمام أحمد ( 5 / 347 ) بسند رجاله رجال مسلم عن عبد الله بن بريدة قال : (( دخلت أنا وأبي على معاوية فاجلسنا على الفرش ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب فشب معاوية ، ثم ناول ابي ثم قال : ما شربته منذ حرمه رسول الله ? )) !!! قلت : وأما حديث الترمذي ( 3842 ) من طريق سعيد بن عبدالعزيز عن ربيهة بن يزيد عن عبدالرحمن بن ابي عميرة عن النبي ? أنه قال لمعاوية : (( اللهم أجعله هادياً مهدياً واهد به )) فحديث ضعيف ومضطرب لا تقوم به حجة ، ولا سيما وإسحاق بن راهويه يقول : (( لا يصح عن النبي ? في فضائل معاوية شيء )) . قلت : سعيد بن عبدالعزيز أختلط كما قال أبو مسهر الراوى عنه في هذا الحديث ، وكذا قال أبو داود ويحيى بن معين كذا في التهذيب ( 4 / 54 ) للحافظ ابن حجر . وكذا عبدالرحمن ابن أبي عميرة ، لم يسمع هذا الحديث م النبي ? كما في (( علل الحديث )) للحافظ ابن أبي حاتم ( 2 / 362 و 363 ) نقلاً عن أبيه الحافظ أبي حاتم الرازي ، فهذا حديث معلول بنص الحافظ السلفي ابي حاتم . قلت : ولو ثبت لأبن أبي عميرة صحبة فهذا الحديث بالذات نص اهل الشأن على أنه لم يسمعه من النبي ? ، كما في (( علل الحديث )) لابن أبي حاتم . وقد نص ابن عبد البر أن عبدالرحمن هذا : لا تصح صحبته ، ولا يثبت إسناد حديثه كما في (( تهذيب التهذيب )) ( 6 / 220 دار الفكر ))
اهـ كلام السقاف .
الجزء السابع والثلاثون
الرد على بعض مفترياته وذكر شئ من فضائل معاوية
الجواب عن شبه السقاف واتهاماته السابقة وذكر فضل معاوية بن ابي سفيان
* قلت : ما أورده السقاف من آثار واخبار في مثالب معاوية (رضي االله عنه) لا تصح من جهة الإسناد ، ولو صحت لأوردها هذا الخساف بأسانيدها ، إلا أنه خشى أن تظهر لنا حيلته في سرد هذه الأخبار والاحتجاج بها مع ضعفها ، وسوف يأتى بيان ضعفها قريباً إن شاء الله تعالى . وفضائل معاوية ? - ثابتة عموماً وخصوصاً .
?(1/123)
فأما عموماً : فلما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري ? مرفوعاً : (( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ أحدهم ولا نصفه )) . وأهل العلم مجموعون قاطبة – على أن معاوية من أصحاب النبي ? ، ولا شك أنه داخل في عموم هذا النص ، فمن سبه أو طعن فيه آثم بلا ريب ، بل سب الصحابة – رضي الله عنهم – من الكبائر .
? وأما خصوصاً : فلحديثين أحدهما احتج به السقاف على ذم معاوية ولم يصب ، والثاني ضعفه .
? فأما الأول : فما رواه مسلم من حديث ابن عباس : قال : كنت ألعب مع الصبيان ، فجاء رسول الله ? فتواريت خلف باب ، فجاء فحطأنى حطأة ، وقال : (( اذهب وادع لي معاوية )) ، قال فجئت فقلت هو يأكل ، قال : ثم قال لى : (( اذهب فادع لي معاوية )) ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : (( لا أشبع الله بطنه )) .
قال الحافظ الذهبي (( في تذكرة الحافظ )) ( 2 / 699 ) : (( لعل هذه منقبة معاوية لقول النبي ? : اللهم من لعنته أو شتمته فاجعل ذلك له زكاة ورحمة )) . وقال الإمام النووى – رحمه الله – في (( شرح صحيح مسلم )) ( 16 / 156 ) : (( قد فهم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه ، فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعله غيره من مناقب معاوية ، لأنه في الحقيقة يصير دعاءً له )) قلت : وهذا الحديث أخرجه مسلم في باب ( 28 ) :
{ من لعنه النبي ? أو سبه أو دعا عليه ، وليس هو اهلاً لذلك كلن له زكاة وأجراً ورحمة } . وأما السقاف فجعل هذا الحديث في مثالب معاوية بن ابي سفيان – ? - فبئس ما صنع .(1/124)
وأما الحديث الثاني : فهم ما رواه الإمام أحمد في (( مسنده )) ( 4 / 216 ) ، وابن أبي عاصم في (( الآحاد والمثاني )) ( 2 / 358 ) ، والبخاري في (( التاريخ الكبير )) ( 4 / 1 / 327 ) والترمذي ( 3931 ) من طرق عن : سعيد بن عبدالعوزيز التنوخى ، حدثنا ربيعة بن يزيد ، سمعت عبد الرحمن ابن ابي عميرة المزنى يقول : سمعت النبي ? يقول في معاوية بن أبي سفيان : (( اللهم اجعله هادياً مهدياً واهده واهد به )) .
قلت : وهذا إسناد صحيح متصل ، إلا أنه لم يسلم من طعون السقاف ، حيث قال طعنا في صحته : ( ص : 238 ) :
(حديث ضعيف ومضطرب ، لا تقوم به حجة لا سيما وإسحاق ابن راهويه يقول : (( لا يصح عن النبي ? في فضله معاوية شيء )) . * قلت : سعيد بن عبدالعزيز اختلط كما قال أبو مسهر الراوى عنه في هذا الحديث ، وكذا قال أبو داود ويحيى بن معين كذا في (( التهذيب )) ( 4 / 54 ) للحافظ ابن حجر . وكذا عبدالرحمن بن أبي عميرة لم يسمع هذا بحديث من النبي ? كما في (( علل الحديث )) للحافظ ابن أبي حاتم ( 2 / 362 – 363 ) نقلاً عن ابيه الحافظ أبي الحاتم الرازي ، فهذا حديث معلول بنص الحافظ السلفي أبي حاتم . * قلت : ولو ثبت لابن أبي عميرة صحبة فهذا الحديث بالذات نص أهل الشأن على أنه لم يسمعه من النبي ? كما في علل الحديث لابن ابي حاتم . وقد نص ابن أبي عبد البر ، أن عبدالرحمن هذا : (( لا تصح صحبته ، ولا يثبت إسناد حديثه )) كما في (( تهذيب التهذيب )) ) .(1/125)
* قلت : أما إعلال الحديث باختلاط سعيد بن عبدالعزيز فليس بسديد ، وذلك لأنه لم يحدث وقت اختلاطه ، بنص من وصفه بالاختلاط وهو أبو مسهر . قال ابن معين ( تاريخ الدورى : 2 / 204 ) : (( قال أبو مسهر : كان سعيد بن عبدالعزيز قد اختلط قبل موته ، وكان يعرض عليه قبل أن يموت ، وكان يقول لا أجيزها )) . وهذا النص قد نقله ابن حجر في (( التهذيب )) فلا أدرى لماذا تعامى عنه السقاف ؟ !! ولذلك فقد احتج مسلم بحديثه من رواية ابي مسهر ، والوليد بن مسلم ومروان بن محمد ، وهم نفسهم الذين رووا هذا الحديث عنه . وسعيد التنوخي ، ثقة حجة ، قال عنه أحمد : (( ليس بالشام رجل أصح حديثاً من سعيد بن عبدالعزيز ، هو والأوزاعي عندي سواء )) . فكيف يضعف حديثه بعد ذلك ؟ !
? واما دعوى السقاف بالاضطراب في الحديث ففيها نظر شديد . فإنما حكم السقاف بالاضطراب على الحديث للاختلاف فيه على التنوخى . فقد رواه الذهبي في (( السير )) ( 8 / 37 ) ، وابن قانع – كما في (( الإصابة )) ( 2 / 407 ) – من طرق : عن الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن عبدالعزيز ، عن يونس بن ميسرة ، عن عبدالرحمن بن أبي عميرة به . قال الذهبي ، (( فهذه علة الحديث قبله )) .(1/126)
قلت : وليست هذه علة ألبتة ، فإن كلا الطريقين محفوظ عن الوليد بن مسلم . فقد رواه أحمد في (( المسند )) ( 4 / 216 ) : حدثنا على بن بحر ، حدثنا الوليد ابن مسلم ، حدثنا سعيد بن عبدالعزيز ، عن ربيعة بن يزيد ، عن عبدالرحمن به . وعلى بن بحر هذا ثقة والتنوخي ثقة في حفظ الأوزاعى ، بل قدمه أبو مسهر على الأوزاعي فمن صفته احتمل تعدد الأسانيد ، فيكون له في هذ الحديث أكثر من إسناد . وعلى تقدير المخالفة بين الوليد بن مسلم من جهة ، وبين أبي مسهر ومروان ابن محمد من جهة أخرى ، فقد رجح أبو حاتم كما في (( العلل )) لابنه ( 2 / 363 ) رواية أبي مسهر ومروان بن محمد . ولكن الوليد لم ينفرد بهذه الرواية بل تابعه عليها عمران بن عبد الواحد عند ابن شاهين – كما في (( الإصابة )) – فدل هذا على أن الطريقين محفوظان ، وليس ثمة اضطراب يعل به الحديث .
وأما محاولة نفي السقاف لصحبة عبدالرحمن بن ابي عميرة : فمردوده بثبوت سماعه من النبي ? هذ الحديث ، وكذلك فقد اثبت له الصحبة غير واحد من أهل العلم المعتبرين . قال الحافظ في (( الإصابة )) . (( قال أبو حاتم وابن السكن له صحبة ، وذكر البخاري ، وابن سعد ، وابن البرقى ، وابن حبان ، وعبدالصمد بن سعيد في الصحابة وذكره أبو الحسن بن سميع في الطبقة الأولى من الصحابة الذين نزلوا حمص )) . وذكره الذهبي في (( تجريد أسماء الصحابة )) ( 3742 ) ، وقال : (( الأصح أنه صحابي )) . واما قول ابن عبدالبر الذى استدل بع هلى عدم ثبوت صحبته ، فقد انتقد على بن عبدالبر كما في (( الإصابة )).
? وأما قوله : ( ولو ثبت لابن أبي عميرة صحبة ، فهذا الحديث بالذات نص أهل الشام على أنه لم يسمعه من النبي ? كما في (( علل الحديث )) لابن أبي حاتم ) . ? فدال على جهله من وجوده :
?(1/127)
الأول : أنه ضعف مرسل الصحابي ، وهذا خلاف ما عليه أهل العلم . قال ابن الصلاح في (( مقدمته )) ( ص : 56 ) : (( ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي ، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله ? ، ولم يسمعوه منه ، لأن ذلك في حكم الموصول المسند ، لأن روايتهم عن الصحابي والجهالة بالصحابي غير قادحة ، لأن الصحابة كلهم عدول )) . وقال العراقي في (( التقييد والإيضاح )) ( ص : 80 ) : (( ... ... . المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابي فإنهم لم يختلفوا في الإحتجاج بها ، واما الأصوليون فقد اختلفوا فيها ، فذهب الآستاذ أبو أسحاق الإسفرايينى إلى أنه لا يحتج بها ، وخالفه عامة أهل الأصول فجزموا بالاحتجاج بها )) .
الثاني : أنه ذهب إلى قول أبي حاتم مع تصريح عبدالرحمن بن ابي عميرة بالسماع من النبي ? لهذا الحديث ، ولا أظن أنه فعل ذلك إلا ليعل الحديث باى طريقة كانت .
والثالث : أنه جعل قول أبي حاتم قولاً لأهل الشأن ، مع أنه لم يذكر أحداً صرح بعدم سماع عبدالرحمن بن ابي عميرة لهذا الحديث من النبي ? ، ولا يتوهم أن ابن عبدالبر ممن قال بذلك ، فابن عبدالبر ضعف الإسناد ، ونفى عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحبة أصلاً ، فتنبه .
? وكذلك فمن فضائل معاوية – ? - : اتفاق عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وهما من الصحابة ، ولهما المكان الأعلى والأمثل من الورع والدين والتقى وسداد الرأى ، وحسن الفكر ، وتمام النظر على تأمير معاوية ? على الشام . حتى قال ابن عباس ? : ما رأيت رجلاً كان أخلق للملك من معاوية ، كان الناس يردون منه على ارجاء واد رحب ، لم يكن بالضيق الحصر والعصعص المتغضب – يعني ابن الزبير – رواه عبدالرزاق في (( المصنف )) ( 20985 ) : عن معمر ، عن همام بن منبه ، قال : سمعت ابن عباس ، يقول : ... ... فذكره . وسنده صحيح .(1/128)
قال الذهبي في (( السير )) ( 3 / 132 ) : (( حسبك بمن يؤمره عمر ، ثم عثمان على إقليم – وهو ثغر – فيضبطه ويقوم به اتم قيام ، ويرضى الناس بسخائه وحلمه ، وإن كانبعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك ، وإن كان غيره من اصحاب رسول الله ? خيراً منه بكثير ، وأفضل ، وأصلح ، فهذا الرجل ساد ، وساس العالم بكمال عقله ، وفرط حلمه ، وسعة نفسه ، وقوة دهائه ورأيه ، وله هنات وأمور ، والله الموعد . وكان محبباً إلى رعيته ، عمل نيابة الشام عشرين سنة ، والخلافة عشرين سنة ، ولم يهجه احد في دولته ، بل دانت له الأمم ، وحكم على العرب والعجم ، وكان ملكه على الحرمين ، ومصر ، والشام ، والعراق ، وخراسان ، وفارس ، والجزيرة ، واليمن ، والمغرب ، وغير ذلك )) .
? قلت : ووصفه ابن عباس بالفقه – أيضاً - : فقد أخرج البخاري – رحمه الله – من حديث ابن ابي مليكة : أن ابن عباس قيل له : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ، فإنه ما أوتر إلا بواحدة ، فقال : (( إنه فقيه )) .(1/129)
وأما ما أكثر السقاف به نقلاً عن إسحاق بن راهوية : (( لا يصح عن النبي ? في فضل معاوية شىء )) . ? فلا يثبت عنه . فقد أخرجه الحاكم – كما في (( سير )) الذهبي ( 3 / 132 ) و (( الفوائد المجموعة )) للشوكاني ( ص : 407 ) - : عن الأصم – أبي العباس محمد بن يعقوب الاصم ، حدثنا أبي ، سمعت ابن راهويه فذكره . (( وفي الفوائد )) : سقطت : ( حدثنا أبي ) : وهي ثابتة فالأصم لم يسمع من ابن راهويه . ? قلت : يعقوب بن يوسف بن معقل أبو الفضل النيسابورى – والد الأصم – مجهول الحال ، فقد ترجمه الخطيب في (( تاريخه )) ( 14 / 286 ) فما زاد على قوله : (( قدم بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه ، روى عنه محمد بم مخلد )) . ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وله ذكر في ترجمة ابنه من (( السير )) ( 15 / 453 ) ، ولم يذكر فيه الذهبي ايضاً جرحاً ، ولا تعديلاً ، وذكر في الرواة عنه : عبد الرحمن بن ابي حاتم ، ولم أجده في (( الجرح والتعديل )) ، ولا في (( ثقات )) ابن حبان .
اتهام السقاف لمعاوية بن أبي سفيان بشرب الخمر وحاشاه أن يفعل ذلك – ? -
وقد أتهم السقاف معاوية بن ابي سفيان – رضي الله عنهما – بشرب الخمر واستدل بما رواه الإمام احمد ( 5 / 347 ) بسند رجاله رجال مسلم – كما قال لسقاف – عن عبدالله بن بريدة ، قال : (( دخلت أنا وأبي على معاوية ، فأجلسنا على الفرش ، ثم أتينا بالطعام فأكلنا ، ثم أتينا بالشراب ، فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ، ثم قال : ما شربته منذ حرمه رسول الله ? ... )) . ولم يذكر السقاف سند الحديث ، ولا تتمة متنه .
? فاما سنده : فقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين ، حدثنا عبدالله بن بريدة ... ... . ? وأما تتمة المتن : (( ثم قال معاوية : وكنت أجمل شباب قريش وأجوده ثغراً ،وما شىء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن ، أو إنسان حسن الحديث يحدثني )).(1/130)
وقد حاول السقاف بهذا الخبر التلبيس على القارئ بأن معاوية كان ممن يشرب الخمر بعد إسلامه ، وبعد ثبوت تحريم شرب الخمر . وهذا مندفع بامور :
أولها : أن لفظ الشراب لا يقتضي أن يكون المشروب خمراً .
ثانيها : مناولته لبريدة بن الحصيب الشراب ، فلو كان خمراً لما أخذه بريدة ، ولأنكر عليه ذلك .
ثالثهما : أن قوله : (( ما شربته منذ حرمه رسول الله ... . )) هو من قول معاوية وليس من قول بريدة ، يدل على ذلك ما حذفه السقاف من متن الخبر والذي أشرنا إليه سابقاً ، فدل على ان الشراب لم يكن خمراً ، بل لعله كان لبناً .
? وكذلك فإسناد الخبر فيه لين . فزيد بن الحباب في حفظه ضعف ، ومثله حسين بن واقد ، ولذلك لم يجرؤ السقاف على تصحيحه .
الثامن والثلاثون
الجواب عما ذكره السقاف من قتل الصحابي حجر بن عدي بأمر معاوية
وقد حاول السقاف الطعن في معاوية - ( - بطريقة أخرى ، وهي اتهامه بقتل الصحابي حجر بن عدي - ( - بغير علة ، وإنما كان ذلك إرساء لملكه - فيما أوهم - ؟ ! . هكذا ادعى ، وحاشا لله أن يصدر هذا من صحابي جليل كمعاوية ابن أبي سفيان .
قال ابن سعد - رحمه الله - في (( الطبقات )) ( 6 / 151 ) : وكان حجر بن عدى جاهلياً إسلامياً ، قال وذكر بعض رواة العلم أنه وفد إلى النبي ( ، مع أخيه هانئ بن عدى ، وشده القادسية ، وهو الذي فتح مرج عذرى ، وكان في ألفين وخمسائة من العطاء وكان من اصحاب علي ابن أبي طالب ، وشهد معه الجمل و
منزلك ، وهذا سريرى فهو مجلسك ، وحوائجك مقضية لدى ، فاكفنى نفسك فإني أعرف عجلتك ، فأنشدك الله يا أبا عبدالرحمن في نفسك ، وإياك وهذه السفلة وهؤلاء السفهاء أن يستزلوك عن رأيك فإنك لو هنت علي واستخففت بحقك لم أخصك بهذا من نفسي . فقال حجر : قد فهمت ، ثم انصرف إلى منزله ، فاتاه إخوانه من الشيعة ، فقالوا : ما قال لك الأمير ؟ قال : قال لي كذا وكذا ، قلوا : ما نصح لك ، فأقام وفيه بعض الاعتراض .(1/131)
وكانت الشيعة يختلفون إليه ويقولون : إنك شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر ، وكان إذا جاء إلى المسجد مشوا معه ، فأرسل إليه عمرو بن حريث ، وهو يومئذ خليفة زياد على الكوفة وزياد بالبصرة : أبا عبدالرحمن ما هذه الجماعة وقد أعطيت الأمير من نفسك ما قد علمت ؟ فقال للرسول : تنكرون ما أنتم فيه ، إليك وراءك أوسع لك ، فكتب عمرو بن حريث بذلك إلى زياد ، وكتب إليه : إن كانت لك حاجة بالكوفة فالعجل ، فأخذ زياد المسير حتى قدم الكوفة ، فارسل إلى عدى بن حاتم ، وجير بن عبدالله البجلى ، وخالد بن عرفطة العذري ، حليف بني زهرة ، وإلى عدة من أشراف أهل الكوفة ، فارسلهم إلى حجر بن عدى ليعذر إليه ، وينهاه عن هذه الجماعة ، وإن يكف لسانه عما يتكلم به ، فأتوه فلم يجبهم إلى شيء ، ولم يكلم أحداً منهم وجعل يقول : يا غلام اعلف البكر ، قال : وبكر في ناحية الدار ، فقال له عدى بن حاتم : أمجنون أنت ؟ أكلمك بما اكلمك به وأنت تقول يا غلام أعلف البكر ؟ فقال عدى لأصحابه : ما كنت أظن هذا البائس بلغ به الضعف كل ما رأى ، فنهض القوم عنه وأتوا زياداً فأخبروه ببعض وخزنوا بعضاً ، وحسنوا أمره وسألوا زياداً الرفق به فقال : لست إذا لأبي سفيان .
فأرسل إليه الشرط والبخاريه فقاتلهم بمن معه ، ثم انقضوا عنه وأتى به زياد وباصحابه فقال له : ويلك ما لك ؟ فقال : إني على بيعتى لمعاوية لا أقيلها ولا استقيلها ، فجمع زياد سبعين من وجوه أهل الكوفة ، فقال : اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه ، ففعلوا ثم وفدهم على معاوية وبعث بحجر واصحابه إليه .(1/132)
وبلغ عائشة الخبر فبعثت عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي إلى معاوية فسأله أن يخلي سبيلهم ، فقال عبد الرحمن بن عثمان الثقفي : يا أمير المؤمنين جدادها جدادها ، لا تعن بعد العام أبداً ، فقال معاوية : لا أحب أن أراهم ولكن اعرضوا على كتاب زياد ، فقرئ عليه الكتاب ، وجاء الشهود فشهدوا ، فقال معاوية بن ابي سفيان : أخرجهم إلى عذرى فاقتلوهم هنالك ، قال فحملوا إليها .
فدلت هذه الحكاية على أن معاوية أمر بقتله لما شهد عنده الشهود بأنه ألب على عامله بالعراق ، وحصبه وهو على المنبر ، وخلع البيعة لمعاوية نفسه ، وهو آنذاك أمير المؤمنين ، وقد قال رسول الله ( - فيما أخرجه مسلم من حديث عرفجة - : (( إنه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة ، وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان )) . قال الإمام النووى - رحمه الله - ( 12 / 241 ) : (( فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام ، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك ، وينهى عن ذلك ، فإن لم ينته قوتل ، وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل كان هدراً )) .
قلت : وفي القصة التي ذكرها ابن سعد ما يدل على أن الشيعة قد ألبوه على معاوية وعامله ، وأن زياداً والى العراق قد راجعه في ذلك قبل أن يبعث بالشهود إلى معاوية - ( - فلما علم معاوية من حاله ، وشهد عنده الشهود بذلك ، أمر بقتله عملاً بنص هذا الحديث ، خصوصاً وأن البيعة كانت قد استقرت له ، والتأليب عليه مما يضر بالدولة الإسلامية آنذاك . وقد أمرنا النبي ( بالسمع والطاعة ولو لعبد حبشي ، فكيف بمن كان من صحابته الذين آزروه ونصروه ، وبمن دعا له النبي ( بالهداية ؟ !! .(1/133)
وأمر أخيراً أذكره : أن حجر بن عدى هذا مختلف في صحبته ، والأكثر على أنه تابعى ، قال الحافظ ابن حجر في (( الإصابة )) ( 1 / 313 ) : (( وأما البخاري ، وابن أبي حاتم ، عن أبيه ، وخليفة بن خياط ، وابن حبان فذكروه في التابعين وكذا ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة )) . وعلى فرض التسليم له بالصحة فالواجب علينا عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة ، بل الترحم عليهم ، والتصديق بعدالتهم . قال ابن حجر في مقدمته (( الإصابة )) ( 1 / 17 ) : (( اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة )) .
الجزء الواحد والأربعين
الجواب عما ذكره السقاف من أمر معاوية - ? - بقتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد
وأما ما ذكره السقاف من أن معاوية جعل لابن أثال جعلاً على أن يقتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد ، فلا يصح عنه . فقد أخرج الطبري في (( تاريخه )) ( 3 / 202 ) هذا الخبر عن عمر بن شبه عن على ، عن مسلمة بن محارب بهذه القصة . وأورده ابن الأثير في (( الكامل )) ( 3 / 453 ) من غير إسناد ، ولا أراه إلا اعتمد على ما أورده الطبري في تاريخه .(1/134)
قلت : وعلي شيخ عمر بن شبة هو على بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف أبو الحسن المدائني ، أخبارى صدوق ، إلا أنه ضعف في الرواية ، قال ابن عدى في (( الكامل )) ( 5 / 1855 ) : (( ليس بالقوى في الحديث وهو صاحب أخبار )) . وأما قول ابن معين فيه : (( ثقة ، ثقة )) ، فابن معين قد يطلق هذا الوصف على العدالة لا الضبط ، فهذا الوصف محمول على عدالته لا ضبطه ، وقد يطلقه مقارنة بمن هو أضعف منه ، إلا أن هذا الخبر قد اسنده ، فيحكم عليه بقوانين الرواية ، ثم إن القارئ لترجمته في (( السير )) للذهبي يجد أنه كان يحدث بأخبار فحدثه بأحاديث في على ، فلعن بني أمية . وفي ترجمته من (( الكامل )) أورد له ابن عدى حديثاً في فضل الحسن بن على ، فمثله يخشى أن يكون من الشيعة فيتساهل في أخبار ذم معاوية . وأمر آخر أذكره للسقاف جهله أو تجاهله ، وهو أن الطبرى لما اورد ذكر هذه الحادثة رضها فقال : (( وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد بن عبد الوليد من بلاد اروم إلى حمص ، فدس ابن أثال النصراني إليه شربة مسمومة – فيما قيل – فشربها فقتلته )) . فقول الطبرى : (( فيما قيل )) يدل على ضعف الرواية في ذلك عنده .
واقوال للسقاف .. هل وجدت ترجمة لشيخ مسلمة بن محارب ؟ !! أن في شك من ذلك ، فقد اجتهدت في الوقوف على ترجمة له فلم أوفق فمالك ترد فضائل معاوية لأقل مغمز في الراوى ، ولا تعل أخباراً ، وردت في ذمة رواتها مجاهيل ؟ أرى أن سبب ذلك كله تشيعك المفرط ، وبغضك الشديد لمعاوية ? .
الجزء الثاني والأربعين
هل ذم الحسن البصري معاوية الجواب عما ذكره السقاف من ذم الحسن البصري لمعاوية بن أبي سفيان – ?(1/135)
ويبقى الآن الجواب عما أورده السقاف من خبر ذم الحسن البصري لمعاوية ? والجواب عن هذا سهل هين ، فإنه إنما أعتمد في ذلك على ما نقله ابن الأثير في (( الكامل )) ( 3 / 487 ) عن الحسن ، وقد رجعت إلى (( الكامل )) فوجدت أن ابن الأثير قد أورد هذا الخبر بغير إسناد . فكيف نسلم بصحة مثل هذا ورد في ذم صحابي لمجرد وروده في كتاب (( الكامل )) لابن الأثير ، والمعروف أن المغزى والسير من الأبواب التى لم تسلم من الأخبار الضعيفة والموضوعة .
الجزء الثالث والأربعون
فتوى الإمام أحمد – رحمه الله – فيمن يطعن في معاوية بن أبي سفيان – (رضي الله عنه)
وأخيراً نورد هذه الفتوى العزيزة للإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – في حكم من يطعن في الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان – ? - وفي حكم من يقول : إنه ليس بخال المؤمنين ، وإنه ليس بكاتب الوحي ، أو يقدم أحد التابعين عليه في الفضل .
* قال الخلال في (( السنة )) ( 659 ) : أخبرني محمد بن أبي هارون ، ومحمد بن جعفر ، أن أبا الحارث حدثهم قال : وجهنا رقعة إلى أبي عبدالله ، ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول : إن معاوية كاتب الوحي ، ولا أقول إنه خال المؤمنين ، فإنه أخذها بالسيف غصباً ؟ قال أبو عبدالله : هذا قول سوء ردئ ، يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ، ونبين أمرهم للناس . وسند صحيح .
* رورى الخلال ( 660 ) : أخبرنا أبو بكر المروذي ، قال : قلت لأبي عبدالله أيما افضل : معاوية أو عمر بن عبدالعزيز ؟ فقال : معاوية أفضل ، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله ? أحداً . قال النبي ? : (( خير الناس قرني الذي بعث فيهم )) . وسنده صحيح .
ففي الفتوى الأولى رد على السقاف فيما نفاه من خؤولة معاوية للمؤمنين ، وادعاؤه أنه ليس من كتاب الوحي . وفي الثانية رد عليه في تقديمه عمر بن عبدالعزيز عليه .(1/136)