كفاية المستزيد
بشرح
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
حفظه الله تعالى
أوصي بالعناية بهذا الكتاب عناية عظيمة من جهة حفظه، ومن جهة دراسته، ومن جهة تأمل مسائله، ومن جهة معرفة ما فيه؛ فإنه الحق الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم من صالح عباد الله.[صالح آل الشيخ]
[16 شريطا مفرغا]
تفريغ الأشرطة لا يعني الاستغناء عنها
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
منهجي في هذا التفريغ المبارك
الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه الدروس ألقاها فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في الدروة العلمية المكثفة لسنة 1416 هـ التي أقيمت بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في الرياض.
واعتمدت في التفريغ أشرطة تسجيلات الرغائب والنفائس بالجزائر العاصمة التي بدورها سجلتها على تسجيلات طيبة الإسلامية بالرياض، وهي تبلغ ستة عشرة شريطا وصوتها واضح؛ لكن يوجد بعض السقط خاصة عند انتهاء الوجه الأول من الأشرطة، واستدركت ذلك من تفريغ موقع جامع ابن تيمية.
حاولت أن يكون هذا التفريغ حرفيا وهو يتميز بـ:
"جمع الكلمات التي ألقيت للحثّ على طلب العلم في هذا الشرح ووضعها في مقدمة الكتاب مع التنبيه على مواضعها من الأشرطة.
"شكل الآيات وتخريجها.
"شكل أغلب الأحاديث النبوية.
"شكل ما يُشْكِل.
"وضع الأسئلة والأجوبة التي أُلقيت تحت الأبواب المناسبة لها مع التنبيه على الأشرطة الذي أُخذت منها.
"وضع فهرسة للأبواب.
والباقي سوف تكتشفونه.
وفي الأخير أشير إلى أنَّ العنوان (كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد) من اختياري. سالم الجزائري
كلمات في طلب العلم
[الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:(1/1)
فإن الاهتمام بالعلم، والرّغب فيه، والحرص عليه، والإقبال عليه، دليل صحة القلوب؛ لأن القلب إذا صحَّ لنفسه، وعرف ما ينفعُه فإنه سيحرِص على العلم؛ ذلك لأن الله جل جلاله مدح أهل العلم، ورفعهم على غيرهم درجات، قال سبحانه?يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ?[المجادلة:11]، وقال جل وعلا?أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[الزمر:9], فعدم استواء من يعلم مع من لا يعلم, هذا إنما يذكره ويعيه أهل الألباب؛ (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).
وأما الجاهل فهو لا يعرف أنه جاهل، ويقنع بالجهالة، ثم هو لا يعلم معنى العلم وأهمية العلم، وأنَّ العلم هو الشرف الأعظم في هذه الحياة؛ ولهذا قال العلماء: من دلائل أهمية العلم أن الله جل جلاله ما أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعُوَ بالازدياد من شيء إلا من العلم، فقال سبحانه لنبيه ?وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا?[طه:114]، وما أمره بالازدياد، أو بدعاء الازدياد من غير العلم، وكفى بذلك شرفا.
العلم يشترك كثيرون في الاهتمام به، لكن لا يستوون في أخذه، ولا في طريقة أخذه، وهم طبقات:(1/2)
فمنهم المتعجل: الذي يظن أن العلم يحصَّل في أسابيع، أو في أشهر، أو في سنين معدودة، وهذا بعيد عن الصواب؛ لأن العلم لا ينتهِي حتى يموت المرء وبقي من العلم أشياء كثيرة لم يعلمها، فإن العلم واسع الأطراف، واسع الجنبات، والله جل وعلا هو ذو العلم الكامل، وأعطى البشر بمجموعهم بعض علمه، فهذا يفوت عليه شيء من العلم، وذاك يفوت عليه شيء من العلم؛ ولكن بمجموعهم لو جُمع علم من فيها لكان شيئا قليلا جدا من علم الله، كما تضع الإبرة في البحر ثم تخرجها لم تُنقص من ماء البحر شيئا.
وإذا كان كذلك، فإن رَوْمَ العلم لا يمكن أن يكون بإطلاق؛ بل ينبغي لطالب العلم أن يكون متدرجا فيه؛ والتدرج سنة لا بد منها، هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي سنة الصحابة، وهي سنة أهل العلم بعدهم؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام ما علّم الصحابةَ العلم جملة واحدة، وإنما علَّمهم في سنين عددا، في مكة علمهم أصل الأصول، الذي به سلامة القلب وصحته وسلامة العقل وصحته، ألا وهو توحيد الله جل جلاله والبراءة من كل ما سوى الرب جل وعلا، ثم بعد ذلك أتى العلم شيئا فشيئا لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلٌّ أخذ من العلم بقدر ما يُسِّر له وقُدّر له.
هكذا أهل العلم من بعد الصحابة لا تجد أنَّ أولئك خاضوا العلم خوضا واحدا، فمنهم من برّز في العربية، ومنهم من برّز في علم الأصول، ومنهم من برّز في التفسير، ومنهم من برّز في الحديث، ومنهم من برّز في علوم الآلة الأخرى كالمصطلح ونحوه، ومنهم من برّز في الفقه، وهكذا في علوم شتى.
وإذا كان كذلك، كانت وصية ابن شهاب الزهري، التي لابد أن نحفظها، كانت وصيته نعم الوصية حيث قال: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة إنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي. فالمتعجلون لا يحصلون العلم، فلا بد -إذن- من التدرج.(1/3)
ثُم ثَم صنف أيضا من الشباب، أو من طلاب العلم وهم المتذوقون. المتذوقون: أهل التذوق في أخذ العلم؛ يأتي ويطلب علما ما مدة قليلة، ثم يأتي ويحكم على هذا العلم، أو يحكم على من يُعلّم ذاك العلم، وأيضا ينتقل إلى آخر، ثم يحكم على ذلك العلم الآخر، وعلى من يُعلّم ذلك العلم الآخر.
وهذا دليل نقص في العلم، ونقص في الإدراك والعقل؛ لأن العلوم لا يحكم عليها إلا من حواها من جميع جنباتها، وأحاط من ورائها. وهذا لا يتأتى لأكثر الشباب الذين يتذوقون؛ تجد أنه في مدة من الزمن أشهر أو سنة حضر عند فلان من أهل العلم، أو من المعلِّمين من طلبة العلم، فحكم على نفسه، أو على ذلك المعلم بأنه كذا وكذا، ثم انتقل إلى غيره.
ثم في الآخِر تجد أن هذا النوع ييأس ولا يحصّل علما كثيرا؛ ذلك لأنه تعجَّل، وكان متذوقا في العلم، والتذوق بمعنى كثرة التنقل، والأخذ من هذا بشيء والأخذ من ذاك بشيء، هذا لا يكون المرء به عالما، ولا طالب علم، وإنما كما قال الأولون يكون أديبا؛ لأنهم عرّفوا الأدب بأنه: الأخذ من كل علم بطرف. وهذا مما لا ينبغي أن يُسلك، يعني أن يكون طالب العلم الذي أراد صحة العلم، وصحة السلوك فيه، لا يصلح أن يكون متذوقا.
إذن فرجع السبيل إلى أن يكون مؤصِّلا نفسه، متدرجا في العلم، والتأصيل أمره عزيزٌ جدا؛ تأصيل العلم وتأصيل طلب العلم وأن يحفظ كما حفظ الأولون.(1/4)
أنظر إنْ كنت معتبرا، أنظر كتب التراجم حيث ترجم أولئك المصنفون لأهل العلم؛ تجد أنه في ترجمة إمام من الأئمة، وحافظ من الحفاظ، تجد أنهم يذكرون في أوائل ترجمته أنه قرأ الكتاب الفلاني من الكتب القصيرة من المتون المختصرة وقرأ الكتاب الفلاني، وحفظ كذا، وحفظ كذا، لماذا يذكرون هذا، ويجعلونه منقبة لأولئك؟ لأن حفظ تلك المتون، وقراءة تلك المختصرات هي طريقة العلم في الواقع، وهذه سنة العلماء، ومن تركها فقد ترك سنة العلماء في العلم والتعليم، منذ تشعَّب العلم بعد القرن الرابع الهجري.
لهذا ينبغي لك أن تكون حريصا على التأني في طلب العلم، وأن تُحكِم ما تسمع وما تقرأ شيئا فشيئا.
ومن المهمات أيضا ألاّ تُدخل عقلك إلا صورة صحيحة من العلم، لا تهتمَّ بكثرة المعلومات، بقدر ما تهتم بأنْ لا يدخل العقل إلا صورة صحيحة للعلم، إذا أردت أن تتناولها تناولتها بالاحتجاج أو بالذكر أو بالاستفادة، تناولتها تناولا صحيحا، أما إذا كنت تُدخل في عقلك مسائل كثيرة، وإذا أتى النقاش لحظت من نفسك أنَّ هذه المسألة فهمتها على غير وجهها، والثانية فهمتها على غير وجهها، لها قيد لم تهتم به، لها ضوابط ما اعتنيت بها، فتكون الصور في الذهن كثيرة، وتكون المسائل كثيرة؛ لكن غير منضبطة، وليس ذلك بالعلم.
إنما العلم أن تكون الصورة في الذهن للمسألة العلمية منضبطة؛ من جهة الصورة -صورة المسألة-، ومن جهة الحكم، ومن جهة الدليل، ومن جهة وجه الاستدلال، فهذه الأربع تهتم بها جدا:
الأولى: صورة المسألة.
الثانية: حكم المسألة، في أي علم: في الفقه أو الحديث أو المصطلح أو الأصول أو النحو أو التفسير...إلخ.
الثالثة: دليلها، ما دليل هذا الذي قال كذا وكذا؟
الرابعة: ما وجه الاستدلال؟ استدل بدليل، كيف أعمل عقله في هذا الدليل فاستنبط منه الحكم؟(1/5)
فإذا عوّدت ذهنك في هذه الأربع سرت مسيرا جيّدا في فهم العلم، والذي يحيط بذلك الاهتمام باللغة العربية، الاهتمام بألفاظ أهل العلم؛ لأنَّ من لم يهتمّ بألفاظ أهل العلم وبلغة العلم لم يدرك مراداتهم من كلامهم.
هذه كلمة لأجل أنَّ بعض الإخوة طلب بأن تكون مقدمة لهذا الدرس حتى يجتمع من يريد حضور درس التوحيد، ولو تهيأ أن نجعل كل يوم عشر دقائق في بيان وصية في بيان شيء مما تهتمون به ذلك مناسبا إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد](1)
[الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلي آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وأن يجعل العلم حجة لنا لا حجة علينا.
هذا وإن من المهمّات في مسير طالب العلم أن يعتني بحفظ العلم المنتخَب، وأعني بحفظ العلم المنتخب الذي يتصيّده من الكتب أو مما سمعه من العلماء أو المشايخ أو طلبة العلم؛ ذلك أنَّ تعليم العلم يكون معه فوائد قد لا يجدها الأكثرون في الكتب، ولهذا لابد من التقييد، والتقييد يكون في دفتر خاص، وقلّما تجد أحدا من أهل العلم إلا وكان له في سِنِيِّ الطلب دفترا خاصا، أوراق مجموعة يكتب فيها ما ينتخبه من المهمّات مما يقرأ أو مما يسمعه من الشيوخ؛ لأنك إذا كنت تقرأ ستجد أشياء كثيرة ليست ملفتة للنظر ولست بحاجة إليها في فترتك التي تعيشُها، وتارة تجد أشياء مهمة، كذلك مما تسمعه من العلماء، أو من المعلمين فإن ثمة أشياء مهمة وثمة من قبيل الوصف؛ الوصف يمكن أن يُدْرَك بمراجعة بعض المراجع القريبة ونحو ذلك. أما ما كان من قبيل التعاريف أو التقاسيم أو التصوير أو ذكر الخلاف أو ذكر الراجح أو ذكر الدليل أو ذكر وجه الاستدلال فهذا لابد من تقييده.
__________
(1) ما بين المعكوفتين من الشريط الأول الوجه الثاني، وهو بعد باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.(1/6)
إذن كان من اللوازم لك أن تتخذ لك كراسة خاصة تكتب فيها الفوائد؛ والفوائد هذه إما أن تكون مقروءة أو مسموعة.
والذي أريد أن تكتبه في هذا المنتخب أو الكراسة أن تعتني فيه بكتابة التعاريف أو الضوابط؛ لأن العلم نصفه في التعاريف والضوابط، وأن تعتني فيها بذكر القيود، إذا سمعت قيدا في مسألة فإن القيد أهميته كأهمية أصل المسألة؛ لأنه بدون فهم القيد يكون تصور أصل المسألة غير جيد؛ بل قد يكون خطأَََََََ فتنزلها في غير منزلتها.
أو التقاسيم، تجد في بعض كتب أهل العلم مثلا قول بأن هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، أو هذه الصورة لها ثلاثة حالات، بها خمس حالات، لها حالتان وكلّ حالة تنقسم إلى حالتين، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: العلم إدراكه في إدراك التقاسيم.
فذهنُك من الحسن؛ بل من المتأكد أن تعوِّده على ضبط التعاريف، ضبط القيود على إدراك التقسيمات، إذا رأيت في كلام بعض أهل العلم أن هذه تنقسم إلى كذا وكذا فمن المهم أن تسجل ذلك وأن تدرسه أو تتحفظه، لأن في التقسيمات ما يجلو المسألة، وبدون التقاسيم تدخل بعض الصور في بعض، وتدخل بعض المسائل في بعض، أما إذا قُسِّمت فإن في التقسيم ما يوضح أصل المسألة؛ لأن لكل حالة قسما.
وأيضا من المهمات لك في مسيرك في طلب العلم فيما تقيده أن يكون لك تقييم بعد كل فترة من الزمن فيما كتبته في تلك الكراسة أو الكراسات، ستجد أنك مثلا بعد مضيّ سنة من طلبك للعلم تستغرب ما كتبته في تلك السنة بعد مدة، لماذا؟ لأنك أول ما كتبت كانت المكتوبات، كانت المسائل جديدة عليك، فكتبت لتحفظ، وبعد أن حفظت ودرست وكررت ما كتبته في هذه الكراسة، صارت واضحة وضوح اسمك لديك، وبالتالي فإن المعلومات تزيد وكلما ازدادت المعلومات بحفظ ما سبق يكون السابق واضحا لديك لست محتاجا لعناء في تناوله من العقل أو الذهن؛ لأنه صار محفوظا متصوّرا بقيوده وبضوابطه.(1/7)
إذن من المهم أن ترتب نفسك في أن تنتخب مما تقرأ أو مما تسمع أشياء مهمة تتعلق بما ذكرنا إمّا بالتعاريف وإمّا بالتقاسيم أو بالدليل أو بوجه الاستدلال، وهذا يشمل جميع العلوم سواء من ذلك العلوم الصناعية يعني علوم الآلة أو العلوم الأصلية التي هي المقصودة.
حبذا لو تبدأ بهذا من اليوم فتجعل لك منتخبا تنتخب فيه الفوائد ثم تتحفظُها، ثم بعد مدة سترى أنها صارت سهلة ميسورة، فتنتقل إلى غيرها فيجتمع العلم بعد مدة.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يسّر عليه العلم ويسّر عليه العمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.] (1)
[نفسيّة طالب العلم حين يتلقى الدرس]
[بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فموضوع كلمة هذا اليوم عن نفسية طالب العلم حين يتلقى الدرس، والمستمعون للعلم يختلفون؛ يختلفون من جهة رغبتهم فيما يسمعون، ويختلفون أيضا من جهة استعداداتهم، فليست الرغبات واحدة وليست الاستعدادات واحدة.
فالرغبات مختلفة:
"منهم من يستمع للعلم رغبة في تحصيله، هذا هو الغالب ولله الحمد.
"ومنهم من يستمع للعلم رغبة في تقييم المعلم أو في معرفة مكانته من العلم وحسن تعليمه أو حسن استعداداته للعلوم.
"ومنهم من يأتي مرة ويترك عشر مرات.
هذه وفيه رغبات متنوعة ويهمنا منها من يأتي للعلم رغبة في العلم، فحين يأتي طالب العلم للدرس راغبا في الاستفادة ينبغي أن يكون على نفسية وحالة قلبية خاصة، وحالة عقلية أيضا خاصة.
أمّا الحالة القلبية والنفسية:
__________
(1) ما بين المعكوفتين من الوجه الثاني من الشريط الثاني بعد شرح باب الخوف من الشرك.(1/8)
½ فأن يكون قصده من هذا العلم أن يرفع الجهل عن نفسه، وهذا هو الإخلاص في العلم؛ لأن طلب العلم عبادة، والإخلاص فيه واجب، والإخلاص في العلم بأن ينوي بتعلمه رفع الجهل عن نفسه، وقد سئل الإمام أحمد عن النية في العلم كيف تكون؟ فقال: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه.
فإذا كان في طلبه للعلم يروم أن يكون معلما، أو أن يكون داعيا أو أن يكون مؤلفا ونحو ذلك فالنية الصالحة فيه والإخلاص في ذلك يكون بشيئين:
الأول: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه.
الثاني: أن ينوي رفع الجهل عن غيره.
فإذا لم ينو أحد هذين، أو لم ينوهما معا، فإنه ليس بصاحب نية صحيحة، فإذا رام أحدنا أن يطلب العلم فلا بد أن يكونا ناويا رفع الجهل عن نفسه، وإذا نوى هذه النية يكون مستحضرا -بالطبع- أن الله جل جلاله خلقه وله عليه أمر ونهي في أصل الأصول ألا وهو حقه جل وعلا: التوحيد، وكذلك في الأمر والنهي في الحلال وفي الحرام، وسبب الإقدام على المنهيات في العقائد، وكذلك في السلوك الجهل، من أسباب ذلك الجهل، ثم أسباب أخرى.
فإذا علم ورفع الجهل عن نفسه، كان عالما بمراد الله جل وعلا، ثم بعد ذلك يستعين الله جل وعلا في امتثال مُرَادَاتِهِ الشرعية هذا أمر نفسي مهم.(1/9)
½ والأمر النفسي الثاني المهم أيضا: أنه حين يتلقى العلم يتلقى وهو واثق من علم المعلم؛ يعني أن يكون في نفسه أن الأصل في المعلم أنه يعلم على الصواب، فإذا دخل وفي نفسه أن المعلم يعلم غلطا أو أن معلوماته مشوشة، أو أنه كذا وكذا مما يضعفه في العلم، فإنه لن يستفيد من ذلك؛ لأنه إذا استمع سيستمع بنفس المُعارض، فسيأتي إذا قال كلمة أخذ يفكر بعدها نصف دقيقة أو دقيقة فيما قال، قال: هذا صحيح وفي اطلاعاته، وقد اطلع كذا وكذا مما يعارض كلام المعلم، ثم في هذه الدقيقة(1) يكون المعلم قد أتى بشيء آخر، فإذا انتهى هذا من تفسيره سمع جملة أخرى فتكون مشوشة أيضا، فيدخل في اعتراضات وهذا يحرم المستمع العلم.
وإذا كان عند طالب العلم فيما يسمع إشكالات أو إيرادات فيكون عنده ورقة أو كراسة بين يديه يكتب الإشكال ثم لا يفكر فيه وهو يستمع العلم، يكتب بحث هذه المسألة، المسألة كذا وكذا، ثم بعد ذلك إذا فرغ من هذا الدرس يذهب هو ذلك اليوم أو بعده يذهب ويبحث هذه المسألة أو يسأل عنها.
ومن المعلوم أنه ليس من شرط المعلم أن يكون محققا، وليس من شرط المعلم أن يكون مصيبا دائما، فقد يكون له اختيارات أو آراء تخالف المشهور، أو يكون له توجيهات غلط فيها؛ لكن الشأن أن يكون المعلم مشهودا له بالعلم، مؤصلا في العلم، يعرف ما يتكلم به، فإذا عرف ما يتكلم به وعرف أقوال الناس وعلّم العلم، فإنه قد يكون عنده غفلة في مسألة أو في حكم أو نحو ذلك، فيغلَط مرة أو يغلط في تصورٍ ونحو ذلك، ليس بالعجيب؛ لأن المعلم بشر والبشر خطَّاءون.
إذن المهم أن تتلقى العلم ممن وثقت بعلمه وأنت في نفسية غير معارضة، وهذا يحرم كثيرين علما واسعا؛ حيث إنهم يتلقون العلم بنفسية السؤال بنفسية من يستشكل، ولهذا من أكثر السؤال في حلقات العلم لا يكون مجيدا.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.(1/10)
وقد حضرتُ مرة عند الشيخ عبد الرزاق عفيفي العلامة المعروف رحمه الله تعالى، وكان عنده من يسأله عن المسائل في الحج، فإذا أتى مستفتٍ يستفتي فيأتي هذا السائل ويقول له: فإن كان كذا. يحاول تعلم العلم بطرح مسائل أخر غير المسألة التي استفتى فيها السائل، فقال له الشيخ رحمه الله: العلم لا يؤتى هكذا، وإنما يؤتى العلم بدراسته.
وهذا صحيح؛ لأن المتعلم حين يحضر عند أهل العلم فيسمع فإنه إذا عرض لذهنه أنه في كل ما يأتي يسأل أو في كل ما يسمع يعترض، كما مر معنا كثيرا من بعض الإخوان والشباب في حلقات العلم؛ يوردون أسئلة ويوردون استشكالات طبعا بحسب ما عنده من العلم سألوا واستشكلوا ولو صبروا لكان خيرا لهم.
هذه النفسية تؤثر على الذهن وعلى صفائه وعلى تصور العلوم في أثناء الدرس.
لهذا ينبغي لنا أننا حين نتلقى العلم أن نتلقاه بنفسية من ليس عنده علم البتة، يسمع ويسمع ويسمع، وإذا استشكل فيكون بعد ذلك في محله يقيد ثم يبحث أو يسأل عن ذلك.
طبعا هذا في حق من وثقنا بعلمه فأخذنا عنه العلم عن ثقة بما يأتي به.](1)
¹
مقدِّمة الشارح
(2) بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله, الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده, فأقاموا الحجة على العباد، واتفقوا من أوّلهم إلى آخرهم على أنْ لا معبود حقّ إلا الله, وعلى أنّ عبادة غيره باطلة, وأنّه ما عُبد غير الله إلاّ بالبغي والظلم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تأكيدا بعد تأكيد لبيان مقام التوحيد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
__________
(1) ما بين المعكوفتين من الشريط الثالث بعد شرح تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
(2) من هنا يبدأ الشريط الأول.(1/11)
فهذا الكتاب -وهو كتاب التوحيد-، للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين؛ محمد بن عبد الوهاب, وهو غني عن التعريف؛ لما جعل الله جل وعلا لدعوته من أثر في شرق الأرض وفي غربها، وفي شمالها وفي جنوبها، ذلك أنها دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وكتاب التوحيد الذي نحن الآن بصدد شرحه, كتاب عظيم جدّا, وأجمعت العلماء -أعني علماء التوحيد- على أنه لم يُصَنَّف في الإسلام في موضوعه مثلُه, فهو كتاب وحيد و فريد في بابه؛ لأنّه -رحمه الله- طرق في هذا الكتاب مسائلَ توحيد العبادة, وما يُضادّ ذلك التوحيد؛ إمّا من أصله, وإمّا يُضادّ كماله, وهذا على نحو التفصيل الذي ساق به الشيخ رحمه الله تلك المسائل والأبواب, لم يُوجد في كتاب على نحو سياقته مجموعًا.
ولهذا طالب العلم لا يستغني ألبتّة عن هذا الكتاب, من جهة معرفته بمعانيه؛ لأنّه مشتمل على الآي والحديث، وقد شبّه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري رحمه الله، وهذا ظاهر في أنّ الشيخ رحمه الله جعل هذا الكتاب ككتاب البخاري؛ من جهة أن الترجمة فيها آية وحديث، والحديث دال على الترجمة, والآية دالة على الترجمة, وما بعدها مُفسّر لها, وما ساق من كلام أهل العلم؛ من الصحابة، أو من التابعين، أو من كلام أئمة الإسلام، فهو على نسق طريقة أبي عبد الله البخاري رحمه الله؛ فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني.(1/12)
هذا الكتاب، صَنَّفه إمام الدعوة ابتداء ً في البصرة، لما رحل إليها، وكان الداعي إلى تأليفه ما رأى من شيوع الشرك بالله جل جلاله، ومن افتقاد التوحيد الحق في المسلمين، فرأى مظاهر الشرك الأكبر، والأصغر, والخفي، فابتدأ في البصرة؛ جمْع هذا الكتاب، وتحرير الدلائل لمسائله، ذكر ذلك تلميذه وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في المقامات، ثم حرره الشيخ رحمه الله وأكمله لما قدم نجدا، وصار هذا الكتاب كتاب دعوة, فهو يمثل الدعوة إلى التوحيد؛ لأن الشيخ رحمه الله بيَّن فيه أصول دلائل التوحيد، بيَّن فيه معناه وفضله، وبيَّن ضده والخوف من ضده، بيَّن أفراد توحيد العبادة وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالا، وبيَّن الشرك الأكبر وصورا من الشرك الأكبر، وبيَّن الشرك الأصغر وصورا من الشرك الأصغر، وبيَّن الوسائل، وبيَّن حماية التوحيد وما يكون به، وبيَّن أيضا شيئا من أفراد توحيد الربوبية، فهذا الكتاب -كتاب التوحيد- كتاب عظيم جدا، ولهذا يعظم أن تعتني به عناية حفظ، ودرس، وتأمُّل؛ لأنك أينما كنت فأنت محتاج إليه؛ في نفسك, أو في تبليغ العلم لمن وراءك، سواء كان ذلك في البيت، أم كان في المسجد، أم كان في العمل، أم في أي جهة, فمن فهم هذا الكتاب، فهم أكثر مسائل توحيد العبادة، بل فهم جُلّها وأغلبها.
نبتدئ الشرح، وقد كنت نظرت في كيف تكون طريقة شرح هذا الكتاب، والكتاب -كما تعلمون- طويل لا يمكن شرحه بتوسط أو ببسط في نحو ثمانية عشر درسا. والعلماء الذين شرحوه -وهم كُثُر- كانوا بين مطيل، ومتوسط، ومختصر. فنظرت في ذلك، فتقرر أن يكون الشرح:
"فيه ذكر للفوائد التي كثيرا ما تلتبس على طلبة العلم.
" وفيه بيان مناسبة الآي والأحاديث للترجمة.
" وفيه بيان وجه الاستدلال من الآية، أو من الحديث على المقصود.
" وفيه ذكر شيء من تقرير الحِجاج مع الخصوم في هذه المسائل، ربما بما لا يطالعه كثير منكم في الشروح.(1/13)
وهذه الطريقة التي سنسلكها؛ طريقة مختصرة، سوف نأتي بها إن شاء الله تعالى-ونسأله المدد منه، والإعانة، والتوفيق-، سنأتي بها على الكتاب كلّه بإذن الله، مع عدم الإخلال بإفهامه، وعدم الإخلال بمعانيه. اقرأ...
قال شيخ الإسلام والمسلمين مجدّد الدعوة والدّين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
[بسم الله الرحمن الرحيم]
كتاب التوحيد وقول الله تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات: 56]
و قوله تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36] الآية.
وقوله تعالى ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[الإسراء:23] الآية.
وقوله تعالى ?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[النساء:36] الآيات.
قوله تعالى: ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[الأنعام: 151] الآيات.
قال ابن مسعود (- رضي الله عنه -): من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه؛ فليقرأ قوله تعالى ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا? إلى قوله ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا?[الأنعام:151- 153] الآية.(1/14)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (- رضي الله عنه -) قَالَ: كُنْتُ رِديفَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لي: "يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقّ العبادِ عَلَى الله؟" قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوه وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا. وَحَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ أَنْ لاَ يُعَذّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُبَشّرُ النّاسَ؟ قَالَ: "لاَ تُبَشّرْهُمْ. فَيَتّكِلُوا". أخرجاه
[الشرح]
قوله( كتاب التوحيد وقول الله تعالى?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات: 56]) عادة المصنّفين والمؤلّفين أن يضعوا بعد البسملة والحمدلة خطبة للكتاب يذكرون فيها طريقتهم في هذا الكتاب, ومرادهم من تأليفه.(1/15)
وهاهنا سؤال معروف، وهو أن الشيخ رحمه الله خالف طريقة المصنّفين، فلم يجعل للكتاب خطبة يُبيِّن فيها طريقته؛ بل قال(كتاب التوحيد وقول الله تعالى?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات: 56]) فأخلاه من الخُطبة، والسبب في ذلك والسّرّ فيه -فيما يظهر لي- أنّ التوحيد الذي سيبيّنه الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب هو توحيد الله جلّ جلاله، وتوحيد الله بيَّنه الله جلّ وعلا في القرآن، فكان من الأدب في مقام التوحيد ألاّ يجعل فاصلا بين الحق والدّال على الحق وكلام الدّال عليه؛ فالحق الذي لله هو التوحيد، والذي دلّ على هذا الحق هو الله جل جلاله، والدليل عليه هو كلامه وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من لطائف أثر التوحيد على القلب، كما صَنَع البخاريُّ رحمه الله في صحيحه؛ إذْ لم يجعل لصحيحه خطبة، بل جعل صحيحه مبتدءاً بالحديث، ذلك أن كتابه كتاب سنّة، ومن المعلوم أن الأدب ألاّ يُتقدم بين يدي الله ورسوله، فلم يقدم كلامه على كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل البخاري صحيحه مفتتحا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -"إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات, وإِنّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى"، وكتابه كتاب سنة، فجعل كتابه في ابتدائه مبتدأ بكلام صاحب السنة عليه الصلاة والسلام، وهذا من لطيف المعاني؛ التي يرعاها من نوّر الله قلوبهم لمعرفة حقه، وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(1/16)
(كتاب التوحيد) (التوحيد) مصدر وحّد, يوحّد, توحيدا، وقد جاء هذا اللفظ (التوحيد) بقلة، وجاء في السنة الدعوة إلى توحيد الله؛ كما جاء قي صحيح البخاريّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال" إنّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ إلى أن يوحِّدوا الله"؛ (يوحَّدوا) مصدره التّوحيد، وفي الرواية الأخرى من حديث ابن عباس هذا؛ الذي فيه قصةُ بعثِ معاذٍ إلى اليمن، وهي في الصحيحين قال " فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لا إلهَ إلاّ الله وأن محمدا رَسُولُ الله"، فدلّ على أن التّوحيد هو شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتحقيق هاتين الشهادتين هو تحقيق التوحيد.
التوحيد: جعْل الشيء واحدا, وحّد يعني جعله واحدا, تقول: وحّدْتُ المتكلم. إذا جعلتَه واحدا، ووحّد المسلمون اللهَ؛ إذا جعلوا المعبود واحدا وهو الله جل وعلا.
والتوحيد المطلوب يشمل ما أمر الله جل وعلا في الكتاب من توحيده، وهو ثلاثة أنواع:
الأول توحيد الربوبية، الثاني توحيد الألوهية، والثالث توحيد الأسماء والصفات.
توحيد الربوبية: معناه توحيد الله بأفعاله, أفعال الله كثيرة منها: الخلق، والرَّزق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الملك، والنفع، والضَّر، والشفاء، والإجارة؛ يجير ولا يجار عليه، وإجابة دعوة المضطر، وإجابة دعوة الداعي، ونحو ذلك من أفراد الربوبية. فالمتفرد بذلك على الكمال هو الله جل وعلا. فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله سبحانه.(1/17)
وتوحيد الألوهية: مأخوذ من أَلَهَ, يَأْلَهُ, إِلهة, وأُلوهة، إذا عَبَدَ مع المحبة والتعظيم. يُقال: تألّه، إذا عبد معظِّما محبا، ففرْق بين العبادة والألوهة؛ فإنّ الألوهة: عبادة فيها المحبة والتعظيم والرضى بالحال والرجاء والرغب والرهب. فمصدر ألَه، يأله, ألوهة، وإلهة، ولهذا قيل توحيد الإلهية، وقيل توحيد الألوهية، وهما مصدران لـ: أَلَهَ يَأْلَهُ. ومعنى أَلَهَ في لغة العرب: عبد مع المحبة والتعظيم، والتألُّه العبادة على ذاك النحو، قال الراجز(1):
لله دَرُّ الغانيات المُدَّهِ ڑسبَّحْن واسترجعن من تألُّهي
يعني من عبادتي، فتوحيد الإلهية، أو توحيد الألوهية هو توحيد العبادة، يعني جَعْل العبادة لواحد وهو الله جل جلاله.
والعبادة أنواع، والعبادة يفعلها العبد، والله جل وعلا هو المستحق للألوهة وللعبادة؛ يعني هو ذو الألوهة وهو ذو العبادة على خلقه أجمعين.
توحيد الألوهية هو توحيد الله بأفعال العبد؛ أفعالك متنوعة التي تفعلها تقربا، فإذا توجّهت بها لواحد-لواحد وهو الله جلّ وعلا- كنت موحّدا توحيد الإلهية، فإذا توجه العبد بها لله ولغيره، كان مشركا في هذه العبادة.
والنوع الثالث من التوحيد توحيد الأسماء والصفات: ومعناه أن يعتقد العبد أن الله جلّ وجلاله واحد في أسمائه وصفاته لا مُماثل له فيهما، وإن شَرِك بعضُ العباد اللهَ جل وعلا في أصل بعض الصفات؛ لكنهم لا يَشْرَكونه جل وعلا في كمال المعنى؛ بل الكمال فيها لله وحده دون من سواه؛ فمثلا المخلوق قد يكون عزيزا، والله جل جلاله هو العزيز، له؛ للمخلوق من صفة العِزّة ما يناسب ذاته الحقيرة، الوضيعة، الفقيرة، والله جلّ وعلا له من كمال هذه الصفة منتهى ذلك، ليس له فيها مثيل، وليس له فيها مشابه على الوجه التام؛ قال جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
__________
(1) هو رؤبة بن العجاج [فتح المجيد ص:11].(1/18)
هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد، ذكرها الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب، لكن لمّا كانت التصانيف قبله اعتنى فيها العلماء -أعني علماء السنة والعقيدة- ببيان النوعين الأول والثالث؛ وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات, هما توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ لمّا اعتنى العلماء بهما، لم يبسط الشيخ رحمه الله القول فيهما، وإنما بسط القول فيما الناس بحاجة إليه، ويفتقدون التصنيف فيه، وهذه طريقة الإمام رحمه الله؛ فإن كتاباته المختلفة، وإن مؤلفات الشيخ إنما كانت للحاجة، ليست للتكاثر، أو الاستكثار، أو للتفنن، وإنما كَتَبَ فيما الناس بحاجة إليه، لم يكتب لأجل أن يكتب، ولكن كتب لأجل أن يَدعُوَ، وبين الأمرين فرْق.
فإذن الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب بيّن توحيد الإلهية والعبودية، وبيَّن أفراده من التوكل، والخوف، والمحبة، والرجاء، والرّغبة، ونحو ذلك، والاستعانة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، كل هذه العبادات لله سبحانه دون من سواه، و الشيخ رحمه الله لمّا بسط ذلك، بيّن أيضا ضدّه؛ وهو الشرك.
فهذا الكتاب -كتاب التوحيد- الذي فيه بيان توحيد العبادة، والربوبية، والأسماء والصفات، وفيه أيضا بيان ضد ذلك؛ وضد التوحيد الشّرك.
والشّرك: اتخاذ الشريك؛ يعني أن يجعل واحدا شريكا لآخر، يقال أشْرك بينهما، إذا جعلهما اثنين، أو أشرك في أمره غيرَه إذا جعل ذلك الأمر لاثنين، فالشرك فيه تشريك، والله جل وعلا نهى عن الشرك كما سيأتي.
الشرك في كلام أهل العلم مبيِّنين ما دلت عليه النصوص، يُقسم إلى قسمين باعتبار، و يُقسم إلى ثلاثة باعتبار آخر.
الشرك يقسم إلى:
"شرك أكبر.
"وإلى شرك أصغر.
و يُقسم أيضا باعتبار آخر إلى:
"شرك أكبر.
"وشرك أصغر.
"وشرك خفي.
والشرك: هو اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا في الربوبية، أو في العبادة، أو في الأسماء والصفات.(1/19)
والمقصود هنا، النهي عن اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا في العبادة، والأمر بتوحيده سبحانه.
~ التقسيم الأول: أن يكون الشرك أكبر وأصغر.
"الأكبر: هو المخرج من الملة.
"والأصغر: ما حَكم الشارعُ عليه بأنه شرك، وليس فيه تنديد كامل يُلحقه بالشرك الأكبر، وعبَّر عنه بعض العلماء بقوله: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر.
على هذا يكون الشرك الأكبر ثَمَّ منه ما هو ظاهر، وثمَّ منه ما هو باطن خفي:
الظاهر من الشرك الأكبر كشرك عُبَّاد الأوثان، والأصنام، وعُبَّاد القبور، والأموات، والغائبين.
والباطن كشرك المتوكّلين على المشايخ، أو على الآلهة المختلفة، أو كشرك وكفر المنافقين؛ لأن المنافقين مُشركون في الباطن، فشركهم خفي، ولكنه أكبر، وفي الباطن وليس في الظاهر.
الشرك الأصغر على هذا التقسيم، منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي:
الظاهر من الشرك الأصغر كلُبس الحلقة والخيط، وكالتمائم، وكالحلَِف بغير الله، ونحو ذلك من الأعمال والأقوال.
والباطن من ذلك الخفي كيسير الرياء، ونحو ذلك.
فيكون إذن الرياء على هذا التقسيم:
"منه ما هو أكبر كرياء المنافقين?يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا?[النساء:142].
"ومنه رياء المؤمنين رياء المسلمين حيث يتصنّع في صلاته، أو يحبّ التسميع أو المراءاة.
~~التقسيم الثاني للشرك أن يكون ثلاثة أقسام: أكبر, أصغر, خفي، وهذا التقسيم يُعني به أن:
"الأكبر: ما هو مخرج من الملّة، مما فيه صرْفُ العبادة لغير الله جلّ جلاله.
" والأصغر: ما كان وسيلة لذلك الشرك الأكبر، فيه تنديد لا يبلغ به من ندَّد أن يخرج من الإسلام، وقد حَكم الشارع على فاعله بالشرك، أو حقيقة الحال أنه ندد وأشرك.
" الشرك الخفي: هو يسير الرياء ونحو ذلك في هذا التقسيم.
من أهل العلم من يقول بالأول، ومنهم من يقول بالثاني، وهما متقابلان، وهما متساويان؛ أحدهما يوافق الآخر، ليس بينهما اختلاف:(1/20)
فإذا سمعتَ من يقول: إن الشرك أكبر وأصغر، فهذا صحيح.
وإذا سمعتَ -وهو قول أئمة الدعوة-: إن الشرك أكبر وأصغر وخفي، فهذا أيضا صحيح.
إذا تبين ذلك، فالشرك يُعبَّر عنه بالتنديد، ولهذا قال جل وعلا?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا?[البقرة:22]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -حينما سئل أيُّ الذنب أعظم، قال "أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّا وَهُوَ خَلَقَكَ"، التنديد منه تنديد أعظم، ومنه تنديد ليس فيه صرف العبادة لغير الله:
فإذا كان التنديد في جعل العبادة لغير الله، صار التنديد أكبر، صار شركا أكبر.
وإذا كان التنديد فيه جعل غير الله جل وعلا نِدًّا لله في عمل ولا يبلغ ذلك الشرك الأكبر، فإنّه يكون تنديد أصغر وهو الشرك الأصغر.
هذه مقدمات وتعاريف مهمّة بين يدي شرح هذا الكتاب العظيم.
قال إمام هذه الدعوة (كتاب التوحيد، وقول الله تعالى)، (قول) هذه كما في صحيح البخاري تنطقها:
"إما على العطف؛ (كتاب التوحيدِ، وقولِ الله)، يعني وكتابُ قولِ الله.
"أو على الاستئناف؛ (وقولُ الله تعالى).
قال (وقول الله تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات:56])، هذه الآية فيها بيان التوحيد؛ وجه ذلك أنَّ السلف فسّروا (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، يعني إلاَّ ليوحّدونِ, دليل هذا الفهم، أنّ الرسل إنّما بُعثت لأجل التوحيد؛ توحيد العبادة، فقوله (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) يعني إلاَّ ليوحدونِ.
قوله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا) هذا فيه حصر، ومعلوم أن (مَا) النافية مع (إِلاَّ) تفيد الحصر والقصر, معنى الكلام: خَلقتُ الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها، ففيه قصر علّة الخلق على العبادة.
وقوله (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، (إِلَّا) هذه تسمّى أداة استثناء مُفرَّغ, مفرّغ من أعم الأحوال -كما يقول النحّاة-، يعني وما خلقت الجن والإنس لشيء أو لغاية من الغايات أبدا إلاّ لغاية واحدة، وهي أن يعبدونِ.(1/21)
وقوله (لِيَعْبُدُونِ) اللام هذه تسمّى لام التعليل؛ ولام التعليل هذه قد يكون المعنى تعليل غاية، أو تعليل علّة؛ تعليل غاية يكون ما بعدها مطلوبا؛ لكن قد يكون و قد لا يكون، يعني هذه الغاية، ويسميها بعض العلماء لام الحكمة، وفرق بين العلة والحكمة، يعني ما الحكمة من خلق الجن والإنس؟ أن يعبدوا الله وحده دون ما سواه، هذا التعليل بقوله (لِيَعْبُدُونِ) قلنا تعليل غاية؛ مثلا قلتُ لكَ: لِما أحضرتَ الكتاب؟ قلتَ: أحضرتُه لأقرأ, فيكون علة الإحضار، أو الحكمة من الإحضار القراءة، قد تقرأ، وقد لا تقرأ، بخلاف اللام التي يكون معناها العلة التي يترتب عليها معلولُها، والتي يقول العلماء في نحوها: الحكم دائر مع علته وجودا وعدما. تلك علة القياس، التي لا يتخلّف فيها المعلول عن العلة.
فهنا اللام هذه لام علة الغاية؛ لأن من الخلق من وُجد وخلقه الله جل وعلا، لكن عبَدَ غيره، ولام الحكمة شرعية؛ ما بعدها يكون مطلوبا شرعا، قال جلّ وعلا هنا (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) نفهم من هذا أنّ هذه الآية دالة على التوحيد، من جهة أنّ الغاية من الخلق هو التوحيد، والعبادة هنا هي التوحيد, حقيقة العبادة الخضوع والذل، فإذا انضاف إليها المحبة والانقياد، صارت عبادة شرعية؛ قال طَرَفة في وصف ناقة
تُبارِي عِتاقاً ناجِياتٍ وأَتْبَعَتْڑوَظيفًا وَظيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ(1)
المور: الطريق، والمعبّد: هو الذي ذُلِّل من كثرة وطء الأقدام عليه، وقال أيضا في معلقته:
__________
(1) يقول: هي تباري إبلا كراما مسرعات في السير وتتبع وظيف- مابين الرسغ إلى الركبة- رجلها وظيف يدها فوق طريق مذلل بالسلوك والوطء بالأقدام والحوافر والمناسم في السير.[عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني، شرح المعلقات السبع، دار اليقضة العربية بيروت، 1969، ص120].(1/22)
إلى أنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها ڑوأُفرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ(1)
يعني الذي صار ذليلا، لأنه أصيب بالمرض فجُعل بعيدا عن باقي الأبعرة، فصار ذليلا لعدم المخالطة.
في الشر ع العبادة: هي امتثال الأمر والنهي على جهة المحبة والرجاء والخوف.
قال بعض العلماء: إن العبادة هي ما أُمر به من غير اقتضاء عقلي, اطراد عُرفي. وهذا تعريف الأصوليين.
وقال شيخ الإسلام في بيان معناها، في أول رسالة العبودية: العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
إذن دِلالة هذه الآية، أنَّ كلَّ فرد من أفراد العبادة يجب أن يكون لله وحده دون ما سواه؛ لأنّ الذي خلقهم, خلقهم لأجل أن يعبدوه، فكونهم يعبدون غيره، وهو الذي خلقهم هذا من الاعتداء والظلم؛ لأنه ليس مَن يخلق كمن لا يخلق؛ قال جل وعلا ?أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ?[النحل:17].
قال الشيخ رحمه الله (وقوله ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَن اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]) هذه الآية تفسير للآية قبلها, الآية قبلها فيها بيان معنى العبادة، فيها بيان الغرض من الخلق، وأنه لأجل العبادة، هذه العبادة أُرسلت بها الرسل بدليل قوله (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَن اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
__________
(1) يقول فتجنبتني عشيرتي كما يتجنب البعير المطلي بالقطران وأفردتني لما رأت أني لا أكف عن إتلاف المال والإشتغال باللذات.[ الزوزني، شرح المعلقات السبع ص137].(1/23)
بُعثت الرسل بهاتين الكلمتين (اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، ففي قوله (اُعْبُدُوا اللَّهَ) إثبات، وفي قوله (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) نفي، وهذا معنى التوحيد، وهو أنه مشتمل على إثبات ونفي، لا إله إلا الله؛ أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت؛ لأن النفي فيه اجتناب الطاغوت، وهو كل إله عُبد بالبَغي والظلم والعدوان، والإثبات؛ إثبات العبادة في الله وحده دون ما سواه، ففي قوله (اُعْبُدُوا اللَّهَ) التوحيد المثبت، وفي قوله (اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) نفي الإشراك.
والطاغوت: فَعَلُوت من الطغيان، وهو كل ما جاوز به العبد حدَّه من متبوع أو معبود أو مطاع.
قال (وقوله تعالى ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[الإسراء:23]) (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)، (قَضَى) -كما فسّرها عدد من الصحابة- هنا بمعنى أمر و وصَّى، و أمر و وصى فيهما معنى القول دون حروف القول، فتكون (أَلَّا تَعْبُدُوا)؛ (أنْ) هنا تفسيرية، يعني أمر و وصى، بماذا؟ بـ: لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا.
قوله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، هذا معنى لا إله إلا الله بالمطابقة؛ لأنّ (لاَ) النفي في الجملتين وهنا (تَعْبُدُوا)، وفي كلمة التوحيد إله والإله هو المعبود، (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه) يعني أُحصروا العبادة فيه وحده دون ما سواه، أمر بهذا ووصى بهذا، وهذا معنى التوحيد؛ فإن دِلالة الآية على التوحيد ظاهرة؛ في أنَّ التوحيد إفراد العبادة لله، أو تحقيق كلمة لا إله إلا الله، وهذا الذي دلت عليه هذه الآية.
قال(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) يعني وأحسنوا بالوالدين إحسانا.(1/24)
قال(وقوله تعالى ?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[النساء: 36]) هذا أيضا فيه إثبات ونفي، فيه أمر ونهي، أمَّا الأمر ففي قوله (وَاعْبُدُوا اللَّهَ)، والنهي في قوله (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، وقد مرّ معك دِلالة قوله (اعْبُدُوا اللَّهَ) مع النفي على توحيد الله.
قوله هنا (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) لاحظ أن (لاَ) هنا نافية، ومن المتقرّر في علم الأصول، أنَّ النفي إذا تسلَّط على نكرة فإنه يفيد العموم، و(لاَ) بعدها نكرة، وهو المصدر المُسْتكِن في الفعل؛ لأن الفعل المضارع مشتمل على مصدر وزمن، (لَا تُشْرِكُوا) يعني لا إشراكًا به، فـ(تُشْرِكُوا) متضمنة لمصدر، والمصدر نكرة، فيكون قوله (لَا تُشْرِكُوا) يعني بأي نوع من الشرك، (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، و(شَيْئًا) أيضا هنا نكرة في سياق النفي، (لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، فدلّت على عموم الأشياء، فصار -إذن- عندنا في قوله تعالى (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ثَمَّ عمومان:
"الأول: دلَّت الآية على النهي عن جميع أنواع الشرك، وذلك لأن النهي تسلّط على الفعل، والفعل فيه مصدر مُسْتكِنّ، والمصدر نكرة.
" والثانية: أنَّ مفعول (تُشْرِكُ)؛ (شَيْئًا)، و(شَيْئًا) نكرة، والنكرة جاءت في سياق النهي، وذلك يدل على عموم الأشياء، يعني لا الشرك الأصغر مأذونا به، ولا الأكبر، ولا الخفي، لدِلالة قوله (لَا تُشْرِكُوا بِهِ)، وكذلك ليس مأذونا أن يُشرك لا بملك، ولا بنبيّ، ولا بصالح، ولا بعالم، ولا بطالح، ولا بقريب، ولا ببعيد، بدلالة قوله (شَيْئًا) وهذا استدلال ظاهر الوضوح في الدلالة على التوحيد بالجمع بين النفي والإثبات.(1)
__________
(1) هنا ينتهي الوجه الأول للشريط الأول ويبدأ الوجه الثاني.(1/25)
قال(قوله تعالى?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام: 151] الآيات.) (قُلْ تَعَالَوْا) يعني يا مَن حرَّم بعض الأنعام، وافترى على الله في ذلك (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) قال العلماء: (أن) هنا تفسيرية متعلقة بمحذوف تقديره وصاكم؛ لأن (أن) التفسيرية تتعلق كما ذكرت لك بكلمة فيها معنى القول دون حروف القول وحددوها بقوله (وَصَّاكُم) لأنه في آخر الآي جاء (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ) في الآية الأولى، ثم (لَعَلَّكُم تَذَكَّرُون) في الآية الثانية، ثم (لَعَلَّكُم تَتَّقُون) في الآية الثالثة كلها فيها الوصية. فإذن يكون تقدير الكلام: قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم وصاكم ألا تشركوا به شيئا. يعني: أمركم، والوصية هنا شرعية، وإذا كانت الوصية من الله شرعية، فهي أمر واجب، فقوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) دلالتها على التوحيد كدلالة آية النساء قبلها.
ثم ساق الشيخ رحمه الله أثر ابن مسعود قال(قال ابن مسعود:من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه؛ فليقرأ قوله تعالى)، (التي عليها خاتمه), يعني التي كانت من آخر ما وصّى به، من آخر ما أمر به, يعني التي لو قُدِّر أنه وصّى وختم على هذه الوصية، وفُتحت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، لكانت هذه الآيات التي فيها الوصايا العشر.
هذا من ابن مسعود للدِّلالة على عِظم شأن هذه الآيات، التي افتتحت بالنهي عن الشرك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ دعوته بالأمر بعبادة الله وحده والنهي على الشرك، واختتمها أيضا -كما دل عليه كلام ابن مسعود هذا- بالأمر التوحيد، والنهي عن الشرك؛ فدل على أن ذلك، أولى المطالب، وأول المطالب، وأهم المطالب.(1/26)
قال بعد ذلك (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ (- رضي الله عنه -) قَالَ: كُنْتُ رِديفَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لي : يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقّ العبادِ عَلَى الله؟ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوه وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا.") هذا موطن الشاهد، (حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوه وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا) وهذا قد مرَّ بيان معناه؛ لكن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبة الابتداء؛ ابتداء كتاب التوحيد أنه أتى فيه بلفظ (حَقّ)، (أَتَدْرِي مَا حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟) ثم قال: (قَالَ: "حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوه وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا")، هذا الحق؛ حق واجب لله جل وعلا؛ لأن الكتاب والسنة؛ بل ولأن المرسلين جميعا أتوا بهذا الحق وببيانه، وأنه أوجب الواجبات على العباد.
ثم قال (وَحَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ أَنْ لاَ يُعَذّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا)، (حَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ) هذا حق أحقَّه الله على نفسه، باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في بعض أقوالهم، كما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله.
(حَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ) هل هذا حق واجب أم لا؟ نقول: نعم هو حق واجب، لكن بإيجاب الله ذلك الحق على نفسه، والله جل وعلا يحرِّم على نفسه ما يشاء، بما يوافق حكمته، ويوجب على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، " إِنَّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلاَ تَظَالَمُوا"، حرم الله الظلم على نفسه، كذلك أوجب على نفسه أشياء.(1/27)
بعض أهل العلم تحاشى لفظ الإيجاب على الله، وقال: يعبَّر بأنه حق يتفضَّلُ به، حق تفضُّلٍ، لا حق إيجاب. وهذا ليس بمُتَعَيِّن؛ لأنّ الحق الواجب، أوجبه الله على نفسه، والعباد لا يوجبون على الله جلّ وعلا شيئا من الحقوق، وهو جلّ وعلا أوجبه على نفسه؛ لأنه تفضَّل على عباده بذلك، والله جلّ جلاله لا يخلف الميعاد.
¹
باب فضل التوحيد وما يكفِّر من الذنوب
وقول الله تعالى ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ?ا[الأنعام: 82].
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شهِدُ أَنّ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَرسوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنّةَ حَقّ, وَالنّارَ حَقّ؛ أَدْخَلَهُ الله الْجَنّةَ على ما كان من العمل" أخرجاه.
ولهما في حديث عِتبان: "فَإِنّ الله قَدْ حَرّمَ عَلَى النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله".
وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: "قال موسى عليه السلام: يا ربِّ! علِّمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا؟. قال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله" رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
وللترمذي وحسنه عن أنسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول: "قال الله تعالى: يا ابنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".
[الشرح](1/28)
هذا (باب فضل التوحيد وما يكفّر من الذنوب)، التوحيد بأنواعه له فضل عظيم على أهله، ومن أعظم فضله أنه به تُكفّر الذنوب، ولهذا قال الشيخ رحمه الله في التبويب (باب فضل التوحيد وما يكفّر من الذنوب)، (ما يكفّر)، (ما) هنا موصولة؛ موصول حرفي، يعني تقدَّر مع ما بعدها بمصدر، يكون المعنى: باب فضل التوحيد وتكفيرِه الذنوبَ، فالتوحيد يكفر الذنوب جميعا، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض، فإن التوحيد حسنة عظيمة، لا تقابلها معصية إلا وأحرق نورُ تلك الحسنة أثر تلك المعصية، إذا كَمُل ذلك النور.
(باب فضل التوحيد وما يكفّر من الذنوب) يعني وتكفيرِه الذنوبَ، فالتوحيد يعني من كمّله؛ كمَّل توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، فإنه تُكفّر ذنوبه -كما سيأتي في الباب بعده- أنه من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وكلما زاد التوحيد كلما محا من الذنوب بمقدار عظمه، وكلّما زاد التوحيد كلما أمِنَ العبد في الدنيا وفي الآخرة بمقدار عِظمه، وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كلما كان متعرّضا لدخول الجنة على ما كان عليه من العمل، لهذا ساق الإمام رحمه الله آية الأنعام فقال (باب فضل التوحيد وما يكفّر من الذنوب وقول الله تعالى).
من أهل العلم من قال إن قوله (وما يكفر من الذنوب)، (ما) هنا موصول اسمي، يعني والذي يكفّره من الذنوب، وهذا أيضا سائغ ظاهر الصحة.(1/29)
(وقول الله تعالى ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام: 82])، الظلم هنا هو الشرك، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية وقالوا: يا رسول أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال:"ليس الذي تذهبون إليه، الظلم الشرك، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان:13]"، فالظلم هنا في مراد الشيخ الشرك، فيكون معنى الآية بما يناسب هذا الباب: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، ففضْل الذي آمَنَ يعني وَحَّد، لم يلبس إيمانه بشرك، لم يلبس توحيده بشرك، أن له الأمن التام والاهتداء التام.
وجه الدلالة أن قوله(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)، أن قوله (بِظُلْمٍ) هنا نكرة في سياق (لَمْ يَلْبِسُوا)، وهذا يدل على عموم أنواع الظلم.
هل العموم هنا العموم المخصوص أو العموم الذي يراد به الخصوص؟ هنا يُراد العموم الذي يُراد به الخصوص؛ لأننا قلنا -فيما سبق لك آنفا- أن النكرة في سياق النفي أو النهي تدل على العموم.
العموم عند الأصوليين:
"تارة يكون باقيا على عمومه، هذه حالة.
"وتارة يكون عموما مخصوصا، يعني دخله التخصيص.
"وتارة يكون عموما مرادا به الخصوص، يعني لفظه عام ولكن يُراد به الخصوص.(1/30)
وهذا الثالث هو الذي أراد به الشيخ رحمه الله وجه الاستدلال من الآية، فيكون الظلم هنا -صحيح- نكرة في سياق (لم) تدل على العموم؛ لكن عموم مُرادٌ به الخصوص، وهو خصوص أحد أنواع الظلم؛ وهو الشرك، فيصير العموم في أنواع الشرك، لا في أنواع الظلم كلها؛ لأن من أنواع الظلم ما هو من جهة ظلم العبد نفسه بالمعاصي، ومن جهة ظلم العبد غيره بأنواع التعديات، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله جل وعلا بالشرك، فهذا هو المراد بهذا العموم، فيكون عموما في أنواع الشرك.
وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية، فيكون المعنى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ)، يعني توحيدهم، بنوع من أنواع الشرك (أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، و(الْأَمْنُ) هنا هو الأمن التام في الدنيا، المراد به أمن القلب، وعدم حزنه على غير الله جل وعلا، والاهتداء التام في الدنيا والآخرة، وكلما صار ثَمَّ نقص في التوحيد؛ بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك؛ الشرك الأصغر أو الشرك الخفي، وسائر الشرك، ونحو ذلك، فيذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك، هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك.
فإذا فسَّرتَ الظلم بأنه جميع أنواع الظلم، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه يكون هناك مقابلة بين الأمن والاهتداء، وبين حصول الظلم، فكلما انتفى الظلم، وُجد الأمن والاهتداء، كلما كمُل التوحيد وانتفت المعصية، عظُم الأمن والاهتداء، وإذا زاد الظلم، قل الأمن والاهتداء، بحسب ذلك.(1/31)
قال (عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شهِدُ أَنّ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, وَأَنّ عِيسَى عَبْدُ اللّهِ وَرسوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنّةَ حَقّ, وَالنّارَ حَقّ؛ أَدْخَلَهُ الله الْجَنّةَ على ما كان من العمل")، مناسبة هذا الحديث للباب قوله (على ما كان من العمل) وقوله (على ما كان) يعني على الذي كان عليه من العمل، ولو كان مقصِّرا في العمل، وعنده ذنوب وعصيان، فإن فضل توحيده لله وشهادته لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، ونفي إشراك المشركين بعيسى، وإقراره بالغيب وبالبعث، فإن ذلك له فضل عليه؛ وهو أن يدخله الله الجنة، ولو كان مقصِّرا في العمل، وهذا من فضل التوحيد على أهله.
قال (ولهما في حديث عِتبان: "فَإِنّ الله قَدْ حَرّمَ عَلَى النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله".), (حَرّمَ عَلَى النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله)، قوله (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله) المراد بالقول هنا، الذي معه تمام الشروط، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الحجُّ عرفة" يعني إذا أتى ببقية الأركان والواجبات, قوله هنا (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله) يعني باجتماع شروطها، وبالإتيان بلازمها، (يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله) ليخرج حال المنافقين لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله فإن الله حرم عليه النار، وقوله (حَرّمَ عَلَى النّارِ) التحريم في نصوص الكتاب والسنَّة -تحريم النار- يأتي على درجتين: الأولى تحريم مؤبد، والثانية تحريم بعد أمد:(1/32)
"التحريم المؤبد: يقتضي أن من حرَّم اللهُ عليه النار, فإنه إذا كان التحريم تحريما مؤبدا فإنه لن يدخلها, يغفر الله له، أو يكون من الذين يدخلون الجنَّة بلا حساب ولا عذاب.
"[التحريم بعد أمد]: إذا كان التحريم بعد أمد، يعني ربما يدخلها ثم يحرم عليه البقاء فيها.
وهذا الحديث يحتمل الأول، ويحتمل الثاني، (فَإِنّ الله قَدْ حَرّمَ عَلَى النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله)، والذي أتى بالتوحيد، وانتهى عن ضدِّه، وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي، ومات من غير توبة، فهو تحت المشيئة؛ إن شاء اللهُ عذَّبه، ثم حرّم عليه النار، وإن شاء اللهُ غفر له، وحرَّم عليه النار ابتداءً.
فإذن وجه الشاهد من الحديث للباب، أنَّ هذه الكلمة وهي كلمة التوحيد, وسيأتي بيان معناها مفصّلاً إن شاء الله تعالى، هذه الكلمة لما ابتغى بها صاحبها وجه الله، وأتى بشروطها، وبلوازمها، تفضَّل الله عليه، وأعطاه ما يستحقه من أنَّه حرّم عليه النار، وهذا فضل عظيم، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهله.
حديث أبي سعيدٍ الخدري بعد ذلك فيه ("قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا ربِّ! كل عبادك يقولون هذا) في هذا الحديث دلالة على أن أهل الفضل والرفعة في الدين والإخلاص والتوحيد قد يُنبَّهون على شيء من مسائل التوحيد, فهذا موسى عليه السلام -وهو أحد أولي العزم من الرسل-، وهو كليم الله جل وعلا، أراد شيئا يختص به غير ما عند الناس، وأعظم ما يختص به أولياء الله وأنبيائه ورسله وأولوا العزم منهم، هو كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فأراد شيئا أخص، فعلم أنه لا أخص من كلمة التوحيد؛ فهي أفضل شيء، وهي التي دُلّ عليها أُولوا العزم من الرسل، ومَنْ دونهم من الناس.(1/33)
(قال يا رب! كل عبادك يقولون هذا؟ قال: يا موسى! لو أنَّ السماوات السبع وعامرَهن غيري) يعني ومن في السماوات السبع؛ من الملائكة؛ ومن عُبّاد الله غير الله جلّ وعلا، (والأرضين السبع في كفة) يعني لو تمثلت السماوات أجساما، والأرض جسما، والجميع يوضع في ميزان له كفّتان، وجاءت لا إله إلا الله في الكفّة الأخرى؛ كما قال هنا (و(لا إله إلا الله) في كفة) لمالت بهن لا إله إلا الله, لا إله إلا الله كلمة توحيد فيها ثِقَلٌ لميزان من قالها، وعظم في الفضل لمن اعتقدها، وما دلت عليه، فلهذا قال: (مالت بهن لا إله إلا الله).
وجه الدِّلالة أنَّه لو تُصُوِّر أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع، وثقل ما فيها من العُبَّاد والملائكة، وثقل الأرض، لكانت لا إله إلا الله مائلة بذلك الثقل من الذنوب.
وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة؛ حيث جُعل على أحد العصاة سجلات عظيمة، فقيل: له هل لك من عمل؟ فقال: لا, فقيل: بلا، ثم أخرجت له بطاقة فيها لا إله إلا الله فوُضعت في الكفة الأخرى فطاشت سجلات الذنوب وثقُلت البطاقة.
وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد إنما هو لمن قويت في قلبه؛ ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية؛ لأنه مخلص فيها، مصدِّق، لا ريب عنده فيما دلت عليه، معتقد ما فيها، محب لما دلت عليه، فيقوى أثرُها في القلب ونورُها، وما كان كذلك فإنها تُحرق ما يقابلها من الذنوب، وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب.
فإذن يكون هذا الحديث، وحديث البطاقة، يدل على أن لا إله إلا الله لا يقابلها ذنب، ولا تقابلها خطيئة؛ لكن هذا في حق من كمّلها وحقّقها بحيث لم يخالطها في قلبه في معناها ريب ولا تردد؛ ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن، وعلى الأسماء والصفات باللزوم، وعلى الإلهية بالمطابقة.(1/34)
فإذن يكون من يَكمُل له الانتفاع بهذه الكلمة، ولا يقابلها ذنوب وسجلاّت ولو كانت في ثقل السماوات وما فيها والأرض، يكون ذلك في حق من كمَّل ما دلت عليه من التوحيد, وهذا معنى هذا الحديث وحديث البطاقة.
وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخِر في الباب (عن أنسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول: "قال الله تعالى: يا ابنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطَايَا ثُمّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً")، وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب، ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة, وهي أنه من أتى بذنوب عظيمة ولو كانت كقُراب الأرض خطايا يعني كعظم وقدر الأرض خطايا، ولكن لقي الله لا يشرك به شيئا, لأتى اللهُ لذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة، وهذا لأجل فضل التوحيد وعِظم فضل الله جل وعلا على عباده لأن هداهم إليه ثم أثابهم عليه.
هذا بعض ما تيسر وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والرشد والسداد.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
¹
[الأسئلة]
[س/ وهذا يقول: قوله (وعامرهن غيري) قد يستدل به أهل البدع على أن الله في كل مكان، نرجو التوضيح بارك الله فيكم.(1/35)
ج/ في قوله جل وعلا في الحديث القدسي (يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامِرَهُنَّ غيري)، (السموات السبع) معروفة طباق بعضها فوق بعض, (وعامِرَهُنَّ) هي من العمارة المعنوية يعني من عمرها بالتسبيح والتهليل وذكر الله وعبادته، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال " أَطّتْ السّمَاءُ وَحُقّ لَهَا أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاّ وَمَلَكٌ قائم أو مَلَكٌ ساجدٌ أو مَلَكٌ راكعٌ" ففيها عُمَّار كثيرون عمروها بعبادة الله جل وعلا, قد قال جل وعلا في أول سورة الأنعام?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ?[الأنعام:3]، فالله جل وعلا هو المعبود سبحانه في السموات ومعبود سبحانه في الأرض.
فقوله هنا (لو أن السماوات السبع وعامِرَهُنَّ غيري) يعني من يعمر السموات، والله جل وعلا في هذا الاستثناء في قوله (غيري) يعني إلا أنا هذا يحتمل أن يكون الاستثناء راجع إلى الذات وراجع إلى الصفات، ومعلوم أن الأدلة دلت على أن الله جل وعلا على عرشه مستو عليه بائن من خلقه جل وعلا، والسماوات من خلقه.
فعُلم من ذلك أن قوله وعامرهن غيري راجع إلى عمارة السماء بصفات الله جل وعلا وبما يستحقه سبحانه من التعلق والعبودية، وما فيها من علم الله ورحمته وقدرته وتصريفه للأمر وتدبيره ونحو ذلك من المعاني.](1)
¹
باب من حقَّق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى: ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:120].
وقوله: ?وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ?[المؤمنون: 59].
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الرابع من باب ما جاء في الرقى والتمائم.(1/36)
وعن حُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَيّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الّذِي انْقَضّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. ثُمّ قُلْتُ: أَمَا إِنّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاَةٍ. وَلَكِنّي لُدِغْتُ. قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اَرْتقَيْتُ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدّثَنَاهُ الشّعْبِيّ. قَالَ: وَمَا حَدّثَكُمُ الشّعْبِيّ؟ قُلْتُ: حَدّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ, أَنّهُ قَالَ: لاَ رُقْيَةَ إِلاّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ. وَلَكِنْ حَدّثَنَا ابْنُ عَبّاسٍ عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيّ الأُمَمُ. فَرَأَيْتُ النّبِيّ وَمَعَهُ الرّهَطُ. وَالنّبِيّ وَمَعَهُ الرّجُلُ وَالرّجُلاَنِ. وَالنّبِيّ ولَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ. إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَظَنَنْتُ أَنّهُمْ أُمّتِي. فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَىَ وَقَوْمُهُ. وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ. فَنَظَرْتُ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمّتُكَ. وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ".
فنَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ النّاسُ فِي أُولَئِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ.(1/37)
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: "هُمُ الّذِينَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ"، فَقَامَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ: يا رسول الله ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ" ثُمّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ".
[الشرح]
هذا الباب (باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب)، وقد ذكر في الباب قبله (فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد، فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله.
وأهل التوحيد هم أهل الإسلام، فلكلٍّ من التوحيد فضل، ولكل مسلم نصيب من التوحيد، وله بالتالي نصيب من فضل التوحيد، وتكفير الذنوب.
أمّا خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد، ولهذا عطف هذا الباب على ما قبله لأنه أخص (باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب).
وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب, تحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين: لا إله إلاَّ الله، محمد رسول الله. ومعنى تحقيق الشهادتين تصفية الدي -يعني ما يدين به المرء- من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء:
الأول: ترك الشرك بأنواعه الأكبر والأصغر والخفي.
والثاني: ترك البدع بأنواعها.
والثالث: ترك المعاصي بأنواعها.
وتحقيق التوحيد صار تصفيته من: أنواع الشرك، وأنواع البدع، وأنواع المعاصي.
وتحقيق التوحيد يكون على هذا على درجتين:
"درجة واجبة.
"ودرجة مستحبة.
وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا:
فالدرجة الواجبة: أن يترك ما يجب عليه تركه من الثلاث التي ذكرت؛ يترك الشرك خفيَّه وجليه صغيرَه وكبيره، ويترك البدع ويترك المعاصي، فهذه الدرجة الواجبة.(1/38)
والدرجة المستحبة من تحقيق التوحيد: وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل، ألا وهي: ألاّ يكون في القلب شيء من التوجّه أو القصد لغير الله جلّ وعلا؛ (1) يعني أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته، ليس فيه إلتفات إلى غير الله؛ نُطْقه لله وفعله وعمله لله؛ بل وحركةُ قلبه لله جلّ جلاله، وقد عبّر عنها بعض أهل العلم -أعني هذه الدرجة المستحبة-: أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، يعني في مجال أعمال القلوب، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح.
فإذن رجع تحقيق التوحيد -الذي هذا فضله؛ وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ولا عذاب-، رجع إلى تَيْنِكَ المرتبتين، وتحقيقه تحقيق الشهادتين لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ لأن في قوله لا إله إلا الله الإتيان بالتوحيد والبعد عن الشرك بأنواعه. ولأن في قوله أشهد أن محمدا رسول الله البعد عن المعصية والبعد عن البدع؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمدا رسول الله أن يطاع فيما أمر، وأن يصدَّق فيما أخبر، وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
فمن أتى شيئا من المعاصي والذنوب ثم لم يتب منها، أو لم تُكفَّر له, فإنه لم يحقق التوحيدَ الواجب، وإذا أتى شيئا من البدع فإنه لم يحقق التوحيد الواجب، وإذا لم يأتِ شيئا من البدع، ولكن حسّنها بقلبه، أو قال لا شيء فيها، فإن حركة القلب كانت في غير تحقيق التوحيد، في غير تحقيق شهادة أنّ محمدا رسول الله فلا يكون من أهل تحقيق التوحيد.
كذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد.
وأمّا مرتبة الخاصة التي ذكرتُ، ففيها يتنافس المتنافسون، وما ثَمَّ إلاّ عفو الله و مغفرته ورضوانه.
(باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب) استدل الشيخ في هذا الباب بآيتين وبحديث.
__________
(1) انتهى الشريط الأول.(1/39)
أما الآية الأولى قال رحمه الله (وقول الله تعالى: ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:120]) هذه الآية فيها الدِّلالة على أنَّ إبراهيم عليه السلام كان محققا للتوحيد؛ وجه الدلالة أن الله جلّ وعلا وصفه بصفات:
الأولى: أنه كان أُمّة، والأمة هو الإمام الذي جمع جميع صفات الكمال البشري وصفات الخير, وهذا يعني أنه لم ينقص من صفات الخير شيئا، وهذا هو معنى تحقيق التوحيد.
والأمَّة تطلق في القرآن إطلاقات، ومن تلك الإطلاقات أن يكون معنى الأمّة الإمام المقتدى به في الخير، وسُمِّي أمّة لأنه يقوم مقام أمَّة في الإقتداء، ولأنه يكون من سار على سيره غير مستوحش ولا متردّد، لأنه ليس مع واحد فقط وإنما هو مع أمة.
الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد: أنه قال (قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) وهاتان صفتان؛ (قَانِتًا لِلَّهِ) صفة, (حَنِيفًا) صفة؛ ولكن هذه وهذه متلازمتان؛ لأن القنوت لله معناه دوام الطاعة وملازمة الطاعة لله جل وعلا، فهو ملازم الطاعة لله جل وعلا، (حَنِيفًا) هذا فيه النفي، ففي قوله (قَانِتًا لِلَّهِ) الإثبات في لزوم الطاعة ولزوم إفراد التوحيد، وفي قوله (حَنِيفًا) النفي.
قال العلماء: الحنيف هو ذو الحَنَفِيّ وهو الميل عن طريق المشركين. مائلا عن طريق المشركين, مائلا عن هدي وسبيل المشركين.
فصار -إذن- عنده ديمومة وقنوت وملازمة للطاعة وبُعْد عن سبيل المشركين، ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار إبراهيم عليه السلام حنيفا عن ذلك السبيل -يعني مائلا عن ذلك السبيل بعيدا عنه-, معلوم أنه يشتمل على الشرك والبدعة والمعصية، فهي ثلاث أخلاق المشركين؛ شرك وبدعة ومعصية من غير إنابة ولا استغفار.(1/40)
قال (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (لَمْ يَكُ)، (يَكُ) هذه هي (يكن)، وفي النفي يجوز حذف النون -نون (يكن)- في مثل هذا (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وفي آية أخرى (ولم يكن من المشركين)، (1) فهما جائزان في اللغة إذا جاءت (يكن) في سياق النفي كما هو معلوم.
(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (الْمُشْرِكِينَ) جمع تصحيح للمشرك، والمشرك اسم فاعل الشرك، و(الـ) -كما هو معلوم في العربية- إذا جاءت قبل اسم الفاعل، أو اسم المفعول، فإنها تكون موصولة كما قال ابن مالك في الألفية:
وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِلَةُ أَلْڑوَكَوْنُهَا بِمُعْرَبِ الأَفْعَالِ قَلْ
والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم، فكان إذن المعنى: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني ولم يكُ فاعلا للشرك بأنواعه؛ لم يكُ منهم، ولم يكُ من الذين يفعلون الشرك بأنواعه. وأيضا دل قوله (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على أنه ابتعد عنهم، لأن (مِن) تحتمل أن تكون تبعيضية؛ فتكون المباعدة بالأجسام، ويحتمل أن تكون بيانية؛ فتكون المباعدة بمعنى الشرك.
المقصود أن الشيخ رحمه الله استحضر هذه المعاني من الآية، فدلته الآية على أنها في تحقيق التوحيد، قال جل وعلا (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ذلك لأن من جمع تلك الصفات فقد حقق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
__________
(1) لم أجدها ولكن يوجد شواهد كثيرة في القرآن منها ?ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ?[البقرة:196].(1/41)
في تفسير إمام الدعوة المصنف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ في تفسيره لآخر سورة النحل؛ فسر هذه الآية فقال رحمه الله: إنَّ إبراهيم (كَانَ أُمَّةً) لأنْ لا يستوحش سالكُ الطريق من قلة السالكين، (قَانِتًا لِلَّهِ) لا للملوك ولا للتجار المترَفين، (حَنِيفًا) لا يميل يمينا ولا شمالا، كحال العلماء المفتونين، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) خلافا لمن كثّر سوادهم وزعم أنه من المسلمين.
وهو من التفاسير الرائقة، الفائقة، البعيدة المعاني، ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35].
وقال بعد ذلك ( وقولُه ?وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ?[المؤمنون: 59].) هذه من آيات من سورة المؤمنون، فهي في مدح خاصة المؤمنين، ووجه الاستدلال من الآية على الباب أنه قال (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ).
(لَا يُشْرِكُونَ) نفي للشرك -كما ذكرتُ لكم من قبل- أنَّ النفي إذا تسلَّط على الفعل المضارع فإنه يفيد عموم المصدر الذي إستكنَّ في الفعل؛ يعني كأنه قال جل وعلا: والذين هم بربهم لا يفعلون شركا، أو لا يشركون لا بشرك أكبر، ولا أصغر، ولا خفي.
والذي لا يُشرك هو الموحد، فصار عندنا لازمٌ وهو أنَّ من لم يشرك أي نوع من أنواع الشرك، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده.
قال العلماء: قدّم هنا قوله (بِرَبِّهِمْ)، (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) لأن الربوبية تستلزم العبودية. فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة وعدم الإشراك في العبودية، وهذا وصف الذين حققوا التوحيد؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك ألاَّ يُشرك هواه، وإذا أشرك المرء هواه أتى بالبدع أو أتى بالمعصية، فصار نفي الشرك نفيا للشرك بأنواعه، ونفيا للبدعة، ونفيا للمعصية، وهذا هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا.(1/42)
فإذن الآية دالة على ما ترجم به الإمام رحمه الله من قوله (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب)، وأولئك قال فيهم الله جل وعلا (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ).
أمَّا الحديث فهو حديث طويل، وموضع الشاهد منه؛ قوله عليه الصلاة والسلام (فَنَظَرْتُ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمّتُكَ. وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ".
فنَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ النّاسُ فِي أُولَئِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: "هُمُ الّذِينَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ") هذه في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذه صفة من صفاتهم، وتلك الصفة خاصة بهم لا يلتبس أمرهم بغيرهم؛ لأن هذه الصفة كالشامة يُعرفون بها.
من هم الذين حققوا التوحيد؟ قال (هُمُ الّذِينَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. [وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ]) فذكر أربع صفات:
"الأولى أنهم (لاَ يَسْتَرْقُونَ): ومعنى (لاَ يَسْتَرْقُونَ) لا يطلبون الرقية، والطالب للرقية في قلبه ميل للراقي حتى يرفع ما به من جهة السبب. وهذا النفي (لاَ يَسْتَرْقُونَ)؛ لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم جدا أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه، فالرقية عند العرب في الجاهلية -وهكذا حال أكثر الناس- لهم تعلُّقٌ بها، فالقلب يتعلق بالراقي، ويتعلق بالرقية، وهذا ينافي كمال التوكل على الله جل جلاله.(1/43)
وأما ما جاء في بعض الروايات أنهم الذين (لاَ يَرْقُون) فهذا غلط؛ لأنّ الراقي محسن إلى غيره، وهي لفظة شاذة، والصواب ما جاء في هذه الرواية من أنهم الذين (لاَ يَسْتَرْقُونَ)، يعني لا يطلبون الرقية؛ وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه وإلى الرقية، ونَوْعُ تَوَكُّلٍ أو نوع استرواحٍ لهذا الذي يَرقي أو للرقية.
" قال (وَلاَ يَكْتَوُون): والكيُّ مكروه في أصله؛ لأن فيه تعذيبا بالنار، مع أنَّه مأذون به شرعا؛ لكن فيه كراهة. والعرب تعتقد أن الكيَّ يُحدث المقصود دائما، فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي، فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنَّه سبب يؤثر دائما، ومعلوم أن الكيَّ يؤثر بإذن الله جل وعلا إذا اجتمعت الأسباب وانتفت الموانع. فالنفي لأجل أن في الكيِّ بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله.
" قال (وَلاَ يَتَطَيّرُونَ): والطِّيَرَة شيء يعرض على القلب من جرَّاء شيء يحدث أمامه، إما أن يجعله يُقدم على أمرٍ، أو أن يُحجم عنه، وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيما.
" قال بعدها (وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ): وهي جامعة للصفات السابقة.
هذه الصفات لا يُعنى بذكرها أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب، كما فهمه بعضهم من أن تحقيق التوحيد أو أن الكمال أن لا يباشر سببا البتة، أو أن لا يتداوى البتة، هذا غلط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رُقِيَ عليه الصلاة والسلام، ولأنه عليه الصلاة والسلام تداوى، وأمر بالتداوى، وأمر أيضا الصحابة بأن يكتوي ونحو ذلك، فليس فيه أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقا، أو لا يباشرون الدواء، إنما فيها ذكر هذه الثلاث بخصوصها؛ لأنها يكثر تعلق القلب والتفاته إلى الراقي أو الكي أو الكاوي أو إلى التطير، ففيها إنقاص من التوكل.(1/44)
أما التداوي فهو مشروع، إمّا واجب أو مستحب، وفي بعض الأحوال يكون مباحا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام"، المقصود من هذا أن التداوي فعلاً، يعني أن يفعل التداوي وأن يطلب الدواء، ليس خارما لتحقيق التوحيد؛ ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا يسترقون -بخصوص الرقية-، ولا يكتوون -بخصوص الكيّ-، ولا يتطيرون، وأمّا ما عدا ذلك مما أُذِن به فلا يدخل فيما يختصّ به أهل تحقيق التوحيد.
فإذن يكون الأظهر عندي؛ مما في هذا الحديث أنه مخصوص بهذه الثلاثة (لاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ)، أمّا الأسباب الأخرى المأذون بها فلا تدخل في صفة الذين حققوا التوحيد.
قال (فَقَامَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ" ثُمّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ") هذا فيه دليل على أنّ أهل تحقيق التوحيد قليل، وليسوا بكثير؛ ولهذا جاء عديدهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفا، قد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد وعند غيره, بأنّ الله جل وعلا أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كل ألف من السبعين ألفا أعطاه سبعين ألفا, فيكون العدد قَرابة خمسة ملايين من هذه الأمة، فإن كان ذلك الحديث صحيحا -وقد صحح إسناده بعض أهل العلم- فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم، أو كان قبل سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد.
ما معني أن يُزاد في عددهم؟ يعني أن الله جلّ وعلا يمنُّ على أناس من هذه الأمة أكثر من السبعين ألفا ممن سيأتون، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد، والله جل وعلا هو الذي يوفق، وهو الذي يهدي، ثم هو الذي يجازي فما أعظمه من محسن، برٍّ، كريم، رحيم.
¹
[الأسئلة](1/45)
[س/ من يوصي أحد بالبحث عن راق يرقي له، دون أن يطلب الرقية من الراقي بنفسه، هل هذا يدخل في الذين (يَسْتَرْقُونَ)؟
ج/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قال (هُمُ الّذِينَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ) يعني لا يطلبون الرقية، وفَهْم جواب السؤال يتبع فهم التعليل؛ ذلك أن أولئك كانوا لا يسترقون يعني لا يطلبون الرقية لأجل ما قام في قلوبهم من الإستغناء بالله وعدم الحاجة إلى الخلق، ولم تتعلق قلوبهم بالخلق في هذا الأمر الذي سيرفع ما بهم.
وكما ذكرتُ لك أنّ مدار العلة على تعلق القلب بالراقي أو بالرقية في رفع ما بالمرقي من أذى أو في دفع ما قد يُتوقع من السوء.
وعليه فيكون الحالان سواءً؛ يعني إن كان طلب بنفسه أو طلب بغيره فإنه طالب، والقلب متعلق بمن طَلب منه الرقية إما بالأصالة أو بواسطة.](1)
¹
باب الخوف من الشرك
وقول الله عز وجل: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?(2)
وقال الخليل عليه السلام: ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ?[إبراهيم: 35]
وفي الحديث: "أخْوَفُ ما أخافُ عليكم الشركَ الأصغر". فسئل عنه فقال: "الرياء".
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً، دخل النار". رواه البخاري.
ولمسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَقِيَ الله لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ الْجَنّةَ, وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ النّارَ".
[الشرح]
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الرابع من باب ما جاء في الرقى والتمائم.
(2) النساء:48، 116.(1/46)
الباب الثالث الذي بعد (باب من حقق التوحيد) هو باب (الخوف من الشرك)، وكل من حقق التوحيد، فلا بد أن يخاف من الشرك، ولهذا سيدُ المحققين للتوحيد محمد عليه الصلاة والسلام كان يكثر من الدعاء، بأن يُبعَد عنه الشرك، وكذلك إبراهيم عليه السلام كان من الدعاء بأن لا يدركه الشرك أو عبادة الأصنام.
فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة؛ من أن تحقيق التوحيد عند أهله معه الخوف من الشرك، وقلَّ من يكون مخاطرا بتوحيده، أو غير خائف من الشرك ويكون على مراتب الكمال؛ بل لا يوجد، فكل محقق للتوحيد، كل راغب فيه، حريص عليه، يخاف من الشرك، وإذا خاف من الشرك فإنَّ الخوف -وهو فزع القلب، وهلعه، وهربه، من ذلك الشيء- فإن هذا الذي يخاف من الشرك سيسعى في البعد عنه.
والخوف من الشرك يُثمر ثمرات:
"منها أن يكون متعلما للشرك بأنواعه, حتى لا يقع فيه.
"ومنها أن يكون متعلما للتوحيد بأنواعه، حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك، ويَعْظُم، ويستمر على ذلك.
"ومنها أنّ الخائف من الشرك يكون قلبه دائما مستقيما على طاعة الله، مبتغيا مرضاة الله، فإن عصى، أو غفل، كان استغفاره استغفار من يعلم عِظم شأن الاستغفار، وعِظم حاجته للاستغفار؛ لأنّ الذين يستغفرون أنواع، لكن من علم حقَّ الله جل وعلا، وسعى في توحيده، وتعلّم ذلك، وسعى في الهرب من الشرك، فإنه إذا غفَل وجد أنه أشد ما يكون حاجةً إلى الاستغفار.
بهذا, لصلاح القلب بوّب الشيخ رحمه الله هذا الباب (باب الخوف من الشرك)، وكأنه قال لك إذا كنت تخاف من الشرك كما خاف منه إبراهيم عليه السلام، وكما توعّد الله أهل الشرك بأنه لا يغفر شركهم، فإذن تعلَّم ما سيأتي في هذا الكتاب، فإن هذا الكتاب إنما هو لأجل الخوف من الشرك، ولأجل تحقيق التوحيد.(1/47)
فهذا الكتاب موضوعٌ لتحقيق التوحيد, وللخوف من الشرك والبعد عنه، فما بعد هذين البابين؛ باب من حقق التوحيد، وباب الخوف من الشرك, ما بعد ذلك تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين؛ تحقيق التوحيد، والخوف من الشرك ببيان معناه وبيان أنواعه.
ذكرتُ لك -فيما سبق- أن الشرك هو إشراك غير الله معه في نوع من أنواع العبادة، وقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، وقد يكون خفيا.
قال الشيخ رحمه الله (وقول الله عز وجل ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?) هذه الآية من سورة النساء فيها قوله (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ).
والمغفرة: هي السَّتر لما يُخاف وقوع أثره.
وفي اللغة: يقال غَفَرَ إذا سَتَرَ ومنه سُمِّي ما يوضع على الرأس مِغْفَرَة؛ لأنه يستر الرأس ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه على الرأس.
فمادة (المغفرة) راجعة إلى ستر الأثر الذي يُخاف منه، والشرك أو المعصية لها أثرها إمّا في الدنيا، وإمّا في الآخرة، أو فيهما جميعا، وأعظم ما يُمَنُّ به على العبد أن يُغفر ذنبه، وذلك بأن يُستر عليه، وأن يُمحى أثره، فلا يؤاخذ به في الدنيا، ولا يؤاخذ به في الآخرة، ولو لا المغفرة لهلك الناس.
قال جل وعلا هنا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، (لَا يَغْفِرُ) يعني أبدًا، (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يعني أنه بوعده هذا لم يجعل مغفرته لمن أشرك به.
قال هنا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ):
½ قال العلماء: في هذه الآية دليل على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركا أكبر أو أشرك شركا أصغر، فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة؛ بل يكون بالموازنة، ما يُغفر إلاَّ بالتوبة؛ فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك، قد يُغفر غير الشرك كما قال (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).(1/48)
فجعلوا الآية دليلا على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة, وجه الاستدلال من الآية أن قوله (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) هذه (أَنْ) موصول حرفي مع (يُشْرَكَ) فِعل، وتُقَدَّر (أَنْ) المصدرية مع ما بعدها من الفعل- كما هو معلوم- بمصدر؛ والمصدر نكرة وقع في سياق النفي، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمّت, قالوا: فهذا يدل على أن الشرك هنا الذي نفي الأكبر والأصغر والخفي, كل أنواع الشرك لا يغفرها الله جل وعلا؛ لعظم خطيئة الشرك؛ لأن الله جل وعلا هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي أعطى، وهو الذي تفضّل، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره؟ لا شك أن هذا ظلم وهو ظلم في حق الله جل وعلا، ولذلك لم يُغفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر علماء الدعوة.(1/49)
½ قال آخرون من أهل العلم: إن قوله هنا (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) دالة على العموم، ولكن هذا عموم مخصوص؛ هذا عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يعني الشرك الأكبر فقط دون غيره، وأمّا ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلا تحت المشيئة، فيكون العموم في الآية مرادا به الخصوص، لماذا؟ قالوا: لأن القرآن فيه هذا اللفظ (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ونحو ذلك، ويُراد به الشرك الأكبر دون الأصغر غالبا, فالشرك غالبا ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر، قال جل وعلا ?وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72]، (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) هنا (يُشْرِكْ) أيضا فعل داخل في سياق الشرط فيكون عامّا. فهل يدخل الشرك الأصغر والخفي فيه؟ بالإجماع لا يدخل؛ لأن تحريم الجنة وإدخال النار والتخليد فيها إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر، فدلّنا ذلك على أن المراد بقوله (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) أنهم أهل الإشراك الشرك الأكبر، فلم يدخل الأصغر، ولم يدخل ما دونه أو أنواع الأصغر، فيكون إذن فهم آية النساء على فهم آية المائدة ونحوها، ?وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ?[الحج:31] في الشرك الأكبر، ونحو ذلك.
فيكون- إذن- على هذا القول، المراد بما نُفي هنا أن يغفر الشرك الأكبر.(1/50)
ولما كان اختيار إمام الدعوة كما اختيار عدد من المحققين؛ كشيخ الإسلام وابن القيم وكغيرهما: أن العموم هنا للأكبر و الأصغر والخفي؛ بأنواع الشرك. قام الاستدلال بهذه الآية صحيحا؛ لأنّ الشرك أنواع، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يُغفر فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف؛ إذا كان الرياء لا يُغفر, إذا كان الشرك الأصغر؛ الحلف بغير الله، أو تعليق التميمة أو حلقة أو خيط، أو نحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر؛ ما شاء الله وشئت، نسبة النعم إلى غير الله، إذا كان لا يُغفر؛ فإنه يُوجب أعظم الخوف منه، كذلك الشرك الأكبر.
وإذا كان كذلك، فيجتمع -إذن- في الخوف من الشرك من هم على غير التوحيد؛ يعني من يعبدون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويتوجهون إلى غير الله، ويذبحون وينذرون لغير الله، ويحبون محبة العبادة لغير الله، ويرجون غير الله رجاء العبادة، ويخافون خوف السّر من غير الله، إلى غير ذلك، يكون هؤلاء أوْلى بالخوف من الشرك؛ لأنهم وقعوا فيما هو متفق عليه في أنه لا يُغفر.
كذلك يقع في الخوف، ويكون الخوف أعظم ما يكون في أهل الإسلام الذين قد يُشركون بعض أنواع الشرك من الشرك الخفي والشرك الأصغر بأنواعه وهم لا يشعرون أو وهم لا يحذرون، فيكون الخوف إذا علِم العبد أن الشرك بأنواعه لا يُغفر وأنه مؤاخذ به؛ فليست الصلاة إلى الصلاة يُغفر بها الشرك الأصغر، وليس رمضان إلى رمضان يُغفر به الشرك الأصغر، وليست الجمعة إلى الجمعة يُغفر به الشرك الأصغر.(1/51)
فإذن يُغفر بماذا؟ يُغفر بالتوبة فقط، فإن لم يتب فإنه ثمّ الموازنة بين الحسنات وبين السيئات، وما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسنات، من ينجو من ذلك؟ ليس ثَمّ إلا من عظُمت حسناته فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك، ولا شك أنَّ هذا يوجب الخوف الشديد؛ لأن المرء على خطر في أنه تُوزن حسناته وسيئاته، ثم يكون في سيئاته أنواع الشرك، وهي -كما هو معلوم عندكم- أن الشرك بأنواعه من حيث الجنس أعظم من الكبائر؛ كبائر الأعمال المعروفة.
إذن وجه الاستدلال من آية النساء أن قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أن فيها عموما يشمل أنواع الشرك جميعا، وهذه لا تُغفر، فيكون ذلك موجبا للخوف من الشرك، وإذا وقع وحصل الشرك في القلب، فإن العبد يطلب معرفة أنواعه حتى لا يشرك، ومعرفة أصنافه وأفراده حتى لا يقع فيها، وحتى يحذّر أحبابه ومن حوله منها.
لذلك كان أحب الخلق أو أحب الناس وخير الناس للناس من يحذِّرهم من هذا الأمر، ولو لم يشعروا ولو لم يعقلوا، قال جل وعلا ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ?[آل عمران:110]؛ لأنهم يدلُّون الخلق على ما ينجيهم, فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذِّرهم من الشرك بأنواعه، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه؛ لأن هذا أعظم ما يُدعى إليه.
ولهذا لمّا حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد، وشك، ورجوع عن مناصرة الدعوة، وفهم ما جاء به الشيخ رحمه الله تعالى، وكتبوا للشيخ، وغلظوا، وقالوا: إنَّ ما جئت به ليس بصحيح وأنّك تريد كذا وكذا، قال في آخرها بعد أن شرح التوحيد وضده ورغّب ورهب, قال في آخرها رحمه الله: ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنتُ أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم ولكنكم قوم لا تعقلون.(1/52)
وهذا صحيح، ولكن لا يعقله إلاَّ من عرف حق الله جل وعلا، رحمه الله تعالى وأجز له المثوبة وجزاه عنّا وعن المسلمين خير الجزاء ورفع درجته في المهديين والنبيين والصالحين.
ثم ساق الشيخ رحمه الله بعد هذه الآية قول الله جل وعل (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) الذي دعا بهذه الدعوة هو إبراهيم عليه السلام، ومرَّ معنا في الباب قبله أنّ إبراهيم قد حقق التوحيد، وقد وصفه الله بأنه كان أمة، قانتا لله، حنيفا، وبأنه لم يكُ من المشركين، فمن كان على هذه الحال، هل يطمئن من أنه لن يعبد غير الله؟ ولن يعبد الأصنام؟ أم يظل على خوفه؟ حال الكُمَّل الذين حققوا التوحيد هل هم يطمئنون أم يخافون؟
هذا إبراهيم عليه السلام -كما هو في هذه الآية- خاف الشركَ، وخاف عبادَة الأصنام، فدعا الله بقوله: ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ?[إبراهيم:35-36]، فكيف بمن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفا وهم عامة هذه الأمة؟ والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك، فمن الذي يخاف؟ هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد.
قال إبراهيم التيمي رحمه الله -من سادات التابعين- لما تلا هذه الآية قال: ومن يأمن البلاءَ بعد إبراهيم. إذا كان إبراهيم عليه السلام هو الذي حقق التوحيد، وهو الذي وُصف بما وُصف به، وهو الذي كسر الأصنام بيده، ويخاف؟ فمن يأمن البلاء بعده؟
إذن ما ثمَّ إلا غرور وأهل الغرور, وهذا يوجب الخوف الشديد، لأنه ما أُعطي إبراهيم الضمانَ على أن لا يُشرِك، وعلى أن لا يزيغ قلبه، مع أنه سيد المحققين للتوحيد في زمانه؛ بل وبعد زمانه إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو سيد ولد آدم، ومع ذلك خاف.
قوله هنا (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، (الْأَصْنَامَ) جمع صنم.(1/53)
والصنم: هو ما كان على صورة مما يُعبد من دون الله، يُصوِّر صورة على شكل وجه رجل، أو على شكل جسم حيوان، أو رأس حيوان، أو على شكل صورة كوكب أو نجم، أو على شكل الشمس و القمر ونحو ذلك، فإذا صور صورة فتلك الصورة يُقال لها صنم.
والوثن: هو ما عُبد من دون الله مما هو ليس على شكل صورة؛ فالقبر وثن وليس بصنم, ومشاهد القبور عند عُبَّادها هذه أوثان وليست بأصنام، وقد يُطلق على الصنم أنه وثن كما قال جل وعلا في قصة إبراهيم في صورة العنكبوت ?إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا?[العنكبوت:17], قد يُطلق على قلة، وقال بعض أهل العلم هم عبدوا الأصنام، وعبدوا الأوثان جميعا، فصار في بعض الآيات ذكر الأصنام لعبادتهم الأصنام، وفي بعض الآيات ذكر الأوثان لعبادتهم الأوثان, والأول أظهر؛ لأنه قد يُطلق على الصنم أنه وثن، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللّهُمّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ" فدعا لله ألاّ يجعل قبره وثنا، فصار الوثن ما يعبد من دون الله, مما ليس على هيئة صورة.
قال رحمه الله (وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". فسئل عنه فقال: "الرياء") الرياء قسمان: رياء المسلم ورياء المنافق.
رياء المنافق: رياء في أصل الدين، يعني رَاءَ بإظهار الإسلام وأبْطَنَ الكفر, ?يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا?[النساء:142].(1/54)
ورياء المسلم الموحد: أن يُحَسِّنَ صلاته من أجل نظر الرجل، أو أن يُحَسِّنَ تلاوته لأجل التسميع؛ أن يُمدح ويُسمَّع لا لأجل التأثير. فالرياء مشتق من الرؤية(1)، [فما كان من جهة الرؤية، يعني: أن يحسن عبادة لأجل أن يُرَى من المتعبدين، يطيل في صلاته، يطيل في ركوعه في سجوده، يقرأ في صلاته أكثر من العادة من أجل أن يُرَى ذلك منه، يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه أنه يقوم الليل، هذا شرك أصغر.
والشرك الأصغر هذا الذي هو الرياء: قد يكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها:] (2)
"فيكون محبطا لأصل العمل الذي تعبَّد به إذا ابتدأ النية بالرياء؛ يعني فيما لو صلى دخل الصلاة لأجل أن يُرى أنه يصلي، ليس عنده رغبة في أن يصلي الراتبة، لكن لما رأى أنه يُرى ولأجل أن يُمدح بما يراه الناس منه صلى، فهذا عمله يعني تلك الصلاة حابطة ليس له فيها ثواب.
"وإن جاء الرياء في أثناء العبادة، فإن ما زاده لأجل الرؤية يبطل كما قال عليه الصلاة والسلام "قَالَ اللّهُ تَعَالَىَ: أَنَا أَغْنَىَ الشّرَكَاءِ عَنِ الشّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي, تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ".
الشاهد من الحديث قوله عليه الصلاة والسلام (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) هو أخوف الذنوب التي خافها النبي عليه الصلاة والسلام على أهل التوحيد؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر, فبقي ما يُخاف عليهم الشرك الأصغر, والشرك الأصغر تارة يكون في النِّيَّات، وتارة يكون في الأقوال, وتارة يكون في الأعمال, يعني في القلب يكون الشرك الأصغر وفي المقال وفي الفعال أيضا, وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف من كلِّ واحدة من هذه الثلاث.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
(2) سقط من الأشرطة، وقد نقلته عن تفريغ جامع ابن تيمية.(1/55)
إذن النبي عليه الصلاة والسلام قال (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) فهو أخوف الذنوب على هذه الأمة, لماذا خافه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وكان أعظم الذنوب خوفا؟ لأجل أثره وهو أنه لا يغفر، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه, فلهذا خافه عليهم عليه الصلاة والسلام, والشيطان حرصه على أهل التوحيد أن يدخل فيهم الشرك الأصغر من جهة الرياء، ومن جهة الأقوال والأعمال والنيات، أعظم من فرحه بغير ذلك من الذنوب.
بعد ذلك ساق حديث ابن مسعود قال (وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ماتَ وهوَ يَدعو من دون اللّهِ نِدّاً دخلَ النار") وجه الاستدلال منه أنه قال (من ماتَ وهوَ يَدعو من دون اللّهِ نِدّاً) ودعوة النِّد من دون الله من الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء عبادة, وهو أعظم العبادة، فقد جاء في الحديث الصحيح "الدعاء هو العبادة" وفي معناه حديث أنس في السنن "الدعاء مخ العبادة" فهو أعظم أنواع العبادة، فمن مات وهو يصرف هذه العبادة أو شيئا منها لغير الله -ند من الأنداد- فقد استوجب النار.(1/56)
وقوله (دخل النار) يعني كحال الكفار خالدا فيها؛ لأن الشرك الأكبر إذا وقع من المسلم فإنه ولو كان أصلح الصالحين يُحبِط العمل، قد قال جل وعلا لنبيه?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66]، فلو أشرك النبي عليه الصلاة والسلام -فإن الله عظيم والله أكبر وخلقه هم المحتاجون إليه، العبيد له سبحانه- فلو أشرك النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لحبِط عمله ولكان في الآخرة من الخاسرين، أفلا يوجب هذا الخوف منه ودونه ممن يدّعي الصلاح والعلم من الشرك؟ بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك ويحض عليه ويبغّض ويكرّه في التوحيد، وهذا كما قال الله جلّ علا عن أسلافهم ?وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ?[الزمر:45].
فإذن وجه الاستدلال ظاهر, (من ماتَ وهوَ يَدعو من دون اللّهِ نِدّاً دخلَ النار)، وذلك يوجب الخوف لأن قصد المسلم بل قصد العاقل أن يكون ناجيا من النار ومتعرّضا لثواب الله بالجنة.
لفظ (من دون الله) يكثر في القرآن والسنة، و(من دون الله) عند علماء التفسير وعلماء التحقيق يراد بها شيئان:
الأول: أن تكون بمعنى (مع)، (من دون اللّهِ) يعني مع الله، وعبَّر عن المعية بلفظ (من دون اللّهِ) لأن كل من دُعِيَ مع الله فهو دون الله جل وعلا فهم دونه، والله جل وعلا هو الأكبر هو العظيم وفي هذا دليل على بشاعة عمله.(1/57)
والثاني: أن قوله (من دون اللّهِ) يعني غير الله؛ (من ماتَ وهوَ يَدعو من دون اللّهِ) يعني وهو يدعو إلها غير الله، فتكون (من دون اللّهِ) يعني أنه لم يعبد الله وأشرك معه غيره؛ بل دعا غيره استقلالا، فشملت من دون الله الحالين: من دعا الله ودعا غيره، ومن دعا غير الله وتوجه إليه استقلالا.
قال (ورواه البخاري).
(ولمسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَقِيَ الله لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ الْجَنّةَ, وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ النّارَ"). (مَنْ لَقِيَ الله لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا) ذكرت لكم بالأمس أن قوله أن قوله (لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا) هذا فيه نوعان من العموم:
"عموم في أنواع الشرك, فهي منفية.
"وعموم في المتوجَّه إليهم في المشرَك بهم في قوله (شَيْئا).
(مَنْ لَقِيَ الله لاَ يُشْرِكُ) يعني بأي أنواع من الشرك.
(بِهِ شَيْئا) يعني لم يتوجه إلى أي أحد, لا لملك ولا لنبي ولا لصالح ولا لجني ولا لطالح ولا لحجر ولا لشجر إلى غير ذلك.
(دَخَلَ الْجَنّةَ) يعني أنَّ الله جل وعلا وعده بدخول الجنة برحمته سبحانه وتفضُّله وبوعده الصادق الذي لا يخلَف.
قال (وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ النّارَ) فكل مشرك متوعَّد بالنار؛ بل وجه الدلالة كما يستقيم مع استدلال الشيخ بالآية بأن من لقي الله وهو على شيء من الشرك الأكبر أو الأصغر أو الخفي فإنه سينال العقوبة والعذاب في النار والعياذ بالله.
قال (وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا) هذه فيها عموم أيضا كما ذكرنا؛ لأن (مَنْ) شرطية و(يُشْرِكُ) فيها نكرة وهي عامة لأنواع الشرك و(شَيْئا) عامة في المتوجه إليه.
(مَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ النّارَ) وهنا دخول النار هل هو أبدي أم أمدي؟ بحسب الشرك:
"فإن كان الشرك أكبر ومات عليه فإنه يدخل النار دخولا أبديا.(1/58)
"وإن كان الشرك ما دون الشرك الأكبر أصغر أو خفي فإنه متوعد بالنار وسيدخل النار ويخرج منها لأنه من أهل التوحيد.
هل يدخل الشرك الأصغر في الموازنة أم لا؟ ذكرت لك في أول الدرس أن الشرك الأصغر يدخل في الموازنة؛ موازنة الحسنات والسيئات، وأنه إذا رَجَحت حسناته أنه لا يعذَّب على الشرك الأصغر؛ لكن هذا ليس في كل الخلق؛ لكن منهم من يعذب على الشرك الأصغر لأن الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست في كل الخَلْق وليست في كل الذنوب؛ بل قد يكون من الذنوب ما يستوجب النار ولو رَجَحت الحسنات على السيِّئات، فإنه يستوجب الجنة ولكن لابد من أن يطهَّر في النار.
وهذا دليل على وجوب الخوف من الشرك؛ لأن مَنْ لَقِيَ الله يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ النّارَ, إذا كان كذلك وهذا يشمل الشرك الأكبر و الأصغر و الخفي فإن المرء يجب عليه أن يهرَب أشد الهرب من ذلك.
والشرك الأصغر والخفي يستعيذ المرء بالله جل وعلا منه, ويقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلم. لأنه إذا علم فأشرك فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه وهو عدم المغفرة ففي هذا الدعاء الذي علمناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه التفريق بين الشرك الأصغر مع العلم والشرك الأصغر مع الجهل, فقال: أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه؛ لأن أمر الشرك الأصغر مع العلم عظيم, فيستعيذ المرء بالله من أن يشرك شركا أصغرا وما هو أعلى منه من باب أولى وهو يعلم، وقال: وأستغفرك مما لا أعلم, لأن المرء قد يكون شيئا على فلتات لسانه وهو لا يعلم ولم يقصد ذلك ويستغفر الله جل وعلا منه.(1/59)
هذا يدلكم على أن الشرك أمره عظيم، ولا يتهاون أحد بهذا الأمر لأن من تهاون بالشرك وبالتوحيد فإنه تهاون بأصل دين الإسلام؛ بل تهاون بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة سنين عددا؛ بل تهاون بدعوة الأنبياء والمرسلين فإنهم اجتمعوا على شيء ألاَ وهو العقيدة وهو توحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات، وأما الشرائع فشتى.
ولهذا الحذر كل الحذر من الشرك بأنواعه وأن تتعلم ضدَّه، وأن تتعلم أيضا أفراد الشرك وأفراد التوحيد، وإنما يستقيم العلم بذلك إذا تعلمت الأفراد، أمّا التعلم الإجمالي لذلك فهذا -كما يقال- نحن على الفطرة لكن إذا أتت الأفراد ربما رأيت بعض الناس فيما بين ظهرانيكم يخوضون في بعض الأقوال أو الأعمال التي هي من جنس الشرك وهم لا يشعرون؛ وذلك لعدم خوفهم وهربهم من الشرك.
نسأل الله جل وعلا العفو والعافية.
فإذن احرص على تعلم هذا الكتاب ومدارسته، وعلى كثرة مذاكرته، وفهم ما فيه من الحجج والبيّنات؛ لأنه هو خير ما يكون في صدرك بعد كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن به إن شاء الله سببا عظيما من أسباب النجاة والفلاح.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
¹
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[يوسف:108].(1/60)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له "إنّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله (وفي رواية: إلى أن يوحِّدوا الله)، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ. فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدّ على فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ, فَإِيّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللّهِ حِجَابٌ". أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد (- رضي الله عنه -): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "أُعطِينّ الرايةَ غداً رجلاً يُحِبّ اللهَ ورسوله ويُحبّه اللهُ ورسولهُ يَفتحُ اللهُ على يديهِ". فباتَ الناسُ يَدوكون ليلَتَهم أّيهم يُعطاها. فلما أصبحوا الناسُ غَدَوا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يُعطاها, فقال: "أينَ عليّ بن أبي طالب؟" فقيل: هو يَشتكي عينَيهِ: فأرسلوا إليه.فأوتي به فبَصَقَ في عينَيه, ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَأ كأنْ لم يكنْ به وَجَع, فأعطاهُ الراية, فقال: "انفُذْ على رِسْلِكَ حتى تنزلَ بساحَتهم, ثم ادُعهم إلى الإِسلام, وَأَخْبِرْهُم بما يَجِبُ عليهم من حقّ اللّهِ فيه, فواللّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللّهُ بكَ رجُلاً واحداً خيرٌ لكَ مِن حُمْرُ النّعَم". (يدوكون)، أي: يخوضون.
[الشرح]
هذا الباب هو (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) باب الدعوة إلى التوحيد.
وقد ذكر في الباب قبله الخوف من الشرك، وقبله ذكر فضل التوحيد وما يكفِّر من الذنوب وباب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.(1/61)
ولما ذكر بعده باب الخوف من الشرك اجتمعت معالم حقيقة التوحيد في النفس؛ في نفس الموحد، فهل من اجتمعت حقيقة التوحيد في قلبه بأن عرف فضله وعرف معناه وخاف من الشرك ومعنى ذلك أنه استقام على التوحيد وهرب من ضده؟ هل يبقى مقتصرا على نفسه أم إنه لا تتم حقيقة التوحيد في القلب إلاَّ بأن يدعو إلى حق الله الأعظم ألا وهو إفراده جل وعلا بالعبادة وبما يستحقه سبحانه وتعالى من نعوت الجلال وأوصاف الجمال؟
بوَّب الشيخ رحمه بهذا الباب ليدل على أن من تمام الخوف من الشرك ومن تمام التوحيد أن يدعو المرء إلى التوحيد، فإنه لا يتم في القلب حتى تدعو إليه، وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلاَّ الله؛ لأن الدعوة إلى شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله عُلمت حيث شهِد العبد المسلم لله بالوحدانية.
قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله. وشهادته معناها اعتقاده ونُطْقه وإخباره الغير بما دلت عليه، فلابد إذن في حقيقة الشهادة وفي تمامها من أن يكون المرء من أن يكون المكلَّف الموحد داعيا إلى التوحيد.
لهذا ناسب أن يذكر هذا الباب بعد الأبواب قبله.
ثم له مناسبة أخرى لطيفة وهي: أنّ ما بعد هذا الباب هو تفسيرٌ للتوحيد وبيان أفراده، وتفسير للشرك وبيان أفراده، فيكون -إذن- الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، الدعوة إلى التوحيد دعوة إلى تفاصيل ذلك، وهذا من المهمات؛ لأن كثيرين من المنتسبين للعلم من أهل الأمصار يسلِّمون بالدعوة إلى التوحيد إجمالا؛ ولكن إذا أتى التفصيل في بيان مسائل التوحيد، أو جاء التفصيل لبيان أفراد الشرك فإنهم يخالفون في ذلك وتغلبهم نفوسهم في مواجهة الناس في حقائق أفراد التوحيد وأفراد الشرك.(1/62)
إذن فالذي تميزت به هذه الدعوة؛ دعوة الإمام المصلح رحمه الله أنَّ الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله دعوة تفصيلية ليست إجمالية، أمَّا الإجمال فيدعوا إليه كثيرون؛ نهتم بالتوحيد ونبرأ من الشرك؛ لكن لا يذكرون تفاصيل ذلك، والذي ذكره الإمام رحمه الله في بعض رسائله أنه لما عَرَضَ هذا الأمر يعني الدعوة إلى التوحيد عرضه على علماء الأمصار قال: وافقوني على ما قلت وخالفوني في مسألتين في مسألة التكفير وفي مسألة القتال. وهاتان المسألتان سبب المخالفة مخالفة أولئك العلماء فيها أنهما فرعان ومتفرعتان عن البيان والدعوة إلى أفراد التوحيد والنهي عن أفراد الشرك.
إذن الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله هو الدعاء إلى ما دلَّت عليه من التوحيد، والدعاء إلى ما دلَّت عليه من نفي الشريك في العبادة وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات عن الله جل وعلا.
وهذه الدعوة دعوة تفصيلية لا إجمالية، ولهذا فصَّل الإمام رحمه الله في هذا الكتاب أنواع التوحيد وأفراد توحيد العبادة، وفصَّل الشرك الأكبر والأصغر وبين أفرادا من ذا وذاك.
يأتي تفسير شهادة أن لا إله إلاَّ الله في الباب الذي بعده؛ لأنه باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلاَّ الله.
قال رحمه الله (وقول الله تعالى?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[يوسف: 108]) هذه الآية من آخر سورة يوسف هي في الدعوة إلى الله، وسورة يوسف كما هو معلوم مِن تأملها في الدعوة إلى الله من أولها إلى آخرها؛ موضوعها الدعوة، ولهذا جاء في آخرها قواعد مهمة في حال الدعاة إلى الله وحال الرسل الذين دعوا إلى الله، وما خالف به الأكثرون الرسل، واستيئاس الرسل من نصرهم، ونحو ذلك من أحوال الدعاة إلى الله.(1/63)
في آخر تلك السورة, قال الله جل وعلا لنبيه (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)، (هَذِهِ سَبِيلِي) أنني أدعو إلى الله، فمهمة الرسل هي الدعوة إلى الله جل وعلا, (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) وأحسن الأقوال قول من دعا إلى الله وأحسن الأعمال عمل من دعا إلى الله جل وعلا، ولهذا قال سبحانه ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ?[فصلت:33]، قال الحسن البصري رحمه الله في تفسير هذه الآية ما معناه قال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله من خلقه أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، هذا حبيب الله. وهذا أمر عظيم في أن الداعي إلى الله هو أحسن أهل الأقوال قولا، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ).
قال جل وعلا هنا(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ)، قوله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) هذا موطن الشاهد فإنه دعاء إلى الله جل وعلا لا إلى غيره، وهذه فيها فائدتان:
الأولى: أن الدعوة إلى الله دعوة إلى توحيده, دعوة إلى دينه، كما سيأتي تفسير هذه الكلمة في الحديثين بعدها؛ حديث ابن عباس بإرسال معاذ إلى اليمن، وحديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - في إعطاء عليٍّ الراية.
الثانية: أن في قوله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) التنبيه على الإخلاص، وهذا يحتاجه من أراد الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله والدعاء إلى الإسلام؛ يعني الدعوة إلى الإسلام، يحتاج أن يكون مخلصا في ذلك، ولهذا قال الشيخ رحمه الله في مسائل هذا الباب: في قوله (إِلَى اللَّهِ) تنبيه على الإخلاص لأن كثيرين وإن دعوا إلى الحق فإنما يدعون إلى أنفسهم، أو نحو ذلك.(1/64)
قال (عَلَى بَصِيرَةٍ) والبصيرة هي العلم؛ البصيرة للقلب كالبصر للعين يبصر بها المعلومات والحقائق، فكما أنك بالعين تُبصر الأجرام والذوات, فالمعلومات تُبصَر بالبصيرة؛ بصيرة القلب والعقل، يعني أنه دعا على علم وعلى يقين وعلى معرفة لم يدعُ إلى الله على جهالة.
قال(أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) يعني أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني ممن أجاب دعوتي فإنهم يدعون إلى الله أيضا على بصيرة، وهذا أيضا من مناسبة إيراد الآية تحت هذا الباب لأن من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعون إلى الله.
فإذن المتبعون للرسول عليه الصلاة والسلام الموحدون لابد لهم من الدعوة إلى الله؛ بل هذه صفتهم التي أمر الله نبيه أن يُخبر عن صفته وعن صفتهم، قال (قُلْ) يعني يا محمد, (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) فهذه إذن خصلة أتباع الأنبياء أنهم لم يخافوا من الشرك فحسب، ولم يعلموا التوحيد ويعملوا به فحسب؛ بل أنهم دعوا إلى ذلك.
وهذا أمر حتمي؛ لأن من عرف عِظم حق الله جل وعلا فإنه يغار على حق الرب سبحانه وتعالى، يغار على حق مولاه، يغار على حق من أحبه فوق كل محبوب أن يكون توجُّه الخلق إلى غيره بنوع من أنواع التوجهات، فلابد -إذن- أن يدعو إلى أصل الدين وأصل الملة الذي اجتمعت عليه الأنبياء والمرسلون ألا وهو توحيده جل وعلا في عبادته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته جل وعلا وعزَّ سبحانه.(1/65)
ثم ساق الإمام رحمه الله حديث ابن عباس انه قال(لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له "إنّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله (وفي رواية: إلى أن يوحِّدوا الله)") هذا موطن الشاهد وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذا إذا دعا أن يكون أول الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وفسَّرتها الرواية الأخرى للبخاري في كتاب التوحيد من صحيحه قال (إلى أن يوحِّدوا الله) فشهادة أن لا إله إلا الله الدعوة إليها مأمور بها، وهي الدعوة إلى التوحيد، فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر معاذا أن يدعو أهل اليمن وهم من أهل الكتاب؛ يعني من أهل الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل؛ بعضهم يهود وبعضهم نصارى، أمَّا المشركون فهم فيهم قليل؛ بل أكثرهم على أحد اتباع الملتين.
قال العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام له (إنّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ) فيه توطين وفيه توطئة للنفس أن يُهيئ نفسه لمناظرتهم، ومعاذ بن جبل من العلماء بدين الإسلام ومن علماء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فقال له عليه الصلاة والسلام ذلك ليهيئ نفسه لمناظرتهم ولدعوتهم، ثم أمره أن يكون أول الدعوة إلى أن يوحدوا الله جل وعلا.
في قوله هنا (فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله) هذه تقرأ على وجهين:
½ الأول: (فَلْيَكُنْ أَوّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله)، فتكون (أَوّلُ) اسم (يَكُنْ) وتكون (شَهَادَةَ) هي الخبر، وهذا من جهة المعنى معناه: أنه أخبره عن الأولية، فابتدأ بالأولية ثم أخبره بذلك الأول.(1/66)
½ والضبط الثاني أو القراءة الثانية أن تقرأها هكذا (فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله) فيكون (أَوّلَ) خبر (يَكُنْ) مقدم و(شَهَادَةُ) اسم (يَكُنْ) مؤخر مرفوع، وهذا معناه الإخبار عن الشهادة بأنها أول ما يدعا إليه.
وهذان الوجهان جائزان والمشهور هو الوجه الثاني هذا بِجَعِل (أَوّلَ) منصوبة؛ وذلك لأنّ مقام ذكر الشهادة والابتداء بها هو الأعظم وهو المقصود ليلتفت السامع والمتلقي وهو معاذ إلى ما يراد أن يخبر عنه من جهة الشهادة.
فإذن موطن الشاهد من هذا الحديث ومناسبة إيراد هذا الحديث في الباب هو ذكر أنَّ أول ما يدعا إليه هو التوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله.
ثم ساق أيضا حديث سهل بن سعد الذي في الصحيحين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال يوم خيبر "أُعطِينّ الرايةَ غداً رجلاً يُحِبّ اللهَ ورسوله ويُحبّه اللهُ ورسولهُ يَفتحُ اللهُ على يديهِ". فباتَ الناسُ يَدوكون ليلَتهم) باتَ, البيتوتة هي المُكث في الليل معه نوم أو ليس معه نوم؛ (باتَ الناسُ يَدوكون ليلَتهم) يعني يخوضون في تلك الليلة, باتوا يعني ظلوا ليلا يتحدثون من دون نوم لشدة الفضل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام.(1/67)
قال(فلما أصبحوا الناسُ غَدَوا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها, فقال: "أينَ عليّ بن أبي طالب؟" فقيل: هو يَشتكي عينَيهِ: فأرسلوا إليه. فأوتي به فبَصَقَ في عينَيه, ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَأ كأنْ لم يكنْ به وَجَع, فأعطاهُ الراية, فقال: "انفُذْ على رِسْلِكَ حتى تنزلَ بساحَتهم, ثم ادُعهم إلى الإِسلام) هذا موطن الشاهد، والمناسبة في إيراد هذا الحديث في الباب قال (ثم ادُعهم إلى الإِسلام, وَأَخْبِرْهُم بما يَجِبُ عليهم من حقّ اللّهِ تعالى فيه) الدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى التوحيد؛ لأن أعظم أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وضَمَّ إليها عليه الصلاة والسلام أن يدعوهم أيضا إلى حق الله فيه؛ يعني إلى ما يجب عليهم من حق الله فيه، قال(وَأَخْبِرْهُم بما يَجِبُ عليهم من حقّ اللّهِ فيه) يعني في الإسلام من جهة التوحيد، ومن جهة الفرائض واجتناب المحرَّمات، ولهذا كانت الدعوة إلى الإسلام يجب أن تكون في أصله وهو التوحيد وبيان معنى الشهادتين، ثم بيان المحرمات والواجبات؛ لأن أصل الأصول هو المقدَّم فهو أول واجب.
لاحظ أن الآية آية سورة يوسف فيها بيان أن كل الصحابة دعاة إلى الله جل وعلا دعاة إلى التوحيد.
وحديث معاذ فيه أن معاذا كان من الدعاة إلى الله، وفُصِّل فيه نوع تلك الدعوة إلى الله جل وعلا.
وكذلك حديث سهل بن سعد الذي فيه قصة علي فيه الدعوة إلى الإسلام.
فيكون هذان الحديثان كالتفصيل في قوله في الآية (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي)، فالدعوة على بصيرة هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله, إلى أن يوحدوا الله, الدعوة إلى الإسلام وما يجب على العِباد من حق الله فيه. (1)
¹
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
__________
(1) انتهى الشريط الثاني.(1/68)
وقول الله تعالى ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا?[الإسراء: 57].
قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ? [الزخرف:26-28].
وقوله: ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[التوبة: 31].
وقوله: ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ?[البقرة:165].
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ, حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ. وَحِسَابُهُ عَلَى اللّهِ عز وجل". وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
[الشرح]
(باب تفسير التوحيد وشهادةِ أن لا إله إلا الله), مرَّ معنا أنَّ التوحيد هو شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا قال العلماء: العطف هنا: (التوحيد وشهادة أن لا اله إلا الله) هذا من عطف المترادفات؛ ولكن هذا فيه نظر من جهة أن التَّرادف غير موجود -الترادف الكامل-، لكن الترادف الناقص موجود.
فإذن فهو من قبيل عطف المترادفات بمعناها واحد؛ لكن يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى.
فالتوحيد مر معنا تعريفه في أول الكتاب، وقوله (باب تفسير التوحيد) يعني الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد.
فقد قلت لك إن التوحيد: هو اعتقاد أن الله جل وعلا:
"واحد في ربوبيته لا شريك له.
"واحد في ألوهيته لا ند له.(1/69)
"واحد في أسمائه وصفاته لا مِثْل له سبحانه و تعالى، قال جل وعلا?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
ويشمل ذلك أنواع التوحيد جميعا، فإذن التوحيد اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء.
(وشهادة أن لا إله إلا الله) يعني تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، هذه الشهادة أعظم كلمة قالها مكلَّف ولا شيء أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات، وما تعبَّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها.
شهادة أن لا إله إلا الله. الشهادة:
"تارة تكون شهادة حضور وبصر.
"وتارة تكون شهادة علم.
يعني يشهد على شيء حضرَه ورآه أو يشهد على شيء علمه.
هذان نوعان بمعنى الشهادة، فإذا قال قائل: أشهد. فيحتمل أنه سيأتي بشيء رآه أو بشيء علمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله هذه شهادة علمية، ولهذا في قوله: أشهد. العلم.
والشهادة في اللغة وفي الشرع وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ (شَهِدَ) كقوله: ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمران:18]، وكقوله: ?مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[الزخرف:86] (شَهِدَ) تتضمن أشياء:
الأول الاعتقاد بما سينطق به: الاعتقاد بما شهده؛ شهد أن لا إله إلاَّ الله؛ يعني اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة، وهذا فيه العلم وفيه اليقين؛ لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقادا إلاَّ إذا كان ثمَّ علم ويقين.
الثاني التكلم بها ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ?[آل عمران:18]، صار اعتقادا وصار أيضا إعلاما ونطقا بها.
والثالث الإخبار بذلك والإعلام به: فيَنطقه بلسانه من جهة الواجب، وأيضا لا يسمى شاهدا حتى يخبر غيره بما شهد.
هذا من جهة الشهادة.(1/70)
فإذن يكون أشهد أن لا إله إلاَّ الله معناها: أعتقد وأتكلم وأُعلم وأخبر بأن لا إله إلا الله، فافترقت -إذن- عن حال الاعتقاد، وافترقت -إذن- عن حال القول، وافترت -إذن- عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد من الثلاثة مجتمعة.
ولهذا نقول في الإيمان أنه اعتقاد الجنان وقول اللسان وعمل الجوارح والأركان.
لا إله إلاَّ الله هذه هي كلمة التوحيد وهي مشتملة من حيث الألفاظ على أربعة ألفاظ:
الأول: لا، الثاني: إله. الثالث: إلاَّ. الرابع لفظ الجلالة: الله.
أمَّا (لا) هنا فهي النافية للجنس؛ تنفي جنس استحقاق الألوهية عن أحد إلاَّ الله جل وعلا, يعني في ذا السياق.
وإذا أتى بعد النفي (إلاَّ) -وهي أداة الاستثناء- صارت تفيد معنىً زائدا وهو الحصر والقصر.
فيكون المعنى: الإلهية الحقة أو الإله الحق هو الله بالحصر والقصر، ليس ثمَّ إله حق إلاَّ هو دون من سواه.
وكلمة (إله) من جهة الوزن فِعَال، قالوا: فعال تأتي أحيانا بمعنى فاعِل وتأتي أحيانا بمعنى مفعول.
وننظر هنا فنجد كلمة (ألَهَ) في اللغة بمعنى عَبَدَ.
وقال بعض اللغويين أَلَهَ, يألَهُ فلان إذا تحيَّر، وسُمي عندهم الإله إلها؛ لأنّ الألباب تحيَّرت في كنه وصفه وكنه حقيقته. وهذا القول ليس بجيد.
بل الصواب كلمة إله فِعَال بمعنى مفعول يعني المعبود فإله مهناها المعبود، ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف ?أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وإلهَتَك?[الأعراف:127] كان ابن عباس يقرؤها هكذا (وَيَذَرَكَ وإلهَتَك)، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولم يكن يَعبد فصوب القراءة بـ(وَيَذَرَكَ وإلهَتَك) بمعنى وعبادتك، وقراءتنا وهي قراءة السبعة (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) يعني المتقدمين.
فهذا معناه أن ابن عباس فهم الإلهة معنى العبادة، قد قال الراجز في شعره المعروف الذي ذكرته لكم من قبل:(1/71)
لله درّ الغانيات المُدّهِ ڑسبّحن واسترجعن من تألهي
يعني من عبادتي.
فإذن يكون الإله هو المعبود، لا إله يعني لا معبود، إلا الله، هنا لا معبود، لا النافية للجنس كما تعلمون تحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تعمل عمل إنَّ؛
عَمَلَ إِنَّ اجْعَلْ لِلا في نَكِرَه ڑ............................
فأين خبر لا النافية للجنس؟ كثير الناس من المنتسبين للعلم قدَّرُوا الخبر: لا إله موجود إلا الله.
وهذا يحتاج إلى مقدمة قبله وهو أن المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة ومن ورثوا علوم اليونان قالوا: إن كلمة (إله) هي بمعنى فاعل؛ لأن فِعَال تأتي بمعنى مفعول أو فاعل، فقالوا هي بمعنى آلِهْ والآلِهُ هو القادر، ففسروا الإله بأنه القادر الاختراع، ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة ما هو مسطور في شرح العقيدة السَّنوسية التي تسمى عندهم بأم البراهين قال مانصه فيها: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه. قال فمعنى لا اله إلا الله لا مستغنيا عما سواه و لا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، ففسروا الألوهية بالربوبية، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع أو بالمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
وبالتالي يقدرون الخبرموجود لا إله موجود؛ يعني لا قادر على الاختراع والخلق موجود إلا الله, لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه موجود إلا الله؛ لأن الخلق جميعا محتاجون إلى غيرهم.(1/72)
وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك في المسلمين؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو إفراد الله بالربوبية، فإذا اعتقد أن القادر على الاختراع هو الله وحده صار موحدا، إذا اعتقد أن المستغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه هو الله وحده صار عندهم موحدا، وهذا من أبطل الباطل أين حال مشركي قريش الذين قال جل وعلا فيهم ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[العنكبوت:61] وفي آية أخرى?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ?[الزخرف:9]، ونحو ذلك من الآيات وهي كثيرة كقوله ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ?[يونس:31-32] الآيات من سورة يونس, هذا معلوم أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية.
فإذن صارت هذه الكلمة دالة على غير ما أراد أولئك وهو ما ذكرناه آنفا من أن معنى لا إله يعني لا معبود، فيكون الخبر:
إما أن يكون تقديره موجود، فيكون المعنى لا معبود إلا الله، وهذا باطل لأننا نرى أن المعبودات كثيرة فقد قال جل وعلا مخبرا على قول الكفار?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] فالمعبودات كثيرة والمعبودات موجودة، فإذن تقدير الخبر بموجود غلط.
ومن المعلوم أنّ المتقرر في علم العربية أن خبر لا النافية للجنس يكثر حذفه في لغة العرب وفي نصوص الكتاب والسنة؛ ذلك أن خبر لا النافية للجنس يُحذف إذا كان المقام يدل عليه، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك.(1/73)
وقد قال ابن مالك في آخر باب لا النافية للجنس حينما ساق هذه المسألة:
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ يعني باب لا النافية للجنس
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ الخَبَر ڑإِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر
إذا ظهر المراد مع حذف الخبر فإنك تحذف الخبر لأن الكلام الأنسب أن يكون مختصرا, كما قال عليه الصلاة والسلام "لاَ عَدْوَىَ، ولاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُول" أين الخبر؟ كلها محذوفات لأنها معلومة لدى السامع.
فإذن الخبر هنا معلوم وهو أن الخبر موجودا يعني يقدر بموجود لأن الآلهة عُبدت مع الله موجودة، فيقدر الخبر بقولك (بحق) أو (حقٌّ)، لا إله بحق يعني لا معبود بحق أو لا معبود حق إلا الله، إن قدرت الظرف فلا بأس، أو قدرت كلمة مفردة حق لا بأس.
لا معبود حق إلا الله، هذا كلمة التوحيد، فيكون إذن كل من عبد غير الله جل وعلا عُبد نعم؛ ولكن هل عبد بالحق أو عُبد بالباطل والظلم والطغيان والتعدي؟ عُبد بالباطل والظلم والطغيان والتعدي، وهذا يفهمه العربي من سماع كلمة لا إله إلاَّ الله.
ولهذا بئس قوم -كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله-: بئس قوم أبو جهل أعلم منهم بـ: لا إله إلاَّ الله يفهم هذه الكلمة وأبى أن يقولها، ولو كانت كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله لقالوها بسهولة ولم يدروا ما تحتها من المعاني؛ لكن يعلم أن معناها لا معبود حق إلاَّ الله، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم ولن يُقر بالظلم على نفسه، وبالبغي ولن يقر بأنه باغ متعد، وبالتعدي والعدوان، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلاَّ الله.
وفيها الجمع بين النفي والإثبات كما سيأتي في بيان آية الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27].(1/74)
قال الإمام رحمه الله (وقول الله تعالى ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ?[الإسراء: 57]) هذه الآية تفسير للتوحيد، وذلك أننا عرّفنا التوحيد بأنه إفراد الله بالعبادة وهو توحيد الإلهية، وهذه الآية اشتملت على الثناء على خاصة عباد الله لأنهم وحدوا الله بالإلهية، وهذه مناسبة الآية للباب فقد وصفهم الله جل وعلا (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) و(يَدْعُونَ) بمعنى يعبدون لأن الدعاء هو العبادة والدعاء نوعان كما سيأتي تفصيله:
"دعاء مسألة.
"ودعاء عبادة.
قال هنا (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) يعني يعبدون، (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ) (الْوَسِيلَةَ) هي القصد والحاجة؛ يعني أن حاجاتهم يبتغونها إلى ربهم ذي الربوبية الذي يملك الإجابة، وفي قول الله جل وعلا في سورة المائدة ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[المائدة:35] سئل ابن عباس رضي الله عنهما -وهي من مسائل نافع بن الأزرق المعروفة- سئل عن قوله (الْوَسِيلَةَ) في قوله (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ما معنى الوسيلة؟ قال: الوسيلة الحاجة. فقالا: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، ألم تسمعا إلى قول الشاعر -وهو عنتر- يخاطب امرأة:
إنَّ الرجال لهم إليك وسيلة ڑأن يأخذوك تكحلي وتخضبي
(لهم إليك وسيلة) يعني لهم إليك حاجة.
ووجه الاستدلال من آية المائدة: أنه قال (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) قدم الجار والمجرور على لفظ (الْوَسِيلَةَ)، وتقديم الجار والمجرور -وحقه التأخير- يفيد للحصر والقصر، وعند عدد من علماء المعاني يفيد الاختصاص.(1/75)
وهذا أو ذاك فوجه الاستدلال ظاهر في أن قوله في آية الإسراء (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ) أن حاجاتهم إنما يبتغونها عند الله، فقد اختص الله عز وجل بذلك فلا يتوجهون إلى غيره، وقد حصروا وقصروا التوجه في الله جل وعلا.
وقد جاء بلفظ الربوبية دون لفظ الألوهية يعني قال (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ) ولم يقل يبتغون إلى الله الوسيلة؛ لأن إجابة الدعاء والإثابة هي من مفردات الربوبية؛ لأن ربوبية الله على خلقه تقتضي أن يجيب دعاءهم وأن يعطيهم سُؤلهم؛ لأن ذلك من أفراد الربوبية.
فإذن ظهر من قوله (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ) أن فيها تفسير التوحيد وهو أن كل حاجة من الحاجات إنما تُنزلها بالله جل وعلا، (يَدْعُونَ)؛ يعبدون وهم إنما يطلبون حاجاتهم من الله جل وعلا، فلا يعبدون بنوع من العبادات ويتوجهون به لغير الله، فإذا نحروا فإنما ينحرون يبتغون إلى ربهم الحاجة، وإذا صلوا فإنما يصلون يبتغون إلى ربهم الحاجة، وإذا استغاثوا فإنما يستغيثون بالله يبتغون إليه الحاجة دونما سواه, إلى آخر مفردات توحيد العبادة.
فهذه الآية دالة بظهور على أن قوله (يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ) أنه هو بالتوحيد.
وقد استشكل بعض أهل العلم إيراد هذه الآية في هذا الباب، وقال: ما مناسبة هذه الآية لهذا الباب؟ وبما ذكرت لك تتضح المناسبة جليا.
قال جل علا (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)، وهذه حال خاصة عباد الله أنهم جمعوا بين العبادة وبين الخوف وبين الرجاء, فيرجون رحمته ويخافون عذابه، وهم إنما توجهوا إليه وحده دونما سواه، فأنزلوا الخوف والمحبة والدعاء والرغب والرجاء في الله جل وعلا وحده دونما سواه، وهذا هو تفسير التوحيد.(1/76)
قال رحمه الله (وقوله تعالى:?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27]) وجه الاستدلال من هذه الآية في قوله (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) هذه الجملة فيها البراءة وفيها الإثبات؛ البراءة مما يعبدون، قال بعض أهل العلم: تبرأ من العبادة والمعبودين قبل أن يتبرأ من العابدين؛ لأنه إذا تبرأ من أولئك فقد بلغ به الحَنَق والكراهة والبغضاء والكفر بتلك العبادة مبلغها الأعظم، وقد جاء تفصيل ذلك في آية الممتحنة كما هو معلوم.
إذن مناسبة هذه الآية للباب أن قوله (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت على نفي وإثبات، فهي مساوية لكلمة التوحيد؛ بل هي دِلالة كلمة التوحيد، ففي هذه الآية تفسير شهادة أن لا إله إلا الله, ولهذا قال جل وعلا بعدها (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) ما هذه الكلمة ؟ هي قول: لا إله إلا الله. كما عليه تفاسير السلف.
فإذن قوله عز وجل (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) هذا فيه النفي الذي نعلمه من قوله (لا إله)، فتفسير شهادة أن لا إله إلاَّ الله في هذه الآية:
"(لا إله) معناها (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ).
"(إلاَّ الله) معناها (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي).
فإذن في آية الزخرف هذه أن إبراهيم عليه السلام شرح لهم معنى كلمة التوحيد بقوله (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ).(1/77)
والبراءة هي: الكفر والبغضاء والمعاداة. تبرأ من عبادة غير الله إذا أبغضها وكفر بها وعاداها، وهذه لابد منها، لا يصح إسلام أحد حتى تقوم هذه البراءة في قلبه؛ لأنه إنّ لم تقم هذه البراءة في قلبه فلا يكون موحدا، البراءة هي أن يكون مبغضا لعبادة غير الله، كافرا بعبادة غير الله، معاديا لعبادة غير الله، كما قال هنا (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ).
أمَّا البراءة من العابدين فإنها من اللوازم وليست من أصل كلمة التوحيد؛ البراءة من العابدين، فقد يعادي وقد لا يعادي وهذه لها مقامات منها ما هو مُكفِّر ومنها ما هو نوع موالاة ولا يصل بصاحبه إلى الكفر.
إذن تحصَّل لك أن البراءة التي هي مُضَمَّنَةٌ في النفي (لا إله) بُغض لعبادة غير الله، وكفر بعبادة غير الله، وعداوة لعبادة غير الله، وهذا القدر لا يستقيم إسلام أحد حتى يكون في قلبه ذلك.
قال(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وهذا استثناء كما هو الاستثناء في كلمة التوحيد (لا إله إلاَّ الله).
قال بعض أهل العلم قال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ذكر الفَطْر دون غيره؛ لأن في ذلك التذكير بأنه إنما يستحق العبادة من فطر، أما من لم يفطِر ولم يخلق شيئا فإنه لا يستحق شيئا من العبادة.
إذن مناسبة هذه الآية ظاهرة للباب ووجه الاستدلال منها ومعنى البراءة ومعنى النفي والإثبات فيها وفي كلمة التوحيد.(1/78)
قال (وقوله ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[التوبة:31].) (أَرْبَابًا) جمع رب، والربوبية هنا هي العبادة؛ يعني اتخذوا أحبارهم ورهبانهم معبودين، (مِنْ دُونِ اللَّهِ)؛ يعني مع الله، وذلك لأنهم أطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، والطاعة من التوحيد، فَرْدٌ من أفراد العبادة أن يطيع في التحليل والتحريم فإذا أطاع غير الله في التحليل والتحريم فإنه قد عبد ذلك الغير، فهذه الآية فيها ذكر أحد أفراد التوحيد, أحد أفراد العبادة وهو الطاعة، وسيأتي إيرادها في باب مستقل -إن شاء الله تعالى- مع بيان ما تشتمل عليه من المعاني.
قال(وقوله ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ?[البقرة:165])، (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) أثبت الله جل وعلا أنهم اتخذوا من دون الله أندادا؛ يعني مع الله أو من دونه أندادا جعلوهم يستحقون شيئا من العبادات، ووصفهم بأنهم (يُحِبُّونَهُمْ) يعني المشركين (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).
وقوله هنا (كَحُبِّ اللَّهِ)، المفسرون من السلف فمن بعدهم هنا على قولين:
"منهم من يقول: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) هي كلها في الذين اتخذوا أندادا؛ يعني يحبون أندادهم أندادهم كحبهم لله.
"وقال آخرون: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) يعني يحبونهم كحب المؤمنين لله، فالكاف بمعنى مِثْل هنا كقوله ?ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً?[البقرة:74] (كَالْحِجَارَةِ) الكاف هنا اسم بمعنى مثل لأنه عطف عليها اسم آخر, قال (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).(1/79)
(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) يعني ساووا محبة تلك الآلهة بمحبة الله، فهم يحبون الله حبا عظيما؛ ولكنهم يحبون كذلك تلك الآلهة حبا عظيما، وهذا التساوي هو الشرك, والتسوية هذه هي التي جعلتهم من أهل النار، كما قال جل و علا في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار ?تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:97-98]، ومعلوم أنهم ما سوَّوْا تلك الآلهة برب العالمين في الخَلق والرَّزق و مفردات الربوبية و إنما سووهم برب العالمين في المحبة و العبادة.
فإذن قوله جل و علا (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) يعني يحبونهم محبة مثل محبتهم لله، وهذا الوجه أرجح من الوجه الآخر الذي تقديره كحب المؤمنين لله, و الذين آمنوا أشد حبا لله.
وجه الاستدلال للآية و مناسبتها للباب ظاهرة: في أن التشريك في المحبة منافٍ لكلمة التوحيد, مناف للتوحيد من أصله؛ بل حَكَم الله عليهم بأنهم اتخذوا أندادا من دون الله، ووصفهم بأنهم اتخذوا الأنداد في المحبة، والمحبة محركة وهي تبعث على التصرفات.
فإذن هنا فيه ذكر للمحبة. والمحبة نوع من أنواع العبادة ولما لم يفردوا الله بهذه العبادة صاروا متخذين أندادا من دون الله، وهذا معنى التوحيد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله.(1/80)
ثم قال رحمه الله (وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ, حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ. وَحِسَابُهُ عَلَى اللّهِ عز وجل").في هذا الحديث بيان التوحيد و شهادة أن لا إلا الله؛ ذلك أن ثمة فرقا بين قول لا إله إلا الله و بين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله, فالتوحيد و الشهادة أرفع درجة ومختلف عن مجرد القول، وهذا الحديث فيه قيد زائد عن مجرد القول؛ قال عليه الصلاة والسلام (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ):
فيكون الواو تعطف ويكون ما بعدها غير ما قبلها؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، ويكون (كَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ) هذه زيادة على مجرد القول، فيكون قال (لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ) ومع قوله (كَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ) يعني تبرَّأ مما يعبد من دون الله. هذا قول.
والقول الثاني الواو هنا ليست عاطفة عطف مغايرة شيء عن شيء أصلا، وإنما هي من باب عطف التفسير؛ يعني يكون ما بعدها بعض ما قبلها، كقوله جل وعلا ?مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ?[البقرة:98]، (جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) بعض الملائكة فعطفهم وخصهم بالذكر، وأظهر اسم جبريل وميكال لبيان أهمية هذين الاسمين وأهمية الملكين؛ لأن أولئك اليهود لهم كلام في جبريل وميكال.
المقصود أن يكون العطف هنا عطف خاصٍ بعد عام أو عطف تفسير؛ لأن ما بعدها داخل في ما قبلها، وهذا تفسير لقوله (لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ).
فيكون إذن (لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ) على هذا القول الثاني متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله.(1/81)
وهذا هو الذي ذكرته لك في معنى البراءة في آية الزخرف (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) قلنا البراءة تتضمن البغض والكفر والمعاداة؛ الكفر بما يُعبد من دون الله، وهذا تفسير ظاهر لكلمة التوحيد.
قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ) هذا تفسير وهذا الوجه الثاني هو الأظهر والأنسب لسياق الشيخ رحمه الله تعالى؛ بل هو الذي يتوافق مع ما قبله من الأدلة.
قال (حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ. وَحِسَابُهُ عَلَى اللّهِ عز وجل) ذلك أنه صار مسلما، (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ, وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ) صار مسلما، والمسلم لا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث ولا يحل ماله؛ ولهذا قال هنا (حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ).
إذن يظهر لك من هذه الترجمة وما فيها من الآيات والحديث أنَّ تفسير التوحيد وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله يحتاج منك إلى مزيد عناية ونظر وتأمل وتأنِّي حتى تفهمه بحجته وببيان وجه الحجة في ذلك.
بعد ذلك قال الشيخ رحمه الله (وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب) فالكتاب كله هو تفسير للتوحيد وتفسير لكلمة لا إله إلا الله، وبيان ما ينافي أصل التوحيد وبيان ما ينافي كمال التوحيد، وبيان الشرك الأكبر والشرك الخفي وشرك الألفاظ، وبيان بعض مستلزمات التوحيد؛ توحيد العبادة من الإقرار لله بالأسماء والصفات، وبيان ما يتضمنه توحيد العبادة من الإقرار لله جل وعلا بالربوبية.
هذا وآمل من الإخوة إذا خرجت أن لا يتبعني أحد لأن فيه شيئا من الإحراج.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه(1/82)
وقول الله تعالى: ?قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ?[الزمر:38].
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رضي الله عنه - أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَىَ رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةً مِنْ صُفْرٍ. فَقَالَ: "مَا هَذِهِ؟" قَالَ: هَذِهِ مِنَ الْوَاهِنَةِ. فَقَالَ: "انْزِعْهَا, فَإِنّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاّ وَهْناً، فإنَّكَ لوْ مِتَّ وهي عليْك، ما أَفْلَحتَ أبداً". رواه أحمد بسند لا بأس به.
وله عن عقبة بن عامر(1) مرفوعاً: "من تعلَّق تميمةً، فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق ودعة، فلا ودَع الله له"
وفي رواية: "من تعلَّق تميمةً، فقد أشْرَك".
ولابن أبي حاتم عن حذيفة - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى، فقطعه، وتلا قوله تعالى: ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف: 106].
[الشرح]
هذا بابٌ شرع به الشيخ رحمه الله في تفصيل ما سبق، فقال (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه) هذا شروع في بيان التوحيد ببيان ضده، ومن المعلوم أن الشيء يعرف ويتميز بشيئين:
"بحقيقته.
"وبمعرفة ضده.
والتوحيد يتميز بمعرفته في نفسه؛ بمعرفة معناه وأفراده, وبمعرفة ضده أيضا، وقد قال الشاعر:
.............................ڑو بضدها تتميز الأشياءُ(2)
__________
(1) قوله : عن عقبة بن عامر صوابه: عن عروة بن عامر ، كما ذكره في التيسيروقد اختلف في نسبه وصحبته.[العثيمين، القول المفيد على كتاب التوحيد، دار البصيرة الاسكندرية، ص349].
(2) هذا من الشعر السائر المعروف لأبي الطيب المتنبي قال:
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء
في قصيدة يُثني بها ويمدح بها أبا علي هارون بن عبد العزيز الكاتب أحد المتنسكة الذين مالوا إلى التصوف. ذكره الشيخ صالح آل الشيخ في شرحه لمسائل الجاهلية.(1/83)
وهذا صحيح فإنما التوحيد يعرف حسنه بمعرفة قبح الشرك.
والإمام رحمه الله بدأ بذكر ما هو مضاد للتوحيد، وما يضادُّ التوحيد منه:
½ ما يضاد أصله، وهو الشرك الأكبر الذي إذا أتى به المكلَّف، فإنه ينقض توحيده؛ يعني يكون مشركا شركا أكبر مخرجا من الملة، هذا يقال فيه ينافي التوحيد، أو ينافي أصل التوحيد.
½ والثاني ما ينافي كمال التوحيد الواجب: وهو ما كان من جهة الشرك الأصغر ينافي كماله، فإذا أتى بشيء منه فقد نافى بذلك كمال التوحيد؛ لأن كمال التوحيد إنما يكون بالتخلص من أنواع الشرك جميعا، وكذلك الرياء فإنه من أفراد الشرك الأصغر؛ أعني يسير الرياء، وهذا ينافي كمال التوحيد، ومنها أشياء يقول العلماء فيها أنها نوع شرك، فيعبرون عن بعض المسائل من الشركيات أنها نوع شرك أو نوع تشريك.
فصار عندها في ألفاظها في هذا الباب أربعة:
الأول: الشرك الأكبر.
الثاني: الشرك الأصغر.
الثالث: الشرك الخفي.
الرابع: قولهم نوع شرك أو نوع تشريك: وذلك من مثل ما سيأتي في قوله جل وعلا?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، وفي نحو قوله ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191] في قصة آدم وحواء حين عبَّدَ ابنَهما للشيطان، فهذا في الطاعة كما سيأتي بيانه مفصلا إن شاء الله.
بدأ الشيخ رحمه الله في تفصيل الشرك ببيان صور من الشرك الأصغر التي يكثر وقوعُها.
وقدَّم الأصغر على الأكبر انتقالا من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الشبهة في الأدنى ضعيفة بخلاف الشبهة في الأعلى؛ يعني أن تعلق المتعلق بالخيط, تعلق المتعلق بالتميمة، هذا شبهته أضعف، فتعلق ذلك المتعلق بذلك المتعلق بغير الله إذا وَعَى أنه تعلق بغير الله فإنه يكون مقدمة مهمة ومنتِجة للمطلوب في إقناعه بأنَّ التعلق بغير الله في الشرك الأكبر أنه قبيح.(1/84)
أمّا إذا أتى إلى ما هو من جهة الشرك الأكبر كالتعلق بالأولياء ودعائهم وسؤالهم، أو الذبح للجن أو الذبح للأولياء فإنه يكون هناك شبهة؛ وهي أنّ أولئك لهم مقامات عند الله جل وعلا، والناس الذين يتوجهون إلى أولئك ويشركون بهم الشرك الأكبر المخرج من الملة -والعياذ بالله-، يقولون: إنما أردنا الوسيلة هؤلاء لهم مقامات عند الله، إنما أردنا الوسيلة. كحال المشركين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين قال الله جل وعلا فيهم ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3].
فإذن الشيخ رحمه الله بدأ بما هو من الشرك الأصغر انتقالا من الأدنى على الأعلى حتى يكون ذلك أقوى في الحجة وأمكن في النفوس من جهة ضرورة التعلق بالله وإبطال التعلق بغيره.
قال رحمه الله(بابٌ من الشرك) (من) هذه تبعيضية؛ يعني هذه الصورة التي في الباب هي بعض الشرك.
هل هي بعض أفراده, أو بعض أنواعه؟ هي هذه وهذه، فما ذُكر وهو لبُس الحلقة أو الخيط أحد نوعي الشرك وهو الشرك الأصغر، وهو أحد أفراد الشرك بعمومه؛ لأنها صورة من صور الإشراك.
قال (باب من الشرك لبس الحلقة أو الخيط ونحوهما) نحو الحلقة والخيط مثل الخرز والتمائم والحديد، ونحو ذلك مما قد يُلبس، كذلك مما يعلق أيضا في البيوت وفي السيارات أو يعلق على الصغار، ونحو ذلك مما فيه لبس أو تعليق، كل ذلك يدخل في هذا الباب وأنه من الشرك.
قال (بابٌ من الشرك لبس الحلْقة أو الخيط)، (الحلْقة) إمّا أن تكون من صُفْر يعني من نحاس، وإمّا تكون من حديد، أو تكون من أي معدن، و(الخيط) مجرد خيط يعقده في يده والخيط معروف.
الحلقة والخيط كانا عند العرب فيها اعتقادات، في أشباههما مثل التمائم وغيرها يعتقدون أنّ من تعلق شيئا من ذلك أثَّر فيه ونفع:
"إمَّا من جهة دفع البلاء قبل وقوعه.
"و إمَّا من جهة رفع البلاء أو المرض بعد وقوعه.(1/85)
ولهذا قال الشيخ رحمه الله (لرفع البلاء أو دفعه) لأن الحالتين موجودتان:
منهم من يعلق قبل أن يأتي البلاء ليدفعه، وهو أعظم، أن يعلق خيطا, أن يعلق حلقة, يلبس حلقة أو يلبس خيطا ليدفع الشيء قبل وقوعه، وهذا أعظم؛ لأنه يعتقد أن هذه الأشياء الخسيسة أو الوضيعة تدفع قدر الله جل وعلا.
وكذلك منها أن يلبس ليرفع البلاء بعد حصوله؛ مرض فلبس خيطا ليرفع ذلك المرض، أصابته عين فلبس خيط ليرفع تلك العين، وهكذا في أصناف شتى من أحوال الناس في ذلك، واعتقادات الناس كثيرة.
هذه (لُبس الحلقة أو الخيط) من الشرك، لم كان شركا؟ قلنا إنه شرك أصغر، لم كان شركا أصغر؟ لأنه تعلّق قلبُه بها وجعلها سببا لرفع البلاء أو سببا لدفعه.
والقاعدة في هذا الباب: أنَّ إثبات الأسباب المؤثرة لا يجوز إلاَّ:
"أن يكون من جهة الشرع، لا يجوز إثبات سبب إلا أنْ يكون سببا شرعيا.
"أو أن يكون سببا قد ثبت بالتجربة الواقعة أنه يؤثر ظاهرا لا خفيًّا.
فهذا من لبس فإنه جعل سببا ليس بمأذون به في الشرع، وكذلك من جهة التجربة لا يحصل ذلك على وجه الظهور؛ وإنما هو مجرد اعتقاد ممن لبس في هذا الشيء، فقد يوافق القدر أنه يُشفى حين لبس أو بعد لبسه أو يُدفع عنه أشياء يعتقد أنها ستأتيه فيبقى معلقا بذلك ويثبت أن تلك سببا من الأسباب، وهذا باطل.
إذن صار لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه شركا أصغر؛ لأن من لبسها تعلق قلبه بها وجعلها تدفع أو تنفع أو جعلها تؤثر في رفع الضرر عنه أو في جلب المنافع له، وهذا إنما يستقل به الله جل وعلا وحده إذْ هو النافع الضار، وهو جل وعلا الذي يفيض الرحمة ويفيض الخير أو يمسك ذلك.(1/86)
وأما الأسباب التي تكون سببا لمسبباتها فهذه لابد أن يكون مأذونا بها في الشرع، ولهذا بعض العلماء يعبر عما ذكرت بقوله: من أثبت سببا -يعني يُحدث المسبَّب يُحدث النتيجة- لم يجعله الله سببا لا شرعا ولا قدرا, فقد أشرك؛ يعني الشرك الأصغر، هذه القاعدة في الجملة صحيحة, قد بعض الأمثلة قد يشكل هل تدخل أو لا تدخل، لكن هو المقصود من هذا الباب؛ أن إثبات الأسباب لابد أن يكون أتى من جهة الشرع وإمّا من جهة التجربة الظاهرة، مثل دواء الطبيب، ومثل الانتفاع ببعض الأسباب التي فيها الانتفاع ظاهرا؛ تتدفى بالنار أو تتبرد بالماء، أو نحو ذلك، هذه أسباب ظاهرة بيّن أثرها؛ لكن إذا كان السبب من جهة التعلق الذي لم يأذن به الشرع فإن التعلق القلبي بشيء لم يأذن به الشرع يكون نوع شرك إذا كان لدفع البلاء أو لرفعه.
وهذا مراد الشيخ بهذا الباب؛ فإن لبس الخيط والحلقة من الشرك الأصغر.
كل أصناف الشرك الأصغر قد تكون شركا أكبر بحسب حال من فعلها؛ اللبس، تعليق التمائم, الحلف بغير الله, قول ما شاء الله وشئت، ونحو ذلك من الأعمال والاعتقادات والأقوال، الأصل فيها أن نقول أنها شرك أصغر, قد تكون تلك شركا أكبر بحسب الحال؛ يعني أن أعتقد في الحلقة و الخيط أنها تؤثر بنفسها فهذا شرك أكبر, إذا اعتقد أنها ليست سبب؛ ولكن هي تؤثر بنفسها؛ لأن هذه تدفع بنفسها، تدفع المرض بنفسها، تدفع العين بنفسها أو ترفع المرض بنفسها، أو ترفع العين بنفسها، وليست أسبابا؛ ولكن هي بنفسها مؤثرة، فهذا شرك بالله شرك أكبر؛ لأنه جعل التصرف في هذا الكون لأشياء مع الله جل وعلا، ومعلوم أن هذا من أفراد الربوبية فيكون ذلك شركا في الربوبية.
إذن عماد هذا الباب من جهة تعلق القلب، تعلق بهذه الأشياء بالحلقة أو الخيط لدفع ما يسوؤه أو في لرفع ما حل به من مصايب.(1/87)
الشيخ رحمه الله ساق بعد ذلك (وقول الله تعالى: ?قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ?[الزمر:38].) قوله جل وعلا في هذه الآية من سورة الزمر (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
العلماء يقولون: إن الفاء إذا جاءت بعد همزة الاستفهام فإنها تكون عاطفة على جملة محذوفة يدل عليها السياق.
وهذه الآية أولها ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ?[الزمر:38]؛ يعني قل أتُقِرُّون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده فتدعون غيره؟ فتتوجهون لغيره؟ أتقرون بذلك فتفعلون هذه الأشياء؟ قال جل وعلا (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
أو يكون التقدير: أتقرون بأن الله هو الواحد في ربوبيته هو الذي خلق السموات والأرض وحده، إذا أقررتم فرأيتم هذه الأشياء التي تتوجهون لها من دون الله, هل تدفع عنكم المضار؟ أو هل تجلب لي ضرا؟ أو تجلب لكم رحمة من دون إذْن الله؟
إذن تكون هنا الفاء ترتيبية ترتبت ما بعدها على ما قبلها، وهذا هو المقصود أيضا من الاحتجاج؛ لأن طريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية، وهم أقروا بالربوبية فرتب على إقرارهم أنه يلزمهم أن يبطلوا عبادة غير الله جل وعلا.
قال (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، (تَدْعُونَ) يعني تعبدون، وقد تكون العبادة بدعاء المسألة، وقد يكون بأنواع العبادة الأخرى، أو نقول (تَدْعُونَ) هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة لأنه حالتان من أحوال أهل الإشراك بالله.(1/88)
(مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (مَا) هنا عامة لأنها هنا اسم موصول بمعنى الذي؛ أفرأيتم الذي تدعونه من دون الله, والذي يدعونه من دون الله الذي شملته هذه الآية أنواع، وهو كل ما دُعي من دون الله مما جاء بيانه في القرآن, وجاء في القرآن بيان أن الأصناف التي أشرك بها من دون الله جل وعلا وتوجه لها بالعبادة أنواع:
الأول: الأنبياء, بعض الأنبياء والرسل والصالحون كما قال جل وعلا في آخر سورة المائدة ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ?[المائدة:116] الآيات، فهذا في هذا النوع.
ونوع آخر: اتخذوا الملائكة كما جاء في آخر سورة سبأ بيان ذلك ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]. هذا في الملائكة نوع آخر.
أيضا: كانوا يتوجهون للكواكب؛ الشمس والقمر؛ يعني طائفة من الناس كانوا يتوجهون لهذه الأشياء فيعبدونها.
أيضا من الأنواع: أنهم كانوا يتوجهون للأشجار والأحجار.
ومن الأنواع: أنهم كانوا يتوجهون للأصنام والأوثان.
فإذن قوله (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) يدخل فيه توجُّه أولئك في كل ما أشركوا به من دون الله جل وعلا, في كل ما أشركوا به مع الله جل وعلا في نوع من أنواع العبادة.
يفيدنا ذلك في معرفة وجه الاستدلال من هذه الآية كما سيأتي.(1/89)
قال (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) أبطل أن يكون لتلك الآلهة بأنواعها إضرار أو نفع, (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)؟ لا يستطيعون, إن أرادني الله جل وعلا برحمة هل هذه تدفع رحمة الله؟ لا تستطيع أيضا.
فإذن بَطَل أن يكون ثمَ ّ تعلق فالآلهة العظيمة التي يُظن أن لها مقامات عند الله جل وعلا موجبة لشفاعتها.
إذا تبين ذلك فقد قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية في الشرك الأكبر، فلِم جعلها الشيخ رحمه الله في صدر بيان أصناف من الشرك الأصغر؟
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ إيراد الآيات في الشرك الأكبر من جهة معناه والتعلق بغيره، ووجوب التعلق بالله جل وعلا ونحو ذلك، هذا يورده السلف فيما هو من الشرك الأصغر, فالآيات التي في الشرك الأكبر تورَد في إبطال الشرك الأصغر، بجامع أن كلا الشريكين تعلُّق بغير الله جلّ وعلا، فإذا بطل في الأعظم بطل التعلق فيما هو دونه من باب أولى.
الثاني: أن هذه الآية في الشرك الأكبر؛ ولكن المعنى الذي دارت عليه هو:
أنه في إبطال إضرار أحدٍ من دون الله.
أو أنَّ الله إذا أصاب أحدا بضُر أن ثَم من يستطيع أن يرفعه بدون إذن الله.
أو إذا أراد الله رحمة ََََََََ أن ثَم من يصرف تلك الرحمة بدون إذنه جل وعلا.(1/90)
وهذا المعنى الذي هو التعلق بما يضر وبما ينفع، هو المعنى الذي من أجله تعلَّق المشرك الشرك الأصغر بالحلقة أو بالخيط؛ لأنه ما علق الخيط ولا علق الحلقة أو لبس الحلقة والخيط إلا ّ لأنه يعتقد أن في الحلقة تأثيرا من جهة رفع البلاء أو دفع الضر وأنها تجلب النفع وتدفع الضر، وهذه الأشياء مهينة أشياء وضيعة، فإذا نفي عن الأشياء العظيمة كالأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين أو الأوثان التي لها روحانيات كما يقولون، فإنه انتفاء النفع والضر عما سواها مما هو أدنى لاشك أنه أظهر في البرهان وأبين.
طبعا في قوله (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ) هنا بضر هذه نكرة في سياق الشرط، وهذا يعم جميع أنواع الضر؛ يعني فغير الله جل وعلا لا يستطيع أن يرفع ضرا أنزله الله إلاَّ بإذنه سبحانه.
ثم ساق رحمه الله عدة أحاديث قال (وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رضي الله عنه - أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَىَ رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةً مِنْ صُفْرٍ. فَقَالَ: "مَا هَذِهِ؟" قَالَ: هَذِهِ مِنَ الْوَاهِنَةِ. فَقَالَ: "انْزِعْهَا, فَإِنّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاّ وَهْناً، فإنَّكَ لوْ مِتَّ وهي عليْك، ما أَفْلَحتَ أبداً") مناسبة الحديث للباب ظاهرة؛ وهي أنه عليه الصلاة والسلام رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةً مِنْ صُفْرٍ بحسب ما كان يعتقد أهل الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام (مَا هَذِهِ؟) هذا السؤال:
من أهل العلم من قال: إنه استفهام إنكار؛ ولكن الرجل ما فهم أنه إنكار فهم أنه استفصال فلذلك أجاب، فقال: (مِنَ الْوَاهِنَةِ).
وقال آخرون من أهل العلم: قوله عليه الصلاة و السلام (مَا هَذِهِ؟) يحتمل أن يكون استفهام استفصال أو استفهام إنكار، فلهذا أجاب الرجل فقال: (مِنَ الْوَاهِنَةِ).(1/91)
والاستفهام الأول يعني في القول الأول للإنكار الشديد، وهو الأظهر من حيث دلالة السياق عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السياق ما ذَكر الحالة الأخرى.
والحالة الأخرى التي يمكن أن يكون لبسها من أجله أن تكون للتحلي، والتحلي بالصفر غير أن يلبسه لدفع البلاء أو رفعه.
المقصود أن الاستفصال هنا في قوله (مَا هَذِهِ؟) هذا السؤال لا يعني أنه يحتمل أن يكون اللُّبس شركا ويحتمل أن يكون اللبس غير شرك؛ ولكن هذا للإنكار وإذا كان استفهام استفصال فإنه لأجل أنه يكون قد يلبس لأجل التحلي، لا لأجل التعلق؛ تعلق القلب لذلك، فلما أجاب (مِنَ الْوَاهِنَةِ) تعيَّن على كلا القولين أنه لبسها لأجل تعلقه بها لرفع المرض أو لدفعه.
والواهنة نوع مرض من الأمراض يَهَن الجسم ويطرحه ويُضعف قواه.
فقال عليه الصلاة والسلام (انْزِعْهَا) هذا أمر، وإنكار المنكر يكون باللسان إذا كان المأمور به يطيع, إذا كان المأمور به يطيع الأمر فإنك تأمره باللسان ولا تنكر عليه باليد، والنبي عليه الصلاة والسلام له وِلاية وينزع هذا المنكر بيده؛ لكن علم من حال ذاك أنه يمتثل الأمر، فقال له (انْزِعْهَا).
فلا تعارض بين هذا وبين ما سيأتي من أنَّ حُذيفة - رضي الله عنه - قطع خيطا من رجل، فإن ذلك مبني على حالٍ أخرى, فالنبي عليه الصلاة والسلام أمره فامتثل ذلك الأمر.
قال (فَإِنّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاّ وَهْناً) يعني أن ضررها أقرب من نفعها، وهذا في جميع أنواع الشرك، فإن ما أشرك به ضرره أعظم من نفعه لو فُرض أن فيه نفعا.
فقد قال العلماء هنا (انْزِعْهَا, فَإِنّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاّ وَهْناً) يعني لو كان فيها أثر، فإن أثرها الإضرار بدنيا، وإن أثرها أيضا الإضرار روحيا ونفسيا حيث تُضعِف الروح والنفس عن مقابلة الوهن والمرض؛ لأنه يكون المرء أضعف ويتعلق بهذه الحلْقة أو بذلك الخيط.(1/92)
قال (فَإِنّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاّ وَهْناً) وهذا كل من أشرك فإنه من ضرر إلى ضرر أكثر منه ولو ظن أنه في انتفاع.
ثم قال (فإنَّكَ لوْ مُِتَّ وهي عليْك، ما أَفْلَحتَ أبداً) هذا القول منه عليه الصلاة والسلام؛ لأن حال المعلِّق يختلف:
"قد يكون علَّقها اعتقادا فيها استقلالا.
"وقد يكون علَّقها من جهة التسبّب.
والاستقلال إذا كان الذي رُئي في يد الصحابي لا شك أنه منفي؛ ولكن العبرة هنا في هذا اللفظ بالفائدة منه لغيره، فإن من مات وهي عليه فقد يحتمل أنه علقها لأجل الاستقلال أو علقها لأجل التسبب، وبالتالي يكون الفلاح على قسمين:
القسم الأول: الفلاح المنفي هو الفلاح المطلق، وهو دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا في حال من أشرك الشرك الأكبر بأن اعتقد أن تلك الحلقة من الصُّفر أو ذلك الخيط الذي يعلق بأنه ينفع استقلالا.
أو يكون المنفي نوع من الفلاح أو مطلق الفلاح؛ درجة من درجات الفلاح ذلك إذا كان فاعله جعل سببا مما لم يجعله الله جل وعلا لا شرعا ولا قدرا؛ يعني كان مشركا الشرك الأصغر، فإنه يكون الفلاح هنا المراد به مطلق الفلاح؛ يعني درجة من درجات الفلاح.
وهذان لفظان يكثران في كتب أهل العلم وفي التوحيد بخصوصه:
الأول: مطلق الشيء.
والثاني: الشيء المطلق.
يقول مثلا: التوحيد المطلق ومطلق التوحيد، الإسلام المطلق ومطلق الإسلام، الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، الشرك المطلق ومطلق الشرك، الفلاح المطلق ومطلق الفلاح، الدخول المطلق ومطلق الدخول، التحريم المطلق -يعني تحريم دخول الجنة أو النار- ومطلق التحريم.
ومن المهم أن تعلم أن:
الشيء المطلق: هو الكامل، الإيمان المطلق هو الكامل، الإسلام المطلق هو الكامل، التوحيد المطلق هو الكامل، الفلاح المطلق هو الكامل.
أما مطلق الشيء: فهو أقل درجاته أو درجة من درجاته، فمطلق الإيمان هذا أقل درجاته.(1/93)
فنقول مثلا: هذا ينافي الإيمان المطلق؛ يعني ينافي كمال الإيمان، أو نقول: هذا ينافي كمال الإيمان، أو نقول: ينافي مطلق الإيمان. ينافي أقل درجات الإيمان فهو ينافي الإيمان من أصله.
فإذن الفلاح المنفي يحتمل أن يكون الفلاح المطلق, يعني كل الفلاح أو درجة من درجاته بحسب حال المعلق، فكل من لبس حلقة أو خيط ومات عليه من غير توبة فإنه لن يفلح أبدا، لن يفلح؛ يعني لن يكون مفلحا، وهذا الفلاح بحسب اعتقاده إن كان معتقدا فيها كما ذكرت أنها تنفع باستقلال فهو من أهل النار، أو كان اعتقد أنها سبب فهو من أهل النار كعصاة الموحدين.
قال رحمه الله (وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: "من تعلَّق تميمةً، فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق ودعة، فلا ودَع الله له") المقصود من هذا الحديث ذِكر لفظ التعلق، و(تعلَّق) يعني أنه علَّق وتعلَّق قلبُه بما علَّق، لفظ (تعلَّق) يشمل التعليق وتعلُّق القلب بما عُلِّق، فهو لبِس وتعلَّق قلبه بما لبس, علق في صدره وتعلق قلبه بما علق.
قال عليه الصلاة والسلام (من تعلَّق تميمةً، فلا أتمَّ الله له) والتميمة لها باب يأتي إن شاء الله تعالى؛ لكن هي نوع خرزات وأشياء توضع على صدور الصغار، أو يضعها الكبار لأجل دفع العين أو دفع الضرر أو الحسد أو أثر الشياطين ونحو ذلك.
قال (من تعلَّق تميمةً، فلا أتمَّ الله له) وهنا دعا عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ألاَّ يُتم الله له؛ لأن التميمة أُخذت من تمام الأمر، سُميت تميمة لأنه يُعتقد فيها أنها تتم الأمر، فدعا عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بأن لا يتم الله جلّ وعلا له المراد.
قال(ومن تعلَّق ودعة، فلا ودَع الله له) والودع نوع من الصدفة والخرز يوضع على صدور الناس، أو يعلق على العضد ونحو ذلك؛ لأجل أيضا دفع العين ونحوها من الآفات أو رفع العين ونحوها من الآفات.(1/94)
قال (ومن تعلَّق ودعة، فلا ودَع الله له) يعني فلا تركه وذلك، ولا جعله دَعَةٍ وسكون وراحة، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام عليه ذلك لأنه أشرك بالله جل وعلا.
قال (وفي رواية: "من تعلَّق تميمةً، فقد أشْرَك") لأن تعليق التمائم والتعلق بها شرك أصغر بالله جل وعلا وقد يكون أكبر بحسب الحال كما سيأتي.
قال (ولابن أبي حاتم عن حذيفة - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلاً في يده خيط مِنَ الحُمَّى، فقطعه، وتلا قوله ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف: 106]) مناسبة هذا الحديث أو الأثر للباب ظاهرة مِن أن حذيفة الصحابي - رضي الله عنه - رأى رجلا في يده خيط، هذا الخيط (مِنَ الحُمَّى)، (مِنَ) هنا تعليلية؛ يعني علَّق الخيط لأجل رفع الحمى أو لأجل دفع الحمى، و(مِنْ) لها استعمالات شتى مر بنا في أول الباب أنها تبعيضية وهنا أيضا أنها تعليلية، لها أحوال كثيرة جمعها ابن أم قاسم في نظمه لبعض حروف المعاني بقوله:
أتتنا مِنْ لتبيين وبعض وتعليل وبدء وانتهاء
وزائدة وإبدال وفصل ومعنى عن وعلى وفي بعد
فمنها أن من تكون للتعليل، فقوله (رأى رجلاً في يده خيط مِنَ الحُمَّى) يعني لأجل دفع الحمى أو لأجل رفع الحمى، فـ(من) تعليل لوضع الخيط في اليد.
قال (فقطعه) وهذا يدل على أن هذا منكر عظيم يحب لإنكاره ويجب قطعه.
قال (وتلا قوله ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف: 106]). قال السلف في هذه الآية (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) يعني بأن الله هو الرب وهو الرزاق وهو المحيي وهو المميت؛ يعني توحيد الربوبية, (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) به جل وعلا في العبادة، فليس توحيد الربوبية بمُنْجٍ بل لا بد أن يوحد الله في العبادة.
وهذا الدليل في الشرك الأكبر، وقد قال المصنف رحمه الله: أن الصحابة يستدلون بما نزل في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر. (1)
__________
(1) انتهى الشريط الثالث.(1/95)
¹
[الأسئلة]:
[س/ وهذا يقول قرأت في كتاب من أحد المؤلفين ينقل فيه: إذا خفت على ولدك أو نفسك من العين فضع نقطة سوداء على الجبهة لتصرف عنك العين.
ج/ اعتقادات الناس في دفع العين لا حصر لها، والجامع لذلك أنّ كل شيء يفعله الناس مما يعتقدونه سببا وليس هو بسبب شرعي ولا قدري فإنه لا يجوز اتخاذه، وهذا يختلف عما جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى غلاما صغيرا حسن الصورة وخاف عليه العين فقال لأهله: دسموا نونته. ففعلوا هذا من إظهار عدم الحسن، ليس التدسيم -وهو وضع النقطة في بعض الوجه-، ليس لأجل أن تدفع تلك النقطة العين؛ ولكن لأجل أن يظهر بمظهر ليس بحسن، فلا تتعلق النفوس الشريرة به.
فإذا وضع هذه النقطة في التي ذكر لأجل اعتقاد أنها تدفع العين هذا من اتخاذ الأسباب الشركية التي لا تجوز.
وإن كان لأجل إظهار عدم الحسن فتلك الصورة الجميلة أو ذلك الجسد المعافى أو نحو ذلك فإن هذا لا بأس به والله أعلم.] (1)
¹
باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أَبي بَشِيرٍ الأَنْصَارِيّ - رضي الله عنه -، أَنّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ. فَأَرْسَلَ رَسُولاً: "أَنْ لاَ يَبْقَيَنّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ, أَوْ قِلاَدَةٌ, إِلاّ قُطعَتْ".
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنّ الرّقَى وَالتّمائمَ وَالتّوَلَةَ شِرْك". رواه أحمد وأبو داوود.
(التّمائم) شيء يعلق على الأولاد من العين؛ لكن إذا كان المعلق من القرآن, فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه, منهم ابن مسعود - رضي الله عنه -.
و(الرّقي): هي التي تسمى العزائم، وخَصَّ منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من العين والحُمة.
__________
(1) مأخوذ من الوجه الثاني للشريط السابع من باب الشفاعة.(1/96)
و(التّوَلَةَ) شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.
وعن عبد الله بن عُكيم مرفوعاً: "مَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ" رواه أحمد والترمذي.
وروى أحمد عن رويفع، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا رُوَيْفع! لعلَّ الحياةَ تَطُولُ بك، فأخبِرِ الناسَ أنَّ مَن عقَد لحيتَه، أو تقلَّد وتراً، أو استنجى برجيع دابَّة أو عظْم، فإن محمداً بريءٌ منه".
وعن سعيد بن جُبَير، قال: من قطع تميمة من إنسان، كان كعِدْلِ رقبة. رواه وكيع.
وله عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون التمائم كلَّها من القرآن وغير القرآن.
[الشرح]
(باب ما جاء في الرقى والتمائم) تلحظ أن الباب الأول قال فيه الإمام رحمه الله (باب من الشرك لبس الحلقة والخيط), وهنا قال (باب ما جاء في الرقى والتمائم)، ولم يقل: باب من الشرك الرقى والتمائم؛ ذلك لأن الرقى منها ماهو جائز مشروع ومنها ما هو شرك، والتمائم منها ما هو متفق عليه أنه شرك ومنها ما قد اختلف الصحابة فيه هل هو من الشرك أم لا؟ لهذا عبّر رحمه الله بقوله (باب ما جاء في الرقى والتمائم) وهذا من أدب التصنيف .
الرقى: جمع رقية، والرقية معروفة قد كانت العرب تستعملها، وحقيقتها أنها أدعية وألفاظ تٌقال أو تتلا ثم يُنْفَثُ بها، ومنها ما له أثر عضوي في البدن، ومنها ما له أثر على الأرواح، ومنها ما هو جائز مشروع، ومنها ما هو شرك.
والنبي عليه الصلاة والسلام رَقَى ورُقِيَ؛ رقى غيره ورَقى نفسه عليه الصلاة والسلام ورُقي أيضا؛ رقاه جبريل ورقته عائشة ونحو ذلك.
فهذا الباب معقود لبيان حكم الرقى، قال (باب ما جاء في الرقى والتمائم)، وقد رخّص الشرع من الرقى بالتي ليس فيها شرك؛ بالرقى التي خلت من الشرك، وقد قال بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام يسأله عن الرقى فقال "اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ. لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكٌ".(1/97)
قال العلماء : الرقية تجوز بثلاثة شروط أُجمع عليها:
الأول : أن تكون بالقرآن أو بأسماء الله أو بصفاته.
الثاني: أن تكون بالكلام العربي أي بلسان عربي مفهوم؛ يُعلم معناه.
والثالث: أن لا يعتقد أنها تنفع بنفسها؛ بل الله جل وعلا هو الذي ينفع بالرقى.
قال بعض العلماء يدخل في الأول السنة أيضا بما ثبت في السنة؛ يعني يكون الشرط الأول: أن تكون من القرآن أو بالسنة أوبأسماء الله وبصفاته.
هذه شروط ثلاثة لكون الرقى جائزة بالإجماع.
إذا لم تكن من الأول أو الثاني يعني إذا تخلف الأول أو الثاني ففيها خلاف بين أهل العلم.
والثالث لابد منه؛ شرط متفق عليه، من أن الرقى لابد لمن تعاطاها أن لا يعتقد فيها.
وأمّا من جهة كونها بأسماء الله وصفاته أو بالكتاب والسنة أو أن تكون بلسان عربي مفهوم فإن هذا مختلف فيه.
وقال بعضهم يسوغ أن تكون الرقية بما يعلم معناه ويصح المعنى بلغة أخرى، لا يشترط أن تكون بالعربية، ولا يشترط أن تكون من القرآن أو السنة.
وهذه مسائل فيها خلاف وبحث ومن جهة تأثير أيضا غير القرآن على المرقي، وفي هذا مسائل نُرْجئ تفصيل ذلك إلى موضع آخر إن شاء الله.
المقصود أن الرقى الجائزة هي بالإجماع هي من أجمعت فيه ثلاث شروط.
وأمَّا الرقى الشركية فهي التي فيها استعاذة أو استغاثة بغير الله، أو كان فيها شيء من أسماء الشياطين، أو اعتقد أن المَرقي فيها بأنها تؤثر بنفسها، فهذا يكون الرقية غير جائزة، ومن الرقى الشركية، قد قال عليه الصلاة والسلام "إنّ الرّقَى وَالتّمائمَ وَالتّوَلَةَ شِرْك" كما سيأتي.
إذن الحاصل من ذلك أنَّ الرقى منها ما هو جائز مشروع ومنها ما هو شركي، علمتَ ضابط الجائز المشروع، وعلمت ما هو من جهة الشرك.(1/98)
(والتمائم) التمائم جمع تميمة وقد ذُكر تفسيرها مختصر من قبل، وهي تجمع أنواعا كثيرة، فالتمائم تجمع كل ما يُعلَّق أو يُتخذ مما يراد منه تتميم أمر الخير للعبد أو دفع الضرر عنه، ويَعتقد فيه أنه سبب، ولم يجعل الله جل وعلا ذلك الشيء سببا لا شرعا ولاقدرا.
فالتميمة شيء يُعلق إمّا جلد مثلا، يكون من جلد خاص يعلق على الصدر، أو يكون فيه أذكارا وأدعية وتعوُّذات تُجعل أيضا معلقة على الصدر أو في العضد، أو خرزات وحبال ونحو ذلك تجعل على الصدر تعلق، أو شيء يُجعل على باب البيت أو يجعل في السيارة أو يُجعل في مكان ما, يَجمع التمائم أنها شيء يراد منه تتميم أمر الخير وتتميم أمر دفع الضر، وذلك الشيء لم يُؤذن به شرعا ولم يؤذن به أيضا قدَرا.
فإذن كالتميمة ليست خاصة بصورة معينة؛ بل تشمل أحوالا كثيرة، تشمل أصنافا عديدة.
منها مما هو في زمننا الحاضر ما تراه على كثيرين من شيء يعلقونه في صدورهم، يعلق شيء ثم تكون جلدة صغيرة في الصدر، أو على العضد، أو يربط في البطن تميمة لدفع مثلا أمراض البطن أو الإسهال أو التقيُّء ونحو ذلك.
أو شيء يتخذ في السيارة، كما ترى بعض السيارات فيها رأس دب مثلا، أو أرنب أو يضع بعض الأشكال كحذوة الفرس أو يضع خرز على المراية الأمامية، أو يضع مسبحة على شكل معين من خشب ونحو ذلك، هذه وأصنافها من أنواع التمائم، ولها أشكال كثيرة تختلف مع إختلاف الأزمان، ويُحدث منها الناس شيئا كثيرا.
أو يلبس سلسلة وعليها شكل عين صغيرة، أو يعلق على مدخل الباب رأس ذئب أو رأس غزال، أو يضع على مَطْرَق الباب حذوة فرس.
هذه من التمائم التي يريد منها أصحابها أن تدفع عنهم العين، أو أن تجلب لهم نفعا.
بعض الناس يقول أعلِّق ولا أستحضر هذه المعاني؛ أعلِّق هذا في السيارة للزينة، أعلقه في البيت للجمال، ونحو ذلك من قول طائفة قليلة من الناس.(1/99)
ونقول: إن علّق التمائم للدفع أو الرفع فإنه شرك أصغر إن إعتقد أنها سبب, وإن علقها للزينة فهو محرَّم لأجل مشابهته من يشرك الشرك الأصغر.
فإذن دار الأمر على أن التمائم كلها منهي عنها، سواء إعتقد فيها أو لم يعتقد؛ لأن حاله إن إعتقد فهو في شركٍ أصغر، وإن لم يعتقد فإنه شابه أولئك المشركين، وقد قال عليه الصلاة والسلام "مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ".
قال رحمه الله تعالى (في الصحيح عن أَبي بَشِيرٍ الأَنْصَارِيّ - رضي الله عنه -، أَنّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ. قَالَ فَأَرْسَلَ رَسُولاً: "أَنْ لاَ يَبْقَيَنّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ, أَوْ قِلاَدَةٌ, إِلاّ قُطعَتْ") هذا الحديث وجه الاستدلال منه على أن تعليق القلادة من الوتر على البعير مأمور بقطعه، والأمر بقطعه لأجل أن العرب تعتقد أنها تدفع العين عن الأبعرة، تدفع العين عن النَّعم، فيعلقون الأوتار على شكل قلائد وربما ناطوا بالأوتار أشياء إمّا خرز وإمّا شعر أو نحو ذلك ليدفع، فهذا نوع من أنواع التمائم.
فمناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة وهي أن قوله (لاَ يَبْقَيَنّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ, أَوْ قِلاَدَةٌ, إِلاّ قُطعَتْ) ظاهر في النهي عن التمائم وأن هذا النوع يجب قطعه، لم يجب قطعه؟ لأن في تعليقه اعتقاد أنه يدفع أو يجلب النفع، وهذا الاعتقاد اعتقاد شركي.(1/100)
قال (وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنّ الرّقَى وَالتّمائمَ وَالتّوَلَةَ شِرْك") هذا الحديث فيه التأكيد، قال (إنّ الرّقَى وَالتّمائمَ وَالتّوَلَةَ شِرْك) ومعلوم أن دخول (إنّ) على الجملة الخبرية يفيد تأكيد ما تضمنته، و(الرّقى) هنا لما دخلت عليها الألف واللام عمت، فهذا الحديث أفاد أن كل الرقى من الشرك. وأن كل التمائم من الشرك وأن كل التولة من الشرك، قال: إن الرقى شرك. فكل الرقى شرك، وقال: إن التمائم شرك. فإذن كل التمائم شرك، وقال: إن التولة شرك. فإذن كل أنواع التِّولة شرك.
فهذا العموم خُص في الرقى بالنص وحدها، خُص في الرقى لقوله "لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكٌ" وبأن النبي عليه الصلاة والسلام رقى ورُقي عليه الصلاة والسلام.
فإذن الرقى دلّ الدليل على أنّ العموم هاهنا مخصوص، وليس كل أنواع الرقية شرك؛ بل بعض أنواع الرقية وهي التي اشتملت على شرك.
فإذن العموم هنا مخصوص بأنه خرج من ذلك ما لم يكن فيه شرك "لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكا"، وفي لفظ آخر قال "لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكٌ".
أما التمائم فلم يأت دليل يخصُّ نوعا من نوع؛ بل يبقى هذا اللفظ على عمومه (إنّ الرّقَى وَالتّمائمَ وَالتّوَلَةَ شِرْك) فما جاء ما يخصُّ نوعا من التمائم دون نوع من الشرك، فتكون إذن التمائم بأنواعها شرك؛ لأن ما لم يرد فيه تخصيص من الشارع فإن العموم يجب أن يبقى؛ لأن التخصيص شرع، وهذا الشرع لابد أن يأتيَ من الشارع، فنُبقي العموم على عمومه.(1/101)
قال (وَالتّوَلَةَ)، التِّولة كما فسرها الشيخ رحمه الله (شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى زوجه) نوع من الشرك.هو يسمى عند العامة والصرف والعطف، نوع من السحر يُصنع فيجلب شيئا ويدفع شيئا بحسب اعتقادهم، وهي في الحقيقة نوع من أنواع التمائم لأنها تُصنع ويكون الساحر هو الذي يرقي فيها الرقية الشركية، فيجعل المرأة تحب زوجها أو يجعل الرجل يحب زوجته.
وهذا نوع من أنواع السحر، والسحر شرك بالله جل وعلا وكفر، وهذا أيضا عموم وكل أنواعه شرك.
قال (وعن عبد الله بن عُكَيم مرفوعاً: "مَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ")، (مَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً)، (شَيْئاً) هنا نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الأشياء، فكل من علَّق شيئا وُكل إليه، فمن أخرج صورة من صور التعليق كانت الحجة عليه؛ لأنَّ هذا الدليل عام، فهذا الدليل فيه أن من تعلق أيَّ شيء من الأشياء فإنه يوكل إليه، والعبد إذا وُكل إلى غير الله جل وعلا فإنّ الخسارة أحاطت به من جنباته، والعبد إنما يكون عِزُّه ويكون فلاحه ونجاحه وحُسن قصده وحسن عمله أن يكون متعلِّقا بالله وحده؛ يتعلق بالله وحده في أعماله، في أقواله، في مستقبله، في دفع المضار عنه, قلبه يكون أُنسه بالله، وسروره بالله وتعلقه بالله وتفويض أمره إلى الله وتوكله على الله جل وعلا.
ومن كذلك وتوكل على الله وطرد الخلق من قلبه، فإنه لو كادته السموات والأرض من بينها لجعل له من بينها مخرجا؛ لأنه توكل وفوض أمره على الله العظيم جل جلاله وتقدست أسماؤه.
فقال هنا (مَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ) فإذا تعلَّق العبد تميمة وُكِل إليها، وما ظنك بمن وُكل إلى خرقة أو إلى خرز أو إلى حذوة حصان أو إلى شكل حيوان ونحو ذلك لا شك أن خسارته أعظم الخسارة.(1/102)
قال هنا (مَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً) وجه الاستدلال كما ذكرتُ لك من أنه ذكر نتيجة التعلق وهو أنه يوكل إلى ذلك الشيء، فمن تعلق شيئا وُكل إليه، وإذا وكل إليه فمعنى ذلك أنه خسر في ذلك.
الشيخ رحمه الله -كما ذكرتُ لك- ما صدر الباب بحكم، فيكون الاستدلال بهذه على ما دلت عليه الأحاديث.
قال (التمائم شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين) شيء يشمل أي شيء يعلق دون صفة معينة بعض العلماء التمائم خرز وبعضهم قال جلدة ونحو ذلك، وهذا ليس بجيد؛ بل التمائم اسم يعم كل ما يعلق لدفع العين لاتقاء الضرر أو لجلب خير نفسي.
قال (لكن إذا كان المعلَّق من القرآن فرخّص به بعض السلف)، (إذا كان المعلَّق من القرآن) بمعنى أنه جعل في منزله مصحفا ليدفع العين، أو علق على صدره شيئا -سورة الإخلاص أو آية الكرسي- ليدفع العين أو ليدفع الضرر عنه، هذا من حيث التعليق تميمة، فهل هذه التميمة جائزة أم غير جائزة؟ قال الشيخ رحمه الله: إن التمائم إذا كانت من القرآن فقد اختلف فيها السلف. فقال بعضهم بجوازها (رخص فيها بعض السلف)؛ يعني ببعض السلف بعض كبار الصحابة ومالَ إليه بعض أهل العلم الكبار، وبعضهم لم يرخص فيها كابن مسعود - رضي الله عنه - وكأصحاب ابن مسعود الكبار إبراهيم وعلقمة وعَبِيدة والربيع ابن خيثم والأسود وأصحاب ابن مسعود جميعا. فالسلف اختلفوا في ذلك.
ومن المعلوم أن القاعدة أن السلف من الصحابة ومن بعدهم إذا اختلفوا في مسألة وجب الرجوع فيها إلى الدليل.(1/103)
والدليل دلَّ على أن كل أنواع التمائم منهي عنها (مَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ), إن التمائم شرك؛ (إنّ الرّقَى وَالتّمائمَ وَالتّوَلَةَ شِرْك), فمن تعلَّق القرآن؛ من علَّقه كان داخلا في المنهيِّ عنه؛ لكن لمّا كان معلِّقا للقرآن بأنه لم يشرك لأنه علق شيئا من صفات الله جل وعلا وهو كلام الله جل وعلا، فما أشرك مخلوقا؛ لأن الشرك معناه أن تُشرك مخلوقا مع الله جل وعلا، والقرآن ليس بمخلوق؛ لأنه كلام الله جل وعلا منه بدأ وإليه يعود.
فإذن صار تعليق التميمة من القرآن خرجت؛ لأجل كون القرآن ليس بمخلوق من العموم، وهو قوله: إن التمائم شرك.
فبقي هل هي منهي عنها أم غير منهي عنها؟ قال عليه والسلام (مَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ) ونهى عن التمائم بأنواعها، فدلَّ ذلك على أن تخصيص القرآن بالإذن من بين التمائم ومن بين ما يعلق يحتاج إلى دليل فيه؛ لأنّ إبقاء العموم على عمومه هذا إبقاء لدلالة ما أراد الشارع الدلالة عليه من الألفاظ اللغوية، والتخصيص نوع من أنواع التشريع لابد فيه من دليل واضح.
لهذا صارت الحجة مع من يجعل التمائم التي من القرآن مما لا يُرخص فيه كابن مسعود وكغيره من الصحابة رضوان الله عليهم، وكذلك هو قول عامة أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المحققون من أصحابه، وعليها المذهب عند المتأخرين.
بقي أن نقول إن في إجازة اتخاذ التمائم من القرآن، إن في تجويزها مفاسد، وفي تجويز اتخاذ التمائم من القرآن أنواع من المنكر:(1/104)
الأول: أنه إذا اتُّخذت التميمة من القرآن، فإننا إذا رأينا من عليه التميمة فسيشتبه علينا الأمر، هل هذه تميمة شركية أم من القرآن؟ وإذا ورد الاحتمال فإن المنكِر على الشركيات يضعف يقول احتمال أنها من القرآن، فإجازة تعليق التمائم من القرآن فيه إبقاء التمائم الشركية؛ لأن حقيقة التميمة التي تعلَّق أنها تكون مخفية غالبا في جلد، أو في نوع من القماش ونحو ذلك، فإذا رأينا صورة التعليق وقلنا هذا يحتمل أن يكون كذا، فإذا استفصلت منه وقلت له هل هذه تميمة شركية أو من القرآن، معلوم أن صاحب المنكر دائما سيختار أن تكون من القرآن حتى ينجو من الإنكار؛ لأنه يعتقد في هذه؛ يُريد أنه يسلم له تعليقها، فهذا من المفاسد العظيمة؛ أن في إبقائها إبقاء للتمائم الشركية، وفي النهي عنها سد لذريعة الإشراك بالتمائم الشركية، ولو لم يكن إلا هذا لكان كافيا.
الثاني: أن الجهلة من الناس إذا علقوا التمائم من القرآن فإنهم يتعلقون بها؛ يتعلق قلبهم بها، ولا تكون عندهم مجرد أسباب، وإنما تكون عندهم فيها خاصية من الخصائص التي تكون بنفسها يأتي بالشيء أو تدفع الشيء، وهذا الأشياء فتح لباب اعتقادات فاسدة على الناس يجب أيضا وصده، ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع.
أيضا من المفاسد المتحققة عامة في ذلك أنه إذا علق شيئا من القرآن فإنه يمتهنه، ينام عليه أو يدخل به مواضع قذرة، أو يكون معه في حالات لا يكون من الحسن أن يكون معه قرآن فيها أو آيات، وهذا مما ينبغي اجتنابه وتركه.
إذن لم تتحصل أن تعليق التمائم بالدليل وبالتعليل لا يجوز، فما كان منها من القرآن فنقول يحرم على الصحيح ولا يجوز ويجب إنكاره، وما كان منها من غير القرآن وتعلَّق تمائم عامة فهذا نقول إنه من الشرك بالله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنّ الرّقَى وَالتّمائمَ وَالتّوَلَةَ شِرْك)، والتخصيص نوع من العلم يجب أن يكون فيه دليل.(1/105)
نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وقفنا عند قوله (وروى أحمد عن رويفع، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا رُوَيْفع! لعلَّ الحياةَ تَطُولُ بك، فأخبِرِ الناسَ أنَّ مَن عقَد لحيتَه، أو تقلَّد وتراً، أو استنجى برجيع دابَّة أو عظْم، فإن محمداً بريءٌ منه") هذا الحديث في باب ما جاء في الرقى والتمائم فيه ذكر تقلُّد الوتر وأنَّ محمدا عليه الصلاة والسلام بريء ممن تقلد وترا.
وقد مر معنا في أول الباب في حديث أبي بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل أن لا يبقين في عنق بعير قلادة من وتر أو قال قلادة إلا قُطعت. وهذا في معناه.
وقوله (تقلَّد وتراً) التقليد بالوتر هذا له مفهوم، وهو أنّ النهي ليس راجع إلى القلادة من حيث هي؛ بل إلى القلادة التي يُعتقد فيها أنها تدفع العين، وخصّ الوتر منها هنا لأنه كان أهل الجاهلية يقلدون الأوتار وينوطون بها بعض الخِرق أو بعض الشعر أو بعض العظام لكي تدفع العين عن الأبعرة، وأن مجرد التقليد فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعر هديه وأيضا فُتِلت له قلائد وعلق القلائد لبيان أن ما أرسله إلى مكة هدي.
فالتقليد هنا خُصّ بالوتر فيقال القلادة التي تجعل على الحيوان أو على غيره إذا كانت مما يعتقد فيها أو يختص بها الاعتقادات فإنه ينهى عنها، ولهذا قيدها في حديث أبي بشير الأول قال (لاَ يَبْقَيَنّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَةٌ مِنْ وَتَرٍ) و(مِنْ) هاهنا بيانية، وكذلك هنا قال (أو تقلَّد وتراً)، وهذا واضح المعنى من أنه جعل الوتر الذي قُلِّد تميمة.(1/106)
وقوله في ذلك (فإن محمداً بريءٌ منه) هذا من الألفاظ التي تدلّ أن الفعل من الكبائر؛ لأن من الأدلة على أن فعلا ما من الكبائر أو عملا ما أو قولا ما من الكبائر أن يقال فيه: الله ورسوله منه بريئان، أو يتبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه؛ لأن ذلك يدل على عِظم المعصية، والشرك الأصغر من الكبائر كما أن الشرك الأكبر من الكبائر، والكبائر العملية التي ليس معها اعتقاد -يعني كبائر من جهة العمل- كالزنى والسرقة وكشرب الخمر التي ليس معها اعتقاد، هذه من حيث الجنس أقل مرتبة من حيث جنس المحرم والكبيرة أقل مرتبة من الشرك الأصغر فضلا عن الشرك الأكبر، ولهذا نقول الشرك الأصغر اتخاذ التمائم أو نحو ذلك هذا جنسه أعظم -من حيث الذنب والكبيرة- من جنس الكبائر العملية التي لا يَصْحَب فاعلها حين فعلها اعتقاد؛ يعني أن يعتقد في شيء ما، نُريد بذلك تقييد ذلك بنحو الخمر والزنى وما أشبه ذلك وأكل الربا ونحوه.
قال (وعن سعيد بن جُبَير، قال: من قطع تميمة من إنسان، كان كعِدْل رقبة.) يعني كان كتحرير رقبة، وهذا فيه فضيلة قطع التمائم؛ وذلك لأنها شرك بالله جل وعلا، والشرك الأصغر مدخل للنار من حيث الوعيد، والتوعد عليه بالنار جاء في نحو قوله جل وعلا?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ?[النساء:48، 116]، ونحو قوله "مَن ماتَ وهوَ يَدعو من دون اللّهِ نِدّاً دخلَ النار"، وفي نحو قوله" مَنْ مَاتَ وَهُوَ يُشْرِكُ باللّهِ شَيْئا دَخَلَ النّارَ"، وإذا قطع التميمة من عنقه فهو في مقام إعتاق رقبة ذاك الذي قُطعت منه التميمة من النار؛ لأنه استوجب بذلك الفعل الوعيد بالنار فإذا قَطع تميمة فكان جزاءه من جنس فعله, فكما أنه أعتق رقبة هذا المسلم من النار فأُثيب بأن له مثل إعتاق رقبة.(1/107)
وهذا القول من سعيد بن جبير محمول على أنه مما سمعه من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن هذا مما لا يقال بالرأي، وإذا كان كذلك فله حكم المرسل، فيكون هذا مرسلا؛ لأنه إذا كان مما يقال بالرأي لأن فيه فضيلة خاصة جعلها سعيد بن جبير لمن قطع تميمة من رقبة إنسان، فيكون ذلك من قبيل المرسل؛ يعني من قبيل المرفوع، وسعيد بن جبير تابعي من أصحاب بن عباس فيكون مرسلا، ففيه الكلام في حجية المرسل والإمام أحمد ومالك والشافعي يحتجون بالمرسل وكذلك الإمام أبو حنيفة يحتجون بالمرسل، منهم من يجعل له شروطا كالشافعي، ومنهم من يحتج بالمرسل إذا كان المعنى معروفا في الباب، وهذا ما هو موجود هنا.
قال بعض أهل العلم قول التابعي في الأشياء التي لا تُدرك بالاجتهاد ولا يُناط بها الرأي يكون محمولا على أنه قول صحابي؛ يعني أنه سمعه من الصحابي فيكون اجتهاد صحابي.
وهذا ليس يقول بأنه إذا كان محمولا على أنه سمعه من الصحابي، فنقول الصحابي لا يقوله من جهة الرأي، فلا بد إذن أن يكون سمعه؛ لأن مثل هذا لا يدخل فيه الاجتهاد، والأول هو المعروف وأن هذه الصيغة من قبيل المرسل.
قال (وله) لوكيع (عن إبراهيم) وهو النخعي تلميذ ابن مسعود (قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن.) إبراهيم النخعي عالم من أهل الكوفة بعد ابن مسعود، وكان إذا قال (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن)، (كانوا) هذا يرجع إلى أصحاب ابن مسعود, إبراهيم النخعي أظنه لم يأخذ من ابن مسعود وإنما أخذ عن تلامذة ابن مسعود؛ (1) فيعني بقوله كانوا يكرهون, أصحاب ابن مسعود كالأسود وعلقمة وكالربيع ابن خيثم وعبيدة السلماني ونحو هؤلاء.
¹
[الأسئلة]
__________
(1) قال الشيخ عبد العزيز ابن باز في شرحه: ابراهيم بن يزيد النخعي من التابعين من أصحاب أصحاب ابن مسعود.(1/108)
س/ هذا أيضا يسأل يقول: ما حكم من يضع آية الكرسي في السيارة، أو يضع مجسم فيه أدعية، أدعية ركوب السيارة أو أدعية السفر وغيرها من الأدعية؟
ج/ نقول: هذا فيه تفصيل:
فإن كان وضع هذه الأشياء ليتحفظها ويتذكر قراءتها فهذا جائز، كمن يضع المصحف أمام السيارة أو يضعه معه لأجل أنه إذا كانت فرصة هو أو من معه أن يقرأ فيه، فهذا جائز لا بأس به.
لكن إن وضعها تعلقا لأجل أن تدفع عنه فهذا هو الكلام في مسألة تعليق التمائم من القرآن فلا يجوز ذلك على الصحيح ويحرم.
س/ ما رأي فضيلتكم ببعض الأواني التي يكتب عليها بعض الآيات، والتي تباع في بعض المحلات التجارية؟
ج/ هذه الأواني يختلف حالها:
إن كان يستخدمها؛ لأجل أن يتبرك بما كتب فيها من الآيات فيجعل فيها ماء ويشربه؛ لأجل أن الماء يلامس هذه الآيات، فهذا من الرقية غير المشروعة؛ لأن الرقية المشروعة ما كانت الآيات في الماء، وهذه الآيات لم تنحلَّ في الماء؛ لأنها من معدن أو من نحاس، والتصاق الماء بتلك الكتابات آيات أو أدعية لا يجعل الماء بذلك مباركا أو مقروءا فيه، فإذا اُتخذت لذلك فهذا من الرقية غير المشروعة.
وأما إذا أخذها للزينة أو لجعلها في البيت أو لتعليقها فهذا كرهه كثير من أهل العلم؛ لأن القرآن ما نزل لتزيَّن به الأواني أو تزين به الحيطان، وإنما نزل للهداية ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9].
س/ بعض الناس يضع المصحف في درج السيارة وذلك بقصد أن للمصحف أثر في رد العين والبلاء نرجو التوضيح؟(1/109)
ج/ إذا كان يقصد من وضع المصحف في درج السيارة أو على طبلون السيارة الأمامي أو خلف السيارة أن يدفع عنه وجود المصحف العين، فهذا من اتخاذ المصحف تميمة، وقد مرّ معكم بالأمس حكم التمائم من القرآن، وأن الصحيح لا يجوز أن يجعل القرآن تميمة ولا أن يجعل القرآن لوجوده يعني المصحف دافعا للعين؛ لكن الذي يدفع العين قراءة القرآن والأدعية المشروعة والاستعاذة بالله جل وعلا ونحو ذلك مما جاء في الرقية.
فتحصَّل على أن وضع القرآن لهذه الغاية داخل في المنهي عنه، وهو من اتخاذ التمائم من القرآن، لمّا كان القرآن غير مخلوق وهو كلام الله جل وعلا لم تصر هذه التميمة شركية، وإنما يُنهى عنها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستعمل هذا ولم يجعل في عنق أحد من الصحابة لا الصغار ولا الكبار، ولا أذِنَ ولا وجّه بأن يُجعل القرآن في شيء من صدورهم أو في عضد أحدهم أو في بطنه، ومعلوم أن مثل هذا لو كان دواءً مشروعا أو رقية سائغة أو تميمة مأذون بها لرُخِّص فيها، سيما مع شدة حاجة الصحابة إلى ذلك.
وتعليق القرآن أيسر من البحث عن راق يرقي ويطلب منه وربما يكافَأ على رقيته، فلما كان هذا أيسر والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرشدهم إلى الأيسر وقد بعث ميسرا، عُلم مع ضميمة الأدلة التي ذكرتها لكم بالأمس أنَّ هذا من جنس غير المشروع. والله أعلم.
هذا ونكتفي بهذا القدر ونبدأ بكتاب التوحيد.
[س/ ما حكم من يضع على السيارات أو المنازل عبارات مثل ما شاء الله أو تبارك الله أو هذا من فضل ربي؟
ج/ هذا له نفس حكم تعليق بعض الآي أو الآي على الحيطان أو في السيارات أو نحو ذلك.
فإن كان المقصود منها الإرشاد إلى عمل شرعي مسنون فهذا مشروع أو مباح.
وأما إن كان القصد منها الحِفظ أن تحفظه وأن تحرسه من العين أو من الأذى فهذا راجع إلى اتخاذ التمائم من القرآن ونحوه.] (1)
__________
(1) مأخوذ من الوجه الثاني للشريط السابع من باب الشفاعة.(1/110)
[س/ بعض أصحاب السيارات الخاصة [كالليموزين] وسيارات النقل الكبيرة يضعون على أطراف السيارة خرقا سوداء اعتقادا منهم بأنها حروز تمنعهم الحوادث، فهل نقوم بنزعها أم ماذا نفعل ؟
ج/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أمّا بعد:
إذا كان الأمر كما وصفه السائل من جهة وضع تلك الشارات أو الخرق ومن جهة اعتقاد أهلها فيها فيجب نزعها، ومن نزعها فله فضل نزع التمائم من أماكنها، أو تخليص أصحابها منها؛ لكن هذا متوقف على أن يعلم أنهم وضعوها لهذا الغرض، فإن وضع الشارات لمثل هذا الغرض غير معروف أنه لأجل دفع التمائم، فإذا كان بعض الناس يستعملها لدفع الشر ويستعملها لأنها تمائم، فهذه يجب نزعها، ومن رآها لا يحل له أن يتعداها حتى ينزعها لأنها اعتقاد في غير الله ولأنها نوع من أنواع المنكر واعتقاد ذلك فيها كبيرة من الكبائر وشرك أصغر بالله جل وعلا.](1)
¹
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
وقول الله تعالى ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى(20)أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى(21)تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى?[النجم:19-22].
وعن أبي وَاقِدٍ الّليْثِيّ ، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حُنَيْنٍ، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سِدْرَة يعكفون عندها ويَنُطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذاتُ أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسولَ الله اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ?[الأعراف: 138]. لَتَرْكَبُنّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ". رواه الترمذي وصححه.
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الثامن.(1/111)
[الشرح]
قال رحمه الله (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما وقول الله تعالى ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى? الآيات).
(باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) يعني ما حكمه؟
الجواب هو مشرك؛ يعني: باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما فهو مشرك.
وقوله (من تبرَّك), التبرك: تفعُّلٌ من البركة، وهو طلب البركة، والبركة مأخوذة من حيث الاشتقاق من مادة بُرُوك أو من كلمة بِرْكة.
أما البروك فبروك البعير يدلّ على ملازمته وثبوته في ذلك المكان.
والبِرْكة وهي مجمتع الماء يدل على كثرة الماء في هذا الموضع وعلى لزومه له وعلى ثباته في هذا الموضع.
فيكون إذا معنى البركة كثرة الشيء الذي فيه الخير وثباته ولزومه.
فالتبرك: هو طلب الخير الكثير وطلب ثباته وطلب لزومه, تبرَّك يعني طلب البركة، والنصوص في القرآن والسنة دلّت على أنَّ البركة من الله جل وعلا، وأن الخلق لا أحد يبارك أحدا وإنما هو جل وعلا يبارك قال سبحانه ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ?[الفرقان:1]؛ يعني عَظُم خير من نزل الفرقان على عبده وكثر ودام وثبت، ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ?[الملك:1]، وقال سبحانه?وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ?[الصافات:113]، وقال ?وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا?[مريم:131]، فالذي يُبارك هو الله جل وعلا، فلا يجوز للمخلوق أن يقول باركتُ على الشيء أو أبارك فعلكم؛ لأن لفظ البركة ومعنى البركة، إنما من الله؛ لأن الخير كثرته وثباته ولزومه إنما هو من الذي بيده الأمر.
والنصوص في الكتاب والسنة دلت على أن البركة التي أعطاها الله جل وعلا بالأشياء:
"إمّا تكون الأشياء هذه أمكنة أو أزمنة.
"وإمّا أن تكون تلك الأشياء من بني آدم؛ يعني مخلوقات آدمية.(1/112)
أمَّا الأمكنة والأزمنة: فظاهر أن الله جل وعلا حين بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام، وكما حول بيت المقدس ?الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء:1]، بالأرض المباركة ونحو ذلك, أنّ معنى أنها المباركة أن يكون فيها الخير الكثير اللازم الدائم لها، ليكون ذلك أشجع في أن يلازمها أهلُها الذين دُعوا إليها.
وهذا لا يعني أن يُتمسح بأرضها، أو أن يُتمسح بحيطانها، فهذه بركة لازمة لا تنتقل بالذات؛ فبركة الأماكن أو بركة الأرض ونحو ذلك هي بركة لا تنتقل بالذات؛ يعني إذا لمست الأرض أو دفنت فيها أو تبركت بها فإن البركة لا تنتقل بالذات، وإنما الأرض المباركة من جهة المعنى.
كذلك بيت الله الحرام هو مبارَك لا من جهة ذاته؛ يعني أن يُتمسح به فتنتقل البركة، وإنما هو مبارك من جهة ذاته من جهة المعنى؛ يعني اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البِنية من جهة تعلق القلوب بها وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها وأتاها وطاف بها وتعبَّد عندها.
حتى الحجر الأسود هو حجر مبارَك، ولكن بركته لأجل العبادة؛ يعني أنه من استلمه تعبُّدا مطيعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في استلامه له وفي تقبيله فإنه يناله به بركة الإتباع، وقد قال عمر - رضي الله عنه - لمّا قبّل الحجر: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر -قوله (لا تنفع ولا تضر) يعني لا ينقل لأحد شيء من النفع ولا يدفع عن أحد شيء من الضر- ولو لا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. هذا من جهة الأمكنة.
وأمّا الأزمنة: فمعنى كون الزمان مباركا مثل شهر رمضان أو بعض أيام الله الفاضلة؛ يعني أن من تعبد فيها ورَامَ الخير فيها، فإنه يناله من كثرة الثواب ما لا يناله في ذلك الزمان.(1/113)
والقسم الثاني البركة المنوطة ببني آدم: والبركة التي جعلها الله جل وعلا في الناس إنما هي بركة فيمن آمن؛ لأن البركة من الله جل وعلا، وجعل بركته للمؤمنين به، وسادة المؤمنين هم الأنبياء والرسل، والأنبياء والرسل بركتهم بركة ذاتية؛ يعني أن أجسامهم مباركة، فالله جل وعلا جعل جسد آدم مباركا، وجعل جسد إبراهيم عليه السلام مباركا، وجعل جسد نوح مباركا، وهكذا جسد عيسى وموسى عليهم جميعا الصلاة والسلام، جعل أجسادهم مباركة؛ بمعنى أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم إما بالتمسح بها أو بأخذ عَرَقها أو بأخذ بعض الشعر فهذا جائز؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة.
وهكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد بن عبد الله جسده أيضا جسد مبارك، ولهذا جاءت الأدلة في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه, يتبركون بشعره، وإذا توضأ اقتتلوا على وَضوئه، وهكذا في أشياء شتى.
ذلك لأن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية يمكن معها نقل أثر هذه البركة أو نقل البركة والفضل والخير من أجسادهم إلى غيرهم.
وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل، أما غيرهم فلم يرد دليل على أنّ ثَم من أصحاب الأنبياء من بركتهم بركة ذاتية، حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر فقد جاء بالتواتر القطعي أنَّ الصحابة والتابعين والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بجنس تبركهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبرك بالشعر أو بالوضوء أو بالنُّخامة أو بالعَرَق أو بالملابس ونحو ذلك.
فعلمنا من ذلك التواتر القطعي أنّ بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل، ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي- صلى الله عليه وسلم - .(1/114)
ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال"إنّ منَ الشجَر لمَا بَرَكتُه كبركةِ المسلم"، فدلّ على أن في كل مسلم بركة، وأيضا فيه يعني في البخاري قال أحد الصحابة: ما هذه بأَوّلِ برَكَتِكمْ يا آلَ أبي بكرٍ. هذه البركة التي أُضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر بركة عمل، هذه البركة راجعة إلى الإيمان وإلى العلم والدعوة والعمل.
فنقول: كل مسلم فيه بركة، هذه البركة ليست بركة ذات، وإنما هي بركة عمل، بركة ما معه من الإسلام والإيمان وما في قلبه من والإيقان والتعظيم لله جل وعلا والإجلال له، والإتباع لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
هذه البركة بركة العلم أو بركة العمل أو بركة الصلاح لا تنتقل، وبالتالي يكون التبرك بأهل الصلاح هو الإقتداء بهم في صلاحهم؛ التبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة من علومهم، وهكذا، ولا يجوز أن يُتبرك بهم بمعنى يتمسح بهم أو يُتبرك بريقهم؛ لأن أهل الخلق من هذه الأمة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وهذا أمر مقطوع به.
تبرّك المشركين أنهم كانوا يرجون كثرة الخير ودوام الخير ولزوم الخير وثبات الخير بالتوجه إلى الآلهة.
وهذه الآلهة:
"يكون منها الصنم الذي من الحجارة.
"ويكون منها القبر من التراب.
"ويكون منها الوثن.
"ويكون منها الشجر.
"ويكون منها البقاع المختلفة؛ غار أو عين ماء أو نحو ذلك.
هذه تبركات مختلفة جميعها تبركات شركية، ولهذا جاء الشيخ رحمه الله قال (بابُ من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما)، (بابُ من تبرك بشجر أو حجر) الشجر جمع شجرة والشجر معروف والحجر معروف، ذلك أن المشركين كانوا يتبركون بالأشجار والأحجار، حتى في أول الدعوة في هذه البلاد كانت الأشجار كثيرة التي يتبرك بها الأحجار كثيرة.(1/115)
قال (ونحوهما) يعني نحو الشجر والحجر مثل البقاع المختلفة أو غار معين أو قبر معين أو عين ما أو نحو ذلك من الأشياء التي يَعتقد فيها أصل الجهالة.
ما حكمه؟ الجواب: أنه مشرك كما صرّح به الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه فتح المجيد.
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما فهو مشرك.
الشراح في هذا الموضع لم يُفصحوا هل المتبرك بالشجر والحجر شرك أكبر؟ أو شرك أصغر؟
وإنما أدار المعنى الشيخ سليمان رحمه الله في التيسير بعد أن ساق تفسير آية النجم ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى?[النجم:19]، قال في آخره: مناسبة الآية للترجمة أنه إن كان إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر، وإن كان شركا أصغر فالسلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر.
وتحقيق هذا المقام: أن التبرك بالشجر أو الحجر أو بالقبر أو ببقاع مختلفة قد يكون شركا أكبر وقد يكون شركا أصغر:
½ يكون شركا أكبر: إذا طلب بركتها معتقدا أن هذا الشجر أو الحجر أو القبر إذا تمسح به أو تمرَّغ عليه أو التصق به يتوسط له عند الله، فإذا اعتقد فيه أنه وسيلة إلى الله، فهذا اتخاذ إله مع الله جل وعلا وشرك أكبر، وهذا هو الذي كان يزعمه أهل الجاهلية للأحجار والأشجار التي يعبدونها، وبالقبور التي يتبركون بها، يعتقدون أنهم إذا عكفوا عندها وتمسحوا بها وبالقبور أو تثروا التراب عليها فإن هذه البقعة أو صاحب هذه البقعة أو الرَّوحانية؛ الروح التي تخدم هذه البقعة أنه يتوسط له عند الله جل وعلا، فهذا راجع إلى اتخاذ أنداد مع الله جل وعلا، قد قال سبحانه ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3].(1/116)
½ ويكون التبرك شركا أصغر: إذا كان هذا التبرك بنثر التراب عليه، أو إلصاق الجسم بذلك، أو التبرك بعين ونحوها، إذا كان من جهة أنه جعله سببا لحصول البركة، بدون اعتقاد أنه يوصل إلى الله؛ يعني جعله سببا مثل ما يجعل لابس التميمة أو لابس الحلقة أو لابس الخيط، جعل تلك الأشياء سببا، فإذا أخذ تراب القبر ونثره عليه لاعتقاده أن هذا التراب مبارك وإذا لامس جسمه فإن جسمه يتبارك من جهة السببية فهذا شرك أصغر؛ لأنه ما صرف عبادة لغير الله جل وعلا، وإنما اعتقد ما ليس سببا مأذونا به شرعا سببا.
وأما إذا تمسح بها -كما هي الحال الأولى- تمسح بها وتمرغ بها والتصق بها لتوصله إلى الله جل وعلا، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، ولهذا قال الشيخ سليمان -كما ذكرت لك-:
"إن كان الشرك شركا أكبر فظاهر بالاستدلال بالآية.
"وإن كان شركا أصغر فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على ما يريدون من الاستدلال في مسائل الشرك الأصغر.
قال(وقول الله تعالى وقول الله تعالى ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى? الآيات)، (أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) هذه الثلاث ذكرتُ لكم أن الهمزة من قبل -يعني بالأمس- أن همزة الاستفهام إذا أتى بعدها فاء فإنه يكون بينها وبين الفاء جملة دلَّ عليها السياق، فمن أول سورة النجم إلى هذا الموضع يدل على المحذوف.
قال (أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، (اللَّاتَ) هذه صخرة بيضاء عند أهل الطائف، وما هُدمت إلاّ بعد أن أسلمت ثقيف؛ أرسل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - المُغيرة بن شعبة فهدَمَها وكسّرها، وكان عليها بيت ولها سدنة ولها خدم.
المقصود أن (اللَّاتَ) صخرة وصفت أنها بيضاء.
وفي قراءة ابن عباس وغيره من السلف قرؤوها (اللَّاتَّ)، (أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَّ), واللاتَّ هذا رجل كان يلتُّ السويق، وكان يعطيهم السويق:(1/117)
"في رواية على صخرة، فعظموا تلك الصخرة.
"وفي رواية أخرى -يعني على السلف- أنه كان يلتُّ لهم السويق فلما عكفوا على قبره.
فتحصَّل من هذا أن اللاتَ صخرة، وإذا قُرئت اللاتَّ فيكون قبر أو صخرة كان يتعبد عندها ويتصدق ذاك الذي كان يلتّ السويق.
و(الْعُزَّى) شجرة كانت بين مكة والطائف، وكانت في الأصل شجرة ثم بني بناء على ثلاث سَمُرَات، وكان هناك لها سدنة وكانت امرأة كاهنة هي التي كانت تخدم ذلك الشرك، ولمّا فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أرسل إليها خالد بن الوليد فقطع الأشجار الثلاث؛ السمرات الثلاث، وقتل من قتل ولماّ رجع وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له "ارجع فإنك لم تصنع شيئا"، فرجع فرآه السدنة ففروا إلى الجبل، ثم رأى مرأة ناشرة شعرها عُريانة -هي الكاهنة التي كانت تخدم ذلك الشرك وتُحضر الجن لإضلال الناس في ذلك الموضع-، فرآها فعلاها بالسيف حتى قتلها، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "تلك العُزَّى".
المقصود أن العزى اسم لشجرة كانت في ذلك الموضع، وفي الحقيقة تعلق الناس كان بتلك الشجرة وبالمرأة التي كانت تخدم ذلك الشرك، فلو قُطعت الأشجار وبقيت المرأة فإن المرأة ستغري الناس مرة أخرى بما تذكره لهم أو ما تحكيه لهم أو ما تجيب به مطلبهم عن طريق الجن، فيكون الشرك ما انقطع، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "تلك العُزَّى". يعني في الحقيقة هي المرأة التي تغري الناس بذلك وإلاّ فهي شجرة.
كذلك (مَنَاة) قال (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، (الْأُخْرَى) يعني الوضيعة الحقيرة، (مَنَاة) هذه أيضا صخرة، سُميت (مَنَاة) لكثرة ما يُمْنى عليها من دماء تعظيما لها.(1/118)
وجه مناسبة الآية للترجمة أن اللاتَ صخرة ومناة صخرة والعزّى شجرة، وما كان يفعله المشركون عند هذه الثلاث فهو عين ما يفعله المشركون في الأزمنة المتأخرة عند الأشجار والأحجار والغيران والقبور، ومن قرأ شيئا مما يصنعه المشركون علم غربة الإسلام في هذه البلاد قبل هذه الدعوة، وأن الناس كانوا على شرك عظيم، وإذا تأملت أحوال ما حولك من البلاد التي ينتشر فيها الشرك وجدت من اتخاذ الأشجار والأحجار آلهة ويُتبرك بها الشيء الكثير.
أعظم من ذلك اتخاذ القبور آلهة يُتوجه إليها ويُتعبد عندها.
ثم ساق حديث أبي وَاقِدٍ الّليْثِيّ قال (وعن أبي وَاقِدٍ الّليْثِيّ، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى حُنَيْنٍ، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سِدْرَة يعكفون عندها ويَنُطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذاتُ أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسولَ الله اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر! إنها السُّنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ?[الأعراف: 138]. لَتَرْكَبُنّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". رواه الترمذي وصححه) هذا الحديث حديث صحيح عظيم، والمشركون كانت لهم سدرة شجرة لهم فيها اعتقاد, واعتقادهم فيها يشمل ثلاثة أشياء:
الأول: أنهم كانوا يعظمونها.
الثاني: أنهم كانوا يعكفون عندها.
الثالث: أنهم كانوا ينوطون بها الأسلحة رجاء نقل البركة من الشجرة إلى السلاح؛ حتى يكون أمضى وحتى يكون خيره لحامله أكثر.
وفعلهم هذا شرك أكبر لأنهم عظموها وعكفوا عندها، والعكوف عبادة وهو ملازمة الشيء على وجه التعظيم والقربة، والثالث أنهم طلبوا منها البركة.
فصار شركهم أكبر لأجل هذه الثلاث مجتمعة.(1/119)
الصحابة رضوان الله عليهم قالوا يعني من كانوا حديثي عهد بكفر قالوا (اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ) ظنوا أن هذا لا يدخل في الشرك وأن كلمة التوحيد لا تهدم هذا الفعل.
ولهذا قال العلماء: قد يغيب عن بعض الفضلاء بعض مسائل الشرك؛ لأن الصحابة وهم أعرف الناس باللغة، هؤلاء الذين كان إسلامهم بعد الفتح خَفِيَت عليهم بعض أفراد توحيد العبادة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الله أكبر! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?) شبّه عليه الصلاة والسلام -وانتبه لهذا- شبّه المقالة بالمقالة.
معلوم أن أولئك عبدوا غير الله؛ عبدوا ذات الأنواط، وأمّا أولئك فإنما طلبوا بالقول، والنبي عليه الصلاة والسلام شبه القول بقول قوم موسى (اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) ولم يفعلوا ما طلبوا ولما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهوا، ولو فعلوا ما طلبوا لكان شركا أكبر؛ لكن لما قالوا وطلبوا دون فعل صار قولهم شركا أصغر؛ لأنه كان فيه نوع تعلق بغير الله جل وعلا.
لهذا نقول: إن أولئك الصحابة الذين طلبوا هذا الطلب لما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهوا، وهم لا يعلمون أن هذا الذي طلبوه غير جائز، وإلاّ فلا يظن بهم أنهم يخالفون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرغبون في معصيته.
فإذن صار الشرك في مقالهم، وأمّا الفعل فلم يفعلوا شيئا من الشرك، وهذا الذي قالوه قال العلماء: هو شرك أصغر وليس بشرك أكبر، ولهذا لم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتجديد إسلامهم.
ودلّ على ذلك قوله (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى) فشبه المقالة بالمقالة، وقد قال الشيخ رحمه الله في المسائل: إنهم لم يكفروا، وأن الشرك منه أكبر ومنه أصغر؛ لأنه لم يأمرهم عليه الصلاة والسلام بتجديد الإسلام.(1/120)
ظاهر من هذا أن الشرك الأكبر الذي كان فيه المشركون لم يكن راجعا إلى التبرك بذات الأنواط فقط، وإنما كان بالتعظيم والعكوف والتبرك بالتعليق، وقد قلتُ لك إن التبرك بالشجر والحجر ونحو ذلك إذا كان فيه اعتقاد أن هذا الشيء يُقرِّب إلى الله، وأنه يرفع الحاجة إلى الله، أو أن تكون حاجاتهم أرجى إجابة، وأمورهم أحسن إذا تبركوا بهذا الموضع، فهذا شرك أكبر، وهذا الذي كان يصنعه أهل الجاهلية لهذا قلت لك إن فعلهم يشمل ثلاثة أشياء:
"التعظيم -تعظيم العبادة- وهذا لا يجوز إلا لله؛ تعظيم أن هذا يتوصل ويتوسط لهم عند الله جل وعلا وهذا لا يجوز وهذا من أنواع العبادة، واعتقاد شركي.
"والثاني أنهم عكفوا عندها ولازموا، والعكوف والملازمة نوع عبادة، فإذا عكف ولازم تقربا ورجاء ورغبة ورهبة ومحبة هذا نوع من العبادة.
"والثالث التبرك.
فإذن يكون الشرك الأكبر ما ضمّ هذه الثلاث.
وإذا تأملت ما يصنعه عباد القبور والخرافيون في الأزمنة المتأخرة وفي زماننا هذا، وجدت أنهم يصنعون كما كان المشركون الأولون يصنعوا عند اللات وعند العزى وعند مناة وعند ذات أنواط، فإنهم يعتقدون في القبر؛ بل يعتقدون في الحديد الذي يُسيَّج به القبر، فالمشاهد المختلفة في البلاد التي يفشو فيها الشرك أو يظهر فيها الشرك، تجد أنّ الناس يعتقدون في الحائط الذي على القبر، أو في الشُّباك الحديدي الذي يحيط بالقبر، فإذا مسحوا به كأنهم تمسحوا بالمقبور، واتصلت روحهم بأنه سيتوسط لهم لأنهم عظموه, هذا شرك أكبر بالله جل وعلا لأنه رجع إلى تعلق القلب في جلب النفع وفي دفع الضَّر بغير الله جل وعلا وجعله وسيلة إلى الله جل وعلا كفعل الأولين الذين قال الله فيهم ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3].(1/121)
وأمّا في الحال الأخرى -التي نبهتُكَ في أول المقام عليها- مِن أنه يجعل بعض التمسحات أسبابا، مثل ما ترى بعض الناس الجهلة يأتي في الحرم ويتمسح بأبواب الحرم الخارجية، أو ببعض الجدران، أو ببعض الأعمدة.
فهذا إن ظن أن ثَمّ روحاً في هذا العمود، أو هناك أحد مدفون بالقرب منه، أو ثم من يخدم هذا العمود من الأرواح الطيبة -كما يقولون-، فتمسح لأجل أن يصل إلى الله جل وعلا فهذا شرك أكبر.
وأما إذا تمسح باعتقاد أن هذا المقام مبارك وأن هذا سبب قد يشفيه، إذن قلنا إذا كان يتمسح لجعله سببا فهذا يكون شركا أصغر.
وإذا كان تعلق قلبه بهذا الذي المتمسح به والمتبرك به وعظمه ولازمه واعتقد أن ثمّة روحا هنا، أو أنه يتوسل به إلى الله فإن هذا شركا أكبر. (1)
¹
[الأسئلة]
[س/ ما معنى قولهم الشرك الأصغر أكبر من الكبائر؟ وكيف يكون كذلك والشرك الأكبر من الكبائر إذ هو من الكبائر؟ فنرجوا إزالة الإشكال.
ج/ هذا أيضا أوضحته بالأمس: وهو أن الكبائر قسمان:
"قسم منها راجع إلى جهة الاعتقاد والعمل الذي يصحبه اعتقاد.
"وقسم منها راجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد.
مثال الأول الذي يصحبه اعتقاد: أنواع الشرك بالله من الاستغاثة بغيره، ومن الذبح لغير الله، ومن النذر لغير الله نحو ذلك، هذه الأعمال ظاهرة هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركا أكبر، فهي في ظاهرها صرف عبادة لغير الله جل وعلا، وقام بقلب صاحبها الشرك بالله بتعظيم المخلوق وجعله يستحق هذا النوع من العبادة إما على جهة الاستقلال أو لأجل أن يتوسط.
والقسم الثاني الكبائر العملية التي تعمل لا على وجه اعتقاد، مثل الزنا وشرب الخمر والسرقة وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف ونحو ذلك من الكبائر والموبقات، فهذه تعمل دون اعتقاد لهذا صارت الكبائر على قسمين.
__________
(1) انتهى الشريط الرابع.(1/122)
نقول: الشرك الأصغر، ومن باب أولى الشرك الأكبر هذا جنسه أكبر من الكبائر؛ يعني العملية، فأنواع الشرك الأصغر ولو كان لفظيا مثل قول ما شاء الله وشئت، مثل الحلف بغير الله، أو نسبة النِّعم إلى غير الله، أو نسبة اندفاع النقم إلى غير الله، أو تعليق التمائم ونحو ذلك. هذه من حيث الجنس أعظم -هي كبائر- من كبائر العمل الذي لا يصاحبه اعتقاد؛ وذاك لأن الأعمال تلك كالزنا والسرقة ونحوها من الكبائر العملية هذه ليس فيها سوء ظن بالله جل وعلا وليس فيها صرف عبادة لغير الله أو نسبة شيء لغير الله جل وعلا، وإنما هي من جهة الشهوات, والأخرى هي من جهة الاعتقاد لغير الله وجعل غير الله جل وعلا نِدًّا لله سبحانه وتعالى.
وأعظم الذنب أن يجعل المرء لله نداًّ وهو خلقه جل وعلا.
س/ لماذا لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه في حديث ذات الأنواط؟
ج/ من المعلوم أنَّ الشريعة جاءت بالإثبات المفصَّل والنفي المجمل، والنفي إذا كان مجملا فإنه ينبني تحته صور كثيرة يُدخلها من فهم النفي في الدلالة، فلا يحتاج مع النفي على أن ينبه كل فَرد فرد.
لهذا نقول من فهم لا إله إلا الله لم يُحتج إلى أن يفصل له كل مسألة من المسائل، فمثلا النذر لغير الله ليس فيه حديث النذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله ليس فيه حديث الذبح لغير الله شرك، ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة, وهكذا في العكوف عند القبور، أو العكوف والتبرك عند الأشجار والأحجار، لم يأتِ به الشيء الصريح؛ لكن نفي إلهية غير الله جل وعلى يدخل فيها عند من فهم معنى العبادة كل الصور الشركية.
ولهذا الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا ما دخل تحت هذا النفي, ولم يطلب ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط إلا من كان حديث عهد بكفر؛ يعني لم يسلم إلا قريبا، وهم قلة ممن كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى حنين.
والإثبات يكون مفصلا, وتفصيل الإثبات:(1/123)
تارة يكون بالتنصيص.
وتارة يكون بالدلالة العامة من وجوب إفراد الله جل وعلا بالعبادة مثلا، ?اعْبُدُوا [اللَّهَ](1) مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?(2) ونحو ذلك من الآيات.
والأدلة الخاصة بالعبادة كقوله ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا?[الإنسان:7]، وكقوله ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر:2]، وكقوله ?تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ?[الأنفال:9]، فهذه أدلة إثبات تثبت أن تلك المسائل من العبادات، وإذا كانت من العبادات فنقول لا إله إلا الله يقتضي بالمطابقة أنه لا تصرف العبادة إلا لله جل وعلا.
إذن فيكون ما طلبه أولئك من القول الذي يعملوه راجع إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نُفي لهم مجملا بقوله إله إلا الله.
س/ فضيلة الشيخ: ما حكم التبرك بالصالحين وبماء زمزم والتعلق بأستار الكعبة؟
التبرك بالصالحين قسمان:
"تبرك بذواتهم، بعرقهم، بسورهم؛ يعني بقية الشراب، بلعابهم الذي اختلط بالنوى مثلا أو ببعض الطعام، أو التبرك بشعرهم، أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز وهو من البدع المحدثة، وقد ذكرت لكم أنَّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يعملون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -وهم سادة أولياء هذه الأمة- شيئا من ذلك، وإنما فعله الخُلوف الذين يفعلون مالا يؤمرون ويتركون ما أُمِروا به.
"والقسم الثاني بركة عمل: وهي الإقتداء بالصالحين في صلاحهم، والاستفادة من أهل العلم، التأثر بأهل الصلاح، وهذا أمر مطلوب، والتبرك بالصالحين بهذا المعنى مطلوب شرعا.
أما التبرك بالذات كما كان يفعل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا ليس لأحد إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) الشيخ قال: ربكم.
(2) الأعراف:59، 65، 73، 85، هود:50، 61، 84، المؤمنون:23، 32.(1/124)
أما التبرك بماء زمزم فإن شُرب ماء زمزم بما جاء به الدليل ولما جاء به الدليل لا بأس به، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال في ماء زمزم "إنها طعام طعم وشفاء سقم" فمن شربها طعاما أو شفاء سقم شرب بما دل عليه الدليل, كذلك شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه فهذا أيضا جائز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ماء زمزم لما شرب له".
فإذن: أن يجعل ماء زمزم سببا لأشياء يريدها، فهذا راجع إلى أنه أُذن به شرعا، ولو شرب ماء آخر مثلا، ماء صحة وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن, فيكون هذا اعتقادا خاطئا؛ لأن ما جاء فيه الدليل هو الذي يجعل ذلك السبب مؤثرا أو جائزا أن يُعتقد أنه مؤثر.
أما التعلق بأستار الكعبة رجاء البركة هذا من وسائل الشرك ومن الشرك الأصغر كما ذكرت لكم بالأمس إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب.
أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله أو أنه إذا فعل ذلك عَظُم قدره عند الله وأن الكعبة يكون بها شفاعة عند الله أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله جل وعلا فهذا يكون التبرك على ذاك النحو شرك أكبر.
ولهذا يقول كثير من أهل العلم: إن أنواع هذا التبرك بحيطان المسجد المحرم أو بالكعبة ونحو ذلك، أو بمقام إبراهيم التمسح بذلك رجاء البركة من وسائل الشرك؛ بل هو من الشرك، من وسائل الشرك الأكبر، بل هو من الشرك يعني الشرك الأصغر كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.](1)
[س/ وهذا يقول ما رأيكم في امرأة طلبت من قريب لها ذاهب إلى مكة أن يشتري لها كفننا من هناك وأن يغسل الكفن بماء زمزم، يقول وهذا الأمر منتشر وجزاكم الله خيرا؟
ج/ هذا تبرك بما يباع في مكة واعتقاد فيه، وهذا باطل، ولا يجوز؛ لأنّ ما يباع في مكة ليس له خصوصية في البركة وليس له خصوصية في النفع؛ بل هو وما يباع في غيره سواء، هو وما يباع في غير الحرم سواء.
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الخامس.(1/125)
وأما غسله بماء زمزم لرجاء أن يكون ذلك الكفن فيه بركة ماء زمزم فكذلك هذا غلط؛ لأن بركة ماء زمزم مقيدة بما ورد فيه الدليل، ليست بركة عامة إنما هي بركة خاصة بما جاء فيه الدليل، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يستعملون ماء زمزم إلا فيما جاءت به الأدلة من مثل "ماء زمزم لما شرب له" ومن مثل قوله عليه الصلاة والسلام في زمزم "إنما طعام طعم وشفاء سقم"، أما التبرك بها في غير ذلك فهذا ليس له أصل شرعي.
س/ وهذا يقول ما حكم الاغتسال بماء زمزم والماء المقروء فيه بالقرآن في بيوت الخلاء؟
ج/ لا بأس في ذلك؛ لأنه ليس فيه قرآنا مكتوبا وليس فيه المصحف مكتوبا، وإنما فيه الريح النفس الهواء الذي خالطه المصحف أو خالطته القراءة، ومن المعلوم أن أهل مكة في أزمنتهم الأولى كانوا يستعملون ماء زمزم ولم يكن عندهم غير ماء زمزم.
فالصواب أن لا كراهة في ذلك وأنه جائز والماء ليس فيه قرآن إنما فيه نفس بالقرآن وفرق بين المقامين.] (1)
¹
باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?الآية[الأنعام: 162-163].
وقوله: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر: 2].
عن علي - رضي الله عنه -، قال: حَدّثَنِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بِأَرْبَعٍ كَلِمَاتٍ "لَعَنَ اللّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللّهِ. لَعَنَ اللّهُ مَنْ آوَىَ مُحْدِثاً. لَعَنَ اللّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ. لَعَنَ اللّهُ مَنْ غَيّرَ الْمَنَارَ." رواه مسلم
__________
(1) مأخوذ من الوجه الثاني للشريط السابع من باب الشفاعة.(1/126)
وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقربه. قالوا له: قرب ولو ذباباً. فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار. فقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة" رواه أحمد
[الشرح]
قال بعد ذلك: باب ما جاء في الذبح لغير الله من الوعيد وأنه شرك بالله جل وعلا.
وقول الشيخ رحمه الله (باب ما جاء في الذبح لغير الله)، (الذبح) معروف وهو إراقة الدم، و(لغير الله) اللام هذه يعني متقربا به إلى غير الله، ذبح لأجل غير الله.
الذبح فيه شيئان مهمان، وهما نكتة هذا الباب وعقدته:
الأول: الذبح باسم الله، أو الذبح بالإهلال باسم ما.
والثاني: أن يذبح متقربا لما يريد أن يتقرب إليه.
فإذن ثَمَّ تسمية، وثَم القصد.
½ أما التسمية فظاهر أن ما ذكر اسم الله عليه فإنه جائز ?فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ?[الأنعام:118]، وأن ما لم يذكر اسم الله عليه فهذا الذي أُهِلَّ لغير الله؛ يعني ذكر غير اسم الله عليه فهذا أهل لغير لله به، ?وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ?[البقرة:173]، ?وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ?(1).
التسمية على الذبيحة من جهة المعنى استعانة، فإذا سمّى اللهَ فإنه استعان في هذا الذبح بالله جل وعلا؛ لأن الباء في قولك بسم الله. يعني أذبح متبركا ومستعينا بكل اسم لله جل وعلا، أو بالله جل وعلا الذي له الأسماء الحسنى.
فإذن جهة التسمية جهة استعانة.
½ وفأما القصد فهذه جهة عبودية ومقاصد. فذبح بسم الله لله، كانت الاستعانة بالله والقصد من الذبح أنه لوجه الله تقرب لله جل وعلا.
__________
(1) المائدة:3، النحل:115.(1/127)
فصارت الأحوال عندنا أربعة:
الأول: أن يذبح بسم الله لله، وهذا هو التوحيد.
الثانية: أن يذبح بسم الله لغير الله، وهذا شرك في العبادة.
الثالثة: أن يذبح بسم غير الله لغير الله، وهذا شرك في الاستعانة، وشرك في العبادة أيضا.
الرابعة: أن يذبح بغير بسم الله ويجعل الذبيحة لله وهذا شرك في الربوبية.
فإذن الأحوال عندنا أربعة إما أن يكون تسمية مع القصد لله حل وعلا وحده وهذا هو التوحيد وهو العبادة.
فالواجب أن يذبح لله قصدا، تقربا، وأن يسمي الله على الذبيحة:
"فإن لم يسمِّ الله جل وعلا وترك التسمية عمدا فإن الذبيحة لا تحل.
"وإن لم يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله جل وعلا ولا التقرب لغيره، وإنما ذبحها لأجل أضياف عنده أو لأجل أن يأكلها؛ يعني ذبحها لقصد اللحم لم يقصد بها التقرب فهذا جائز وهو من المأذون فيه؛ لأن الذبح فيه لا يُشترط فيه أن ينوي الذابح التقرب بالذبيحة إلى الله جل وعلا.
فإذن صار عندك في المسألة الأولى أو الحالة الأولى: -مهمة- أن تعلم أن ذكر اسم الله على الذبيحة واجب، وأن يكون قصدك بالتقرب بهذه الذبيحة -إن نويت بها تقربا- أن يكون لله لا لغيره، وهذا مثل ما يُذبح من الأضاحي أو يُذبح من الهدي أو نحو ذلك مما يذبحه المرء تعظيما لله جل وعلا، عقيقة، ونحو ذلك مما أمر به شرعا فهذا تذبحه لله؛ يعني أن يقصد التقرب لله بالذبيحة، فهذا من العبادات العظيمة التي يحبها الله حل وعلا، وهي عبادة النحر والذبح.
قد يذبح بسم الله؛ لكن أريدها للأضياف أريدها للحم آكل لحما ولم أتقرب بها لغير الله، أيضا لم أتقرب بها لله، فنقول: هذه الحالة جائزة لأنه سمى بسم الله ولم يذبح لغير الله فليس داخلا في الوعيد ولا في النهي؛ بل ذلك من المأذون فيه.(1/128)
الحال الثانية: أن يذبح بسم الله ويقصد بالتقرب أن هذه الذبيحة لغير الله، فيقول مثلا بسم الله وينحر الدم، وهو ينوي بإزهاق النفس وبإراقة الدم ينوي التقرب لهذا العظيم المدفون، لهذا النبي أو لهذا الصالح، فهو لو ذبح بسم الله فإن الشرك حاصل من جهة أنه أراق الدم تعظيما للمدفون، تعظيما لغير الله، كذلك يدخل فيه أن يذكر اسم الله على الذبيحة أو على المنحور ويكون قصده بالذبح أن يتقرب به للسلطان أو للملوك أو لأمير ما، وهذا يحدث عند بعض البادية أو كذلك بعض الحضر إذا أرادوا أن يعظموا ملكا قادما, أميرا قادما, أو أن يعظموا سلطانا أو شيخ قبيلة فإنهم يستقبلونه بالجِمَال، يستقبلونه البقر, يستقبلونه بالشياه يعني بالضأن، الخرفان، ويذبحونها في وجهه فيسيل الدم عند إقباله، هذا ذبح ولو سمى الله عليه لكن تكون الذبيحة قُصِد بها غير الله جل وعلا وهذه أفتى العلماء بتحريمها؛ لأن فيها إراقة دم لغير الله جل وعلا فلا يجوز أكلها ومن باب أولى قبل ذلك لا يجوز تعظيم أولئك بمثل هذا التعظيم؛ لأن إراقة الدم إنما يعظم به الله حل وعلا وحده؛ لأنه هو الذي سبحانه يستحق العبادة والتعظيم بهذه الأشياء وهو الذي أجرى الدماء في العروق سبحانه وتعالى.
الحال الثالثة:أن يذكر غير اسم الله وأن يقصد بالذبيحة غير الله جل وعلا، فيقول مثلا باسم المسيح ويحرِّك يده ويقصد بها التقرب للمسيح، فهذا الشرك جمع شرك الاستعانة وشركا في العبادة، أو أن يذبح باسم البدوي أو باسم الحسين أو باسم السيدة زينب أو باسم العيدروس أو باسم المرغناني أو نحو ذلك من الناس الذين توجه إليهم بعض الخلق بالعبادة، فيذبح باسمها ويقصد بها هذا المخلوق؛ يعني ينوى حين ذبح أن يريق الدم تقرباَََََ لهذا المخلوق.
فهذا الشرك جاء من جهتين:
الجهة الأولى: جهة الاستعانة.
والجهة الثانية: جهة العبودية والتعظيم وإراقة الدم لغير الله جلَّ وعلا.(1/129)
والرابع: أن يذبح باسم غير الله ويجعل ذلك لله جل وعلا، وهذا نادر، وربما حصل من أنه يذبح البدوي, أو يذبح للعيدروس أو يذبح للشيخ عبد القادر أو نحو ذلك ثم ينوي بهذا أن يتقرب إلى الله جل وعلا، وهذا في الحقيقة راجع إلى الشرك في الاستعانة والشرك في العبادة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض كلام له في هذه المسائل قال: ومعلوم أن الشرك في العبودية أعظم من الاستعانة بغير الله. فهذه المراتب أعظمها كلها شرك بالله جل وعلا.
والحالة الثانية صورة منها أن يذبح لسلطان أو نحوه. بعض العلماء ما أطلق عليها أنها شرك وإنما قال تحرم لأجل أنه لا يقصد بذلك تعظيم ذلك كتعظيم الله جل وعلا.
المقصود أن الشرك يقصد الذبح لغير الله شرك في العبودية والشرك بذكر غير اسم الله على الذبيحة شرك في الاستعانة، ولهذا قال جل وعلا ?وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ?[الأنعام:121]؛ يعني إن أطعتموهم في الشرك فإنكم لمشركون كما أنهم مشركون.
نكمل إن شاء الله بقية الباب غدا بإذن الله.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فأنبه على مسألة ألا وهي أن الكلام في مسائل التوحيد تقريرا واستدلالا وبيان وجه الاستدلال من الأمور الدقيقة، والتعبير عنها يحتاج إلى دقة من جهة المعبِّر وأيضا من جهة المتلقي.
أقول هذا لأن بعض الإخوة استشكلوا بالأمس وقبله واليوم أيضا بعض العبارات، ومدار الاستشكال أنهم ما دقَّقوا فيما قيل؛ إما أن يحذفوا قيدا، أو يحذفوا كلمة، أو يأخذ المعنى الذي دل عليه الكلام ويعبر عنه بطريقته، وهذا غير مناسب.(1/130)
لهذا ينبغي أن يكون المتلقي لهذا العلم دقيقا فيما يسمع؛ لأن كل مسألة لها ضوابطها ولها قيودها، وأيضا بعض المسائل يكون الكلام عليها تارة مجملا، وفي بعض ما سمعه المتلقي يكون سمع أحد الأحوال وهي فيها تفصيل، ويكون الكلام عليها من حيث الإجمال غير الكلام عليها من حيث التفصيل.
نواصل الحديث على باب ما جاء في الذبح لغير الله.
قال الإمام رحمه الله تعالى (وقول الله تعالى: ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?الآية[الأنعام: 162-163]) هذه الآية فيها أن عبادة الصلاة وعبادة النسك وهو الذبح لله جل وعلا، وقال هنا (قُلْ إِنَّ) و(إِن) من المؤكدات، ومجيء التأكيد في الجمل الخبرية معناه أنَّ من خوطِب بذلك منكر لهذا الأمر أو منزَّل منزلة المنكر له، ولهذا يكون الاستدلال بهذه الآية على أنه خوطب بها من ينكر أن الصلاة لله وحده استحقاقا وأن الذبح لله وحده استحقاقا، وهم المشركون، فدلّ على أن هذه الآية في التوحيد؛ يعني في توحيد الذبح لأجل الله جل وعلا وأن الذبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب جل وعلا.
قال هنا (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) والنسك هو الذبح أو النحر؛ يعني التقرب بالدم، والتقرب بالدم لله جل وعلا عبادة عظيمة؛ لأن الذبائح أو المنحورات -الإبل؛ البقر، الغنم من الضأن والماعز- هذه مما تعظم في نفوس أهلها.
ونحرُها تقربا لله جل وعلا والصدقة بها عبادة عظيمة:
"فيها إراقة الدم لله.
"وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله جل وعلا.
"وفيها حسن الظن بالله تبارك وتعالى.
"وفيها التخلص من الشُّح والرغب فيما عند الله سبحانه بإزهاق نفس ما هو عزيز عند أهله.
ولهذا كان النحر والذبح من العبادات العظيمة التي يحبها الله جل وعلا، وهذه الآية دلَّت على أن النحر والصلاة عبادتان؛ لأنه جعل النسيكة لله، والله جل وعلا له من أعمال خلقه العبادات.(1/131)
فلهذا صار وجه الدلالة أن قوله (وَنُسُكِي) فيه دلالة على أنَّ النُّسك عبادة من العبادات وأنه مستحَق لله جل وعلا.
قوله (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) اللام هنا المتعلقة بقوله (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) لام الاستحقاق.
لأن اللام في اللغة وفيما جاء من الاستعمال في القرآن:
"تأتي لام المِلْك?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ?[الكهف:79]؛ يعني يملكونها.
"أو تكون لام الاختصاص وهو شبه الملك.
"أو تكون لام الاستحقاق مثل?الْحَمْدُ لِلَّهِ? يعني جميع أنواع المحامد مستحَقة لله.
كذلك اللام هنا (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي... لِلَّهِ) يعني مستحَقّة لله جل وعلا.
قال سبحانه (وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ)، وهنا (وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) تكون اللام هذه -مع أنها واحدة-؛ لكن لكي يكون معناها رجوعها للأول غير معناها في رجوعها للمحيى والممات، فإن الله جل وعلا قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) المحيى والممات يعني الإحياء والإماتة وهذه بيد الله جل وعلا ولله مِلكا فهو الذي يملكها سبحانه لأنها من أفراد ربوبيته جل وعلا على خلقه.
فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية وعلى توحيد لربوبية؛ (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) هذا توحيد الإلهية, (وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي) هذا توحيد الربوبية لله, اللام إذا أرجعتها للأوليين الصلاة والنسك صار معناها الاستحقاق، وإذا أرجعتها للأخير صار معناها المِلك، ولهذا يقول أهل التفسير هنا (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) لله استحقاقا، (وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي) لله ملكا وتدبيرا وتصرفا.(1/132)
قال (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ) وهذا وجه استدلال ثالث بحيث قال (لَا شَرِيكَ لَهُ) يعني في ما مر؛ لا شريك له في الصلاة والنسك فلا يتوجه بالصلاة والنسك إلى أحد مع الله جل وعلا أو من دونه، وكذلك لاشريك له في الملك في المحيى والممات؛ بل هو المتفرد سبحانه بأنواع الجلال وأنواع الكمال وهو المستحق للعبادة وهو ذو الملكوت الأعظم.
قال (وقوله: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر: 2]) قال (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) فأمر بالصلاة وأمر بالنحر، وإذا أمر به فهو داخل في حد العبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والصلاة أمر بها الله جل وعلا وهي محبوبة لديه إذن، والنحر أمر الله جل وعلا به فهو محبوب ومرضي له إذن، فيكون إذن النحر عبادة لله جل وعلا، وفي التعريف الآخر أنّ العبادة هي كل ما يتقرب به العبد جل وعلا ممتثلا به الأمر والنهي، صادق على هذا؛ لأن النحر يعمل تقربا إلى الله جل وعلا بامتثال الأمر والنهي.
قال سبحانه ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ?[الكوثر:1]، (الْكَوْثَرَ) هو الخير العظيم الذي منه النهر الذي في الجنة, (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الفاء هذه سببية؛ يعني بسبب ذلك أشكر الله جل وعلا بتوحيده بأن صلّ إلى ربك الذي أعطاك ذلك الخير الكثير وتقرب إليه بالنحر وبنَسك النسائك لله سبحانه؛ لأن الخير إنما أسداه جل وعلا وحده.
إذن وجه الدلالة من هذه الآية على هذا الباب أن النحر عبادة وقد قال الله جل الله وعلا (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) يعني وانحر لربك، فصار النحر لغير الله والذبح لغير الله خارج عمّا أمر الله به، فهو إذا صرف للعبادة لغير الله جل وعلا.(1/133)
قال رحمه الله (عن علي - رضي الله عنه -، قال: حَدّثَنِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بِأَرْبَعٍ كَلِمَاتٍ "لَعَنَ اللّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللّهِ. لَعَنَ اللّهُ مَنْ آوَىَ مُحْدِثاً. لَعَنَ اللّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ. لَعَنَ اللّهُ مَنْ غَيّرَ الْمَنَارَ." رواه مسلم) الشاهد من هذا قوله (لَعَنَ اللّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللّهِ) وهذا وعيد يدل على أن الذابح لغير الله ملعون، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وعلا، فإذا كان الله هو الذي لعن فيكون قد طرد وأبعد من رحمة الله الخاصة, يكون جل وعلا قد طرد وأبعد هذا الملعون من رحمته جل وعلا الخاصة، أمّا الرحمة العامة فهي تشمل المسلم والكافر وجميع أصناف الخلق.
وإن كان دعاءٌ باللعن عليه (لَعَنَ اللّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللّهِ) كأن النبي عليه الصلاة والسلام قال داعيا على من ذبح لغير الله جل وعلا باللعن وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وعلا، هذا يدل على أن الذبح لغير الله من الكبائر، ومن المعلوم اقتران ذنب من الذنوب باللعن يدل على أنه من الكبائر من كبائر الذنوب، وهذا ظاهر من جهة أن الذبح لغير شرك بالله عز وجل يستحق صاحبه اللعنة والطرد و الإبعاد من رحمة الله جل وعلا.
فقوله (لَعَنَ اللّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللّهِ), اللام هذه يعني من أجل غير الله تقربا إليه وتعظيما، فذبح لغير الله تقربا إلى ذلك الغير وتعظيما إلى ذلك الغير, وهذا وجه مناسبة هذا الحديث لباب ما جاء في الذبح لغير الله يعني من الوعيد وأنه شرك ومن الوعيد أن صاحبه ملعون.(1/134)
الحديث الآخر قال (وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقربه. قالوا له: قرب ولو ذباباً. فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار. فقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة" رواه أحمد) وجه الدلالة من هذا الحديث أن التقريب للصنم بالذبح كان سببا لدخول النار، وذلك من حيث ظاهر المعنى أن من فعله كان مسلما فدخل النار بسبب ما فعل وهذا يدل على أن الذبح لغير الله شرك بالله جل وعلا-شرك أكبر-؛ لأن ظاهر قوله دخل النار يعني استوجبها مع من يخلد فيها.
ووجه الدلالة أيضا أن تقريب هذا الذي لا قيمة له -وهو الذباب- يدل على أن من قرَّب ما هو أبلغ وأعظم منفعة وأعظم عند أهله وأغلى أنه سبب أعظم لدخول النار, وقوله هنا (قرِّب) يعني اذبح تقربا، والْحَظْ هنا أنهم لم يكرهوهم بالفعل، فالحديث لم يدلَّ على أنهم أُكرهوا؛ لأنه قال (مرَّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرّب له شيئا), فظاهر قوله (لا يجوزه أحد) يعني أنهم لا يأذنون لأحد بمجاوزته عند ذلك الطريق حتى يقرب وهذا ليس إكراها إذ يمكن أن يقول سأرجع من حيث أتيت، ولا يجوز ذلك الموضع ويتخلص من ذلك.(1/135)
وهذا يدل على أن الإكراه بالفعل لم يحصل من أولئك(1) فلا يدخل هذا في قوله ?إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا?[النحل:106]؛ لأنه ليس في الحديث دلالة -كما هو ظاهر- على حصول الإكراه وإنما قال (مرَّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرّب له شيئا)، (لا يجوزه أحد) ما صفة عدم السماح بعدم المجاوزة؟ هل هو أنه لا يجوزه حتى يقتل أو يقرب؟ أو لا يجوزه حتى يقرب أو يرجع؟
بعض العلماء استظهر من قوله في آخر الحديث من قتلهم لأحد الرجلين: أنه لا يجوزه حتى يُقتل، وأن هذا عُلم بالسياق، فصار ذلك نوع إكراه. فلهذا استشكلوا كون هذا الحديث دالا على أنّ من فعل هذا الفعل يدخل النار مع أنه مكره.
والجواب عن هذا الإشكال: أن هذا الحديث على هذا القول -وهو أنه حصل منهم الإكراه بالقتل- أن هذا الحديث فيمن كان قبلنا، ورفع الإكراه أو جواز قول كلمة الكفر أو عمل الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان هذا خاص بهذه الأمة, هذا أجاب به بعض أهل العلم.
والثاني وهو ما قدمتُ: أنّ السياق ليس بمتعين على أنهم هددوه بالقتل، وإذا كان غير متعين بأنهم هددوه بالقتل فإنه لا يُحمل على شيء مجمل لم يُعيَّن، ودلالة قوله هنا (فضربوا عنقه) يعني فيمن لم يقرب فدخل الجنة ربما لأنه أهان صنمهم بقوله (ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل).
لهذا لاستشكل هذا الحديث طائفة من أهل العلم وهو بحمد الله ليس فيه إشكال؛ لأنه:
"إمّا أن يُحمل على أنه كان فيمن كان قبلنا فلا وجه إذا لدخول الإكراه.
"أو يُحمل على أنهم لم يكرهوه حين أراد المجاوزة ولكن قتلوه لأجل قوله (لم أكن لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل).
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.(1/136)
إذن هذا الباب وهو قوله (باب ما جاء في الذبح لغير الله) ظاهر في الدلالة على أن التقرب لغير الله جل وعلا بالذبح أنه شرك بالله جل وعلا في العبادة، فمن ذبح لغير الله تقربا وتعظيما فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة.
¹
[الأسئلة]
[س/ وهذا يقول: يقول: أهلي يذبح الذبيحة يوزعها على المساكين لدفع البلاء فهل تجوز تلك النية؟
ج/ هذا فيه تفصيل: ذلك أن ذبح الذبائح إذا كان:
من جهة الصدقة ولم يكن لدفع شيء متوقَّع أو لرفع شيء حاصل ولكن من جهة الصدقة وإطعام الفقراء، فهذا لا بأس به، داخل في عموم الأدلة التي فيها الحض على الإطعام وفضيلة إطعام المساكين.
وأما إن كان الذبح؛ لأن بالبيت مريضا فيذبح لأجل أن يرتفع ما بالمريض من أذى، فهذا لا يجوز ويحرم. قال العلماء: سدا للذريعة. ذلك لأنّ كثيرين يذبحون حين يكون بهم مرض لظنهم أن المرض كان بسبب الجن أو كان بسبب مؤْذ من المؤْذين، إذا ذبح الذبيحة وأراق الدم فإنه يندفع شره أو يرتفع ما أحدث، وهذا لا شك أنه اعتقاد محرم ولا يجوز.
والذبيحة لرفع المرض والصدقة بها عن المريض. قال العلماء: هي حرام ولا تجوز سدا للذريعة، وللشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق رسالة خاصة في الذبح للمريض.
كذلك إذا كان الذبح لدفع أذى متوقع مثلا كان بالبلد داء معين فذبح لدفع هذا الداء، أو كان في الجهات التي حول البيت ثَمَّ شيء يؤذي، فيذبح ليندفع ذلك المؤذي؛ إما لص مثلا يتسلط على البيوت، أو أذى يأتي للبيوت فيذبح ويتصدق بها لأجل أن يندفع ذلك الأذى، هذا أيضا غير جائز ومنهي عنه سدا للذريعة؛ لأن من الناس من يذبح لدفع أذى الجن وهو شرك بالله جل وعلا.(1/137)
فإذن تحصَّل من ذلك أنّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "داووا مرضاكم بالصدقة" فيما رواه أبو داوود وغيره، وقد حسنه بعض أهل العلم وضعفه آخرون، أن معنى (داووا مرضاكم بالصدقة) يعني بغير إراقة الدم، فيكون إراقة الدم مخصوص من ذلك من المداواة بالصدقة؛ لأجل ما فيه من وسيلة إلى الاعتقادات الباطلة.
ومعلوم أن الشريعة جاءت لسد الذرائع جميعا -يعني الذرائع الموصلة إلى الشرك-، وجاءت أيضا بفتح الذرائع الموصلة إلى الخير، فما كان من ذريعة يوصل إلى الشرك والاعتقاد الباطل فإنه يُنهى عنه.] (1)
س/ فضيلة الشيخ مما يقع فيه كثير من الناس أنه إذا حصل له أمر، ونجا منه، فإنه يجب عليه أن يتصدق.
ج/ الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب، والشكر لله جل وعلا على نعمه، إذا نُجِّيَ العبد من بلاء، أو حصلت له مسرَّة يكون تارة بالسجود، وتارة بالصلاة، أو بالصدقة شكرا لله جل وعلا على نعمه، وهذا كله من المستحب، وليس من الواجب، إلا إذا كان ثم نذْر، نذر أنه إن نُجِّي من كذا وكذا، فإنه سيتصدق، فهنا يكون ألزم نفسه بعبادة ألا وهي الصدقة إذا حصل له كذا وكذا؛ فتكون واجبة بالنذر.
أما أصل الصدقة فهو مستحب، وإذا كانت في مقابلة نعمة، أو اندفاع نقمة، فهي أيضا مستحبة، وليست بواجبة، لا تجب إلا إذا نذر و تحقق الشرط. نعم.
س/ فضيلة الشيخ إذا كان الذبح لا يجوز لدفع المرض فكيف نجمع بينه وبين الحديث: "داووا مرضاكم بالصدقة"؟
ج/ هذا أجبت عنه بالأمس.
س/ وهذا يقول: عندنا عادة وهي أن من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء بتعدٍّ من أحدهما على الآخر، فيطلبون من أحدهما أن يذبح ويسمون ذلك ذبح صلح، فيذبح؛ يحضرون معهم من حصلت معه هذه العداوة، فما حكم ذلك؟
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الرابع، من باب ما جاء في الرقى والتمائم.(1/138)
ج/ ذبح الصلح الذي تعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة لا يجوز؛ لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه، ويريقون الدم تعظيما له أو إجلالا لإرضائه. وهذا يكون محرما؛ لأنه لم يُرِق الدم لله جل وعلا وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان، وهذا الذبح محرم والذبيحة أيضا لا يجوز أكلها؛ لأنها لم تُهَلَّ أو لم تذبح لله جل وعلا وإنما ذبحت لغيره.
فإن كان الذبح أن هذا صفته من جهة التقرب والتعظيم صار شركا أكبر، وإن لم يكن من جهة التقرب والتعظيم صار محرما؛ لأنه لم يَخلص من أن يكون لغير الله.
فصار عندنا في مثل هذه الحالة وكذلك في الذبح للسلطان ونحوه في المسألة التي مرت علينا بالأمس أن يكون الذبح في مقدمة وأن يراق الدم بقدومه وبحضرته، هذا قد يكون على جهة التقرب والتعظيم، فيكون الذبح حينئذ شركا أكبر بالله جل وعلا؛ لأنه ذبح وإراقة الدم تعظيما للمخلوق وتقربا إليه.
وإن لم يذبح تقربا أو تعظيما وإنما ذبح لغاية أخرى مثل الإرضاء ولكنه شابه أهل الشرك في ما يذبحونه تقربا وتعظيما، فنقول الذبيحة لا تجوز ولا تحل والأكل منها حرام.
ويمكن للإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم أو في قبائلهم مثل هذا الذي المسمى ذبح الصلح ونحوه أن يبدلوه بخير منه وهو أن تكون وليمة للصلح، فيذبحون للضيافة يعني يذبحون لا بحضرة من يريدون إرضاءه، ويدعونهم ويكرمونهم، وهذا من الأمر المرغب فيه أن يكون الذبح كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه ونحو ذلك.
س/ فضيلة الشيخ يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء؟ وجزاكم الله خيرا.
ج/ العلماء يقولون: ويكره دخوله الخلاء بشيء فيه ذكر الله، في آداب دخول الخلاء في الفقه، فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله إلى الخلاء مكروه. نكتفي.
[س/ وهذا يقول ما الحكم إذا ذبح العبد ذبيحة من أجل أن الله قد شاف مريضه وخرج من المستشفى؟(1/139)
ج/ هذا يرجع إلى نيته في ذبح هذه الذبيحة، فإذا كانت بعد الانتهاء من المرض وبعد إن ارتفع المرض وعوفي وشفي ذلك المريض بفضل الله جل وعلا وبنعمته، فهذا يختلف حاله:
إذا قصد أنها شكر الله جل وعلا يتصدق بلحمها فهذا حسن لأن المرض قد انتهى وارتفع فهو لا يقصد بها الاستشفاء، وإنما هي نوع شكر لله جل وعلا أو دعا عليها أحدا من أقربائه أو من ما يحبون ذلك المريض ونحو ذلك فهذا من باب الإكرام.
وإما إذا كان مقاصده أو نياته في هذا الذبح أن يدفع رجوع هذا المرض مرة أخرى، أو إن يدفع شيئا من انتكاسات المرض أن يدفع شيئا مما يخاف فهذا داخل في عدم الجواز سدا لذريعة الاعتقادات الباطلة.] (1)
¹
باب لا يُذبح لله في مكان يُذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: ?لاَ تَقُمْ فِِيهِ أَبَداً لََمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ?[التوبة: 108].
وعن ثَابِت بن الضّحّاكِ - رضي الله عنه -، قال: نَذَرَ رَجُلٌ أنْ يَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟". قالُوا: لاَ. قالَ: فهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟ قالُوا: لاَ. قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوْفِ بِنَذْرِكَ فَإنّهُ لاَ وَفَاءَ لِنِذْرٍ في مَعْصِيَةِ الله وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ". رواه أبو داوود، وإسناده على شرطهما
[الشرح]
__________
(1) مأخوذ من الوجه الثاني للشريط السابع من باب الشفاعة.(1/140)
قال الإمام رحمه الله باب (باب لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله)، وقوله هنا (لا يذبح لله) هذا على جهة النفي المشتمل على النهي؛ لأن من أساليب اللغة العربية أنه يُترك صراحة النهي إلى صريح النفي ليدل بدلالة أبلغ على أن النفي والنهي جميعا مقصودان، فكأنه لا يصح أن يقع أصلا، ولهذا أتى بصيغة النفي (باب لا يذبح لله)
وقال بعض أهل العلم يحتمل أن تكون على وجه النهي (باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله).
وقوله (لله)؛ (لا يذبح لله) يعني أنه تكون النسيكة أو أن تكون الذبيحة مراد بها وجه الله جل وعلا، (بمكان يذبح فيه لغير الله)، قال الإمام (بمكان) والباء هنا لها معنى زائد على كلمة (في)، وهذا المعنى الزائد أنها أفهمت معنى الظرفية ومعنى المجاورة جميعا؛ لأن الباء تكون للمجاورة أيضا كما تقول: مررت بزيد؛ يعني بمكان قريب من مكان زيد أو مكان مجاور لمكان زيد، والظرفية بـ(في) تفيد أنه في نفس المكان، واستعمال حرف الباء يفيد أنه مجاور لذلك المكان.
وهذان المعنيان جميعا مقصودان وهو أن لا يذبح لله:
"بمجاورة المكان الذي يذبح فيه لغير الله.
"ولا في نفس المكان الذي يذبح فيه لغير الله.
لأن الجميع فيها اشتراك مع الذين يذبحون لغير الله جل وعلا.
قال هنا (باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله) صورة المسألة أنّ مكانا ما يذبح فيه لغير الله، مثلا عند قبر أو عند مشهد أو عند مكان معظّم, المشركون أو الخرافيون اعتادوا أن يكون هذا المكان مما يتقربون فيه بالذبح لهذا الصنم أو الوثن أو القبر أو البقعة...إلى آخره، فإذا كانوا يتقربون لهذا المكان للقبر أو نحوه، ويذبحون لصاحب هذا القبر يعني من أجله، فإنه لا يحل أن يذبح المسلم الموحّد في هذا المكان، ولو كانت ذبيحته مخلصا فيها لله جل وعلا؛ لأنه يكون قد شابهَ أولئك المشركين في تعظيم الأمكنة التي يتعبدون فيها بأنواع العبادات ويصرفونها لغير الله جل وعلا.(1/141)
فالذبح لله وحده دونما سواه بإخلاص في المكان الذي يتقرب فيه لغير الله لا يحلّ ولا يجوز؛ بل هو من وسائل الشرك ومما يغري بتعظيم ذلك المكان، وحكمه أنه محرم ووسيلة من وسائل الشرك.
قال الشيخ رحمه الله تعالى ورفع درجاته في الجنة (وقول الله تعالى: لاَ تَقُمْ فِِيهِ أَبَداً) هذا النهي عن القيام في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، (لََمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) مسجد الضرار أُقيم إرصادا ومحادة لله ورسوله وتفريقا بين المؤمنين، فهو مكان أُقيم على الخيانة وعلى مضادة الإسلام وأهله، فلهذا لما كانت هذه غاية من أقامه فإن مشاركتهم فيه بالصلاة لا تجوز؛ لأنه إقرار لهم أو تكثير لسوادهم وإغراء للناس بالصلاة فيه، فنهى الله جل وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونهى المؤمنين عن أن يصلوا في مسجد الضرار.
مناسبة الآية للباب ظاهرة وهو أن الله جل وعلا نهى عن أن يُصليَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الضرار، ومعلوم أن صلاته عليه الصلاة والسلام وصلاة المؤمنين معه هي خالصة لله جل وعلا دون من سواه، ونُهوا مع أنهم مخلصون ليس عندهم نية الإضرار ولا التفريق ولا الإرصاد؛ لكن نهوا لأجل هذه المشاركة والمشابهة التي تغري بإتيان ذلك المكان.
وهذه هي الصورة الموجودة فيمن ذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله؛ فإنه وإن كان مخلصا لكن دعا إلى تعظيم ذلك المكان بفعله.
هنا إشكال أو إيراد وهو أنه جاء الإذن عن الصحابة بالصلاة في الكنيسة، (1)وقد صلى عمر - رضي الله عنه - في كنيسة بيت المقدس، والصحابة رضوان الله عليهم منهم من صلى ببعض كنائس البلاد، فصلاتهم في الكنائس لله جل وعلا أليست مشابهة للصلاة في مسجد الضرار أو للذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله؟
__________
(1) قال ابن عبد البر في التمهيد ج5ص229: وكذلك أحمعوا على أن من صلى في كنيسة أو بيعة في موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة.(1/142)
الجواب: أن هذا الإيراد ليس بوجيه؛ ذلك أن النهي عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الضرار وعن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله هذا لأجل أن صورة العبادة واحدة, فصورة الذبح من الموحد ومن المشرك واحدة وهي إمرار السكين -آلة الذبح- على الموضع وإزهاق الدم(1) في ذلك المكان، وهذا يحصل من الموحد ومن المشرك غير الموحد، الصورة واحدة، ولهذا لا يميز بين هذا وهذا، كذلك صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لو صلى والصحابة في مسجد الضرار صلاتهم مشابهة من حيث الصورة لصلاة المنافقين رجع الاختلاف إلى اختلاف ما في القلب, والنيات ومقاصد القلوب لا تُشرح للناس ولهذا تقع المفسدة ولا تحصل المصلحة.
وأما الصلاة في الكنيسة فإن صورة الفعل مختلفة؛ لأن صلاة النصارى ليست على هيئة وصورة صلاة المسلمين، فيعلم من رأى المسلم يصلي أنه لا يصلي صلاة النصارى وليس فيه إغراء بصلاة النصارى ومشاركتهم فيها، فهذا الفرق بين المسألتين.
__________
(1) الشيخ يريد: إراقة الدم وإزهاق الروح.(1/143)
قال (وعن ثَابِت بن الضّحّاكِ - رضي الله عنه -، قال: نَذَرَ رَجُلٌ أنْ يَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟". قالُوا: لاَ. قالَ: فهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟ قالُوا: لاَ. قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوْفِ بِنَذْرِكَ فَإنّهُ لاَ وَفَاءَ لِنِذْرٍ في مَعْصِيَةِ الله وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابنُ آدَمَ". رواه أبو داوود، وإسناده على شرطهما) هذا الحديث فيه أن رجلا نذر أن ينحر إبلا ببوانة, (بوانة) اسم موضع؛ نذر أن ينحر في هذا الموضع، والنبي عليه الصلاة والسلام استفصله؛ لأن المقام يقتضي الاستفصال، يتبادر للذهن لم خص هذا الرجل بوانة بأن ينحر فيها الإبل؟ لم؟ قد يكون لأن فيها عيدا من أعيادهم أو لأن فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد أو كان في ذلك الموضع؟ لأن التخصيص في الغالب يكون لغرض العبادة، لهذا استفصله النبي عليه الصلاة والسلام (فقال: "هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟". قالُوا: لاَ) هذا السؤال يدل على أنه لو تخلّف هذا الوصف لم يجز؛ لو وجد هذا الوصف وهو أنه كان ثمة وثن من أوثان الجاهلية يعبد لم يجز النحر في ذلك الموضع، وهو المراد من إيراد هذا الحديث في الباب.(1/144)
("هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ يُعْبَدُ؟". قالُوا: لاَ.) نستفيد من ذلك أنه لو كان فيها وثن لمنع ذلك الرجل من النحر وهو دلالة الترجمة, (قالَ: فهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟) العيد هو المكان أو الزمان الذي يعود أو يعاد إليه، فالعيد قد يكون مكانيا بأنه اسم للمكان الذي يُعتاد المجيء إليه ويرجع إليه في وقت معتاد، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -في المكان "لا تجعلوا قبري عيدا"يعني هذا المكان لا تجعلوه مكانا تعتادون المجيء إليه، وكذلك الأزمنة تكون أعيادا لأنه تعود في وقت معين، فقوله (هلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟)؛ يعني عيد مكاني؛ لأنه قال (هلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟) ويحتمل أيضا أن بكون عيدا زمانيا.
وأعياد المشركين من ناحية الأمكنة أو الأزمنة معلوم أنها راجعة إلى أديانهم ودينهم شركي، فإذن يكون المعنى أنهم يتعبدون في تلك الأعياد بعباداتهم الشركية ومما يفعل في أعياد المشركين وأعظم ما يفعل التقرب بالذبح وإراقة الدماء، فدل على أن مشاركة المشركين في مكان يتقربون فيه لغير الله بصورة مشابهة لفعلهم ظاهرا أن هذا لا يجوز؛ لأنه مشاركة لهم في الفعل الظاهر ولو كان مخلصا لا يذبح إلا لله أو لا يصلي إلا لله جل وعلا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أوْفِ بِنَذْرِكَ فَإنّهُ لاَ وَفَاءَ لِنِذْرٍ في مَعْصِيَةِ الله) قال العلماء قوله هنا (فَإنّهُ لاَ وَفَاءَ لِنِذْرٍ في مَعْصِيَةِ الله) ترتيب ما بعد الفاء على ما قبلها بالفاء يدلّ على أن سبب الإذن بالوفاء بالنذر أنّ ما قبله ليس بمعصية، والاستفصال يدل على أن الذبح لله في مكان فيه وثن يُعبد أو في عيد من أعياد المشركين يدل ذلك على أنه معصية لله جل وعلا، وبهذا يستقيم ما أراده الشيخ رحمه الله من الاستدلال والاستشهاد بهذا الحديث تحت ذلك الباب.
¹
[الأسئلة](1/145)
[س1/ هل يدخل في (باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله) ما يحصل وخاصة في أوربا وأمريكا من شراء كثير من المسلمين لكنائس القديمة ثم تعديلها لتكون مساجد أو هدم الكنيسة وبناء مسجد مكانها؟ نرجو التوجيه وجزاكم الله خيرا.
ج/ لا يدخل في ذلك لأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي الصلاة فيه مضاعفة أُقيم على مكان فيه قبور المشركين، بعد أن نُبشت تلك القبور وأزيل الرفات أقيم المسجد في ذلك المكان.
والكنيسة التي عُبد فيها غير الله جل وعلا إذا حُولت إلى مسجد فهذا من أعظم الطاعات، ومن أحب الأعمال لله جل وعلا.
وذكرت لكم أن الفرق بين هذه وبين (لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله) أن الذبح صورته مشتركة الصورة الظاهرة واحدة، وإنما الاختلاف في النيات ولهذا مُنع من ذلك، وأما عبادة المسلمين وصلاتهم وهيئة مساجدهم وجلوسهم إلى آخر تلك الهيئات مخالف لما عليه النصارى.
فإبدال الكنيسة بمسجد هذا أمر مطلوب إذا تمكن المسلمون منه، وهذا الذي فعله المسلمون في الأندلس؛ بل وفي بعض البلاد الأخرى كالشام ومصر.] (1)
¹
باب من الشرك النذر لغير الله تعالى
وقول الله تعالى: ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا?[الإنسان: 7].
وقوله: ?وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ?[البقرة: 270].
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "منْ نذَرَ أنْ يطيعَ اللهَ، فليطعْه، ومن نذر أن يعصيَ الله، فلا يعصِه".
[الشرح]
__________
(1) من الوجه الثاني من الشريط السادس.(1/146)
قال (باب من الشرك النذر لغير الله)، (من الشرك)، (من) ها هنا تبعيضية, (من الشرك النذر), (النذر) مبتدأ مؤخر, النذر لغير الله كائنٌ من الشرك، والشرك هنا المقصود به الشرك الأكبر؛ النذر لغير الله شرك أكبر بالله جل وعلا، ووجه كون النذر شركا بالله جل وعلا أنّ النذر المطلق والمقيَّد إيجاب عبادة على المكلف؛ لأن النذر هو إلزام المكلف نفسَه بعبادة لله جل وعلا، هذه حقيقة النذر، فالنذر إلزام بعبادة، فهو عبادة و يلزم المرء نفسه بعبادة إما مطلقا أو بقيد.
ويدل أيضا على أن النذر عبادة أن الله جل وعلا مدح الذين يوفون بالنذر فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) فهذا يدل على أن الوفاء بالنذر أمر مشروع واجب أو مستحب، وهو محبوب لله جل وعلا؛ يعني من حيث الدلالة، وإلا فإن الوفاء بالنذر واجب لأنه إلزام بالطاعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام (منْ نذَرَ أنْ يطيعَ اللهَ، فليطعْه).
فإذن الوفاء بالنذر مدح الله أهله وإذا كان كذلك فيكون عبادة لأنه محبوب لله جل وعلا.
وكذلك قوله (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) هذا يدل على محبة الله جل وعلا لذلك الذي حصل منهم تعظيما لله جل وعلا للنفقة، وإن كان كذلك فإنه عبادة من العبادات وإذا صُرف النذر لغير الله جل وعلا كان شركا بالله جل وعلا.
هاهنا سؤال معروف في هذا المقام: وهو أن النذر مكروه، قد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - النذر وسئل عنه فكرهه وقال "إنه لا يأتي بخير"، فكيف إذن يكون عبادة وقد كرهه عليه الصلاة والسلام؟
والجواب: أن النذر قسمان: نذر مطلق، ونذر مقيد.(1/147)
والنذر المطلق: هو أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله حل وعلا، هكذا بلا قيد؛ يعني يقول مثلا: لله علي نذر أن أصلي ركعتين, ليس في مقابله شيء يحدث في المستقبل أو شيء حدث له، فيُلزم نفسه بعبادة صلاة أو عبادة صيام أو نحو ذلك، فهذا النذر المطلق وهو إلزام العبد نفسه بطاعة لله حل وعلا أو بعبادة ليس هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام؛ لأن الذي كرهه وصفه بقوله "إنما يستخرج به من البخيل" وهذا هو:
النذر المقيد: الذي يجعل إلزام نفسه بطاعة لله جل وعلا مقابَلا بشيء يحدثه الله جل وعلا له ويقدره ويقضيه له، يقول مثلا إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أتصدق بكذا وكذا، إن نجحت فسأصلي ليلة, إن عينت في هذه الوظيفة فسأصوم أسبوعا ونحو ذلك، فهذا كأنه يشترط به على الله جل وعلا، فيقول: يا ربي إن أعطيتني كذا وكذا صمت لك, إن أنجحتني صليت أو تصدقت, إن شفيت مريضي فعلت كذا وكذا، وهذا بالمقابلة، وهذا الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (إنما يستخرج به من البخيل) لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها، فصار ما أعطاه الله من النعمة أو دفع عنه من النقمة كأنه في حس ذلك الناذر قد أعطي الأجر وأعطي ثمن تلك العبادة.
وهذا يستحضره كثير من العوام و الذين يستعملون النذور فإنهم يظنون أن حاجاتهم لا تحصل إلا بالنذر. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من أهل العلم: إن من ظن أنه لا تحصل حاجة من حاجاته إلا بالنذر فإنه في اعتقاد محرم؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظن بالله جل وعلا، وسوء اعتقاد فيه سبحانه وتعالى؛ بل هو المتفضل المنعم على خلقه.(1/148)
فإذن إذا تبين ذلك، فالنذر المطلق لا يدخل في الكراهة، وإذا قلنا النذر عبادة فنظر فيه إلى جهة المطلق وإلى جهة عدم التقييد فيما إذا قيد ووفي بالنذر فإنه يكون قد تعبد الله بتلك العبادة وألزم نفسه بها، فيكون النذر على ذلك نذرا يظهر أنه عبادة لله جل وعلا، والكراهة إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة، فإنه في النذر المقيد إذا قال إن كان كذا وكذا فلله عليّ كذا وكذا الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد لا إلى أصل النذر، دلّ على ذلك التعليل حيث قال "فإنما يستخرجه له من البخيل" إذن فلا إشكال إذن، والنذر عبادة من العبادات العظيمة.
وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن عملا من الأعمال صرفه لغير الله جل وعلا شرك أكبر، وذلك أن الاستدلال له نوعان:
µ فكل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد لله بالعبادة يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، هذا نوع من الأدلة، كل دليل فيه إفراد الله جل وعلا بالعبادة، يصلح أن تستدل به على أن عبادة ما لا يجوز صرفها لغير الله جل وعلا، بأي مقدمة؟ بأن تقول دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله جل وعلا، وأن من صرفها لغير لله جل وعلا فقد أشرك، وتلك العبادة الخاصة مثلا عندنا هنا النذر تقول هذه عبادة من العبادات، فهي داخلة في ذلك النوع من الأدلة.
µ والنوع الثاني من الاستدلال: أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها، تستدل على الذبح بأدلة خاصة وردت في الذبح، تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه على أدلة خاصة بالاستغاثة, وعلى أدلة خاصة بالاستعاذة ونحو ذلك.
فإذن الأدلة على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال.(1/149)
استدلال عام بكل آية أو حديث فيها أمر بإفراد الله بالعبادة والنهي عن الشرك فتُدخل هذه الصورة فيها لأنها عبادة بجامع تعريف العبادة.
والثاني أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة.
لهذا قال الشيخ رحمه الله هنا (باب الشرك النذر لغير الله) واستدلّ عليها بخصوص أدلة وردت في النذر.
والآيات التي قدّمها في أول الكتاب كقوله جل وعلا ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، وكقوله ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات: 56]، وكقوله ?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[النساء:36]، وكقوله ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام: 151]، هذه أدلة تصلح لأن تستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك, فتقول: النذر لغير الله عبادة والله جل وعلا نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهوّ مشرك، وتقول: النذر عبادة لأنه كذا وكذا لأنه داخل في حد العبادة حيث إنه يرضاه الله جل وعلا ومدح الموفين به.
الدليل الخاص أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر، ولهذا الشيخ هنا أتى بالدليل التفصيلي وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة.(1/150)
وهذا من الفقه الدّقيق في التصنيف وفِقْهِ الأدلة الشرعية من أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يدرك التنويع؛ لأن في تنويع الاستدلال وإيراد الأدلة من جهة ومن جهة أخرى ثالثة ورابعة ما يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله وللشرك به جل وعلا، وإذا أتيت مرة بدليل عام ومرة بدليل خاص ونوّعت فإنه يضيق، أما إذا ليس ثم دليل واحد فربما أوّلَه لكَ أو ناقشك فيه فيحصل ضعف عند المستدل، أما إذا أنتبه لمقاصد أهل العلم وحفظ الأدلة فإنه يقوى على الخصوم والله جل وعلا وعد عباده بالنصر ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:59]، وقد قال الشيخ رحمه الله في كشف الشبهات: والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين. وهذا صحيح فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد وأخذوها عن أهلها عندهم من الحجج ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين.
قال(وقول الله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)) وجه الاستدلال ظاهر وهو أن الله جل وعلا مدح الموفين بالنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن هذه العبادة محبوبة له جل وعلا وأنها مشروعة وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات فيكون صرفه لغير الله جل وعلا شرك أكبر.
كذلك (قوله: ?وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا للظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ?[البقرة: 270]) دال على أن النذر عظمه الله جل وعلا بقوله (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) وعظَّم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله جل وعلا.(1/151)
قال (وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ نذَرَ أنْ يطيعَ اللهَ، فليطعْه، ومن نذر أن يعصيَ الله، فلا يعصِه") وجه الدلالة من هذا الحديث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب الوفاء بالنذر فقال (منْ نذَرَ أنْ يطيعَ اللهَ، فليطعْه) وذلك إيجاب الوفاء بالنذر الذي يكون على طاعة؛ كأن يقول: لله عليَّ أن أصلي كذا وكذا. هذا يجب عليه أن يوفي بهذا النذر أو أن يكون نذرا مقيدا فيقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بمائة ريال. فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله جل وعلا، وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة لأن الواجب من أنواع العبادات، وأن ما كان وسيلة إليه فإنه أيضا عبادة لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هو النذر، فلولا النذر لم يأت الوفاء، فأُوجب الوفاء ولأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة.
قال(ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه) لأن إيجاب المكلف على نفسه معصية لله جل وعلا, هذه معارضة لنهي الله جل وعلا عن العصيان، وإذا نذر العبد العصيان فإن النذر -كما هو معلوم في الفقه- قد انعقد ويجب عليه أن لا يفي بتلك المعصية لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه.
المقصود من هذا أن استدلال الشيخ رحمه الله بالشِّق الأول وهو قوله (منْ نذَرَ أنْ يطيعَ اللهَ، فليطعْه) وهذا ظاهر، وكذلك في قوله (ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه) وأوجب عليه كفارة يمين فهذا يدل على أن أصله منعقد، وإنما انعقد لكونه عبادة، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر به جل وعلا.(1/152)
النذر لله جل وعلا عبادة عظيمة -كما ذكرنا-، والنذر لغير الله جل وعلا أيضا عبادة، فإذا توجه الناذر لغير الله بالنذر فقد عبده، وإذا توجه الناذر لله جل وعلا بالنذر فقد عبد الله جل وعلا, فالنذر إذا كان لله أو كان لغير الله فهو عبادة، فإذا كان لله فهو عبادة لله جل وعلا، وإذا كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير.
ونكتفي بهذا القدر وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[الأسئلة]
[س/ هل يعتبر نذر مطلق أم مقيد إذا حصل للعبد منفعة مثل نجح أو حصل على وظيفة ونذر أن يصوم ثلاثة أيام لله سبحانه وتعالى مع العلم أنه لم ينذر قبل نجاحه أو حصوله على الوظيفة.
ج/ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
النذر المطلق: هو الذي لم يعلق بشيء سيحصل في المستقبل.
والنذر المقيد: هو المعلق الذي علق الوفاء به بحصول من الله جل وعلا للعبد، وهذا يكون في المستقبل؛ إن شفى الله مريضي فسأصوم ثلاثة أيام، إن نجحت فسأصوم, هذا هو النذر المعلق المقيد.
أما المطلق فهو أن ينذر نذرا لله جل وعلا تبررا منه، إمّا بسبب حادثة حدثت أو نعمة تجدّدت، أو نقمة اندفعت أو بدون سبب، فهذا كله يدخل في المطلق أمّا المقيد فهو المعلق بشرط في المستقبل.] (1)
¹
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً?[الجن: 6]
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ, لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ, حَتّىَ يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ" رواه مسلم
[الشرح]
__________
(1) من الوجه الثاني الشريط السادس.(1/153)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، نشهد له بالرسالة، وبأنه بلغها وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وتركنا بعده على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الباب ترجمه الإمام رحمه الله تعالى بقوله (باب من الشرك الاستغاثة بغير الله) وهذا الباب مع الباب الذي قبله والأبواب أيضا التي سلفت كلها في بيان قصد هذا الكتاب وبيان الغرض من تأليفه وأن التوحيد إنما يُعرف بضده، فمن طلب التوحيد فليطلب ضد التوحيد؛ لأنه -أعني التوحيد- يجمع بين الإثبات والنفي يجمع بين الإيمان بالله وبين الكفر بالطاغوت، فمن جمع بين هذين فإنه قد عرف التوحيد، ولهذا شيخ رحمه الله فصّل في أفراد توحيد العبادة وفصّل في أفراد الشرك، فبّين أصناف الشرك الأصغر القول والعمل وبين أصناف الشرك الأكبر العملي و الاعتقادي، فذكر الذبح لغير الله وذكر النذر لغير الله والذبح والنذر عبادتان عظيمتان، وعبادة الذبح وعبادة النذر ظاهرة:
عبادة الذبح فعلية عملية.
والنذر قولية إنشاءً وعملية وفاءً.
فذكر العمليات أو الذبح من العمليات؛ يعني من أنواع الشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل، وذكر النذر لغير الله وهو يحصل بالقول.
والذبح والنذر، العمل والقول كل منهما معه اعتقاد تعظيم المخلوق كتعظيم الله جل وعلا?يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ?[البقرة:165]، وقال?تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:97-98].(1/154)
وعطف على ذلك (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله) والاستعاذة بغير الله تكون بالقول الذي معه اعتقاد، فهي مناسبة لأنْ تكون بعد (باب من الشرك النذر لغير الله).
وقوله رحمه الله (من الشرك) من هاهنا تبعيضية -كما ذكرنا فيما سبق من هذه الأبواب-، وهذا الشرك هو الشرك الأكبر؛ من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله أن الاستعاذة بغير الله شرك أكبر بالله جل جلاله.
الاستعاذة: طلب العياذ، يقال: استعاذ إذا طلب العياذ، والعياذ طلب ما يؤمِّن من الشر، الفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمِّن منه أو إلى من يؤمِّن منه.
ويقابلها اللياذ وهو الفرار إلى طلب الخير أو التوجه و الاعتصام والإقبال لطلب الخير.
ومادة استفعل مثل ما هاهنا استعاذ -وكما سيأتي-، استغاث, استعان- ونحو هذه المادة هي موضوعة في الغالب للطلب، فغالب مجيء السين والتاء للطلب؛ استسقى إذا طلب السقيا، واستغاث إذا طلب الغوث، واستعاذ إذا طلب العياذ.
قلنا في الغالب؛ لأنها تأتي أحيانا للدلالة على كثرة الوصف في الفعل كما في قوله تعالى ?وَاسْتَغْنَى اللَّهُ?[التغابن:6]، (اسْتَغْنَى) ليس معناها طلب الغنى، وإنما جاء بالسين والتاء هنا للدلالة على عِظَم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل وهو الغنى.(1)
فهذه المادة: استغاث، واستعاذ، واستعان، وأشباه ذلك فيها طلب، والطلب من أنواعه التوجه والدعاء إذا طلب فإن هناك مطلوبا منه، والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب كان الفعل المتوجه إليه يسمى دعاء، ولهذا في حقيقة اللغة وفي دلالة الشرع:
الاستعاذة: طلب العوذ أو طلب العياذ، هو الدعاء المشتمل على ذلك.
والاستغاثة هو طلب الغوث دعاء مشتمل على ذلك.
__________
(1) انتهى الشريط الخامس.(1/155)
وهكذا في كل ما فيه طلب نقول: إنه دعاء. وإذا كان دعاء فإنه عبادة والعبادة لله جل وعلا بالإجماع ولما دلت عليه النصوص ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، ?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[النساء:36].
إذن فكل فعل من الأفعال أو قول من الأقوال فيه طلب عبادة لم؟ لأنه دعاء لأن كل طلب دعاء.
فالذي يطلب شيئا:
"إذا طلبه مِن مقارن فيقال هذا التماس.
"إذا طلبه ممن هو دونه يقال هذا أمر.
"وإذا طلبه ممن هو أعلى منه فهذا دعاء.
والمستعيذ والمستغيث لاشك أنه طالب ممن هو أعلى منه لحاجته إليه، فلهذا كل دليل فيه ذكر إفراد الله جل وعلا بالدعاء والعبادة دليل على خصوص هذه المسألة وهي أنّ الاستعاذة عبادة من العبادات العظيمة، وإذْ كانت كذلك فإن إفراد الله بها واجب.
قال هنا (من الشرك الاستعاذة بغير الله)، وقوله (الاستعاذة بغير الله) هذا الغير يشمل كل ما يتوجه الناس إليه بالشرك، ويدخل في ذلك بالأوَّلية ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليه بذلك من الجن والملائكة ومن الصالحين ومن الأشجار والأحجار ومن الأنبياء والرسل إلى غير ذلك.
هل قوله هنا (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله) (الاستعاذة بغير الله) هل هذا المقصود منه: أن الاستعاذة جميعا لا تصلح إلا لله، وأنه لو استعاذ بمخلوق فيما يقدر عليه أنه يدخل في الشرك؟
الجواب: هذا فيه تفصيل.
ومن أهل العلم من قال: الاستعاذة لا تصلح إلا لله، وليس ثَم استعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن الاستعاذة توجُّه القلب واعتصامه والتجاؤه ورغبه ورهبه فيها هذه المعاني جميعا، فهي توجُّهٌ للقلب، وهذه المعاني جميعا لا تصلح إلا لله جل وعلا.(1/156)
وقال آخرون: قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر عليه لأن حقيقة الاستعاذة طلب انكفاف الشر، طلب العياذ وهو أن يعيذ من شر أحدق به، وإذا كان كذلك فإنه قد يكون المخلوق يملك شيئا من ذلك، قالوا فإذن تكون الاستعاذة بغير الله شركا أكبر إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ أو لا يقدر على الاعاذة مما طلب إلا الله جل وعلا.
والذي يظهر من ذاك أن المقام -كما ذكرت لك فيه تفصيل-، وذاك أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر وعمل باطن:
فالعمل الظاهر أن يطلب أن يطلب العوذ أن يطلب العياذ وهو أن يُعصم من هذا الشر أو ينجو من هذا الشر.
وفيها عمل باطن وهو توجه القلب وسكينته واضطراره وحاجته إلى هذا المستعاذ به واعتصامه بهذا المستعاذ به وتفويض أمر نجاته إليه.
إذا كان هذان في الاستعاذة:
فإذا قيل الاستعاذة لا تصلح إلا لله؛ يعني لا تصلح إلا بالله، لا يستعاذ بمخلوق مطلقا يُعنى أنه لا يستعاذ به من جهة النوعين جميعا؛ لأن منه القلب -يعني النوعين معا-؛ لأن منه عمل القلب الذي وصفتُ، بالإجماع لا يصلح إلا لله جل وعلا.
وإذا قيل الاستعاذة تصلح بالمخلوق فيما يقدر عليه فهذا لما جاء في بعض الأدلة من الدلالة على ذلك، وهذا إنما يراد منه الاستعاذة بالقول ورغب القلب في أن يخْلُص مما هو فيه من البلاء، وهذا يجوز أن يتوجه به إلى المخلوق.
فإذن حقيقة الاستعاذة تجمع الطلب الظاهر وتجمع المعنى الباطن، ولهذا اختلف أهل العلم فيها، فالذي ينبغي أن يكون منك دائما على ذُكر أن توجه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء أو الجن أو الصالحين أو الطالحين أو غير ذلك أنهم جمعوا بين القول باللسان وبين أعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله جل وعلا.
وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من أنّ الاستعاذة بهم إنما هي فيما يقدرون عليه، وأنّ الله أقدرهم على ذلك، فيكون إبطال مقالهم راجعا إلى جهتين:(1/157)
الجهة الأولى أن يبطل قولهم في الاستعاذة وفي أشباهها أن هذا الميْت أو هذا الجن يقدر على هذا الأمر، وإذا لم يقتنع بذلك أو حصل هنالك إيراد اشتباه فيه.
فالأعظم أن يتوجه المورد إلى الأدلة السنية أن يتوجه إلى أعمال القلب وأن هذا الذي توجه إلى ذلك الميْت أو الولي قد قام بقلب من العبوديات ما لا يصلح إلا لله جل جلاله.
إذن فنقول الاستعاذة لغير الله شرك أكبر لأنها صرف العبادة لغير الله جل جلاله، فإن كان ذلك في الظاهر مع طمأنينة القلب بالله وتوجه القلب إلى الله وحسن ظن بالله وأن هذا العبد إنما هو سبب أن القلب مطمئن فيما عند الله، فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر، وأما القلب فإن لم تقم به حقيقة الاستعاذة وإذا كان كذلك كان هذا جائزا.(1/158)
قال رحمه الله (وقول الله تعالى: ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً?[الجن:6]) (وَأَنَّهُ) هذه معطوفة على أول السورة وهو ما أوحى الله جل وعلا إلى نبيه ?قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ?[الجن:1]، ثم بعد آيات (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) ومعنى (رَهَقاً) هنا يعني خوفا واضطرابا في القلب أوجب لهم الإرهاق والرهق في الأبدان والأرواح، فلما كان كذلك تعاظمت الجن وزاد شرُّها، قال (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ) وقد كان المشركون إذا نزلوا بواد أو بمكان مخوف كانوا يعتقدون أن لكل مكان مخوف جني أو سيّد من الجن يخدم ذلك المكان هو له ويسيطر عليه، فكانوا إذا نزلوا واديا أو مكانا قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يعنون الجن فعاذوا بالجن لأجل أن يكفَّ عنهم الشر مدة مقامهم، لهذا قال جل وعلا (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً)، (فَزَادُوهُمْ) يعني زاد الجنُّ الإنسَ خوفا واضطرابا وتعبا في الأنفس والأرواح وإذا كان كذلك كان هذا مما هو من العقوبة عليهم، والعقوبة إنما تكون على ذنب، فدلت الآية على ذم أولئك، وإنما ذُموا لأنهم صرفوا تلك العبادة لغير الله جل وعلا، والله سبحانه أمر أن يُستعاذ به دون ما سواه فقال سبحانه ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ?[الفلق:1]، وقال ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ?[الناس:1].وقال ?قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ(97) وَأَعُوذُ بِكَ [رَبِّ] أَن يَحْضُرُونِ?[المؤمنون:97-98] والآيات في ذلك كثيرة كقوله ?وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بالله?(1)
__________
(1) الأعراف:200، فصلت:36.(1/159)
فعُلم من التنصيص على المستعاذ به وهو الله جل وعلا على أنّ الاستعاذة حصلت بالله وبغيره وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه، وذكرتُ لكم أصل الدليل في ذلك أن الإستعاذة عبادة وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه لآيات من أفراد العبادة بالله وحده.
وفي قوله (فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) ثَم قولا آخر -وهو قول قتادة وبعض السلف- من أن (رَهَقاً) معناه إثما ؛ فزادوهم إثما وهذا أيضا ظاهر من جهة الإستدلال إذا كانت الإستعاذة موجبة للإثم، فهي إذن عبادة إذا صرفت لغير الله وعبادة مطلوبة إذا حرفت لله جل جلاله، وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك.
قال (وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ, لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ, حَتّىَ يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ" رواه مسلم) وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن فضل الاستعاذة بكلمات الله فقال (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ) وجعل المستعاذ منه المخلوقات الشريرة، والمستعاذ به هو كلمات الله، وقد استدل أهل العلم -حين ناظروا المعتزلة وردوا عليهم- استدلوا بهذا الحديث على أن كلمات الله ليست بمخلوقة قالوا: لأن المخلوق لا يستعاذ به والإستعاذة به شرك.كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة.
فوجه الدلالة من الحديث إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأنه لما أمر بالاستعاذة بكلمات الله فإن كلمات الله جل وعلا ليست بمخلوقة.(1/160)
قال(مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً فقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ) فالمقصود بـ(كَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ) هنا: الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وهي المقصودة بقوله جل وعلا?قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي?[الكهف:109]، ?وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ?[لقمان:27].
?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ?[الأنعام:115]، وفي قراءة ?وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا? هذه الآية في الكلمات الشرعية وكذا في الكلمات الكونية.
إذن فقوله (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ) يعني الكلمات الكونية، (مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ) يعني من شر الذي خلقه الله جل وعلا، وهذا العموم المقصود من شر المخلوقات التي فيها شر، وليست كل المخلوقات فيها شر؛ بل ثم مخلوقات طيبة ليس فيها شر كالجنة والملائكة والرسل والأنبياء والأولياء، وهناك مخلوقات خُلقت وفيها شر فاستعيذ بالله جل وعلا بكلمات الله جل وعلا من شر الأنفس الشريرة والمخلوقات التي فيها شر.
¹
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو أن يدعو غيره
وقول الله تعالى: ?وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ?[يونس: 106 -107].(1/161)
وقوله: ?إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقأ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?[العنكبوت:17].
وقوله: ?وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِِعِبَاَدِتِهمْ كَافِرِينَ? [الأحقاف:5-6].
وقوله: ?أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ?[النمل: 62].
روى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم -من هذا المنافق. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله".
[الشرح]
قوله (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره)، (من الشرك) -كما ذكرنا فيما سبق- يعني الشرك الأكبر، (أن يستغيث) يعني الاستغاثة؛ لأن (أن) مع الفعل تؤول بمصدر: باب من الشرك الاستغاثة بغير الله أو استغاثةٌ بغير الله أو دعاء أو دعوة غيره أو دعاء غيره. وهذا ظاهر في أن الاستغاثة كما ذكرنا طلب، والطلب نوع من أنواع الدعاء، ولهذا قال العلماء: إن في قوله (أو يدعو غيره) بعد (أن يستغيث بغير الله) فيه عطف للعام على الخاص، ومن المعلوم أن الخاص قد يُعطف على العام وأن العام قد يُعطف على الخاص.
وقوله (أن يستغيث بغير الله) هذا أحد أفراد الدعاء كما ذكرنا؛ لأن الاستغاثة طلب والطلب دعاء، (أو يدعو غيره) هذا عام الذي يشمل الاستغاثة ويشمل الاستعاذة ويشمل أصنافا كثيرة من أنواع الدعاء.(1/162)
(أن يستغيث) الاستغاثة هي طلب الغوث، والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرّة الشديدة أو الهلاك، فيقال أغاثه إذا فزع إليه وأعانه على ما به وخلّصه منه، كما قال جل وعلا في قصة موسى ?فَاسْتَغَاثَهُ الذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الذِي مِنْ عَدُوِّهِ?[القصص:15] (اسْتَغَاثَهُ الذِي مِنْ شِيعَتِهِ) يعني من كان من شيعة موسى طلب الغوث من موسى على من كان من عدوا لهما جميعا، فأغاثه موسى عليه السلام.
فإذن الاستغاثة طلب الغوث، وطلب الغوث لا يصلح إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله؛ لأن الاستغاثة يمكن أن تطلب من المخلوق لأنه يقدر عليها.
بعض العلماء يقول: نضبط ذلك بقولنا الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق.
وقال آخرون: الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله.
وهاتان مختلفتان، والأصح منهما الأخيرة؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، والمخلوق يعلم أن لا يقدر عليه إلا الله فإنه شرك أكبر بالله جل وعلا، أو في حقيقة الأمر أنه لا يقدر عليه إلا الله.
أما قول من قال من أهل العلم أن الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه، فإن هذا يَرِدُ عليه أن ثمة أشياء قد يكون في الظاهر يقدر عليها المخلوق لكن في الحقيقة لا يقدر عليها، فإذن يكون هذا الضابط غير منضبط.
لأن مثلا من وقع في شدة وهو في غرق مثلا وتوجه لرجل يراه بأنه يغيثه، فقال استغيث بك استغيث بك وذاك لا يحسن السباحة ولا الإنجاء من الغرق فهذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق. فهل يكون شركا أكبر؟ لا, لم؟ لأن الإغاثة عادة من الغرق ونحوه يصلح أن يكون المخلوق قادرا عليها.
فيكون الضابط الثاني هو الصحيح هو أن يقال: الاستغاثة شرك بغير الله شرك أكبر إذا كان استغاث فيما لا يقدر عليه إلا الله.(1/163)
أما إذا استغاث فيما يقدر عليه غير الله من المخلوقين؛ لكن هذا المخلوق المعين لم يقدر على هذا الشيء، فإنه لا يكون شركا؛ لأنه ما اعتقد في المخلوق شيئا لا يصلح إلا لله جل جلاله.
فإذن نقول الاستغاثة بغير الله:
"إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله فهي شرك أكبر.
"وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق فهي جائزة، كما حصل من صاحب موسى إذِ استغاث بموسى عليه السلام.
قال (أو يدعو غيره) الدعاء كما ذكرت لك هو العبادة، والدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة.
> نعني بدعاء المسألة: ما كان فيه طلب وفيه سؤال يرفع يديه لله جل وعلا ويدعو، هذا يسمى دعاء مسألة، وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء، إذا قيل دعا فلان يعني سأل ربه جل وعلا.
> والنوع الثاني دعاء العبادة: كما قال جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، يعني لا تعبدوا مع الله أحدا أو لا تسألوا مع الله أحدا، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "الدعاءُ هو العبادة".
دعاء المسألة غير دعاء العبادة؛ دعاء العبادة كحال من صلى، كحال من زكى، كل صنف من أصناف العبادة يقال له دعاء؛ لكنه دعاء عبادة.
قال العلماء: دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة.
يعني أن من سأل الله جل وعلا شيئا فهو داعٍ دعاء مسألة وهذا متضمن أنه يعبد الله؛ لأن الدعاء دعاء المسألة أحد أنواع العبادة، فدعاء المسألة متضمن للعبادة لأنه جل وعلا يحب من عباده أن يسألوه.
دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة؛ يعني من صلى فيلزم أنه أنشأ الصلاة أنه يسأل الله القبول يسأل الله الثواب، فيكون دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة و دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة.(1/164)
إذا تقرر ذلك فهذا التفصيل أو هذا التقسيم مهم جدا في الحجة في القرآن وفي فهم الحجج التي يريدها أهل العلم؛ لأنه قد حصل من الخرافيين والداعين إلى الشرك أنهم يؤولون الآية التي في الدعاء بالمسألة، أو الآية التي في المسألة بالدعاء.
وإذا تبين لك ذلك يعني ما ذكرنا فإنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ودعاء العبادة، فهذا هو ذاك إما بالتضمن أو باللزوم، ومعلوم أن دلالة التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن وجاءت في السنة.
ثم ساق الشيخ رحمه الله بعض الأدلة على أن الدعاء إنما يُتوجه به إلى الله وأنه الاستغاثة إنما يُتوجه بها إلى الله جل وعلا فيما لا يقدر عليه إلا الله.
قال (?وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ [يُرِدْكَ](1) بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ?[يونس: 106 -107])
قال في أولها (وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ)، (وَلاَ تَدْعُ) هذا نهي، والنهي توجه إلى الفعل (تَدْعُ) وإذا كان كذلك فإنه يعم أنواع الدعاء، وقد ذكرت لك أن الدعاء منه دعاء مسألة ومنه دعاء عبادة؛ لأن النكرة إذا جاءت في سياق النهي أو في سياق النفي أو في سياق الشرط فإنها تعمّ، و(تَدْعُ) نكرة لأنها فعل مشتمل على مصدر، والمصدر حدث نكرة، فإذن هذا يعم نوعي الدعاء وهذا مراد الشيخ أو أحد مراداته من الاستدلال بهذه الآية.
__________
(1) الشيخ قال: يمسسك.(1/165)
(وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني نهى الله جل وعلا أن يُتوجه لغير الله بدعاء المسألة أو بدعاء العبادة؛ يعني بالطلب أو بأي نوع من أنواع العبادات، فلا طلب يصلح فيما لا يقدر عليه إلا منه جل وعلا ويدخل في ذلك الاستعاذة ويدخل في ذلك الاستغاثة التي هي طلب الغوث.
كذلك دعاء العبادة بأنواعه من الصلاة والزكاة والتسبيح والتهليل والسجود وتلاوة القرآن لا تصلح إلا لله، كذلك الذبح النذر أنواع أعمال القلوب التوكل محبة العبادة ورجاء العبادة وخوف السر كلها أنواع العبادة من أنواع دعاء العبادة، فهذه الآية دلت على النهي أن يتوجه أحد إلى من هو دون الله جل وعلا بدعاء مسألة أو بدعاء عبادة.
وكان أعظم هذا النهي أن وجه إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي هو إمام المتقين وإمام الموحدين.
قال (وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ) ذكرت لك من قبل أنه قوله (مِنْ دُونِ اللهِ) تشمل مع الله أو مَن دون الله استقلالا.
قال(مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ) يعني الذي لا ينفعك ولا يضرك، و(مَا) تشمل العقلاء وغير العقلاء يعني تشمل أن يُعنى بها الملائكة والأنبياء والرسل ويُعنى بها الصالحون ويُعنى بها ما لا يعقل كالأصنام والأحجار والأشجار، وهذا من جهة دلالة اللغة.
قال الله جل وعلا لنبيه (فَإِن فَعَلْتَ) يعني إن دعوت من دون الله أحدا، وذلك الأحد موصوف بأنه لا ينفعك ولا يضرك (فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ)، وهذا إذا كان في حق النبي عليه الصلاة والسلام الذي كمّل الله له التوحيد إذا حصل منه الشرك فإنه يصبح ظالما ويصبح مشركا وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك، فهذا تخويف لمن هو دونه ممن لم يعصم ولم يعط العصمة من ذلك.(1/166)
قال (فَإِن فَعَلْتَ) يعني إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، (فَإِنَّكَ إِذاً) يعني بسبب تلك الدعوة من الظالمين، والظالمون جمع تصحيح للظالم والظالم اسم فاعل للظلم، والظلم المراد به هنا الشرك كما قال جل وعلا ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?[لقمان:13].
ثم قال (وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) الغرض من أن يسأل أحدٌ غيرَ الله في إنجاء ما به طلب كشف الضر، الغرض من أن تستغيث بغير الله طلب كشف الضر، الغرض من أن يستعيذ بغير الله طلب كشف الضر؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا القاعدة العامة في ذلك التي تقطع عروق الشرك من القلب حيث قال (وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ)، إذا مسك الله بضر فمن يكشف الضر؟ يكشفه من قدّره ومن قضاه عليك، فهذا يقطع التوجه لغير الله تعالى ولكن ما دام أنه أذن فيما يقدر عليه المخلوق أن يتوجه عليه بطلب الغوث أو طلب السُّقيا أو نحو ذلك يكون ممن رُخص به والحمد لله.
قال (وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ)، (بِضُرٍّ) هنا أيضا نكرة جاءت في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الضر، سواء كان ضُرا في الدين أو كان ضرا في الدنيا، سواء كان ضرا في الدنيا من جهة الأبدان أو من جهة الأموال أو من جهة الأولاد أو من جهة الأعراض أو من أي شيء، فـ(إن ِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) بأي نوع من أنواع الضر (فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) في الحقيقة الذي يكشف الضر هو الله جل وعلا، لا يكشف البلوى إلا الله سبحانه وتعالى، وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف فإنما هو من جهة أنه سبب جعله الله سببا يقدر على أن يكشف بإذن الله جل وعلا، وإلا فالكاشف في الحقيقة هو الله جل وعلا، والمخلوق ولو كان يقدر فإنما قدر بإقدار الله له إذ هو سبب من الأسباب، فإذن ولا يكشف على الحقيقة إلا الله جل وعلا.(1/167)
وإذا تبين ذلك ظهر لك وجه استدلال المصنف لهذه الآية هو مناسبة الآية للترجمة من عدة جهات كما ذكرنا.
قال (وقوله تعالى ?فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ?[العنكبوت: 17]) الدعاء من أعظم ما يتعلق به الخلق إذا كان من جهة طلب الرزق؛ لأن طلب الرزق أعظم أسباب الحياة، فإذا لم يكن عنده رزق يوشك على الهلاك، ولهذا ذكر الإمام هذه الآية التي فيها توحيد طلب الرزق لم؟ لأن معظم حال المستغيثين إنما هي لطلب الرزق، والرزق اسم عام يشمل كلْ ما يصلح أن يرزق؛ يعني أن يمنح ويعطى، فيدخل في ذلك الصحة والعافية، يدخل في ذلك المال الطعام، يدخل في ذلك البيت، يدخل في ذلك الدواب، ويدخل في ذلك أنواع ما يحتاجه المرء.
قال (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أصل تركيب الكلام فابتغوا الرزق عند الله، و(ابْتَغُوا) فعل أمر و(الرِّزْقَ) مفعول و(عِنْدَ اللهِ) الأصل أن يتأخر على المفعول؛ قال علماء المعاني من علوم البلاغة: إن تقديم ما حقُّه التأخير يفيد الاختصاص, فابتغوا عند الله الرزق واجعلوا ذلك الابتغاء مختصا بالله جل وعلا، هكذا يفهم العربي هذه الآية (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) يعني فليكن ابتغاؤكم الرزق من عند الله وحده فلا تستغيثوا بغيره في طلب رزق ولا تستنجدوا بغيره في طلب رزق وإنما ذلك لله جل وعلا.
ثم قال (وَاعْبُدُوهُ) ليجمع أصناف السؤال بما يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.(1/168)
ثم قال ( وقوله (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)) دلالة الآية ظاهرة في الدعاء؛ لأن الله قال (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ) فهي ظاهرة في أن ثم داعي وثم مدعو والمدعو غير الله جل وعلا (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِِعِبَاَدِتِهمْ كَافِرِينَ).
وجه دلالة من الآية أن استعمل كلمة (يَدْعُواْ) فجاء الوصف بأبشع الضلال على من دعا من دون الله أمواتا غير أحياء، والدليل على أنه أراد الأموات ولم يرد الأصنام والأحجار أنه قال (مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ) فجعل غاية الاستجابة إلى يوم القيامة؛ المنع من الاستجابة إلى يوم القيامة، وهذه في الأموات لأن الميْت إذا كان يوم القيامة نُشر وصار يسمع ورُبما أجاب من طلبه إذْ هو حي يكون في ذلك المقال حي وهو كان قادرا، وأما الميْت -من هو في البرزخ- فهو الذي يصدق عليه وصف الله جل وعلا بقوله (مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ).
ولفظ (مَن) في اللغة الأصل فيه أنها للعقلاء، هكذا يقول النحاة.
ونقول الأصح: أن يقال (مَن) الأصل فيها في اللغة لمن يَعلم؛ (1) يعني عند علماء النحو يقولون من للعقلاء وما لغير العقلاء والأصح أن نقول من لمن يعلم لأنها يدخل فيها الله جل وعلا في بعض الآيات.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.(1/169)
فإذن (مَن) لمن يصح أن يعلم وهؤلاء هم من كانوا بشرا يخاطِبون ويخَاطبون ويعلمون ويُعلم منهم, قال (إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) وهذا الوصف ليس للأصنام إنما هو للأموات ثم قال (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِِعِبَاَدِتِهمْ كَافِرِينَ) ولذلك قال حل وعلا في سورة النحل ?أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ?[النحل:21-22].
قال (وقوله: ?أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ?[النمل: 62]) هذه الآية من سورة النمل فيها أن المضطر في الدعاء إنما هي لله جل وعلا، قال (أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) هذا في الدعاء دعاء المسألة، قال (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) وكشف السوء يكون تارة بالاستغاثة وتارة بغير ذلك، ولهذا يكون هذا القدر مكن الآية يصلح كما ترجم به المؤلف رحمه الله من اللفظين لفظ الاستغاثة والدعاء لقوله (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) هذا في الاستغاثة، و (أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) هذا في دعوة غير الله معه، قال بعدها (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ) وهذا استفهام إنكاري (أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ) ينكر عليهم أن يتخذ إله مع الله، بأي شيء؟ بأن يدعوا غير الله أو يتوجهوا في كشف السوء لغير الله فيما يقدر عليه إلا الله، (أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ قًلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ).(1/170)
قال (روى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم) بعضهم هنا هو أبو بكر الصديق كما جاء في بعض الروايات (قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله") من طلب الصحابة الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هذا طلب جائز لأنهم طلبوا الإغاثة من النبي عليه الصلاة والسلام فيما يقدر عليه؛ لأن عليه الصلاة والسلام في هذا المقام يقدر أن يُغيث بالأمر بقتل المنافق أو الأمر بسجنه أو بتهديده أو بأخذ عقوبة عليه؛ لأنه كان يؤذي المؤمنين بتعزير أو بغيره، فإذن استغاثتهم إنما هي في قولهم (قوموا بنا نستغيث برسول الله) استغاثتهم برسول الله فيما يقدر عليه لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم الأدب في ذلك وعلمهم الأكمل في ذلك حيث قال (إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله)، وحقيقة الاستغاثة على وجه الكمال إنما هي بالله جل وعلا لا بنبيه - صلى الله عليه وسلم - فكان حصل منهم نوع إلتفات للنبي عليه الصلاة والسلام فيما يقدر عليه، فبين لهم أن الواجب عليهم أن يستغيثوا بالله جل وعلا أولا فقال (إنه لا يستغاث بي) و(لا يستغاث بي) هذا نفي فيه معنى النهي؛ يعني لا تستغيثوا بي إنما أستغيث بالله في هذا الأمر، وإذا أغاثهم الله جل وعلا كفّ شر ذلك المنافق عنهم.(1/171)
هذا الحديث بعض العلماء قال إن في إسناده ابن لهيعة وحاله معروف، وإيراد الأئمة أئمة الحديث للأحاديث التي قد يكون إسناد بعض مقال هذا هو الصواب إذا كان ما في الحديث من المعنى قد عضدته الأدلة من القرآن أو من السنة، وما في هذا الحديث من قوله النبي عليه الصلاة والسلام (إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله), قد دلت عليه الآيات التي سلفت، وهذا صنيع أهل الحديث، صنيع الراسخون في العلم من أهل الحديث كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له في الفتاوى قال: أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول؛ بل إما في تأييده -يعني في تأييد ذلك الأصل- أو في جزء من الفروع. وهذا هو صنيع الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب، فإنهم يستدلون بأحاديث هي من جهة المعنى التي اشتملت عليه صحيحا، فقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث مستدلا به في رده على البكري المعروف بالاستغاثة، كتاب الاستغاثة الكبرى أو الرد على البكري، وقال: إن هذا حديث هو في معنى ما جاء في النصوص.
فقوله عليه الصلاة والسلام (إنه لا يستغاث بي) يعني لا تستغيثوا بي إنما استغيثوا بالله؛ لأن (يستغاث) نفي وهنا يراد به النهي.
هذا الباب ظاهر في المناسبة لما قبله ولما بعده أيضا في أنّ الاستغاثة بغير الله نوع من أنواع الدعاء، وأن الدعاء عبادة وإن الاستغاثة عبادة وصرف العبادة لغير الله جل وعلا كفر وشرك.
يدل على أن الدعاء عبادة قول الله جل وعلا ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي?[البقرة:186] وقوله (أُجِيبُ دَعْوَة الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) الإجابة؛ إجابة الدعوة يكون في السؤال؛ يعني إذا سئل أجاب، ويكون أيضا بالعطاء والإثابة فيما إذا عُبِدَ، فيجيب الدعوة بإعطاء السائل سؤله، ويجيب أيضا الدعاء بإثابة الداعي العابد على عبادته.(1/172)
ولهذا يفسر السلف الآيات التي فيها إجابة الدعاء ونحو ذلك بأن فيها إعطاء سؤل السائل وإثابة العابد؛ لأن الصحابة والسلف يعلمون أن الدعاء يشمل هذا وهذا (أُجِيبُ دَعْوَة الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) فهنا (دَعَانِ) يعني سألني أو عبدني مع أنها في السؤال ظاهرة في الدعاء بينة.
والآيات في مثل ذلك كثيرة كقوله جل وعلا -قال إبراهيم عليه السلام-?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا?[مريم:48]، وقال بعدها جل وعلا?فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ?[مريم:49]، إبراهيم عليه السلام قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ), قال الله (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ) فدل على أن الدعاء هو العبادة، والعبادة هي الدعاء، والدعاء يفسر تارة بدعاء المسألة ودعاء العبادة وهذا حاصل وهذا حاصل من هؤلاء لأصنامهم وأوثانهم.
الباب الذي بعده وهو باب قول الله تعالى ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191].نعم...
¹
باب قول الله تعالى?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ?[الأعراف:191-192]
وقوله: ?وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13)إنْ تَدْعُوهُمْ لاً يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يَنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ?[فاطر:13]،
وفي الصحيح، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: شج النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ، و كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، فقال: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجّوا نَبِيّهُمْ؟"، فنزلت: ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ? [آل عمران: 128].(1/173)
وفيه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إِذَا رفعَ رأسَه من الرّكوع منَ الرّكعةِ الآخِرةِ من الفجر يقول: اللهمّ العَنْ فلاناً وفلاناً وفلاناً, بعدَما يقول سمعَ اللّه لمن حَمِدَه ربّنا ولكَ الحمد. فأنزل الله: ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ?[آل عمران:128].
وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام، فنزلت: ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ? [آل عمران: 128]
وفيه: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حين أنزل عليه: ?وأنذِرْ عَشيرتَكَ الأقرَبين? [الشعراء: 214]، فقال: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ (أو كلمة نحوها) اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ [مِنَ الله]. لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئَاً. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. يَا عَبّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً. يَا صَفِيّةُ عَمّةَ رَسُولِ اللّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئاً. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ. لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً".
[الشرح]
هذا الباب (باب قول الله تعالى?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا?) هذا الباب إيراده بعد الأبواب المتقدمة من أحسن الإيراد وأعظمها فقها ورسوخا في العلم؛ ذلك أنّ برهان وجوب توحيد الله جل وعلا في إلهيته هو ما رُكِزَ في الفطر من أن الله جل وعلا واحد في ربوبيته، والربوبية وأنّ الله واحد في ربوبيته هذه يقر بها المشركون ويقر بها كل أحد، فهي البرهان على أن المستحق للعبادة هو من توحَّد في الربوبية، فهذا الباب والباب الذي بعده أيضا برهان لاستحقاق الله العبادة وحده دون ما سواه بدليل فطري ودليل واقعي ودليل عقلي.(1/174)
ومن المعلوم أن الأدلة العقلية عندنا أهل السنة والجماعة نأخذها من الكتاب والسنة؛ لأن في الكتاب والسنة من الأدلة العقلية ما يغني عن تكلُّف أدلة عقلية أخرى لمن تأمل ذلك في نصوص الوحيين.
فهذا الباب في بيان أن الذي يخلق هو الله وحده والذي يرزق هو الله وحده والذي يملك هو الله وحده وأن غير الله جل وعلا ليس له نصيب من الخلق وليس له نصيب من الرَّزق وليس له نصيب من الإحياء وليس له نصيب من الإماتة وليس له نصيب من الأمر وليس له ملك حقيقي في أمر من الأمور (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)، حتى أعلى الخلق مقاما وهو النبي عليه الصلاة والسلام قال له الله جل وعلا (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) يعني لست مالكا لشيء من الأمر، ليس من الأمر شيء تملكه، اللام هنا لام الملك، فمن الذي يمكلك إذن؟ هو الله جل وعلا، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يُنفى عنه ذلك فإنّ نفيه عمن هو دونه من باب أولى.
والذين توجّهوا إلى أصحاب القبور أو إلى الصالحين والأولياء والأنبياء في داخلهم زعْمٌ بأنهم يملكون أشياء، إمّا أن يملكوا شيئا من الرزق أو يملكوا شيئا من التوسط والشفاعة بدون إذن من الله جل وعلا ومشيئته.
فإذن هذا الباب أحد الأبواب التي فيها البرهان على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه، والقرآن فيه كثير من البراهين على أنّ المستحق للعبادة هو الله جل وعلا وحده دون ما سواه، فمن تلك الأدلة والبراهين ما في القرآن من أدلة فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، كل ذلك النوع من الأدلة فيه دليل على أنَّ المستحق للعبادة هو من أقررتم له بالربوبية.(1/175)
ومن الأدلة والبراهين على ذلك ما في القرآن من أن الله جل جلاله نصر رسله وأولياءه على أعدائهم وأنّ كل طائفة من طوائف الشرك ذلت وخضعت وغلبت أمام طوائف أهل الإيمان أمام جند الله جل وعلا من الرسل وأتباع الرسل والأنبياء، وهذا نوع آخر من الأدلة أنه ما من طائفة موحدة بعث الله جل وعلا إمامها ورسولها بقتال المشركين إلا وظهرت عليهم, إلا وغلبتهم حتى صارت العاقبة لهم، وهذا أمر في القرآن كثير وأدلته كثيرة, قصص الأنبياء، وقصص القرى، وكل قرية خالفت رسولها عوقبت وهكذا كل القرى، هذا دليل على أن التوحيد هو الحق وأنّ الشرك باطل.
من الأدلة نوع آخر في القرآن-من البراهين نوع آخر في القرآن- مِن أن المخلوق ضعيف، أن العابد الذي يسمع هذا القرآن, كل مخلوق, كل مكلف يعلم من نفسه الضعف، وأنه جاء إلى الحياة بغير إختياره؛ بل الله جل وعلا هو الذي أتى به إلى هذه الحياة، وأنه سيخرج من هذه الحياة بغير إختياره أيضا، فهو أيضا مقهور، ويعلم قطعا أن الذي قهره وأذله وجعله على هذه الحالة ليس هو تلك الآلهة إنما هو الله جل وعلا وحده هو الذي يحيي ويميت، وهذا إقرار عام يعلمه كل أحد من فطرته.
من الأدلة و البراهين أنّ الله جل وعلا له الأسماء الحسنى وله الصفات العلا وأنه ذو النعوت الكاملة وذو النعوت الجليلة -نعوت الجلال ونعوت الجمال ونعوت الكمال-، وهو سبحانه كل الكمال المطلق في كل إسم له وفي كل نعت ووصف له، له الكمال المطلق الذي يعتريه نقص في وجه من الوجوه.
هذا الباب ذكر فيه الشيخ رحمه الله أحد أنواع أدلة الربوبية أو براهين التوحيد، وأنه الله جل وعلا هو الواحد في ربوبيته.
والباب الذي يليه هو باب قول الله تعالى ?إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[سبإ:23] فيه دليل على عظمة الله جل وعلا في صفاته.(1/176)
وفي هذا الكتاب تنويع أيضا -كما سيأتي- براهين التوحيد -توحيد العبادة- بأدلة من القرآن متنوعة، ونكمل إن شاء الله في الدرس القادم شرح هذا الباب، والذي يليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
(1)بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
(باب قول الله تعالى?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا?[الأعراف:191-192]، وقوله: ?وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ?[فاطر:13]) ذكرنا لكم بالأمس أن هذا الباب مع الباب الذي يليه مناسبته لكتاب التوحيد أنّ هذين البابين هما برهان للتوحيد؛ برهان لاستحقاق الله حل وعلا العبادة وحده و على بطلان عبادة ما سواه، وهذا البرهان هو بتقرير أنّ الله حل وعلا واحد في ربوبيته، ودليل ذلك الفطرة ودليل ذلك العقل ودليل ذلك أيضا النص من الكتاب والسنة، فلا أحد ينكر أن الله جل وعلا هو مالك الملك، وهو الذي بيده تصريف الأمر كيف يشاء، إلا شرذمة قليلة من الناس -كما قال الشهرستاني وغيره- لا يصح أن تنسب لهم مقالة.
فالناس مفطورون على الإقرار بالرب وعلى الإقرار بأنهم، وإذا كان كذلك فإن الحجة عليه في وجوب توحيد الألوهية أن الله جعل في فطرهم الإقرار بأن الله واحد في ربوبيته، ولهذا المشركون لا ينكرون أن الله جل جلاله واحد في خلقه واحد في رَزْقه؛ يعني أنه هو الخلاق وحده، و أنه هو الرزاق وحده، وأنه جل وعلا هو الذي يحيي و يميت، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي بيده ملكوت السماوات و الأرض، وهو الذي ينبت النبات، وهو الذي يُنزل الماء، إلى آخر أفراد تدبيره جل وعلا للأمر وأفراد توحيد الربوبية.
__________
(1) من هنا يبتدئ الشريط السابع.(1/177)
فالبرهان على أنّ الله هو المستحق للعبادة وحده أنه جل وعلا هو مالك الملك وحده، وهو الذي يدبر هذا الملكوت وحده، وهو الذي خلق العباد والعباد صائرون إليه، وأما الآلهة التي توجه إليها العباد بالعبادة من الأنبياء والأولياء والملائكة فإنما هم مخلوقون مربوبون لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، وأيضا لا يستطيعون نصرا لمن سألهم، وإنما ذلك لله جل وعلا.
فإذا كان أولئك ليس لهم من الأمر شيء، وليس لهم من الملك شيء، وليس لهم من الخلق شيء، وليس لهم من تدبير الأمر شيء، وإنما تدبير أمر السماوات وتدبير أمر الأرض بيد الله وحده دونما سواه، فإن الذي يستحقّ العبادة وحده هو الذي يفعل تلك الأفعال، وهو الذي يتصف بتلك الصفات، هو الذي وحّده العباد في ربوبيته.
فإذا كان كذلك يجب أن يكون إذن واحدا في أفعالهم لكي لا يتوجهوا في العبادة إلا إليه وحده.
وهذا كثير في القرآن جدا، فإنك تجد في القرآن أنّ أعظم الأدلة والبراهين على المشركين في إبطال عبادتهم لغير الله وفي إحقاق عبادة الله وحده دونما سواه أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، فالإقرار بتوحيد الربوبية برهان توحيد الإلهية، فالله جل وعلا احتج في القرآن على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية.(1/178)
ولهذا قال جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِن السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]؛ يعني أتقرون بذلك فلا تتقون الشرك -لأني ذكرتُ لكم أن الفائدة أتت بعد الهمزة فهي تعطف ما بعدها على جملة محذوفة دلّ عليها السياق-، (أَفَلَا تَتَّقُونَ) يعني أتقرون بأن الله واحد في ربوبيته فلا تتقون الشرك به؟ ?فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ? باعترافكم وبإيقانكم، ?فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ?[يونس:32]، وهذا نوع احتجاج بما أقروا به وهو توحيد الربوبية على ما أنكروه وهو توحيد الإلهية.(1/179)
كذلك الآيات العظيمة في سورة النمل قال جل وعلا?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ?[النمل:59-60] (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) هنا إنكار عليهم، أنكر لماذا؟ لأن ما سبق يقرون به، (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) يقرون بأن الذي خلقها هو الله، فإذن كيف يتخذون إلها مع الله، كان هذا إنكار, من الذي أنزل لهم من السماء ماء فأنبت لهم به حدائق ذات بهجة؟ هو الله، فإذن كيف يتخذون إلها معه، ولهذا قال جل وعلا (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ), هذا إنكار عليهم، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) يعني يعدلون بالله غيرَه أو يعدلون غير الله جل وعلا به؛ يعني يساوون هذا بهذا، أو (يَعْدِلُونَ) يعني يصرفون عن الحق ويُصرفون عنه إلى غيره، فكيف يعدلون عن الحق لا غيره أو كيف يعدلون بالله غيره من الآلهة وهكذا الآية التي بعدها قوله ?أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزًا?[النمل:61]، جواب المشركين على هذا السؤال (أَمَّنْ) جوابهم هو الله، قال جل وعلا ?أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ?[النمل:61]، ثم قال جل وعلا ?أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ?[النمل:62] رجع من الآيات التي في الآفاق وفيما حولهم إلى الشيء الذي يعلمونه علم اليقين ?أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ?[النمل: 62]، ثم قال جل وعلا ?أَمَّن(1/180)
يَّهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَن يُّرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءِلَهٌ مَّعَ الله تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَّرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءِلَهٌ مَّعَ الله قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ?[النمل:63-64]، وفي الحقيقة أنه لا برهان لهم، ولهذا قال في آية المؤمنون ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ?[المؤمنون:117]، (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) فكل إله لا برهان له, (لَا بُرْهَانَ لَهُ) يعني لا حجة قائمة على إنه إله وإنما اتخذه البشر بالطغيان وبالظلم، ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، فهذا الباب قائم على هذه الحجة، ولهذا من أعظم الحجة على المشركين وعلى الذين توجهوا إلى الأموات توجهوا إلى المقبورين بطلب تفريج الكربات وطلب إغاثة اللهفات وطلب إنجاح الحاجات وسؤال ما يحتاجه الناس، أعظم الحجة عليهم أنْ تحتج عليهم بتوحيد الربوبية.
وهؤلاء المشركون في هذه الأزمنة زادوا -كما قال الشيخ رحمه الله في القواعد الأربع- زادوا على مشركي الجاهلية بأنهم اعتقدوا أن لتلك الآلهة, لتلك الأموات, أن لهم تصرفا في الكون أيضا، فنسبوا إليهم شيئا من الربوبية ولم يجعلوا توحيد الربوبية أيضا خالصا.
وهذا البرهان برهان عظيم ينبغي لك أن تتوسع في دلائله وأن تعلم الحجة في القرآن منه؛ لأن القرآن كثيرا ما يحتجّ بهذا البرهان وهو توحيد الربوبية على ما ينكره المشركون وهو توحيد الإلهية.(1/181)
من ذلك ما ساقه الشيخ رحمه الله في هذا الباب قال (باب قول الله تعالى?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?) هذا إنكار وتوبيخ لهم كيف يشركون الذي لا يخلق وهم يخلقون ومن الذي خلقهم هو الله جل وعلا هو الذي خلق من عبدوا وهو الذي خلق العابد أيضا، فالذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه إنما هو الله ذو الجلال والإكرام، قال (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا) لأن النصر في الحقيقة إنما هو من عند الله جل وعلا، لو أراد الله أن يمنع نصر الناصر لمنعه.
قال (وقوله: ?وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13)إنْ تَدْعُوهُمْ لاً يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ? الآيات) قال (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) وهذا موطن الشاهد، وقوله (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)حتى هذا القطمير وهو غلاف النواة أو الحبل الواصل من أعلى النواة إلى ظهر الثمرة هذا لا يملكونه، فغيره مما هو أعلى منه من باب أولى وأولى، وحتى هذا الشيء الحقير لا يملكون مما لا يحتاجه الناس ولا يطلبونه، فكيف إذن يطلبون منهم أشياء لا يملكونها؟ قال جل وعلا هنا (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا...)، (الَّذِينَ) إسم موصول يعم كل ما دعي من دون الله -الملائكة أو الأنبياء والرسل أو الصالحين من الأموات أو الطالحين أو الجن أو الأصنام والأشجاروالأحجار-؛ كل ما دعي وما دعي فإنه لا يملك ولو قطميرا لا يملك هذا، فإذن لم يسأل؟ فالواجب أن يتوجه بالسؤال لمن يملك.(1/182)
ذلك ذكر الشيخ رحمه الله بعد ذلك عدة أحاديث في هذا الباب، وهذه الأحاديث مدارها على بيان قول الله جل وعلا ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ?[آل عمران: 128]، ووجه الإستدلال من هذه الأحاديث وإيراد هذه الآية: أن هذا النفي توجه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم، ليس لك يا محمد من الأمر شيء، واللام في قوله لك لام الإستحقاق أو لام الملك؛ يعني لا تستحق شيئا أو لا تملك شيئا يعني لا تستحقه بذاتك وإنما بما أمر الله جل وعلا وبما أذن به، فتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -ومحبة النبي عليه الصلاة والسلام هي فرع عن محبة الله وعن تعظيم الله جل وعلا، فما هو أبعد أو أعظم مما أذن الله به فليس له ذلك، أو كذلك المِلك؛ مِلك الأشياء أو مُلك شيء من الأمر فإنه ليس له عليه الصلاة والسلام , ذلك قال جل وعلا (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)، ولو كان له عليه الصلاة والسلام من الأمر شيء لنصر نفسه وأصحابه يوم أحد ولكن في يوم أحد حصل ما حصل فأنزل الله جل وعلا قوله ?لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ?[آل عمران:128].
كذلك الحديث الآخر لما لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قنوت الفجر فلانا وفلانا من الناس الذين آذوا المؤمنين نزل قول الله جل وعلا (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)؛ يعني لست تملك شيئا من الأمر .
وهكذا الحديث الذي بعده.
وهذه الأحاديث دالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُفي عنه أن يملك شيئا من ملكوت الله، وإذا كان كذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد بلّغ ذلك وبيّنه، ومن هو دونه عليه الصلاة والسلام من باب أولى، فالملائكة أولى أن ينفى عنهم ذلك، والأنبياء أولى أن ينفى عنهم ذلك، وكذلك الصالحون من أتباع الرسل وأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - كذلك أولى أن يُنفى عنهم ذلك.(1/183)
فإذا كان كذلك بطلت كل التوجُّهات إلى غير الله جل و علا، ووجب أن يُتوجه بالعبادة وبأنواع العبادة من الدعاء والإستغاثة والإستعاذة والذبح والنذر وأنواع التوجّهات إلى الحق جل وعلا وحده دون ما سواه.
الحديث الأخير لمّا نزلت ?وأنذِرْ عَشيرتَكَ الأقرَبين?[الشعراء: 214]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنكِ من الله شيئاً" وهذا ظاهر في أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يفعل شيئا بما ينفع به الأقربين إلا ما جعل الله له من الرسالة وبلاغ وأداء الأمانة، وأما أنه يغني عنهم من الله شيئا؛ يغني عنهم العذاب يغني عنهم النكال يغني عنهم العقوبة فالله جل وعلا لم يجعل لأحد من خلقه من ملكوته شيء، وإنما هو سبحانه المتفرد بالملكوت والجبروت والمتفرد بالكمال والجمال والجلال.
¹
باب قول الله تعالى:?حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[سبأ:23].(1/184)
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:"إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خَضَعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك:?حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[سبأ:23]، فيسمعها(1) مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كَذْبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء".
وعن النوّاس بن سِمعان (- رضي الله عنه -)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلّم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة) خوفاً من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعِقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء، سأله ملائكتُها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل"
[الشرح]
__________
(1) قارئ المتن قال: فيسمع الكلمة.(1/185)
هذا الباب -كما ذكرنا بالأمس- مناسبته لكتاب التوحيد أن فيه برهانا على أن المستحق للعبادة هو الله جل جلاله ذلك أنه هو المتصف بصفات الكمال والجلال، وهذا الباب فيه ذِكر لصفة أو لصفات الجلال لله جل وعلا، والله سبحانه كلّ من في السماوات ومن في الأرض خائف منه وجِلٌ منه في الحقيقة إذْ هو الجليل سبحانه، ولذلك كان الأعرف به في السماء الملائكة فإن الملائكة ?يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ?[النحل:50]، وقال وعلا في وصفهم أيضا ?وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ?[الأنبياء:28]، فصفات الجلال لله جل وعلا وصفات الكمال له سبحانه وصفات الجمال له سبحانه هذه كلها دلائل على أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، فمن المتصف بالعظمة على كمالها؟ من الذي يُهاب منه ويُخاف على الحقيقة؟ من الذي يكون كل ما في السماوات وما في الأرض على وفق أمره؟ هو الله جل وعلا.
إذن هو جل وعلا ذو الأسماء الحسنى وذو الصفات العلى، ولهذا قال جل وعلا في آية سبأ (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)، (فُزِّعَ) يعني أزيل الفزع عن قلوب الملائكة، فالملائكة مع أنهم مقربون إلا أنهم شديدوا المعرفة بالله جل وعلا، شديدوا العلم به، عظيم علمهم بالرب جل وعلا، ومما يعلمونه عن الله جل وعلا أنه هو الجبار وأنه هو الجليل سبحانه وأنه ذو الملكوت، فلهذا يشتد فزعهم منه سبحانه؛ لأنه لا غِنى بهم عنه جل وعلا طرفة عين.
والصفات التي فيها هذا البرهان هي صفات الجلال لله جل وعلا، وصفات الجلال هي الصفات التي تورث الخوف في القلب؛ لأن الصفات تنقسم إلى أقسام متنوعة بإعتبارات، ومن تقسيمات الصفات أنها تنقسم إلى صفات جلال وصفات جمال.(1/186)
فالصفات التي تحدث في القلب الخوف والهلع والرهبة من الرب جل وعلا هذه تسمى صفات الجلال، والذي يتصف بصفات الجلال على الحقيقة هو الله جل وعلا؛ لأنه هو الكامل في صفاته سبحانه، فإذا كان كذلك كان الكامل في صفاته هو المستحق للعبادة. وأمّا البشر, أمّا المخلوقين فإنهم ناقصون في صفاتهم يعلمون أن حياتهم ليست حياة كاملة، وإنما هي حياة إذا عرض لها أي عارض صار المخلوق ميْتة، وإذا عرض له أي عارض صار مريضا، إذا عرض له أي عارض صار ضعيفا لا يستطيع أن يعمل شيء، فهم ضعاف فقراء محتاجون ليست لهم صفات الكمال، وهذا ودليل نقصهم ودليل عجزهم ودليل أنهم مقهورون مربوبون، فيجب أن يتوجه العباد إلى من له صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، وهو الله جل وعلا وحده سبحانه وتعالى.
هذا المراد من هذا الباب وهذا ظاهر بحمد الله.
¹
باب الشفاعة
وقوله الله عز وجل: ?وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ?[الأنعام: 51]
وقوله: ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44].
وقوله: ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255].
وقوله: ?وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى?[النجم:26].
قوله: ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ?[سبإ:22-23].(1/187)
قال أبو العباس رحمه الله تعالى: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: ?وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى?[الأنبياء:28], فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده -لا يبدأ بالشفاعة أولاً - ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"
وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه".
فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع. ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك. ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه رحمه الله.
[الشرح]
هذا باب الشفاعة، وإيراد هذا الباب بعد البابين قبله مناسب جدا، ذلك أن الذين يسألون النبي عليه الصلاة و السلام ويستغيثون به ويطلبون منه أو يسألون غيره من الأولياء أو الأنبياء إذا أقمت عليهم الحجة بما ذُكر من توحيد الربوبية، قالوا: نحن نعتقد ذلك؛ ولكن هؤلاء مقربون عند الله معظمون، ورفعهم جل وعلا عندهم ولهم الجاه عند الرب جل وعلا، وإذا كانوا كذلك فهم يشفعون عند الله؛ لأن لهم جاها عنده، فمن توجه إليهم أرضوه بالشفاعة وهم ممن رفعهم الله، ولهذا يقبل شفاعتهم.
فكأن الشيخ رحمه الله رأى حال المشركين وحال الخرافيين واستحضر حججهم وهو كذلك؛ إذ هو أَخْبَرْ أهل هذه العصور المتأخرة بحجج المشركين.(1/188)
استحضر ذلك فقال لم يبق إلا الشفاعة لهم إذا حاججتم فهذا باب الشفاعة.
والشفاعة في الأصل مأخوذة من الشفع، والشفع هو الزوج؛ لأن الشافع طالب، فصار مع صاحب الطلب الأصلي شفعا، فواحد يريد شيئا فأتى الثاني يشفع له فصار شفعا، فسُميت شفاعة لأنه بعد أن كان صاحب الطلب واحدا صار شفعا بعد أن كان فردا، فسميت شفاعة لذلك.
والشفاعة هي الدعاء، وطلب الشفاعة هو طلب الدعاء، فإذا قال قائل: أستشفع برسول الله. كأنه قال: أطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لي عند الله. فالشفاعة طلب، ولهذا من استشفع فقد طلب الشفاعة، فالشفاعة دعاء، وهي الدعاء أيضا.
فلهذا صار كل دليل تقدم لنا، وكل دليل في الكتاب أو في السنة فيه إبطال أن يدعى مع الله جل وعلا إلها آخر يصلح أن يكون دليلا للشفاعة؛ يعني لإبطال الاستشفاع بالموتى وبالذين غابوا عن دار التكليف، لأن حقيقة الشافع أنه طالب، وأن حقيقة المستشفع أنه طالب، فالشافع في ظن المستشفع يدعو، والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة؛ يعني إذا أتى آتٍ إلى قبر النبي أو قبر ولي أو نحو ذلك فقال: استشفع بك أو أسألك الشفاعة. يعني طلب منه ودعاه أن يدعوا له.
فلهذا صار صرفها أو صار التوجه بها إلى غير الله جل وعلا شرك أكبر؛ لأنها في الحقيقة دعوة لغير الله؛ لأنها في الحقيقة سؤال من هذا الميْت، سؤال والتوجه بالطلب والدعاء من غير الله جل وعلا، فيتوجه إلى غير الله بالسؤال والطلب والدعاء.(1/189)
إذن فالشفاعة عرفتَ معناها، وأنَّ التوجه إلى غير الله بالشفاعة -يعني بطلب الشفاعة- شرك أكبر إذا كان هذا المتوجَّه إليه من الأموات، أما إذا كان حياًّ فإنه في دار التكليف يُطلب منه أن يشفع عند الله بمعنى أن يدعُوَ وقد يجاب دُعاءه وقد لا يجاب، أو كما يحصل أن يشفع بعض الناس لبعض بالشفاعة الحسنة أو بالشفاعة السيئة، من يشفع شفاعة حسنة ومن يشفع شفاعة سيئة، فهذا يحصل لأنهم في دار تكليف ويقدرون على الإجابة، وقد أذن الله في طلب الشفاعة منهم بأن يدعوا، لهذا كان الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما أتى بعضهم النبي عليه الصلاة والسلام وطلب أن يشفع له -يعني أن يدعوا له-.
مسألة الشفاعة من المسائل التي تخفى على كثيرين، ولهذا وقع بعض أهل العلم في أغلاط من جهة طلب الشفاعة من النبي عليه الصلاة والسلام، فأوردوا قصصا في كتبهم فيها استشفاع بالنبي عليه الصلاة والسلام دون إنكار -كما فعل النووي وكما فعل ابن قدامة في المغني ونحو ذلك-، وهذا لا يعدّ خلافا في المسألة؛ لأن هذا الخلاف راجع إلى عدم فهم حقيقة هذا الأمر.
ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء، ولهذا يقول أهل العلم من أئمة الدعوة رحمهم الله: إقامة الحجة في مسائل التوحيد تختلف بحسب قوة الشبهة، فأقل الشبهات ورودا وأيسر الحجج قدوما على المخالف فيما يتعلق بأصل دعوة غير الله معه، وبالاستغاثة بغير الله وفي الذبح لغير الله ونحو ذلك، ومن أكثرها اشتباها إلا على المحقق من أهل العلم مسألة الشفاعة.
ولهذا الشيخ رحمه الله أتى بهذا الباب وقال (باب الشفاعة)، وبين لك بما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة أن الشفاعة لا تصح إلا بشروط، فالشفاعة التي تنفع فإنها لا تصح إلا بشروط، وكذلك هناك شفاعة منفية، ليست كل شفاعة تقبل، وإنما هناك شفاعة تقبل وهناك شفاعة تردُّ، تقبل بشروط وتردُّ أيضا بأوصاف.(1/190)
فإذن صار عندنا أن الشفاعة قسمان في القرآن والسنة: شفاعة منفية وشفاعة مثبتة.
أما الشفاعة المنفية: فهي التي نفاها الله جل وعلا عن أهل الإشراك، كما ساق الشيخ رحمه الله أول الدليل قال (وقول الله عز وجل ?وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ?[الأنعام: 51]) فهذه الشفاعة منفية، وهي منفية عن الجميع، عن الذين يخافون؛ عن أهل التوحيد وعن غيرهم.
أما عن أهل التوحيد فهي منفية إلا بشروط وهي إذن الله للشافع أن يشفع ورضاه جل وعلا عن الشافع وعن المشفوع له.
فإذن قوله هنا (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) يعني أنَّ الشفيع في الحقيقة هو الله جل جلاله دون ما سواه، ولهذا أعقبها بالآية الأُخرى ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، فالشفاعة جميعا ملك لله، وأهل الإيمان وغيرهم في الحقيقة ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ليس أحد يشفع لهم من دون الله جل وعلا؛ بل لابد أن تكون الشفاعة بالله؛ يعني بإذنه وبرضاه.
فإذن إذا تقرر ذلك، فإنه إذا نُفيت الشفاعة عن أحد سوى الله جل وعلا وأن الذي يملك الشفاعة إنما هو الله جل وعلا وحده، فإذن بطل التعلق -تعلق قلوب أهل الذين يسألون الموتى الشفاعة- بطل تعلقهم بمسألة الشفاعة لأن الشفاعة ملك لله وهذا لا يملكها.(1/191)
هل تنفع الشفاعة مطلقا أم لابدَّ أيضا من قيود؟ نعم الشفاعة تنفع؛ لكن لا بدَّ من شروط، ولهذا أورد الآيتين بعدها، قال جل وعلا ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255]، قال (وقوله: ?وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى?[النجم:26]) فوجه الاستدلال من الآية الأولى أن فيها قيد الإذن؛ فليس أحد أن يشفع إلا بشرط أن يأذن الله له (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) يعني لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه لا الملائكة ولا الأنبياء ولا المقربون، وإنما الله جل وعلا هو الذي يملك الشفاعة.
إذا كان كذلك وأنه لا بد من إذنه جل وعلا، فمن الذين يأذن الله جل وعلا لهم؟
لا أحد -إذن- يبتدئ بالشفاعة دون أن يؤذن له، فإذا كان كذلك فإذن رجع الأمر إلى أنَّ الله هو الذي يوفق للشفاعة وهو الذي يأذن بها، ولا أحد يبتدئ بالشفاعة.
كذلك الآية الأخرى قال(إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ) يعني من الشافعين (وَيَرْضَى) يرضى قول الشافع ويرضى أيضا عن المشفوع له.
هذه الشروط فائدتها -وهي فائدة هذا الباب- أنه لا أحد يتعلق -إذن- بأنّ هذا الذي طُلبت منه الشفاعة أن له مقاما عند الله يملك به أن يشفع كما يعتقد أهل الشرك في أنّ آلهتهم تشفع ولا بد أن تشفع، فاعتقاد المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء أكانوا من الأميين أو من أهل الكتاب يعتقدون أن من توجهوا له بالشفاعة من الآلهة أنه يشفع جزما، إذا تُوجه إليه وكل له وتقرب إليه بالعبادات وطُلبت فيه الشفاعة عند الله فانه يشفع جزما، وأن الله جل وعلا لا يرد شفاعته.
فهذه الآيات فيها إبطال لدعوى أولئك المشركين في أنه ثَم أحد يملك الشفاعة بدون إذن الله وبدون رضاه عن المشفوع له.(1/192)
وإذا ثبت انه لا أحد يملكها وأن من يشفع إنما يشفع بإكرام الله له وبإذنه جل وعلا له، فإذن كيف يتعلق المتعلق بهذا المخلوق؟ إنما يتعلق بالذي يملك الشفاعة، ولهذا شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة حاصلة لكن نطلبها ممن؟ نطلبها من الله؛ فنقول: اللهم شفِّع فينا نبيك. لأنه هو الذي يفتح ويُلهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يشفع في فلان وفي فلان؛ في من سألوا الله أن يشفع لهم النبي عليه الصلاة والسلام.
لهذا أعقبها الشيخ رحمه بالله بآية سبأ قال (وقوله ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير?[سبإ:22])، هذه ثلاث حالات:
µ الحالة الأولى: أن يدعوا الذين زعموهم من دون الله، وأن ينظروا هل يملكون مثقال ذرة في السماوات أو في الأرض، قال جل وعلا (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْض)، فإذن المِلك الاستقلالي لهم نُفِيَ، وهذه هي الحالة الأولى.
µ والثانية: قال (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) أيضا نُفِيَ أن يكونوا شركاء لله في المُلك في تدبير السماوات والأرض، في مِلك شيء في السماوات والأرض.
فنُفي أولا أن يملكوا استقلالا.
ونُفي ثانيا أن يملكوا شركة.
µ قال جل علا بعدها (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) الظهير هو المعاون والمؤازر والوزير، قال (مَا لَهُ) جل وعلا (مِنْهُمْ) يعني من تلك الآلهة من وزير ولا معاون؛ لأنه يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن ثمة من يعين الله على أمره مثل الملائكة أو مثل الأنبياء، فإذا تُوُجِّه إلى أولئك بالدعاء وبالطلب كان التوجه إلى من يعين الله، فيكون إذا طلب من الله فإن الله لا يرده لأنه يعينه.(1/193)
بنوا ذلك على تشبيه الخالق جل وعلا بما يحصل من المخلوقين، فإن الملك في هذه الدنيا أو الحاكم أو الأمير إذا كان له من يعينه ومن ظاهره وشفع لأحد فإنه لا يرد شفاعة لأنه يحتاجه؛ فلأجل هذه الحاجة لا يرد أي عمل أو الملك شفاعة من له ظهير، من كان له ظهير، فيظن المشركون أن بعض تلك الآلهة معاونة الله جل وعلا، فنفى الله هذا الاعتقاد الجاهلي، ونفى أخيرا آخر اعتقاد وهو أن تلك الآلهة كما الشفاعة قال جل وعلا ?وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير?[سبإ:23]، فنفى آخر ما نفى الشفاعة وأثبتها بشرط قال (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ). (1)
فالشفاعة تنفع بشرط أن يأذن الله، فإذن لا يبتدئ هذا الشافع فيشفع.
فإذا كان كذلك توجّه السؤال إذن الآن: من يأذن الله لهم؟ إذا كان ليس له شريك، وليس له ظهير، وليس عنده شفيع إلا بإذنه، فمن ذا الذي -إذن- يشفع عنده بإذنه، من هم، ومن الذي يأذن له الله جل وعلا؟
الجواب في ما قاله شيخ الإسلام ابن تيميه فيما ساقه الشيخ رحمه الله بعد ذلك.
إذن فالآيات التي سبقت من أول الباب إلى هنا رتبها الإمام رحمه الله ترتيبا موضوعيا، فالآيات الأُوَل وجه الاستدلال منها أنّ الشفاعة مِلك لله -الآية الأولى والثانية- وأنه ليس لأحد شيء من الشفاعة؛ يعني ليس أحد يملك شيئا من الشفاعة، فإذا كان لا يملك إذن من يشفع، كيف يشفع؟ يشفع بأن يعطى الشفاعة، يؤذن له بالشفاعة، يكرم بالشفاعة.
من يشفع؟ هل يشفع استقلالا؟ نفى شفاعة الاستقلال وأثبت الشفاعة بشرطين وهو شرط الإذن والرضى.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع.(1/194)
إذا كان كذلك فمن الذي يؤذن له؟ ومن الذي يُرضى له أن يشفع؟ ومن الذي يرضى عنه أن يُشفّع فيه؟ هذه ثلاثة أسئلة جوابها في كلام شيخ الإسلام، حيث قال المصنف رحمه الله: (قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلك أو قسط منه أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: ?وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى?[الأنبياء:28]، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن)، (منتفية يوم القيامة) يعني عن جميع الخلق إلا لمن أثبت الله جل وعلا له الاستحقاق أو أن يكون نائلا تلك الشفاعة؛ يعني الأصل لا شفاعة إلا لمن رضي الله قوله أو أذن له جل وعلا، قال (كما نفاها القرآن وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده).
قول الشيخ رحمه الله (فهذه الشفاعة التي يضنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن) يعني منتفية بدون شروط لأن المشركين يعتقدون أنها تحصل بدون إذن من الله ولا رضاه؛ لأن الشافع عندهم يملك الشفاعة، ولكن هي تحصل بالشرط كما أثبت ذلك الكتاب والسنة.
قال (يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له ارفع رأسك وقل يُسمع وسل تُعطى واشفع تشفع، وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه").
فالدليل الأول من السنة في أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم لا يشفع حتى يؤذن له، (يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع) هذا في دليل الإذن، من الذي يؤذن له؟ يؤذن للنبي عليه الصلاة و السلام ويؤذن لغيره، لا يبتدئون وإنما يستأذنون في الشفاعة فيؤذن لهم لم؟ لأنهم لا يملكونها وإنما الذي يملكها عند الله إنما هو الله جل وعلا سبحانه وتعالى.(1/195)
من الذي يؤذن في الشفاعة فيه؟ من الذين يرضى عنه في الشفاعة؟ جاء بالحديث الآخر حيث قال أبو هريرة للنبي صَلَّى الله عليه وسلم (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه") فهذا الذي يرضى عنه فيشفع فيه بعد إذن الله جل وعلا هو صاحب الإخلاص؛ هم أهل التوحيد.
فإذن تلك الشفاعة منتفية عن أهل الشرك ولهذا قال (فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله).
فإذا كان كذلك يكون الدي توجه إلى الموتى؛ إلى الرسل أو إلى الأنبياء أو إلى الصالحين أو الطالحين يطلب منهم الشفاعة فإنه مشرك؛ لأنه توجه بالدعاء لغير الله، وأولئك لا يملكون الشفاعة وإنما يشفعون بعد الإذن والرضى، والرضى يكون عن أهل التوحيد وأهل التوحيد هم الذين لا يسألون الشفاعة أحدا من الموتى.
فإذن كل من سأل ميْتا الشفاعة فقد حرم نفسه الشفاعة لأنه أشرك بالله جل وعلا، والشفاعة المثبتة إنما هي لأهل الإخلاص ليس لأهل الشرك فيها نصيب.
ونقف عند هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بقي في باب الشفاعة الأسطر الأخيرة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فوقفنا عند قوله (وحقيقته) يعني حقيقة الشفاعة (أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود) هذا في حقيقة الشفاعة، فإننا ذكرنا لكم أن الشفاعة نُفي أن يملكها أحد إلا الله جل وعلا ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، لام هذه لام المِلك يعني الذي يملك الشفاعة هو الله جل وعلا، فقال ?لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ?[الأنعام: 51]، فإنّ الشفاعة إنما هي لله تبارك وتعالى، وجاء في الأدلة أن الشفاعة منفية عن المشركين وأن الشفاعة النافعة إنما هي لأهل الإخلاص بشرطين الإذن والرضى.
إذا تقرر ذلك فما حقيقة الشفاعة؟ يعني ما حقيقة حصولها وكيف تحصل؟(1/196)
الجواب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله (حقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضّل على أهل الإخلاص) يعني الذين شُفع لهم إنما ذلك بتفضّل الله جل وعلا عليهم وهم أهل الإخلاص، حيث جاء في حديث أبو هريرة: قال عليه الصلاة والسلام "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" أو قال "خالصا من قلبه ونفسه"، فأهل الإخلاص هم الذين يُكرمهم الله بالشفاعة، فالمتفضل بالشفاعة هو الله جل وعلا.
فإذا ثبت ذلك انقطع القلب من التعلق بغير الله لأجل الشفاعة، فإن الذين توجهوا إلى المعبودات المختلفة -إلى الأولياء إلى الصالحين إلى الملائكة إلى غير ذلك- توجهوا إليهم رجاء الشفاعة، كما قال جل وعلا عنهم ?وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، فإذا بطل أن تكون لهم الشفاعة وأن المتفضل بالشفاعة هو الله جل وعلا فإن الله جل جلاله إنما يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة من دعا، بواسطة دعاء الذي أذن له أن يشفع.
وهاهنا سؤال: لِم لم يتفضل الله عليهم أن غفر لهم بدون واسطة الشفاعة؟
والجواب عند ذلك ما ذكره شيخ الإسلام هنا بقوله (ليكرمه) فهو إظهار فضل الشافع، إظهار إكرام الله جل وعلا للشافع في ذلك المقام، إذْ -كما هو معلوم- أن الشافع الذي قُبلت شفاعته ليس في المقام مثل المشفوع له فالله جل وعلا يُظهر إكرامه لمن أذن له أن يشفع، ويُظهر رحمته بالشافع؛ لأن الشافع له قرابة يريد أن يشفع لهم، له أحباب يريد أن يشفع لهم، لذلك الشفاعة يوم القيامة لأهل الكبائر ليست خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بل يشفع للأنبياء وتشفع الملائكة ويشفع أيضا الصالحون، فهذه شفاعات مختلفة في أهل الكبائر بإكرام الله جل وعلا للشافع ورحمة بالشافع، وأيضا رحمة بالمشفوع له وإظهار فضل الله جل وعلا على الشافع والمشفوع له.(1/197)
هذه هي حقيقة الشفاعة أنّ الله جل وعلا يتفضل فيقبل الشفاعة بإذنه، يتفضل على الشافع ويكرمه بأن يشفع، يتفضل ويرحم المشفوع له فيقبل فيه الشفاعة.
فإذن هي كلها دالة -لمن كان له قلب- على عظم الله جل وعلا وتفرده بالملك وتفرده بتدبير الأمر وأنه الذي يجير ولا يجار عليه سبحانه وتعالى، هو الذي له الشفاعة كلها، هو الذي له ملك الأمر كله، ليس لأحد منه شيء، وإنما يُظهر فضله ويُظهر إحسانه ويُظهر رحمته ويظهر كرمه لتتعلق القلوب به.
فبطل إذن أن يكون ثمة تعلق للقلب لغير الله جل وعلا لأجل الشفاعة، فالذين تعلقوا بالأولياء أو تعلقوا بالصالحين أو بالأنبياء أو بالملائكة لأجل الشفاعة هذه هي حقيقة الشفاعة من أنها فضل من الله جل وعلا وإكرام.
فإذا كانت كذلك وجب أن تتعلق القلوب به سبحانه وتعالى في رجاء الشفاعة؛ إذ هو المتفضل بها على الحقيقة، والعباد مكرمون بها لا يبتدئون بالقول ولا يسبقون بالقول، وإنما يجلون ويخافون ويثنون على الله ويحمدون حتى يؤذن لهم بالشفاعة.
ثم قال شيخ الإسلام (فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك) التي نفاها القرآن في مثل قوله جل وعلا ?لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ?[الأنعام: 51]، هذه شفاعة منفية، هي الشفاعة التي فيها شرك، كذلك الشفاعة للمشركين منفية لأنهم لم يُرض عنهم.
فالشفاعة التي فيها شرك من جهة الطلب أو من جهة من سئل له بأن ذلك مشركا فإنها منفية عن أهلها لا تنفعهم.
فإذن يثبت في ذلك أن الذي هو حقيق بالشفاعة هو الذي أنعم عليه بالإخلاص ووفقه لتعظيمه وتعليق القلب به وحده دون ما سواه.
فإذن كل مشرك الشفاعة عنه منفية؛ كل مشرك الشرك الأكبر فالشفاعة عنه منفية؛ لأن الشفاعة فضل من الله لأهل الإخلاص.
أما الشفاعة المثبتة فهي التي أثبتت؛ يعني جاء إثباتها بشرط الإذن والرضى.(1/198)
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع) وهذه هي الشفاعة المثبتة، أثبتها بإذنه في مواضع يعني بشرط الإذن.
والإذن: إذن كوني وإذن شرعي.
فالمأذون له لا يمكن أن تحصل له الشفاعة إلاّ أن يؤذن الله له كونا بأن يشفع، فإذا منعه الله كونا أن يشفع ما حصلت منه الشفاعة ولا تحرك بها لسانه.
كذلك الإذن الشرعي في الشفاعة بأن تكون الشفاعة ليس فيها شرك وأن يكون المشفوع له ليس من أهل الشرك، ويخص من ذلك أبو طالب حيث يشفع له النبي عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه، فهي شفاعة في الانتفاع بالإخراج من النار إنما هي في تخفيف العذاب، وهي خاصة هذه بالنبي عليه الصلاة والسلام بما أوحي الله جل وعلا إليه وأذن له بذلك.
قال رحمه الله في آخر كلامه (وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص وهذه هي الشفاعة المثبتة).
فتبين في هذا الباب أن الشفاعة التي تعلقت بها قلوب الخرافيين والمتعلقون بغير الله أن ذلك باطل وأن قولهم ?وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، هذا قول باطل إذْ الشفاعة التي تنفع إنما هي لأهل الإخلاص، وما دام أنهم طلبوا الشفاعة من غير الله فقد سألوا غير الله جل وعلا الشفاعة وهذا مؤذِنٌ بحرمانهم من الشفاعة فإنما هي لأهل الإخلاص.
وخلاصة الباب أن تعلق أولئك بالشفاعة إنما هو عليهم ليس لهم؛ لأنهم لما تعلقوا بالشفاعة حرموها لأنهم تعلقوا بشيء لم يأذن الله جل وعلا به شرعا بأن استخدموا الشفاعات الشركية وتوجهوا إلى غير الله وتعلقت قلوبهم بغير الله.
¹
[الأسئلة]
[س/ رجل عنده ولد مريض مرضا لم يجد له علاج فقال: أذهب إلى مكة وأضع ولدي عند البيت أدعو له بالشفاء، ثم وقت الظهر سوف أعزم مائة شخص من فقراء الحرم على الغداء وأقول: ادعوا الله أن يشفي ولدي. فما رأيكم في هذا العمل؟(1/199)
ج/ هذا العمل فيه: تصدق ودعوة الفقراء إلى الطعام، وفيه طلب الدعاء منهم لولده.
والتصدق بالطعام هذا من جنس المشروع كما ذكرت لكم، فإن كان فيه من الذبائح فعلى التفصيل الذي مر من قبل سواء أكانت دجاجا أو كان ضأنا أو غير ذلك مما يُذبح يعني مما فيه إراقة دم، وإن كان أطعمهم طعاما لإشباعهم والتصدق عليهم، هذا هو القصد.
وطلب منهم الدعاء، وهي المسألة الثانية فهذا راجع إلى: هل يشرع طلب الدعاء من الغير بهذه الصفة؟
والظاهر أن هذا من جنس ما هو غير مشروع، وإذا قلنا: غير مشروع يعني مما ليس بمستحب ولا واجب، وهل يجوز ذلك أم لا؟
طلب الدعاء من الآخرين قال العلماء فيه: الأصل فيه الكراهة.
والذي يتأمل(1) ما روي عن الصحابة وعن التابعين فيمن طلب منهم الدعاء أنهم قهروه ونهوه، وقالوا: أنحن أنبياء؟ كما قال حذيفة، وكما قال معاذ، وكما قال غيرهما، ومالك بن أنس - رضي الله عنه - ورحمه إمام دار الهجر كان ربما طُلِب منه الدعاء فنهى من طلب منه الدعاء، لم؟ لأنه إذا عرف عند الناس أن فلانا يطلب منه الدعاء بخصوصه، فإن القلوب تتعلق بذلك، وإنما يتعلق في طلب الدعاء بالأنبياء أما من دونهم فلا يتعلق بهم في هذا الأمر.
لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن طلب الدعاء من المسلم الحي يكون مشروعا إذا قصد به نفع الداعي ونفع المدعو له، إذا قصد الطالب أن ينفع الجهتين، ينفع الداعي وينفع المدعو له فهذا محسن وطالب لنفسه، فهذا من المشروع، وهذا هو الذي يُحمل عليه ما جاء في السنة فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر لما أراد أن يعتمر قال له:"لا تنسنا يا أخي من دعائك" وهذا الحديث إسناده ضعيف، وقد احتج به بعض أهل العلم، وظاهر أن معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينفع عمر بهذه الدعوة، فالطالب للدعاء محتاج إلى غيره.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.(1/200)
المقصود من هذا أن فعل هذا السائل لأجل ولده الأَوْلى تركه لأجل ألا يتعلق قلبه بأولئك في دعائهم.
ومن العلاج المناسب أن يلتزم بين الركن والمقام يعني بين الحجر الأسود وبين آخر حد باب الكعبة وهو الملتَزم، يلتزم ويلصق بطنه وصدره وخده ببيت الله جل وعلا، ويقف بالباب مخبتا منيبا سائلا الله جل وعلا، منقطعا عن الخلق، عالما أنه لا يشفي من الداء في الحقيقة إلا الله جل جلاله، وأنه جل وعلا هو الذي يشفي وهو الذي يعافي كما قال ?مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ?[فاطر:2]، فهذا أعظم أثرا إن شاء الله من فعله الذي يريد أن يفعله من دعوة أولئك، فالتضرع لله في أوقات الإجابة وفي الأماكن الفاضلة وفي الأزمنة الفاضلة نرجو أن يكون معه إجابة الدعاء وشفاء المرض.](1)
[س/ ما الفرق بين التوسل والشفاعة؟ نرجو التوضيح وجزاكم الله خيرا.
ج/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن إهتدى بهداه.
أما بعد:
التوسل هو إتخاذ الوسيلة، والوسيلة هي الحاجة نفسُها أو من يوصل إلى الحاجة، قد يكون ذلك التوسل باستشفاع؛ يعني بطلب الشفاعة؛ يعني يصل إلى حاجته -بحسب ظنه- بالإستشفاع، وقد يصل إلى حاجته -بحسب ظنه- بغير الإستشفاع، فيتوسل مثلا بالذوات يسأل الله بالذات، يسأل الله بالجاه، يسأل الله بحرمة فلان، مثلا ما يقول: أسألك اللهم بنبيك محمد، بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، أو يقول: أسألك اللهم بأبي بكر أو بعمر أو بالإمام أحمد أو بابن تيمية -أو إلى آخره- بالولي الفلاني، بأهل بدر، بأهل بيعة الرضوان، يسأله بهم.
هذا هو الذي يسمونه توسلا، وهذا التوسل معناه أنه جعل أولئك وسيلة، وأحيانا يقول لفظ (الحرمة) أسألك بحرمتهم أسألك بجاههم ونحو ذلك.
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الرابع من باب ما جاء في الرقى والتمائم.(1/201)
أما الإستشفاع فهو أن يسألهم الشفاعة، يطلب منهم أن يشفعوا له.
وتحصَّل من ذلك أن التوسل يختلف عن الإستشفاع؛ فإن المستشفِع طالب للشفاعة، والشفاعة إذا طلبها من العبد فيكون قد سأل غير الله، وأما المتوسل بحسب العُرف -عُرف الإستعمال- المتوسل يسأل الله لكن يجعل ذلك بوسيلة أحد.
فالإستشفاع سؤال لغير الله، وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان بحرمته بجاهه.
والتوسل بالذوات وبالجاه وبالحرمة لا يجوز لأنه إعتداء في الدعاء ولأنه بدعة محدثة، وهو وسيلة إلى الإشراك.
وأما الإستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء وهو الميت أو الغائب أو نحو ذلك فهذا طلب ودعاء لغير الله وهو شرك أكبر.
فالتوسل بحسب العرف هذا من البدع المحدثة ومن وسائل الشرك.
وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله وهو شرك أكبر.
الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون عباداتهم جميعا من طلب الشفاعة ومن الذبح والنذر ومن الإستغاثة ودعاء الموتى يسمونها توسلا، وهذا غلط على اللغة وعلى الشرع.
والكلام في أصله ما يصح المعنى به لغة، وبين التوسل والشفاعة في أصل ما يصح لغة، أما إذا أخطأ الناس وسمو العبادات المختلفة توسلا فهذا غلط من عندهم.](1)
[س/ وهذا يقول بعض العلماء أجاز التوسل ودليلهم حديث إلى الأعمى، فكيف يرد عليهم وجهازكم الله خيرا ؟
ج/ حديث الأعمى رواه الترمذي وغيره وهو حديث حسن، وهناك رواية أخرى طويلة في معجم الطبراني الصغير لهذا الحديث، وفيها زيادة: أن أحد الصحابة وهو عثمان بين حنيف - رضي الله عنه - أنه أرشد إلى استعمال ذلك الدعاء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
القدر الأول وهو أن الأعمى توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته، هذا صحيح وجار على الأصول، توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته توسل بدعائه، وهو عليه الصلاة والسلام يملك ذلك ويستطيعه ويقدر عليه.
__________
(1) مأخوذ من الوجه الثاني للشريط السابع من نفس الباب (باب الشفاعة)(1/202)
أما توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام أي بدعائه أو بذاته بعد وفاته فإنه لا يجوز أنه من طلب الشيء مما لا يملكه.
والرواية التي بالطبراني الصغير ضعيفة وفيها مجاهيل، ولذلك ليست بحجة في ما وردت في استعمال الصحابة ذلك بعد وفاته.
والذي يدل على أيضا عن ذلك خاص بالأعمى وعلى أصل الاستشفاع أنه رحمة من الله جل وعلا للمستشفع وفضل منه عليه وإزالة عما به أن ذلك الأعمى رأى النور و أبصر بعد دعاء النبي عليه الصلاة والسلام له، وتوجه ذلك الأعمى إلى الله جل وعلا أن يجيب فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام.
الصحابة الآخرون الذين كانوا مكفوفين لم يدعوا بهذا الدعاء، فكان في المدينة أناس عده كفت أبصارهم، منهم ابن أم مكتوم وجماعة فما دعوا بهذا الدعاء، وإنما كان ذلك خاصة بذلك الأعمى.
فالعلماء لهم بذلك توجيهان:
التوجيه الأول: أن ذلك الدعاء كان خاصا بذلك الأعمى بدليل عدم استعمال بقية الصحابة ذلك الدعاء، وعدم إرشاد النبي عليه الصلاة والسلام لهم أن يزال ما بهم من عمى البصر بذلك الدعاء.
والتوجيه الثاني: أن ذلك خاص بحياته عليه الصلاة والسلام، ولا يكون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وهذا الثاني والأول جميعا ظاهرة صحيحة والصحابة فهموا ذلك.
ولهذا ثبت في البخاري وغيره أنّ عمر - رضي الله عنه - لما أجدبوا قال وهو يخطب الاستسقاء قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بنبيك، وإنّا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك، يا عباس قم فادع الله لنا.
قال العلماء انتقل عمر من الفاضل وهو النبي عليه الصلاة والسلام إلى المفضول وهو العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام لعلة شرعية، وهو أن الدعاء من الحي ممكن وأما من غير الحي -حياة الدنيا المعروفة- فإنه غير ممكن، وإلا يكون عمر - رضي الله عنه - انتقل من الفاضل إلى المفضول بغير علة شرعية، وهذا ممتنع فقها للصحابة رضوان الله عليهم.] (1)
¹
__________
(1) مأخوذ من الوجه الثاني للشريط السابع.(1/203)
باب قول الله تعالى: ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56]
وفي الصحيح عن ابن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهلٍ، فقال له:"يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعادا، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاستغفرن لك ما لم أنه عنك".
فأنزل الله عز وجل: ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى?[التوبة:113]
وأنزل الله في أبي طالب ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56].
[الشرح]
(باب قول الله تعالى ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56]).
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أنّ الهداية من أعز المطالب وأعظم ما تعلق به الذين تعلقوا بغير الله أن يكون لهم النفع في الإستشفاع وفي التوجه في الدنيا والأخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو سيد ولد آدم وهو أفضل الخلق عند ربه جل وعلا- نفي عنه أن يملك الهداية وهي نوع من أنواع المنافع، فدلّ على أنه عليه الصلاة والسلام ليس له من الأمر شيء كما جاء في ما سبق في باب قول الله تعالى ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191] في سبب نزول قول الله تعالى ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ?[آل عمران: 128].(1/204)
فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ليس له من الأمر شيء ولا يستطيع أن ينفع قرابته, "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا" إذا كان هذا في المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يغني من الله جل وعلا من أحبابه شيئا وعن أقاربه شيئا، وأنه لا يملك شيئا من الأمر وأنه ليس بيده هداية التوفيق، فإنه أن ينتفي ذلك وما دونه عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب أوْلى، فبطل إذن كل تعلق للمشركين من هذه الأمة بغير الله جل وعلا؛ لأن كل من تعلقوا به هو دون النبي عليه الصلاة والسلام بالإجماع.
فإذا كانت هذه حال النبي عليه الصلاة والسلام وما نُفي عنه فإن نفي ذلك عن غيره - صلى الله عليه وسلم -من باب أولى.
قال هنا (باب قول الله تعالى ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56])، (لَا) هنا نافية، وقوله (تَهْدِي) الهداية المنفية هنا هي هداية التوفيق والإلهام الخاص والإعانة الخاصة، هي التي يُسميها العلماء هداية التوفيق والإلهام، ومعناها أنّ الله جل وعلا يجعل هداية التوفيق، معناها أن الله جل وعلا يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قَبول الهدى ما لا يجعله لغيره، فالتوفيق إعانة خاصة لمن أراد الله توفيقه، بحيث يقبل الهدى ويسعى فيه، فجعل هذا في القلوب ليس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، حتى من أحب لايستطيع عليه الصلاة والسلام أن يجعله مسلما مهتديا، فمِن أنفع قرابته له أبو طالب ومع ذلك لم يستطع أن يهديه هداية توفيق، فالمنفي هنا هو هداية التوفيق.(1/205)
والنوع الثاني من الهداية المتعلقة بالمكلف هداية الدلالة والإرشاد، وهذه ثابتة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بخصوصه، ولكل داع إلى الله ولكل نبي ورسول، قال جل وعلا ?إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ?[الرعد:7]، وقال جل وعلا في نبيه عليه الصلاة والسلام ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52)صِرَاطِ اللَّهِ?[الشورى:52-53]، (لَتَهْدِي) يعني تدل وترشد إلى صراط مستقيم بأبلغ أنواع الدلالة وأبلغ أنواع الإرشاد، الدلالة والإرشاد المؤيَّدان بالمعجزات والبراهين والآيات الدالة على صدق ذلك الهادي وصدق ذلك المرشد.
فإذن الهداية المنتفية هي هداية التوفيق، وهذا يعني أن النفع وطلب النفع في هذه المطالب المهمة يجب أن يكون من الله جل وعلا، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام مع عِظم شأنه عند ربه وعِظم مقامه عند ربه وأنه سيد ولد آدم وأنه أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام وأشرف الأنبياء والمرسلين إلا أنه لا يملك من الأمر شيئا عليه الصلاة والسلام.
فبَطَل -إذن- تعلق القلوب في المطالب المهمة في الهداية وفي المغفرة وفي الرضوان وفي البعد -بعد الشرور- وفي جلب الخيرات إلا بالله جل وعلا فإنه هو الذي تتعلق القلوب به جل وعلا خضوعا وإنابة ورغبا ورهبا وإقبالا عليه وإعراضا عما سواه سبحانه وتعالى.(1/206)
قال بعد ذلك (وفي الصحيح عن ابن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إلى أن قال(فقال له "يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله" فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعادا، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.) في هذا القدر من الفائدة أن هذه الكلمة كلمة (لا إله إلا الله) ليست مجردة عن المعنى، تنفع من قالها ولو لم يُقِرَّ بمعناها، والعرب كانوا لصلابتهم وعزتهم ورجولتهم ومعرفتهم بما يقولون كانوا إذا تكلموا بكلام يعون ما يتكلمون به، يعون كل حرف وكل كلمة خوطبوا به أو نطقوا به هم، فلما قيل لهم قولوا لا إله إلا الله مع أنها كلمة يسيرة لكن أبوا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة معناها إبطال إلهة من سوى الله جل وعلا، ولهذا قال جل وعلا ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلهَِتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36) بَلْ جَاءَ بِالَحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ?[الصافات:35-37]الآيات، وكذلك قوله في أول سورة ص فجاء قول الله جل وعلا مخبرا عن قولهم ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] استنكروا لا إله إلا الله، وهذا هو الذي حصل مع أبي طالب حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله) فلو كانت مجردة من المعنى عندهم أو يمكن أن يقولها دون اعتقاد وما فيها ورضى بما فيها ويقين وانتفاء الريب لقالها؛ ولكن ليس هذا هو المقصود من قول الله بل المقصود وهو قولها مع تمام اليقين بها وانتفاء الريب والعلم والمحبة إلى آخر الشروط.(1/207)
(فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب) وهذا فيه والعياذ بالله ضرر جليس السوء على المجالس له، (فكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك") وهذا هو موطن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبة هذا الحديث لهذا الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لأستغفرن لك) واللام هنا هي التي تقع في جواب القسم، فثَم قسم مقدر تقديره: والله لأستغفرن لك. وحصل من النبي - صلى الله عليه وسلم -أن استغفر لعمه؛ ولكن هل نفع عمَّه استغفار النبي صَلَّى الله عليه وسلم له؟ لم ينفعه ذلك، وطلب الشفاعة والإستشفاع هو من جنس طلب المغفرة، فالإستغفار طلب المغفرة، والشفاعة قد يكون منها طلب المغفرة فرُدت، رُدّ ذلك لأن المطلوب له المستشفع له هو مشرك؛ لأن المستشفع له المشفوع له مشرك بالله، والإستغفار والشفاعة لا تنفع أهل الشرك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك أن ينفع مشركا بمغفرة ذنوبه أو أن ينفع أحدا ممن توجه إليه بشرك في إزالة ما به من كربات أو جلب الخيرات له، لهذا قال (لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنك) فأنزل الله عز وجل?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ?[التوبة:113].
وهذا ظاهر في المقام أن الله جل وعلا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر للمشركين.
وكلمة (مَا كَانَ) في الكتاب والسنة تأتي على استعمالين:
الاستعمال الأول: النهي. والاستعمال الثاني: النفي.
النهي: مثل هذه الآية وهي قوله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) هذا نهي عن الاستغفار لهم، وكذلك قوله ?مَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّة?[التوبة:122].(1/208)
والنفي: كقوله?وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ?[القصص:59] ونحو ذلك من الآيات.(1)
فإذن (مَا كَانَ) من القرآن تأتي على هذين المعنيين، وهنا المراد بها النهي؛ نهي أن يستغفر أحد لمشرك.
وإذا كان كذلك فالميت الذي هو من الأولياء، من الأنبياء، من الرسل فإذا نُهي في الحياة الدنيا أن يستغفر لمشرك، فهو أيضا لو فرض أنه يقدر على الاستغفار في حال البرزخ فإنه لن يستغفر لمشرك توجه إليه بالاستشفاع أو توجه إليه بالاستغاثة أو بالذبح أو بالنذر أو تألهه أو توكل عليه أو أنزل به حاجاته من دون الله جل وعلا.
قال (وأنزل الله في أبي طالب: ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56])
¹
[الأسئلة]
[س/ ما حكم عمل احتفال بسيط بمناسبة انتهاء عقد أحد العاملين بالشركة، سواء كان مسلما أو غير مسلم، وحجة بعضهم في عمل الاحتفال لغير المسلم أنه من باب دعوته إلى الإسلام، مع العلم أنه خلال وجوده في العمل لم يقدَّم له كتاب أو شريط لدعوته الإسلام ممن يحتجون لهذا القول، وجزاكم الله خيرا ؟
ج/ تلك الاحتفالات المقصود منها إكرام من أقيمت له، فإذا كان مسلما فإكرام المسلم من حقوقه المستحبَّة، وإذا كان غير مسلم فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون ممن لم يُظهر للإسلام عداوة؛ بل وأظهر في الإسلام رغبة وهو مسالم لأهل الإسلام ومحب لأهل الخير، محب لأهل الدين والصلاح، كما يظهر من بعضهم، فهذا الغالب على قلبه أنه يَصلح أن يدعى للإسلام؛ لأنه قريب سَلِمَ من البغضاء والعداوة التي تحجزه عن قبول الحق لو عرض عليه.
فهذا النوع إذا كان قصد من عمل الاحتفال أن يكون بداية لدعوته وأن يكون في الاحتفال شيء من الدعوة إلى الإسلام ببيان محاسنه وبيان بطلان الأديان الأخرى ونحو ذلك، فهذا بحسَب قصد فاعله، وأصل الإكرام لغير المسلم لا يجوز.
__________
(1) انتهى الشريط السابع.(1/209)
وأما إن كان معاديا أو لم يُظهر قبولا للإسلام، أو عُرف من سيرته حين بقي أنه -يعني حين بقي تلك المدة في المؤسسة أو الشركة- أنه لا يحب الخير؛ بل ربما أظهر صدودا عن أهل الخير، وأظهر عدم قبولٍ لبعض أوامر الشرع التي يُحكم بها، فهذا لا يجوز إكرامه؛ لأن إكرامه من موالاته؛ وموالاته -موالاة الكافر محرمة-؛ لأنه يُكرم مع بقائه على عداوته وعلى بغضه.
والأصل في هذا قول الله جل وعلا ?لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ(8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ أَخْرَجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ?[الممتحنة:8-9] فهذه الآيات فيها بيان حال الصنفين؛ لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ربما أجاب دعوة يهودي أو يهودية، وربما أتى بعض أهل الكتاب، وربما أهدى إليهم، بل وحثَّ على الهدية للجار، وهذا لأجل الترغيب في الخير، والترغيب في الإسلام.
المقصود أن الإكرام بتلك الحفلات لا يجوز، إلا إذا كان ثَمَّ مصلحة شرعية راجحة يقدِّرها أهل العلم إذا وصف الحال لهم، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز إقامة الحفلات لهم؛ لأنها نوع موالاة للكفار، نعم.](1)
¹
باب ما جاء أن سبب كُفْرِ بني آدم وتركِهم دينهم هو الغلو في الصالحين
وقول الله عز وجل: ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الحَقَّ?[النساء: 171].
__________
(1) من الوجه الثاني من الشريط السادس.(1/210)
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا(23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثٍيرًا?[نوح:23-24] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم، عبدت. وقال ابن القيم قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله". أخرجاه.
وقال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"
ولمسلم عن ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثا.
[الشرح](1/211)
هذا (باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين)، هذا الباب جاء بعد الأبواب قبله من أول الكتاب إلى هنا، والشيخ رحمه الله بيّن أصولا فيما سبق؛ بيّن شيئا من البراهين على التوحيد، وبين ما يتعلق به المشركون وأبطل أصول اعتقاداتهم بالشريك أو الظهير أو الشفيع ونحو ذلك، فإذا كان هذا الاعتقاد مع ما أُورد من النصوص بهذه المثابة من الوضوح والبيان وأن النصوص دالة على ذلك دلالة واضحة، فكيف -إذن- دخل الشرك كيف صار الناس إلى الشرك بالله جل وعلا، والأدلة على انتفائه وعلى عدم جوازه وعلى بطلانه واضحة ظاهرة، وأن الرسل جميعا بعثت ليعبدوا الله وحده دون ما سواه ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ ومَنِهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ?[النحل:36]؟ فما سبب الغواية، ما سبب الشرك؟ هذا الذي بُيِّن من أوضح الواضحات, الأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على إحقاق عبادة الله وحده وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله جل جلاله وتقدست أسمائه.
فإذن ما سبب وقوع الشرك؟ كيف وقع الشرك في الأمم؟
جاء الشيخ رحمه الله بهذا الباب وما بعده ليبين أن سبب الشرك وسبب الكفر هو الغلو الذي نهى الله جل وعلا عنه ونهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - سواءٌ في هذه الأمة أم في أمم من قبل، فسبب وقوع الشرك هو الغلو في الصالحين، هذا أحد أسباب وقوع الكفر والشرك؛ بل هو سببها الأعظم.
قال هنا (باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين) هذا ذكر للأسباب بعد ذكر الأصول والعقائد.(1/212)
قال هنا (هو الغلو في الصالحين) الغلو مأخوذ من غلا في الشيء، يغلو غُلُوًّا إذا جاوز به حدّه، وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رمى الجمرات بحصيات قال "بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو" يعني مجاوزة الحد حتى في حجم تلك الحصاة وفي مقدار الحصى، قال (بمثل هذه فارموا) فإذا جاوز في المثلية بأن رمى بكبيرة فإنه قد غلا؛ يعني جاوز الحدَّ الذي حُدّ له في ذلك. فإذن الغلو هو مجاوزة الحد.
قال هنا (الغلو في الصالحين) معناه أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم الذي أمرهم الله به هو مجاوزة الحد الذي أُذن به في الصالحين.
والصالحون يشمل الأنبياء والرسل ويشمل أيضا الأولياء ويشمل كل من اتصف بالصلاح في الأمم، وأصل كلمة (الصالحون) أصلها جمع الصالح، والصالح هو اسم من قام به الصلاح، والصلاح في الكتاب والسنة:
"تارة يكون بمعنى نفي الفساد؛ ما يقابل الفساد.
"وتارة بمعنى ما يقابل السيئات.
فيقال صالح بمعنى ليس بذي فساد، ويقال أيضا صالح بمعنى ليس بسيئ، فهذا جاء وهذا جاء.
والصالحون هنا المراد بهم أهل الصلاح؛ يعني أهل الطاعة والإخلاص لله جل وعلا الذين اجتنبوا الفساد واجتنبوا السيئات، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات وتر ك المحرمات أو كانوا من السابقين بالخيرات، فاسم الصالح يقع شرعا على المقتصد وعلى السابق بالخيرات؛ فالمقتصد صالح والسابق بالخيرات صالح وكلٌّ درجات عند الله جل وعلا.
قال (هو الغلو في الصالحين) يعني مجاوزة الحد في الصالحين, ما هو الحد الذي أَذِن به الشرع في الصالحين حتى نعلم ما الذي يكون مجاوزة له؟ الصالحون أُذِن في حقهم بأن يحبّوا في الله وأن يوقروا في الله وأنْ يُقتدى بهم في صلاحهم وفي علمهم، وإذا كانوا من الرسل والأنبياء فإنه يؤخذ بشرائعهم وبما أمروا به ويتبع ذلك ويقتدى بآثارهم.
هذا هو الحد الذي أُذن به؛ احترام ومحبة ومولاة لهم ودفع عنهم ونصرة لهم ونحو دلك من المعاني.(1/213)
أما الغلو فيهم بأن يجاوز ذلك الحد فهو بحر لا ساحل له، فمما حصل من الغلو فيه أنهم جُعلت فيهم خصائص الإلهية، جُعل بعض البشر أنه يعلم سر اللوح والقلم، وأنه من جوده الدنيا وضرتها كما قال البوصيري في قصيدته المشهورة:
فإن من جودك الدنيا وضُرَّتها ڑومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا ليس إلاّ لله جل وعلا، وهدا من الغلو المنهي عنه.
كذلك قوله في النبي عليه الصلاة والسلام غاليا فيه أعظم الغلو قال:
لو ناسبت قدره آياتُه عظما ڑأحيى اسمه حين يدعى دارس الرمم
يقول إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعط آية تناسب قدره، قال الشرّاح حتى القرآن لا يناسب قدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعياذ بالله، يقولون القرآن المتلو بخلاف غير المتلو عند الأشاعرة؛ لأنهم يفرقون بين هذا وهذا.
فهذا البوصيري يقول (لو ناسبت قدره) يعني النبي عليه الصلاة والسلام (لو ناسبت قدره آياته عظما) يعني في العظمة (أحيى اسمه حين يدعى دارس الرمم) لكان لا يناسب قدره إلا إذا ذكر اسمه على ميْت قد درس وذهب رميمه في الأرض وذهبت عظامه لتجمعت هذه العظام وحيي لأجل ذكر اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله جل وعلا ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل فيجعلون في حقهم من خصائص الألوهية ما لا إذن لهم به؛ بل هو من الشرك الأكبر بالله جل وعلا ومن سوء الظن بالله ومن تشبيه المخلوق بالخالق، وهذا كفر والعياذ بالله.
يقابل ذلك -هناك حد مأذون به، و هناك غلو- والحالة الثالثة الجفاء، الجفاء في حق الصالحين وهذا بعدم موالاتهم وعدم احترامهم وعدم إعطائهم حقَّهم وترك محبة الصالحين.
فكل تقصير في الأمر يعدّ جفاء وكل زيادة فيه يعد غلوا.(1/214)
قال (وقول الله عز وجل: ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ?[النساء: 171]) قوله (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) مناسبته للباب ظاهرة؛ أي أنه نهى أهل الكتاب عن الغلو فقال (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) ووجه الاستدلال أنه قال (لاَ تَغْلُواْ)، و(تَغْلُواْ) هنا فعل جاء في سياق النهي وهذا يعم جميع أنواع الغلو في الدين، (لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) يعني لا تغلوا بأي نوع من أنواع الغلو في الدين، فنهوا عن أي نوع من أنواع الغلو، هذا موطن الشاهد ووجه الاستدلال من الآية على الحديث.
وإذا كان كذلك دخل في هذا العموم الغلو في الصالحين، والمتأمل لحال أهل الكتاب ولما قصّ الله جل وعلا من أخبارهم يجد أنهم قد غلوا في صالحيهم, قد غلا النصارى في عيسى وفي أمه وفي حوارييه، وقد على اليهود أيضا في عزير وفي أصحاب موسى وفي أحبارهم وفي رهبانهم وهكذا.(1/215)
فحصل الغلو من أهل الكتاب، تارة بأن جعلوا الرسل والأنبياء لهم خصائص الألوهية من جهة التوجه لهم، وقد قال الله جل وعلا ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ(72)لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ?[المائدة:72-73]، وفي آخر سورة المائدة أيضا قال الله جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ?[المائدة:116]؛ يعني تنزيها وتعظيما لك أن أقول لهم ذلك وذلك من الشرك فكيف أقول لهم ذلك قال ?قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ?[المائدة:116-117]، وهذا كله في التوحيد، فحصل أن غلا أتباع الرسل وأتباع الأنبياء في الأنبياء والرسل وغلوا أيضا في الصالحين من أتباعهم وجعلوا لهم بعض خصائص الإلهية؛ جعلوا لهم الشفاعة جعلوا لهم نصيبا من الملك أو أنهم يدبرون الأمر أو أنهم يصرفون شيئا من الملكوت، فيعتقد الآن بعض الصوفية أن للكون أقطابا أربعة وأن ربما في ربع العالم المسئول عن فلان وفي الربع الثاني المسؤول عن فلان وإلى آخره، فجعلوا لهم نصيبا من الملك، جعلوا لهم نصيبا من الربوبية، وجعلوا لهم أيضا نصيبا من الإلهية فتقربوا إليهم بأنواع القربات من الذبح والاستغاثة والتذلل والخضوع(1/216)
والمحبة والتوكل والرغب والرهب وخوف السر، إلى آخر أنواع العبادات القلبية والعملية.
قال رحمه الله (وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا(23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثٍيرًا?[نوح:23-24]، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم) إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى، هذه القصة أو هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما محمول على الرّفع؛ لأن هذا خبر غيبي وهذا الخبر الغيبي فيه أنه لا يستقى إلا من مشكاة النبوة.
وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح, نوح عليه السلام أتى بالرسالة بأن يعبد الله وحده دون ما سواه بالتوحيد، فكيف دخل الشرك في قوم نوح؟
في القرآن ذكرٌ لأصلين من أصول الشرك -وثَم غيرهما أيضا-:
الأصل الأول: شرك قوم نوح. والأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم.
وشرك قوم نوح كان بالصالحين؛ بالغلو في الصالحين وأرواح الصالحين، فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح وأثر تلك الروح وأن من تعلق به فإنه يشفع له, ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى الصور والأنصاب والأوثان والأصنام.
والنوع الثاني شرك قوم إبراهيم، وذلك شرك في تأثير من جهة النظر في الكواكب ومن يؤثر ويحرك، فهذا شرك في الربوبية وما تبعهم من الشرك في الإلهية؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناما وجعلوا لها صورا، جعلوها أوثانا فعبدوها من دون الله جل وعلا وتوجهوا إليها.(1/217)
وأما قوم نوح فكان شركهم في الصالحين، في الغول في الصالحين، كما قال ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا الشرك (فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم، عبدت. قال ابن القيم قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم).
الشاهد من هذا أن أولئك توجهوا إلى الصور -صور الصالحين- فكانوا أهل علم يعلمون أنهم إذا اتخذوا الصور فإنهم لن يعبدوها؛ لكن كانت الصور تلك للصالحين والمعظمين وسيلة وطريق وسبب لأنْ عُبدت في المستقبل لما نسي العلم، والشيطان ربما أتى إلى الصورة فجعل في عيني الناظر إليها والمخاطب لها أنها تتحدث وأن فم المصوَّر يتكلم وأنه يُسمع ُ منه وأنه يُسمع منه كلاما ونحو ذلك من الأشياء وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الرّوحانيات -كما يقول- وتلك الأرواح، فيُغرى أولئك بهم.
وهذا هو الذي حصل عند القوم الذين عكفوا على القبور وعبدوا أهلها مع الله جل وعلا، يأتي ويقول: ذهبتُ إلى القبر الفلاني فكلّمني أبي. وهو شيطان نطق على لسان أبيه، وربما تصور بصورة أبيه فخرج له في ظلام ونحوه، فيحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه، أو يحدثه العالم أو الولي بصوته الذي يعرفه منه، فتقع الفتنة وهذا من الشيطان.
ولهذا قال ابن عباس هنا كلمة بين السبب في ذلك فقال (أوحى الشيطان إلى قومهم) والوحي إلقاء في الخفاء، الشيطان ما يتحدث علنا, (أوحى) يعني ألقى في خفاء, الوحي هو إلقاء الخبر في خفاء، فألقى في روعهم, ألقى في أنفسهم, ذلك الأمر فكان سببا للشرك بالله جل وعلا.(1/218)
أول الأمر ما عُبدت, جُعلت وسائل الشرك من الصور والأنصاب والتسمية بأسماء الصالحين، وكان ذلك وسيلة إلى الشرك، لم تُعبد جعلوا الوسائل؛ لكن عندهم من العلم ما يحجزهم أن يعبدوا أولئك الصالحين؛ لكن لما نسي العلم عُبدت.
وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان كان من الغلو في أولئك الصالحين، وهذا وجه الشاهد من أنهم لمّا ماتوا عكفوا على قبورهم أو صوروا تلك الصور أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم ويكون أنشط لهم في العبادة أو العلم؛ ولكنهم لما فعلوا ذلك كان ذلك سببا من أسباب العبادة؛ لأنهم غلوا في الصالحين. وهذا مراد الشيخ رحمه الله من إيراد هذا الأثر.
قال(وعن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله")، قوله (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فيه نهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام.
والإطراء: هو مجاوزة الحد -أيضا- في المدح.
الغلو عام في أشياء كثيرة قد يكون في المدح، قد يكون في الذم، قد يكون في الفهم، قد يكون في العلم، قد يكون في العمل.
لكن الإطراء الغلو في المدح، الغلو في الثناء، الغلو في الوصف، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إطرائه كإطراء النصارى ابن مريم، وقال (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).
قوله هنا (كما أطرت النصارى ابن مريم)
µ الكاف هنا بعض الناس يظن أنها كاف المثلية؛ يعني لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم ويقول: إن النصارى أطرت ابن مريم في شيء واحد وهو أنْ قالوا إنه ولد لله جل وعلا. والنبي عليه الصلاة والسلام فهي أن تجعل له رتبة البنوة، فإذا كان كذلك ما عداه فجائز وهذا هو قول الخرافيين، كما البوصيري في هذا المقام:
دَعْ ما ادعته النصارى في نبيهم ڑواحكم كما شئت فيه واحتكم
يعني لا تقل إنه ولد لله أو أنه ابن الله، وبعد ذلك قل ما شئت غير ملوم وغير مثرّب عليك.(1/219)
µ الوجه الثاني: -وهو الفهم الصحيح وهو الذي يدل عليه السياق- أن الكاف هنا هي كاف القياس، لا تطروني إطراءً كما أطرت النصارى ابن مريم، وكاف القياس هي كاف التمثيل الناقص بأن يكون هناك شَبَهٌ بين ما بعدها وما قبلها في أصل الفعل (لا تطروني كما أطرت) فهنا نهى أن يطرى عليه الصلاة والسلام كما حصل أن النصارى أطرت، فهو تمثيل للحدث بالحدث، لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء، قال (لا تطروني كما أطرت) فنهى عن إطراءٍ له عليه الصلاة والسلام لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم فقادهم ذلك إلى الكفر والشرك بالله وادعاء أنه ولد لله جل وعلا، ولهذا قال (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).
فإذن الكاف هنا ليست كاف التمثيل الكامل بأن يكون ما بعدها مماثل لما قبلها تماما؛ يعني في الوصف، وإنما هي كاف التمثيل الذي يكون ما بعده مشترك مع ما قبله في المعنى، وهي القياسية التي تجمعها العلة، ولهذا يقول الفقهاء كما هو المعلوم: هذا كذا كهذا، يقول مثلا: نبيذ غير التمر والعنب كنبيذ التمر والعنب. مساواة بين هذا وهذا لوجود أصل المعنى بينهما، وهنا نهي عن الإطراء لأجل وجود أصل الإطراء في الاشتراك بين إطراء النصارى وما سبّبه من الشرك وإطراء ما لو أطري النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سيسببه من الشرك.
والأمة في أكثر من طوائفها خالفت ذلك وأطرت النبي - صلى الله عليه وسلم - إطراءً حتى بلغ أن جعلوا من علومه علم اللوح والقلم، وأن جعلوا من جوده الدنيا وضرتها، وأن جعلوا له من الملك نصيب عليه الصلاة والسلام وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
أرشدهم بقوله (إنما عبد فقولوا عبد الله ورسوله) وهذا هو الكمال في حقه عليه الصلاة والسلام وأن يكون رسولا، هذا أشرف مقاماته عليه الصلاة والسلام.(1/220)
قال المؤلف (وقال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو") هذا نهي عن الغلو بأنواعه وأن من قبلنا إنما أهلكهم الغلو؛ أهلكهم من جهة الدين وأهلكهم أيضا من جهة الدنيا أنهم غلو في دينهم، فالغلو سبب لكل شر والاقتصاد سبب في كل فلاح وخير، والغلو منهي عنه بجميع صوره في الأقوال والأعمال، أقوال القلب وأعمال القلوب، وكذلك أقوال اللسان وأعمال الجوارح فالغلو سبب للهلاك هلاك العبد في دينه ودنياه.
قال (ولمسلم عن ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثا) هذه الكلمة (هلك المتنطعون) يعني الذين تنطعوا فيما يأتون به -في أفعالهم أو أقوالهم-، وهم الذين جاوزوا الحد في ذلك، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا لم يأذن به الله، فزادوا عما أذن لهم فأتوا بأشياء لم يؤذن لهم فيها.
والتنطع والإطراء والغلو متقاربة يجمعها الغلو؛ الغلو يشمل الإطراء ويشمل التنطع، فكل تنطع وكل إطراء غلو، والغلو اسم جامع لهذه جميعا.
فالشيخ رحمه الله في هذا الباب بيّن أن سبب كفر بني آدم وسبب تركهم دينهم هو الغلو في الصالحين بأن جاوزوا الحد فيهم.
جاوز قوم نوح الحد في الصالحين فيهم فعكفوا على قبورهم وألهوها فصارت آلهة.
والنصارى غلت في رسولهم عيسى عليه السلام وفي الحواريين وفي البطارقة حتى جعلوهم آلهة مع الله جل وعلا يستغيثون بهم ويؤلهونهم ويسألونهم ويعبدونهم.
وكذلك في هذه الأمة جعل للنبي عليه الصلاة والسلام نصيب من خصائص الإله وهذا هو عين ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن ريم إنما عبد فقولوا عبد الله ورسوله).
وفي هذا القدر كفاية وأسأل الله لي ولكم عموم الانتفاع والعلم والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟!(1/221)
في الصحيح عن عائشة، أن أُمّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأرض الْحَبَشَةِ، وما فيها من الصور، فقال: "أُولَئِكِ, إِذَا مات فِيهِمُ الرّجُلُ الصّالِحُ أو العبد الصالح، بَنَوْا عَلَىَ قَبْرِهِ مَسْجِداً، وَصَوّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصّوَرَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله" فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما عنها، قالت: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طَفِقَ يَطْرَحُ خُمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمّ بها كشَفَهَا فقال وهو كذلك: "لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذّرُ مَا صَنَعُوا، وَلَوُلاَ ذَلكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ, غَيْرَ أَنّهُ خُشِيَ أَنّ يُتّخَذَ مَسْجِداً. أخرجاه
ولمسلم عن جندب بن عبد الله، قال: سَمِعْتُ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ, وَهُوَ يَقُولُ: "إِنّي أَبْرَأُ إِلَى الله أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ, فَإِنّ الله قَدِ اتّخَذَنِي خَلِيلاً, كَمَا اتّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً, وَلَوْ كُنْتُ مُتّخِذاً مِنْ أُمّتِي خَلِيلاً لاَتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً. أَلاَ وَإِنّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ, أَلاَ فَلاَ تَتّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. إِنّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ".
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله. والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد وهو معنى قولها: خُشِيَ أَنّ يُتّخَذَ مَسْجِداً.
فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه، يسمى مسجداً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً".(1/222)
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (- رضي الله عنه -) مرفوعاً: "إنّ من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". ورواه أبو حاتم في صحيحه.
[الشرح]
هذا (باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده)، هذا الباب مع الأبواب بعده في بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على هذه الأمة وكان بالمؤمنين عليه الصلاة والسلام رءوفا رحيما، ومن تمام حرصه على الأمة أن حذرهم كل وسيلة من وسائل الشرك التي تصل بهم إلى الشرك، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك، وغلظ في ذلك وشدّدَ فيه وأبدى وأعاد حتى إنه بيّن ذلك ذلك خشية أن يفوته تأكيده وهو في النزع وهو يعاني سكرات الموت عليه الصلاة والسلام.
فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر، وأن الشرك الأكبر له وسائل وله ذرائع يجب سدها ويجب منعها رعاية وحماية للتوحيد؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام غلّظ فيمن يفعلون شيئا من تلك الوسائل أو الذرائع الموصلة إلى الشرك.
هذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك والذرائع التي يجب منعُها.(1/223)
قال رحمه الله (باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح)، صورة ذلك: أن يأتي إلى قبر رجل صالح يعلم صلاحه -إما أن يكون من الأنبياء والمرسلين، أو أن يكون من صالحي هذه الأمة، أو صالحي أمة غير هذه الأمة- فيتحرّى ذلك المكان لكي يعبد الله وحده دون ما سواه(1)، فيأتي إلى هذا القبر أو يأتي إلى هذه البقعة لكي يعبد الله فيها رجاء بركة هذه البقعة، وهذا يروج عند كثيرين في أنّ ما حول القبور -قبور الصالحين أو قبور الأنبياء- مبارك وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها، والنبي عليه الصلاة والسلام غلّظ في ذلك مع أن المغلَّظ عليه لم يعبد إلا الله جل وعلا ولم يعبد صاحب القبر؛ لكنه اتخذ ذلك المكان رجاء بركته ورجاء تنزل الرحمات -كما يقولون- ورجاء تنزل النسمات والفضل من الله عليه واختاره لأجل بركته؛ ولكنه لم يعبد إلا الله جل وعلا، ومع ذلك لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الصِّنف الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
وقوله هنا (فيمن عبد الله) يعني لم يشرك بالله، عبد الله وحده، صلى لله مخلصا، أو دعا لله مخلصا، أو تضرّع واستغاث واستعاذ لله جل وعلا مخلصا عند قبر رجل صالح؛ لكنه تحرى القبر لأجل البركة.
والرجل الصالح -كما سبق أن ذكرنا- هو المقتصد الذي أتى بالواجبات وابتعد عن المحرمات، وأعلى منه درجة السابق بالخيرات، فالصالحون من الرجال والنساء مقامات هم درجات عند الله.
وبعض أهل العلم يعبرون بتعريف الرجل الصالح بقوله: الصالح من عباد الله هو القائم بحقوق الله القائم بحقوق عباده. وهذا صحيح؛ ولأن المقتصد قائم بحقوق الله قائم بحقوق عباده، أتى بالواجبات وانتهى عن المحرمات، وأعظم منه درجة السابق بالخيرات.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن.(1/224)
فأهل السبق بالخيرات من عباد الله الصالحين لا يجوز أن تعظم قبورهم وأن يُغلى فيها بظن أن البقعة التي حول القبر بقعة مباركة؛ لأن هذا جاء فيه الوعيد الذي يأتي في هذا الباب وغلظ فيه عليه الصلاة والسلام.
قال (فكيف إذا عبده؟) يعني هذا التغليظ جاء فيمن اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ومن أسرج على القبور أو من عظم القبور وعظم من فيها وعبد الله جل وعلا عندها؛ عبد الله وحده، جاء فيه اللعن وجاء فيه أنه من شرار الخلق عند الله.
فكيف إذا توجّه ذلك العابد، إلى ذلك القبر يدعوه، أو يرجوه، أو يخافه، أو يأمل منه، أو يستغيث به، أو يصلي له، أو يذبح له، أو يستشفع به؟ لاشك أن هذا أعظم وأعظم في التغليظ من عبادة الله وحده عند قبر رجل صالح.
لهذا قال الشيخ رحمه الله من تأمل هذه الأحاديث التي سترد فإنه - هذا مقتضى كلام الشيخ في التبويب- يجد أن التغليظ يكون أشد وأشد لو كان في القلوب إيمان ومحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يكون أشد وأشد إذا عُبد صاحب ذلك القبر، فإذا صُلي له هل هو بمنزلة من صلى عنده؟ ذاك وسيلة وهذا غاية هذا شرك أكبر، فأولئك شرار الخلق عند الله مع أنهم فعلوا وسائل الشرك ووسائل المحرمات، فكيف بمن فعل الشرك الأكبر بعينه وتوجه إلى قبور الصالحين واتخذها أوثانا مع الله جل وعلا؟ لاشك أن هذا أبلغ وأبلغ في التغليظ؛ وذلك لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام إذا فعله مسلم.(1/225)
قال (فكيف إذا عبده؟)، (عبده) يعني عبد القبر أو عبد الرجل؛ لأن العبادة -عبادة القبوريين- تارة تتوجه إلى القبر، وتارة تتوجه إلى صاحب القبر؛ بل وتارة توجه إلى ما حول القبر، فالأبنية المحاطة بالقبور في قبور الأولياء عندهم التي بنيت على القبور وصارت مشاهد تارة تتخذ تلك الستور الحديدية أنها آلهة، فإذا تمسحوا بها رجوا منها البركة واتخذوها وسيلة إلى الله جل وعلا، يعكفون عندها فيتخذون تلك المشاهد أوثانا يعبدونها ويرجونها ويخافونها، وإذا ضم أحدهم إلى صدره تلك المشاهد أو الحديد أو الستور ونحو ذلك فكأنه صار مقرّبا عند الله وقبلت وسيلته تلك، وهذا نوع من أنواع اتخاذ المشاهد أوثانا.
كذلك اتخاذ القبور أوثانا، أو اتخاذ الرجل الصالح الذي هو متبرئ من أولئك ومن عبادتهم له يتخذونهم آلهة مع الله إذا توجهوا إليهم بالعبادة، وقد علمنا أن العبادة معناها واسع، وأنه قد تكون بالصلاة له، أو بدعوته، بسؤاله، بطلبه كشف المدلهمات أو جلب الخيرات، أو الذبح له، أو وضع النذور له ونحو ذلك من أنواع العبادة.
وهذا هو الواقع عند أولئك الذين يعبدون الأوثان وقبور الصالحين.(1/226)
قال(في الصحيح عن عائشة، أن أُمّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأرض الْحَبَشَةِ، وما فيها من الصور، فقال عليه الصلاة والسلام: "أُولَئِكِ, إِذَا مات فِيهِمُ الرّجُلُ الصّالِحُ أو العبد الصالح، بَنَوْا عَلَىَ قَبْرِهِ مَسْجِداً، وَصَوّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصّوَرَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله") أم سلمة رضي الله عنها لما كانت في الحبشة رأت كنيسة، ورأت في تلك الكنيسة صور الصالحين، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (أُولَئِكِ, إِذَا مات فِيهِمُ الرّجُلُ الصّالِحُ)، قد يكون نبيا من أنبيائهم أو عبدا من عباد الله الصالحين فيهم، ماذا عملوا معه؟ قال (بَنَوْا عَلَىَ قَبْرِهِ مَسْجِداً) فيجعلون المسجد وهو مكان العبادة في اللغة بما يدخل فيه الكنيسة.
مكان العبادة يقال له مسجد، والمسجد مكان السجود، والسجود هو الخضوع والتذلل لله جل وعلا، فالمسجد يطلق على كل مكان يعبد فيه، كل مكان يتخذ لعبادة الله جل وعلا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً" فمكان العبادة يقال له مسجد.
فالكنيسة هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأنها بنوا على قبره مسجدا يعني مكان للعبادة.(1/227)
فإذن الكنائس بُنيت على القبور -قبور أولئك الصالحين- وصوروا فيها الصور، جعلوا صورة ذلك العبد جعلوا على قبره أو فوق قبره على الحائط؛ لكي يدلوا الناس على عبادة الله بتعظيم ذلك الرجل الصالح وتعظيم قبره، فاتخذوا البناء على القبور الذي هو وسيلة من وسائل الشرك الأكبر ومن البدع التي يحدثها الخلوف بعد الأنبياء، اتخذوا ذلك فوق القبور وتعبّدوا فيها، قال عليه الصلاة والسلام (أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله جل وعلا)، (أولئكِ) الخطاب لأم سلمة، والخطاب إذا توجه إلى مؤنث تكسر فيه الكاف -كاف الخطاب- (أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله) من هم شرار الخلق عند الله؟ هم الذين عظّموا الصالحين فبنوا على قبورهم مساجد، هل في هذا الحديث أنهم توجهوا بالعبادة لأولئك الصالحين؟ لا؛ إنما عظموا قبور الصالحين وجعلوا لهم صورا، فجمعوا بين فتنتين فتنة القبور وفتنة الصور.
وفتنة الصور وسيلة من وسائل حدوث الشرك.
وكذلك فتنة القبور بالبناء عليها، وبتعظيمها، وبإرشاد الناس لها، هذا وسيلة إلى أن يعتقد في صاحب القبر أن له شيئا من خصائص الإلهية، أو أنه يتوسط عند الله جل وعلا في الحاجات، كما حصل ذلك فعلا.
قال المصنف الإمام رحمه الله (فهؤلاء جمعوا بين فتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل) وهذا هو الواقع، وهذا التغليظ في أنهم شرار الخلق عند الله.
هذا نفهم منه التحذير التحذير عند الأمة أن يبنوا على قبر أحد مسجدا لأنه إن بُني على قبر أحد مسجد فإنه من بنى ذلك ودل الخلق على تعظيم ذلك القبر فإنه من شرار الخلق عند الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراع بذراع".
فإذا وجه الدلالة من هذا الحديث أنه قال (أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ الله) وهذا تغليظ فيمن عبد الله في الكنيسة التي فيها القبور و الصور، والقبور والصور من وسائل الشرك بالله جل وعلا.(1/228)
قال(ولهما عنها) يعني عن عائشة (قالت: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يعني نزل به الموت (طَفِقَ يَطْرَحُ خُمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ. فَإِذَا اغْتَمّ بها كشَفَهَا فقال وهو كذلك: "لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ") هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي فيها التغليظ في وسائل الشرك وبناء المساجد على القبور واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
ووجه ذلك أنه عليه الصلاة والسلام وهو في ذلك الغم وتلك الشدة ونزول سكرات الموت به عليه الصلاة والسلام يعانيها لم يفعل عليه الصلاة والسلام؛ بل اهتمَّ اهتماما عظيما وهو في تلك الحال بتحذير الأمة من وسيلة من وسائل الشرك، وتوجيه اللعن والدعاء على اليهود والنصارى بلعنة الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، سبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام يخشى أن يُتخذ قبره مسجدا كما اتخذت قبور الأنبياء قبله مساجد.
ومن اتخذ قبور الأنبياء مساجد؟ شرار الخلق عند الله من اليهود والنصارى الذين لعنهم النبي عليه الصلاة والسلام، فقال (لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ)، واللعنة هي الطرد والإبعاد من رحمة الله، وذلك يدل على أنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب وهذا كذلك؛ فإن البناء على القبور واتخاذ قبور الأنبياء مساجد هذا من وسائل الشرك وهو كبيرة من الكبائر، قال: (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)، فإذن سبب اللعن أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد، والنبي عليه الصلاة والسلام يلعن ويحذر وهو في ذلك الموقف العصيب، فقام ذلك مقام آخر وصية أوصى بها عليه الصلاة والسلام ألا تُتخذ القبور مساجد فخالف كثير من الفئام في هذه الأمة خالفوا وصية عليه الصلاة والسلام.
قال (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) اتخاذ القبور مساجد يكون على أحد ثلاثة صور:(1/229)
الصورة الأولى: أن يسجد على القبر؛ يعني يجعل القبر مكان سجوده، (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) يعني جعلوا القبر مكان السجود، هذه صورة، وهذه الصورة في الواقع لم تحصل بانتشار؛ لأن قبور الأنبياء في اليهود والنصارى لم تكن مباشِرة للناس يمكن أن يصلوا على القبر وأن يسجدوا عليه؛ بل كانوا يعظمون قبور أنبيائهم فلا يصَلُّوا عليها مباشرة؛ لكن قوله (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) أبلغ صورة أن يتخذ القبر نفسه مسجدا يعني يصلي عليه مباشرة، وهذه أفضع تلك الأنواع، وهي التي تدل على أعظم وسيلة من وسائل الشرك والغلو بالقبر.
الصورة الثانية: أن يصلي إلى القبر، أن يتخذ القبر مسجدا؛ يعني أن يكون أمام القبر يصلي إليه، فإنه اتخذ القبر -وما حوله له حكمه- اتخذه مكانا للتذلل والخضوع، والمسجد لا يعنى به مكان السجود ووضع الجبهة على الأرض فقط وإنما يعني به مكان التذلل والخضوع، فاتخذوا قبورهم مساجد يعني جعلوها قبلة لهم، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى إلى القبر لأجل أن الصلاة إليه وسيلة من وسائل التعظيم، وهذا يوافق قول الشيخ رحمه الله في الباب (باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح) قوله عند قبره نفهم من هذه الصورة التي هي أن يكون أمامه القبر بينه وبين القبلة تعظيما للقبر.
الصورة الثالثة: أن يتخذ القبر مسجدا بأن يجعل القبر في داخل بناء وذلك البناء هو المسجد, فإذا دفن النبي قام أولئك بالبناء عليه، فجعلوا حول قبره مسجدا واتخذوا ذلك المكان للتعبد وللصلاة فيه، هذه هي الصورة الثالثة، وهي أيضا موافقته لقول الشيخ رحمه الله (عند قبر رجل صالح).
وهذا يبين لك بعض المناسبة في إيراد هذا الحديث تحت الباب.(1/230)
قال: (قالت عائشة: يُحَذّرُ مَا صَنَعُوا) يعني ما سبب اللعن؟ لماذا لعن النبي عليه الصلاة والسلام اليهود والنصارى في ذلك المقام العظيم -وهو أنه في سكرات الموت-؟ السبب أنه يريد أن يحذر الصحابة من ذلك، قالت (يُحَذّرُ مَا صَنَعُوا) وقد قبل الصحابة رضوان الله عليهم تحذيره وعملوا بوصيته.
قالت: (وَلَوُلاَ ذَلكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ)، (أُبْرِزَ قَبْرُهُ) يعني أُظهر وجعل قبره مع سائر القبور في البقيع أو نحو ذلك؛ ولكن كان من العلل التي جعلتهم لا ينقلونه عليه الصلاة والسلام من مكانه الذي يُتوفى فيه قوله هنا عليه الصلاة والسلام ("لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذّرُ مَا صَنَعُوا، ولَوُلاَ ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ) فهذه أحد العلتين.
والعلة الثانية قول أبي بكر - رضي الله عنه - إنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنّ الأنبياء يُقبرون حيث يُقبضون".
قالت (غَيْرَ أَنّهُ خَشِي) هنا أو (خُشي) تُروى بالوجهين، (غَيْرَ أَنّهُ خَشِي) يعني عليه الصلاة والسلام (أَنّ يُتّخَذَ مَسْجِداً) يعني أن يتخذ قبره مسجدا، ويجوز أن ويجوز أن تقرأها (غَيْرَ أَنّهُ خُشِي أَنّ يُتّخَذَ مَسْجِداً) يعني خشي الصحابة أن يتخذ قبره مسجدا، وهذا تنبيه على إحدى العلتين.
الصحابة رضوان الله عليهم قبلوا هذه الوصية، وجعلوا دفنه عليه الصلاة والسلام في مكانه، وحجرة عائشة التي دُفن فيها عليه الصلاة والسلام كانت عائشة تقيم أو أقامت جدارا بينها وبين القبور، فكانت غرفة عائشة فيها قسمان قسم فيه القبر وقسم هي فيه.
كذلك لما توفي أبو بكر - رضي الله عنه - ودُفن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -من جهة الشمال-، كانت أيضا في ذلك المقام في جزء من الغرفة من الحجرة.
ثم بعد ذلك لما دفن عمر تركت الحجرة رضي الله عنها.(1/231)
ثم أغلقت الحجرة، فلم يكن ثم باب فيها يدخل وإنما كان فيها نافذة صغيرة، وكانت الحجرة -كما تعلمون- من بناء ليس حَجَر ولا من بناء مُجَصّص وإنما كانت من البناء الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام من خشب ونحو ذلك.
ثم بعد ذلك لما جاءت الزيادة في المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك، وكان أمير المدينة يوم ذاك عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وأخذوا شيئا من حُجَر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، بقيت حجرة النبي عليه الصلاة والسلام كذلك، فأخذوا من الروضة -روضة المسجد- أخذوا منها شيئا وجعلوا عليه بناء، فبنوه من ثلاث جهات، جدار آخر غير الجدار الأول، بنوه من ثلاث جهات، وجعلوا الجهة التي تكون شمالا -يعني من جهة الشمال- جعلوها مسنمة؛ جعلوها مثلثة قائمة هكذا، وصار عندنا الآن جداران:
الجدار الأول مغلق تماما، وهو جدار حجرة عائشة.
والجدار الثاني الذي عُمِل في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه في زمن الوليد بن عبد الملك، جعلوا جهة الشمال -وهي عكس جهة القبلة- جعلوها مسنمة؛ لأنه في تلك الجهة جاءت التوسعة وسعوها من جهة الشمال، فخشوا أن يكون ذلك الجدار مربعا يعني مسامتا للمستقبِل؛ فيكون إذا استقبله أحد استقبال للقبر، فجعلوه مثلثا يبعد كثيرا عن الجدار الأول وهو جدار حجرة عائشة؛ لأجل أن لا يمكن أحد أن يستقبل لبعد المسافة؛ ولأجل أن الجدار صار مثلثا.
ثم بعد ذلك بأزمان جاء جدار ثالث أيضا وبُني حول ذينك الجدارين، وهو الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية في وصف دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" قال:
فأجاب رب العالمين دعاءه ڑوأحاطه بثلاثة الجدران ٹڑ
ڑحتى غدت أرجاؤه بدعائه ڑفي عزة وحماية وصيان(1/232)
فالنبي عليه الصلاة والسلام صار قبره في ثلاثة جدران، وكل جدار ليس فيه باب، ولا يمكن لأحد حتى في زمن الصحابة أن -يعني في زمن المتأخرين منهم في عهد الوليد وما قبله- لا يمكن أن يدخل ويقف على القبر بنفسه؛ لأنه صار ثَم جداران وكل جدار ليس له باب.
ثم بعد ذلك وضع الجدار الثالث وهذا الجدار أيضا كبير مرتفع إلى فوق، وُضعت عليه القبة فيما بعد، وهذا الجدار أيضا ليس له باب.
فلا يستطيع الآن أحد أن يدخل إلى القبر أو أن يصل القبر أو أن يتمسح بالقبر أو أن يرى قبر النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد ذلك وضع السور الحديدي هذا، وهذا السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث -الذي ذكرتُ لكم- بينه نحو متر ونصف في بعض المناطق ونحو متر في بعضها وبعضها نحو متر وثمانين إلى مترين في بعضها، يضيق ويزداد؛ لكن من مشى فإنه يمشي بين ذلك الجدار الحديدي وذلك الجدار الثالث.
فقبر النبي عليه الصلاة والسلام، عمل المسلمون بوصيته عليه الصلاة والسلام، وأُبعد تماما فلا يمكن أن يصل أحد إلى القبر، ولا يمكن أيضا أن يُتخذ ذلك القبر مسجدا.
ولهذا لمّا جاء الخرافيون في الدولة العثمانية جعلوا التوسعة التي هي من جهة الشرق جعلوا فيها ممر لكي يمكن من يريد أن يطوف بالقبر أو أن يصلي في تلك الجهة، ذلك الممر الشرقي -الذي هو قدر مترين أو نحو ذلك أو يزيد قليلا-، ذلك الممر الشرقي في عهد الدولة السعودية الأولى وما بعدها مُنع من الصلاة فيه، فكأنه أُخرج من كونه مسجدا؛ لأنه إذا كان من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز أن يمنعوا أحدا من الصلاة فيه، فلما منعوا أحدا من الصلاة فيه جعلوا له حكم المقبرة ولم يجعلوا له حكم المسجد، فلا يمكن لأحد أن يصلي فيه بل يغلقونه وقت الصلاة أمّا وقت السلام أو وقت الزيارة فإنهم يفتحونه للمرور.(1/233)
فإذن تبين بذلك أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام لم يُتخذ مسجدا، وإنما دخلت الغرف في التوسعة في عهد التابعين في المسجد؛ ولكن جهتُها الشرقية خارجة عن المسجد فصارت كالشيء الذي دخل في المسجد؛ ولكن حيطان متعددة تمنع أن يكون القبر في داخل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أربع جدارات تفصل بين المسجد وبين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني مكان الدفن.
وأعظم من ذلك مما يدل على أخذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه، وسد الطرق الموصلة إلى الشرك به عليه الصلاة والسلام، وباتخاذ قبره مسجدا: أنهم أخذوا من الروضة الشريفة أخذوا من الروضة التي هي روضة من رياض الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" أخذوا منها قدر ثلاثة أمتار لكي يقوم الجدار الثاني ثم يقوم الجدار الثالث ثم يقوم السور الحديدي وأكثر من ثلاثة أمتار، فهذا من أعظم التطبيب وهو أنهم أخذوا من الروضة وأجازوا أن يأخذوا من المسجد لأجل أن يحمى قبر النبي عليه الصلاة والسلام من أن يتخذ مسجدا.
وهذا ولا شك من أعظم الفقه فيمن فعل ذلك، ومن رحمة الله جل وعلا في هذه الأمة، ومن إجابة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سيأتي بعد هذا الباب "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".
إذن فقوله عليه الصلاة والسلام ("لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" يُحَذّرُ مَا صَنَعُوا) فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتَّخذ قبره مسجدا.(1/234)
واليوم الموجود قد يكون صورته عند غير المتأمل وغير الفقيه صورته صورة قبر في داخل مسجد، وفي الحقيقة ليست صورته وليست حقيقته قبر في داخل المسجد؛ لوجود الجدران المختلفة التي تفصل بين المسجد وبين القبر؛ ولأن الجهة الشرقية منه ليست من المسجد، وهذا لمّا جاءت التوسعة الأخيرة كان مبتدؤها من جهة الشمال بعد نهاية الحجرة بكثير حتى لا تكون الحجرة في وسط المسجد من جهة أنه يكون ثمة توسعة من جهة الشرق وثم الروضة من جهة الغرب فتكون وسط المسجد فيكون ذلك من اتخاذ قبره مسجدا عليه الصلاة والسلام.
المقصود من هذا البيان المهم -الذي ينبغي أن تعيه جيدا- أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام ما أتخذ مسجدا ولكن وصيته عليه الصلاة والسلام من التحذير قد أتخذ بها في مسجده وفي قبره؛ ولكن خالفتها الأمة في قبور الصالحين من هذه الأمة فاتخذوا قبور بعض آل البيت مساجد وعظموها كما تُعظم الأوثان.(1/235)
قال (ولمسلم عن جندب بن عبد الله، قال: سَمِعْتُ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ, وَهُوَ يَقُولُ: "إِنّي أَبْرَأُ إِلَى الله أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ, فَإِنّ الله قَدِ اتّخَذَنِي خَلِيلاً, كَمَا اتّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً, وَلَوْ كُنْتُ مُتّخِذاً مِنْ أُمّتِي خَلِيلاً لاَتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً.") سبب ذلك أن الخلة هي أعظم درجات المحبة وهي التي تتخلل الروح وتتخلل القلب وشغاف الصدر بحيث لا يكون ثَم مكان لغير ذلك الخليل، لهذا النبي عليه الصلاة والسلام ليس له من أصحابه خليل، قال (وَلَوْ كُنْتُ مُتّخِذاً مِنْ أُمّتِي خَلِيلاً لاَتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً) وجه الشاهد من هذا الحديث قوله بعد ذلك (أَلاَ وَإِنّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ, أَلاَ فَلاَ تَتّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. فإِنّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ) وهذا أيضا جاء في رواية أخرى أيضا "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة، وهذا وسيلة من وسائل الشرك، مناسبته للباب ظاهرة من أن تحريم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد مع أنه قد يكون العابد لا يعبد إلا الله لأنها وسيلة من وسائل الشرك الأكبر، والوسائل تفضي إلى ما بعدها، وقد تقرر في القواعد الشرعية وأجمع عليها المحققون أنّ سد الذرائع الموصلة إلى الشرك وإلى المحرمات واجبة، فإن الذريعة التي توصل إلى محرم يجب سدُّها لأن الشريعة جاءت لسد الأصول وسد الذرائع بسد أصول المحرمات وسد الذرائع إليها، فيجب أن يُغلق كل باب من أبواب الشرك بالله ومن ذلك اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.(1/236)
ولهذا لا تصح الصلاة في مسجد بُني على قبر، المسجد الذي يبنى على قبر فإنه لا تصح الصلاة فيه؛ لأن ذلك مناف لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - فالنبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام نهى وهم فعلوا، والنهي توجه إلى بقعة الصلاة فبطلت الصلاة، فالذي يصلي في مسجد أقيم على قبر صلاته باطلة لا تصح لقوله عليه الصلاة والسلام (أَلاَ فَلاَ تَتّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ) يعني بالبناء عليها وبالصلاة حولها (فإِنّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ).
قال(فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله. والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد وهو معنى قولها: خُشِيَ أَنّ يُتّخَذَ مَسْجِداً.) يعني الصلاة عند القبور لا تجوز سواء صلى إليها أو صلى عندها رجاء بركة ذلك المكان أو لم يرج بركة ذلك المكان وإنما صلى صلاة نافلة غير صلاة الجنازة عندها، كل هذا لا يجوز سواء كان ثم بناء على القبر كمسجد أو كان قبرا أو قبرين في غير بناء عليهما فإن الصلاة لا تجوز، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا" وفي البخاري أيضا معلقا من كلام عمر - رضي الله عنه - أنه رأى أَنَس يصلي عند قبر فقال له: القبرَ القبر. يعني احذر القبر, احذر القبر، وهذا يدل على أن الصلاة عند القبور لا تجوز لأنها وسيلة من وسائل الشرك، وأعظم إذا كان ثم بنيان واتخاذ لما حول القبر من الأبنية مسجدا للصلاة والدعاء والقراءة ونحو ذلك.
قال (وهو معنى قولها: خُشِيَ أَنّ يُتّخَذَ مَسْجِداً. فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه، يسمى مسجداً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً").وهذا ظاهر.(1/237)
قال (ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (- رضي الله عنه -) مرفوعاً: "إنّ من شرار الناس من تدركهم الساعةُ وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". ورواه أبو حاتم) يعني ابن حبان (في صحيحه) وجه الشاهد من هذا أنه قال (والذين يتخذون القبور مساجد) يعني أنهم من شرار الناس، فالذين يتخذون القبور مساجد من شرار الناس، وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد كما ذكرنا وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا، وقوله (والذين يتخذون القبور مساجد) هذا يعم كل متخذ القبر مسجدا -سواء اتخذه بالصلاة عليه أو بالصلاة إليه أو بالصلاة عنده- فذلك القصد للصلاة عند القبر يجعل من قَصَدَ في شرار الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة؛ فإنه ذكر أن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، والقصد من اتخاذ القبر مسجد أن يعبد الله عند قبر ذلك الرجل الصالح، فكيف حال الذي توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام بالعبادة؟ القبر لا يخلص إليه، والاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام وتأليه النبي عليه الصلاة والسلام هذا قد يقع بحسب الاعتقادات وبحسب المناداة، كما حصل من الجاهلين مناداة الملائكة واتخاذ الملائكة آلهة مع الله جل جلاله، كذلك اتخاذ الأولياء معبودين هل هؤلاء من خيار الناس عند الله؟ بل هم أشر من الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) فإن الذي اتخذ القبر مسجدا ملعون بلعنة النبي عليه الصلاة والسلام ولو كان لم يعبد إلا الله جل وعلا، فكيف حال الذي عبد صاحب ذلك القبر؟(1/238)
نسأل الله جل وعلا العاقبة والسلامة من كل وسائل الشرك، تأمل هذا مع ما فشا في بلاد المسلمين من البناء على القبور والقباب عليها، ومن بناء المشاهد وتعظيم ذلك وتوجيه الناس إليها، وذكر الحكايات الطويلة في مناقب أولئك الأولياء، وفي إجابتهم للدعوات وإغاثتهم للهفات ونحو ذلك، يتبين لك غربة الإسلام أشد غربة في هذه الأزمنة وما قبلها، كيف إذا قالوا إن ذلك جائر وذلك توحيد؛ بل كيف إذا اتهموا من نهاهم عن ذلك بعدم المعرفة وعدم الفهم وهو يدعوهم إلى الله جل وعلا وهم يدعونه إلى النار نسأل الله السلامة والعافية. نعم.
¹
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
روى مالك في الموطأ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللّهُمّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ, اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَىَ قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"
ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهد: ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى?[النجم: 19]. قال: كان يلتُّ لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباسٍ: كان يلتُّ السويق للحاج.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لَعَنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالمُتّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسّرُجَ". رواه أهل السنن.
[الشرح]
(باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله) الغلو في قبور الصالحين وسيلة من وسائل الشرك؛ بل يصل الغلو إلى أن يكون شركا بالله جل وعلا وأن يُصيَّر ذلك القبر وثنا يعبد، فالغلو درجات مرّ علينا في الأبواب قبله بعض الغلو في القبور، وهنا بيّن أن الغلو يصل إلى أن يصيّر تلك القبور أوثانا تعبد من دون الله.(1/239)
قلنا أن الغلو هو مجاوزة الحد، والقبور -قبور الصالحين وغير الصالحين- صفتها في الشرع واحدة، لم يميز الشرع ولم يأتِ دليل في الشريعة بأن قبر الصالح يميز عن قبر غيره؛ بل القبور تتساوى هذا وهذا لا يفرق بين قبر صالح وبين قبر طالح؛ بل الصفة واحدة وهي إما أن يكون القبر في ظاهره مسنما وإما أن يكون مربعا، وهذه الصورة من حيث الظاهر واحدة.
نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الكتابة عليها وعن تجصيص القبر وعن رفع القبر وفي أنواع من السنن التي جاءت في أحكام القبور، وهذا لأجل سد الطرق التي توصل إلى الغلو في قبور الصالحين.
فإذن مجاوزة الحد في قبور الصالحين هي مجاوزةُ ما أمِر به أو نُهي عنه في القبور؛ لأن قبور الصالحين لا تختلف عن قبور غير الصالحين، فالغلو فيها:
"يكون بالكتابة عليها، يكون برفعها، يكون بالبناء عليها، يكون بأن تتخذ مساجد.
"يكون الغلو فيها -ذلك الذي سبق كله من جهة الوسائل؛ يكون الغلو في قبور الصالحين بأن يجعل القبر وسيلة من الوسائل التي تقرِّب إلى الله جل وعلا، ويجعل القبر أو من في القبر شفيعا لهم عند الله جل وعلا، يجعل القبر له حق أن يُنذر له، أو أن يُذبح له، أو أن يستشفع بترابه إعتقادا أنه وسيلة عند الله جل وعلا، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله تبارك وتعالى.
لهذا الغلو في قبور الصالحين يكون بمجاوزة ما أُذن فيها:
"من المجاوزة ما هو من الوسائل.
"ومن المجاوزة ما هو من إتخاذها أوثانا من دون الله جل وعلا.
ولهذا قال رحمه الله (باب ما جاء أنّ الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا) وقوله (يصيرها) يعني يجعلها؛ قد يكون جعل الوسائل للغايات يعني أن الغلو صار وسيلة لإتخاذها أوثانا، وقد يكون أن الغلو جعلها وثننا يعبد من دون الله جل وعلا.(1/240)
وهذا هو الذي حصل ويرى في البلاء من أن القبور صارت أوثانا تعبد من دون الله لمّا أقيمت عليها المشاهد القباب ودعي الناس إليها وذُبح لها وقُبلت النذور لها وصار يطاف حولها ويعكف عندها، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله.
قال (روى مالك في الموطأ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللّهُمّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ, اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَىَ قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ")، قوله (اللّهُمّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ) هذه استعاذة ودعاء لخوف أنْ يقع ذلك، ولو كان ذلك لا يقع أصلا ولا يمكن أن يقع لما دعا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الدعاء العظيم؛ بل دعا أنْ لا يُجعل القبر وثنا يعبد كما جعلت قبور غيره من الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فإن عددا من قبور الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام اتُّخذت أوثانا تُعبد.(1)
قال (اللّهُمّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ) معنى ذلك أنّ القبر يمكن أن يكون وثنا يُعبد،قال عليه الصلاة والسلام (اللّهُمّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ)، فالغاية أن يكون القبر وثنا يعبد، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يكون، والوسيلة إلى ذلك ما جاء بعد ذلك قال (اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَىَ قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) وهذا هو الغلو؛ غلو الوسائل، فاتخاذ قبور الأنبياء مساجد غلو من غلو الوسائل يصيِّر تلك القبور أوثانا، فالنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث جمع بين ذِكر الوسيلة والتنفير منها واشتداد غضب الله على من فعلها، وذكر نهاية ما تصل إليه بأصحابها تلك الوسيلة وهي أن تكون القبور أوثانا تعبد من دون الله جل وعلا.
فإذن هذا الحديث فيه بيان أن القبر يمكن أن يكون وثننا.
__________
(1) انتهى الشريط الثامن.(1/241)
والخرافيون يقولون: القبور لا يمكن أن تكون أوثانا، والأوثان هي أوثان الجاهلية وأصنام الجاهلية.
ونقول: إنّ الجاهليين إذا كانوا تعلّقوا بأصنام وبأحجار وبأشجار وبغير ذلك من الأشياء، واعتقدوا فيها ووصلوا فيها إلى الشرك الأكبر، مع أن المبرر العقلي والمبرر النفسي غير قوي فيها، فلأن تتخذ قبور الصالحين والأنبياء والمرسلين أوثانا أو أن يتوجه إلى أصحابها بالعبادة ذلك من باب أولى؛ لأن تعلُّق القلوب بالصالحين أولى من تعلقها بالأحجار، تعلُّق القلوب بالأنبياء والمرسلين أولى من تعلقها بالجن أو تعلقها بالأشجار أو الأحجار أو نحو ذلك.
فإذن سبب الشرك ووسيلة الشرك في القبور أولى وأظهر من النظر في الأصنام ونحو ذلك؛ لأنها جميعا من جهة اعتقاد القلب وتأثير تلك الأصنام والأوثان في الحالين جميعا في الشفاعة عند الله، فأولئك المشركون يقولون في آلهتهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وقالوا أيضا ?وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18].
وأهل العصر أو العصور التي فشا فيها الشرك إذا سألتهم يقولون: هذا توسل وهذا استشفاع. والحال واحدة، والسبيل الذي جعل تلك القبور أوثانا هو اتخاذ تلك مساجد و البناء عليها و الحث على مجيئها وذكر الكرامات التي تحصل عندها أو إجابة الدعوات عندها أو التبرك بها إلى غير ذلك.(1/242)
قال (ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهد قال في قوله: ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى?[النجم:19]. قال: كان يلتُّ لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره. وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباسٍ: كان يلتُّ السويق للحاج) الشاهد قول مجاهد (مات فعكفوا على قبره) لأجل أنه رجل كان ينفعهم بِلَتّ السويق لهم على قراءة (أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى) ووجه المناسبة ظاهر من أن صلاح ذلك الرجل جعلهم يغلون في قبره فعكفوا على قبره، والعكوف على القبور يصيرها أوثانا، العكوف معناه لزوم القبر بتعظيمه واعتقاد البركة في لزومه والثواب والنفع ودفع الضُّر، هذا معنى العكوف.
قال (وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لَعَنَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالمُتّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسّرُجَ". رواه أهل السنن) وجه الدلالة من الحديث ظاهرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المتخذين على القبور المساجد والسرج، المساجد مر معنى الكلام عليها، والسّرج لأنها وسيلة لتعظيم تلك القبور ونوع من أنواع الغلو فيها، فتُسرج القبور ويجعل عليها في الزمن الماضي القناديل، واليوم تجعل عليها الأنوار العظيمة التي تبين أن هذا المكان مقصود وأنه مطلوب ويُجعل عليها من عقود اللمبات وعقود الأنوار والكشافات التي تسطع ما يدلّ الناس على تعظيم هذا القبر، فهؤلاء ملعونون بلعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز أن تتخذ السرج على القبور؛ لأن اتخاذ السّرج على القبور من نوع الغلو فيها؛ ولأنه يوجه الناس إليها وذلك قد يكون بعده أن تتخذ آلهة وأوثانا مع الله جل وعلا. نعم
¹
باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك(1/243)
وقول الله تعالى: ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128) فَإِن تَوَلَّوا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ?[التوبة: 128-129].
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُوراً, وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً, وَصَلّوا عَلَيّ فإِنّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ". رواه أبو داوود بإسناد حسنٍ ورواته ثقات
وعن علي بن الحسين - رضي الله عنه -، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تتخذوا قَبْرِي عِيداً، ولا بُيُوتَكُمْ قُبُوراً، وَصَلّوا عَلَيّ، فإن تسليمكم يبلغني أين كُنْتُمْ". رواه في المختارة.
[الشرح](1/244)
هذا الباب من جنس الأبواب قبله في حماية النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد وفي سده كل طريق يوصل إلى الشرك، وأتى بآية براءة وقول الله تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، قوله (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) يعني عزيز عليه عَنَتُكُم، عزيز عليه العنت؛ يعني أن تكونوا في عنت ومشقة هذا عزيز عليه لا يرغب فيه عليه الصلاة والسلام, (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فهو عليه الصلاة والسلام عزيز عليه عنت أمته وهذا يؤدي أن يأمرهم بكل خير وأن ينهاهم عن كل شر، وأن يحمي حمى ما أمرهم به وما نهاهم عنه؛ لأن الناس إذا أقدموا على ما نُهوا عنه فإنهم أقدموا على مهلكتهم وأقدموا على ما فيه عنتهم في الدنيا وفي الأخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام عزيز عليه عنتهم، عزيز عليه أن يقعوا في وبال عليهم وفي مشقة عليهم، ولهذا قال بعدها (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) لأن هذه وهذه متلازمة، ومن حرصه علينا عليه الصلاة والسلام ومن كونه يعز عليه عنتنا عليه الصلاة والسلام أنْ حَمى حِمى التوحيد وحمى جناب التوحيد وسد كل طريق قد نصل بها إلى الشرك عليه الصلاة والسلام، وهذا وجه الاستدلال من الآية على الباب.
وأما حديث أبي هريرة فوجه الشاهد منه (وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً) والعيد يكون عيدا مكانيا كما جاء هنا ويكون عيدا زمانيا، (لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً) يعني مكانا تعودون إليه في وقت معلوم من السنة، أو في أوقات معلومة تعتادون المجيء إلى القبر، فإنّ هذا قد يوصل إلى أن يعظَّم النبي عليه الصلاة والسلام وأن يُجعل تعظيمه كتعظيم الله جل وعلا، فإن اتخاذ القبور عيدا من وسائل الشرك، ولهذا قال (وَصَلّوا عَلَيّ فإِنّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ).(1/245)
وكذلك حديث على بن الحسين في هذا المعنى أنه قال (ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تتخذوا قَبْرِي عِيداً، ولا بُيُوتَكُمْ قُبُوراً") في معنى ما قبله، ونهى الرجل الذي كان يعتاد المجيء فرجة كانت عند القبر؛ لأن اعتياده أن يدعوا عند القبر هذا نوع غلو ونوع وسيلة من وسائل تعظيم القبور واتخاذها عيدا، وهذا من وسائل الشرك، فحمى النبي عليه الصلاة والسلام حمى التوحيد، وَحَمى جنابه وسد كل طريق توصل إلى الشرك، حتى في قبره عليه الصلاة والسلام.
إذا كان كذلك فمن باب أولى قبور الصالحين وقبور الأنبياء والمرسلين غيره عليه الصلاة والسلام فإنهم أولى بذلك؛ لأنه أفضل خلق الله عليه الصلاة والسلام.
فالذي حصل أن هذه الأمة لم تقبل في كثير من فئامها حماية النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، واتخذت القبور مساجد، واتخذت القبور عيدا؛ بل بنيت عليها المشاهد؛ بل أسرجتها؛ بل قبلت لها الذبائح والنذور وطيفَ حولها وجعلت كالكعبة وجعلت الأمكنة حولها مقدسة أعظم من تقديس بقاع الله المباركة؛ بل إن عبّاد القبور تجد عندهم من الذل والخضوع والإنابة والرغب والرهب حين يأتون إلى قبر النبي أو قبر الرجل الصالح أو قبر الولي ما ليس في قلوبهم إذا كانوا في خلوة مع الله جل جلاله وهذا عين المحادّة لله جل وعلا ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
وقوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِن الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا?[النساء: 51].(1/246)
وقوله تعالى: ?قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَاغُوتَ?[المائدة: 60].
وقوله تعالى: ?قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا?[الكهف:21].
وعن أبي سعيد (- رضي الله عنه -)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَتتّبِعُنّ سَنَنَ من كان قبلَكم حَذْوَ القذة بالقذة, حتّى لو دَخَلوا جُحرَ ضَبّ لَدَخلتُموهُ". قلنا: يا رسولَ الله, اليهودَ والنصارَى؟ قال: "فمن" ؟. أخرجاه(1/247)
ولمسلم عن ثوبان (- رضي الله عنه -)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنّ اللّهَ زَوَى لِي الأَرْضَ. فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا. وَإِنّ أُمّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُها مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا. وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ. وَإِنّي سَأَلْتُ رَبّي لأِمّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بعَامّةٍ. وَأَنْ لاَ يُسَلّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ. فيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ. وَإِنّ رَبّي قَالَ: يَا مُحَمّدُ إِنّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنّهُ لاَ يُرَدّ. وَإِنّي أَعْطَيْتُكَ لأِمّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بعَامّةٍ. وَأَنْ لاَ أُسَلّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَىَ أَنْفُسِهِمْ. يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ. وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتّىَ يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضاً, وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً".ورواه البرقاني في صحيحه، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف، لم يُرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تَعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ منصورة. لاَ يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ. حَتّىَ يَأْتِيَ أَمْرُ اللّهِ تبارك وتعالى".
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:(1/248)
فهذا (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) وكتاب التوحيد من أول ما أخذنا إلى هذا الموضع ذكر فيه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مسائل كثيرة من بيان وجوب معرفة التوحيد والعلم به والخوف من الشرك، وبيان بعض أفراد التوحيد وبعض أفراد الشرك الأكبر والأصغر، ثم بين شيئا مما يتعلق بوسائل ذلك وما يتعلق بالصور المختلفة التي وقعت من هذا الشرك في الأمم قبلنا وعند الجاهليين يعني في الأميين وفي أهل الكتاب، وكذلك مما وقع في هذه الأمة، ثم ذكر وسائل ذلك وطرقه الموصلة إلى الشرك وسائل الشرك التي توصل إليه وطرق الشرك التي توصل إليه.
بعد هذا يأتي احتجاج المشركين والخرافيين من أنّ هذه الأمة حماها الله جل وعلا من أن تعود إلى عبادة الأوثان، فاستحضر بعد كل ما سبق أن قائلا يقول له: كل هذا صحيح؛ ولكن هذه الأمة عصمت أن تقع في الشرك الأكبر، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام "إِنّ الشّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. وَلَكِنْ فِي التّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" فلما قال عليه الصلاة والسلام (إِنّ الشّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) علمنا أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة وأن الشرك الأكبر لا يكون. هكذا قال الخرافيون.(1/249)
والجواب: أن هذا الاحتجاج في غير موضعه وفهم ذلك الدليل وذلك الحديث ليس على ذلك النحو، وجواب ما قالوا من أن قوله عليه الصلاة والسلام (إِنّ الشّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) تقول أَيِسَ الشيطان والشيطان لا يعلم الغيب وهو حريص على إغواء بني آدم ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا?[الإسراء:62]، هو أيس؛ ولكن لم يُؤيسهُ الله جل وعلا أيس بنفسه لمّا رأى عز الإسلام ولما رأى ظهور التوحيد على الكفر في جزيرة العرب، فأيس لما رأى ذلك؛ ولكن لم يؤيسه الله جل وعلا من أن يعبد في جزيرة العرب ثم إن في قوله (أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلّونَ) أن المصلون لاشك أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر لأن المصلي هو الذي أقام الصلاة ومن أقام الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأعظم المنكر الذي سينكره المصلي هو الشرك بالله جل وعلا، فإن الشيطان ييأس أن يعبده من قام بالصلاة على حقيقتها وأقامها كما أراد الله جل وعلا.
فإذن نقول هذا الحديث ليس فيه أن العبادة عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة بل فيه أن الشيطان أيس لما رأى عز الإسلام؛ ولكنه لم يؤيّس ولهذا لما كان بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بقليل وارتدت طائفة من العرب كان ذلك من عبادة الشيطان؛ لأن عبادة الشيطان بطاعته كما قال جل وعلا ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ?[يس:60]، وعبادة الشيطان كما في تفسير الآية بطاعته في الأمر والنهي، طاعته في الشرك وطاعته في ترك الإيمان وترك لوازمه.(1/250)
إذن هذا الدليل استحضره الإمام رحمه الله وقال: إن هذا الدليل ليس واقعا كما زعمه أولئك، والدليل على ذلك التفسير ما جاء في الأدلة أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، فيصحح ما فهمنا من أن معنى الحديث أن الشيطان أيس بنفسه ولم يُؤَيَّس وإِياسه بنفسه لأجل عدم إطلاعه على علم الغيب مع حرصه على دعوة الناس إلى عبادة غير الله تبارك وتعالى وجل وتقدس.
قال الإمام رحمه الله (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) يعني أن عبادة الأوثان واقعة في هذه الأمة بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وقعت في الأمم السالفة، فهذه الأمة تقع فيها عبادة غير الله جل وعلا، وقوله (باب ما جاء) يعني من النصوص في الكتاب وفي السنة، (ما جاء أنّ بعض هذه الأمة)، (بعض هذه الأمة) هذا التبعيض؛ لأن عبادة الأوثان لم تكن من الأمة كلها، وإنما كانت من بعض هذه الأمة، وإلا فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق كما قال عليه الصلاة والسلام (ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى قيام الساعة)، فإذن قوله (بعض هذه الأمة يعني ذلك البعض المرذول) فنفهم منه أن هناك من يقوم بالاستمساك بالأمر الأول الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان عليه صحابته في أمر التوحيد وأمر العبادة والسنن، (بعض هذه الأمة) المقصود بقوله (هذه الأمة) أمة الدعوة أم أمة الإجابة؟
إذا قلنا: أمة الدعوة فلا شك أن هناك من أمة الدعوة وهم جميع الناس؛ بل من الجن و الإنس أن منهم من عبد الأوثان واستمر على عبادتها بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرض ببعثته ولم يقبل ذلك.
وإذا قلنا: إن المراد بالأمة أمة الإجابة يعني أن من أجاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته تتقادم بهم العهود حتى يرتدوا على أدبارهم ويتركوا دينهم كما جاء في باب سلف في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم الغلو في الصالحين.(1/251)
فإذن الظاهر هنا أن قوله (بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) يعني به أمة الإجابة في أنهم يتركون دينهم ويتوجهون إلى الأوثان يعبدونها.
والأوثان جمع وثن، والوثن هو كل شيء توجه إليه الناس بالعبادة، إما بأن يدعوه مع الله جل وعلا، أو أن يستغيثوا به، أو أن يعتقدوا فيه أنه ينفع ويضر بدون إذن الله جل وعلا، أو أنه يُرجى رجاء العبادة ويُخاف منه كخوف من الله جل وعلا خوف السر ونحو ذلك من الأشياء، من اعتقد فيه ذلك فذلك الشيء وثن من الأوثان، وقد يكون راضيا بتلك العبادة وقد لا يكون راضيا بتلك العبادة.
والوثن ليس مُصورا على شكل صورة.
والصنم هم ما كان على شكل صورة كما سبق أن ذكرنا.
فالفرق بين الأوثان والأصنام هي الآلهة التي صورت على شكل صور؛ كأن يجعل لشيء من الأشياء صورة ويعبدها أو يجعل لرجل من الرجال كبوذا ونحوه صورة ويسجد لها ويعبدها هذه أصنام، أو أن تكون أوثانا والأوثان هي الأشياء التي تعبد، قد يكون جدارا، قد يكون قبرا، قد يكون رجلا ميْتا، قد يكون صفة من الصفات يتخذها معبودة من دون الله فكل ما توجه إليه العباد بنوع من أنواع العبادة فهو وثن من الأوثان.
قال (وقوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ?) (الْجِبْت) اسم عام لكل ما فيه مخالفة لأمر الله جل وعلا وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتقاد.
قد يكون الجبت سحرا، وهذا هو الذي فسَّرها كثير من السلف بأن الجبت السحر.
وقد يكون الجبت الكاهن.
وقد يكون الشيء المرذول الذي يضر صاحبه.
(يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) يعني يؤمنون بالسحر ويؤمنون بالباطل وعبادة غير الله جل وعلا، (يُؤْمِنُونَ... بالطَّاغُوتِ) والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فالطاغية هو الذي تجاوز الحد في أمر الدين بأن جعل ما لله له.(1/252)
ولهذا يعرِّف ابن القيم رحمه الله الطاغوت بأنه: كل ما تجاوز به العبد حده، من معبود أو متبوع أو مطاع.
فإذا (تجاوز به العبد حده)؛ يعني حد ذلك الشيء الذي توجهوا إليه -الذي أُذِن به شرعا له- تجاوزا الحد به, فتوجهوا إليه بالعبادة، اعتقدوا فيه بعض خصائص الإلهية من أنه يغيثهم كيف ما شاء، ومن أنه يملك غَوْثهم, ويملك الاستشفاع لهم، ويملك أن يغفر لهم، وأن يعطيهم، ويملك أن يقربهم إلى الله جل وعلا ونحو ذلك مما لا يملكه المعبودون، فإن ذلك مجاوزة بذلك عن الحد الذي جُعل له في الشرع، مجاوزة الحد في المعبودين أو المتبوعين، (ما تجاوز العبد حده من معبود أو متبوع)، (أو متبوع) مثل العلماء أو القادة في أمر الدين، إذا تجاوز الناس بهم حدهم فصاروا يتبعونهم في كل ما قالوا وإن أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال أو جعلوا لهم السنة بدعة أو البدعة سنة وهم يعلمون أصل الدين ولكنهم خالفوا لأجل ما قال فلان فإن هذا قد تُجُوِّز به حدّه، فإن حد المتبوع في الدين أن يكون آمرا بما أمر به الشرع، ناهيا عن ما نهى عنه الشرع، فإذا أحل الحرام أو حرّم الحلال فإنه يُعتبر طاغوتا، ومن اتبعه فإنه يكون قد تجاوز به حده وقد أقرّ بأنه طاغوت واتخذه كذلك، (أو مطاع) يطاع كذلك من الأمراء والملوك والحكام والرؤساء الذين يأمرون بالحرام فيطاعون ويأمرون بتحريم الحلال فيطاعون في ذلك، مع علم المطيع بما أمر الله جل وعلا به، فهؤلاء اتخذوهم طواغيت لأنهم جاوزوا بهم حدهم.
قال (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) فيدخل في الطاغوت كل هذه الأنواع الذين عبدوا والذين اتبعوا والذين أطيعوا.(1/253)
وجه المناسبة من هذه الآية للباب أنّ ذلك وهو الإيمان بالجبت والطاغوت حصل ووقع من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب -من اليهود والنصارى-، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن ما وقع في الأمم قبلنا سيقع في هذه الأمة كما قال في حديث أبي سعيد الآتي (لَتتّبِعُنّ سَنَنَ من كان قبلَكم حَذْوَ القذة بالقذة, حتّى لو دَخَلوا جُحرَ ضَبّ لَدَخلتُموهُ) فمثل بشيء صغير وهو دخول جحر الضب الذي لا يمكن أن يُفعل تنبيها على أن ما هو أعلى من ذلك سيقع من هذه الأمة كما وقع من الأمم قبلنا.
قال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِن الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) وهذا حصل من هذه الأمة، فإن منهم من آمن بالسحر، ومنهم من آمن بعبادة غير الله, ومنهم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله, وتحريم ما أحل الله، فكانوا بذلك متبعين سنن من كان قبلهم, وحصل منهم إيمان بالجبت والطاغوت, كما حصل من الأمم قبلهم.(1/254)
قال (وقوله تعالى: ?قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَاغُوتَ?[المائدة: 60]) وجه الشاهد من هذه الآية قوله جل وعلا (وَعَبَدَ الطَاغُوتَ), على هذه القراءة (وَعَبَدَ الطَاغُوتَ) فإن (الطَاغُوتَ) مفعول (عَبَدَ), و(عَبَدَ) تكون معطوفة على قوله (لَّعَنَ)؛ (مَن لَّعَنَهُ اللهُ) إلى أن قال (وَعَبَدَ الطَاغُوتَ), يعني كأنه قال بتقديم وتأخير: من لعنه الله ومن عبد الطاغوتَ, وعبادة الطاغوت وقعت في أولئك الملعونين, وبما أن ما وقع في الأمم السالفة بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -سيقع في هذه الأمة فإننا نعلم أن في هذه الأمة من سيعبد الطاغوت كما عبدها أولئك، وعبادة الطاغوت عامة -كما ذكرنا- يدخل فيها عبادة الأوثان من عبادة القبور وتأليه أصحابها والتوسل بهم إلى الله جل وعلا؛ يعني الاستشفاع بهم إلى الله جل وعلا أو طلب الشفاعة منهم، ونحو ذلك من الوسائل الشركية أو ما هو من الشرك الأكبر، فحصلت عبادة للأوثان من القبور ومن المشاهد ومن الأشجار ومن الأحجار ونحو ذلك مما اعتقد فيه الجهلة الذين تركوا دين محمد عليه الصلاة والسلام.(1/255)
قال (وقوله تعالى: ?قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا?[الكهف:21]) قصة أصحاب الكهف معروفة، وهذه الجملة بعض آية من قصة أصحاب الكهف، ولما حصل أنْ جعلهم الله جل وعلا آية ?وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنَينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا?[الكهف:25]، ثم أحياهم الله جل وعلا واطلع الناس أنهم مكثوا أحياء هذه المدة الطويلة أنهم أماتهم الله ثم أحياهم اعتقدوا فيهم، ولما اعتقدوا فيهم وماتوا تنازعوا في أمرهم، فمنهم من قال افعلوا لهم كذا ابنوا عليهم بنيانا، ومنهم من قال اجعلوا لهم فناء ودارا وعظِّموا مكانهم، واختلف الناس فيهم في ذلك الزمان، قال الله جل وعلا (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) من الذين غلبوا على أمرهم؟ اختلف المفسرون في ذلك.
فقال قائلون: هم مُسْلِمُو ذلك الزمان حصل منهم تعظيم لأصحاب الكهف?فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا?[الكهف:21]، وقالوا اتخذوا عليهم مسجدا تعظيما لهم ودِلالة للناس عليهم، فإذا كان هذا القول راجحا فإن من وسائل الشرك بالله ويؤدي إلى عبادة تلك القبور والاعتقاد في أصحاب الكهف، وهذا القدر حصل في هذه الأمة.
والقول الثاني: أن (الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) هم المشركون؛ يعني أتباع ذلك الدِّين لاعتقادهم الجاهلي ولما في قلوبهم من الشرك والبدع التي خالفوا بها أنبيائهم قالوا ابنوا عليهم مسجدا كما قال جل وعلا هنا (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا).(1/256)
والقول الثالث وهو الذي رجحه ابن كثير رحمه الله أن (الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) هم الكبراء والأمراء وأصحاب النفوذ فيهم؛ يعني الذين كانت لهم الغلبة في الأمر، والذي له الغلبة في الأمر هو الذي يملك الأمر والنهي في الناس وهم الكبراء وأصحاب النفوذ وملوك ذلك الزمان وأمراء ذلك الزمان، فأولئك عظّموا أولئك الصالحين قالوا (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) حصل هذا في تلك الأمة وما دام أنه حصل فإنه سيحصل في هذه الأمة؛ لأنه ما من خصلة من الشرك حصلت في الأمم قبلنا إلا وحصلت في هذه الأمة حتى ادعى بعض هذه الأمة هو الله جل وعلا وأن الله يحل فيه ونحو ذلك؛ بل قد ادعوا أن روح الإله تتناسخ في أناس معينين كما هو اعتقاد طوائف من الباطنيين ونحو ذلك.
وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام (لَتتّبِعُنّ سَنَنَ من كان قبلَكم حَذْوَ القذة بالقذة, حتّى لو دَخَلوا جُحرَ) وهذا الحديث وهو حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, قال (لَتتّبِعُنّ سَنَنَ من كان قبلَكم) قوله (سَنَن) هذه تروى هكذا (سَنَن) بفتحتين فتح السين والنون.
وتروى أيضا (سُنَن)، والسُنن سُنّة وهي الطريقة؛ يعني كأنه قال لَتتّبِعُنّ سُنن من كان قبلكم يعني طرائق من كان قبلكم يعني في الدين.
وعلى الضبط الآخر الذي أقرأ به (لَتتّبِعُنّ سَنَنَ من كان قبلَكم) السَّنَن مفرد وهو السبيل والطريق يعني لتتبعن سبيل من كان قبلكم.(1/257)
واللام في قوله (لَتتّبِعُنّ) هي الواقعة في جواب القسم، نفهم من وجود اللام أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أقسم على ذلك؛ فقال مؤكدا والله لتتبعن سَنن من كان قبلكم؛ لأن اللام هذه واقعة في جواب القسم، فإذا رأيت اللام هذه المفتوحة فهي الواقعة في جواب القسم؛ بل أقسم عليه والقسم محذوف واللام واقعة في جوابه، لم أقسم عليه الصلاة والسلام؟ ليؤكد هذا الأمر تأكيدا عظيما بأن هذه الأمة ستتبع طريقة وسبيل من كان قبلها من الأمم، وهذا تحذير لأن الأمم السالفة إما أن تكون من أهل الكتاب -اليهود والنصارى-، وهؤلاء قد وصفهم الله جل وعلا بأنهم مغضوب عليهم وضالون، فإذا اُتخذت سبيلهم سبيلا في هذه الأمة معنى ذلك أن هذه الأمة تعرضت للغضب واللعنة، وهذا حصل في هذه الأمة فإن منهم من سلك سبيل اليهود ومنهم من سلك سبيل(1) النصارى، ولهذا قال بعض السلف: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عُبادنا فيه شبه من النصارى. لأن اليهود خالفوا على علم، والنصارى خالفت على ضلالة، وقد قال جل وعلا ?غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِينَ?[الفاتحة:7]، والمغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى كما فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال (حذو القذة بالقذة) يعني من التساوي، القذة والقذة تكون في السهم، وتكون هذه مساوية لتلك لا تفرق بين واحدة والأخرى، فإذا نظرت في هذه ونظرت في هذه وجدت أنهما متماثلان وجدت أن هذه وهذه متماثلتان لا فرق بينهما، وهذا هو الواقع فإن في هذه الأمة وقع التماثل، ففي هذه الأمة حصل ممثل ما حصل من الأمم قبلنا في أبواب الربوبية وفي أبواب الألوهية وفي الأسماء والصفات وكذلك في العمل وكذلك في السلوك وكذلك في أفعال الله جل وعلا، فكل شيء كان فيمن قبلنا وقع في هذه الأمة نسأل الله جل وعلا السلامة.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع.(1/258)
قال النبي عليه الصلاة والسلام ("حتّى لو دَخَلوا جُحرَ ضَبّ لَدَخلتُموهُ". قلنا: يا رسولَ الله, اليهودَ والنصارَى؟ قال: "فمن"؟ أخرجاه) يعني البخاري ومسلم، وجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة؛ بل عماد هذا الباب على هذا الحديث من أن كل كُفْرٍ وشرك وقع في الأمم السالفة فسيقع في هذه الأمة، الأمم السالفة عبدت الأوثان وكفرت بالله جل وعلا فسيقع في هذه الأمة من يعبد الأوثان ومن يكفر بالله جل وعلا في الربوبية وفي الإلهية وفي الأسماء والصفات وفي أفعال الله جل وعلا وفي الحكم والتحاكم، وهكذا في أنواع كثيرة مما حصل فيمن قبلنا حتى في أمور السلوك والبدع؛ بل حتى في أمور الأخلاق والعادات التي قد تتصل بالدين فإنه سلكت هذه الأمة مسلك الأمم قبلها مخالفة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال بعد ذلك (ولمسلم عن ثوبان (- رضي الله عنه -)) وساق الحديث حديث ثوبان وهو حديث طويل ووجه الشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) والأئمة المضلون هم الذين اتخذهم الناس أئمة, قد يكون من جهة الدين، وقد يكون من جهة الوِلاية -يعني ولاية الحُكم-، والأئمة المضلون يملكون زمام الناس فيضلون الناس بالبدع وبالشركيات ويُحسِّنونها لهم حتى تغدوا في أعينهم حقا، وكذلك أصحاب النفوذ وأصحاب الحكم فإنهم إذا كانوا مضلين فإن بيدهم الأمر الذي يجعلهم يَفرضون على الناس أشياء ويُلزمونهم بأشياء مضادة لشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - من أمور العقيدة والتوحيد ومن أمور السلوك والعمل ومن أمور الحكم والتحاكم، وهكذا وقع في هذه الأمة وخوف النبي عليه الصلاة والسلام من الأئمة المضلين وقع ما خاف منه عليه الصلاة والسلام فكثر الأئمة المضلون في الأمة؛ الأئمة المضلون من جهة الأتباع والأئمة المضلون من جهة الطاعة.(1/259)
قال (وإذا وقع عليهم السيف، لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) هذا نص صحيح من رواية البرقاني في صحيحه قال (حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين) يلحق بالمشركين هل هو من جهة ترك بلاد المسلمين والذهاب إلى أرض المشركين؟ أم يلحقوا بالمشركين في الصفات والخصال؟ يحتمل هذا وهذا (حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين) يعني من جهة ترك بلاد الإسلام والذهاب إلى بلاد المشركين رضى بهم وبدينهم، أو (حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين) من جهة الصفات فيشركون كما أشرك المشركون ويَرتدون على أدبارهم.
قال (حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) الفئام هي الجماعات الكبيرة، قال (حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) وهذا ظاهر المناسبة للباب في قول الشيخ رحمه الله في الباب (باب أن ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان).(1/260)
إلى أن قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ منصورة. لاَ يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ. حَتّىَ يَأْتِيَ أَمْرُ اللّهِ تبارك وتعالى) (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ منصورة) هذه الطائفة المنصورة هي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام في حديث آخر "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ"، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام "وَسَتَفْتَرِقُ هذه الأمَّة عَلَى ثلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. كُلّهَا فِي النّارِ, إِلاّ وَاحِدَةً. وَهِيَ الْجَمَاعَةُ" فالطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية وهي الجماعة بجمع أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وسميت منصورة لأن الله جل وعلا نصرها على من ناوأها بالحجة والبيان، نَصْرُها الذي وعدت به ليس نصرا بالسنان ولكنه نصر بالحجة والبيان، فهم وإن هزموا في بعض المعارك أو أُدينت دولتهم في بعض الأحيان فهم الظاهرون على من سواهم بالحجة والبيان، وهم المنصورون بما أعطاهم الله جل وعلا من الحجة والنصوص والصواب والحق على من سواهم فهم على الحق وسواهم على الباطل.(1/261)
هذان اللفظان فرقة ناجية وطائفة منصورة اسمان لشيء واحد وإنما هو من باب تنوع الصفات، فقال عنها الطائفة المنصورة هنا (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ منصورة) لأنها موعودة بالنصر كما قال جل وعلا?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:59]، فهم منصورون، كما قال أيضا?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173]، فقولهم هو المنصور وهو الظاهر وحجتهم هي الظاهرة، وقد يكون من النصر والتمكين في أرض الله ما أعطاهم الله جل وعلا من ذلك، وهم أيضا الفرقة الناجية التي جاءت في حديث الافتراق، ناجية يعني موعودة بالنجاة من النار، فهم موصوفون بالنصر وموصوفون بالنجاة من النار، وموصوفون بالنصر على عدوهم بالحجة والبيان، وقد يكون مع ذلك نصر بالسيف والسنان ونحو ذلك. نعم.
¹
باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى: ?وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَة مِنْ خَلاَقٍ? الآية [البقرة: 102].
وقوله: ?يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ?[النساء:51]. قال عمر: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وقال جابر: الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اجْتَنِبُوا السّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قالوا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا هُنّ؟ قَالَ: "الشّرْكُ بِالله. وَالسّحْرُ, وَقَتْلُ النّفْسِ الّتِي حَرّمَ الله إِلاّ بِالْحَقّ, وَأَكْلُ الرّبَا, وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ, وَالتّوَلّي يَوْمَ الزّحْفِ, وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ".
وعن جندب مرفوعاً: حد الساحر ضربُهُ بالسيف. رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.(1/262)
وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة، قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر.
وصح عن حفصة رضي الله عنها، أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقُتلت. وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[الشرح]
هذا (باب ما جاء في السحر) ومناسبة ذكر السحر لكتاب التوحيد أن السحر نوع من الشرك، وقد قال عليه الصلاة والسلام "من سحر فقد أشرك"، فالسحر أحد أنواع الشرك الأكبر بالله جل وعلا؛ فمناسبته ظاهرة أنه مضادٌّ لأصل التوحيد.
والسحر في اللغة هو عبارة عما خفي ولطُف سببه, خفي يعني صار سبب ذلك الشيء خفيا لا يقع بظهور وإنما يقع على وجه الخفاء، ولهذا سمي آخر الليل سَحَرا لذلك، وكذلك قيل في أكْلة آخر الليل سحور وذلك لأنها تقع على وجه الخفاء وعدم الاشتهار والظهور من الناس.
فهذه اللفظة (سِحْرٌ) وما أشتقت منه تدل على خفاء في الشيء، ولهذا فإنه في اللغة يُطلق السحر على أشياء كثيرة:
"منها ما يكون في جهة المقال.
"ومنها ما يكون من الفعل.
"ومنها ما يكون من جهة الاعتقاد.
وسيأتي في هذا الباب الذي بعده عن بيان شيء من أنواع السحر ما يتصل بذلك.
وأما السحر الذي هو كفر أو شرك أكبر بالله جل وعلا فهو استخدام الشياطين والاستعانة بها لحصول أمر بواسطة التقرب لذلك الشيطان بشيء من أنواع العبادة.
والسحر عرفه الفقهاء بقولهم: السحر هو رقى وعزائم وعقد ينفث فيها فيكون سحرا يضر حقيقة ويمرض حقيقة ويقتل حقيقة.
فإذن حقيقة السحر أنه استخدام للشياطين في التأثير، ولا يمكن للساحر أن يصل إلى انفاذ سحره حتى يكون متقربا إلى الشياطين، فإذا تقرب إليها خدمته الجن -يعني شياطين الجن- بأن أثرت في بدن المسحور، فلكل سحر خادم من الشياطين يخدمه، ولكل ساحر مستعان به من الشياطين، فلا يمكن للساحر أن يكون ساحرا على الحقيقة إلا وهو يتقرب إلى الشياطين.(1/263)
ولهذا نقول: السحر شرك بالله جل وعلا.
وهناك شيء قد يكون في الظاهر أنه سحر ولكنه في الباطن ليس بسحر، وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام فيما كان من السحر بالاستعانة بالشياطين وباستخدام الرقى والتعويذات والعقد والنفث فيها، وقد قال جل وعلا ?وَمِن شَرِّ النَّفًّاثَاتِ فِي العُقَدِ?[الفلق:4]، و(النَّفًّاثَاتِ) هن السواحر اللاتي يعقدن العقد وينفث فيها، خُصت الإناث بذلك بالاستعاذة؛ لأن الغالب مما يستخدمه في الجاهلية وعند أهل الكتاب أن الذي يستخدمه النساء، فجرى ذلك مجرى الغالب، قال جل وعلا(مِن شَرِّ النَّفًّاثَاتِ فِي العُقَدِ)، و(النَّفًّاثَات) جمع نفاثة صيغة مبالغة في النفث لأنها تكثر النفث في العقدة وتنفث برقى وتعازيم وتعويذات تستخدم فيها الجن لتخدم هذه العقدة التي فيها شيء من بدن المسحور أو فيها شيء يتعلق بالمسحور حتى يكون ذلك مؤثرا فيه.
وقد سحر يهودي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مُشط ومُشاطة؛ أي في شيء من شعره، وحتى يخيل للنبي عليه الصلاة والسلام أنه يفعل الشيء ولا يفعله من جهة نسائه عليه الصلاة والسلام؛ يعني كان سحر ذلك اليهودي مؤثرا في بدنه عليه الصلاة والسلام؛ لكنه لم يكن مؤثرا في علمه ولا في عقله ولا في روحه عليه الصلاة والسلام، وإنما في بدنه يخيل إليه أنه قد واقع نسائه وهو لم يواقع ونحو ذلك.(1/264)
هذا السحر الذي فيه استخدام الشياطين شرك وكفر بالله جل وعلا، قد قال سبحانه ?اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:102]، والذي تلته الشياطين على ملك سليمان هو ما قرأوا في كتب السحر وما يتصل بذلك من عمل السحر قال جل وعلا ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ?[البقرة:102] فعلل كفر الشياطين بقوله ?يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ?[البقرة:102]، قال سبحانه ?وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ?[البقرة:102] فإذن تعلم السحر، تعلمه من جهة فهم كيف يكون السحر وكيف يَعمل السحر لا يكون إلا بالكفر والشرك؛ لكن هناك مرتبة أنه يتعلم ذلك نظريا ولا يعمله، وهناك مرتبة أنه يتعلمه ويعمله ولو مرة، وهناك مرتبة الساحر الذي يتعلم ويعمله دائما، قال جل وعلا (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ) فدلّ على أن تعلمه بمجرده كفر.
ولهذا نقول: الصحيح أن تعلم السحر ولو بدون عمل شرك وكفر بالله جل وعلا بنص الآية، لم؟ لأنه لا يمكن أن يتعلم السحر إلا بتعلم الشرك بالله جل وعلا وكيف يشرك، وإذا تعلم الشرك فهو مشرك بالله جل وعلا.
بعض العلماء يقول السحر قسمان كقول الشافعي وغيره:
"منه ما يكون بالاستعانة بالشياطين فهذا كفر وشرك أكبر.
"ومنه بما يكون بالأدوية والتدخينات فهذا فسق ومحرم، ولا يكفر فاعله إلا إذا استحله.(1/265)
وهذا التقسيم من الشافعي وممن تبعه هو من جهة الواقع؛ يعني نظروا في الذين يمارسون ذلك، فمنهم من يقول أنه ساحر وليس كذلك من جهة السحر الشرعي الحقيقي؛ يعني السحر الذي وُصف في الشرع، فيقول هو ساحر وهو يستخدم أدوية وتعويذات، وفي الحقيقة هو مشعوذ لا يصدق عليه اسم الساحر، وهذا فيما يفعل يؤثر عن طريق الأدوية، وأما الصرف والعطف يعني جلب محبة امرأة لزوجها أو صرف محبة المرأة لزوجها أو العكس فهذا من القسم الأول؛ لأنه من نواقض الإسلام، فالسحر من نواقض الإسلام؛ لأنه شرك بالله ومنه الصرف والعطف؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى روح وقلب من يُراد صرفه أو العطف إليه إلا بالشرك؛ لأن الشيطان هو الذي يؤثر على النفس ولن يخدم الشيطان الإنسي الساحر إلا بعد أن يشرك بالله جل وعلا.
إذن فتحصَّل أن السحر بجميع أنواعه فيه استخدام للشياطين واستعانة بها، والشياطين لا تخدم إلا من تقرب إليها, يتقرب إليها بأي شيء؟ بالذبح، يتقرب إليها بأي شيء؟ بالاستغاثة, يتقرب إليها بالاستعاذة ونحو ذلك يعني يصرف إليها شيئا من أنواع العبادة.
بل قد نظرتُ في بعض كتب السحر فوجدتُ أن الساحر بحسب ما وصف ذلك الكاتب لا يصل إلى حقيقة السحر وتخدمه الجن كما ينبغي حتى يُهين القرآن ويُهين المصحف، وحتى يكفر بالله ويسبّ الله جل وعلا ونبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا قد ذكره بعض أيضا من قد اطلع على حقيقة الحال.
إذن نقول السحر شرك بالله سبحانه وتعالى، وكل ساحر مشرك، وقتل الساحر فيها سيأتي على الصحيح أنه قتل ردّة لا قتل تعزير كما سيأتي.
فالشيخ رحمه الله عقد هذا الباب (باب ما جاء في السحر) لبيان تلك المسألة.(1/266)
قال (وقول الله تعالى: ?وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَة مِنْ خَلاَقٍ? الآية [البقرة: 102]) وجه الاستدلال بهذه الآية قوله (مَا لَهُ فِي الآخِرَة مِنْ خَلاَقٍ) يعني ما له في الآخرة من نصيب، الخلاق بمعنى النصيب، (لَمَنِ اشْتَرَاهُ) يعني اشترى السحر، والاشتراء فيه دفع شيء؛ يعني أن يأخذ شيئا ويدفع عوضه، حقيقة الشراء أن تشتري سلعة مثلا تدفع ثمنها تأخذ مُثمنا وتدفع ثمنا.
والساحر اشترى، من تعلم السحر، اشترى أي شيء؟ اشترى السحر بدل أي شيء بدل توحيده، فالثمن هو التوحيد، الثمن هو الإيمان بالله وحده والمثمن هو السحر؛ ولهذا قال جل وعلا هنا (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ) يعني من دفع دينه عوضا عن ذلك الشيء الذي أخذه وهو السحر، (مَا لَهُ فِي الآخِرَة مِنْ خَلاَقٍ) يعني من نصيب، وهكذا المشرك ليس له في الآخرة من نصيب، فوجه الاستدلال ظاهر من أن الساحر قد جعل دينه عوضا عن ذلك الذي اشتراه وتعلَّمه وعمل به.
قال (وقوله: ?يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ?[النساء:51]. قال عمر: الجبت: السحر) وهذا في ذم أهل الكتاب، فإن أهل الكتاب لما آمنوا بالسحر ذمهم الله جل وعلا ولعنهم وغضب عليهم، وهذا يكثر في اليهود، يكثر السحر واستعمال السحر في اليهود، ولهذا ذمهم الله جل وعلا ولعنهم وغضب عليهم.
(قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: الجبت السحر) وإذا كان الله جل وعلا ذمهم ولعنهم وغضب عليهم لأجل ذلك فهذا يفيد أنه من المحرمات ومن الكبائر، وإذا كان فيه إشراك بالله جل وعلا فظاهرٌ أنه شرك بالله جل وعلا وهكذا جميع أصنافه كذلك.
قال (والطاغوت: الشيطان) يعني الجبت اسم عام يشمل أشياء كثيرة كما ذكرنا ومن أبرزها وأظهرها عند اليهود السحر، فيؤمنون بالجبت يعني السحر؛ لأنه هو أظهر الأشياء عندهم، ويؤمنون بالطاغوت يعني بالشيطان وهو كل ما توجهوا إليه بالطاعة وبعده عن الحق وعن الصواب.(1/267)
(قال جابر -يعني ابن عبد الله-: الطواغيت كاهن كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد) وهذا يأتي بيانه في باب ما جاء في الكهان.
قال (وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اجْتَنِبُوا السّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قالوا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا هُنّ؟ قَالَ: "الشّرْكُ بِالله. وَالسّحْرُ") وجه الاستدلال من ذلك أن السحر من الموبقات.
والموبقات هي التي تُوبق صاحبها وتجعله في هلاك وخسار في الدنيا وفي الآخرة، وهي أكبر الكبائر هذه السبع.
وعطف السحر على الشرك بالله ليس عطفا بين متغايرين في الحقيقة، وإنما هو عطف بين خاص وعام، فالشرك بالله يكون بالسحر ويكون بغيره، فعطَف السحر على الشرك للتنصيص عليه، والسحر -كما ذكرنا- أحد أفراد الشرك بالله جل وعلا.
وعطف الخاص على العام أمثلته كثيرة كقوله جل وعلا?مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ?[البقرة:98]، هنا عطف جبريل وميكال على الملائكة وهذا من عطف الخاص على العام.
قال بعد ذلك (وعن جندب مرفوعاً: حد الساحر ضربُهُ بالسيف. رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف)، (حد الساحر ضَربُهُ بالسيف)، رُويت هكذا (ضَرْبُهُ) وهو الأصح، ورويت (ضَرْبَة) حد الساحر ضربة بالسيف، فعلى رواية (ضربة) لا يكون لها مفهوم؛ يعني إن مات بضربة أو يضرب ضربتين أو ثلاث لأن العدد لا مفهوم له.(1/268)
قوله (حد الساحر) هنا لم يفصِّل بين ساحر وساحر فقال (حد الساحر)، ولم يأتِِ في أدلة الكتاب والسنة التفصيل في اسم الساحر الذي يُحدّ أو وصف بالكفر بين نوع ونوع من التأثير، فالأنواع التي يستخدمها السَّحرة مما يصدق عليه أنه سحر في التأثير، وفي الإمراض، وفي التفريق، وفي التأثير على العقول وعلى القلوب، ونحو ذلك من أنواع التأثير الحفي الذي يكون باستخدام الشياطين أو بأمور خفية، فهذا كله لا يفرق فيه بين فاعل وفاعلـ والأدلة ما فرقت.
فلهذا قال العلماء: الصحيح أن الساحر من أي نوع حده أن يقتل.
وهل حده حد كفر وردة أو حد لأجل أنه قَتَلَ فيكون حدًّا لأجل القتل أو حد تعزير؟
اختلف العلماء في ذلك والصحيح في هذه أنه في الجميع حدّ ردة؛ لأن حقيقة السحر لابدّ أن يكون فيه إشراك بالله جل وعلا، فمن أشرك بالله جل وعلا فقد ارتد وحلّ دمه وماله.
شيخ الإسلام له تفصيل يقول فيه ما مقتضاه: إن الساحر قد لا تدرك حقيقة سحره، فيترك أمره في قتله إلى الإمام، إذا رأى المصلحة في قَتْلِهِ قَتَلَهُ وإن لم يرَ المصلحة في قتله لم يقتله؛ ويعني بالمصلحة المصلحة الشرعية.
فتحصَّل في ذلك أنه ثَم أقوال في حدِّ الساحر:
الأول: أنه يقتل مطلقا ردّة؛ لأنه لا يكون السحر إلا بشرك.
والقول الثاني: أنه يقتل ردّة إذا كان سحره بشرك، ويقتل حدّا إذا كان سحره أدى إلى قتل غيره بغير ما فيه إشراك ممثل الأدوية وتعويذات ونحو ذلك التي ذكرنا.
والثالث: القول الذي عُزِي لشيخ الإسلام من أنه كالزنديق يترك أمره إلى الإمام بحسب ما يراه إن رأى المصلحة الشرعية في قتْله قتله وإلا عاقبه بما دون القتل.
قال (وفي صحيح البخاري عن بجالة، قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر) هذا ظاهر في الأمر بقتل الساحر والساحرة بدون تفصيل؛ ولأن حقيقة السحر لا تكون إلا بشرك بالله جل وعلا وذلك ردّة.(1/269)
قال (وصح عن حفصة رضي الله عنها، أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقُتِلت. وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني أن الساحر يجب أن يقتل وهذا حده، سواء قلنا يقتل لحد الردة أو يقتل لحد القتل أو يقتل تعزيرا، فالصحابة رضوان الله عليهم أفتوا بقتله وأمروا بقتله، وذلك بدون تفريق، وهذا هو الواجب أن لا يفرق بين نوع ونوع.
والواجب على المسلمين أنْ يحذروا السحر بأنواعه وأن يتعاونوا في الإبلاغ براءة للذمة وإنكارا للمنكر عن كل من يعملون عنده شعوذة أو استخداما لشيء من الخرافات أو السحر ونحو ذلك؛ لأنه كما قال الأئمة ما يدخل السحرة إلى بلد إلا ويفشوا فيها الفساد والظلم والاعتداء والطغيان، ذلك لأنهم يستخدمون الشياطين فتطيع الشياطين السحرة، أعاذنا الله منهم ومن أقوالهم وأعمالهم وتأثيراتهم.
¹
[الأسئلة]
[س/ هل يجوز الذهاب للعلاج عند من يزعم أنه يعالج بمساعدة جن مسلمين، وهل هذه المساعدة من الجن للقارئ من الاستعانة الجائزة أم المحرمة؟
ج/ الاستعانة بالجن -سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين- وسيلة من وسائل الشرك، والاستعانة معناها طلب الإعانة، ولهذا من المتقرر عند أهل العلم أنهم لا يطلبون الإعانة من مسلمي الجن، فلم يطلب الإعانة منهم الصحابة رضوان الله عليهم وهم أَوْلى أن تخدمهم الجن وأن تعينهم.(1/270)
وأصل الإعانة من الجن من أسباب إغراء الإنس بالتوسل إلى الجن وبرفعة مقامه وبالاستمتاع به، وقد قال جل وعلا?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا?[الأنعام:128]، فحصل الاستمتاع -كما قال المفسرون- من الجن بالإنس لأن الإنسي يتقرب إليه ويخضع له ويذل ويكون في حاجته، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن الجنيَّ يخدمه، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبحٌ من الإنس للجن و تقرب بأنواع العبادات أو -والعياذ بالله- بالكفر بالله جل وعلا بإهانة المصحف أو بامتهانه أو نحو ذلك.
ولهذا نقول أن تلك الاستعانة بأنواعها لا تجوز، منها ما هو شرك وهي الاستعانة بشياطين الجن يعني الكفار، ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك وهو الاستعانة بمسلمي الجن.
بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن الجن قد تخدم الإنسيَّ، وهذا المقام فيه نظر و تفصيل ذلك أن ذكر في آخر كتاب النبوات أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أمرهم ونهاهم، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم فإنه ليس من سجايا أولياء الله وليس من أفعال أولياء الله. قال: مع قد تنفع الجن الإنس وقد تقدم له بعض الخدمة ونحو ذلك.
وهذا صحيح، فحصل أن المقام فيه تفصيل:
فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة فهذا وسيلة إلى الشرك إذا توجه إلى جني مسلما، ولا يجوز أن يؤتى إلى أحد يقرأ يعرف من أنه يستخدم الجن المسلمين.
وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه فإن هذا قد يحصل؛ لكن لم يكن من خلق أولياء الله ولم مما سخّره الله جل وعلا لخاصة عباده، فلا بد أن يكون عند هذا نوع خلل حتى كانت الجن تُكثر من خدمته وإخباره بالأمور ونحو ذلك.(1/271)
فإذا كان ذلك بطلب منه فهذا لا يجوز وهذا نوع من أنواع المحرمات؛ لأنه نوع استمتاع.
وإذا كان بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين، فيستعيذ بالله من شر مردة الجن؛ لأنه قد يكون بعد ذلك فيه -يعني فيما فعل في قبول ذلك الخبر واعتماده عليه وأنسه به لما تعلمه الجن منه- ليكون فيه فتح على أبواب قلبه بأن يتوسل بالجن أو أن يستخدمهم.
إذا تبين، فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف لا يجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث، وذكر ذلك أيضا الفقهاء، وهذا صحيح لأنّ البناء على الخبر وتصديق الخبر هو فرع عن تعديل المخبِر، والجني غائب وعدالته غير معروفة وغير معلومة عند السامع، فإذا بنى الخبر عن من جاء به له من الجن وهو لم يرهم ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع وهي لا تكفي، فإنه قد يكون قد قبل خبر الفاسق، ولهذا قال جل وعلا?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ?[الحجرات:6]، والذين يقبلون إخبار الجن وإعلام الجن ببعض الحوادث حصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة، حيث إنهم جزموا بصحة ما أخبرتهم به الجن، فربما حصل منهم قيل وقال -يعني من الناس في ذلك الذين أُخبروا بذلك- ويحصل بعد ذلك من جرائها مفاسد، وقد تفرقت بعض البيوت من جرّاء خبر قارئ جاهل بأنَّ هذا الذي فعل كذا هو فلان باعتبار الخبر الذي جاءه، ويكون الخبر الذي جاءه من الجني خبر كذِب، ويكون هو اعتمد على نبأ هذا الذي لا يعلم عدالته وبنى عليه وأخبر عليه وصار من جرائه فرقة واختلاف وتفرق وشتات في البيوت، ونعلم أنه قد تثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم رحمه الله: أن إبليس ينصب عرشه على الماء ويبعث سراياه فيكون أحب جنوده إليه من يقول له فرقت بين المرأة وزوجها. وهذا في جملة التفريق بين المرأة وزوجها؛ لأنه هو الغالب وأحب ما يكون لعدو الله أن يفرق بين(1/272)
المؤمنين، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أيضا مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم".
فهذه المسألة يجب عليكم كطلبة علم أن تسعوا في إنكارها، وأن تبذلوا الجهد فإقامة الحجة على من يستخدم الجن ويتذرّع أن بعض العلماء أباح ذلك، وهذا وسيلة من وسائل الشرك لله جل وعلا.
واقرأوا أول كتاب تاريخ نجد لابن بشر حيث قال: إن بسبب دخول الشرك إلى قرى نجد أن كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد أو أتى وقت خرف النخيل فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى والأودية ومعهم بعض الأعشاب، فإذا كانوا كذلك ربما سألهم جهلة تلك القرى حتى حببوا إليهم بعض الأفعال من جرّاء سؤالهم؛ حببوا لهم بعض الشركيات أو بعض البدع، ثم شيئا فشيئا حتى فشا ذلك.
وعليه يكون من أسباب انتشار الشرك في هذه الديار يعني في نجد وما حولها -بحسب ما ذكر ابن غنام- يعني من جهة المتطببين الجهلة أو من جهة القراء المشعوذين أو القراء الجهلة.
وقد حصل أيضا في هذا أن بعض من يستخدم الجن كثر عنده الناس، ولما كثر عنده الناس صار يعالج علاجا نافعا، وبعد ذلك تسخرت له فئات من الجن أكثر من ضعف تأثيره، فلما ضعف تأثيره وعرف أن ما عنده من الحالات التي تأتيه للقراءة أو للعلاج لم يستطع شيئا صار تعلقه بالجن أكثر، ولا زال ينحدر ما في قلبه من قوة اليقين وعدم الاعتماد بقلبه على الجن حتى اعتمد عليهم شيئا فشيئا، ثم حرفوه والعياذ بالله عن السنة وعن ما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله وإعظامه وعدم استخدام الجن في الأغراض الشركية، فجعلوه يستخدم الجن في هذه أغراض شركية وأغراض لا تجوز بالاتفاق.(1/273)
فإذن هذا مما يجب وَصْدُه، ووسائل الشرك يجب علينا أن ننكرها، وسائل الغواية يجب أن ننكرها، ووجود من يستخدم الجن ويعلن ذلك ويطلب خدمتهم بالإخبار هذا مبني على الجهل في الحقيقة بالشرع وعلى جهل بوسائل الشرك وما يُصلح المجتمعات وما يفسدها والله المستعان.](1)
¹
باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ العيافة، والطّرْق، والطيرة من الجبت". قال عوف: الْعِيَافَةُ زَجْرُ الطّيْرِ والطّرْقُ الْخَطّ يُخَطّ فِي الأرْضِ، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النّجُومِ، فقد اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السّحْرِ زَادَ مَا زَادَ". رواه أبو داود، وإسناده صحيح.
وللنسائي من حديث أبي هريرة: " مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكّلَ إلَيْهِ".
وعند ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ هَلْ أُنَبّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النّاسِ"رواه مسلم.
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً".
[الشرح]
هذا (باب بيان شيء من أنواع السحر) لما ذكر الإمام رحمه الله تعالى ما جاء في السحر وما اتصل بذلك من حُكمه وتفصيل الكلام عليه، ذكر أن السحر قد يأتي في النصوص ولا يُراد منه السحر الذي يكون بالشرك بالله جل وعلا.
__________
(1) مأخوذ من الوجه الثاني للشريط السادس، وهنا ينتهي الشريط.(1/274)
فإن اسم السحر عام في اللغة يدخل فيه ذلك الاسم الخاص الذي فيه استغاثة بالشياطين وتقرب إلى الشياطين وعبادة الشياطين لتخدم الساحر، وقد يكون بأسماء أُخَر يطلق عليها الشارع أنها سحر وليست كالسحر الأول في الحقيقة ولا في الحكم، وهو درجات.
فمما يسمى سحرا البيان، والبيان كما جاء في آخر الباب (إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً), البيان ليس سحرا فيه استعانة بالشياطين ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية؛ لأنه تأثير خفي على القلوب، فإن الرجل البليغ ذا البيان وذا الإيضاح وذا اللسان الجميل الفصيح يؤثر على القلوب حتى يسبيها وربما قَلَبَ الحق باطلا والباطل حقا ببيانه، فسُمي سحرا لخفاء وصوله إلى القلوب، وقلْب الرأي وفهم المخاطب من شيء إلى آخر.
كذلك ما ذكر من أن الطيرة من السحر فالطيرة نوع اعتقاد، كذلك العيافة وهي شبيهة بها أو بعض أنواعها، كذلك الخط في الرمل، ونحو ذلك من الأشياء التي ربما أطلق عليها أنها سحر وهي ليست كالسحر الأول في الحد والحقيقة ولا في الحُكم.
إذن هذا الباب قال فيه الإمام رحمه الله تعالى (باب بيان شيء من أنواع السحر) وأنواع السحر منها ما هو شرك أكبر بالله جل وعلا، والمراد إذا قلنا السحر وهذه هي الحقيقة العرفية.
وهناك في ألفاظ الشرع أشياء يكون المرجع فيها إلى الحقيقة اللغوية، وهناك أشياء يكون المرجع فيها إلى الحقيقة العرفية، ويكون هناك أشياء المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية.
وهنا في هذا الباب فيما يشمل ما يطلق عليه لغة أنه سحر، ويطلق عليه عرفا أنه سحر، ويطلق عليه شرعا أنه سحر.
فإذن التفريق بين هذه الأنواع مهم، ولهذا ذكر الإمام هذا الباب حتى تفرِّق بين نوع وآخر، فالحد الذي فيه حد الساحر ضربه بالسيف لا ينطبق على كل هذه الأنواع التي ستذكر؛ لأنها سحر لغة وليست بسحر شرعا.(1/275)
قال في الحديث الأول قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم (إنّ العيافة، والطّرْق، والطيرة من الجبت)، (العيافة) مأخوذة من عياف الشيء وهو تركه، عاف الشيءَ يعافه إذا تركه فلم تبْغِهِ نفسه.
والعيافة كما فسرها عَوْف زَجْرُ الطّيْرِ، وهذا أحد تفسير العيافة، وزجر الطير أنْ يحرّك طيرا حتى ينظر إلى أين تتحرك ويزجر الطير في حركته، ثم يفهم من ذلك الزجر هل هذا الأمر الذي سيُقدم عليه أنه أمر محمود أو أمر مذموم، أو يطّلع بحقيقة زجر الطير على مستقبل الحال، فهذا نوع من الجِبت وهو السحر لم؟ وذكرت لكم ذكرت لكم أن معنى الجبت هو الشيء المرذول المطّرح الذي يصرف الواحد عن الحق.
والسحر شيء خفي يؤثر على النفوس، والعيافة من التأثر بالطير وبزجرها وبانتقال من هنا إلى هنا أو بحركتها شيء خفي دخل في النفس فأثر عليها من جهة الإقدام أو الكف، فصار نوعا من السحر لأجل ذلك، وهو جبت لأنه شيء مرذول أدّى إلى الإقبال أو الامتناع.
والطِّيَرَة أعم من العيافة؛ لأن العيافة على حسب تفسير عوف وهو أحد تفسيراتها متعلق بالطير وحده، وأما الطيرة فهو اسم عام لما فيه تشاؤم أو تفاؤل بشيء من الأشياء.
وسيأتي باب مستقل لذكر أحكام الطِّيرة وصورتها وما يقي منها يأتي إن شاء الله تعالى.
وحقيقة الطيرة أنه يرى شيئا كان في الأول من الطير تحرك يمينا أو يسارا، فلما رآه تحرك يمينا قال هذا تفاؤل أنني سأنجح في هذا العمل أو في هذا السفر، وإذا رآه تحرك شِمالا قال هذا معناه أني سأنضرُّ في هذا السفر أو سيصيبني مكروه فرجع، وقد قال عليه الصلاة والسلام "من ردّته الطيرةُ عن حاجته فقد أشرك"، قد يتشاءم بحركة شيء، بكلمة يسمعها، بشيء في الجو, بتصادم سيارة أمامه, بسواد في الجو حصل أمامه أو في ذلك اليوم الذي سينتقل فيه، أو تشاءم بشيء حصل له في أول زواجه ونحو ذلك من أنواع التشاؤم، أو التشاؤم بالأشهر أو بالأيام، هذا كله من أنواع الطيرة.(1/276)
ومتى يكون طيرة؟ إذا رده عن حاجته أو جعله يُقْبِلُ عن حاجته، فإذا تشاءم وذلك التشاؤم حينما سيْطر على قلبه جعله يقبل أو يحجم فإنه يكون متطيرا.
وكذلك في باب التفاؤل إذا رأى شيئا فجعله ذلك الشيء يقدم ولو لذلك الشيء أنه رآه لما جعله يقدم، فإن ذلك أيضا من الطيرة وهو نوع من أنواع التأثيرات الخفية على القلوب، وذلك ضرب من السحر.
وأمّا الطَّرق فهو مأخوذ من وضع طرق في الأرض وهي في الخطوط، فيأتي بخطوط متنوعة ويخطها في الأرض، خطوط كثيرة ليس لها عدد، ثم يبدأ الكاهن الذي يستخدم الخطوط فيمسح خطا خطا، أو يمسح خطين خطين بسرعة، ثم ينظر ما بقي فيقول هذا الذي بقي يدل على كذا وكذا، هذا الذي بقي يدل على أنك ستغتني، يدل على أنك سيصيبك كذا وكذا ونحو ذلك، وهو نوع من أنواع الكِهانة، والكهانة ضرب من السحر.
قال هنا (والطّرْقُ الْخَطّ يُخَطّ فِي الأرْضِ، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان) وهو من أنواع السحر؛ لأن الشيطان يدعو إلى ذلك بصوته وبعويله.
نقف عند هذا، ونكمل إن شاء الله يوم السبت ونرجوا من يوم السبت مع طول الزمن أن ننتهي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى في الأسبوع القادم، قد نختصر بعض الاختصار في بعض الأبواب لأجل أن ينهى الكتاب مع عدم إخلال -إن شاء الله- بمقاصد المؤلف رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة.
هذا وأسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والإقبال على الخيرات وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (1)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا ويقينا وصلاحا يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
__________
(1) انتهى الشريط التاسع.(1/277)
[قد ذكرنا أن هذا الباب عقده الإمام رحمه الله تعالى لبيان أن هناك من الأعمال ما أطلق عليه أنه سحر، ولكن لا يشترك مع السحر في الذي في الباب قبله في جميع الأحكام، ثم إن بعض هذه الأنواع يجهل كثير من المسلمين أنها من السحر فتارة يدخلونها في غير باب السحر، وهي مع السحر مشتركة في حقيقته وفي بيان أصله أو في أصله ووضعه اللغوي.] (1)
وقفنا عند قوله (وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النّجُومِ، فقد اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السّحْرِ زَادَ مَا زَادَ". رواه أبو داود، وإسناده صحيح) هذا فيه بيان أن تعلم النجوم تعلم للسحر، ويأتي في باب خاص (باب ما جاء في التنجيم) أنواع تعلم النجوم وما جعل الله جل وعلا النجوم له.
قوله هنا(مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً) يعني من تعلم بعض من علم النجوم؛ لأن الشعبة هي الطائفة من الشيء أو جزء من أجزائه فكل جزء من أجزاء علم النجوم الذي هو علم التأثير نوع من أنواع السحر، قال (فقد اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السّحْرِ زَادَ مَا زَادَ) يعني كل ما زاد في تعلم علم النجوم كلما زاد في تعلم السحر حتى يصل إلى آخر حقيقة علم التأثير -كما يسمونه- فيصبح سحرا وكهانة حقيقة.
ويأتي أن التنجيم منه, علم التأثير وهو جعْل الكواكب والنجوم في حركتها والتقاءها وافتراقها وطلوعها وغروبها مؤثرة في الحوادث الأرضية أو دالة على ما سيحدث في الأرض، فيجعلونها دالة على علم الغيب، دالة على المغيبات.
وهذا القدر من السحر؛ لأنه يشترك معه في حقيقته لأنه جعْلٌ للتأثير لأمر خفي.
__________
(1) سقط من الأشرطة، وقد نقلته عن تفريغ جامع ابن تيمية.(1/278)
قال (وللنسائي من حديث أبي هريرة: " مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكّلَ إلَيْهِ") قوله (مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ) أنّ عقد العقد والنفث فيها من أنواع السحر، والنفث المقصود به هنا النفث الذي فيه استعاذة واستعانة بالشياطين، فليس كل نفث في عقدة يعقد السحر؛ بل لابد أن يكون النفث بأدعية معينة ورقى شركية وتعويذات وكلام تَحْضُر الجن عند تلاوته وتخدم هذه العقدة السحرية.
(مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ) على ما كان يتعاطاه الناس المردة في ذلك الزمان؛ زمان النبي عليه الصلاة والسلام من النفث في العقد كما قال جل وعلا?وَمِن شَرِّ النَّفًّاثَاتِ فِي العُقَدِ?[الفلق:4] وهن السواحر.
قال (فَقَدْ سَحَرَ) لأن الجني يخدم هذا السحر بالنفث في العقدة، وفائدة العقدة عند السحرة أنه لا ينحلْ السحر ما دامت معقودة، فينعقد الأمر الذي أراه السحر بشيئين: العقدة وبالنفث. العقدة عقدة حبل أو خيط أو نحو ذلك، وبالنفث فيها بالأدعية الشركية والاستعانة بالشياطين.
ومن الأمور المهمة أن تُعلم في هذا الباب أن العقد هذه تارة تكون مرئية واضحة، وتارة تكون صغيرة جدا، [وما كان صغيرا جدا أو ما كان مرئيا فإنه ينبغي لمن اطلع عليه أو نظر فيه أن يحل العقدة فينتهي تأثير السحر بإذن الله أو يضعف تأثيره.](1)
__________
(1) سقط من الأشرطة، وقد نقلته عن تفريغ جامع ابن تيمية.(1/279)
قال (وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ) هذا عام؛ لأنه رتَّب جزاء على فعل بصيغة (مَنْ) كأنه قال: كل من سحر فقد أشرك. يعني سحر بذلك النحو الذي ذُكر وهو أن يعقد عقدة ثم ينفث فيها، (مَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ) هذا دليل لما ذكرنا لكم في الباب قبله أنّ كل سحر يعدّ من أنواع الشرك؛ لأنه لا يمكن أن يحدث السحر إلا بالنفث في العقد أو باستحضار الجن وبعبادة الجن ونحو ذلك وهذا شرك بالله، [قوله (وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ) ليس معناه أنه أشرك بعقد العقدة مثلا، وإنما (فَقَدْ أَشْرَكَ) يعني حين سحر. ومن المعلوم أنه قبل أن يعقد العقدة وينفث فيها فلا بد من تعلمه؛ ولهذا يكون مشركا قبل أن يعقد وينفث ما دام أنه تعلم ذلك ليعمل به فإنه مشرك بالله؛ لأن تعلمه فيه الشرك بالله جل وعلا.](1)
قال (وَمَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكّلَ إلَيْهِ) هذا مر معنا مثاله ومعنى هذا الحديث وأن القلب إذا تعلق شيئا بمعنى أحبه ورضيه وتعلق القلب به فإنه يوكل إليه ويُجعل هو السبب الذي من أجله يجيء نفعه أو يجيء ضره.
ومعلوم أن كل الأسباب الشركية تعود فاعلها أو على الراضي بها بالضر لا بالنفع، والعبد إذا تخلى عن الله جل وعلا ووكل إلى نفسه أو وكل إلى غير الله جل وعلا فقد خاب وخسر وضُرَّ أعظم الضرر، فسعادة العبد وعِظم صلاح قلبه وعظم صلاح روحه بأن يكون تعلقه بالله جل وعلا وحده.
__________
(1) سقط من الأشرطة، وقد نقلته عن تفريغ جامع ابن تيمية.(1/280)
وقوله هنا (وَمَنْ تَعَلّقَ شَيْئاً وُكّلَ إلَيْهِ) فإن من تعلق بالله فإن الله كافيه، من تعلق قلبه بالله إنزالا لحوائجه بالله ورغبا فيما عند الله ورهبا مما يخافه ويؤذيه -يعني يؤذي العبد-؛ فإنس الله جل وعلا كافيه ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وإذا تعلق العبد إلى غير الله فإنه يكون إلى ذلك العبد، والعباد فقراء إلى الله والله جل وعلا هو ولي النعمة وولي الفضل ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ?[فاطر:15]، فمن أنزل حاجته بالله أفلح، ومن تعلق قلبه بالله أفلح، وأمّا من تعلق بالخرافات أو تعلق بالأمور الشركية كالسحر وكالذهاب إلى الأولياء وطلب المدد منهم أو طلب الإغاثة منهم فإنه يوكل إلى المخلوق، ومن وكل إلى المخلوق فإنه يضره ذلك أعظم الضرر كما قال جل وعلا ?يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ?[الحج:13].
قال بعد ذلك (وعند ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ هَلْ أُنَبّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النّاسِ"رواه مسلم)، (العَضْهُ) هكذا تروى في كتب الحديث (العَضْهُ)، وفي كتب غريب الحديث واللغة تنطق هكذا (العِضَهْ), (هل أنبئكم ما العِضَهْ) لأشباهها في وزنها، وهي كما فسرها النبي عليه الصلاة والسلام (النّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النّاسِ).(1/281)
وأصل العَضْه في اللغة يطلق على أشياء منها السحر, والنميمة القالة بين الناس نوع من أنواع السحر وهي كبيرة من الكبائر ومحرم من المحرمات، ووجه الشبه بين النميمة و بين السحر أنّ تأثير السحر في التفريق بين المتحابين أو في جمع المتفارقين تأثيره على القلوب خفي، وهذا عمل النمام فإنه يفرق بين الأحباب؛ لأجل كلام يسوقه لهذا وكلام يسوقه لذاك فيفرق بين القلوب ويجعل العداوة والبغضاء بين قلب هذا وهذا، فحقيقة النميمة كما قال جل وعلا عن السحر?فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ?[البقرة:102]، والنميمة هي القالة بين الناس، وهذا كما هو ظاهر من أنواع السحر وهذا النوع محرم لأنه كبيرة من الكبائر؛ لأن النميمة نوع من أنواع الكبائر، والكبائر من أعظم الذنوب العملية.
قال (ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً")، (إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً) قال عن البيان إن منه ما هو سحر.
والمقصود بالبيان هنا التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة البيّنة التي تأخذ المسامع والقلوب، فتسحر القلوب فتقلب ربما الحق باطلا والباطل حقا، حتى يغدو ذلك الذي يُعدّ من أهل البيان والفصاحة يغدو في قلوب الناس أن ما قاله هو الحق وأن ما لم يقله أو رده هو الباطل، وهذا ضرب وهذا ضرب من السحر؛ لأنه تأثير خفي على النفوس بالألفاظ، هذا التأثير الخفي بقلب الحق باطلا وقلب الباطل حقا تأثيره خفي كتأثير السحر في الخفاء، ولهذا قال (إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً).
والصحيح من أقوال أهل العلم أن هذا فيه ذم للبيان وليس مدحا له، قال (إِنّ من الْبَيَانِ لسِحْراً) على جهة الذم.(1/282)
وبعض أهل العلم قال إن ذلك على جهة المدح؛ لأنه يصل بالتأثير إلى أن يِثر تأثيرا بالغا كتأثير السحر في النفوس، والتأثير البالغ إن كان من جهة البيان يقولون فإنه جائز، وهذا من جهة المدح له وبيان عظم تأثيره.
ولكن هذا فيه نظر، والظاهر أنه لمّا جعل البيان سحرا علمنا أن الشرع ذمه، ولهذا أورد الشيخ رحمه الله في هذا الباب الذي اشتمل على أنواع من المحرمات، فالذي يستغل ما أتاه الله جل وعلا من اللسان والبيان والفصاحة في قلب الباطل حقا وفي قلب الحق باطلا، هذا لا شك أنه من أهل الوعيد ومذموم على فعله؛ لأن البيان إنما يقصد به نصرة الحق لا أن يجعل ما أبطله الله جل وعلا حقا في أنفس الناس وفي قلوبهم. نعم
¹
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحة عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: قَالَ: "مَنْ أَتَى عَرّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدّقَهُ بِمَا يَقُولُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا".
وعن أبي هريرة (- رضي الله عنه -)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ أَتَىَ كَاهِناً, فَصَدّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ- صلى الله عليه وسلم -". رواه أبو داوود. وللأربعة، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما. عن أبي هريرة: "مَنْ أَتَى عَرّافاً أو كَاهِناً, فَصَدّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ - صلى الله عليه وسلم -".
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً(1/283)
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له، ومَنْ أَتَى كَاهِناً, فَصَدّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ .- صلى الله عليه وسلم -رواه البزار بإسناد جيد ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومَنْ أَتَى... ) إلى آخره.
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
[الشرح]
(باب ما جاء في الكهان ونحوهم) هذا الباب أتى بعد أبواب السحر؛ لأن حقيقة عمل الكاهن أنه يستخدم الجن لإخباره بالأمور المغيبة، إما التي غابت في الماضي أو الأمور المغيبة في المستقبل التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله، فالكاهن يجتمع مع الساحر في أنّ كلاّ منهما يستخدم الجن لغرضه ويستمتع بالجن لغرضه.
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد أن الكِهانة استخدام الجن كفر وشرك أكبر بالله جل وعلا؛ لأنه لا يجوز أن يستخدم الجن في مثل هذه الأشياء واستخدام الجن في مثل هذه الأشياء لا يكون إلا بأن يتقرّب إلى الجن بشيء من العبادات، فالكهان لابد حتى يُخدموا بذكر الأمور المغيبة لهم أن يتقربوا إلى الجن ببعض العبادات؛ إمّا بالذبح أو الاستغاثة أو بالكفر بالله جل وعلا بإهانة المصحف أو بسب الله أو نحو ذلك من الأعمال الشركية الكفرية.(1/284)
فالكهانة صنعة مضادة لأصل التوحيد، والكاهن مشرك بالله جل وعلا؛ لأنه يستخدم الجن ويتقرّب إلى الجن بالعبادات حتى تخدمه الجن، حتى تخبره الجن بالمغيبات، هذا لا يمكن إلا أن يتقرب إلى الجن بأنواع العبادات.
وأصل الكهّان في الجاهلية كانوا كما مرّ معنا في حديث جابر في باب سبق أن الكهانة كانت منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة و في غيرها، والكهان أناس يُدَّعى فيهم الوَلاية والإصلاح عندهم وأن عندهم علم ما سيكون في المستقبل، أو عندهم علم المغيبات التي ستحدث للناس أو تحدث في الأرض، ولهذا كانت العرب تعظّم الكهان وكانت تخاف من الكهان وكانت تعطي الكهان أجرا عظيما لأجل ما يُخبر عنه، والكاهن -كما ذكرنا- لا يصل إلى حقيقة عمله بأن يخبر عن الأمور المغيبة إلا باستخدام الجن، والتقرب إلى الجن التقربات الشركية؛ فتستمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة، ويستمتع هو بالجن من جهة ما يخبره به الجن من الأمور المغيبة.
والجن تصل إلى الأمور المغيبة التي تَصْدق فيها عن طريق استراق السمع، فإن بعضهم يركب بعضا حتى يسمعوا الوحي الذي يوحيه الله جل وعلا في السماء، فربما أدرك الشهاب الجني قبل أن يعطي الكلمة لمن تحته، وربما أدرك الشهاب الجني بعد أن ألقى الكلمة فتأتي هذه الكلمة للجن فيعطونها الكاهن فيكذب معها الكاهن أو تكذب معها الجن مائة كذبة حتى يعظم شأن الكاهن وتعظم عبادة الإنس للجن.
وقبل بعثه النبي عليه الصلاة والسلام كان استراق السمع كثيرا جدا، وبعد بعثته عليه الصلاة والسلام حُرست السماء من أن تسترق الجن السمع؛ لأجل تنزل القرآن والوحي حتى لا يقع الاشتباه في أصل الوحي والنبوّة، وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام يقع الاستراق؛ ولكنه قليل بالنسبة لما كان عليه قبل البعثة.
فصارت عندنا أحوال استراق السمع ثلاثة:
"قبل البعثة كثير جدا.(1/285)
"وبعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام لم يحصل استراق من الجن، وإن حصل فهو نادر في غير وحي الله جل وعلا بكتابه لنبيه.
"والحالة الثالثة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام رجع استراق السمع أيضا؛ ولكنه ليس بالكثرة التي كانت قبل ذلك لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا.
والله جل وعلا بين ذلك في القرآن في آيات كثيرة من أن النجوم والشهب ترمي الجن كما قال جل وعلا ?إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ?[الحجر:18] ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الشهب مُرْصَدَةٌ للجن.
تبينت لك حقيقة الكاهن، إذا ظهر ذلك فالكاهن قد يطلق عليه العراف، وهذا الاسم الكاهن أو العراف اسمان متداخلان، قد يكون أحدهما يدل على الآخر، وعند بعض الناس أو في بعض الفئات يُستخدم الكاهن للإخبار بما يحصل في المستقبل، ويُستخدم كلمة أو لفظ العراف لمن يُخبر عن الغائب عن الأعين مما حصل في الماضي ممثل مكان المسروق أو السارق من هو ونحو ذلك مما هو غائب عن الأنظار، وإنما يعلمه العراف بواسطة الجن.
والصحيح في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمّال ونحوهم، ممن يتكلمون في معرفة الأمور بتلك الطرق، من تكلم بمعرفة الأمور المغيبة إما الماضية أو المستقبلة بتلك الطرق -طريق التنجيم، أو طريق الخط في الرمل، أو طريق الطرق على الحصى، أو الخط في الرمل بطريق الطرق، أو بالودع أو نحو ذلك من الأساليب أو بالخشبة المكتوب عليها أبا جاد، ونحو ذلك من قراءة الفنجان أو قراءة الكف- كل من يخبر عن الأمور المغيبة بشيء يجعله وسيلة لمعرفة الأمور المغيبة يسمى كاهنا ويسمى عرّافا؛ لأنه لا يحصل له أمرُه إلا بنوع من أنواع الكهانة. وسيأتي ذلك إن شاء الله.
قال رحمه الله (باب ما جاء في الكهان ونحوهم) يعني من العرّافين والمنجمين والذين يخطّون في الرمل والذين يكتبون على الخشب ونحو ذلك.(1/286)
قال (روى مسلم في صحيحة عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: قَالَ: "مَنْ أَتَى عَرّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدّقَهُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا") هذا الحديث نبه الشراح على أن لفظه في مسلم (مَنْ أَتَى عَرّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا) بدون كلمة (فَصَدّقَهُ)، وكلمة (فَصَدّقَهُ) في هذا الحديث موجودة في مسند الإمام أحمد، فالشيخ رحمه الله ذكر هذا اللفظ وعزاه لمسلم على طريقة أهل العلم في عزو الحديث لأحد صاحبي الصحيح إذا كان أصله فيهما لإتحاد الطريق أو نحو ذلك.
(مَنْ أَتَى عَرّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدّقَهُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا) هذا الحديث فيه جزاء الذي يأتي العرّاف فيسأل العراف، وقلنا إن العراف يشمل اسم الكاهن ونحو ذلك، فـ(مَنْ أَتَى عَرّافاً فَسَأَلَهُ) بمجرد سؤال ولم يصدقه فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما.
والمقصود من قوله (لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا) أنها تقع مجزئة لا يجب عليه قضاؤها؛ ولكن لا ثواب له فيها؛ لأن الذنب والإثم الذي حصّله حين أتى العرّاف فسأله عن شيء، يقابل ثواب الصلاة أربعين يوما، فأسقط هذا هَذا، ويدل ذلك على عظم ذنب الذي يأتي العراف فيسأله العراف عن شيء ولو لم يصدقه، وهذا عند أهل العلم في حق من أتى العراف فسأله عن شيء رغبة في الإطلاع.
أما من أتى العراف فسأله للإنكار عليه وحتى يتحقق أنه عرّاف فلا يدخل في ذلك؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.(1/287)
الحالة الثانية أن يأتي العراف فيسأل عن شيء فإذا أخبره الكاهن أو العراف صدّقه بما يقول. فالحديث الأول عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أنه (لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا)، والحديث الثاني فيه أنه (كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ- صلى الله عليه وسلم -) فيتضح بالحديثين أنّ الحالة الثانية هي من أتى العراف والكاهن فسأله عن شيء فصدقه أنه كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما.
وهذا الحال يدل على أن الذي أتى الكاهن أو العراف فصدقه, أنه لم يخرج من الملة؛ لأنه حد عليه الصلاة والسلام عدم قبول صلاته أربعين يوما، والكافر الذي حُكم عليه أنه كافر كفرا أكبر ومرتد وخارج من الملة فإن صلاته لا تقبل بتاتا حتى يرجع إلى الإسلام.
µ قال طائفة من أهل العلم دل قوله (فَصَدّقَهُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا) على أن قوله (كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ) أنه كفر أصغر وليس بالكفر المخرج من الملة, وهذا القول صحيح، وهو الذي يتعين الجميع بين النصوص فإن قول النبي عليه الصلاة والسلام (مَنْ أَتَى عَرّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدّقَهُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا) يدل على أنه لم يخرج من الإسلام، والحديث الآخر وهو قوله (مَنْ أَتَىَ كَاهِناً, فَصَدّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ) يدل على كفره، فعلمنا بذلك على أن كفره كفر أصغر وليس كفر مخرج من الملة.
وهذا أحد الأقوال من مسألة كفر من أتى الكاهن فصدقه بما يقول.(1/288)
µ والقول الثاني أنه يتوقف فيه فلا يقال يكفر كفر أكبر ولا يقال أصغر، وإنما يقال هو كفر إتيان الكاهن وتصديقه كفر بالله جل وعلا ويسكت عن ذلك، ويطلق القول كما جاء في الأحاديث, وهذا لأجل التهديد والتخويف وهذا حتى لا يتجاسر الناس على هذا الأمر. وهذا هو مذهب الإمام أحمد, في المنصوص عنه.
µ والقول الثالث من أقوال أهل العلم في ذلك أن الذي يصدق الكاهن كافر كفرا أكبر، كفره مخرج من الملة إذا أتى الكاهن فسأله فصدقه, أو صدق الكهان بما يقولون, قال طائفة من أهل العلم كفره كفر مخرج من الملة, وهذا القول فيه نظر من جهتين:
الجهة الأولى: ما ذكرناه من الدليل؛ من أن قوله عليه الصلاة والسلام (لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يومًا) يدل على أنه لم يكفر الكفر الأكبر, ولو كان كفر الكفر الأكبر يحدّ عدم قبول صلاته تلك المدة من الأيام.
والثاني: أن تصديق الكاهن فيه شبهة, وادّعاء علم الغيب أو تصديق أحد ممن يدعي علم الغيب كفر بالله جل وعلا كفر أكبر؛ لكن هذا الكاهن الذي ادعى علم الغيب -كما نعلم أنه يخبر بالأمور المغيبة فيما سبق فيه-, عن طريق استراق الجن للسمع, فيكون -إذن- هو نقل ذلك الخبر عن الجن, والجن نقلوه عمن سمعوه في السماء، وهذه شبهة قد يأتي الآتي الذي يأتي للكاهن ويقول أنا أصدقه فيما أخبر من الغيب؛ لأنه قد جاءه علم ذلك الغيب من السماء عن طريق الجن، وهذه الشبهة تمنع من التكفير -تكفير تصديق الكاهن, تكفير من صدّق الكاهن-, الكفر الأكبر.
فصار عندنا أيضا أن القول الأظهر أن كفره كفر أصغر وليس بأكبر لدلالة الأحاديث ولظهور التعليل في ذلك.
قال (فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ- صلى الله عليه وسلم -) وهو القرآن؛ لأنه قد جاء في القرآن وما بينه النبي عليه الصلاة والسلام من السنة أن الكاهن والساحر والعراف لا يفلحون وأنهم إنما يكذبون ولا يصدقون.(1/289)
قال (ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً، وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ليس منا من تَطير أو تُطير له) يأتي في باب ما جاء في التطير (أو تكهن أو تُكهن له)، (ليس منا) يدل على أن الفعل محرم، وبعض أهل العلم يقول إن قوله عليه الصلاة والسلام (ليس منا) يدل على أنه من الكبائر، فقال (ليس منا من تَطير أو تُطير له) والطيرة من الكبائر (أو تكهن) يعني ادعى علم الغيب وادعى أنه كاهن أو أخبر بأمور من المغيبة يخدع من رآه بأنه كاهن، قال(أو تُكهن له) يعني من رضي أن يتكهن له فأتى فسأل عن شيء (أو سَحر أو سُحر له، ومَنْ أَتَى كَاهِناً, فَصَدّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ- صلى الله عليه وسلم -)، وهذا كله لأجل أنّ تصديق الكاهن فيه إعانة له على الشرك الأكبر بالله جل وعلا، هذا حكم الذي يأتي الكاهن.
أما الكاهن فذكرنا حكمه فإنه شرك الشرك الأكبر بالله؛ لأنه لا يمكن له أن يخبر بالأمور المغيبة إلا بأن يشرك.
(قال البغوي العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك) هذا الذي ذكرنا من أن العراف عند بعض أهل العلم من يخبر بأمور سبقت لكنها خفية غيبية عن الناس؛ لكنها من حيث الوجود وقعت في ملكوت الله.
قال (وقيل هو الكاهن) يعني أن العراف و الكاهن اسمان لشيء واحد.(1/290)
قال(والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل الذي يخبر عن ما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم) المنجم هو الذي يستخدم علم التأثير، يقول ظهر نجم كذا والتقى بنجم كذا فمعناه أنه سيحدث كذا وكذا، أو إذا ولد فلان أو إذا ولد لفلان ولد في برج كذا فإنه سيحصل كذا وكذا له من الفتن والفقر أو السعادة أو الشقاوة ونحو ذلك، فيستدلون على حركة النجوم على حال الأرض وحال الناس فيها، وسيأتي تفصيله إن شاء الله. قال (والرمال) الرمال هو صاحب الطرق أو يخط في الرمل أو يستخدم الحصى على الرمل يقال رمّال, (ونحوهم) يعني من مثل الذين يقرؤون الكف ويقرؤون الفنجان، أو في هذا العصر الذين يكتبون في الصحف والجرائد والمجلات البروج وما يحصل في ذلك البرج، وأنت إذا ولدت في هذا البرج معناه سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا، هذا كلها من أنواع الكهانة كما سيأتي.
قال (وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق) ذلك لأن كتابة (أبا جاد) والنظر في النجوم يعني للتأثير نوع من أنواع الكهانة، والكهانة محرمة وكفر بالله جل وعلا.
بقي أن نقول: إن أصناف الكهانة كثيرة جدا وجامعها الذي يجمعها أنه يستخدم الكاهن وسيلة ظاهرية عنده ليُقنع السائل بأنه وصل إليه العلم عن طريق أمور ظاهرية علمية، تارة يقول عن طريق النجوم، وتارة يقول عن طريق الخط أو عن طريق الطرق، أو عن طريق الوَدَع، أو عن طريق الفنجان، أو عن طريق الكف، أو عن طريق النظر في الأرض في حصى يجعله، أو عن طريق الخشب ونحو ذلك، هذه كلها وسائل يغرُّ بها الكاهن من يأتيه.
في الحقيقة هي وسائل لا تحصِّل العلم ذاك؛ لكن العلم جاءه عن طريق الجن فهذه الوسيلة إنما هي وسيلة للضحك على الناس، وسيلة لكي يظن الظان أنها تؤدي إلى العلم، وأن هؤلاء أصحاب علم وفهم بهذه الأمور.(1/291)
وفي الواقع هو لا يتحصَّل على العلم الغيبي عن طريق خط أو عن طريق فنجان أو عن طريق النظر في البروج أو نحو ذلك، وإنما يأتيه العلم عن طريق الجن، وهو يُظهر هذه الأشياء حتى يحصل على المقصود، حتى تصدقه الناس أنه لا يستخدم الجن ولكنه ولي من الأولياء.
كيف يستنتج هذه المغيبات كيف يستنتج المغيبات من هذه الأمور الظاهرية؟ في بعض البلاد كغرب إفريقيا وبعض شمالها ونحو ذلك، وهذا منتشر أيضا في الشرق وفي كثير من البلاد، يجعلون من يتعاطى هذه الأشياء وليّا من الأولياء، ويقولون الملائكة تخبره بكذا، فهو لا يفعل الفعل إلا بإرشاد من الملائكة، فالذين يفعلون هذه الأفعال من الأمور السحرية أو الكهانية عندهم أنهم أولياء، ولهذا ترى بعض الشراح يذكر في مقدمة هذه الأبواب أن أولياء الله جل وعلا لا يتعاطون الشرك ولا يتعاطون مثل هذه الأمور، فأولياء الله مقيَّدون بالشرع وليسوا من أولياء الجن. نعم.
¹
[الأسئلة]
[س/ هناك رجل في منطقتنا يأتي إليه الناس عند فقْد أموالهم، فيعطيهم خيطا معقدا، ويقرأ عليه، ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فقده، فما حكم ذلك؟ وما حكم الصلاة خلفه؟
ج/ هذا من الكِهانة؛ لأن هذا الذي يعمل هذه الأشياء عراف، أو كاهن، وقد يكون ساحرا -أيضا-، فلا يجوز عمل مثل هذا العمل، ولا يحل لأحد أن يعين أحدا يدَّعي معرفة شيء من علم الغيب، والصلاة خلفه لا تجوز؛ لأن هذا إما أن يكون عرافا، أو كاهنا، أو ساحرا، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم. نعم.] (1)
¹
باب ما جاء في النشرة
عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النشرة؟ فقال: "هي من عمل الشيطان". رواه أحمد بسند جيد، وأبو داوود. وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الأول تحت باب ما جاء في الذبح لغير الله.(1/292)
وفي البخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخّذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه.
وروي عن الحسن، أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.
قال ابن القيم: النُّشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز.
[الشرح]
(باب ما جاء في النشرة), النشرة متعلقة بالسحر وأصلها من النَّشْر وهو قيام المريض صحيحا، النشرة اسم لعلاج المسحور، سميت نُشرة لأنه ينتشر بها أي يقوم ويرجع إلى حالته المعتادة.
وقول الشيخ رحمه الله هنا (باب ما جاء في النشرة) يعني من التفصيل يعني وهل النشرة جميعا وهي حل السحر مذمومة؟ أو أن منها ما هو مذموم ومنها ما هو مأذون به؟
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي أنه كما أن السحر شرك بالله جل وعلا يقدح في أصل التوحيد، وأن الساحر مشرك الشرك الأكبر بالله، فالنُّشرة التي هي حل السحر قد يكون من ساحر، وقد يكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها أو الأدعية ونحو ذلك، فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد ومنافية لأصله.
فإذن المناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر، وكذلك مناسبتها لباب التوحيد؛ لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يُشركون بالله جل وعلا.
والنشرة -كما سمعتم- في الباب قسمان: نشرة جائزة ونشرة ممنوعة.(1/293)
النشرة الجائزة: هي ما كانت بالقرآن أو بالأدعية المعروفة أو بالأدوية عند الأطباء ونحو ذلك، فإن السحر يكون كما ذكرنا عن طريق الجن، والسحر يحصل منه إمرار حقيقة في البدن، ويحصل منه تغيير حقيقة في العقل والذهن والفهم، وإذا كان كذلك فإنه يعالَج بالمضادات التي تزيل ذلك السحر، فمما يزيله القرآن، والقرآن هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر، كذلك الأدعية والأوراد ونحو ذلك مما هو معروف من الرقى الشرعية.
ونوع من السحر يكون في البدن يعني من جهة عضوية فهذا أحيانا يعالَج بالرقى والأدعية والقرآن، وأحيانا يعالَج عن طريق الأطباء العضويين، وذلك لأن السحر -كما قلنا- يمرض حقيقة فإذا أزيل المرض أو سبب المرض فإنه يبطل السحر، ولهذا قال لك ابن القيم في آخر الكلام (والثاني النشرة بالرقية والتعويذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز) لأنه يحصل منه المرض وإذا كان كذلك فإنه يعالج بما أذن به شرعا من الرقى والأدوية المباحة.(1/294)
والقسم الثاني من النشرة: وهي التي من أنواع الشرك أن يُنشَّر عنه -بغير الطريق الأول- بطريق السحر، فيحل السحر بسحر آخر، يحل السحر الأول بسحر آخر، وذكرنا أن السحر لا ينعقد أصلا إلا بأن يتقرب الساحر إلى الجني أو أن يكون الجني يخدم الساحر الذي يشرك بالله دائما فيخدم، كذلك حل السحر لا بد فيه من إزالة سببه وهو خدمة شياطين الجن للسحر، وهذا لا يمكن إلا الجن، فإن الساحر الثاني الذي يُنَشِّر السحر ويرفع السحر لابد أن يستغيث أو يتوجه إلى بعض جنه في أن يرفع أولئك الجن الذين عقدوا هذا السحر أن يرفعوا أثره، فصار إذن هذه الجهة أنها من حيث العقد والابتداء لا يكون إلا بالشرك بالله، ومن حيث الرفع والنشر لا تكون إلا بالشرك بالله جل وعلا، ولهذا قال (لا يحل السحر إلا ساحر) يعني لا يحل السحر بغير الطريق الشرعية المعروفة إلا ساحر، لا يأتي أحد ويقول أنا أحل السحر هل تستخدم القراءة والتلاوة والأدعية؟ قال: لا، قال: أنت طبيب تُطِبُّ ذلك المسحور؟ قال: لا، إذن فهو ساحر، إذا لم يستخدم الطريق الثانية فإنه لا يمكن أن يحل السحر إلا ساحر؛ لأنه فكُّ أثر الجن في ذلك السحر ولا يمكن إلا عن طريق شياطين الجن الذين يؤثرون على ذاك.(1/295)
قال (عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النشرة؟ فقال: "هي من عمل الشيطان")، (سئل عن النشرة)؛ السائل سأله عما كان معهودا معروفا عندهم في هذا الاسم وهو اسم النشرة، والذي كان معروفا معهودا هو أن اسم النشرة إنما هو من جهة الساحر، النشرة عند العرب هو حل السحر بمثله، هذه هي النشرة عند العرب، ولهذا سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن النشرة فقال (هي من عمل الشيطان) وقال العلماء (الـ) ألف ولام التعريف في قوله (النشرة) هذه للعهد؛ يعني النشرة المعهود استعمالها وهي حل السحر بمثله، فقال عليه الصلاة والسلام (هي من عمل الشيطان)(1) لأن رفع السحر لا يكون إلا بعمل شيطان جني ولهذا قال عليه الصلاة والسلام هي يعني الرفع والنشر من عمل الشيطان؛ لأن العقد أصلا من عمل الشيطان والرفع والنشر من عمل الشيطان.
فإذن هو سؤال عن النشرة التي كانت تستخدم في الجاهلية.
(رواه أحمد بسند جيد وأبو داود وقال سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كلَّه)، (يكره هذا كلَّه) يعني أن تكون النشرة عن طريق التمائم التي فيها القرآن؛ لأنه مرّ معنا فيما سبق أن ابن مسعود كان يكره جميع أنواع التمائم حتى من القرآن كما قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن. يعني أصحاب ابن مسعود، وابن مسعود كذلك، فابن مسعود كان يكره التمائم من القرآن وهو أن يعلق شيء من القرآن لأي غرض لدفع العين أو لإزالة السحر ورفع الضرر، لهذا الإمام أحمد لما قال أبو داود (سئل أحمد عنها) يعني عن النشرة التي تكون بالتمائم من القرآن (فقال: ابن مسعود يكره هذا كله).
أما النشرة باستخدام النفث والرقية من غير تعليق، فلا يمكن للإمام أحمد ولا لابن مسعود أن يكرهوا ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام استخدام ذلك وأذن به عملا في نفسه وكذلك في غيره عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر.(1/296)
قال (وفي البخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخّذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه.) يريد ابن المسيب بذلك ما ينفع من النشرة بالتعوذات والأدعية والقرآن والدواء المباح ونحو ذلك، أما النشرة التي هي بالسحر فابن مسعود(1) أرفع من أن يقول: إنها جائزة ولم ينه عنها. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول (هي من عمل الشيطان).
(لهذا قال لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينهَ عنه)، (أما ما ينفع) يعني من الأدوية المباحة ومن الرقى والتعويذات الشرعية وقراءة القرآن ونحو ذلك فهذا لم ينه عنه؛ بل أذن فيه.
إذن فالسحر بلاء، وسئل ابن المسيب عن هذا الذي به طب -يعني سحر- أو يأخّذ عن امرأته بصرف القلب عنها: أيُحَلُّ عنه أو يُنشّر بأصل الحل والنشر؟ يعني أيجوز أن يُرفع ذلك الطَبّ الذي به، أو ذلك الأخذ عن امرأته بأي وسيلة؟ فقال: نعم؛ ما ينفع فلم ينه عنه إنما يريدون به الإصلاح. ومعلوم أنه يريد بذلك ما أذن به في الشرع من القسم الذي ذكرناه فيه من جواز من استخدام الرقى والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة.
قال (وروي عن الحسن، أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.) وهذا بيّنا معناه.
(قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن) هذه حقيقة النشرة الشركية، قال (فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب) كما ذكرنا لكم سلفا، (فيبطل عمله عن المسحور) هذه حقيقة النشرة الشركية، قال (والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز).
إذا تبين ذلك فإن حكم حل السحر بمثله أنه لا يجوز ومحرم؛ بل هو شرك بالله جل وعلا؛ لأنه لا يحل السحر إلا ساحر.
__________
(1) الشيخ حفظه الله يريد ابن المسيب.(1/297)
بعض العلماء من أتباع المذاهب يرى جواز حل السحر بمثله إذا كان للضرورة كما قال فقهاء مذهب الإمام أحمد في بعض كتبهم: ويجوز حل السحر بمثله ضرورة.
وهذا القول ليس بصواب؛ بل هو غلط لأن الضرورة لا تكون جائزة ببذل الدين والتوحيد عوضا عنها.
معروف أنّ الأصول الخمسة أوّلُها -يعني التي جاءت بها الشرائع- حفظ الدين، وما هو دونها مرتبة لا يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى، وضرورة الحفاظ على النفس هذه لا شك أنها من الضروريات الخمس لكنها دون حفظ الدين مرتبةً، ولهذا لا يقدم ما هو أدنى على ما هو أعلى، أو أن يُبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى من الضروريات الخمس، والأنفس لا يجوز حفظها بالشرك، وهذا أن يموت هو على التوحيد لا شك أنه خير له من أن يعافى وقد أتى بشرك بالله جل وعلا.
والسحر لا يكون إلاَّ بشرك، والذي يأتي الساحر ويطلب منه حل السحر هذا معناه أنه رضي قوله وعمله ورضي أن يعمل به ذاك ورضي أن يشرك ذاك بالله لأجل منفعته، وهذا غير جائز.
فإذن تحصّل أن السحر وقوعا وأنَّ السحر نشْرا لا يكون إلا بالشرك الأكبر بالله جل وعلا وعليه، فلا يجوز أن يحل لا من جهة الضرورة ولا من غير الضرورة من باب أولى بسحر مثله؛ بل يحل وينشر بالرقى الشرعية. نعم.
¹
باب ما جاء في التطير
وقول الله تعالى: ?أَلاَ إِنَّمَا طَاِئُرُهْم عِندَ اللهِ وَلَكٍنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ?[الأعراف: 131].
وقوله: ?قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ?[يس: 19].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ عَدْوَىَ، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ". أخرجاه، وزاد مسلم: "وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُولَ".(1/298)
ولهما عن أنسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لاَ عَدْوَىَ، وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ ". قالوا: وما الفأل؟ قال: " الْكَلِمَةُ الطّيّبَةُ"
ولأبي داود -بسند صحيح- عن عُقبة بن عامر، قال: ذُكِرَتِ الطّيَرَةُ عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلاَ تَرُدّ مُسْلِماً، فَإذا رَأَى أحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ اللّهُمّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلاّ أنْتَ وَلاَ يَدْفَعُ السّيّئَاتِ إلاّ أنْتَ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوّةَ إلاّ بِكَ".
وعن ابن مسعود مرفوعاً: " الطّيَرَة شِرْكٌ، الطّيَرَةُ شِرْكٌ، الطّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنّا إلاّ وَلَكِنّ الله يُذْهِبُهُ بِالتّوَكّلِ" رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعودٍ.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك". قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: "أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك". وله من حديث الفضل بن عباس: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك".
[الشرح]
هذا (باب ما جاء في التطير) ومرّ معنا أن الطِيَرَة من أنواع السحر، ولهذا جاء الشيخ رحمه الله بهذا الباب مع الأبواب المتعلقة بالسحر؛ لأنها من أنواعه لنص الحديث.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أنّ التطير نوع من الشرك بالله جل وعلا بشرطه، والشرك الذي يكون من جهة التطير منافٍ لكمال التوحيد الواجب لأنه شرك أصغر، وحقيقة التطير أنه التشاؤم أو التفاؤل بحركة الطير من السوانح والبوارح أو النطيح أو القعيد، أو بغير الطير مما يحدث إذا أراد أحد أن يذهب إلى مكان أو يمضي إلى سفر أو يعقد له خيارا، فيستدل بما يحدث له من أنواع حركات الطيور أو بما يحدث له من الحوادث أن السفر سفر سعيد فيمضى فيه، أو أنّه سفر سيء وعليه فيه وَبَال فيرجع عنه.(1/299)
ولذلك ضابط الطيرة الشركية التي من قامت في قلبه وحصل له شرطها وضابطها فهو مشرك الشرك الأصغر ما جاء في آخر الباب؛ أنه قال عليه الصلاة والسلام (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك) فالطيرة شرك وهي التي تقع في القلب ويبني عليها المرء مضاءً في الفعل أو ردًّا عن الفعل.
فإذا خرج -مثلاً- من البيت وحصل أمامه -وهو ينوي سفر أو ينوي رحلة أو ينوي القيام بصفقة تجارة ونحو ذلك- فحصل أمامه حادث، فهذا الحادث الذي حصل أمامه من تصادم سيارة أو اعتداء من واحد على آخر أو نحو ذلك، جعل من هذا الحادث في قلبه شؤما، ثم استدل بهذا الحادث على أنه سيفشل في سفره أو في تجارته أو أنه سيصيبه مكروه في سفره، فإذا رجع ولم يمضِ فقد حصل له التطير الشركي، أمّا إذا وقع ذلك في قلبه مجرد وقوع، وحصل له نوع تشاؤم؛ ولكنه مضى وتوكل على الله فهذا لا يكاد يسلم منه أحد، وكما جاء في حديث ابن مسعود (وَمَا مِنّا إلاّ وَلَكِنّ الله يُذْهِبُهُ بِالتّوَكّلِ) كما سيأتي.
إذن فهذه حقيقة التطير الشركي وضابطه، وبيان أن التطير اسم عام ليس خاصا بالطير وحركاتها.
مرّ معنا العيافة فيما سبق في (باب ما جاء في شيء من أنواع السحر)، وأن العيافة متعلقة بالطير كما فسرها عوف الأعرابي بقوله: العيافة زجر الطير. متعلقة بالطير من حيث أنه يحرك الطير ويزجرها حتى ينظر أين تتحرك.
وأما الطيرة فهو أن يتشاءم أو يتفاءل ويعني أو يرجع بحركة تحصل أمامه ولو لم يزجر أو يفعل، أو بشيء يحصل أمامه إمّا من الطير أو من غيره.
قال الشيخ رحمه الله (باب ما جاء في التطير) يعني من أنه شرك بالله جل وعلا إذا أمضى أو ردَّ، وكفارة التطير إذا وقع في القلب، ونحو ذلك من الأحكام.(1/300)
قال (وقول الله تعالى: ?أَلاَ إِنَّمَا طَاِئُرُهْم عِندَ اللهِ وَلَكٍنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ?[الأعراف: 131]) هذه بعض آية من آية سورة الأعراف?فَإِذاَ جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَاِئُرُهْم عِندَ اللهِ وَلَكٍنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ?[الأعراف: 131]، يعني إذا أتاهم خصب وسعة وزيادة في الأرزاق (قَالُوا لَنَا هَذِهِ) يعني نحن المستحقون لها، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يعني أصابهم جدب أو نقص في الأرزاق أو بلاء قالوا: هذا بسبب شؤم موسى ومن معه، فهم الذين بسببهم وبسبب أقوالهم وأعمالهم حصل لنا هذا السوء وهذه الويلات. فتطيروا بهم؛ يعني جعلوهم سببا لما حصل لهم، قال جل وعلا (أَلاَ إِنَّمَا طَاِئُرُهْم عِندَ اللهِ)، (طَاِئُرُهْم) يعني ما يطير عنهم من عمل صالح أو طالح وأنهم يستحقون الحسنات أو يستحقون السيئات كل هذا عند الله جل وعلا، أو أن معنى قوله (أَلاَ إِنَّمَا طَاِئُرُهْم عِندَ اللهِ) يعني أن سبب ما يأتيهم من الحسنات أو ما يأتيهم من السيئات أن ذلك من جهة القضاء و القدر فهو عند الله جل و علا.
ومناسبة هذه الآية لهذا الباب أن هذه الخصلة من صفات أعداء الرسل من صفات المشركين، فالتطير من صفات أهل الإشراك، من صفات أعداء الرسل، وإذا كان كذلك فهو مذموم ومن خصال المشركين الشركية، وهذا هو سبب إيراد الآية تحت هذا الباب من جهة أنه خصلة من خصال أعداء الرسل، وليست من خصال أتباع الرسل، وإنما أتباع الرسل فإنهم يعلقون ذلك بما عند الله من القضاء والقدر، أو بما جعله الله جل وعلا من ثواب أعمالهم أو العقاب على أعمالهم كما قال ألا إن طائرهم عند الله.(1/301)
وكذلك ما أورده من الآية الثانية وهي قوله (وقوله: ?قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ?الآية[يس:19]) وهي من سورة يس (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) الذي تطيّر أولئك هم المشركون أصحاب تلك القرية حيث قالوا: ?إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ?[يس:18]؛ قال أتباع الرسل (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) يعني حقيقة سبب السيئات عليكم أو سبب قدوم الحسنات عليكم هذه من شيء فيكم، فالسوء الذي سينالكم والعقاب الذي سينالكم ملازم لكم ملازمة ما يطير عنكم لكم، فما يطير عنكم من عمل سوء ومن معاداة للرسل وتكذيب للرسل، هذا ملازم لكم وستتطيرون به، قال (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) لأنه من جهة أنهم فعلوا السيئات وكذّبوا الرسل وهذا سيقع عليهم وباله.
ومناسبة هذه الآية للباب كمناسبة الآية قبلها من أنَّ هذه هي قَالَة المشركين وأعداء الرسل.
قال (وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ". أخرجاه، زاد مسلم: "وَلاَ نَوْءَ، وَلاَ غُولَ") مناسبة هذا الحديث للباب قوله (وَلاَ طِيَرَةَ) ومن المعلوم أن المنفي هنا ليس هو وجود الطيرة؛ لأن الطيرة موجودة من جهة اعتقاد الناس ومن جهة استعمالها؛ ولكنها باطلة، كذلك العدوى موجودة من جهة الوقوع.(1/302)
ولهذا قال العلماء النفي هنا راجع إلى ما تعتقده العرب ويعتقده أهل الجاهلية بأن (لاَ) نافية للجنس واسمها مذكور وخبرها محذوف لأجل العلم به، فإن الجاهليين ينازعون في أصل وجود هذه الأشياء، فإنما الجاهليين يؤمنون بوجود هذه الأشياء ويؤمنون أيضا بتأثيرها، فالمنفي ليس هو وجودها وإنما هو تأثيرها، فيكون التطبيق هنا لا عدوى مؤثرة بطبعها ونفسها، وإنما تنتقل العدوى بإذن الله جل وعلا، وأهل الجاهلية يعتقدون أن العدوى تنتقل بنفسها، فأبطل ذلك الله جل وعلا، فأبطل ذلك لاعتقاد، فقال عليه الصلاة والسلام (لاَ عَدْوَى) يعني مؤثرة بنفسها، (وَلاَ طِيَرَةَ) مؤثرة أيضا، فإن الطيرة شيء وهمي يكون في القلب لا أثر له في قضاء الله وفي قدره، فحركة الطائر يمينا أو شمالا أو السانح أو البارح أو النطيح أو القعيد لا أثر لها في حكم الله وفي ملكوت الله وفي قضائه وقدره، فإذن الخبر قوله تقدره بقوله: لا طيرة مؤثرة؛ بل الطيرة شيء وهمي، ولا هامة ولا صفر إلى آخر الحديث.
وسبق أن ذكرتُ لكم أن خبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا في لغة العرب كما قال بن مالك في آخر باب لا النافية للجنس في الألفية:
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ الخَبَر ڑإِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر
وهذا مهم في العربية.(1/303)
قال (ولهما عن أنسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لاَ عَدْوَىَ، وَلاَ طِيَرَةَ) يعني لا عدوى مؤثرة بنفسها؛ بل بإذن الله جل وعلا ولا طيرة مؤثرة أصلا، وإنما ذلك راجع إلى قضاء الله وقدره، قال(وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ. قالوا: وما الفأل؟ قال: "الْكَلِمَةُ الطّيّبَةُ")، (الْفَأْلُ) كان عليه الصلاة والسلام يحبه وفسره بأنه الكلمة الطيبة، لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها أنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات، ففيها أنها حسن ظنٍّ بالله جل وعلا، الفأل حسن ظن بالله، والتشاؤم سوء ظن بالله جل وعلا، ولهذا صار الفأل ممدوحا ومحمودا وصار الشؤم مذموما، والفأل ممدوح من جهة أنه فيه تحسين الظن بالرب جل وعلا، وهذا مأمور العبد به، لهذا كان عليه الصلاة والسلام يتفاءل، وكل ذلك من تعظيم الله جل وعلا وحسن الظن به وتعلق القلب به وأنه لا يفعل للعبد إلا ما هو أصلح له.
قال (ولأبي داود -بسند صحيح- عن عُقبة بن عامر، قال: ذُكِرَتِ الطّيَرَةُ عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحْسَنُهَا الْفَأْلُ") الطيرة يعني التأثر بالكلمة؛ لأننا ذكرنا لكم أن الطيرة عامة تشمل الأقوال والأعمال التي تحصل أمام العبد، فإذا كان ثَم تطير فإن أحسنه الفأل يعني أن يقع في قلبه أنه سيحصل له كذا وكذا من جراء كلمة سمعها أو من جراء فعل حصل له أحسن ذلك الفأل، وغيره مذموم، لِم كان الفأل محمودا وممدوحا ومأذونا به؟ لما ذكرنا من أنمه إذا تطير متفائلا فإنه محسن الظن بالله جل وعلا، وأمّا الفأل في نفسه فهو مطلوب لأن التفاؤل يشرح الصدر ويُونس العبد ويُذهب الضيق الذي يُوحيه الشيطان ويسببه الشيطان في قلب العبد، والشيطان يأتي للعبد فيجعله يَتوهم أشياء وأشياء كلها في مضرَّته، فإذا فتح العبد على قلبه باب التفاؤل أبعد عن قلبه باب تأثير الشيطان على النفس.(1/304)
قال(وَلاَ تَرُدّ مُسْلِماً)، (لاَ تَرُدّ مُسْلِماً) هذا خبر لكنه مضمن للنهي، وقد ذكرت لكم أن النهي قد يُعدل عنه للخبر، كما أنّ الأمر قد يعدل عنه إلى الخبر لتأكيد النهي ولتأكيد الأمر، قال?وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّة?[النحل:49] هذا خبر لكنه كالأمر المؤكد، هذا خبر مثبت، والخبر المنفي كقوله هنا (لاَ تَرُدّ مُسْلِماً) هذا خبر؛ لكن فيه النهي أن ترد الطيرة مسلما عن حاجته، فإذا ردّته عن حاجته فقد حصل له الشرك بالتطير.
قال (فَإذا رَأَى أحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ اللّهُمّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلاّ أنْتَ وَلاَ يَدْفَعُ السّيّئَاتِ إلاّ أنْتَ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوّةَ إلاّ بِكَ) هذا دعاء عظيم في دفع ما يأتي للقلب من أنواع التشاؤم وأنواع الطيرة.
قال (وعن ابن مسعود مرفوعاً: " الطّيَرَة شِرْكٌ، الطّيَرَةُ شِرْكٌ، الطّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنّا إلاّ وَلَكِنّ الله يُذْهِبُهُ بِالتّوَكّلِ") قال (الطّيَرَةُ شِرْكٌ) يعني الشرك الأصغر بالله جل وعلا، قال (وَمَا مِنّا إلاّ) يعني إلا وقد أتى لِقلبه بعض التطير؛ لأن هذا من الشيطان والشيطان يأتي القلوب فيغريها بما يفسدها ومن ذلك التطير، (وَمَا مِنّا إلاّ) يعني ويعرض له ذلك (وَلَكِنّ الله يُذْهِبُهُ بِالتّوَكّلِ) لأن حسنات التوكل وإتيان العبد بواجب التوكل يذهب عنه كيد الشيطان بالتطير.
فالواجب على العبد إذا عرض له شيء من التشاؤم أن لا يرجع عمّا أراد عمله؛ بل يعظم التوكل على الله جل وعلا؛ لأن هذه الأشياء التي تحصل لا تدل على الأمور المغيبة لأنها أمور طرأت ووافقت هكذا أمام العبد وليس لها أثر فيما يحصل في مستقبلا.(1/305)
قال (ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك") هذا الضابط ذكرناه لكم في أول الباب؛ أن ضابط كون الطيرة شركا أن ترُدَّ المتطير عن حاجته، فإذا لم ترده عن حاجته فإنه لم يستأنس لها فلا حرج عليه في ذلك، إلاّ أن عظمت في قلبه فربما دخلت في أنواع محرمات القلوب، والذي يجب أن يذهبه بالتوكل وتعظيم الرّغب فيما عند الله وحسن الظن بالله جل وعلا، (قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقولوا اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك)، (لا طير إلا طيرُك) يعني لن يحصل إلا قضاؤك الذي قضيته، أو لن يحصل ويُقضى إلاَّ ما قدرته على العبد، والعلم -علم المغيبات- إنما هو عند الله جل وعلا. نعم.
¹
باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خَلقَ الله هذه النجوم لثلاثٍ: جعلها زينةً للسماء, ورجوماً للشياطين, وعلاماتٍ يُهتدَى بها, فمن تأولَ فيها غير ذلكَ أخطأ وأضاعَ نصيبهُ وتكلف ما لا علم لهُ به. انتهى
وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
[الشرح]
(باب ما جاء في التنجيم) يعني في حكم التنجيم وأنه منقسم إلى جائز ومحرم.
والمحرم منه نوع من أنواع السحر وهو كفر وشرك بالله جل وعلا، فالتنجيم هو ادعاء معرفة المغيبات عن طريق النجوم، هذا التنجيم المذموم المحرم الذي هو من أنواع الكهانة والسحر.
وفيما يتعلمه الناس أو فيما هو موجود عند الناس وعند الخلق التنجيم ثلاثة أنواع:(1/306)
الأول: التنجيم الذي هو اعتقاد أن النجوم فاعلة مؤثرة بنفسها، وأن الحوادث الأرضية منفعلة ناتجة عن النجوم وعن إرادات النجوم، وهذا تأليه للنجوم، وهو الذي كان يصنعه الصابئة ويجعلون لكل نجم وكوكب صورة وتمثالا وتَحِلُّ فيها أرواح الشياطين فتأمر أولئك بعبادة تلك الأصنام والأوثان، وهذا بالإجماع كفر أكبر وشرك كشرك قوم إبراهيم.
النوع الثاني من التنجيم: هو ما يسمى علم التأثير، وهو الاستدلال بحركة النجوم والتقائها وافتراقها وطلوعها وغروبها الاستدلال بذلك على ما سيحصل في الأرض، فيجعلون حركة النجوم دالة على ما سيقع مستقبلا في الأرض، والذي يفعل هذه الأشياء ويحسنها يقال له المنجم، وهو من أنواع الكهَّان؛ لأن فيه أنه يخبر بالأمور المغيّبة عن طريق الاستدلال بحركة الأفلاك وتحرك النجوم، وهذا النوع محرم وكبيرة من الكبائر، وهو نوع من أنواع الكهانة، وهي كفر بالله جل و علا؛ لأن النجوم ما خلقت لذلك، وهؤلاء تأتيهم الشياطين فتوحي إليهم بما يريدون وبما سيحصل في المستقبل ويجعلون حركة النجوم دليلا على ذلك.
وقد أُبطل قول المنجمين في أشياء كثيرة من الواقع، ونحو ذلك كما في فتح عمّورية في قصيدة أبي تمام المشهورة:
السيف أصدق إنباءً من الكتب ڑ...................................
وغيرها.(1/307)
النوع الثالث مما يدخل في اسم التنجيم: ما يسمى بعلم التسيير؛ علم التسيير وهو أن يعلم النجوم وحركات النجوم لأجل أن يعلم القبلة والأوقات وما يصلح من الأوقات للزرع وما لا يصلح، والاستدلال بذلك على وقت هبوب الرياح، وعلى الوقت الذي أجرى فيه سنته أنه يحصل فيه من المطر كذا ونحو ذلك، فهذا يسمى علم التسيير، فهذا رخّص فيه بعض العلماء، وسبب الترخيص فيه أنه يجعل النجوم وحركتها أو التقاءها أو افتراقها أو طلوعها أو غروبها يجعل ذلك وقتا وزمنا لا يجعله سببا، فيجعل هذه النجوم علامة على زمن يصلح فيه كذا وكذا، والله جل وعلا جعل النجوم علامات كما قال?وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ?[النحل:16]، فهي علامة على أشياء يحصل طلوع النجم الفلاني يحصل أنه بطلوع النجم الفلاني يدخل وقت الشتاء، ليس بسبب طلوعه لكن حين طلع استدللنا بطلوعه على دخول الوقت، وإلا فهو ليس بسبب لحصول البرد وليس بسبب لحصول الحر وليس بسبب للمطر وليس بسبب لمناسبة غرس النخل أو زرع المزروعات ونحو ذلك؛ ولكنه وقتٌ، فإذا كان كذلك فلا بأس به قولا أو تعلُّما لأنه يجعل النجوم وظهورها وغروبها يجعلها أزمنة وذلك مأذون به.(1/308)
(قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خَلقَ اللهُ هذه النجوم لثلاثٍ: جعلها زينةً للسماء) كما قال جل وعلا?وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا?[فصلت:12]، قال (ورجوماً للشياطين) والآيات على ذلك كثيرة، قال(وعلامات يهتدى بها) حيث قال جل وعلا?أَمَّن يَّهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ?[النمل:63]، وقال جل وعلا(وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ونحو ذلك من الآيات، فهي علامات يهتدى بها، يهتدى بها على أي شيء؟ أو يهتدى بها إلى أي شيء؟ يهتدى بها إلى الجهات جهة القبلة, جهة الشمال, جهة الغرب, جهة الشرق، يهتدى بها أيضا على الاتجاهات حيث تُعرف أن البلد الفلانية في اتجاه النجم الفلاني، فإذا أراد السائر ليلا في البحر يتجه نحو اتجاه هذا النجم فيعلم أنه متجه إلى تلك البلدة ونحو ذلك مما أجرى الله سنته به.
قال(فمن تأولَ فيها غير ذلكَ أخطأ وأضاعَ نصيبهُ وتكلف ما لا علم لهُ به) وهذا صحيح؛ لأن النجوم خلق من خلق الله ولا نفهم سرها إلا بما أخبر الله جل وعلا به, فما أخبرنا به أخذناه، وما لم يخبر به فلا يجوز أن نكلف فيه ذلك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "إذا ذُكر القدر فامسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فامسكوا"، والمراد هنا بذكر النجوم يعني في غير ما جاء به الدليل، إذا ذكر القدر في غير ما جاءت به الأدلة فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي في غير ما جاء به من فضلهم وحسن صحابتهم وسابقتهم ونحو ذلك من الدليل فأمسكوا، وكذلك إذا ذكرت النجوم وما فيها بغير ما جاء به الدليل فأمسكوا؛ لأن ذلك ذريعة لأمور محرمة.(1/309)
قال (وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.) الله جل وعلا جعل القمر منازل كما قال ?وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ?[يس:39]، له ثمان وعشرين منزلا ينزل في كل يوم منزلة منها, تعلم هذه المنازل هل هو جائز أم لا؟
منعه بعض السلف كراهة.
ورخص فيه طائفة من أهل العلم وهو الصحيح؛ لأنه جل وعلا امتن على عباده بذلك قال ?[هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وقَدَّرَهُ] (1) مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ?[يونس:5] وظاهر الآية أن حصول المنّة به في تعلمه وذلك دليل الجواز.
قال (وعن أبي موسى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر") ووجه الاستدلال من هذا الحديث قوله (ومصدق بالسحر) وقد مر معنا أن التنجيم نوع من أنواع السحر كما قال عليه الصلاة والسلام "مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النّجُومِ، فقد اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السّحْرِ زَادَ مَا زَادَ" وإذا صدق بالنجوم فإنه مصدق بالسحر، والمصدق بالسحر لا يدخل الجنة، قال هنا (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر) وإدمان الخمر من الكبائر، قال (وقاطع الرحم) وهي من الكبائر، (ومصدق بالسحر) وهو أيضا من الكبائر.
__________
(1) الشيخ قال: والقمر قدرناه.(1/310)
مما يدخل في هذا العصر بوضوح مع غفلة الناس عنه: ما يكثر في المجلات مما يسمونه البروج، يضَعُون صفحة أو أقل منها في الجرائد يجعلون عليها رسم بروج السنة: برج الأسد والعقرب والثور إلى آخره، ويجعلون أمام كل برج ما سيحصل فيه، فإذا كان المرء أو المرأة مولودا في ذلك البرج يقول سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا وكذا، وهذا هو التنجيم الذي هو التأثير الاستدلال بالنجوم والبروج على التأثير في الأرض وعلى ما سيحصل في الأرض، وهو نوع من الكهانة، ووجوده في المجلات والجرائد على ذلك النحو وجود للكهان فيها، فهذا يجب إنكاره إنكارا للشركيات ولادعاء معرفة الغيب وللسحر وللتنجيم؛ لأن التنجيم من السحر كما ذكرنا، يجب إنكاره على كل صعيد، ويجب أيضا على كل مسلم أن لا يُدخله بيته، وأن لا يقرأه ولا يطلع عليه؛ لأنه وإن رأى تلك البروج وما فيها، ولو أن يعرف ذلك معرفة فإنه يدخل في النهي من جهة أنه أتى إلى الكاهن غير منكر له.
فإذا أتى إلى هذه البروج وهو يعرف البرج الذي وُلد فيه؛ ولكن يقول سأطلع ماذا قالوا عني أو ماذا قالوا سيحصل لمن ولد في هذا البرج، فإنه يكون كمن أتى كاهنا فسأله فإنه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة.
وإذا أتى وقرأ وهو يعلم برجه الذي وُلد فيه أو يعلم البرج الذي يناسبه وقرأ ما فيه، فهذا سؤال فإذا صدقه به فقد كفر بما أنزل على محمد.(1/311)
وهذا يدلك على غربة التوحيد بين أهله، وغربة حقيقة هذا الكتاب كتاب التوحيد حتى عند أهل الفطرة وأهل هذه الدعوة، فإنه يجب إنكار ذلك على كل صعيد، وأن لا يؤثِّم المرء نفسه ولا من في بيته بإدخال شيء من الجرائد التي فيها ذلك في البيوت؛ لأن هذا معناه إدخال للكهنة إلى البيوت، وهذا والعياذ بالله من الكبائر، فواجب إنكار ذلك وتمزيقه والسعي فيه بكل سبيل حتى يُدحض أولئك؛ لأن علم التنجيم أهل البروج أولئك هم من الكهنة، والتنجيم له معاهد معمورة في لبنان وفي غيرها، يتعلم فيها الناس حركة النجوم وما سيحصل بحسابات معروفة وجداول معينة، ويخبرون بأنه ما كان من في البرج الفلاني فإنه سيحصل كذا وكذا عن طريق تعلمٍ وهمي يغرهم به رؤوسهم وكهانهم.
فالواجب على طلبة العلم أن يسعوا في تبصير الناس في ذلك بالكلمات وبعد الصلوات وفي خطب الجمع؛ لأن هذا مما كثر البلاء به وأهل الإنكار فيه قليل، والتنبيه عليه ضعيف والله المستعان. نعم.
¹
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقال الله تعالى ?وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذّبُونَ?[الواقعة:82].
وعن أبى مالك الأشعري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَرْبَعٌ فِي أُمّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ لا يَتْرُكُونَهُنّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ, وَالطّعْنُ فِي الأَنْسَابِ, وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنّجُومِ, وَالنّيَاحَةُ"، وَقَالَ: "النّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا, تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ, وَدِرْعٌ مِنْ جَرَب". رواه مسلم.(1/312)
ولهما عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رضي الله عنه -، قال: صَلّى لنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الصّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ على إِثْرِ سمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللّيْلِ. فَلَمّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟" قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ. فَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ, فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا, فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".
ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا. فأنزل الله هذه الآيات ?فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79) تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالمَيِنَ(80) أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذّبُونَ?[الواقعة:75-82].
[الشرح]
هذا (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء) والاستسقاء بالأنواء هو نسبة السقيا إلى الأنواء، والأنواء هي النجوم، يُقال للنجم نوء، والعرب والجاهليون كانوا يعتقدون أن النجوم والأنواء سبب في نزول المطر فيجعلونها أسبابا، ومنهم -وهم طائفة قليلة- من يجعل النوء والنجم هو الذي يأتي بالمطر، كما ذكرتُ لك في حالة الطائفة الأولى من المنجمين الذين يجعلون المفعولات منفعلة عن النجوم وعن حركتها.
فقوله رحمه الله (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء) يعني باب ما جاء في نِسْبَة السُّقيا إلى النوء، وعبَّر بلفظ الاستسقاء لأنه جاء في الحديث والاستسقاء بالنجوم.(1/313)
ومناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب أن بالأنواء نوع من التنجيم لأنه نسبة السقيا إلى النجم؛ وذلك أيضا من السحر لأن التنجيم من السحر بمعناه العام.
ومناسبة ذلك لكتاب التوحيد أنّ الذي ينسب السقيا والفضل والنعمة الذي أتاه حينما جاءه المطر يَنسب ذلك إلى النوء وإلى النجم هذا ملتفتٌ قلبُه عن الله جل وعلا إلى غيره، ومتعلِّق قلبه بغيره، وناسبٌ النعمة إلى غير الله جل وعلا(1) ومعتقد أن النجوم أسباب لهذه المسبَّبَات من نزول المطر ونحوه، وهذا منافٍ لكمال التوحيد فإن كمال التوحيد الواجب يوجب على العبد أن ينسب النعم جميعا إلى الله وحده وأن لا ينسب شيئا منها إلى غير الله ولو كان ذلك الغير سببا، فينسب النعمة إلى مُسديها ولو كان من أجرى الله على يديه تلك النعم سببا من الأسباب فإنه لا ينسبها إلى غير الله جل وعلى، كيف وأن النجوم ليست بسبب أصلا، ففي ذلك نوعان من التعدي:
أولا أنها ليست بأسباب.
والثاني أن يجعلها الله جل وعلا أسبابا وتُنسب النعم والفضل السقيا إليها.
وهذا مناف لكمال التوحيد وكفر أصغر بالله جل وعلا.
قال (وقال الله تعالى ?وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذّبُونَ?[الواقعة:82]) قال علماء التفسير: معنى هذه الآية وتجعلون شكر رزقكم، شكر ما رزقكم الله من النعم ومن المطر أنكم تكذبون بأن النعمة من عند الله بنسبتها لغير الله جل وعلا؛ تارة لنسبتها إلى غير الله جل وعلا. والواجب شكرا لنعم الله جل وعلا، وشكرا لله جل وعلا على ما رزق و أنعم وتفضّل أن تُنسب النعم جميعا إلى الله، وأن ينسب الفضل إلى الرب وحده دون ما سواه.
__________
(1) انتهى الشريط العاشر.(1/314)
قال (وعن أبى مالك الأشعري - رضي الله عنه -، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَرْبَعٌ فِي أُمّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ لا يَتْرُكُونَهُنّ) وقوله (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ) هذا دليل على ذمها وأنها من شعب الجاهلية، ومن المعلوم أنّ شعب الجاهلية جميعا مطلوب من هذه الأمة أن تبتعد عنها؛ لأن خصال أهل الجاهلية مذمومة كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "أبغض الرجال إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم ومطلب دم امرئ بغير حقٍّ لِيُهريق دمه، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية" فكل شعبة من شعب أهل الجاهلية إذ أُرجعت إلى أهل الإسلام بعد أن أنقذهم الله من ذلك ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام وظهور القرآن والسنة وبيان الأحكام فإنه مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية وهو من أبغض الرجال إلى الله جل وعلا.(1/315)
إذن قوله (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ) هذا دليل الذم وليس الإخبار بأنها باقية دليل الإباحة, قال (لا يَتْرُكُونَهُنّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ) يعني على وجه التكبر والرفعة، (وَالطّعْنُ فِي الأَنْسَابِ) بالطعن في نسب فلان وفلان والتكذيب بنسب فلان وفلان بغير دليل شرعي ومن غير حاجة شرعية، فإن القاعدة التي ذكرها الإمام مالك وغيره من أهل العلم أن الناس مؤتمنون على أنسابهم، فإذا كان لا يترتب على ذكر النسب وأن فلانا ينتسب إلى آل فلان أو إلى القبيلة الفلانية إذا لم يترتب عليه أثر شرعي إعطاء حق لغير أهله أو بميراث أو بعقد نسبة أو بزواج ونحو ذلك فإنَّ الناس مؤتمنون على أنسابهم، أما إذا كان له أثر فلا بدّ من الإثبات سيما إذا كان مخالفا لما هو شائع متواتر عند الناس، فالطعن في الأنساب من أمور الجاهلية, قال(وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنّجُومِ) وهو نسبة السقيا إلى النجوم، ويشمل أيضا قوله الاستسقاء بالنجوم يشمل ما هو أعظم من ذلك وهو أن تُطلب السقيا من النجوم كحال الذين يعتقدون أن الحوادث الأرضية تحصل بالنجوم نفسها، وأن النجوم هي التي تُحدث المقدرات الأرضية و المنفعلات الأرضية.
قال ("وَالنّيَاحَةُ"، ثم قَالَ: "النّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا, تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ, وَدِرْعٌ مِنْ جَرَب". رواه مسلم) النّيَاحَةُ من الكبائر وهي رفع الصوت عند المصيبة وشق الجيب و نحو ذلك، وهي منافية للصبر الواجب ومن خصال الجاهلية.(1/316)
قال (ولهما عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رضي الله عنه -، قال: صَلّى لنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الصّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ على إِثْرِ سمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللّيْلِ. فَلَمّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟" قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ. فَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ, فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا, فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ") قوله (على إِثْرِ سمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللّيْلِ) سماء يعني مطر, المطر يطلق عليه سماء؛ لأنه يأتي من جهة العلو ويقال له سماء كما قال الشاعر:
إذا نزل السماءُ بأرض قوم ڑرعيناه وإن كانوا غضابا
يعني إذا نزل المطر.
قال (فَلَمّا انْصَرَفَ) يعني من صلاة الصبح (أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟" قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.) هذه من الكلمات التي تقال في حياته عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإذا سئل المرء عما لا يعلم فليقل لا أدري أو فليقل الله أعلم، ولا يقل الله ورسوله أعلم؛ لأن ذكر علم النبي عليه الصلاة والسلام مقيد بحياته الشريفة عليه الصلاة والسلام، (قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) هنا قسم العباد إلى قسمين:
مؤمن بالله جل وعلا: وهو الذي نسب هذه النعمة وأضافها إلى الله جل وعلا، وشكر الله عليها، وعرف أنها من عند الله، فشكر ذلك الرزق وحَمِد الله وأثنى عليه به.
والصنف الثاني كافر: ولفظ كافر اسم فاعل الكفر أو اسم من قام به الكفر، وهذا قد يصدق على الكفر الأصغر أو الكفر الأكبر.
فهم انقسموا إلى مؤمنين وإلى كافرين.(1/317)
الكافرون منهم من كفر كفرا أصغر، ومنهم من كفر كفرا أكبر:
µ فالذي كفر كفرا أصغر: هو الذي قال (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا) يعتقد أن النوء و النجم والكوكب سبب في المطر، فهذا كفره كفر أصغر؛ لأنه ما اعتقد التشريك و الاستقلال؛ ولكنه جعل ما ليس سببا ونسب النعمة لغير الله، وقوله من أقوال أهل الكفر وهو كفر أصغر بالله جل و علا كما قال العلماء.
µ والصنف الثاني كافر بكفر أكبر: وهو الذي اعتقد أن المطر اثر من آثار الكواكب والنجوم وأنها هي التي تفضلت بالمطر وهي التي تحركت بحركة لما توجه إليها عابدها فأنزلت المطر إجابة لدعوة عابدها، وهذا كفر أكبر بالإجماع لأنه اعتقاد ربوبية وألهية غير الله جلا وعلا.
قال(فَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ, فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ) لأنه نسب النعمة لله وحده، ونسبة النعمة لله وحده دلت على إيمانه.
قال (وَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا, فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) وكما ذكرتُ لك الباء في قوله (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) إن كانت للسببية لأن الباء تأتي للسبب مطرنا بسبب نوء كذا وكذا فهذا كفر أصغر، وأما إذا كان المراد أن النوء هو الذي أتى بالمطر إجابة لدعوة عابديه أو لرحمته بالناس هذا كفر أكبر بالله جل جلاله.
قال (ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا. فأنزل الله هذه الآية ?فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ? إلى قوله ?وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذّبُونَ?[الواقعة:75-82]) وهذا ظاهر.
هنا تنبيه في هذه المسألة وهو ما يحصل أحيانا من بعض الناس من أنهم يقولون: في الوسم -مثلا- يأتي مطر، والوسم جاء معناه أن الرياح فيه مطر ونجم [السّهِيل] طلع فسيحصل كذا ونحو ذلك، فهذا القول بما علمتَ له حالات:(1/318)
الحال الأولى أن يقول ذلك لأجل أن النجم أو البرج الذي أتى هو زمن جعل الله سنته فيه أنه يأتي فيه المطر، فإذا كان هذا القول بأن الوسم جاء معناه هذا وقت المطر، وإن شاء الله يجيء المطر ونحو ذلك، فهذا جعل للوسم زمنا وهذا جائز.
وأما إذا قال في ذلك الوسم جاء يأتي المطر أو طلع النجم الفلاني يأتينا كذا وكذا، بجعل هذا الفصل كالبرج أو ذلك النجم سببا، فهذا كفر، ونسبةٌ للنعمة لغير الله، واعتقاد تأثير أشياء لا تأثير لها.
فينبغي أن نفرق بين ما يستعمله العوام فيه أن المطر والبرد والصيف ونحو ذلك في تعلقه بالنجوم تعلق الزمن ووقت وظرف، وما بين نسبته للشرك والضلال الأفعال للنجوم إما استقلالا وإما على وجه التسبب.
¹
باب قول الله تعالى?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ?[البقرة:165]
وقوله?قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ?[التوبة:24].
عن أنس، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ". أخرجاه.
ولهما عنه، قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - "ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فيهِ وَجَدَ بهن حَلاوَةَ الإْيمان: أَنْ يَكونَ اللّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمّا سِواهُما, وأنْ يُحِبّ المَرْءَ لا يُحِبّهُ إلاّ لله, وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ بعد إذْ أنقَذُه الله منه كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النّار"
وفى رواية "لا يجدُ أحدٌ حَلاوَةَ الإْيمان حَتّى....". إلى آخره(1/319)
وعن ابن عباس قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان -وإن كثرت صلاته وصومه- حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً. رواه ابن جرير
وقال ابن عباس في قوله تعالى: ?وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ?[ البقرة: 166]، قال: المودة.
[الشرح]
هذا الباب والأبواب التي بعده شروع من الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في ذكر العبادات القلبية وما يجب من أن تكون تلك العبادات لله جل وعلا، فهذا في ذكر واجبات التوحيد ومكملاته وبعض العبادات القلبية وكيف يكون إفراد الله جل وعلا بها.
وابتدأها بباب المحبة وأن العبد يجب أن يكون الله جل وعلا أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة، وهي المحبة التي فيها تعلُّقٌ بالمحبوب بما يكون معه امتثال للأمر رغبة واختيارا، ورغب إلى المحبوب، واجتناب النهي رغبة واختيارا، فمحبة العبادة هي المحبة التي تكون في القلب، يكون معها الرغب والرهب، يكون معها الطاعة, يكون معها السعي في مراضي المحبوب والبعد عما لا يحب المحبوب، والموحد ما أتى للتوحيد إلى بشيء وقر في قلبه من محبة الله جل وعلا لأنه دلته ربوبية الله جل وعلا وأنه الخالق وحده وأنه ذو الملكوت وحده وأنه ذو الفضل والنعمة على عباده وحده من أنه محبوب، وأنه يجب أن يُحب، وإذا أحب العبد ربه فإنه يجب عليه أن يوحده بأفعال العبد, أن يوحد الله بأفعاله -يعني أفعال العبد- حتى يكون محبا له على الحقيقة.
لذلك نقول: المحبة التي هي من العبادة هي المحبة التي يكون فيها إتباع للأمر والنهي ورغب ورهب.
ولهذا قال طائفة من أهل العلم المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع:
µ محبة الله على النحو الذي وصفنا، هذا نوع من العبادات الجليلة، ويجب إفراد الله جل وعلا بها.(1/320)
µ والنوع الثاني محبة في الله وهو أن يحب الرسل في الله عليهم الصلاة والسلام، وأن يحب الصالحين في الله, يحب في الله وأن يبغض في الله.
µ والنوع الثالث محبة مع الله وهذه محبة المشركين لآلهتهم؛ فإنهم يحبونها مع الله جل وعلا، فيتقربون إلى الله رغبا ورهبا نتيجة محبة الله، ويتقربون إلى الآلهة رغبا ورهبا نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة.
ويتضح المقام بتأمل حال المشركين وعبدة الأوثان وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب وفي خوف وفي طمع وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي أو يتوجه إليه بأنواع العبادة؛ لأجل تحصيل مطلوبه، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله جل وعلا شرك أكبر به؛ بل هي عماد الدين؛ بل هي عماد صلاح القلب فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محبا لله جل وعلا وأن تكون محبته لله جل وعلا أعظم من كل شيء.
فالمحبة؛ محبة الله وحده هذه -يعني محبة العبادة- هذه من أعظم أنواع العبادات، وإفراد الله بها واجب.
والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية، من أحب غير الله جل وعلا معه محبة العبادة فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله جل وعلا.
هذه الأنواع الثلاثة هي المحبة المتعلقة بالله.
أما النوع الثاني من أنواع المحبة وهي المحبة المتعلقة بغير الله من جهة المحبة الطبيعية، وهذا أذن فيه الشرع وجائز؛ لأن المحبة فيها ليست محبة العبادة والرغب والرهب الذي هو من العبادة، وإنما هي محبة للدنيا، وذلك كمحبة الوالد لولده والولد لوالده والرجل لزوجته والأقارب لأقربائهم والتلميذ لشيخه والمعلم لأبنائه ونحو ذلك من الأحوال، هذه محبة طبيعية لا بأس بها؛ بل الله جل وعلا جعلها غريزة.(1/321)
قال الإمام رحمه الله (باب قول الله تعالى ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ?[البقرة:165]) قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا), (أَندَادًا) يعني أشباها ونظراء و أكْفَاء يعني يساوونهم في المحبة، لهذا قال (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ):
وأحد وجهي التفسير في قوله (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) يعني يحبّ المشركون الأنداد كحب المشركين لله.
والوجه الثاني من التفسير أن قوله (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) معناه يحب المشركون الأنداد كحب المؤمنين لله.
والوجه الأول أظهر، والكاف فيه هنا في قوله (كَحُبِّ اللَّهِ) بمعنى مثل؛ يعني يحبونهم مثل حب الله وهي كاف المساواة ومثلية المساواة، ولهذا قال جل وعلا في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار ?تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:97-98]، قال العلماء: سووهم برب العالمين في المحبة بدليل هذه الآية، ولم يسووهم برب العالمين في الخلق والرزق وأفراد الربوبية.
قال (وقوله?قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ?) إلى قوله (?أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ?[التوبة:24]) هذا يدل على أن محبة الله جل وعلا واجبة، وأنّ محبة الله يجب أن تكون فوق كل محبوب وأن يحب الله أعظم من محبته لأي شيء، قال جل وعلا (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ) إلى أن قال (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ), وهذا وعيد، فيدل على أن تقديم محبة غير الله على محبة الله كبيرة من الكبائر ومحرم من المحرمات؛ لأن الله توعد عليه وحكم على فاعله بالفسق والظلال.(1/322)
فالواجب لتكميل التوحيد أن يحب العبد الله ورسوله فوق كل محبوب، ومحبة النبي عليه الصلاة والسلام هي محبة في الله ليست محبة مع الله؛ بل هي محبة في الله لأن الله الذي أمرنا بحب النبي عليه الصلاة والسلام، ومحبته -إذن- في الله؛ يعني في الله لأجل محبة الله؛ فإن من أحب الله جل وعلا أحب رسله.
قال (عن أنس، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ") قوله (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ) يعني الإيمان الكامل، وقوله (حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ) يعني أن تكون محابي مقدمة على محابّ غيري فحتى أكون في نفسه أحب إليه وأعظم في نفسه من ولده ووالده والناس أجمعين، وفي حديث عمر المعروف أنه قال للنبي عليه الصلاة و السلام: إلا من نفسي. فقال "يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال عمر: أنت الآن أحب إلي من نفسي. قال "فالآن يا عمر"؛ يعني كملت الإيمان، فقوله (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ)يعني الإيمان الكامل حتى يقدم محبة النبي عليه الصلاة والسلام على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، ويظهر هذا بالعمل فإذا كان يقدم محاب هؤلاء على ما فيه مرضاة الله جل وعلا وعلى ما أمر به عليه الصلاة والسلام، فإن محبته النبي علبه الصلاة والسلام تكون ناقصة؛ لأن المحبة محركة كما قال شيخ الإسلام في كتابه قاعدة في المحبة يقول: المحبة هي التي تحرك. فالذي يحب الدنيا يتحرك إلى الدنيا، والذي يحب العلم يتحرك للعلم، الذي يحب الله جل وعلا محبة عبادة ورغب ورهب يتحرك طالبا لمرضاته ويتحرك مبعدا على ما فيه مساخط الرب جل وعلا، كذلك الذي يحب النبي عليه الصلاة والسلام على الحقيقة فإنه الذي يسعى في إتباع سنته وفي امتثال أمره و في اجتناب نهيه والاهتداء بهديه والإقتداء بسننه عليه الصلاة والسلام.(1/323)
قال (ولهما عنه، قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - "ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فيهِ وَجَدَ بهن حَلاوَةَ الإْيمان: أَنْ يَكونَ اللّهُ ورسولُه أحبَّ إليهِ مِمّا سِواهُما, وأنْ يُحِبّ المَرْءَ لا يُحِبّهُ إلاّ لله, وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ بعد إذْ أنقَذُه الله منه كما يكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النّار") والاستدلال به ظاهر على أن محبة الله ورسوله يجب أن تكون مقدمة على محبة ما سواهما، وأنها من كمال الإيمان وأن العبد لن يجد كمال الإيمان إلا بذلك.
قال (وفي رواية "لا يجدُ أحدٌ حَلاوَةَ الإْيمان حَتّى....". إلى آخره) المقصود بالحلاوة هنا الحلاوة الناتجة عن تحصيل كماله؛ لأن الإيمان له حلاوة, حلاوة توجد في الروح، وكلما سعى العبد في تكميل إيمانه اشتد وَجْده لهذه الحلاوة واشتد شعوره بتلك الحلاوة واللذة التي تكون في القلب.
قال (وعن ابن عباس قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك) هذه محبة في الله راجعة إلى الأمر والنهي، وهي من أقسام المحبة.
(أحب في الله) يعني كانت محبته لذلك المحبوب لأجل أمر الله.
(أبغض في الله) يعني كان بغضه لذلك المبغَض لأجل أمر الله.
(ووالى في الله) كانت موالاته للعقد الذي كان بينه وبين ذاك في الله جل وعلا من أخوة إيمانية.
قال(وعادى في الله) يعني لما حصل بينه وبين ذاك الذي خالف أمر الله إما بكفر أو بما دونه.
قال (فإنما تنال وَلاية الله بذلك) يعني إنما يكون العبد وليا من أولياء الله بهذا الفعل وهو أن يوالي في الله وأن يعادي في الله جل وعلا.
والوَلاية بالفتح هي المحبة والنصرة، والى وَلاية يعني أحب محبة ونصر نصرة.
وأما الوِلاية بالكسر فهي الملك والإمارة.
قال جل وعلا?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ?[الكهف:44]، يعني المحبة والنصرة إنما هي لله جل وعلا وليست لغيره.
والوِلاية بالكسر هي الإمارة ونحو ذلك.(1/324)
فقوله (فإنما تنال وَلاية الله بذلك) يعني محبة الله ونصرته بذلك بأن يأتي بالمحبة في الله والبغض في الله.
قال(ولن يجد عبد طعم الإيمان -وإن كثرت صلاته وصومه- حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً) المؤاخاة والمحبة في الدنيا هذه تراد للدنيا، والدنيا قصيرة زائلة وإنما يعتريها أهل الغرور، وأما أهل المعرفة بالله والعلم بالله وأهل كمال توحيده وأهل إكمال الإيمان وتحقيق التوحيد فإنما تكون محابهم مشاعرهم القلبية وأنواع العلوم والمعارف التي تكون في القلب وأنواع العبادات والمقامات والأحوال التي تكون في القلب يكون ذلك كله تبعا لأمر الله ونهيه ورغبة في الآخرة، أما الدنيا لها أهلون وهي مرتحلة عنهم وهم مقبلون على أمر آخرتهم، ولذلك لن تجدي المحبة في الدنيا على أهلها شيئا إنما الذي يجدي هو الحب في الله والرغب في الآخرة.
قال (وقال ابن عباس في قوله تعالى: ?وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ?[البقرة:166]، قال: المودة) لأنّ المشركين كانوا يشركون بآلهتهم ويحبونها ويظنون أنها ستشفع لهم يوم القيامة لأجل مودتهم لها ومحبتهم وستتقطع تلك الأسباب وتلك الحبال المدعاة الموهومة يوم القيامة ولن يجدوا نصيرا، والله جل وجلاله قال (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) يعني كل ما ظنوا سببا نافعا ينفعهم عند الله فإنه سينقطع يوم القيامة ?إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ أُتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأُوا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ?[البقرة:166]. نعم
¹
باب قول الله تعالى?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175](1/325)
وقوله?إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ?[ التوبة:18].
وقوله ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ?[العنكبوت:10] الآية.
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعاً: "إن من ضعْف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمَدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يردُّه كراهية كاره".
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من التمس رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"رواه ابن حبان في صحيحه.
[الشرح]
(باب قول الله تعالى ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175]) هذا الباب في بيان عبادة الخوف.
ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة وهي أن خوف العبد من الله جل وعلا عبادة من العبادات التي أوجبها الله جل وعلا، فالخوف والمحبة والرجاء عبادات قلبية واجبة وتكميلها تكميل للتوحيد، والنقص فيها نقص في كمال التوحيد.
والخوف من غير الله جل وعلا ينقسم:
"إلى ما هو شرك.
"وإلى ما هو محرم.
"وإلى ما هو مباح.
فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول الخوف الشركي: وهو خوف السر؛ يعني أن يخاف في داخله من هذا المخوف منه، وخوفه لأجل ما عند هذا المخوف منه مما يرجوه أو يخافه من أن يمسه سرا بشيء، أو أنه يملك له في آخرته ضرا أو نفعا:
µ فالخوف الشركي متعلق في الدنيا بخوف السر بأن يخاف أن يصيبه ذلك الإله بشَرّ، وذلك شرك، وربما يأتي تفصيله.(1/326)
µ والخوف المتعلق بالآخرة؛ خاف غير الله، وتعلق خوفه بغير الله؛ لأجل ذلك؛ لأجل أنه والخوف أن لا ينفعه ذلك الإله في الآخرة، فلأجل رغبة في أن ينفعه ذلك الإله في الآخرة وأن يشفع له وأن يقربه منه في الآخرة وأن يبعد عنه العذاب في الآخرة خاف منه، فأنزل خوفه به.
فالخوف من العبادات العظيمة التي يجب أن يُفرد الله بها، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.
والخوف المحرم وهو القسم الثاني: وهو أن يخاف من مخلوق بامتثال واجب أو البعد عن محرم مما أوجبه الله أو حرمه، يخاف من مخلوق في أداء فرض من فرائض الله، يخاف من مخلوق في أداء واجب من الواجبات؛ لا يصلي خوفا من مخلوق، لا يحضر الجماعة خوفا من ذم المخلوق له أو استنقاصه له، فهذا محرم، قال بعض العلماء: وهذا من أنواع الشرك. يترك الأمر والنهي الواجب بشرطه خوفا من ذم الناس أو من ترك مدحهم له أومن وصمهم بأشياء، فهذا خوف رجع على الخائف بترك أمر الله, وهذا محرم؛ لأن الوسيلة إلى المحرم محرمة.
النوع الثالث الخوف الطبيعي المأذون به: وهذا أمر طبيعي كالخوف من عدو أو خوف من سَبُع, أو خوف من نار، أو خوف من مؤذي ومهلك ونحو ذلك.
قال (باب قول الله تعالى ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175]) وجه الاستدلال من هذه الآية أنه قال (فَلَا تَخَافُوهُمْ) وهذا نهي والنهي للتحريم، ونهى عن إنزال عبادة الخوف بغيره وهذا يدل على أنه نهي عن أحد أفراد الشرك, قال (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وأمر بالخوف فدل أن الخوف عبادة من العبادات, وتوحيد الله بهذه العبادة توحيد، وإشراك غير الله معه في هذه العبادة شرك ولهذا قال (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).(1/327)
والخوف من الخلق -كما ذكرنا- في ترك فريضة الجهاد إنما يكون من جرّاء الشيطان، فالشيطان وهو الذي يخوف المؤمنين من أوليائه، ويخوف أهل التوحيد وأهل الإيمان من أعداء الله جل وعلا لكي يتركوا الفريضة، فلهذا صار ذلك الخوف محرما يعني الخوف من الأعداء الذي يترتب عليه ترك فريضة من فرائض الله -من الجهاد وغيره-.
والواجب أن لا يخاف العبد إلا ربه جل وعلا، وأن ينزل خوفه به، وأن لا يخاف أولياء الشيطان.
وقوله جل وعلا هنا(إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) معناها على الصحيح من التفسير أو على الراجح: يخوفكم أولياءه, يعني يخوف أهل الإيمان أولياء الشيطان, ففاعل (يُخَوِّفُ) محذوف دل عليه السياق، الفاعل هو الشيطان، يخوفُ الشيطانُ الناسَ أولياءَه؛ أولياء الشيطان؛ يعني يجعل الشيطان أهل التوحيد في خوف من أعدائهم، لهذا قال السلف في تفسيرها (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) يعني يخوفكم أولياءه، وهذا الظاهر من الآيات قبلها كقوله ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ?[آل عمران:173].
قال الشيخ رحمه الله (وقوله?إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ?[التوبة:18]) وجه الدلالة من الآية قوله (وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ) وهذا نفي واستثناء ومرّ معنا أن مجيء أداة الاستثناء بعد النفي يدل على الحصر والقصر، فإذن الآية دالة بظهور على أن الخشية يجب أن تكون في الله، وأن الله أثنى على أولئك بأنهم جعلوا خشيتهم في الله وحده دون ما سواه، والخشية أخصّ من الخوف.(1/328)
قال(وقوله ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ?[العنكبوت:10] الآية) جعل فتنة الناس كعذاب الله بأن خاف منها وترك ما أوجب الله عليه أو أقدم على ما حرم الله عليه خشية من كلام الناس.
قال (وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعاً: "إنّ من ضعْف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمَدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يردُّه كراهية كاره") وجه الاستدلال بهذا الحديث قوله (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله), (من ضعف اليقين) يعني من أسباب ضعف الإيمان والذي يضعف الإيمان المحرمات لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, فدلّ على أن إرضاء الناس بسخط الله معصية وذم ومحرم؛ لأن هذا الذي أرضى الناس بسخط الله خافهم أو رجاهم, هذا مناسبة إيراد الحديث في الباب.
قال (وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من التمس رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"رواه ابن حبان في صحيحه) هذا جزاء الذي أفرد الله بعبادة الخوف، وجزاء الذي لم يُكْمِل التوحيدَ في عبادة الخوف، فالذي التمس رضى الله بسخط الناس هذا عظم الله وخافه, ولم يجعل فتنة الناس كعذاب الله, بل جعل عذاب الله أعظم فخاف الله وخشيه وطمع فيما عنده, ولم يلتفت إلى الناس ولم يرفع بهم رأسا, قال (ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه و أسخط عليه الناس) لأنه ارتكب ذنبا أن خاف الناس وجعل خوفه من الناس سببا لعمل المحرم أو ترك فريضة من فرائض الله، ولهذا قال (من التمس رضى الناس بسخط الله) فكان جزاءه أن سخط الله عليه, وأسخط عليه الناس.(1/329)
نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وأن يثيبكم على طول مقام الجلوس، وهي أيام قليلة؛ لكن تكتسبون فيها إن شاء الله ما تقصرون به مدة القراءة في أشهر طويلة في ما لو فُرِّقت هذه الدروس وجُعلت في دروس كل أسبوع أو كل أسبوع درس أو درسين أو ثلاثة ربما لن تختم كتاب التوحيد إلا بعد زمن طويل، فهذه مدة أيام قليلة مدة أربعة أو خمسة، فثابروا واصبروا وجزاكم الله خيرا، ونفعكم بما علمتم وزادكم علما وعملا. والله ولي التوفيق. (1)
¹
باب قول الله تعالى: ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23]
وقوله ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ?[الأنفال:2].
وقوله: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ?[الأنفال:64].
وقوله: ?وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ?[الطلاق:3].
وعن ابن عباس، قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: ?إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ?[آل عمران:173]الآية. رواه البخاري والنسائي.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا.
اللهم نوّر قلوبنا بطاعتك, وألهمنا ذكرك، واجعلنا من الشاكرين لنعمك المتبعين لشرعك، يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر.(1/330)
فهذا (باب قول الله تعالى ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[ المائدة:23])، وهذا الباب عقده الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله في هذا الكتاب العظيم كتاب التوحيد، عقده لبيان أنّ التوكل على الله فريضة من الفرائض وواجب من الواجبات، وأنّ إفراد الله جل وعلا به توحيدٌ، وأن التوكل على غير الله شرك مخرج من الملة.
والتوكل على الله شرط في صحة الإسلام، وشرط في صحة الإيمان، فالتوكل عبادة عظيمة، فعقد هذا الباب لبيان هذه العبادة.
وحقيقة التوكل على الله جل جلاله أن العبد يعلم أن هذا الملكوت إنما هو بيد الله جل وعلا يُصرِّفُه كيف يشاء، فيفوّض الأمر إليه ويلتجئ إليه بقلبه في تحقيق مطلوبه، وفي الهرب من ما يسوغه، يلتجئ في ذلك ويعتصم بالله جل جلاله وحده، فينزل حاجته بالله ويفوض أمره إلى الله، ثم يعمل السبب الذي أمر الله به.
فحقيقة التوكل في الشرع تجمع: تفويض الأمر إلى الله جل وعلا وفعل الأسباب؛ بل إنّ نفس الإيمان سبب من الأسباب؛ بل إن نفس الإيمان سبب من الأسباب التي يفعلها المتوكلون على الله؛ بل إن نفس التوكل على الله جل وعلا سبب من الأسباب.
فالتوكل حقيقته في الشرع تجمع عبادة قلبية عظيمة وهي تفويض الأمر إليه والالتجاء إليه، والعلم بأنه لا أمر إلا أمره ولا بشيء إلا بما قدره وأذن به كونا، ثم فِعل السبب الذي أوجب الله جل وعلا فعله أو أمر بفعله، فترك فعل الأسباب ينافي حقيقة التوكل الشرعية، كما أن الاعتماد على السبب وترك تفويض الأمر إلى الله جل وعلا ينافي حقيقة التوكل الشرعية.
فالمتوكل في الشرع هو من عمل السبب وفوّض الأمر إلى الله جل وعلا في الانتفاع بالسبب وفي حدوث المسبَّب من ذلك السبب وفي بتوفيق الله وإعانته، فإنه لا حول ولا قوة إلا به جل وعلا.(1/331)
والتوكل كما قال الإمام أحمد: عمل القلب. فالتوكل عبادة قلبية محضة، ولهذا صار إفراد الله جل وعلا بها واجبا، وصار صرفها لغير الله جل وعلا شرك.
و التوكل على غير الله جل وعلا له حالان:
الحال الأولى: أن يكون شركا أكبر، وهو أن يتوكل على أحد من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، يتوكل على المخلوق في مغفرة الذنب, يتوكل على المخلوق في تحصيل الخيرات الأخروية، أو يتوكل على المخلوق في تحصيل ولد له، أو تحصيل وظيفة له، يتوكل عليه بقلبه وهو لا يقدر على ذلك الشيء، وهذا يكثر عند عباد القبور وعُبّاد الأولياء فإنهم يتوجهون إلى الموتى بقلوبهم، يتوكلون عليهم؛ بمعنى يفوضون أمر صلاحهم فيما يريدون في الدنيا والآخرة على أولئك الموتى وعلى تلك الآلهة والأوثان التي لا تقدر من ذلك على شيء.
فهذا عبادة صرفت لغير الله جل وعلا وهو شرك أكبر بالله جل، مناف لأصل التوحيد.
النوع الثاني: أن يتوكل على المخلوق فيما أقدره الله جل وعلا عليه، يتوكل على مخلوق فيما أقدره الله عليه، وهذا نوع شرك؛ بل هو شرك خفي وشرك أصغر، ولهذا قال طائفة من أهل العلم: إذا قال توكلت على الله وعليك فإن هذا شرك أصغر، ولهذا قالوا لا يجوز أن يقول توكلت على الله ثم عليك؛ لأن المخلوق ليست له نصيب من التوكل إنما هو تفويض الأمر والالتجاء بالقلب إلى من بيده الأمر وهو الله جل وعلا، والمخلوق لا يستحق شيئا من ذلك.
فإذن التوكل على المخلوق فيما يقدر عليه هذا شرك خفي ونوع شرك أصغر.
والتوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق، وهذا يكثر عند عباد القبور والمتوجهون إلى الأولياء والموتى، هذا شرك مخرج من الملة.(1/332)
وحقيقة التوكل الذي ذكرناه لا يصلح إلا لله جل وعلا؛ لأنه تفويض الأمر إلى من بيده الأمر، والمخلوق ليس بيده الأمر, التجاء القلب وطمع القلب ورغب القلب في تحصيل المطلوب، إنما يكون ذلك ممن يملكه وهو الله جل وعلا، أما المخلوق فلا يقدر على شيء استقلالا، وإنما هو سبب، فإذا كان سببا لا يجوز التوكل عليه؛ لأن التوكل عمل القلب، وإنما يجعله سببا بأن يجعله شفيعا يجعل واسطة ونحو ذلك، فهذا لا يعني أنه متوكل عليه، فيجعل المخلوق سببا فيما أقدره الله عليه ولكن يفوض أمر النفع بهذا السبب إلى الله جل وعلا، فيتوكل على الله ويأتي بالسبب الذي هو الانتفاع من هذا المخلوق بما جعل الله جل وعلا له من الانتفاع أو من القدرة ونحو ذلك.
قال الإمام رحمه الله (باب قول الله تعالى ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[ المائدة:23]) هذه الآية فيها الأمر بالتوكل، ولما أمر به علمنا أنه من العبادة، ولمّا قدم الجار والمجرور في قوله (وَعَلَى اللَّهِ) قدمه على ما يتعلق به وهو الفعل (تَوَكَّلُوا) دل على وجوب إفراد الله جل وعلا بالتوكل، وأن التوكل عبادة يجب أن تحصر وتقصر في الله جل وعلا, هذا وجه الدلالة من الآية.
ودليل آخر في هذه الآية وهو قوله (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) جعل الإيمان لا يصحّ إلا بالتوكل، قال (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) يعني أفردوا الله بالتوكل وحده إن كنتم مؤمنين، فجعل الشرط (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) فأفردوا الله بالتوكل، فجزاء الشرط هو إفراد الله بالتوكل. فصارت دلالة الآية من جهتين.(1/333)
وكذلك قوله جل وعلا في آية سورة يونس ?إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّسْلِمِينَ?[يونس:84]، قال (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) أفرد التوكل به جل وعلا وأمر به، فقدم الجار والمجرور بما يفيد الحصر والقصر والاختصاص بالله جل وعلا، ثم جعل إفراد التوكل به جل وعلا شرط في صحة الإسلام فقال (إِنْ كُنْتُم مُّسْلِمِينَ).
فهذه الآيتان دلتا على أن التوكل عبادة وأن أفراد الله به جل وعلا واجب وأنه شرط في صحة الإسلام وشرط في صحة الإيمان، وهذا كله يدل على أن انتفاءه مُذْهب لأصل التوحيد ومناف لأصله إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله.
قال (وقوله ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ?[الأنفال:2]) وجه الدلالة من الآية أنه وصف المؤمنين بهذه الصفات الخمس، وآخرها قوله (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وظاهر من دلالة الآية حيث قدم الجارّ والمجرور على أنهم أفردوا التوكل بالله جل وعلا، فوصف المؤمنين بهذه الصفات فدل على أن هذه هي أعظم مقامات أهل الإيمان، وأن هذه العبادات الخمس هي أعظم المقامات، وهذا عظيم التنبه له إذْ كل أمور الدين والعبادات والفروع العملية التي يعملها العبد إنما هي فرع عن تحقيق هذه الخمس التي جاءت في هذه الآية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وهذه الصفة تجمع الكلمات الشرعية وتجمع الدين جميعا؛ لأن ذكر الله فيه القرآن وفيه السنة.(1/334)
قال (وقوله: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ?[الأنفال:64])، قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) يعني كافيك الله وكافي من اتبعك من المؤمنين؛ لأن الحَسْبَ هو الكافي، والكلمة المشابهة لها (حَسَب)، تقول: هذا بِحَسَبِ كذا؛ يعني بناءً على كذا، وأما الكافي فهو الحسْب بسكون السين, (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) يعني كافيك الله وكافي من اتبعك من المؤمنين. وجه مناسبة هذه الآية لهذا الباب أن الله حَسْب من توكل عليه، قال جل وعلا ?وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ?[الطلاق:3]، فالله حسْبُ من توكَّل عليه، فدلّ أن الله جل وعلا أمر عباده بالتوكل عليه حتى يكون كافيهم من أعدائهم وحتى يكون جل وعلا كافي المؤمنين من المشركين.
قال جل وعلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) يعني كافيك الله، ولهذا أعقبها بالآية الأخرى وهي قوله جل وعلا (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
والتوكل على الله جل وعلا -كما ذكرنا لك- يرجع إلى فهم توحيد الربوبية وإلى عظم الإيمان بتوحيد الربوبية، فإن بعض المشركين قد يكون عنده التوكل على الله الشيء العظيم، والتوكل على الله من العبادات التي تُطلب من المؤمن، ومن العبادات الواجبة والعبادات العظيمة.
لهذا نقول: إن إحداث التوكل في القلب يرجع إلى التأمل في آثار الربوبية، فكما كان العبد أكثر تأملا في ملكوت الله وفي السماوات والأرض وفي الأنفس وفي الآفاق، كان علمه بأن الله هو ذو الملكوت، وأنه هو المتصرف، وأن نصره لعبده شيء يسير جدا بالنسبة إلى ما يجريه الله جل وعلا في ملكوته، فيُعظم المؤمن بهذا التدبر الله جل وعلا، ويُعْظِم التوكل عليه، ويعظِّم أمره ونهيه، وينظر أن الله جل جلاله لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.(1/335)
قال (?وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ?[الطلاق:3]) رتّب الحسْب -وهو الكفاية- بالتوكل عليه، وهذا فضيلة التوكل وفضيلة المتوكلين عليه.
قال (وعن ابن عباس، قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: ?إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ?[آل عمران:173])، هذا يبين عظم الكلمة وهو قول المؤمن (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، فإذا تحقق العبد التوكل على الله وحققه في القلب معناه أنه حقق هذا النوع من التوحيد -توحيد التوكل في النفس-، فإن العبد إذا أعظم رجاءه في الله وتوكله على الله فإنه وإن كادته السماوات والأرض ومن فيهن فإن الله سيجعل له من أمره يُسرى وسيجعل له من بينها مخرجا، (حَسْبُنَا اللَّهُ) يعني كافينا الله (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) يعني ونعم الوكيل ربنا, هذه كلمة عظيمة قالها إبراهيم عليه السلام في الكرب وقالها النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في الكرب لما (قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) وذلك لعظم توكلهم على الرب جل وعلا. نعم.
¹
باب قول الله تعالى: ?أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ?[الأعراف:99]، وقوله: ?وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ?[الحجر:56].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر ؟ فقال: "الشّرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله"
وعن ابن مسعود، قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله". رواه عبد الرزاق
[الشرح](1/336)
هذا (باب قول الله تعالى: ?أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ?[الأعراف:99]، وقوله: ?وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ?[الحجر:56])، (باب قوله تعالى) الآية الأولى والآية الثانية جميعا، فالباب منعقد للآيتين جميعا لاتصالهما، والمراد بهذا الباب بيان أنّ الجمع بين الخوف والرجاء واجب من واجبات الإيمان ولا يتم التوحيد إلا بذلك، فانتفاء الجمع بين الخوف والرجاء هذا منافٍ لكمل التوحيد، فالواجب على العبد أن يجعل خوفه مع الرجاء وأن يجعل رجاءه مع الخوف وأن لا يأمن المكر كما لا يقنط من رحمة الله جل وعلا.
فالآية الأولى وهي قول الله تعالى (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) فيها أن المشركين من صفاتهم أنهم أمنوا عقاب الله فلم يخافوا، والواجب بالمقابل بأن تكون قلوبهم خائفة وجلة من الله جل وعلا، قال سبحانه (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ) يعني أيعلمون تلك المَثُولات وفعل الله جل وعلا بالأمم السابقة قصها الله في سورة الأعراف فأمنوا مكر الله؟ فإذا كان كذلك وحصل منهم الأمن مع وجود النُّذُر فيما حولهم وأن الله قصّ عليهم القصص والأنباء قال (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
والأمن من مكر الله هو ناتج عن عدم الخوف وترك عبادة الخوف، وعبادة الخوف قلبية؛ الخوف خوف العبادة من الله جل جلاله، وهذا الخوف إذا كان في القلب فإن العبد سيسعى في مراضي الله ويبتعد عن مناهي الله، وسيعظِّم الله جل وعلا ويتقرب إليه بالخوف؛ لأن خوف عبادة، ويكون عبادة بمعاني منها:
أن يتقرب إلى الله جل وعلا بالخوف.(1/337)
وأن يتقرب إلى الله جل وعلا بعدم الأمن من مكر الله، وذلك أن الله هو ذو الجبروت، فعدم الأمن من مكر الله راجع إلى فهم صفات الله جل وعلا وأسماءه التي منها القهار والجبار وهو الذي يجير ولا يجار عليه، ونحو ذلك من صفات الربوبية.
ومكر الله جل وعلا من صفاته التي تطلق مقيدة، فالله جل وعلا يمكر بمن مكر وأوليائه وأنبيائه وبمن مكر بدينه؛ لأنها في الأصل صفة نقص؛ لكن تكون صفة كمال إذا كانت بالمقابلة؛ لأنها فيها حينئذ إظهار العزة والقدرة والقهر والجبروت وسائر صفات الجلال.
فمكر الله جل وعلا من صفاته التي يتصف بها؛ لكن يكون ذلك على وجه التقييد نقول: يمكر بأعداء رسله يمكر بأعدائه, يمكر بمن مكر به ونحو ذلك.
وحقيقة مكر الله جل وعلا ومعنى هذه الصفة أن الله جل وعلا أنه يستدرج العبد ويُملي له حتى إذا أخذه لم يفلته، ييسر له الأمور حتى يظن أنه في مأمن غاية الأمن، فيكون ذلك استدراجا في حقه فقال النبي عليه الصلاة والسلام "إذا رأيتم الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فاعلموا أن ذلك استدراج" وهذا ظاهر من معنى المكر لأن في معنى المكر والكيد وأمثالهما معنى الاستدراج، لا ترادف في اللغة، بل هناك فروق بين المكر والاستدراج، والكيد والاستدراج، ونحو ذلك؛ لكن نقول هذا من جهة التقريب، فالمكر فيه استدراج وفيه زيادة أيضا على الاستدراج حتى يكون قلب ذلك المستدرج آمنا من كل جهة.
قال (وقوله: ?وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ?[الحجر:56]) هذا فيه أنّ صفة الضالين أنهم يقنطون من رحمة الله جل وعلا، ومعنى ذلك بالمفهوم أنّ صفة المتقين وصفة المهتدين أنهم لا يقنطون من رحمة الله؛ بل يرجون رحمة الله جل وعلا.
والجمع بين الخوف والرجاء واجب شرعا، فإن الخوف عبادة والرجاء عبادة، واجتماعهما في القلب واجب، فلا بد أن يكون هذا وهذا جميعا في القلب حتى تصح العبادة.(1/338)
ومن هنا اختلف العلماء أي الخوف أو الرجاء يغلب، هل يغلب العبد جانب الرجاء أو يغلب جانب الخوف؟
والتحقيق أن الحالة تختلف، فإذا كان العبد في حالة الصحة والسلامة فإنه إما أن يكون مسددا مسارعا في الخيرات فهذا يتساوى -يعني يجب أن يتساوى- في قلبه الخوف والرجاء يخاف ويرجو لأنه من المسارعين في الخيرات.
وإذا كان في حال الصحة والسلامة وعدم دنو الموت من أهل العصيان فالواجب عليه أن يغلِّب جانب الخوف حتى ينكفّ على المعصية.
وأما إذا كان في حال المرض -وهي الحال الثانية- فإنه مرض المخوف فإنه يجب عليه أن يعظم جانب الرجاء على الخوف فيقوم في قلبه الرجاء و الخوف؛ لكن يكون رجاءه أعظم من خوفه وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام "لا يمت أحدكم إلا وهو يحسّن الظن بربه تعالى" وذلك من جهة رجائه في الله جل جلاله.
ومن هنا اختلفت كلمات أهل العلم:
"فتجد أن بعضهم يقول يجب أن يتساوى الخوف والرجاء.
"وبعض السلف يغلّب جانب الخوف على جانب الرجاء.
"وبعض السلف يقول يغلّب جانب الرجاء على جانب الخوف.
وهي أقوال متباينة ظاهرا لكنها متفقة في الحقيقة؛ لأن كل قول منها يرجع إلى حالة مما ذكرنا.
"فمن قال يغلّب جانب الخوف على الرجاء فهو في حق الصحيح العاصي.
"ومن قال يغلب الرجاء على الخوف فهو في حق المريض الذي يخاف الهلاك أو من يخاف الموت.
"ومن قال يساوى بين الخوف والرجاء فنظر إلى حال المسددين المسارعين في الخيرات.(1/339)
وهذه الحالة التي هي حال المسددين هي التي وصف الله جل وعلا أهلها بقوله?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?[الأنبياء:90]، ونحوُه قوله جل وعلا في سورة الإسراء?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا?[الإسراء: 57]، وهذا ظاهر من ذلك.
فالشيخ رحمه الله عقد هذا الباب لبيان وجوب أن يجتمع الخوف والرجاء في القلب، كما ذكرنا لك بالأمس هذه أبواب متتالية لبيان حالات القلب والعبادات القلبية وأحكام ذلك.
قال (وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر؟ فقال: "الشّرك بالله، واليأسُ من رَوح الله، والأمنُ من مكر الله") وجه الشاهد من ذلك أنه جعل اليأس من روح الله -وهو عدم الرجاء؛ ذهاب الرجاء من القلب وعدم أو ترك الإتيان بعبادة الرجاء- جعله من الكبائر، وجعل الأمن من مكر الله -وهو ذهاب الخوف من الله جل وعلا- من الكبائر، وهي كبائر في القلب، وهي كبائر من جهة أعمال القلوب.
واجتماعهما جميعا بأن لا يكون عنده رجاء ولا خوف فهذه كبيرة أعظم من ترك الخوف وحده من الله أو ترك الرجاء وحده من الله جل وعلا، ولهذا قرن بينهما في هذا الحديث حيث قال (سئل عن الكبائر؟ فقال: "الشّرك بالله، واليأسُ من رَوح الله، والأمنُ من مكر الله") وبهذا يتبين لك الفرق بين اليأس والأمن, اليأس من روح الله أو القنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، من أن اليأس راجع إلى ترك عبادة الرجاء، والأمن من مكر الله راجع إلى ترك عبادة الخوف واجتماعهما واجب من الواجبات، وذهابهما أو الانتقاص منهما نقص في كمال توحيد من قام ذلك بقلبه.(1/340)
قال (وعن ابن مسعود، قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله") فيها ما في الحديث قبله لكن هنا فصّل في القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، فجعل القنوط من رحمة الله شيئا وجعل اليأس من روح الله شيئا آخر، وهذا باعتبار بعض الصفات لا باعتبار أصل المعنى، فإن القنوط من الرحمة واليأس من الروح بمعنى واحد؛ لكن يختلفان من حيث ما يتناوله هذا ويتناوله هذا، فالقنوط من رحمة الله عام لأن الرحمة أعم من الروح، والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم، وروح الله جل وعلا يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب، فقوله (القنوط من رحمة الله) هذا أعم ولهذا قدّمه، فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى واختلاف في الصفات، أو بعض ما يتعلق باللفظ.
لهذا نقول: هذا الحديث مع الحديث قبله مع الآيتين دلالتهما على ما أراد الشيخ من عقد هذا الباب واحدة، ودلالة الجميع أنّ الخوف والرجاء واجب اجتماعهما في القلب وإفراد الله جل وعلا بهما، والمقصود خوف العبادة ورجاء العبادة.
¹
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
وقول الله تعالى: ?وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ?[التغابن:11]، قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلّم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اثْنَتَانِ فِي النّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطّعْنُ فِي النّسَبِ وَالنّيَاحَةُ عَلَى الْمَيّتِ".
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "لَيْسَ مِنّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ, وَشَقّ الْجُيُوبَ. وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ".(1/341)
وعن أنس - رضي الله عنه -، أن رسول الله قال: "إِذَا أَرَادَ الله بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ في الدّنْيَا, وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشّرّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتّى يُوَافى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إِنّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عظمِ الْبَلاَءِ, وَإِنّ الله إِذَا أَحَبّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ, فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى, وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخَطُ" حسنه الترمذي.
[الشرح]
(باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله), الصبر من المقامات العظيمة والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر؛ لأن العبادة أمر ونهي وابتلاء, فالعبادة أمر شرعي أو نهي شرعي، هذا الدين أمر شرعي أو نهي شرعي أو أن يصيب العبد بمصيبة قدرية.
فحقيقة العبادة أن يمتثل الأمر الشرعي وأن يجتنب النهي الشرعي وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله جل وعلا العباد بها.
ولهذا الابتلاء حاصل بالدين، وحاصل بالأقدار، فبالدين كما قال جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قال الله تعالى: إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ" فحقيقة بعثة النبي عليه الصلاة والسلام الابتلاء، والابتلاء يجد معه الصبر، والابتلاء الحاصل ببعثته بالأوامر والنواهي.
إذن فالواجبات تحتاج إلى صبر، والمنهيات تحتاج إلى صبر، والمنهيات والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر، والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر.
ولهذا قال طائفة من أهل العلم: إن الصبر ثلاثة أقسام:
"صبر على الطاعة.
"وصبر على المعصية.
"وصبر على أقدار الله المؤلمة(1/342)
ولما كان الصبر على المصائب قليلا ويظهر عدم الصبر أفرد الشيخ رحمه الله تعالى هذا الباب لبيان أنه من كمال التوحيد ومن الواجب على العبد أن يصبر على أقدار الله؛ لأن التسخط -تسخط العباد وعدم صبرهم- كثيرا ما يظهر في حال الابتلاء بالمصائب، فعقد هذا الباب لبيان أن الصبر واجب على أقدار الله المؤلمة، ونبه بذلك أن الصبر على الطاعة واجب وأن الصبر على المعصية واجب.
وحقيقة الصبر الحبس في اللغة ومنه قولهم: قد قُتل فلانا صبرا إذا حُبس أو رُبط وقتل دون مُبارزة ولا قتال.
ويقال للصبر الشرعي إنه صبر؛ لأن فيه الحبس وهو حبس اللسان عن التشكي، وحبس القلب عن السخط، وحبس الجوارح عن إظهار السخط من لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك، فحبس هذه الأشياء هو حقيقة الصبر.
فالصبر -إذن- حبس اللسان عن التشكي، وحبس القلب عن التسخط، وحبس الجوارح عن إظهار التسخط بشق أو نحو ذلك.
قال الإمام أحمد رحمه الله: ذُكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد لأنّ من لا صبر له على الطاعة ولا صبر له عن المعصية ولا صبر له على أقدار الله المؤلمة فإنه يفوته أكثر الإيمان.
قال (باب من الإيمان بالله) يعني من خصال الإيمان بالله (الصبر على أقدار الله)، والإيمان له شعب كما أن الكفر له شعب، فنبه بقوله أن (من الإيمان بالله الصبر) على أن من شعب الإيمان الصبر، ونبه في الحديث الذي ساقه عن صحيح مسلم أن النياحة من شعب الكفر، فيقابل كل شعبة من شعب الكفر شعبة من شعب الإيمان، فالنياحة على الميت شعبة من شعب الكفر يقابلها في شعب الإيمان الصبر على أقدار الله المؤلمة.(1/343)
(وقول الله تعالى: ?وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن:11]، قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلّم.) هذا تفسير من علقمة -أحد التابعين- لهذه الآية، وهو تفسير ظاهر الصحة والصواب، وذلك أنّ قوله (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) إنما سيق في سياق ذكر ابتلاء الله بالمصائب فـ(مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ) يعني يعظِّم الله جل وعلا ويمتثل أمره ويجتنب نهيه (يَهْدِ قَلْبَهُ) للصبر, (يَهْدِ قَلْبَهُ) لعدم التسخط, (يَهْدِ قَلْبَهُ) للعبادات، ولهذا قال (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله) وهذا هو الإيمان بالله (فيرضى ويسلم).
والمصائب من القدر، والقدر راجع إلى حكمة الله جل وعلا، والحكمة -حكمة الله جل وعلا- هي وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، فالحكمة بعامة مرتبطة بالغايات المحمودة من وضع الأمر في موضعه، فمن وضع الأمر في غير موضعه فقد ظلم، ومن وضع الأمر في موضعه عدل، وقد يكون غير حكيم عادل؛ ولكن غير حكيم، إذا وضع الأمر في موضعه الموافق للغاية المحمودة منه فذاك هو الحكيم، والله جل وعلا منفي عنه الظلم ومُثبت له كمال العدل سبحانه حيث يضع الأمور مواضعها، ومُثبَت له جل وعلا كمال الحكمة حيث إنّ وضعه الأمور في مواضعها موافق للغايات المحمودة منها، فنعمل بذلك أن المصيبة إذا أصابت العبد فإن الخير له فيها، إما أن يصبر فيؤجر، وإما أن يتسخط فيؤزر على ذلك، وهذا في حق الخاسرين، فالله جل وعلا له الحكمة من الابتلاء بالمصائب.
لهذا يجب على العبد أن يعلم أن ما جاء من عند الله هو قدر الله جل وعلا وقضاءه الموافق لحكمته فيجب الصبر على ذلك.
قال(يعلم أنها من عند الله) يعني أن الله هو الذي أتى بها، وهو الذي أذن بها قدرا وكونا (فيرضى ويسلم)، والرضى بالمصيبة مستحب وليس بواجب، ولهذا يختلط على كثيرين الفرق بين الرضى والصبر.(1/344)
وتحرير المقام في ذلك:
أن الصبر على المصائب واجب من الواجبات؛ لأن فيه ترك التسخط على قضاء الله وقدره.
والرضى هذا له جهتان:
µ الجهة الأولى: راجعة إلى فعل الله جل وعلا، فيرضى بقدر الله الذي هو فعله، يرضى بفعل الله، يرضى بحكمة الله، يرضى بما قسم الله جل وعلا -يعني بقسمة الله-، هذا الرضى بفعل الله جل وعلا واجب من الواجبات، وتركه محرم ومنافي لكمال التوحيد.
µ والرضى بالمقتضى الرضى بالمصيبة في نفسها هذا مستحب، ليس واجبا على العباد أن يرضوا بالمرض، أن يرضوا بفقد الولد، أن يرضوا بفقد المال؛ لكن هذا مستحب، وهو رتبة الخاصة من عباد الله.
ولكن الرضى بفعل الله جل وعلا الرضى بقضاء الله من حيث هو هذا واجب، أما الرضى بالمقتضى فإنه مستحب.
ولهذا قال علقمة هنا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى-يعني على قضاء الله- ويسلم-لعلمه-أنها من عند الله جل جلاله. وهذا من خصال الإيمان
قال (وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اثْنَتَانِ فِي النّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ") يعني خصلتان من شعب الكفر قائمتان في الناس وستبقيان في الناس، (الطّعْنُ فِي النّسَبِ) من شعب الكفر، (وَالنّيَاحَةُ) من شعب الكفر.
وجه الشاهد من هذا الحديث قوله (وَالنّيَاحَةُ عَلَى الْمَيّتِ)، والنياحة مخالفة للصبر، والصبر الواجب فيه حبس الجوارح من لطم الخدود وشق الجيوب -ونحو ذلك- وحبس اللسان عن التشكي والعويل وهذا هو النياحة، فالنياحة من شعب الكفر لأنها منافية للصبر، وكونها من شعب الكفر لا يدل أن من قامت به فهو كافر الكفر المطلق المخرج من الملة؛ بل يدل على أن من قامت به قامت به خصلة من خصال الكفار وشعبة من شعب الكفر، ولهذا قال هنا (اثْنَتَانِ فِي النّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ) فنكّر كلمة (كُفْرٌ).(1/345)
والقاعدة في فهم ألفاظ (الكفر) التي تأتي في الكتاب والسنة أن الكفر إذا أتى معرفا بالألف واللام فإن المراد به الكفر الأكبر، وإذا أتى الكفر منكّر كفر كلمة هكذا دون الألف واللام فإنه يدل على أن الخصلة تلك من شعب الكفر ومن خصال أهل الكفر وأن ذلك كفر أصغر،
كما قال عليه الصلاة والسلام "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض" يعني لأن ذلك من خصال الكفار، ونحو ذلك قوله "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" هذا في الكفر الأصغر.
وأما الكفر المعرف بالألف واللام فالقاعدة التي حررها الأئمة كشيخ الإسلام وغيرِه أنه أتى فيراد به الكفر الأكبر كقوله عليه الصلاة والسلام "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ".
قال (ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "لَيْسَ مِنّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ, وَشَقّ الْجُيُوبَ.وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ") يدل على أن من فعل هذه الأفعال فهو ليس من أهل الإيمان، وقد ذكرت لكم أن كلمة (لَيْسَ مِنّا) تدل أن الفعل من الكبائر، ولهذا نقول: ترك الصبر وإظهار التسخط كبير من الكبائر، والمعاصي تنقص الإيمان؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ونقص الإيمان قد ينقص كمال التوحيد؛ بل إن ترك الصبر مناف لكمال التوحيد الواجب. (1)
__________
(1) انتهى الشريط الحادي عشر.(1/346)
قال (وعن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَرَادَ الله بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ في الدّنْيَا, وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشّرّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتّى يُوَافى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ") هذا فيه بيان حكمة الله جل وعلا التي إذا استحضرها المصاب فإنه يعظم عنده الصبر ويتحلى بهذه العبادة القلبية العظيمة وهي ترك التسخط والرضى بفعل الله جل وعلا وقضائه؛ لأن العبد إذا أُريد به الخير فإن العقوبة تُجعّل له في هذه الدنيا؛ لأن رفع أثر العقوبة عن العبد يكون بعشْرة أشياء: ومنها أن تعجل له العقوبة في الدنيا، يعني يعاقب في الدنيا بمرض بفقد مال بمصيبة؛ لأن مخالفة أمر الله في ملكوته لا بد أن تقع له عقوبة إنْ لم يغفر الله جل وعلا ويتجاوز، فإذا كانت العقوبة في الدنيا فإنها أهون من أن تكون في البرزخ أو تكون يوم القيامة، ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام "من يرد الله به خيرا يُصِبْ منه"، ولهذا كان بعض السلف يتهم نفسه إذا رأى أنه لم يصَب ببلاء أو لم يمرض ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحمى -مثلا- "لا تسبوا الحمى فو الذي نفسي بيده إنها لتنفي الذنوب على العبد كما ينفي الكير خبث الحديد" ففي المصائب نِعم، المصائب فيها نِعم على العبد، والله جل وعلا له الحكمة البالغة فيما يصلح عبده المؤمن.(1/347)
قال (وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إِنّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عظمِ الْبَلاَءِ, وَإِنّ الله إِذَا أَحَبّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ, فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى, وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخَطُ") دل قوله (رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى) يعني الرضى من الله عليه على أن الرضى عبادة؛ لأن رضى الله عن العبد إذْ رضي عنه دال على أن ذلك الفعل محبوب له، وذلك دليل أنه من العبادات، وكذلك الجملة الثانية دليل على أن السخط محرم قال (وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخَطُ) يعني من الله جل وعلا.
وحقيقة السخط على الله جل وعلا أن يقوم في قلبه عدم محبة ذلك الشيء وكراهة ذلك الشيء وعدم الرضى به واتهام الحكمة فيه، فمن قامت به هذه الأشياء مجتمعة فقد سخط، يظهر أثر السخط على اللسان أو على الجوارح، يظهر السخط في القلب من جهة عدم الرضى بالأوامر، عدم الرضى بالنواهي، عدم الرضى بالشرع، فيتسخط الأمر، يتسخط النهي، يتسخط الشرع، فهذا كبيرة من الكبائر ولو امتثل ذلك، فإن تسخطه وعدم الرضى بذلك قلبا دليل على انتفاء كمال التوحيد في حقه، وقد يصل بالبعض إلى انتفاء التوحيد من أصله إذا لم يرضَ بأصل الشرع وسخِطَه بقلبه واتهم الشرع أو اتهم الله جل وعلا في حكمه الشرعي. نعم
¹
باب ما جاء في الرياء
وقول الله تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110].
وعن أبي هريرة مرفوعاٌ: "قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَنَا أَغْنَىَ الشّرَكَاءِ عَنِ الشّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي, تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ". رواه مسلم(1/348)
وعن أبي سعيد مرفوعاً: فَقَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدّجّالِ؟" قَالوا: بَلَىَ. فَقَالَ: "الشّرْكُ الْخَفِيّ: يَقُومَ الرّجُلُ يُصَلّي فَيُزَيّنُ صَلاَتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إليه" رواه أحمد
[الشرح]
هذا (باب ما جاء في الرياء) يعني من الوعيد وأنه شرك بالله جل وعلا.
والرياء حقيقته من الرؤية وهي البصرية، وذلك أن يعمل عمل العبادة لكي يُرى أنه يعمل، يعمل العمل الذي هو من العبادة إما صلاة أو تلاوة أو ذكر أو صدقة أو حج أو جهاد أو أمر ونهي أو صلة رحم أو نحو ذلك لا لطلب ما عند الله؛ ولكن لأجل أن يُرى لأجل أن يراه الناس على ذلك فيثنوا عليه به، هذا هو الرياء.
وقد يكون الرياء في أصل الإسلام كرياء المنافقين.
فالرياء على درجتين:
الدرجة الأولى: رياء المنافقين بأن يُظهر الإسلام ويُبطن الكفر لأجل رؤية الخلق، وهذا منافي للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله جل جلاله لهذا وصف الله المنافقين بقوله?يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا?[النساء:142]، (يُرَاءُونَ النَّاسَ) يعني الرياء الأكبر الذي هو إظهار أصل الإسلام وشعب الإسلام وإبطان الكفر وشعب الكفر.
والنوع الثاني من الرياء: أن يكون الرجل مسلما أو المرأة مسلمة ولكن يرائي بعمله أو ببعض عمله، فهذا شرك خفي، وذلك الشرك منافي لكمال التوحيد، والله جل وعلا قال ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?(1) على اختيار من قال إن قوله (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يدخل فيه الشرك الخفي والأصغر.
__________
(1) النساء:48، 116.(1/349)
قال الشيخ رحمه الله (باب ما جاء في الرياء وقول الله تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]) قوله (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) هذا نهي عن الإشراك، قال (وَلَا يُشْرِكْ) هذا نهي، والنهي هنا عام لجميع أنواع الشرك التي منها شرك الرياء، ولهذا يستدلّ السلف بهذه الآية على مسائل الرياء كما أوردها الإمام رحمه الله تعالى هنا؛ لأنه قال (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يعني بما يشمل شرك المراءاة، فإن الرياء شرك وقوله (وَلَا يُشْرِكْ) وهذا عموم يعم أنواع الشرك جميعا؛ لأن (يُشْرِكْ) نكرة جاءت في سياق النهي فعمت أنواع الشرك, وقوله (أَحَدًا) يعم جميع الخلق بمراءاةٍ أو بتسمع أو بغير ذلك.
فدلالة الآية ظاهرة على الباب المراءاة نوع من أنواع الشرك الأصغر نوع من الشرك الخفي, تارة نقول الرياء شرك أصغر باعتبار أنه ليس بأكبر مخرج من الملة، وتارة نقول الرياء شرك خفي لأنه ليس بظاهر وإنما هو باطن خفي في قلب العبد، ولهذا تجد أن كثيرين من أهل العلم يعبرون عن الشرك الأصغر بيسير الرياء، وتارة يعبرون عن الشرك الخفي بالرياء؛ ذلك لأن الشرك يختلف من حيث الإطلاق -كما ذكرنا لكم في أول هذا الشرح- من عالم إلى آخر تارة يقسمون الشرك إلى أكبر وأصغر ومنهم من يقسمه إلى أكبر وأصغر وخفي، وكل له اصطلاحه وكل الأقوال صواب.(1/350)
قال (وعن أبي هريرة مرفوعاٌ: "قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَنَا أَغْنَىَ الشّرَكَاءِ عَنِ الشّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي, تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ") هذا الحديث يدل على أن الرياء مردود على صاحبه وأن الله جل وعلا لا يقبل العمل الذي خالطه الرياء، والعلماء فصّلوا في ذلك فقالوا: الرياء إذا عرض للعبادة فله أحوال:
فإما أن يعرض للعبادة من أولها، فإذا عرض للعبادة من أولها فإن العبادة كلها باطلة، مثل أن يصلي؛ أنشأ الصلاة لنظر فلان, لم يرد أن يصلي الراتبة لكن لما رأى فلانا ينظر إليه فصلى الراتبة لكي يراه, فهذا عمله حابط؛ يعني هذه الركعتين حابطة وهو مأزور على مراءاته ومرتكب الشرك الخفي, الشرك الأصغر.
والحال الثانية أن يكون أصل العبادة لله؛ ولكن خلط ذلك العابد عمله برياء مثلا أطال الركوع وأكثر التسبيح لأجل من يراه، أطال القراءة والقيام لأجل أن يراه فهذا القدر الواجب من العبادة له، وما عدا ذلك فهو حابط؛ لأنه راء في الزيادة على الواجب، فيحبط ذلك الزائد وهو آثم عليه، لا يؤجر عليه ويحبط ولا ينتفع منه، ويؤزر على إشراكه وعلى مراءاته، هذا في الأعمال أو في العبادات البدنية، أما العبادات المالية فيختلف الحال عن ذلك.(1/351)
قال هنا (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي, تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) يعني بجميع أنواع المشرَكين وبجميع أنواع الأعمال، (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً), (عَمَلاً) هذه نكرة جاءت في سياق الشرط فعمت جميع الأعمال -الأعمال البدنية والأعمال المالية والأعمال التي اشتملت على مال وبدن-؛ البدنية كالصلاة والصيام، والمالية كالزكاة والصدقة، والمشتملة على بدن ومال كالحج والجهاد ونحو ذلك، هذا يعم الجميع (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً) يعني أنشأه, (أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي)؛ جعله لله ولغير الله جميعا فإن الله جل وعلا أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقبل إلا ما كان له وحده سبحانه وتعالى.
قال (وعن أبي سعيد مرفوعاً: فَقَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدّجّالِ؟" قَالوا: بَلَىَ. فَقَالَ: "الشّرْكُ الْخَفِيّ: يَقُومَ الرّجُلُ يُصَلّي فَيُزَيّنُ صَلاَتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إليه") هذا فيه بيان أن هذا النوع من الشرك هو أخوف من المسيح الدجال عند النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة؛ ذلك أن أمر المسيح أمر ظاهر بيّن والنبي عليه الصلاة والسلام بين ما في شأنه وبين صفته وحذر الأمة منه وأمرهم أن يدعوا آخر كل صلاة بالاستعاذة من شرّ المسيح الدجال ومن فتنة المسيح الدجال؛ لكن الرياء هذا يعرض للقلب كثيرا، والشيطان يأتي إلى القلوب، وهذا الشرك يقود العبدَ شيئا فشيئا عن مراقبة الله جل وعلا ويتجه إلى مراقبة المخلوقين، لذلك صار أخوف عند النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسيح الدجال، ثم فسره بقوله (الشّرْكُ الْخَفِيّ: يَقُومَ الرّجُلُ يُصَلّي فَيُزَيّنُ صَلاَتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ). نعم
¹
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا(1/352)
وقال الله تعالى: ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[هود: 15-16].
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعِسَ عبدُ الدّينارِ تَعِسَ عبدُ الدّرهمِ تَعِسَ عبدُ الخَميصةِ تَعِسَ عبدُ الخميلة: إن أعطِيَ رضيَ وإن لم يُعْطَ سَخِطَ, تَعِسَ وانتَكَسَ, وإذا شِيكَ فلا انتُقِشَ. طَوبى لعَبدٍ آخِذ بعِنانِ فرَسهِ في سبيلِ اللهِ, أشعثٍ رأسُهُ مغبرةٍ قدماهُ, إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ, وإن كان في الساقة كان في الساقة. إنِ استأذَنَ لم يؤذَنْ له, وإن شَفَعَ لم يُشَفّعْ".
[الشرح]
هذا الباب باب عظيم من أبواب هذا الكتاب ترجمه الإمام رحمه الله بقوله (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا)، (من الشرك) يعني الشرك الأصغر، أن يريد الإنسان بأعماله التي يعملها من الطاعات الدنيا ولا يريد بها الآخرة، وإرادة الإنسان الدنيا -يعني ثواب الدنيا- أعم من حال الرياء، فالرياء حالة واحدة من أحوال إرادة الإنسان الدنيا؛ فهو يصلي أو يزيد ويزين في صلاته لأجل الرؤية ولأجل المدح؛ لكن هناك أحوال أخر لإرادة الناس بأعمالهم الدنيا، لهذا عطف الشيخ رحمه الله هذا الباب على الذي قبله ليبين أن إرادة الإنسان الدنيا تأتي في أحوال كثيرة أعم من حال الرياء بالخاصة؛ لكن الرياء جاء فيه الحديث وخافه النبي عله الصلاة والسلام على أمته فهو في وقوعه كثير والخوف منه جلل.
وهذا الباب اشتمل على الحكم بأنّ إرادة الإنسان بعمله الدنيا من الشرك وقوله (إرادة الإنسان ) يعني أن يعمل العمل وفي إرادته بعثه على العمل ثواب الحياة الدنيا، فهذا من الشرك بالله جل وجلاله، وسيأتي تفصيل أحوال ذلك.(1/353)
قال (وقال الله تعالى: ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[هود: 15-16]) هذه الآية -آية سورة هود- مخصوصة بقوله تعالى ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ?[الإسراء:18] فهي مخصوصة بمن شاء الله جل وعلا قال هنا (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) يعني ممن أراد الله جل وعلا له ذلك، وممن شاءه الله، فهذا العموم الذي هنا مخصوص بآية الإسراء وآية سورة الشورى.
الذين يريدون الحياة الدنيا أصلا وقصدا وتحركا هم الكفار، ولهذا نزلت هذه الآية في الكفار؛ لكن لفظها يشمل كل من أراد الحياة الدنيا بعمله الصالح.
ولهذا جمع الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالة له أحوال الناس فيها قال السلف تفسيرا لهذه الآية، وجعل كلام السلف يتناول أربعة أنواع من الناس كلهم يدخل في هذا الوعيد:(1/354)
النوع الأول: ممن ركبوا هذا الشرك الأصغر وأرادوا بعملهم الحياة الدنيا؛ أنه يعمل العمل الصالح وهو فيه مخلص لله جل وعلا؛ ولكن يريد به ثواب الدنيا ولا يريد ثواب الآخرة. مثلا يتعبد الله جل وعلا بالصلاة وفيها مخلص لله أداها على طواعية واختيار وامتثال لأمر الله؛ لكن يريد منها أن يصح بدنه، أو وصل رحمه وهو يريد منه أن يحصل له في الدنيا الذكر الطيب والصلة ونحو ذلك، أو عمل أعمالا من التجارة والصدقات وهو يريد بذلك تجارة لكي يكون عنده مال فيتصدق وهو يريد بذلك ثواب الدنيا، فهذا النوع عمل العبادة امتثالا للأمر ومخلصا فيها لله؛ ولكنه طامع في ثواب الدنيا، وليس له همة في الآخرة، ولم يعمل هربا من النار وطمعا في الجنة، فهذا داخل في هذا النوع، وداخل في قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ).
والأعمال التي يعملها العبد ويستحضر فيها ثواب الدنيا على قسمين:
القسم الأول: أن يكون العمل الذي عمله واستحضر فيه ثواب الدنيا وأراده ولم يرد ثواب الآخرة لم يرغِّب الشرع فيه بذكر ثواب الدنيا، مثل الصلاة والصيام ونحو ذلك من الأعمال والطاعات، فهذا لا يجوز له أن يريد به الدنيا ولو أراد به الدنيا فإنه مشرك ذلك الشرك.(1/355)
والقسم الثاني: أعمال رتب الشارع عليها ثوابا في الدنيا ورغّب فيها بذكر ثوابا لها في الدنيا، مثل صلة الرحم وبر الوالدين ونحو ذلك وقد قال عليه الصلاة والسلام "من سرَّه أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه"، فهذا النوع إذا استحضر في عمله حين يعمل هذا العمل استحضر ذلك الثواب الدنيوي، وأخلص لله في العمل، ولم يستحضر الثواب الأخروي، فهو داخل في الوعيد فهو من أنواع هذا الشرك؛ لكن إذا استحضر الثواب الدنيوي والثواب الأخروي معا، له رغبة فيما عند الله في الآخرة يطمع الجنة ويهرب من النار واستحضر ثواب هذا العمل في الدنيا، فإنه لا بأس بذلك؛ لأن الشرع ما رغب فيه بذكر الثواب في الدنيا إلا للحض عليه "فمن قتل قتيلا فله سلبه" فقتل القتيل في الجهاد لكي يحصل على السلب هذا؛ ولكن قصده من الجهاد الرغبة فيها عند الله جل وعلا مخلصا فيه لوجه الله، لكن أتى هذا من زيادة الترغيب له ولم يقتصر على هذه الدنيا، بل قلبه معلق أيضا بالآخرة، فهذا النوع لا بأس به ولا يدخل في النوع الأول مما ذكره السلف في هذه الآية.
النوع الثاني: مما ذكره السلف مما يدخل تحت هذه الآية (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) أنه يعمل العمل الصالح لأجل المال، فهو يعمل العمل لأجل ما يحصّله من المال، مثل أن يدرس يتعلم العلم الشرعي لأجل الوظيفة فقط، وليس في همه رفع الجهالة عن نفسه ومعرفة العبد بأمر ربه ونهيه والرغب في الجنة وما يقرب منها والهرب من النار وما يقرب منها، فهذا داخل في ذلك، أو حفظ القرآن ليكون إماما في المسجد ويكون له الرَّزق الذي يأتي من بيت المال، فغرضه من هذا العمل إنما هو المال، فهذا لم يعمل العمل صالحا، وإنما العمل الذي في ظاهره أنه صالح؛ ولكن في باطنه قد أراد به الدنيا.(1/356)
والنوع الثالث: أهل الرياء الذين يعملون الأعمال لأجل الرياء.
والنوع الرابع: الذين يعملون الأعمال الصالحة ومعهم ناقض من نواقض الإسلام، يعمل أعمال صالحة يصلي ويزكي ويتصدق ويقرأ القرآن ويتلو؛ ولكن هو مشرك الشرك الأكبر، فهذا وإن قال إنه مؤمن فليس بصادق في ذلك؛ لأنه لو كان صادق لوحّد الله جل وعلا.
فهذه بعض الأنواع التي ذكرت بتفسير هذه الآية وكلها داخلة تحت قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) فهؤلاء جميعا أرادوا الحياة الدنيا وزينتها ولم يكن هَمْ في رضى الله جل وعلا وطلب الآخرة من أصله بذلك العمل الذي عملوه.
هنا إشكال أورده بعض أهل العلم: وهو أنّ الله جل وعلا قال في الآية التي تليها (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وأنّ هذه في الكفار الأصليين أو في من قام به مكفر، أما المسلم الذي قامت به أراد الدنيا فإنه لا يدخل في هذه الآية؟
والجواب: أنه يدخل لأن السلف أدخلوا أصناف من المسلمين في هذه الآية، والوعيد بقوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) فيمن كانت إرادته الحياة الدنيا فلم يتقرب إلى الله جل وعلا بشيء، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) فهؤلاء أرادوا الدنيا بكل عمل وليس معهم من الإيمان والإسلام مصحح لأصل أعمالهم، فهؤلاء مخلدون في النار، أما الذي معه أصل الإيمان وأصل الإسلام الذي يصح به عمله فهذا قد يحبط العمل؛ بل يحبط عمله الذي أشرك فيه وأراد به الدنيا، وما عداه لا يحبط لأن معه أصل الإيمان الذي يصحح العمل الذي لم يخالطه شرك.(1/357)
فإذن فهذه الآية فيها الوعيد، وهذا الوعيد يشمل كما ذكرنا أربعة أصناف، وكما قال أهل العلم: إن العبرة هنا باللفظ لا بخصوص السبب، فهي وإن كانت في الكفار لكن لفظها يشمل من أراد الحياة الدنيا من غير الكفار.
قال (وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعِسَ عبدُ الدّينارِ تَعِسَ عبدُ الدّرهمِ تَعِسَ عبدُ الخَميصةِ تَعِسَ عبدُ الخميلة...) إلى آخر الحديث، وجه الشاهد من ذلك أنه دعا على عبد الدينار وعلى عبد الدرهم وعلى عبد الخميصة، وعبد الدينار هو الذي يعمل العمل لأجل الدينار، ولو لا الدينار لما تحركت همته في العمل، ولولا هذه الخميصة لما تحركت همته في العمل، فأراد العمل وعمل لأجل هذا الدينار، لأجل هذه الدنيا، لأجل الدراهم، لأجل الجاه، لأجل المكانة، لأجل الخميصة الخميلة ونحو ذلك، وقد سماه النبي عليه الصلاة والسلام عابدا للدينار، فدل ذلك على أنه من الشرك؛ لأن العبودية درجات منها عبودية الشرك الأصغر ومنها عبودية الشرك الأكبر.
فالذي يشرك بغير الله جل وهلا الشرك الأكبر وعابد له أهل الأوثان عبدة الأوثان، وأهل الصليب عبدة للصليب.
وكذلك من يعمل الشرك الأصغر ويتعلق قلبه بشيء من الدنيا فهو عابد لذلك، يقال عبد هذا الشيء؛ لأنه هو الذي حرك همته، ومعلوم أن العبد مطيع لسيده, مطيع له أينما وجهه توجه، فهذا الذي حركته وهمته للدنيا وللدينار وللدرهم عبد لها؛ لأن همته معلقة بتلك الأشياء، وإذا وجد لها سبيلا تحرك إليها، بدون النظر هل يوافق ذلك أمر الله جل وعلا أم لا يوافق أمر الله جل وعلا وشرعه. نعم.
¹
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً
وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ لِلَّهِ(1/358)
وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: ?فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رَدَّ بعض قوله أن يقع في قبله شيء من الزيغ فيهلِك.
وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية: ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إلهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?[التوبة:31]، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟". فقلت: بلي. قال: " فتلك عبادتهم ". رواه أحمد والترمذي وحسنه.
[الشرح](1/359)
(باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً) هذا الباب والأبواب بعده في بيان مقتضيات التوحيد ولوازم تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي وتستلزم أن يكون العبد مطيعا لله جل وعلا فيما أحل وفيما حرم؛ محلا للحلال ومحرما للحرام، لا يتحاكم إلا إليه جل وعلا، ولا يُحَكِّم في الدين إلا شرع الله جل وعلا والعلماء وظيفتهم تبيين معاني ما أنزل الله جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليست وظيفة العلماء التي أذن لهم بها في الشرع أنهم يحللون ما يشاءون أو يحرمون؛ بل وظيفتهم الاجتهاد في فقه النصوص وأن يبينوا ما أحل الله وما حرم الله جل وعلا، فهم أدوات ووسائل لفهم نصوص الكتاب والسنة، ولذلك طاعتهم تبع لطاعة الله ورسوله، يطاعون فيما فيه طاعة لله جل وعلا ولرسوله، وما كان في الأمور الاجتهادية فيطاعون؛ لأنهم هم أفقه بالنصوص من غيرهم، فتكون طاعة العلماء والأمراء من جهة الطاعة التبعية لله ولرسوله.
أما الطاعة الاستقلالية فليست إلا لله جل وعلا حتى طاعة النبي عليه الصلاة والسلام إنما هي تبع لطاعة الله جل وعلا، فإن الله هو الذي أذن بطاعته وهو الذي أمر بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا معنى الشهادة له بأنه رسول الله، قال جل وعلا ?مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ?[النساء:80]، وقال جل وعلا ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ?[النساء:64] فإذن الطاعة الاستقلالية هذه من العبادة، وهي نوع من أنواع العبادة، فيجب إفراد الله جل وعلا بها، وغير الله جل وعلا فإنما يطاع؛ لأن الله جل وعلا أذن بطاعته، ويطاع فيما أذن الله به في طاعته، فالمخلوق لا يطاع في معصية الله؛ لأن الله لم يأذن أن يطاع مخلوق في معصية الخالق جل وعلا، وإنما يطاع فيما أطاع الله جل وعلا فيه على النحو الذي يأتي.(1/360)
إذن هذا الباب عقده الشيخ ليبين أن الطاعة من أنواع العبادة؛ بل إن الطاعة في التحليل وفي التحريم هذه هي معنى اتخاذ الأرباب حيث قال الله جل وعلا (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) وما سيأتي من بيان حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -.
قال رحمه الله (باب من أطاع العلماء والأمراء)، (العلماء والأمراء) هم أولو الأمر لقوله جل وعلا ?أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ?[النساء:59]، قال العلماء أولو الأمر يشمل من له الأمر في حياة الناس في دينهم وهم العلماء وفي دنياهم وهم الأمراء, وقد قال هنا جل وعلا (وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ولم يكرر فعل الطاعة، قال ابن القيم وغيره: دل هذا على أن طاعة أولي الأمر ليست استقلالا وإنما يطاعون في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أمروا بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص من الكتاب والسنة فإنهم يطاعون في ذلك لما أذن الله به في ذلك ولما في ذلك من المصالح المرعية في الشرع، إذن من أطاع العلماء والأمراء هنا ذكر هذا الباب لأجل أن الطاعة نوع من أنواع العبادة، وهذه العبادة يجب أن يُفرد الله جل وعلا بها، فمن أطاع غير الله على هذا النحو الذي ذكره الشيخ فقد أشرك الشرك الأكبر بالله جل وعلا، قال (من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلّ الله) يعني في تحريم الذي أحل الله؛ فيكون هناك حلال في الشرع فيحرمونه يحرمه العالم أو يحرمه الأمير فيطيعه الناس وهم يعلمون أنه حلال؛ لكن يطيعونه في التحريم، والحلال يعني الذي أحله الله، أحل الله أكل الخبز فيقولون الخبز حرام عليكم دينا، فلا تأكلوا الخبز تدينا، ويحرمونه لأجل ذلك، فهذا طاعة لهم في تحريم ما أحل الله, قال (أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا)، (أو تحليل ما حرم(1/361)
الله) يعني أحلوا ما يُعلم أن الله حرمه حرم الله الخمر فأحله العلماء أو أحله الأمراء، فمن أطاع عالما أو أميرا في اعتقاد أنّ الخمر حلال وهو يعلم أنها حرام وأن الله حرمها فقد اتخذه ربا من دون الله جل وعلا.
إذن هنا في هذا الباب حكم، وهناك شرط:
فالحكم قوله في آخره (فقد اتخذهم أربابا) فهو جزاء الشرط.
والشرط قوله (من أطاع العلماء والأمراء).
وضابط هذا الشرط ما بينهما وهو قوله (في تحريم ما أحل الله, أو تحليل ما حرمه) وهذا يستفاد منه -يعني من اللفظ- أنهم عالمون بما أحل فحرموا طاعة عالمون بما حرم فأحلوه طاعة لأولئك.
وقوله في آخره (فقد اتخذهم أربابا) ذلك لأجل آية سورة براءة قال (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) وحديث عدي بن حاتم في ذلك.
والأرباب جمع الرب، والرب والإله لفظان يفترقان؛ لأن:
الرب: السيد الملك المتصرف في الأمر.
والإله: هو المعبود.
وقد سئل المصنف الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن الفرق بين الإله والرب في مثل هذه السياقات في نحو قوله ?وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:80]، وفي نحو قوله (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ): ما معنى الربوبية هنا؟
قال: الربوبية هنا بمعنى الألوهية, بمعنى المعبود؛ لأن من أطاع على ذلك النحو فقد عبد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي عندما قال: إنا لسنا نعبدهم. فعدي فهم من كلمة (أَرْبَابًا) العبادة، وقال النبي مقررا لذلك: "أليس يحرمون..."إلى آخره، فهو إقرارا منه عليه الصلاة والسلام؛ لأن معنى الربوبية هنا العبودية.(1/362)
فإذن قال الشيخ رحمه الله حينما سئل قال: الألوهية والربوبية أو كلمة الرب والإله من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت؛ (1) يعني كلفظ الفقير والمسكين وكلفظ الإسلام والإيمان وكنحوهما، لم؟ لأن الإلهَ يُطلق على المعبود، والرب جاء في نصوص كثيرة إطلاق الرب على المعبود، كما ذكرنا في الآيات وفي الحديث، وكقوله عليه الصلاة والسلام في مسائل القبر "فيأتيه ملكان فيسألانه من ربك؟" يعني من معبودك؛ لأن الابتلاء لم يقع في الرب الذي هو الخالق الرازق المحيي المميت.
فإذن لفظ الأرباب والآلهة إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت، فقد يطلق على الأرباب آلهة, على الآلهة أربابا، وهل هذا الإطلاق لأجل اللغة -يعني أن أصله في اللغة يدخل هذا في هذا وهذا في ذاك-؟ أم أنه لأجل اللزوم والتضمن؟
__________
(1) فاعلم أن الربوبية، والألوهية: يجتمعان، ويفترقان، كما في قوله ?أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس? وكما يقال رب العالمين، وإلهّ المرسلين؛ وعند الإفراد: يجتمعان، كما في قول القائل: من ربك؟
مثاله: الفقير والمسكين، نوعان في قوله: ?إنما الصدقات للفقراء والمساكين?[التوبة:60]، ونوع واحد في قوله: "افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد إلى فقرائهم" إذا ثبت هذا، فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك ؟ معناه من إلّهك؛ لأن الربوبية التي أقر بها المشركون، ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: ?الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا يقولوا ربنا الله?[الحج:40]، وقوله:?قل أغير الله أبغي رباً?[الأنعام:164]وقوله: ?إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا?[فصلت:30- الأحقاف:13].
فالربوبية في هذا، هي: الألوهية، ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران؛ فينبغي: التفطن لهذه المسألة.[الدرر السنية الجزء الأول ص106-107](1/363)
الظاهر -عندي- الأخير: يعني أنه لأجل اللزوم والتضمن فإن الربوبية مستلزمة للألوهية، والألوهية متضمنة للربوبية، فإذا ذُكر الإله فقد تضمن ذلك ذكر الرب، وإذا ذكر الرب فاستلزم ذلك ذكر الإله، ولهذا قال جل وعلا هنا(وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) يعني آلهة لاستلزام لفظ الربوبية للإلهية، وكذلك قوله (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا) يعني آلهة معبودين كما أتى تفصيله في الحديث.(1/364)
قال (وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!) هذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وإسناده عن عبد الرزاق عن معمر عن طاووس عن ابن عباس أو نحو ذلك، وقد ذكر إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع من الفتاوى بنصه فذكر الإسناد والمتن، (1) وغالب من خرجوا كتاب التوحيد قالوا إن هذا الأثر لا أصل له بهذا اللفظ، وهذه جراءة منهم حيث أنهم ظنوا أن كل كتب الحديث بين أيديهم، ولو تتبعوا كتب أهل العلم لوجدوا أنّ إسناده والحكم عليه موجود في كتبهم.
__________
(1) قال أحمد أخبرنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سالم قال سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك تخالف أباك فقال عمر لم يقل الذي تقولون إنما قال عمر إفراد الحج من العمرة فإنها أتم للعمرة أو أن العمرة لا تتم فى أشهر الحج إلا أن يهدي وأراد أن يزار البيت في غير أشهر الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتهم الناس عليها وقد أحلها الله وعمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أكثروا عليه قال أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر وكان ابن عباس يأمر بها فيقولون إن أبا بكر وعمر لم يفعلاها فيقول يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال النبى - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر [ابن تيمية، مجموعة الفتاوى، دار الجيل، ط 1، 1418هـ-1997م، (م13/ج26/ص31)](1/365)
المقصود ما اشتمل عليه هذا الأثر وهو قوله(يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر) الواجب على المسلم أنه إذا سمع حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم فقهه أو بينه له أهل العلم فإنه لا يترك ذلك الحديث والذي فقهه لقول أحد كائنا من كان، ذا كان(1) [الحديث ظاهرا في الدلالة على ذلك، وكان القول الآخر لا دليل عليه، أما إذا كانت المسألة اجتهادية في الحديث من جهة الفهم، فهذا مجاله واسع، وابن عباس رضي الله عنهما يُحمل كلامه هذا على أن هؤلاء الذين قالوا له تلك المقالة، قالوا له: قال أبو بكر وعمر]. (2)عارضوا قوله في المتعة بقول أبي بكر وعمر الذي هو مناقض لصريح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يذهبان إلى أنّ إفراد الحج أفضل من التمتع، وابن عباس كان يوجب التمتع ويسوق الأدلة في ذلك، وقول أبي بكر وعمر أخذ به طائفة من أهل العلم كمالك وغيره؛ بل قال طائفة إن إفراده الحج وسفره مرة أخرى للعمرة خير له من أن يجمع بين حج وعمرة في سفرة واحدة كما هو اختيار شيخ الإسلام واختيار غيره من المحققين.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني عشر.
(2) سقط من الأشرطة، ونقلته من تفريغ جامع ابن تيمية.(1/366)
المقصود من ذلك أن كلام ابن عباس هذا ليس في المسألة الفقهية؛ يعني فقه كلام ابن عباس فيما أراده الشيخ ليس فيما يتعلق بمسألة التمتع والإفراد؛ ولكن في مسألة عموم لفظه وهو أنه لا يعارض قول النبي عليه الصلاة والسلام الظاهر معناه بقول أحد لا دليل له على قوله ولو كان ذلك القائل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فكيف بمن دونهما من التابعين أو من الصحابة فكيف بأئمة أهل المذاهب وأصحاب أهل المذاهب رحمهم الله تعالى، واحترام العلماء وأهل المذاهب واجب؛ لكن أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يتركها لقول أحد كائنا من كان.
قال(وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أحد العلماء المعروفين وكان له مذهب وكان له أتباع، قال الإمام أحمد (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته) يعني في ذلك الحديث الذي تنازعوا فيه, ويذهبون إلى رأي سفيان, فقوله (يذهبون إلى رأي سفيان) يدل على أن سفيان لم يكن له مستند على ما ذهب إليه، وهو عالم من العلماء وأحد الزهّاد الصالحين المشهورين؛ ولكن قد تخفاه السنة فيكون حكم برأيه أو بتقعيد عنده, لكن السنة جاءت بخلاف ذلك، فلا يسوغ أن يجعل رأي سفيان في مقابل الحديث النبوي على النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1/367)
قال (والله تعالى يقول: ?فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قبله شيء من الزيغ فيهلك) إذا ردّ بعض قول النبي عليه الصلاة والسلام بقول أحد يخشى عليه أن يعاقب فيقع في قلبه الزيغ، قال الله جل وعلا عن اليهود ?فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ?[الصف:5]، فهم زاغوا بمحض إرادتهم واختيارهم مع بيان الحجج وظهور الدلائل والبراهين, لكن لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم عقوبة منه لهم على ذلك, وهذا معنى (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) يعني نوع شرك, وقد يصل ذلك إلى الشرك الأكبر بالله جل وعلا، إذا كان في تحليل الحرام مع العلم بأنه حرام، وتحريم الحلال مع العلم بأنه حلال.
قال (وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية: ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إلهاً وَاحِداً?[التوبة:31]الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم) فيه أنهم فهموا من معنى قوله(أَرْبَابًا) أنه معناه المعبودين، (قال عليه الصلاة والسلام "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟". فقلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم". رواه أحمد والترمذي وحسنه) هذا الحديث فيه بيان أن طاعة الأحبار والرهبان قد تصل إلى الشرك الكبر واتخاذ أولئك أربابا ومعبودين.
والأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العُبّاد.
وطاعة الأحبار في التحليل والتحريم على درجتين:(1/368)
الدرجة الأولى: أن يطيع العلماء أو الأمراء في تبديل الدين؛ يعني في جعل الحرام حلالا وفي جعل الحلال حراما، فيطيعهم في تبديل الدين وهو يعلم أن الحرام قد حرمه الله؛ ولكن أطاعهم تعظيما لهم، فحلّل ما أحلوه طاعة لهم وتعظيما وهو يعلم أنه حرام، حلل يعني اعتقد أنه حلال وأمضى أنه حلال وهو حرام في نفسه، أو حرّم تبعا لتحريمهم وهم يعلم أن ما حرموه من الحلال أنه غلط وأن الحلال حلال؛ ولكنه حرم تبعا لتحريمهم، هذا يكون قد أطاع العلماء أو الأمراء في تبديل أصل الدين، فهذا هو الذي اتخذهم أربابا، وهو الكفر الأكبر والشرك الأكبر بالله جل وعلا، وهذا هو الذي صرف عبادة الطاعة إلى غير الله، ولهذا قال الشيخ سليمان رحمه الله في شرحه لكتاب التوحيد قال: الطاعة هنا في هذا الباب المراد بها طاعة خاصة وهي الطاعة في تحليل الحرام أو تحريم الحلال. وهذا ظاهر.
الدرجة الثانية: أن يطيع الحبْرَ أو يطيع الأمير أو يطيع الرهبان في تحريم الحلال أو في تحليل الحرام من جهة العمل، أطاع، وهو يعلم أنه عاصي بذلك ومعترف بالمعصية؛ لكن اتبعهم عملا وقلبه لم يجعل الحلال حراما، وقلبه لم يجعل طاعة أولئك في قلبهم الحلال حراما متعينا أو سائغا؛ ولكن أطاعهم حبا له في المعصية أو حبا له في مجاراتهم؛ ولكن في داخله الحلال هو الحلال والحرام هو الحرام فما بدَّل الدين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب.
وهاتان الدرجتان هما من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الآية، هذا وأمثاله له حكم أمثاله من أهل الذنوب والعصيان؛ لأنه ما حرّم الحلال ولا أحلّ الحرام وإنما فعل الحرام من جهة العصيان، وجعل الحلال حراما من جهة العصيان لا من جهة تبديل أصل الدين.(1/369)
والرهبان عبادتهم هي عبادة العبّاد، ويريد الشيخ رحمه الله بذكر الرهبان وبإيراده للآية التنبيه على أن الطاعة في تحليل الحرام وتحريم الحلال جاءت أيضا من جهة الرهبان -من جهة العباد-، وهذا عند المتصوفة والطرق الصوفية وأهل الغلاة وأهل الغلو في التصوف والغلاة في تعظيم رؤساء الصوفية؛ فإنهم أطاعوا مشايخهم والعبّاد والأولياء الذين زعموا أنهم أولياء أطاعوهم في تغيير الملة، فهم يعلمون أن السنة هي كذا وكذا وأنّ خلافها بدعة، يعلمون ذلك، فأطاعوا تعظيما للشيخ تعظيما للعابد، أو يعلمون أن هدا شرك في القرآن والدلائل عليه ظاهرة؛ لكن تركوه وأباحوا ذلك الشرك وأحلوه؛ لأن شيخهم ومقدَّمهم ورئيس طريقتهم أحله، وهذا كان في نجد كثيرا إبان ظهور الشيخ بدعوته، وهو موجود في كثير من الأمصار، وهو نوع من اتخاذ أولئك العباد أربابا من دون الله جل وعلا.
وهذا المقام أيضا فيه تفصيل على نحو درجتين اللتين ذكرتهما عن شيخ الإسلام رحمه الله.
¹
باب قول تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً(60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أًرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا?[النساء:60-62].
وقوله: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ?[البقرة:11].(1/370)
وقوله: ?وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ?[الأعراف:56].
وقوله: ?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ?[المائدة:50].
وعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتى يَكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ". قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب (الحجة)، بإسناد صحيح.(1)
وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد -لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة- وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود -لعلمه أنهم يأخذون الرشوة- فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه, فنزلت ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ?الآية.
وقيل نزلت في رجلين اختصما, فقال أحدهما نترافع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -, وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف, ثم ترافعا إلى عمر, فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول - صلى الله عليه وسلم -: أكذلك؟ قال: نعم, فضربه بالسيف فقتله.
[الشرح]
__________
(1) قال الشيخ صالح آل الشيخ عند شرحه لهذا الحديث في الأربعين النووية: هذا الحديث حديث مشهور؛ وذلك لكونه في كتاب التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتى يَكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ) وهذا حديث حسن، كما حسنه هنا النووي، بل قال(حديث حسن صحيح)، وسبب تحسينه أنه في معنى الآية وهي قوله جل وعلا?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:65] وتحسين الحديث، بمجيء آية فيها معناه مذهبُ كثير من المتقدمين من أهل العلم كابن جرير الطبري، وجماعة من حذاق الأئمة والمحدثين.(1/371)
هذا الباب من الأبواب العظيمة المهمة في هذا الكتاب؛ وذلك لأن إفراد الله جل وعلا بالوَحدانية في ربوبيته وفي إلهيته يتضمن ويقتضي ويستلزم -جميعا- أن يُفرد في الحكم، كما أنه جل وعلا لا حكم إلا حكمه في ملكوته، فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس وفي الفصل بين الناس، فالله جل وعلا هو الحَكم وإليه الحُكم سبحانه وتعالى، قال جل وعلا ?فَالحُكْمُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ?[غافر:12]، وقال جل وعلا ?إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهْ?(1)، فتوحيد الله جل وعلا في الطاعة وتحقيق شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكِّمين لما أنزل الله جل وعلى رسوله، وترك تحكيم ما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بحكم الجاهلية؛ بحكم القوانين أو بحكم سواليف البادية أو بكل حكم مخالف لحكم الله جل وعلا، هذا من الكفر الأكبر بالله جلّ جلاله ومما يناقض كلمة التوحيد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
لهذا عقد الشيخ رحمه الله هذا الباب أن الحكم بما أنزل الله فرض، وأن ترك الحكم بما أنزل الله وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين وتنزيل ذلك منزلة القرآن أن ذلك شرك أكبر بالله جل وعلا وكفر مخرج من ملة الإسلام.
قال الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في أول رسالته تحكيم القوانين: إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون العين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ليكون حكما بين العالمين مناقضة ومحادة لما نزل من رب العالمين. أو نحو ما قال رحمه الله تعالى.
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة، إفراد الله بالحكم، وتحقيق شهادة أن لا اله إلا الله محمدا رسول الله يقتضي أن لا يحكم إلا بشرعه.
__________
(1) الأنعام:57، يوسف:40، 67.(1/372)
فلهذا الحكم بالقوانين الوضعية أو الحكم سواليف البادية هذا كله من الكفر الأكبر بالله جل وعلا، وتحكيم القوانين كفر بالله جل وعلا لقوله تعالى هنا في هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ).
فإذن مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة وهي أنّ التحاكم إلى غير شرع الله هذا قدح في أصل التوحيد، وأن الحكم بشرع الله واجب فإن تحكيم القوانين أو سواليف البادية أو أمور الجاهلية هذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله أنْ يطاع فيما أمروا وأن يصدق فيما أخبر وأن يجتنب ما عنه نهى وزجرـ وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فالحكم بين المتخاصمين هذا لابد أن يرجع فيه إلى حكم من خلق المتخاصمين ومن خلق الأرض والسماوات، فالحكم الكوني القدري لله جل وعلا، كذلك الحكم الشرعي لله جل وعلا، فيجب أن يكون العباد ليس بينهم إلا تحكيم أمر الله جل وعلا؛ إذْ ذلك هو حقيقة التوحيد في طاعة الله جل وعلا في مسائل التخاصم بين الخلق.
قال رحمه الله (باب قول الله تعالى ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ?)، قوله (يَزْعُمُونَ) يدل على أنهم كَذَبَة، فلا يجتمع الإيمان مع إرادة الحكم والتحاكم إلى الطاغوت، قال (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)، وقوله (يُرِيدُونَ) هذا ضابط مهم وشرط في نفي أصل الإيمان عمن حاكم إلى الطاغوت:
"فإن من تحاكم إلى الطاغوت قد يكون بإرادته وهي الطواعية والاختيار والرغبة في ذلك وعدم الكراهة.
"وقد يكون بعدم إرادته، بأن يكون مجبرا على ذلك وليس له في ذلك اختيار وهو كاره لذلك.(1/373)
فالأول: هو الذي ينتفي عنه الإيمان، لا يجتمع الإيمان بالله وبما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فالإرادة شرط؛ لأن الله جل وعلا جعلها في ذلك مساق الشرط، فقال (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) و(أَنْ يَتَحَاكَمُوا) هذا مصدر يعني يريدون التحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت اسم لكل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع.
قال جل وعلا (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) يعني أن يكفروا بالطاغوت، أن يكفروا بكل تحاكم إلى غير شرع الله جل وعلا، فالأمر بالكفر بالتحاكم إلى الطاغوت هذا أمر واجب ومن أفراد التوحيد ومن أفراد تعظيم الله جل وعلا في ربوبيته، فمن تحاكم إلى الطاغوت بإرادته فهذا انتفى عنه الإيمان أصلا كما دلّت عليه الآية، قال (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) دل ذلك على أن هذا من وحي الشيطان ومن تسويله.
قال (قوله تعالى: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ?[البقرة:11]) الإفساد في الأرض بتحكيم غير شرع الله وبالإشراك بالله، فالأرض إصلاحها بالشريعة وبالتوحيد, وإفسادها بالشرك بأنواعه الذي منه الشرك في الطاعة، ولهذا ساق الشيخ هذه الآية تحت هذا الباب لأجل أن يبين لك أن صلاح الأرض بالتوحيد الذي منه إفراد الله جل وعلا بالطاعة وأن لا يحاكَم إلا إلى شرعه، وأن إفساد الأرض بالشرك الذي منه أن يُجعل حكم غير الله جل وعلا جائزا في التحاكم إليه.(1/374)
قال (وقوله ?وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا?[الأعراف:56]) والآية التي قبلها (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ظاهرة في أن من خصال المنافقين أنهم يسعون في الشرك وفي وسائله وأفراده، ويقولون إنما نحن مصلحون، وفي الحقيقة أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون؛ لأنهم إذا أرادوا الشرك ورغبوا فيه وحاكموا وتحاكموا إلى غير شرع الله فإن ذلك هو الفساد، والسعي فيه سعي في الإفساد.
قال (وقوله ?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ?[المائدة:50]) الجاهلية يحكم بعضهم على بعض؛ يعني البشر يسنّ شريعة فيجعلها حاكمة، والله جل وعلا هو الذي خلق العباد وهو أعلم بما يصلحهم وما فيه العدل في الفصل بين تخاصماتهم والفصل في أقضيتهم وخصوماتهم، فمن حاكم إلى شرائع الجاهلية فقد حكّم البشر؛ ومعنى ذلك أنه اتخذه مطاعا من دون الله أو جعله شريكا لله جل وعلا في عبادة الطاعة، والواجب أنّ العبد يجعل حكمه وتحاكمه إلى الله جل وعلا دون ما سواه، والله جل وعلا حكمه هو أحسن الأحكام ?أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا?[الأنعام:114]، وقال هنا (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ), فدلَّ على أن حكم غيره إنما هو كما قال: طائفة زبالة أذهان ونحاتة أفكار لا تساوي شيئا عند من عقل تصرف الله جل وعلا في ملكه وملكوته، وأن ليس ثم حكم إلا حكم الرب جل وعلا.
هذه المسألة وهي مسألة التحاكم إلى غير شرع الله من المسائل التي يقع فيها خلط كثير خاصة عند الشباب؛ وذلك في هذه البلاد وفي غيرها، وهي من أسباب تفرّق المسلمين؛ لأن نظر الناس فيها لم يكن واحدا.
والواجب أن يتحرّ طالب العلم ما دلت عليه الأدلة وما بيَّن العلماء من معاني تلك الأدلة وما فقهوه من أصول الشرع والتوحيد وما بينوه في تلك المسائل.(1/375)
ومن أوجه الخلط في ذلك أنهم جعلوا المسألة في مسألة الحكم والتحاكم واحدة؛ يعني جعلوها صورة واحدة، وهي متعددة الصور:
فمِن صورها أن يكون هناك تشريع لتقنين مستقل يضاهى به حكم الله جل وعلا؛ يعني قانون مستقل يشرَّع، هذا التقنين من حيث وَضْعُه كفر، والواضع له -يعني المشرِّع، والسَّان لذلك، وجاعل هذا التشريع منسوبا إليه- وهو الذي حكم بهذه الأحكام، هذا المشرِّع كافر، وكفره ظاهر؛ لأنه جعل نفسه طاغوتا فدعا الناس إلى عبادته وهو راض -عبادة الطاعة-.
وهناك من يحكم بهذا التقنين، هذه الحالة الثانية.
"فالمشرِّع حالة.
"ومن يحكم بذلك التشريع حالة.
"ومن يتحاكم إليه حالة.
"ومن يجعله في بلده -من جهة الدول- هذه حالة رابعة.
وصارت عندنا الأحوال أربعة.
المشرِّع ومن أطاعه في جعل الحلال حراما والحرام حلالا ومناقضة شرع الله هذا كافر، ومن أطاعه في ذلك فقد اتخذه ربا من دون الله.
والحاكم بذلك التشريع فيه تفصيل:
فإن حكم مرة أو مرتين أو أكثر من ذلك، ولم يكن ذلك ديدنا له، وهو يعلم أنه عاص؛ يعني من جهة القاضي الذي حكم يعلم أنه عاص وحكم بغير شرع الله، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب، ولا يكفَّر حتى يستحل، ولهذا تجد أن بعض أهل العلم يقول: الحكم بغير شرع الله لا يكفر به إلا إذا استحل. فهذا صحيح؛ ولكن لا تنزل هذه الحالة على حالة التقنين والتشريع، فالحاكم كما قال ابن عباس: كفر دون كفر ليس الذي يذهبون إليه، هو كفر دون كفر؛ يعني من حكم في مسألة، أو في مسألتين بهواه بغير شرع الله، وهو يعلم أنه عاص ولم يستحل، هذا كفر دون كفر.
أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتا، ويحكم دائما ويلزم الناس بغير شرع الله، فهذا:(1/376)
µ من أهل العلم من قال يكفر مطلقا ككفر الذي سنّ القانون؛ لأن الله جل وعلا قال (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقا جعله طاغوتا، وقال (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ).
µ ومن أهل العلم من قال: حتى هذا النوع لا يكفر حتى يستحل؛ لأنه قد يعمل ذلك ويحكم وهو في نفسه عاصي، فله حكم أمثاله من المدمنين على المعصية الذين لم يتوبوا منها.
والقول الأول من أن الذي يحكم دائما بغير شرع الله ويُلزم الناس بغير شرع الله أنه كافر هو الصحيح عندي، وهو قول الجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالة تحكيم القوانين؛ لأنه لا يصدر في الواقع من قلبٍ قد كفر بالطاغوت؛ بل لا يصدر إلا ممن عظّم القانون وعظم الحكم بالقانون.
الحال الثالثة حال المتحاكم, الحالة الأولى -ذكرنا- حال المشرِّع، الحال الثاني حال الحاكم.
الحال الثالثة حال المتحاكم؛ يعني الذي يذهب هو وخصمه ويتحاكمون إلى قانون، فهذا فيه تفصيل أيضا وهو:
µ إن كان يريد التحاكم له رغبة في ذلك ويرى أن الحكم بذلك سائغ وهو يريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ولا يكره ذلك، فهذا كافر أيضا؛ لأنه داخل في هذه الآية، ولا يجتمع ذلك كما قال العلماء إرادة التحاكم إلى الطاغوت مع الإيمان بالله؛ بل هذا ينفي هذا والله جل وعلا قال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ).
µ الحالة الثانية أنه لا يريد التحاكم؛ ولكنه حاكم إما بإجباره على ذلك كما يحصل في البلاد الأخرى أنه يجبر أن يحضر مع خصمه إلى قاض يحكم بالقانون، أو أنه علم أن الحق له في الشرع، فرفع الأمر إلى القاضي في القانون لعلمه أنه يوافق حكم الشرع، فهذا الذي رفع أمره في الدعوة على خصمه إلى قاض قانوني لعلمه أن الشرع يعطيه حقه وأن القانون وافق الشرع في ذلك:
"فهذا الأصح أيضا عندي أنه جائز.
"وبعض أهل العلم يقول يشركه ولو كان الحق له.(1/377)
والله جل وعلا وصف المنافقين بقوله ?وَإِن يَّكُنْ لَهُم الحَقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ?[النور:49]، فالذي يرى أن الحق ثبت له في الشرع وما أجاز لنفسه أن يترافع إلى غير الشرع إلا لأنه يأتيه ما جعله الله جل وعلا له مشروعا، فهذا لا يدخل في إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فهو كاره ولكنه حاكم إلى الشرع، فعلم أن الشرع يحكم له فجعل الحكم الذي عند القانوني جعله وسيلة لإيصال الحق الذي ثبت له شرعا إليه.
هذه ثلاث أحوال.
الحال الرابع حال الدولة التي تحكم بغير الشرع؛ تحكم بالقانون, الدول التي تحكم بالقانون أيضا بحسب كلام الشيخ محمد بن إبراهيم وتفصيل الكلام في هذه المسألة في فتاويه قال أو مقتضى كلامه وحاصله: أن الكفر بالقانون فرض، وأن تحكيم القانون في الدول:
"إن كان خفيا نادرا فالأرض أرض إسلام؛ يعني الدولة دولة إسلام، فيكون له حكم أمثاله من الشِّركيات التي تكون له في الأرض.
"قال: إن كان ظاهرا فاشيا فالدار دار كفر؛ يعني الدولة دولة كفر.
فيصبح الحكم على الدولة راجع إلى هذا التفصيل:
"إن كان تحكيم القانون قليلا وخفيا، فهذا لها حكم أمثاله من الدول الظالمة أو التي لها ذنوب وعصيان، وظهور أو وجود بعض الشركيات في دولتها.
"وإن كان ظاهرا فاشيا -الظهور يضاده الخفاء والفشو يضاده القلة- قال: فالدار دار كفر.
وهذا التفصيل هو الصحيح؛ لأننا نعلم أنه في دول الإسلام صار هناك تشريعات غير موافقة لشرع الله جل وعلا، والعلماء في الأزمنة الأولى ما حكموا على الدار بأنها دار كفر ولا على تلك الدول بأنها دول كفرية؛ ذلك لأن الشرك له أثر على الدار -إذا قلنا الدار يعني الدولة- فمتى كان ظاهرا فاشيا فالدولة دولة كفر، ومتى كان قليلا ظاهرا وينكر فالأرض أرض إسلام والدار دار إسلام، وبالتالي فالدولة دولة إسلام.(1/378)
وهذا التفصيل يتضح به هذا المقام، وبه تجمع بين كلام العلماء، ولا تجد مضادة بين قول عالم وعالم، ولا تشتبه المسألة إن شاء الله تعالى.
¹
باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
وقوله الله تعالى: ?وَهُمْ يَكْفُرُونُ بِالرَّحْمَن قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ?[الرعد:30].
وفي صحيح البخاري: قال علي:حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟!.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلا انتفض -لما سمع حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات, استنكارا لذلك- فقال: ما فَرَق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه, ويهلكون عند متشابهه.انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: ?وَهُمْ يَكْفُرُونُ بِالرَّحْمَن?[الرعد:30].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا الباب ترجم له إمام هذه الدعوة بقوله (باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات) يعني وما يلحقه من الذم، وأن جحد شيئا من الأسماء والصفات منافٍ لأصل التوحيد ومن خصال الكفار والمشركين.
وقد ذكرنا لكم فيما سبق أنّ توحيد الإلهية عليه براهين، ومن براهينه توحيد المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فمن أدلة توحيد الإلهية توحيد الربوبية كما سبق أن مر معنا في (باب قول الله تعالى?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191]).(1/379)
وكذلك توحيد الأسماء والصفات برهان على توحيد الإلهية، ومن حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات، فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الإلهية، ولهذا تجد أن المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله وفي صفاته من هذه الأمة -من الجهمية والمعتزلة والرافضة والأشاعرة والماتريدية ونحو هؤلاء- تجد أنهم لما انحرفوا في باب توحيد الأسماء والصفات لم يعلموا حقيقة معنى توحيد الإلهية؛ ففسروا الإله بغير معناه، وفسروا لا إله إلا الله بغير معناها الذي دلت عليه اللغة ودل عليه الشرع، وكذلك لم يعلموا متعلقات الأسماء والصفات وآثار الأسماء والصفات في ملك الله جل وعلا وسلطانه.
لهذا عقد الشيخ رحمه الله هذا الباب؛ لأجل أن يبين لك أن تعظيم الأسماء والصفات من كمال التوحيد، وأن جحد الأسماء والصفات منافٍ لأصل التوحيد، فالذي يجحد اسما سمى الله به نفسه أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وثبت ذلك عنه وتيقنه، فإنه يكون كافرا بالله جل وعلا، كما قال سبحانه عن المشركين (وَهُمْ يَكْفُرُونُ بِالرَّحْمَن).(1/380)
والواجب على العباد -على أهل هذه الملة- أن يؤمنوا بتوحيد الله جل وعلا في أسمائه وصفاته، ومعنى الإيمان بالتوحيد هذا -يعني بتوحيد الله في أسمائه وصفاته- أن يتيقن ويؤمن بأن الله جل وعلا ليس له مثيل في أسمائه، وليس له مثيل في صفاته، كما قال جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] فنفى وأثبت، فنفى أن يماثل الله شيء جل وعلا، وأثبت له صفتي السمع والبصر، قال العلماء: قدم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة أن التخلية تسبق التحلية حتى ليتخلى القلب من كل براثن التمثيل ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه أو تشبيه خلق الله به، فإذا خلى القلب من كل ذلك من براثن التشبيه والتمثيل أثبت ما يستحقه الله جل وعلا من الصفات، فأثبت هنا صفتين وهما السمع والبصر، وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات دون ذكر غير السمع والبصر من الصفات أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء؛ لأن صفتي السمع والبصر مشتركة بين أكثر المخلوقات الحية، وجل المخلوقات الحية التي حياتها بالروح بالنفس وليست حياتها بالنماء فإن السمع والبصر موجود فيها جميعا، فالإنسان له سمع وبصر، وسائر أصناف الحيوانات كل له سمع وبصر، الذباب له سمع وبصر يناسبه، والبعير له سمع وبصر يناسبه، وسائر الطيور والسمك في الماء، والدواب الصغيرة والحشرات كل له سمع وبصر يناسبه.
ومن المتقرر عند كل عاقل أن سمع هذه الحيوانات ليس متماثلا، وأن بصرها ليس متماثلا، وأن سمع الحيوان ليس مماثلا لسمع الإنسان، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات، وكذلك البصر.(1/381)
فإذا كان كذلك كان اشتراك المخلوقات التي لها سمه وبصر في السمع والبصر اشتراك في أصل المعنى، ولكل سمع وبصر بما قُدِّر له وما يناسب ذاته، فإذا كان كذلك ولم يكن وجود السمع والبصر في الحيوان وفي الإنسان مقتضيا لتشبيه الحيوان بالإنسان، فكذلك إثبات السمع والبصر للملك الحي القيوم ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان أو في المخلوقات، فلله جل وعلا سمع وبصر يليق به، كما أن للمخلوق سمع وبصر يليق بذاته الحقيرة الوضيعة، فسمع الله كامل مطلق من جميع الوجوه لا يعتريه نقص، وبصره كذلك، واسم الله السميع هو الذي استغرق كل الكمال من صفة السمع، وكذلك اسم الله البصير هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر.
فدل ذلك على أن النفي مقدّم على الإثبات، والنفي يكون مجملا والإثبات يكون مفصلا.
فالواجب على العباد أن يعلموا أن الله جل جلاله متصف بالأسماء الحسنى وبالصفات العلى، وأن لا يجحدوا شيئا من صفاته، ومن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته فهو كافر؛ لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين.
والإيمان بالأسماء والصفات يقوى اليقين بالله، وهو سبب لمعرفة الله والعلم به؛ بل إنَّ العلم بالله ومعرفة الله جل وعلا تكون بمعرفة أسمائه وصفاته وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله جل وعلا، وهذا باب عظيم ربما يأتي له زيادة إيضاح عند (باب قوله تعالى ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا?[الأعراف:180]).
إذن تلخَّص هنا أن قوله (باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات) صلة ذلك بكتاب التوحيد من جهتين:
الجهة الأولى: أن من براهين توحيد العبادة توحيد الأسماء والصفات.
والثانية: أن جحد شيء من الأسماء والصفات شرك وكفر مخرج من الملة إذا ثبت الاسم أو ثبت الصفة وعلم أن الله جل وعلا أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم جحدها أصلا -يعني نفاها أصلا-، فإن هذا كفر؛ لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة.(1/382)
قال (وقوله الله تعالى: ?وَهُمْ يَكْفُرُونُ بِالرَّحْمَن?[الرعد:30]الآية) (1)، (الرَّحْمَن) من أسماء الله جل وعلا، والمشركون والكفار في مكة قالوا لا نعلم (الرحمان) إلا رحمان اليمامة، فكفروا باسم الله (الرحمن) وهذا كفر بنفسه, و لهذا قال جل وعلا (وَهُمْ يَكْفُرُونُ بِالرَّحْمَن) يعني باسم الله (الرحمن)، وهذا اسم من أسماء الله الحسنى، وهو مشتمل على صفة الرحمة؛ لأن الرحمن مشتقٌّ أو فيه صفة الرحمة, ومبني على وجه المبالغة، فالرحمن أبلغ في اشتماله على صفة الرحمة من اسم الرحيم، ولهذا لم يتسمَّ به على الحقيقة إلا الله جل وعلا، فهو من أسماء الله العظيمة التي لا يشركه فيها لأحد, أما الرحيم فقد أطلق الله جل وعلا على بعض عباده بأنهم رحماء و أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - رحيم كما قال ?بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة: 128].
الاسم والصفة بينهما ارتباط من جهة أنّ كل اسم لله جل وعلا مشتمل على صفة، أسماء الله ليست جامدة -ليست مشتملة على معانٍ-؛ بل كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة، فالاسم من أسماء الله يدل على مجموع شيئين بالمطابقة وهما الذات والصفة التي اشتمل عليها الاسم، ويدل على أحد هذين -الذات أو الصفة- بالتضمن.
ولهذا نقول: كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة من صفات الله، ومطابقة الاسم لمعناه لأنه دال على كل من الذات وعلى الصفة، الذات المتصفة بالصفة, حتى اسم (الله)؛ لفظ الجلالة (الله) الذي هو علم على المعبود بحق جل وعلا مشتق على الصحيح من قولي أهل العلم مشتق؛ لأن أصله الإله ولكن أطلق الله تخفيفا لكثرة دعائه وندائه بذلك في أصل العربية فهو مأخوذ من الإله وهي العبادة، الله هو المعبود ليس اسما جامدا بل هو مشتق من ذلك.
وهكذا جميع الصفات التي في الأسماء كلها, وهكذا جميع الصفات التي تتضمنها الأسماء كلها دالة على كمال الله جل وعلا على عظمته.
__________
(1) انتهى الشريط الثاني عشر.(1/383)
فالعبد المؤمن إذا أراد أن يكمل توحيده فليُعظم العناية بالأسماء و الصفات؛ لأن معرفة الاسم والصفة يجعل العبد يراقب الله جل وعلا وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده وقلبه وعلمه بالله ومعرفته، كما سيأتي في تقاسيم الأسماء والصفات.
قال(وفي صحيح البخاري: قال علي:حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟!) هذا فيه دليل على أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد، فإن من العلم ما هو خاص ولو كان نافعا في نفسه ومن أمور التوحيد؛ لكن ربما لم يعرفه كثير من الناس، وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات، من مثل بعض مباحث الأسماء و الصفات، وذكر بعض الصفات لله جل وعلا فإنها لا تناسب كل أحد، حتى إنّ بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليهم بعض المسائل الدقيقة في الأسماء والصفات؛ ولكن يؤمرون بالإيمان بذلك إجمالا، والإيمان بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب و السنة، أما دقائق البحث في الأسماء والصفات فإنما هي للخاصة ولا تناسب العامة ولا تناسب المبتدئين في طلب العلم؛ لأن منها ما يشكل ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يكذب الله ورسوله كما قال هنا علي - رضي الله عنه - (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله).
فمناسبة هذا الأثر بهذا الباب أن من أسباب جحد الأسماء والصفات أن يحدث المرء الناس بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات، الناس عندهم إيمان إجمالي بالأسماء والصفات يصح معه توحيدهم وإيمانهم وإسلامهم، فالدخول في تفاصيل ذلك غير مناسب، إلا إذا كان المخلص يعقل ذلك ويعيه، وهذا ليست بحالة أكثر الناس.(1/384)
ولهذا الإمام مالك رحمه الله لما حُدِّث عنده بحديث الصورة فنهي المتحدث بذلك؛ لأن العامة لا يحسنون فهم مثل هذه المباحث، وهكذا في بعض المسائل في الأسماء و الصفات لا تناسب العامة، فقد يكون سبب الجحد أن حدثت من لا يعقل البحث فيؤول به ذلك -وهو أن البحث فوق عقله، وفوق مستواه، وفوق ما تقدمه من العلم- أن يؤدى به ذلك إلى أن يجحد شيئا من العلم بالله جل وعلا، أو أن يجحد شيئا من الأسماء و الصفات.
فالواجب على المسلم وخاصة طالب العلم أن لا يجعل الناس يكذبون شيئا مما قاله الله جل وعلا أو أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ووسيلة ذلك التكذيب أن يحدِّث الناس بما لا يعرفون، يحدث الناس بحديث لا يبلغه عقولهم، كما جاء في الحديث الآخر "ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا إذا كان لبعضهم فتنة"، وقد بوب على ذلك البخاري في الصحيح في كتاب العلم لقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقفوا فيما أشد منه.
وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي للمعلم وللمتحدث وللواعظ وللخطيب أن يعيه؛ في أن يحدث الناس بما يعرفون و أن يجعل تقوية التوحيد، وإكمال توحيدهم والزيادة في أيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون.(1/385)
قال (وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلا انتفض -لما سمع حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات, استنكارا لذلك- فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه, ويهلكون عند متشابهه) هذا لما لم يعرف هذه الصفة انتفض لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه فخاف من تلك الصفة، والواجب على المسلم أنه إذا سمع صفة من صفات الله -في كتاب الله أو في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -- أن يجريها مُجرى جميع الصفات، وهو أن إثبات الصفات لله جل وعلا إثبات بلا تكييف, إثبات بلا تمثيل, فإثباتنا للصفات على وجه تنزيه الله جل وعلا عن المكيل والنظير في صفاته وأسمائه، فله من كل اسم وصفة أعلى وأعظم ما يشتمل عليه من المعنى، ولهذا قال ابن عباس هنا (ما فرق هؤلاء؟) يعني ما سبب خوف هؤلاء, لماذا فَرَقُوا؛ خافوا من هذه الصفة ومن إثباتها؟ (يجدون رقة عند محكمه) يعني إذا خوطبوا بالمحكم الذي يعرفون، المحُكم هو ما يعلم والذي يعلم هو سامعه، هذا هو المحكم، (يجدون رقة عند محكمه) يعني إذا خوطبوا بما يعلمونه وجدوا في قلوبهم رقة لذلك، (ويهلَكون عند متشابهه) فإذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئا لا تعقله عقولهم هلكوا عنده وخافوا وفَرَقُوا وأوَّلوا ونفوا أو جحدوا، وهذا من أسباب الظلال.
وهنا استعمل ابن عباس رحمه الله و- رضي الله عنه - استعمل كلمة (المحكم) وكلمة (المتشابه) يريد بها هنا:
المحكم الذي يُعلم؛ يعلمه سامعه.
والمتشابه الذي يشبه علمه على سامعه.
والقرآن والعلم جميعا والشريعة كلها محكمة، وكلها متشابهة، ومنها محكم ومنها متشابه، فهذه ثلاثة أقسام:(1/386)
فالأول المحكم: كما قال جل وعلا?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، فالقرآن كله محكم، بمعنى أن معناه واضح وأن الله جل وعلا أحكم فلا اختلاف فيه إلا بتباين، وإنما بعضه يصدق بعضا كما قال جل وعلا ?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82].
والقرآن والشريعة أيضا متشابه كله: بمعنى أن بعضه يشبه بعضا فهذا الحكم وهذه المسألة تشبه تلك لأنها تسري معها في قاعدة واحدة، فنصوص الشريعة يصدق بعضها بعضا ويؤول بعضها إلى بعض، وقد قال جل وعلا ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ?[الزمر:23]، قال (كِتَابًا مُتَشَابِهًا) فالقرآن متشابه؛ يعني بعضه يشبه بعضا، هذا خبر في الجنة وهذا خير الجنة، وبعض الأخبار يفصِّل بعضا, هذه قصة وهذه قصة, هذه تصدق وهذه وتزيدها تفصيلا، وهكذا في كل ما في القرآن.
والقرآن أيضا والشريعة والعلم منه محكم ومنه متشابه باعتبار ثالث: فالمحكم والمتشابه هنا هو الذي جاء في آية آل عمران ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، منه محكم وهو الذي أتضح لك علمه، ومنه متشابه وهو الذي اشتبه عليك علمه، وبهذا نعلم بأن ليس عندنا في عقيدة أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ليس عندهم شيئا من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد، بمعنى أن ثمة مسألة من مسائل التوحيد أومن مسائل العمل يشتبه علمها على كل الأمة، هذا لا يوجد بل ربما اشتبه على بعض الناس وبعضهم يعلم المعنى، كما قال جل وعلا ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ?[آل عمران:7] على أحدي وجهي الوقف.(1/387)
فهذا المتشابه الموجود الذي هو قسيم للمحكم هذا يشتبه على بعض الناس، فإذا اشتبه عليك علم شيء من التوحيد أو من الشريعة فإن الواجب أن لا تفرق عنده وأن لا تخاف، وأن لا تتهم الشرع أو يقع في قلبك شيء من الزيغ لأن الذين يتبعون المتشابه بمعنى لا يؤمنون به فإن هؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ، وهذا هو الذي عناه ابن عباس - رضي الله عنه - حين قال(يجدون رقة عند محكمة ويهلكون عند متشابهه) يريد به هذا الوجه من أن الذين يهلكون عند المتشابه هم أهل الزيغ الذين قال الله جل وعلا فيهم ?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7]، فأهل الزيغ يستعملون في المتشابه هاتين الطريقتين:
"إما أن يبتغوا بالمتشابه الفتنة.
"وإما أن يبتغوا بالمتشابه التأويل.
والواجب أن يردّ المتشابه على المحكم، فنعلم أن الشريعة تصدق بعضها بعضا وأن التوحيد بعضه يدل على بعض، كالقاعدة المعروفة في الصفات التي ذكرها عدد من الأئمة كالخطابي وشيخ الإسلام في التدمرية: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، وأن القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى في حذوه وينهج فيه على منواله.
قال (ولما سمعت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: ?وَهُمْ يَكْفُرُونُ بِالرَّحْمَن?[الرعد:30]) فإنكار الصفة أو إنكار الاسم بمعنى عدم التصديق بذلك هذا جحد، وهذا يختلف عن التأويل، فالتأويل والإلحاد له مراتب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
¹
باب قول الله تعالى ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الكَافِرُونَ?[النحل:83]
قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي.
وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان، لم يكن كذا.
وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا.(1/388)
وقال أبو العباس -بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: "أن الله تعالى قال: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ..." الحديث، وقد تقدم-: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاّح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير.
[الشرح]
هذا الباب من الأبواب العظيمة في هذا الكتاب خاصة في هذا الزمن لشدة الحاجة إليه، وترجمه المصنف رفع الله مقامه في الجنة بقوله (باب قول الله تعالى ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]) فوصف الكفر في سورة النحل -التي تسمى سورة النِّعم- وصفهم بأنهم (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)، وإنكار النِّعمة بأن تنسب لغير الله، إنكارها بأشياء، ومن ذلك أن تُنسب إلى غير الله وأن يجعل المنفصل في النعمة غير الذي أسداها هو الله جل جلاله.
فالواجب على العبد أن يعلم: أن كل النعم من الله جل وعلا، وأن كمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة كل نعمة إلى الله جل وعلا، وأن إضافة النعم إلى غير الله نقص في كمال التوحيد ونوع شرك بالله جل وعلا.
ولهذا تكون مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أن ثمة ألفاظا يستعملها كثير من الناس في مقابلة النعم، أو في مقابلة اندفاع النقم، فيكون ذلك القول منهم نوع شرك بالله جل وعلا؛ بل شرك أصغر بالله جل وعلا.
فنبه الشيخ رحمه الله بهذا الباب على ما ينافي كمال التوحيد من الألفاظ، وأن نسبة النعم إلى الله جل وعلا واجبة.(1/389)
قال (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)، أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أنّ لفظ المعرفة إنما يأتي في الذم، وأن النافع هو العلم، وأن المعرفة تستعمل في القرآن وفي السنة غالبا في ما يذم من أخذ المعلومات، كقول الله جل وعلا ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?[الأنعام:20]، قوله في هذه الآية (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا).
وهذا من جهة الأكثرية، وإلا فقد ورد أن المعرفة بمعنى العلم كما جاء في صحيح مسلم في حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلى اليمن قال له " إنّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أن يعرفوا الله فإن هم عرفوا الله" فهذا يدل أن بعض من روى الحديث من التابعين جعل معنى العلم بالمعرفة وهم حجة في هذا المقام، فيدل على أن استعمال المعرفة بمعنى العلم لا بأس به.(1/390)
هذا الباب معقود لألفاظ يكون استعمالها من الشرك أصغر؛ ذلك أن فيها إضافة النعمة لغير الله، والله جل وعلا قال ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِن اللَّهِ?[النحل:53]، وهذا نص صريح في العموم بأن مجيء النكرة في سياق النفي يدل على الظهور في العموم، فإنْ سُبقت النكرة بـ(مِنْ) حرف جر -الذي هو شبيه بالزائد- فيكون العموم نصا فيه، والتنصيص في العموم بمعنى أنه لا يَخرج شيء من أفراده، فدلت الآية على أنه لا يخرج شيء من النعم أيا كان ذلك الشيء -صغيرا كان أو كبيرا عظيما جليلا أو حقيرا وضيعا- لا يكون إلا من الله جل وعلا، فكل النعم صغرت أو عظمت هي من الله جل وعلا وحده، وأما العباد فإنما هم أسباب تأتي النعم على أيديهم، يأتي واحد ويكون سببا في إيصال النعمة إليه، أو يكون سببا في معالجتك، أو سببا في تعيينك، أو سببا في نجاحك، أو نحو ذلك، لا يدل على أنه هو ولي النعمة وهو الذي أنعم، فإن ولي النعمة هو الرب جل وعلا، وهذا من كمال التوحيد، فإن القلب الموحد يعلم أنه ما ثَم شيئا في هذا الملكوت إلا والله جل وعلا هو الذي يفتحه وهو الذي يغلق ما شاء، كما قال سبحانه ?مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ?[فاطر:2]، فكل النعم من الله جل وعلا والعباد أسباب في ذلك.
فالواجب -إذن- أن تنسب النعمة إلى المسدي لا على السبب لأن السبب لو أراد الله جل وعلا لأبطل كونه سببا، وهذا السبب إذا كان آدميا فقلبه بين أصبعين من أصابع الله جل وعلا لو شاء لأصدق عن أن يكون سببا أو أن ينفعك بشيء، فالله جل وعلا هو ولي النعمة.(1/391)
قد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ما من أحد تعلق بمخلوق إلا وخذل. ما من أحد تعلق بمخلوق في حصول شيء له واندفاع مكروه عنه إلا خذل، وهذا في غالب المسلمين، وذلك لأن الواجب على المسلم أن يعلِّق قلبه بالله وأن يعلم أن النعم إنما هي من عند الله، والعباد أسباب يسخرهم الله جل وجلاله، وهذا هو حقيقة التوحيد ومعرفة تصرف الله جل وعلا في ملكوته.
قال (قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي.) هذا القول (مالي ورثته عن آبائي) منافي لكمال التوحيد ونوع شرك؛ لأنه نَسَب هذا المال إليه ونسبه إلى آبائه، وفي الواقع أن هذا المال أندم الله به على آبائه ثم أنعم الله به على هذا المؤمن إذْ جعل الله القسمة -قسمة الميراث- تصل إليه، وهذا كله من فضل الله جل وعلا ومن نعمته، والوالد سبب في إيصال المال إليك، ولهذا في قسمة الميراث لا يجوز للوالد أن يقسم الميراث أو لصاحب المال أن يقسم الميراث على ما يريد هو؛ لأن المال في الحقيقة ليس مالا له، كما قال جل وعلا ?وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ?[النور:33]، فهو مال الله جل وعلا يقسمه كيف يشاء، إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم.
فالواجب على العبد أن يعلم أن ما وصله من المال أو وصله من النعمة عن طريق آبائهم هو من فضل الله جل وعلا ونعمته، ووالده أو والدته أو قريبه سبب من الأسباب، فيحمد الله جل وعلا على هذه النعمة، ويسأل الله جل وعلا ذلك السبب، ويقابل ذلك السبب بجزائه إما بدعاء وإما بغيره.(1/392)
قال (وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان، لم يكن كذا)، (لولا فلان) كقول القائل: لولا الطيار لذهبنا في هلكة، لولا السائق كان ماهرا لذهبنا في كذا وكذا، أو يقول: لولا أن الشيخ كان معلِّما وأفهمنا المسألة لما فهمناها أبدا، أو يقول: لولا المدير الفلاني لفُصِلْتُ، ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها تعليق حصول الأمر بهذه الواسطة، والأمر إنما حصل بقضاء الله وبقدره وبفضل الله وبنعمته من حصول النعم أو اندفاع المكروه والنقم.
ولهذا الواجب على العبد أن يوحد فيقول: لو لا الله ثم فلان. فيجعل مرتبة فلان ثانية ولا يجعل مرتبة فلان هي الأولى أو الوحيدة؛ لأن الله جل وعلا هو المسدي بالنعم المتفضل بها.
(لولا فلان لم يكن كذا) هنا قال (فلان) من جهة كثرة الاستعمال، أما في الواقع فقد يأتي (لولا) في استعمالها بالناس أو يتعلق بالجمادات -بيت أو نحو ذلك بسيارة أو طيارة من جهة صناعتها-، أو التعلق ببقاع، أو التعلق بشيء من خلق الله؛ مطر، ماء، سحاب، هواء، ونحو ذلك، فنسبة النعمة إلى إنسان أو إلى بقعة أو إلى فعل فاعل أو إلى صنعة أو إلى مخلوق كل ذلك من نسبة النعم إلى غير الله، وهو نوع من أنواع الشرك في اللفظ، وهو من الشرك الأصغر بالله جل وعلا، كما سيأتي في الباب بعده إن شاء الله.
قال (قال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا)، (هذا بشفاعة آلهتنا) يعني إذا حصلت لهم نعمة؛ جاءتهم أمطار، جاءهم المال، نجحوا في تجارتهم، إذا حصل لهم ذلك تذكروا أنهم توجهوا للأولياء، أو توجهوا للأنبياء، أو توجهوا للأصنام أو للأوثان، تذكروا أنهم قد توجهوا إليهم فصرفوا لهم شيئا من العبادة، فقالوا: الآلهة شفعت فلذلك جاءنا هذا الخير، فيتذكرون آلهتهم وينسوْن أن المتفضل بذلك هو الله جل وعلا وأن الله سبحانه لا يقبل شفاعة شركية من تلك الشفاعات التي يذكرونها.(1/393)
قال (وقال أبو العباس -بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه وقد تقدم-: وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاّح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير.)
وهذا باب ينبغي الاهتمام به وتنبيه الناس عليه؛ لأن نعم الله علينا في هذه البلاد؛ بل نعم الله على أهل الإيمان في كل مكان كثيرة لا حصر لها، ولهذا الواجب أن تنسب النعم إلى الله جل وعلا وأن يُذكر بها وأن يُشكر؛ لأن من درجاته شكر النعمة أن تضاف إلى من أسداها هذه أول الدرجات ?وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ?[الضحى:11]ـ أول درجات التحديث بالنعمة أن تقول هذا من فضل الله هذه نعمة الله، فإذا التفت القلب إلى مخلوقه فإنه يكون قد أدرك هذا النوع من الشرك المنافي لكمال التوحيد. نعم
¹
باب قول الله تعالى ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22]
وقال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوادء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا، لآتانا اللصوص، ولولا البط في الدار، لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فقد كَفَرَ أو أشْرَكَ". رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم
وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً.
وعن حذيفة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقولُوا مَا شَاءَ الله وَشَاءَ فُلاَنٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ الله ثُمّ شَاءَ فُلاَنٌ"رواه أبو داوودَ بسند صحيح(1/394)
وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يَكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا اللهُ ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
[الشرح]
هذا (باب قول الله تعالى ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22])، فيه بيان أن هناك ألفاظا فيها التنديد، والتنديد معناه أن تجعل غير الله ندا له، فيكون التنديد في نسبة النعم إلى غير الله، ويكون التنديد في الحلف بغير الله، ويكون التنديد في قول ما شاء الله وشاء فلان، وغير ذلك من الألفاظ.
فهذا الباب فيه بيان أن التنديد يكون في الألفاظ، والتنديد هنا المراد به التنديد الأصغر الذي هو شرك أصغر في الألفاظ، وليس التنديد الذي هو الشرك الأكبر، وقوله جل وعلا (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) هذا عام يشمل اتخاذ الأنداد في بالشرك الأكبر و يشمل أيضا اتخاذ الأنداد بأنواع الإشراك التي دون في الشرك الكبر؛ لأن قوله (أَندَادًا) هذا يعم جميع أنواع التنديد، والتنديد منه ما هو مخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج من الملة.
ولهذا ساق عن ابن عباس أنه قال (الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل) فجعل مما يدخل في هذه الآية الشرك الخفي أو شرك الألفاظ التي تخفى على كثير من الناس.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة من أن حقيقة التوحيد ألا يكون في القلب إلا الله جل وعلا وألاّ يتلفظ بشيء فيه جعلوا غير الله جل وعلا شريكا له، أو ندا له كمن حلف بغير الله، أو كمن قال ما شاء الله وشاء فلان أو لو لا كليبة هذا لأتانا اللصوص ونحو هذه الألفاظ.
الأول ظاهر وهو تبع للباب قبله؛ يعني كلام ابن عباس على الآية ثم قال في آخره (لا تجعل فيها فلانا هذا كله به شرك) يعني لا تقل لولا الله وفلان، قل لولا الله لحصل كذا وكذا، هذا هو الأكمل، فالذي ينبغي في استعمال هذه الألفاظ أن تنسب إلى الله.(1/395)
فظهر لنا هنا أنّ ثمة درجتين جائزة، وغير ذلك لا يجوز. وهاتان الدرجتان:
الأولى هي الكاملة، وهي أن يقول: لولا الله لما حصل كذا.
والجائز أن يقول: لولا الله ثم فلان لما حصل كذا، هذه جائزة وهي توحيد بجعله مرتبة فلان نازلة عن مرتبة نعمة الله جل وعلا أو إنعام الله؛ لكن هذا ليس هو الكمال، ولهذا قال ابن عباس هنا (لا تجعل فيها فلان).
لأن الكمال أن تقول: لو لا الله لأتانا اللصوص، لولا نعمة الله لما حصل كذا، لولا فضل الله لما حصل كذا هذه هي المرتبة الكاملة.
والجواز أن تقول لولا الله ثم فلان.
وأما الذي لا يجوز والذي قال فيه ابن عباس (كله به شرك) أن يقول: لولا الله وفلان. بالواو لأن الواو تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه دون تراخٍ في المرتبة، أما (ثُم) فتفيد التراخي في المرتبة أو التراخي في الزمن، هذا ما هو معلومٌ في هذا المبحث في حروف المعاني من النحو.
فلهذا صار قول القائل: لولا الله وفلان. شرك أو ما شاء الله وشاء فلان أن هذا شرك أصغر.
والواجب أن يقول: لولا الله. أو أن يقول: ما شاء الله وحده. كما سيأتي في بابٍ بعد ذلك.
فإذن تحصّل لنا أنّ الكمال أن ينسب ذلك إلى الله جل وعلا، وأنّ الجاهز أن يقول: لولا الله ثم فلان.
قال (وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فقد كَفَرَ أو أشْرَكَ". رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم) (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله) يعني عقد اليمين بغير الله جل وعلا (فقد كَفَرَ أو أشْرَكَ).
واليمين: هي تأكيد الكلام لمعظم به بين المتكلم والمخاطب، يؤكد الكلام بمعظم به بأحد حروف القسم الثلاث: الواو أو الباء أو التاء.(1/396)
فاليمين أو الحلف يكون بتأكيد الكلام بمعظم به بالواو أو بالباء أو بالتاء. والواجب أن لا يؤكد الكلام إلا بالله جل وعلا؛ لأن المعظم على الحقيقة هو الله جل وعلا، وأما البشر فليسوا بمعظمين بحيث يُحلف بهم، وإنما ربما عظموا بشيء يناسب ذاتهم، تعظيم البشر اللائق، أما التعظيم الذي يصل إلى الحد الذي يُحلف به، فهذا إنما هو لله جل وعلا.
فإذن الواجب ألا يؤكد الكلام إلا بالله جل وعلا إذا أراد الحلف، إذا أراد أن يكون حالفا فليحلف بالله، فليؤكد الكلام بالله جل وعلا باستخدام أحد الحرف الثلاثة الواو أو الباء أو التاء.
وأما إذا استخدم غير هذه الأحرف كلفظ (في) ونحو ذلك فإنه لا يعد حلفا، إلا إن كان في قلبه أنه يمين ولكنه أخطأ التعبير فالعبرة ما في التفسير من المعاني، وأما ما في اللفظ فإنه في المقام يؤول إلى ما في القلب.
لهذا قال هنا (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فقد كَفَرَ أو أشْرَكَ) لماذا كفر أو أشرك؟ لأنه عظم هذا المخلوق كتعظيم الله جل وعلا في الحلف به، وكُفره وشركه شرك أصغر، وقد يصل إلى أن يُشرك بالحلف شركا أكبر إذا عظَّم المحلوف به كتعظيم الله جل وعلا في العبادة.
فإذن صار حقيقة الحلف بغير الله أنه تعظيم لذلك المحلوف به في الحلف، فإذا انضاف إلى ذلك أن المحلوف به معظم في العبادة صار شركا أكبر؛ كحلف الذين يعبون الأوثان بأوثانهم فإنه شرك أكبر؛ لأنه يعظم ذلك الوثن أو ذلك القبر أو تلك البقعة أو ذلك المشهد أو ذلك الولي يعظمه كتعظيم الله في العبادة، فيكون حلفه حلفا بمعظم به في العبادة.
فإذن صار هنا الشرك الأصغر حاصل بمجرد الحلف بغير الله، فكل من حلف بغير الله فهو مشرك الشرك الصغر، قد يصل في بعض الأحوال أن يكون مشركا الشرك الكبر إذا كان يعبد هذا الذي حلف به.(1/397)
وهناك يمين بغير الله في اللفظ، فهذه أيضا شرك وإن لم يعقد القلب اليمين، كمن يكون دائما على لسانه استعمال الحلف بالنبي أو بالكعبة أو بالأمانة أو بالولي ونحو ذلك وهو لا يريد حقيقة اليمين، وإنما يجري على لسانه مجرى في اللغو، فهذا أيضا شرك لأنه تعظيم لغير الله جل وعلا.
قال (وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً.) هذا لأجل عِظم الحلف بغير الله جل وعلا، وأنّ الحلف بغير الله شرك، وأما الكذب فإنه كبيرة والشرك الأصغر هذا من أعظم الكبائر، فلهذا استحب أن يكذب مع التوحيد وأن لا يصدق مع الشرك؛ لأن حسنة التوحيد أعظم من سيئة الكذب؛ ولأن سيئة الشرك أشنع من سيئة الكذب.
قال (وعن حذيفة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقولُوا: مَا شَاءَ الله وَشَاءَ فُلاَنٌ وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ الله ثُمّ شَاءَ فُلاَنٌ"رواه أبو داوودَ بسند صحيح) هذا من جهة الإرشاد إلى ما ينبغي أن يقال، فلا تجعل مشيئة العبد مقارِنة مشتركة مع مشيئة الله، فالواجب أن ينزه العبد لفظه حتى يعظم الله جل وعلا، والقلب المعظم لله جل وعلا لا يمكن أن يستعمل لفظا فيه جعل لمخلوق في مرتبة الله جل وعلا في المشيئة أو في الحلف أو في الصفات ونحو ذلك، لهذا قال (لا تَقولُوا: مَا شَاءَ الله وَشَاءَ فُلاَنٌ) وهذا النهي للتحريم؛ لأن هذا التشريك في المشيئة هذا شرك أصغر بالله جل وعلا، قال(وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ الله ثُمّ شَاءَ فُلاَنٌ) لأن (ثُمّ) تفيد التراخي في المشيئة، وهذا لأن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله جل وعلا قال تعالى ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[التكوير:29]، فمشيئة العبد ناقصة ومشيئة الله كاملة قال:(1/398)
قال (وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يَكره: أعوذ بالله وبك)، (أعوذ بالله وبك) لأنّ الواو تقتضي التشريك بالاستعاذة، والاستعاذة -كما ذكرنا- لها جهتان: جهة ظاهرة، وجهة باطنة.
أما الجهة الباطنة: وهي الالتجاء والاعتصام والرغب والرهب وإقبال القلب على المستعاذ به، فهذا لا تصلح إلا لله، والاعتماد في الاستعاذة على المخلوق فيما أقدره الله على هذا جائز؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق ظاهرت فيما أقدره الله عليه ظاهرا هذا جائز، لهذا كان يكره أن يقول أعوذ بالله وبك، والكراهة استعمال السلف يراد غالبا المحرم، وقد ترد لغير المحرم؛ ولكن يستعملونها فيما لا نص فيه.
ومجيء الكراهة بمعنى التحريم في القرآن في قوله تعالى لما ذكر الكبائر في سورة الإسراء ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38]، وفي القراءة الأخرى ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةٌ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا? (مَكْرُوهًا) أي محرما التحريم الشديد.
قال (ويجوز أن يقول بالله ثم بك) لما فيها من التراخي، قال (ويقول: لولا اللهُ ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان).
¹
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ. مَنْ حَلَفَ بِاللّهِ فَلْيَصْدُقْ. وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللّهِ فَلْيَرْضَ. وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللّهِ, فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ". رواه ابن ماجه بسند حسن.
[الشرح]
(ابن ماجه): مَاجَهْ أمه، وآخرها هاء وصلا ووقفا، فلا يقال: رواه ابن ماجةَ بسند حسن، أو روى ابن ماجة، هذا غلط.
والصواب أن تقول: وروى ابن ماجه بسند حسن؛ لأن الهاء هنا ليست لأجل السكون في التاء(1)، [وإنما هي أصلية في اسم أمه رحمه الله تعالى ورحمها.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث عشر.(1/399)
هذا باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله، لما كان تعظيم الله جل وعلا في قلب العبد المؤمن واجبا، كان الرضى بكلام أكّد فيه الكلام بالحلف بالله كان ذلك مطلوبا ومأمورا به، ومن لم يقنع بالحلف بالله فقد فاته تعظيم الله جل وعلا وتعظيم شرعه.
والواجب أن يقنع بكلام حلف عليه بالله تعظيما لجلال الله جل وعلا كما قال: (آمنت بالله وكذبت عيني) فيمن حلف له بالله، فالواجب على العبد أنْ إذا حلف له بالله أن يرضى؛ لأن في ذلك تعظيما للرب جل وعلا.
(باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله):
µ لفظ (لم يقنع) استفاد منه كثير من الشراح بأن المراد](1) بهذا الباب ما يكون عند توجّه اليمين على أحد المتخاصمين، فإنه إذا كان في الخصومة وتوجهت في اليمين بالدعوة، فإن الواجب على الآخر أن يقنع بما حَلَف به الآخر بالله جل وعلا، فخصوا ما جاء من الدليل وخص هذا الباب بمسألة في الدعاوي؛ يعني اليمين عند القاضي.
µ وقال بعض أهل العلم: إن الحديث عام، والحديث حسنه طائفة من أهل العلم كما ذكر الشيخ رحمه الله، فقوله (وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللّهِ فَلْيَرْضَ) هذا عام في كل حلف سواء أن كان عند القاضي أو لم يكن عند القاضي، وهذا القول أوجه وأصوب ظاهرا؛ لأن سبب الرضى بالكلام الذي حلف عليه بالله التعظيم لله جل وعلا، فإن تعظيم الله في قلب العبد يجعله يصدّق من حلف له بالله ولو كان كاذبا؛ لكن له أن لا يبنيَ عليه؛ لكن يصدقه ولا يُظهر تكذيبا له لتعظيم الله جل وعلا، مَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللّهِ فَلْيَرْضَ، فليجعل توحيده وتعظيمه لله جل وعلا له، وكذب ذاك في الحلف بالله عليه.
__________
(1) سقط من الأشرطة، وقد نقلته عن تفريغ جامع ابن تيمية.(1/400)
µ وقال طائفة من أهل العلم -وهذا هو الثالث-: إن هذا راجع إلى من عُرف صدقه في اليمين، أما من كان فاجرا فاسقا لا يبالي إذا حلف أن يحلف كاذبا فإنه لا يجب تصديقه؛ لأن تصديقه والحالة هذه مع قيام اليقين أو القرائن العامة بكذبه ليس بداخل في الحديث، لقوله في أول الحديث (مَنْ حَلَفَ بِاللّهِ فَلْيَصْدُقْ. وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللّهِ فَلْيَرْضَ) فتعلق قوله (وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللّهِ فَلْيَرْضَ) بما قبلها وهو قوله (مَنْ حَلَفَ بِاللّهِ فَلْيَصْدُقْ)، فتعلق (مَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللّهِ فَلْيَرْضَ) يعني فيمن كان صادقا، (وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللّهِ), من لم يرض باليمين بالله، (فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ)، فيدل على أن فعله من الكبائر؛ لأن قوله (لَيْسَ مِنَ اللّهِ) هذا ملحق لفعله بالكبائر.
وهذا الباب فيه نوع تردد عند الشراح، والظاهر في المراد منه أن الإمام المصنف رحمه الله ذكره تعظيما لله جل وعلا، وقد ذكر في الباب قبله (من حلف بغير الله) وأن حكمه أنه مشرك، فهذا فيه أن الحلف بالله يجب تعظيمه، وأن لا يحلف المرء بالله إلا صادقا، وأن لا يحلف بآبائه، وأن لا يحلف بغير الله، ومن حُلف له بالله فواجب عليه الرضى تعظيما لاسم الله وتعظيما لحق الله جل وعلا حتى لا يقع في قلبه استهانة باسم الله الأعظم وعدم اكتراث به أو بالكلام المؤكد به.
فصار عندنا -إذن-:
µ أن كثيرا من أهل العلم جعلوا قول المصنف (باب ما جاء في من لم يقنع بالحلف بالله) أنه عند القاضي إذا توجه باليمين على أحد المتخاصمين.
µ وأن طائفة من أهل العلم قالوا في قوله ومن حلف له بالله فليرض أن هذا عام في كل من حلف له بالله لأنه يجب عليه الرضى.
µ وآخرون قالوا يُفَرَّق بين من ظاهره الصدق ومن ظاهره الكذب.
والله أعلم.
¹
باب قول: ما شاء الله وشئت(1/401)
عن قتيلة: أَنّ يَهُودِيّا أَتَى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ فَأَمَرَهُمُ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَيَقُولُونَ مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ شِئْتَ. رواه النسائي وصححه.
وله أيضاً عن ابن عباس، أن رجلاً قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت فقال:"أجعلتني لله نداًَ؟! بل ما شاء اللهُ وحده".
ولابن ماجه: عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير بن الله قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحتُ، أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته، قال: "هل أخبرتَ بها أحداً ؟". قلت نعم قال: فحمد الله، وأثني عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده".
[الشرح]
هذا الباب ترجمه بقوله (باب قول ما شاء الله وشئت) وهذه المسألة مر الكلام عليها في (باب قول الله تعالى ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22]) وأن قول القائل (ما شاء الله وشئت) شرك في اللفظ وتشريك في المشيئة، فهذا من الشرك الأصغر.
الباب واضح من حيث ما اشتمل عليه؛ لكن فيه فائدة أو فيه فوائد:(1/402)
منها أن قوله في حديث قتيلة (أَنّ يَهُودِيّا أَتَى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ فَأَمَرَهُمُ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَيَقُولُونَ مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ شِئْتَ. رواه النسائي وصححه) فيه من الفوائد ما قاله الشيخ رحمه الله في مسائل الباب قال فيه: فهم الإنسان إذا كان له هوى. فهؤلاء اليهود هم أهل الشرك يقولون عزير بن الله ويشركون بالله جل وعلا؛ لكنهم مع كونهم مشركين نقموا على أهل الإسلام أنهم يشركون، وهذا لأجل الطعن فيهم، فالهوى وطلب تنقُّص أهل الإسلام والنقد عليهم، أو مخاطبتهم بما يسوؤهم هذا كان قصدا لهم، ولهذا فهموا من أين يدخلون، فأهل الإسلام أهل التوحيد فقالوا لهم (إنّكُمْ تُشْرِكُونَ) وهم أهل الشرك؛ لكن فيه أن صاحب الهوى قد يفهم الصواب، فإذا فهم الصواب فإن الواجب أن يُقبل منه؛ لأن المؤمن يجب عليه أن يقبل الحق ممن جاء به ولو كان يهوديا أو نصرانيا، فهذا اليهودي -أو النصارى كما سيأتي- هؤلاء توجهوا إلى المؤمنين بالقدح فيهم بالشرك، ولم يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قَبول الحق الذي قالوه أنهم يهود؛ بل قبل ما جاء به ذلك اليهودي، فأوصاهم بأن يتركوا ذلك التنديد.
وهذا فيه أن الحق هو ضالة المؤمن أين وجده أخذه، فلا يمنعه من قبول الحق أن قاله مشرك أو قاله كافر أو قاله فاسق أو قاله مبتدع أو قاله ضال إذا كان الكلام في نفسه حقا؛ لأنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها".
قال (وله أيضا) والحديث الذي بعده واضح.(1/403)
ثم قال (ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير بن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد.) هذا في أن صاحب الهوى أو صاحب الملة الباطلة قد يردّ على صاحب الحق بأن عنده باطلا كما أن عند ذلك باطلا، فإذا واجهه بذلك فالواجب عليه أن يتجرد للحق وأن لا يرد الحق لأجل أن من أتى به صاحب باطل.
فالقاعدة عند أهل السنة والإيمان أن البدعة لا ترد ببدعة، والباطل لا يرد بباطل، وكثير مما حصل معهم نقص في تاريخ الإسلام وحصلت الشبهات وقويت بعض الضلالات من جهة أن من ووجه بحق وكان الذي واجهه بذلك صاحب باطل أنه ردّ عليه الحق فصار معنى ذلك أنه لا يقبل الحق، ثم صار يوجه الأدلة في لإبطال ذلك الحق، وهذا كما فعله طائفة من أهل البدع والواجب أيضا أن لا ترد البدعة ببدعة، وأن لا ترد البدعة إلا بحق، وإذا جهل المرء كيف يرد البدعة بحق فيصبر حتى يتعلم أو يسأل أهل العلم، وليس من الواجب عليك أن ترد مباشرة؛ بل إذا ووجهت بحق ولو كان من أضل الضُّلاَّل فاقْبَل، فإبليس؛ الشيطان قُبِل منه بعض الحق الذي جاء به وأرشد إليه أبا هريرة، وهؤلاء اليهود والنصارى في هذين الحديثين قبل منهما يعني من تلك الطائفتين حقا أرشدونا إليه في أعظم المسائل وأجل المطالب وهو توحيد الله جل جلاله.(1/404)
هذه المسائل ليست من الشرك الأكبر بل من الأصغر دلّ عليه قوله في آخره (قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) والشرك في الألفاظ أتى بالتدريج بخلاف -يعني نفي الشرك في الألفاظ وتحريم الشرك في الألفاظ- أتى بالتدريج في تاريخ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وتبليغه أمته بالأوامر والنواهي، أما الشرك الكبر فقد نفاه من أول الرسالة، أما شرك الألفاظ وبعض أنواع الشرك الصغر فأتى بالتدريج، فكان الحلف بالآباء جائزا ثم نهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وكذلك قول ما شاء الله وشئت ثم نهاهم عن ذلك.
ولهذا قال المصنف في مسائل كتاب التوحيد: فيه أن الشرك فيه أكبر وأصغر لقوله (يمنعني كذا وكذا).
وأما الشرك الأكبر فلا يجوز أن يؤخر إنكاره أو أن يمنع عنه مانع.
أما شرك الألفاظ فقد تكون المصلحة والفقه -فقه الدعوة-، وفق ترتيب الأهم والمهم وتقديم الأهم على المهم أن يؤخر بعضه لتتم المصلحة العظمى.
أما الشرك الأكبر فلا مصلحة تبقى مع وجوده. نعم
¹
باب من سبّ الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعالى ?وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ?[الجاثية:24].
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "قال الّلهُ تعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ. يَسُبّ الدّهْرَ. وَأَنَا الدّهْرُ. أُقَلّبُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ". وفي رواية: "لاَ تَسُبّوا الدّهْرَ. فَإِنّ اللّهَ هُوَ الدّهْرُ".
[الشرح](1/405)
(باب من سبّ الدهر فقد آذى الله)؛ الدهر هو الزمان؛ اليوم، والليلة, أسابيع، الأشهر، السنون، العقود، هذا هو الدهر، وهذه الأزمنة مفعولَة؛ مفعول بها لا فاعلة، فهي لا تفعل شيئا وإنما هي مسخرة؛ يسخرها الله جل جلاله، وكلٌّ يعلم أن السنين لا تأتي بشيء، وإنما الذي يفعل هو الله جل وعلا في هذه الأزمنة، ولهذا صار سبّ هذه السنين سبًّا لمن تصرف فيها وهو الله جل جلاله.
لهذا عقد هذا الباب بما يبين أن سب الدهر ينافي كمال التوحيد، وأن سب الدهر يعود على الله جل وعلا بالإيذاء؛ لأنه سبٌّ لمن تصرف بهذا الدهر.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهو أن سب الدهر من الألفاظ التي لا تجوز، والتخلص منها واجب، واستعمالها مناف لكمال التوحيد، وهذا يحصل من الجهلة كثيرا، فإنه إذا حصل لهم في زمان شيئا لا يسرهم سبوا ذلك الزمان، ولعنوا ذلك اليوم أو لعنوا تلك السنة أو لعنوا ذلك النهار ونحو ذلك من الألفاظ الوبيلة، أو شتموا الزمان وهذا لا يتوجه إلى الزمن؛ لأن الزمن شيء لا يَفعل وإنما يُفعل فيه وهو أذية لله جل وعلا.
(باب من سب الدهر) السب يكون بأشياء، والسب في أصله التنقص أو الشتم، فيكون بتنقص الدهر، أو يكون بلعنه، أو بشتمه، أو بنسبة النقائص إليه، أو بنسبة الشر إليه، ونحو ذلك، وهنا كله من أنواع سبه، والله جل وعلا هو الذي يقلب الليل والنهار.
قال (فقد آذى الله) ولفظ (آذى الله) لأجل الحديث -حديث أبي هريرة- (قال الّلهُ تعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ. يَسُبّ الدّهْرَ. وَأَنَا الدّهْرُ. أُقَلّبُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ) ففيه رعاية للفظ الحديث.(1/406)
سب الدهر -كما ذكرنا- محرم وهو درجات، وأعلاه لعن الدهر؛ لأن توجه اللعن إلى الدهر أعظم أنواع المسبة وأعظم أنواع الإيذاء، وليس من مسبة الدهر وصف السنين بالشدة، ولا وصف اليوم بالسواد، ولا وصف الأشهر بالنحس ونحو ذلك، لأن هذا مقيّد وهذا جاء في القرآن في نحو قوله جل وعلا ?فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ?[فصلت:16]، (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) وصف الله جل وعلا الأيام بأنها نحسات، المقصود في أيام نحسات عليهم، وصف الأيام بالنحس؛ لأنه جرى عليهم فيها ما فيه نحس عليهم، ونحو ذلك قوله جل وعلا في سورة القمر ?فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ?[القمر:19]، (يَوْمِ نَحْسٍ) أو يقول يوم أسود أو سنة سوداء، هذا ليس من سب الدهر لأن المقصود بهذا الوصف ما حصل فيها كان من صفته كذا وكذا على هذا المتكلم.
وأما سبه أن ينسب الفعل إليه فسب الدهر لأجل أنه فعل به ما يسوؤه، فهذا هو الذي يكون أذية لله جل وعلا.
قال(وقول الله تعالى ?وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ?[الجاثية:24]) هذه الآية ظاهرة في أنّ نسبة الأشياء إلى الدهر هذه من خصال المشركين أعداء التوحيد، فنفهم منه أن خصلة الموحدين أن ينسبوا الأشياء إلى الله جل وعلا لا ينسبوا الإهلاك إلا إلى الدهر؛ بل الله جل وعلا هو الذي يحيي ويميت.(1/407)
قال (وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "قال الّلهُ تعالى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ. يَسُبّ الدّهْرَ. وَأَنَا الدّهْرُ")، قوله هنا (وَأَنَا الدّهْرُ) لا يعني أن الدهر من أسماء الله جل وعلا؛ ولكنه رتبه على ما قبله فقال (يَسُبّ الدّهْرَ. وَأَنَا الدّهْرُ)؛ لأن حقيقة الأمر أن الدهر لا يملك شيئا ولا يفعل شيئا، فسَبُّ الدهرِ سَبٌّ لله؛ لأن الدهر يَفعل اللهُ جل وعلا فيه، في الزمان ظرف للأفعال وليس مستقلا، فلهذا لا يفعل ولا يحرم ولا يعفي ولا يكرم ولا يهلك وإنما الذي يفعل هذه الأشياء مالك الملك المتفرد بالملكوت وتدبير الأمر الذي يجير ولا يجار عليه.
إذن فقوله (وَأَنَا الدّهْرُ) هذا فيه نفي نسبة الأشياء إلى الدهر، وأن الأشياء تنسب إلى الله جل وعلا، فيرجع مسبة الدهر إلى مسبة الله جل وعلا؛ لأن الدهر لا ملك له والله هو الفاعل.
قال (أُقَلّبُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ) والليل والنهار هما الدهر، فالله جل وعلا هو الذي يقلبهما، فليس لهما من الأمر شيء.نعم
¹
باب التَّسمِّي بقاضي القضاة ونحوه
وفي الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمّىَ مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَالِكَ إِلاّ اللّهُ".
قَالَ سُفْيَانُ: مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ. وفي رواية: "أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَأَخْبَثُهُ". قوله: (أَخْنَعَ)، يعني: أَوْضَعَ.
[الشرح]
(باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه).
التوحيد يقتضي من الموحد المؤمن بالله جل وعلا أن يُعَظِّمَه، وأن لا يجعل مخلوقا في منزلة الله جل وعلا فيما يختصّ به، وتارة يجعل المخلوق من منزلة الله لشُبهة وصفٍ قام به أو شيء يكون عليه، ككون القاضي هو رئيس القضاة أو أعلم القضاة فيُجعل في اللفظ والتسمية قاضيا للقضاة.(1/408)
فلهذا نبه الشيخ رحمه الله على أن التسمي بالأسماء التي معناها إنما هو لله جل وجلاله أن هذا لا يجوز، والتوحيد يقتضي أن لا يوصف بها إلا الله وأن لا يسمى بها إلا الله جل وعلا، فتسمية غير الله بتلك الأسماء -التي ستأتي- لا تجوز ومحرم؛ بل هي أخنع الأسماء وأوضع تلك الأسماء وأبغض الأسماء إلى الله جل جلاله.
قال (باب التَّسمِّي بقاضي القضاة ونحوه) قوله (التَّسمِّي) يشمل ما إذا سمى نفسه أو سماه غيره به فرضي، أما إذا سماه غيره به فلم يرض فإنه لا يدخل في الذم لعدم الرضى، فإذا سُمي بذلك فيلحق الوعيد المسمي ومن رضي بذلك الاسم.
(بقاضي القضاة ونحوه) ونحو قاضي القضاة مثل: ملك الأملاك, شاهان شاه ونحو ذلك، القضاة كثيرون، قاضي القضاة هو الذي يقضي بين القضاة، تقول قاضي المسلمين؛ يعني الذي يقضي بين المسلمين، قاضي الرياض يعني الذي يقضي في الخصومات التي بين أهل الرياض، فقاضي القضاة لفظ حقيقة معناه الذي يقضي بين القضاة، وهذا إنما هو لله جل جلاله هو الذي يقضي بين العباد بين القضاة وبين العبيد، فهو قاضي القضاة على الحقيقة سبحانه وتعالى، فيُخْبَر عنه بذلك؛ لأن قاضي القضاة ليس من أسماء البشر، فالذي يقضي بين القضاة هو الله جل جلاله.
والذين أطلقوا هذه التسمية على كبير القضاة أو على كبير العلماء لا يعنون بها أن ذاك يقضي بين القضاة، وإنما يعنون بها أنه وصل إلى مرتبة في القضاء أو في العلم أعلى من درجة القاضي، فصار قاضي القضاة، كما شاع في الزمن المتأخر في الدولة العثمانية أنهم يسمون المفتي شيخ الإسلام، ووكيل المفتي وكيل شيخ الإسلام تسمية خاصة، وهذا انتشر في بلاد المسلمين -أعني التسمية بقاضي القضاة ونحوه- من نحو القرن الرابع الهجري إلى أوقات متأخرة قريبة من هذا الزمان.
فإذن الواجب على العبد أن لا يجعل هذه التسمية جارية على لسانه، ولا أن يرضى بها.(1/409)
كذلك مالك الملاك أو شَاهَانْ شَاهْ؛ يعني ملك الأملاك، هذا فيه تسمية البشر بما يختص بالله، فإن الأملاك الذي يملكها هو الله جل وعلا، والأملاك واسعة، وإنما البشر يطلق عليه أنه مالك للشيء المعين، وليس مالكا لكل شيء، فالذي يملك كل شيء هو الله وحده، والبشر يملكون بالإضافة بعض الأشياء، وكذلك المُلك بالضم -وهو نفاذ الأمر والسيطرة- فإنه يكون في بعض الأرض وليس في كل الأرض، فالذي يملك يقال عنه ملك أو مالك إذا كان يملك مِلكا أو ملك إذا كان يملك مُلكا بمعنى نفاذ الأمر، ويضاف إلى بقعته، فيقال ملك المملكة العربية السُّعودية، ملك الأردن ونحو ذلك.
وأما الإطلاق العام، ملك الأملاك، أو شَاهَانْ شَاهْ، فإن الأملاك منها ما هو على الأرض، ومنها غير ذلك، وهذا إنما هو لله جل وعلا، فالتوحيد يوجب أن لا يتسمى بذلك أحد وأن لا يُرضى بتسمية أحد بذلك، حتى لو وجدته في بعض الكتب فلا تنقله كما وجدته، قد يغلط بعض الباحثين، وبعض طلبة العلم فينقل قولا عن بعض أهل العلم المتقدمين ممن يتجوزون في مثل هذه الألفاظ، وفيه قال قاضي القضاة كذا، وكان قاضي القضاة كذا ولا يغيره، والواجب أن يغيره تعظيما لله جل وعلا، وأمانة النقل الذي يدعون هي في مرتبة دون توحيد الله جل وعلا بكثير كثير، فالواجب تغيير ذلك وهنا من توحيد الله وتغيير اشتراك غير الله اشتراك الخلف مع الله جل وعلا في حقه فيما يزعمه بعض الخلق.
قال هنا (وفي الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمّىَ مَلِكَ الأَمْلاَكِ") (أَخْنَع) يعني أوْضع وأحقر وأبعد الأسماء عند الله (رَجُلٌ تَسَمّىَ مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَالِكَ إِلاّ اللّهُ) وهذا حصر (لاَ مَالِكَ إِلاّ اللّهُ) يعني المُلك أو المِلك (لاَ مَالِكَ إِلاّ اللّهُ) يعني المِلك إنما هو لله وحده.
وهناك فرق بين مَالِك ومَلِك.(1/410)
فمالك اسم فاعل من المِلْك، مَلَكَ الشيءَ يعني اقتناه وصار مختصا به؛ من المِلك، وهذا راجع إلى التصرف بالأعيان.
وأما المُلك بالضم، فالاسم منه المَلِك وهو الذي ينفذ أمره ونهيه، فيرجع اسم المَلِك أو المُلْك إلى المعاني.
فصار عندنا مُلكا ومِلكا، المِلك راجع إلى الأعيان، والملُك راجع إلى المعاني، هذا في قول عدد من محققي أهل اللغة.
(قَالَ سُفْيَانُ: مِثْلُ شَاهَانْ شَاهْ. وفي رواية: "أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَأَخْبَثُهُ") وسبب كونه أغيض رجل وأخبث رجل أنه جعل نفسه مماثلا لله جل وعلا في الحق بهذه التسمية. نعم
¹
باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن أبي شُرَيْحٍ، أنه كان يُكْنَى أَبا الْحَكَم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنّ الله هُوَ الْحَكَمْ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ". فقالَ: إِنّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا في شَيْءِ أَتُوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ, فَقَالَ: "مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟". قلت: شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ الله. قالَ: "فَمنْ أَكْبَرُهُمْ؟". قلت: قالَ قُلْتُ: شُرَيْحٌ قالَ: "فأَنْتَ أَبُو شُرَيْحِ" رواه أبو داود وغيره.
[الشرح]
(باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك) هذا الباب فيه الإرشاد إلى الأدب الذي يجب أن يصدر من قلب الموحد ومن لسانه، فإن الموحد متأدب مع الله جل جلاله، ومتأدب مع أسمائه، متأدب مع صفاته، متأدب مع دينه، فلا يهزل -مثلا- بشيء فيه ذكر الله، ولا يُلقي الكلمة عن الله جل وعلا هكذا دون أن يتدبر ما فيها، وكذلك لا يسمى أحدا بأسماء الله ويغير الاسم لأجل هذا، فأسماء الله جل وعلا يجب احترامها ويجب تعظيمها، ومِن احترامها أن يجعل ما لا يصلح إلا الله منها لله وحده وأن لا يسمى به البشر.(1/411)
قال (باب احترام أسماء الله تعالى) هذا الاحترام قد يكون مستحبا من جهة الأدب، وقد يكون واجبا، فأسماء الله تعالى يجب احترامها؛ بمعنى يجب أن لا تمتهن، ويستحب احترامها أيضا فيما كان من الأدب أن لا يوصف به غير الرب جل وعلا، وهذا راجع إلى تعظيم شعائر الله جل جلاله قال سبحانه ?وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ?[الحج:32]، وقال جل وعلا ?وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ?[الحج:30]، قال أهل العلم: الشعائر جمع شعيرة وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه، كل ما أشعر الله؛ يعني أعلم بتعظيمه فهو شعيرة، ومما أشعر الله بتعظيمه أسماء الله جل وعلا فيجب احترامها وتعظيمها.
لهذا يستدل أهل العلم على وجوب أن لا تمتهن أسماء الله من جهة وجودها في الجرائد وفي الأوراق أن ترمى أو أن توضع في أمكنة قذرة يستدلون على وجوب احترام ما فيه اسم من أسماء الله في هاتين الآيتين وبالقاعدة العامة في ذلك.
فإذن (احترام أسماء الله تعالى) من الأدب الذي قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا، (وتغيير الاسم لأجل ذلك).
ساق في هذا الحديث وهو قوله (عن أبي شُرَيْحٍ، أنه كان يُكْنَى أَبا الْحَكَم).
(يُكْنَى) هي الفصيحة أمّا يُكَنَّى فهذه ضعيفة، تقول فلان يُكْنَى بكذا، أما يُكَنَّى فليست بجيدة لأن يُكْنَى هي التي كان عليها غالب الاستعمال فيما ذكره أهل اللغة.
(يُكْنَى أَبا الْحَكَم), الحكم من أسماء الله جل وعلا والله جل وعلا لم يلد ولم يولد، فتكنيته بأبي الحكم غير لائقة:
لأن الحكم من أسماء الله، والله جل وعلا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد هذا من جهة.(1/412)
ومن جهة أخرى أن الحَكَم وهو بلوغ الغاية في الحُكم، أنّ هذا فيما فيه فصل بين المتخاصمين راجع إلى من له الحكم وهو الله جل جلاله، وأما البشر فإنهم لا يصلحون أن يكونوا حُكّاما أو أن يكون الواحد منهم حكما على وجه الاستقلال، ولكن يكون حكما على وجه التبع، ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام عليه هذه التسمية، فقال له (إِنّ الله هُوَ الْحَكَمْ) ودخول (هُوَ) بين لفظ الجلالة وبين اسمه (الْحَكَمْ) يدل على اختصاصه بذلك كما هو مقرر في علم المعاني؛ لأن (هُوَ) هذا الضمير عماد أو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، فائدته أن يُحْصَر أو أن يُجعل الثاني مختص بالأول.
قال (وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ) يعني أن الحُكم إليه لا إلى غيره، فلهذا لفظ الحَكم الذي يفيد استغراق صفات الحُكم هذا ليس إلا إلى الله جل وعلا.
ذاك الرجل علل (فقالَ: إِنّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا في شَيْءِ أَتُوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ, فَقَالَ: "مَا أَحْسَنَ هَذَا") (مَا أَحْسَنَ هَذَا) راجع لا إلى الحكم راجع إلى الصلح؛ وهو أن يصلح بينهم فيرضى كلا الفريقين، فحكم بينهم، هل حكم بينهم بالشرع أو بما عنده يعني بما يراه؟ الجواب أنه حكم فيهم بما يراه، ولو كان الحكم بينهم بالشرع لجاز إطلاق الحكم على من يحكم بين المتخاصمين بالشرع، أما إطلاقه على الفاصل بين المتخاصمين بغير الشريعة، فإن هذا مخالف للأدب.(1/413)
(فَقَالَ: "مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟". قلت: شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ الله. قالَ: "فَمنْ أَكْبَرُهُمْ؟". قلت: قالَ قُلْتُ: شُرَيْحٌ قالَ: "فأَنْتَ أَبُو شُرَيْحِ") بهذا نقول من الأدب أن لا يسمى أحدا بالحَكم أو الحاكم أو نحو ذلك إلا إذا كان منفِّذا لأحكام الله جل جلاله، لهذا قال سبحانه ?وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا?[النساء:35]، سّمى المبعوث من هذا وهذا حكما لأنهما يحكمان بالشرع، فالذي يحكم بما حكم به الله الذي هو الحكم يقال له حَكم؛ لأنه حكم يحكم من له الحكم وهو الله جل جلاله، فيسوغ إطلاق ذلك ولا بأس به؛ لأن الله جل وعلا وصف من يحكم بشرعه بأنه حاكم والذين يحكمون بأنهم حكام وهم القضاة قال جل وعلا في سورة البقرة ?وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:188]، قال (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ) وهو جمع الحاكم ساغ إطلاق ذلك؛ لأنه يحكم بالشرع.
المقصود بذلك أن الأدب في هذا الباب أن لا يسمى أحد بشيء يختص الله جل وعلا به، ولذلك أتبع هذا الباب الذي قبله لأجل هذه المناسبة، فتسمية ملك الأملاك مشابهة لتسمية أبا الحكم من جهة أن في كل منهما اشتراك في التسمية؛ لكن فيها اختلاف أن أبا الحكم راجع إلى شيء يفعله هو وهو أنه يحكم فيرضون بحكمه، وذاك ملك الأملاك ادعاء ليس له شيء ولهذا كان أخنع اسم عند الله جل جلاله. نعم
¹
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
وقول الله تعالى: ?وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ لَيَقُولُن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ?[التوبة:65].(1/414)
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، دخل حديث بعضهم في بعض: أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عن اللقاء (يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء ). فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أرتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ?أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66]، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه.
[الشرح]
هذا (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول).
التوحيد الخالص في القلب؛ بل أصل التوحيد لا يجامع الاستهزاء بالله جل وعلا وبرسوله وبالقرآن؛ لأن الاستهزاء معارضة والتوحيد موافقة.
ولهذا قال بعض أهل العلم: الكفار نوعان:
"معرضون كمن قال الله فيهم ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24].
"ومعارضون وهم المجادلون أو الذين يعارضون بأنواع المعارضات لأجل إطفاء نور الله، ومن ذلك الاستهزاء ونحوه.
فالتوحيد استسلام وانقياد وقبول وتعظيم، والهُزأ والاستهزاء بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول هذا معارضة؛ لأنه مناف للتعظيم، ولهذا صار كفرا أكبر بالله جل وعلا، لا يصدر الاستهزاء بالله أو برسوله - صلى الله عليه وسلم - أو بالقرآن من قلب موحد أصلا؛ بل لابد أن يكون إما منافقا أو كافرا مشركا.(1/415)
قال (باب من هزل) الهزل خلاف الجد، وصفته أن يتكلم بكلام فيه الهزَل والاستهزاء والعيب إما بالله أو بالقرآن أو بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقول الشيخ رحمه الله هنا (باب من هزل بشيء) الباء هذه هل هي التي يُذكر بعدها وسيلة الهزَل؟ أو الباء التي يذكر بعدها ما هزَل فيه؟
الظاهر هو الثاني.
الأول: (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول) يعني ذكر الله هازلا ذكر القرآن بشيء فيه هزل ذكر الرسول بشيء فيه هزل؛ يعني هزل وهو يذكر هذه الأشياء.
والثاني: (من هزل بشيء فيه ذكر الله) يعني كان المستهزأ به أو المهزول به هو ذكر الله أو القرآن أو الرسول.
ومعلوم أن المعنى هو الثاني؛ لأن الشيخ يريد أن المستهزئ به هو الله أو الرسول أو القرآن تباعا لنص الآية.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة؛ وهو أن الهزَل والاستهزاء بالله أو بالرسول أو بالقرآن منافٍ لأصل التوحيد وكفر مخرج من الملة؛ لكن بضابطه وهو ما ذكرناه من أنّ الاستهزاء وهو الاستنقاص واللعب والسخرية يكون بالله جل جلاله أو يكون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يكون بالقرآن وهذا هو الذي جاء فيه النص قال جل وعلا ?وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ لَيَقُولُن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66]، فمن استنقص الله جل وعلا أو هزَل بذكره لله جل وعلا؛ يعني حينما ذكر الله جل وعلا استهزأ أو هزَل ولم يُظهر التعظيم في ذلك فتنقص الله جل وعلا كما يفعله بعض الفسقة والذين يقولون الكلمة لا يلقون لها بالا تهوي ببعضهم سبعين خريفا، أو هزل بالقرآن أو استهزأ بالقرآن أو بالسنة؛ يعني بالنبي عليه الصلاة والسلام فإنه كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة. هذا ضابط هذا الباب.(1)
__________
(1) انتهى الشريط الثالث عشر.(1/416)
ويخرج عن ذلك ما لو استهزأ بالدين، فإن الاستهزاء بالدين فيه تفصيل: فإن المستهزئ أو السابّ للدين أو اللاعن للدين أو المستهزئ بالدين قد يريد دين المستهزأ به ولا يريد دين الإسلام أصلا فلا يرجع استهزاؤه إلى واحد من الثلاثة.
ولهذا نقول:
µ الكفر يكون أكبر فيمن استهزأ إذا كان بأحد الثلاثة التي ذكرنا ونصت عليها الآية، أو كان راجعا إلى أحد الثلاثة.
µ أما إذا كان استهزاء بشيء خارج عن ذلك فإنه يكون فيه تفصيل:
فإن هزل بالدين فيُنظر هل يريد دين الإسلام أو يريد فلان، مثلا يأتي واحد من المسلمين ويقول يستهزئ مثلا بهيئة أحد الناس، وهيئته يكون فيها التزام بالسنة فهل هذا يكون مستهزئا الاستهزاء الذي يخرجه من الملة؟ الجواب: لا؛ لأن هذا الاستهزاء راجع إلى تدين هذا المرء وليس راجعا إلى الدين أصلا، فيعرف بأن هذا سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا علم أنه سنة وأقر بذلك وأن النبي فعله، ثم استهزأ؛ بمعنى استنقص أو هزأ بالذي اتبع السنة مع علمه بأنها سنة وإقراره بصحة كونها سنة، فهذا رجع إلى الاستهزاء بالرسول.
كذلك الاستهزاء بكلمات قد يكون مرجعها إلى القرآن وقد لا يكون مرجعها إلى القرآن ويكون فيه تفصيل.
فإذن إذا سمعت الاستهزاء أو قرأته:
فإذا كان راجعا إلى الاستهزاء بالله أو بصفاته أو بأسمائه أو بالرسول عليه الصلاة والسلام أو بالقرآن فإن هذا كفر.
فإن كان الاستهزاء غير ذلك، فتنظر في التفصيل:
"إن كان راجعا إلى أحد الثلاثة فهو كفر أكبر.
"وإن كان غير ذلك فإنه يكون محرما ولا يكون كفرا أكبر.(1/417)
قال (وقول الله تعالى ?وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ لَيَقُولُن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66]) هذه الآية نص في أن المستهزئ بالله وبالرسول وبآيات الله جل وعلا -والمقصود بها آيات الله جل وعلا الشرعية القرآن- أن هذا المستهزئ كافر وأنه لا ينفعه اعتذاره بأنه كان في هزل ولعب؛ بل هو كافر لأن تعظيم الله جل وعلا وتوحيده يوجب عليه ألا يستهزئ.
إذن قوله (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) هو دليل كفر المستهزئ.
وهذه الآية نزلت في المنافقين، وبعض أهل العلم قال: ليست في المنافقين. وهذا غلط وليس بصواب؛ ذلك لأسباب ومنها أن هذه السورة التي منها هذه الآية هي في حال المنافقين؛ ولأن السياق سباقه ولحاقه يدل على أن الضمائر فيها ترجع إلى المنافقين قال جل وعلا قبل هذه الآية في سورة براءة ?يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تَنَزَّل عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بمَا في قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون(64)وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ لَيَقُولُن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ?[التوبة:64-65]، فهذه ظاهرة في أن سباقها في المنافقين فالضمير في قوله (وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ) يعني من ذُكر قبل هذه الآية وهم المنافقون لقوله (يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ) ثم قال بعدها (وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ)، وكذلك ما بعدها من الآيات في المنافقين في قوله جل وعلا ?المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتِ بَعُضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ?[التوبة:67]، والأدلة على ذلك كثيرة.(1/418)
فالصواب في ذلك: أنّ المراد بهؤلاء أنهم المنافقون، وأما أهل التوحيد فإنه لا يصدر منهم استهزاء أصلا، ولو استهزأ لعلمنا أنه غير معظمٍ لله وأن توحيده ذهب أصلا؛ لأن الاستهزاء يطرد التعظيم، والدليل الذي ذكره في سبب النزول وقصة النزول ظاهرة.
فالواجب على المسلمين جميعا وعلى طلبة العلم خاصة أن يحذروا من الكلام؛ لأن الكثيرين يتكلمون بكلام لا يلقون له بالا خاصة في مجالس بعض إلى الخير وطلبة العلم، ربما استهزؤوا أو ربما تكلموا بكلام فيه شيء من الهزل أو شيء من الضحك، وكان في أثناء هذا الكلام فيه ذكر الله أو فيه ذكر القرآن أو فيه ذكر بعض العلم، وهذا مما لا يجوز، وقد يدخل أحدهم في قول النبي عليه الصلاة والسلام "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا" نسأل الله جل وعلا السلامة والعافية.
فالواجب على العبد أن يعظم الله وأن لا يتلفظ بلسانه إلا بكلام عقله قبل أن يقوله لأن اللسان هو مورد الهلكة، قال معاذ للنبي عليه الصلاة والسلام: أو إنا يا رسول الله مؤاخذون بما نقول؟ "قال ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال على وجوههم- إلا حصائد ألسنتهم" فالله الله في اللسان في أنّه أعظم الجوارح خطرا مِمَّا يسهل أو يتساهل به أكثر الناس, فاحذر ما تقول خاصة فيما يتعلق بالدين أو بالعلم أو بأولياء الله أو بالعلماء أو بصحابة النبي عليه الصلاة والسلام أو بالتابعين, فإنّ هذا مورده خطير، والله المستعان، وقد عظمت الفتنة، والناجي من سلمه الله جل وعلا.نعم
¹
باب قول الله تعالى: ?وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولُنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ?[فصلت:50](1/419)
قال مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد: من عندي. وقال آخرون: علي علم من الله أني له أهل.
وقوله: ?قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي?[القصص:78]، قال قتادة: علي علم مني بوجوه المكاسب، وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل، معني قول مجاهد: أوتيته على شرف.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إِنّ ثَلاَثَةً من بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً. فَأَتَىَ الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيّ شَيْءٍ أَحَبّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنّي الّذِي قَدْ قَذِرَنِي النّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ. وَأُعْطِيَ لَوْناً حَسَناً وَجِلْداً حَسَناً. قَالَ: فَأَيّ الْمَالِ أَحَبّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ (أَوْ الْبَقَرُ. شَكّ إِسْحَاقُ) (1) فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ. فَقَالَ: بَارَكَ اللّهُ لَكَ فِيهَا. قَالَ: فَأَتَىَ الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيّ شَيْءٍ أَحَبّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنّي هََذَا الّذِي قَذِرَنِي النّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ. وَأُعْطِيَ شَعَراً حَسَناً. فقَالَ: فَأَيّ الْمَالِ أَحَبّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ. فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً. فَقَالَ: بَارَكَ اللّهُ لَكَ فِيهَا. قَالَ: فَأَتَىَ الأَعْمَىَ فَقَالَ: أَيّ شَيْءٍ أَحَبّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْ يَرُدّ اللّهُ إِلَيّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النّاسَ. فَمَسَحَهُ فَرَدّ اللّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ: فَأَيّ الْمَالِ أَحَبّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ. فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِداً.
__________
(1) إِلاّ أَنّ الأَبْرَصَ أَوِ الأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الإِبِلُ. وَقَالَ الآخَرُ: الْبَقَرُ. كما في صحيح مسلم.(1/420)
فَأُنْتِجَ هََذَانِ وَوَلّدَ هََذَا. فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ. وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ. وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.
قَالَ: ثُمّ إِنّهُ أَتَىَ الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ. قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي. فَلاَ بَلاَغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاّ بِاللّهِ ثُمّ بِكَ. أَسْأَلُكَ, بِالّذِي أَعْطَاكَ اللّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ, بَعِيراً أَتَبَلّغُ بهِ فِي سَفَرِي. فَقَالَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ. فَقَالَ لَهُ: كَأَنّي أَعْرِفُكَ. أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النّاسُ؟ فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللّهُ عزّ وجلّ المَالَ؟ فَقَالَ: إِنّمَا وَرِثْتُ هََذَا الْمَالَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً, فَصَيّرَكَ اللّهُ إِلَىَ مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا. وَرَدّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدّ عَلَىَ هَذَا. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيّرَكَ اللّهُ إِلَىَ مَا كُنْتَ.
قَالَ: وَأَتَىَ الأَعْمَىَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ. انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي. فَلاَ بَلاَغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاّ بِاللّهِ ثُمّ بِكَ. أَسْأَلُكَ, بِالّذِي رَدّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ, شَاةً أَتَبَلّغُ بِهَا فِي سَفَرِي. فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَىَ فَرَدّ اللّهُ إِلَيّ بَصَرِي. فَخُذْ مَا شِئْتَ. وَدَعْ مَا شِئَتَ. فَوَاللّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئاً أَخَذْتَهُ لِلّهِ. فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ. فَإِنّمَا ابْتُلِيتُمْ. فَقَدْ رضِيَ الله عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَىَ صَاحِبَيْكَ." أخرجاه.
[الشرح](1/421)
هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان وجوب تعظيم الله جل وعلا في الألفاظ، وأن النعم تُنسب إليه وأن يشكر عليها فتعزى إليه، ويقول العبد هذا أنعم الله علي به، والكذب في هذه المسائل أو أن يتكلم المرء بكلام ليس موافقا للحقيقة، أو هو مخالف لما يعلمه من أن الله جل وعلا أنعم عليه بذلك، هذا قد يؤديه إلى المهالك وقد يسلب الله جل وعلا عليه النعمة بسبب لفظه، فالواجب على العبد أن يتحرز في ألفاظه خاصة بما يتصل بالله جل وعلا أو بأسمائه وصفاته أو بأفعاله وإنعامه أو بعدله وحكمته، هذا ويجب على العبد أن يكون متحرزا في ذلك، والتحرز في ذلك من كمال التوحيد؛ لأنه لا يصدر التحرر إلا من قلب معظّم لله، مجلّ لله، مخبت لله؛ يعلم أن الله جل جلاله مطّلع عليه, وأنه سبحانه هو ولي الفضل وهو ولي الإنعام وهو الذي يستحق أن يجَلّ فوق كل جليل، ويستحق أن يُحب فوق كل محبوب، وأن يُعظّم فوق كل معظم.
فالله جل جلاله يجب توقيره وتعظيمه في الألفاظ، ومن ذلك ما يقوله الشيخ هذا الباب حيث قال (باب قول الله تعالى: ?وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولُنَّ هَذَا لِي?[فصلت:50]، قال مجاهد في تفسيرها: هذا بعملي وأنا محقوق به)؛ يعني نسب النعمة إلى نفسه أو نسب استحقاق النعمة إليه وأنه يستحق ذلك وأن الله جل وعلا لم يتفضل عليه بهذا الشيء, أو أنه تفضل عليه لأنه مستحق لهذا الإنعام، مستحق للمال، مستحق للجاه, مستحق لرفعة القدر عند الناس، فصار إليه ذلك الشيء؛ من المال والرفعة والسمعة الطيبة لأنه مستحق لذلك الشيء بفعله وجهده ونحو ذلك، مما قد يطرأ على قلوب ضعفاء الإيمان وضعفاء التوحيد.(1/422)
والواجب أن يعلم العبد أنه فقير غير مستحق لشيء على الله جل وعلا، وأنه الله هو الرب المستحق على العبد أن يشكره وأن يذكره وأن ينسب النعم إليه، وأما العبد فليس مستحقا في الدنيا لحق واجب على الله جل وعلا، إلا ما أوجبه الله جل وعلا نفسه.
فهذا الذي قال: هذا بعملي وأنا محقوق به. يعني بعد أن أتته رحمة من بعد الضراء قال (هذا بعملي وأنا محقوق به) وهذا يدخل فيه كثير مما يحصل في ألفاظ الناس، كقول الطبيب مثلا هذا الذي حصل من شفاء المريض هذا بسبب عملي، أو نجاحي وتولي هذا الأمر هذا بسبب جهدي وبسبب تعبي، مما يجعل أن فعل الله جل وعلا فيه ذلك بسبب استحقاقه، أو أن ينسى الله جل وعلا وينسب الأشياء إلى نفسه, ولهذا قال (وقال ابن عباس: يريد: من عندي) يعني هذا لي، يقول من عندي أنا الذي أتيت بهذا المال أو بهذه النعمة، وهذا من عندي ولم يُتفضل علي به.
إذن فدخل في هذا الوصف الذي جاء في الآية نوعان من الناس:
µ من ينسب الشيء إلى نفسه ولا ينسبه إلى الله جل وعلا أصلا.
µ والثاني أن ينسبه إلى نفسه من جهة الاستحقاق, وأنه يرى نفسه مستحقا لذلك الشيء على الله جل وعلا، كما يحصل من بعض المغرورين؛ أنه لو أطاع الله واتقاه وحصلت له نعمة فيقول: حصلت لي النعمة من جراء استحقاقي للنعمة فأنا العابد لله جل وعلا، ولا يستحضر أن الله جل وعلا يرحم عباده، ولو حاسبه على عمله لم تقم عباداته وعمله بنعمة من النعم التي أسداها الله جل وعلا له.(1/423)
فالواجب -إذن- على العبد أن ينسب النعم جميعا لله، وأن يشعر بأنه لا يستحق شيئا على الله, وإنما الله هو المستحق للعبودية، هو المستحق للشكر، هو المستحق للإجلال، والعبد فقير مذنب مهما بلغ، وأنظر إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - كيف علمه النبي عليه الصلاة والسلام أنه يقول في آخر صلاته: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي". هذا أبو بكر علمه عليه الصلاة والسلام أن يقول (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا), فكيف بحال المساكين أمثالنا أو أمثال أكثر هذه الأمة؟ كيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئا؟
فإذن تمام التوحيد أن يُجِلَّ اللهَ العبدُ، وأن يعظم العبد ربه تبارك وتعالى، وأن لا يعتقد أنه مستحق للنعم أو إنما أوتيها بجهده وجهاده وعمله وذهابه ومجيئه؛ بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فعل العبد سبب وهذا السبب قد يتخلف وقد يكون مؤثرا، وكان مؤثرا بإذن الله جل وعلا، فرجع الأمر إلى أنه فضل الله يؤتيه من يشاء.(1/424)
قال: (وقوله: ?قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي?[القصص:78]، قال قتادة: علي علم مني بوجوه المكاسب) هذا في قصة قارون قال جل وعلا ?إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ?[القصص:76] إلى أن قال ?قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي?[القصص:78]، قال قتادة على علم مني بوجوه المكاسب، وهذا يحصل لكثير ممن أغناهم الله جل وعلا وصاروا في تجارة عظيمة، ينسب الشيء إلى نفسه، فيقول أنا خبير، أنا أفهم، أنا عندي علم بوجوه المكاسب، ونحو ذلك، وينسى أن الله جل وعلا هو الذي تفضل ولو منع السبب الذي فعله من التأثير لم يصر شيئا، فالله جل وعلا هو الذي تفضل عليه، وهو الذي وفقه وهو الذي هداه للفكرة، وهو الذي جعل السبب مؤثرا، فالله هو المنعم ابتداء وهو المنعم ختاما.
فالواجب -إذن- أن يتخلّص العبد من رؤية نفسه، وأن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة.
فهذا الباب معقود لما ذكرنا من تخليص لما من تخليص القلب واللسان من ألفاظ اعتقادات باطلة يظن المرء فيها أنه مستحق أشياء على الله جل وعلا، والتوحيد هو أن يكون العبد ذليلا خاضعا بين يدي الله، يعلم أنه لا يستحق شيئا على الله جل وعلا وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال (وقال آخرون : علي علم من الله أني له أهل) وهذا يشمل أحد الدرجتين اللتين ذكرتهما.
قال (معني قول مجاهد : أوتيته على شرف).
ثم ساق حديث أبي هريرة الطويل والدلالة من ظاهره أن الله جل وعلا عاف هؤلاء؛ ولكنه لما عافاهم نسبا اثنان منهم النعمة إلى أنفسهم، وثالث نسبها إلى الله فجزى الله الأخير خيرا وأدام عليه النعمة، وعاقب ذينك الرجلين، وهذا فضل الله ينعم ثم يثبت النعمة في من شاء ويصرف النعمة عمن يشاء.(1/425)
ومن أسباب ثبات النعمة: أن يعظم العبد ربه، وأن يعلم أن الفضل بيد الله، وأن النعمة هي نعمة الله.
ثم في ختام هذا الباب الوصية بأن تكون حذرا في اللسان، حذرا فيما تتكلم به, وأن تعلم أن كل خير إنما هو من الله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله، ولو سلبك الله العناية منه جل وعلا طرفة عين لكنتَ هالكا ومن الخاسرين, فإنّ العبد أحوج ما يكون إلى الاعتراف والعلم بأسماء الله وبصفاته وبآثار ذلك في ملكوته، وبربوبيته جل وعلا على خلقه، وبعبادته حق عبادته.
أسأل الله لي ولكم النور في القلوب والصواب في الأقوال والأعمال والاعتقادات وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
باب قول الله تعالى: ?فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا فَتَعَالى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونً?[الأعراف:190]
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب.
وعن ابن عباس في الآية، قال: لما تغشاها آدم، حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني أو لآجعلن له قرني أيِّل، فيخرج من بطنك، فيشقه، ولأفعلن، يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا. ثم حملت، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله: ?جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا?[الأعراف:190]. رواه ابن أبي حاتم
وله بسند صحيح عن قتادة، قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته.
وله سند صحيح عن مجاهد، في قوله: ?لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً?[الأعراف:189]، قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً. وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
[الشرح](1/426)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الباب ترجمه المصنف الإمام رحمه الله تعالى بقوله (باب قول الله تعالى: ?فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا فَتَعَالى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونً?[الأعراف:190]) فمناسبة هذا الباب للأبواب قبله أنه وتلك الأبواب بمعنى واحد وذلك المعنى أن شكر النعمة لله جل وعلا فيما أنعم به يقتضي أن تُنسب إليه جل وعلا، وأن يحمد عليها ويثنى عليه بها، وأن تستعمل في مراضيه جل وعلا، وأن يتحدث بنعمة الله، فالذي ينسب النعم إلى نفسه، هذا لم يحقق التوحيد، فإنه جمع بين ترك تعظيم الله جل وعلا وما بين ادعاء شيء ليس له، كذلك الذي يعتقد في غيره الذي هو المنعم عليه كقول القائل: لو لا فلان لم يكن كذا، أو نحو تلك العبارات التي تدخل في قوله تعالى ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22] وفي قوله ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، هذه وأمثالها راجع إلى عدم شكر النعمة، ومن شكر النعم أن الله جل وعلا إذا أنعم على عبد يولد وجعله سليما معافى ورزقه بتلك النعمة التي هي نعمة الولد أنْ يشكر الله عليها.
ومن عدم شكر النعمة تلك ونسبتها إلى غير الله أن يُعبِّد الولد لغير الله جل وعلا، فإن هذا مضاد للاعتراف بأن المنعم ذلك الولد هو الله جل وجلاله، وقد يصل ذلك إلى حد الشرك الأكبر إذا عَبَّد الولدَ لولي أو لعبد صالح، وهو يعني حقيقة العبودية التي هي أن هذا عبد لذاك؛ لأن ذاك إله، كمن يعبد لبعض المشايخ فيقول عبد السيد ويعنون به السيد البدوي، ويقولون عبد زينب وعبد علي وعبد عمرو، ونحو ذلك من الأسماء التي فيها اعتقادات.(1/427)
فمن عبد لغير الله جل وعلا فإن هذا ينافي شكر النعمة، ولهذا أتبع الشيخ رحمه الله هذا الباب الأبواب قبله لما يشترك معها في هذا المعنى، وأن الواجب على العبد أن يحقق التوحيد وأن لا ينسب النعم لغير الله جل وعلا، وإن وقعت منه ذلك فيجب عليه أن يبادر بالتوبة وأن لا يقيم على ذلك.
قال (باب قول الله تعالى: ?فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا فَتَعَالى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونً?[الأعراف:190]) قوله (فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحاً) الضمير هنا يرجع إلى آدم وحواء، والذي عليه عامة السلف أن القصة في آدم وحواء حتى قال الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: فإن نسبة ذلك إلى غير آدم وحواء هو من التفاسير المبتدعة. والذي يعرفه السلف أن الضمير يرجع إلى آدم وحواء، وسياق الآية لا يقتضي غير ذلك إلا بأوجه من التكلف، ولهذا قال الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله اعتمد هذا الذي عليه عامة السلف ففسر هذه الآية بأن المراد بها آدم وحواء، (فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا) يعني آتى اللهُ آدمَ وحواء صالحا، وقوله (صَالِحاً) يعني من جهة الخلقة؛ لأنه كان يأتيهما ولد فيموت أو يكون معيبا فيموت، فالله جل وعلا رزقهما هذا الولد الصالح السليم في خلقته السليم في بنيته، وكذلك هو صالح لهما من جهة نفعهما، قال جل وعلا (جَعَلاَ لَهُ)، (جَعَلاَ) يعني آدم وحواء (لَهُ) يعني لله جل وعلا، (شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا)، وكلمة (شُرَكَاءَ) جمع الشريك، والشريك في اللغة هو المقصود بهذه الآية يعني هذه الآية فيها لفظ الشركاء، والمقصود بها معنى الشركة في اللغة، ومعنى الشركة في اللغة اشتراك اثنين في شيء، فجعلا لله شركاء فيما آتاهما؛ حيث سميا ذلك الولد عبد الحارث، والحارث هو إبليس ذلك أن إبليس كما سمعتم في القصة هو الذي قال إن لم تسمياه عبد الحارث لأفعلن ولأفعلن ولأجعلن له قرني أيِّل وهو ذكر الوعل، وفي(1/428)
هذا تهديد بأن يشق بطن الأم فتموت ويموت أيضا الولد، فلما رأت حواء ذلك وأنها قد مات لها عدة بطون فأطاعت الشيطان في ذلك، فصارت الشركة شركة في الطاعة، وآدم وحواء عليهما السلام قد أطاع الشيطان من قبل حيث أمرهما بأن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله جل وعلا عنها، فوقوع طاعة الشيطان من آدم وحواء عليما السلام, وقوع ذلك منهما لم يكن هذه هي أول مرة كما جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "خدعهما مرتين" وهذا هو المعروف عند السلف.
فيكون -إذن- قوله (شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا) من جهة التَّشريك في الطاعة، ومعلوم أن كل عاص هو مطيع للشيطان، وكل معصية لا تصدر من العبد إلا وثَم نوع تشريك حصل في الطاعة، لأنه إما أن يطيع هواه وإما أن يطيع الشيطان، ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره من المحققين: إنه ما من معصية يعصي بها العبد ربه إلا وسببها طاعة الشيطان أو طاعة الهوى؛ وذلك نوع تشريك. وهذا الذي حصل من آدم وحواء عليهما السلام فهذا لا يقتضي نقصا في مقامهما، ولا يقتضي شركا بالله جل وعلا، وإنما هو نوع تشريك في الطاعة، والمعاصي جائزة -يعني المعاصي الصغار- جائزة على الأنبياء كما هو معلوم عند أهل العلم، فإن آدم نبي مكلم، وصغار الذنوب جائز على الأنبياء ولا تقدح في كمالهم؛ لأنهم لا يستقيمون عليها بل يسرعون وينيبون إلى الله جل وعلا، ويكون حالهم بعد ما وقع منهم ذلك أعظم من حالهم قبل أن يقع منهم ذلك؛ لأنهم يكون لهم مقامات إيمانية واعتراف بالعبودية أعظم وخضوع بين يدي الله أعظم، ومعرفة بتحقيق ما يجب لله جل وعلا وما يستحب أعظم.
إذن هذه القصة كما ذكرنا صحيحة، وآثار السلف الكثيرة تدل عليها، والسياق أيضا سياق الآيات في آخر سورة الأعراف يدل عليها.(1/429)
والإشكال الذي أورده بعض أهل التفسير من المتأخرين في أن آدم وحواء جعلا لله شركاء هذا نص الآية ولا يمنع؛ ولأن التشريك هنا تشريك كما قلنا فيما يدل عليه المعنى اللغوي ليس شركا أصغر، وليس -وحاشاهم- شركا أعظم من ذلك وإنما هو تشريك في الطاعة، كما قال جل وعلا ?أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً?[الفرقان:43]، وكما قال أيضا في آية أخرى ?أَفرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ?[الجاثية:23]، فكل من جعل هواه متَّبعا فقد جعله مطاعا، وهذا نوع تأليه؛ لكن ولا يقال عبد غير الله أو أله أشرك أو شرك بالله جل وعلا؛ لكن هو نوع تشريك، فكل طاعة للشيطان أو للهوى فيها هذا النوع من التشريك، إذْ الواجب على العبد أن يعظم الله جل وعلا وأن لا يطيع إلا أمره جل وعلا وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فإذن ظاهر أن القصة لا تقتضي نقصا في مقام آدم عليه السلام ولا في مقام حواء؛ بل هو ذنب من الذنوب تابا منه كما حصل منهما أول مرة في الأكل من الشجرة.
بل إنّ أكلهما من الشجرة ومخالفة أمر الله جل وعلا أعظم من هذا الذي حصل منهما هنا وهو تسمية الولد عبد الحارث؛ وذلك أن الخطاب الأول كان من الله جل وعلا لآدم مباشرة، خاطبه الله جل وعلا ونهاه عن أكل هذه الشجرة، وهذا خطاب متوجه إلى آدم بنفسه.
وأما هذه التسمية فإنه لم يُنهَ عنها مباشرة، وإنما يفهم النهي عنها من وجوب حق الله جل وعلا، فذاك المقام زاد على هذا المقام من جهة خطاب الله جل وعلا على المباشر لآدم.
وهذا أمر معروف عند أهل العلم ولهذا فسر قتادة كلمة شركاء بقوله كما نقل الشيخ حيث قال: (وله بسند صحيح عن قتادة، قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته) وهذا هو الصحيح في تفسير الآية.(1/430)
قال الإمام (قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب) قول ابن حزم (اتفقوا) يعني أجمعوا، يعني أجمع أهل العلم -فيما علمه هو- أن التعبيد لغير الله محرم؛ لأن فيه إضافة النعمة لغير الله وفيه أيضا إساءة أدب مع الربوبية والإلهية فإن تعبيد الناس لغير الله جل وعلا هذا غلط من جهة المعنى وأيضا فيه واهتضام أو نوع اهتضام لمقام الربوبية، ولذلك حَرُم في هذه الشريعة هذه التسمية؛ بل وفي شرائع الأنبياء جميعا، فاتفق أهل العلم على ذلك وأن كل اسم معبد لغير الله كعبد عمر وعبد الكعبة وعبد علي وغير ذلك من الأسماء فإن هذا محرم ولا يجوز وما أشبه ذلك.
قال (حاشا عبد المطلب)، قوله (حاشا عبد المطلب) يعني لم يجمعوا عليه فإن من أهل العلم من قال تكره التسمية بعبد المطلب ولا تحرم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في غزوة حنين
أنا النبي لا كذب ڑأنا ابن عبد المطلب
وقالوا جاء في أسماء الصحابة من اسمه عبد المطلب ولهذا قالوا لا يحرم، وهذا القول ليس بصحيح في أن عبد المطلب تكره التسمية به ولا تحرم، وما استدلوا به ليس بوجيه وذلك أن قول النبي عليه الصلاة والسلام
أنا النبي لا كذب ڑأنا ابن عبد المطلب
هذا من جهة الإخبار، والإخبار ليس فيه تعبير مباشر بإضافة ذلك المخلوق إلى غير خالقه، وإنما هو إخبار وباب الإخبار أوسع من باب الابتداء كما هو معلوم.
وأما تسمية بعض الصحابة بعبد المطلب، فالمحققون من الرواة يقولون إن من سمي بعبد المطلب صحة اسمه المطلب بدون التعبيد؛ ولكن نقلت لعبد المطلب لأنه شاع التسمية بعبد المطلب دون المطلب فوقع خطأ في ذلك، وبحث هذه المسائل ومحله كتب الحديث وكتب الرجال فنمر عن ذلك.(1/431)
وقال بعده (وعن ابن عباس في [معنى] الآية، قال: لما تغشاها آدم، حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما) إلى آخر القصة، قال (فذلك قوله: ?جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَاهُمَا?[الأعراف:190]. رواه ابن أبي حاتم، وله بسند صحيح عن قتادة، قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته.) وهذا دليل على التفريق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.
الشرك في العبادة كفر أكبر مخرج من الملة.
أما الشرك في الطاعة فله درجات يبدأ من المعصية والمحرم وينتهي بالشرك الأكبر، فالشرك في الطاعة درجاته كثيرة، ليس درجة واحدة، فيحصل شركا في الطاعة فتكون معصية، ويحصل شرك في الطاعة فيكون كبيرة، ويحصل شرك في الطاعة ويكون كفر أكبر ونحو ذلك.
أما الشرك في العبادة فهو كفر أكبر بالله جل جلاله.
ولهذا فرق أهل العلم بين شرك الطاعة وشرك العبادة، مع أن العبادة مستلزمة للطاعة، والطاعة مستلزمة أيضا للعبادة؛ لكن ليس في كل درجاتها.
قال (وله سند صحيح عن مجاهد، في قوله: ?لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً?[الأعراف:189]) يعني في الآية قبلها ?لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ?[الأعراف:189]، (قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً) يعني خافا أن يكون له كما قال الشيطان له قرنا أيّل أو خلقته مختلفة أو يخرج حيوانا أو قردا أو نحو ذلك، فقال (لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً) يعني ولدا صالحا سليما من الآفات، سليما من الخلقة المشينة، فوعد أن يكون من الشاكرين فلما آتاهما صالحا عبّد ذلك للحارث خوفا من أن يكون الشيطان يتسلط عليه بالموت أو الإهلاك أخذتهما شفقة الوالد على الولد، فكان ذلك خلاف شكر تلك النعمة؛ لأن من شكر نعمة الولد أن يعبَّد الولد لله الذي أنعم به وأعطاه وتفضَّل به. نعم
¹
باب قول الله تعالى: ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ?الآية[الأعراف:180](1/432)
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: ?يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ?[الأعراف:180]: يشركون.
وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها.
[الشرح]
(باب قول الله تعالى: ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[الأعراف:180]) هذا الباب في وجوب تعظيم أسماء الله الحسنى، وأن من تعظيمها أن لا يُلحد فيها وأن يدعى الله جل وعلا بها.
والأسماء الحسنى هي الحسنة البالغة في الحسن نهايته، فالخلق يتسمون بأسماء لكن قد لا تكون حسنة أو قد تكون حسنة ولكن ليست بالغة في الحسن نهايته؛ لأن الحُسن في الأسماء يكون راجعا إلى أنّ الصفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم تكون حقا فيمن تسمى بها، ويكون قد بلغ نهاية ذلك الوصف، والإنسان لو تسمى باسم فيه معنى فإنه لا يُنظر فيه إلى أن المعنى قد اشتملت عليه خصاله، فيسمى صالحا وقد لا يكون صالحا، ويسمى خالدا وقد لا يكون خالدا، ويسمى محمدا وقد لا يكون كثير خصال الحمد، وهكذا فإن الإنسان قد يسمى بأسماء لكن قد تكون في حقه حسنى.
والله جل وعلا له الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته، وهي الأسماء المشتملة على الصفات صفات الكمال والجلال والجمال والقدرة والعزة والجبروت وغير ذلك، وله من كل اسم مشتمل على صفة أعلى وأعظم الصفة والمعنى الذي اشتملت عليه الصفة، والناس وأهل العلم إذا فسروا الأسماء الحسنى فإنما تقريب ليدلوا الناس على أصل المعنى، أما المعنى بكماله فإنه لا يعلمه أحد إلا الله جل جلاله، ولهذا(1) [قال عليه الصلاة والسلام في دعائه:"لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".
__________
(1) انتهى الوجه الأول للشريط الرابع عشر.(1/433)
فالناس حين يفسرون أسماء الله جل وعلا فإنهم يفسرون ذلك بما يُقَرِّب إلى الأفهام المعنى، أما حقيقة المعنى على كماله فإنهم لا يعونه؛ لأن ذلك من الغيب، وكذلك الكيفية فإنهم لا يعونها؛ لأن ذلك من الغيب.
فالله جل وعلا له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، ومن الأسماء ما لا يكون حسنا](1) إلا بقيد مثل الصانع والمتكلم والمريد والفعال أو الفاعل ونحو ذلك، فهذه الأسماء ولا تكون كمالا إلا بقيد:
في أن يكون متكلما بما شاء إذا شاء، بما تقتضيه الحكمة وتمام العدل، فهذا يكون محمودا، ولهذا ليس من أسماء الله المتكلم.
كذلك الصانع قد يصنع خيرا، وقد يصنع غير ذلك، والله جل وعلا ليس من أسمائه الحسنى الصانع لاشتماله على هذا وهذا، فإذا أطلق من جهة الخبر فيعني به ما يقيد بالمعنى الذي فيه كمال.
كذلك فاعل أو فعّال، فإن الفعال قد يفعل أشياء لا توافق الحكمة، وقد يفعل أشياء لا يريدها؛ بل مجبر عليها، والكمال أن يفعل ما يريد ولا يكون مجبرا لكمال عزته وقهره، ولهذا قال الله جل وعلا عن نفسه ?فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ?(2)، لأن تقييد كونه فعالا لما يريد هذا هو الكمال.
فيه أشياء كثيرة من ذلك معروفة في مباحث الأسماء والصفات.
وأسماء الله الحسنى تنقسم باعتبارات من جهة المعنى.
قال طائفة من أهل العلم:
إن منها أسماء الجمال: وأسماء الجمال لله جل جلاله هي الأسماء المشتملة على حسن في الذات أو حسن في المعنى وبِرٍّ بالعباد والمخلوقين، فيكون من أسماء الجمال صفات الذات، واسم الله الجميل، ويكون من أسماء الجمال البر والرحيم والودود ونحو ذلك والمحسن وما أشبه ذلك.
__________
(1) سقط من الأشرطة، وقد نقلته عن تفريغ جامع ابن تيمية.
(2) هود:107، البروج:16.(1/434)
ومن أسماء الله ما هو من الجلال: يقال هذه أسماء الجلال، وأسماء الجلال لله هي التي فيها ما يدل على جلال الله، وهو عظمته وعزته جل وعلا وجلاله حتى يجل مثل القهار والجبار والقدير والعزيز ونحو ذلك والمقيت وأشباه هذه الأسماء فهذه أسماء الجلال.
وهناك أسماء في تقسيمات مختلفة تُطلب من كلام ابن القيم رحمه الله أو من كلام الشراح.
فإن المقصود -إذن- أنّ العبد المؤمن الموحد أن يتعرَّف إلى الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، ولا يتم حقيقة التوحيد في قلب العبد حتى يعلم أسماء الله جل وعلا ويعلم صفات الله جل وعلا، فإن العلم بها تتم به حقيقة التوحيد.
والعلم بها على مراتب:
منها أن يعلمها إثباتا؛ يعني يثبت ما أثبت الله لنفسه، وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيؤمن أن هذا الاسم من أسماء الله، وأن هذه الصفة من صفات الله جل وعلا.
والثاني أن يسأل الله جل وعلا بأسماء الله وصفاته بما يوافق مطلوبه؛ لأن الأسماء والصفات نتعبد لله جل وعلا بها بأن فادعوه بها -كما جاء في هذه الآية وسيأتي بين ذلك إن شاء الله-.
الثالث من الإيمان بالأسماء والصفات أن ينظر إلى آثار أسماء الله وصفاته في الملكوت، فإذا نظر إلى الأسماء والصفات في الملكوت وتأمل ذلك علم أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن الحق الثابت اللازم هو الله جل وعلا، وأن سوى الله هو الباطل وزائل وآيل إلى الهلاك، ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص:88].(1/435)
قال (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) اللام هنا في قوله (وَلِلَّهِ) هي لام الاستحقاق؛ يعني الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته مستحَقة لله جل وعلا والله مستحق ذلك، قال (فَادْعُوهُ بِهَا) يعني إذا علمتم أن الله هو المستحق لذلك وآمنتم بذلك فادعوه بها وهذا أمر، وقوله (فَادْعُوهُ بِهَا) الدعاء هنا فُسر بالثناء والعبادة وفسر بالسؤال والطلب، وكلاهما صحيح، فإننا ندعو الله بها يعني نحمده ونثني عليه بها، فنعبده متوسلين إليه بهذه الأسماء والصفات، بالأسماء الحسنى واشتملت عليه من الصفات العلا، والثاني أن نسأل بها؛ يعني إذا كان لنا مطلوب نتوجه إلى الله فنسأله بتلك الأسماء بما يوافق المطلوب، فإذا سألنا الله المغفرة نأتي بصفات الجمال، إذا سألنا الله النصرة نأتي بصفات الجلال، وهكذا فيما يتناسب، وهناك تفصيلات أيضا لهذا الأمر.
المقصود أن قوله جل وعلا (فَادْعُوهُ بِهَا) يعني اسألوه بها أو أعيدوه وأثنوا عليه بها جل وعلا، فيشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
والباء في قوله (بِهَا) يعني متوسلين بها، هي باء الوسيلة.
(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)، (ذَرُوا) يعني أتركوا، وهذا يعني أن المسلم واجب عليه أن يبتعد عن حال الذين يلحدون في أسماء الله جل وعلا، والإلحاد في أسماء الله هو الميل والعدول بها عن حقائقها إلى ما لا يليق بالله جل وعلا.
وهذا الإلحاد مراتب:
من مراتب الإلحاد في أسماء الله وصفاته أن يسمى البشر المعبودين يسميهم بأسماء الله، كما سموه اللات من الإله، والعزى من العزيز، ونحو ذلك.
ومن الإلحاد في أسماء الله أن يجعل لله جل وعلا ولد، وأن يضاف المخلوق إليه إضافة الولد إلى والده، كحال النصارى ذا نوع من الإلحاد في أسماء الله جل وعلا في صفاته.(1/436)
ومن الإلحاد إنكار الأسماء والصفات، أو إنكار بعض ذلك، كما فعلت الجهمية الغلاة فإنهم لا يؤمنون باسم من أسماء الله ولا بصفة من صفات الله إلا الوجود والموجود؛ لأن هذه الصفة هي التي يستقيم معها برهانهم بحلول الأعراض عن الأجسام ودليل ذلك على الوحدانية كما هو معروف في موضعه.
ومن الإلحاد أيضا والميل بها عن الحق الثابت الذي يجب لله جل وعلا فيها أن تؤول وتصرف عن ظاهرها إلى معاني لا يجوز أن تصرف إليها، فيكون ذلك من التأويل.
والواجب الإيمان بالأسماء والصفات، وإثبات الأسماء والصفات، واعتقاد ما دلت عليه، وترك التعرض لها بتأويل ونحوه، وهذا قاعدة السلف؛ فنؤمن بها ولا نصرفها عن حقائقها بتأويل أو بمجاز أو نحو ذلك، كما فعل المعتزلة وفعلته الأشاعرة والماتريدية وطوائف.
كل هذا نوع من أنواع الإلحاد.
وإذا تقرر ذلك فيكون الإلحاد -إذن- منه ما هو كفر ومنه ما هو بدعة بحسب الحال الذي ذكرنا.
فالحال الأخيرة وهي التأويل وادعاء المجاز في الأسماء والصفات هذه بدع وإلحاد لا يصل بأصحابه إلى الكفر، أما نفي وإنكار ومجد الأسماء والصفات كحال الجهمية فهذا كفر، وهكذا فعل النصارى ومشركي العرب.
قال (ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: ?يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ?[الأعراف:180]: يشركون.) يعني يجعلون اللات من الإله، فينادون اللات وعندهم أنهم نادوا الإله فصار شركا.(1/437)
قال (وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها.) وهذه مرتبة من مراتب الإلحاد في الأسماء؛ لأن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى، فمن أدخل اسما لم يثبت في الكتاب والسنة أنه من أسماء الله فقد ألحد؛ لأنه مال وعدل عن الحق الذي يجب في الأسماء والصفات إلى غيره، والحق هو أن تُثبِت لله ما أثبته لنفسه إذْ لا أحد أعلم بالله من الله جل جلاله وتعاظم شأنه، وكذلك لا أحد أعلم من الخلق بالله جل وعلا من رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن أدخل فيها ما ليس منها فقد ألحد، كمن قال في أسماء الله الماكر والمستهزئ والصانع وجعل ذلك من الأسماء الحسنى فإن ذلك لا يجوز، وإطلاق هذه الأسماء على الله جل وعلا لا يجوز، ومنها ما يجوز بتقييد في باب الإخبار.
ومباحث هذا الباب طويلة لاتصالها بالأسماء والصفات، وهي معروفة في مبحث توحيد الأسماء والصفات. نعم
¹
[الأسئلة]
[س/ نرى عبارة مكتوبة على بعض السيارات: يا رضى الله ورضىالوالدين.
ج/ قوله (يا رضى الله ورضى الوالدين) فيها غلط من جهتين:
الجهة الأولى: أنه نادى رضى الله، ومناداة صفات الله جل وعلا بـ(يا) النداء لا تجوز؛ لأن الصفة في هذا المقام غير الذات في مقام النداء؛ ولهذا إنما ينادى الله جل وعلا المتصف بالصفات، وقد نصّ شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري، وغيرُهُ من أهل العلم على أن مناداة الصفة محرم بالإجماع، فإذا كانت الصفة هي الكلمة -كلمة الله جل وعلا- كان كفرا بالإجماع؛ لأن من نادي الكلمة يعني بها عيسي عليه السلام فيكون تأليها لغير الله -جل وعلا، ورضى الله جل وعلا صفة من صفاته، فلا يجوز نداء الصفة.(1/438)
والمؤاخذة الثانية: في تلك الكلمة أنه جعل رضى الوالدين مقرونا برضى الله جل وعلا بالواو، والأنسب هنا أن يكون العطف بـ(ثُمّ)، يقول: مثلا أسأل الله رضاه ثم رضى الوالدين، وإن كان استعمال الواو في مثل هذا السياق لا بأس به؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ?[لقمان:14]، وقال جل وعلا ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[الإسراء:23] ولأن الواو هنا تقتضي تشريكا في أصل الرضى، وهذا الرضى يمكن أن يكون من الوالدين أيضا، فيكون التشريك بأصل المعنى لا المرتبة، نعم.] (1)
¹
باب لا يقال: السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: كنا إذا كنا مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاةِ قلنا: السلامُ على اللهِ من عِبادهِ, السلامُ على فلانٍ وفلان, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقولوا السلامُ على اللهِ, فإِنّ اللهَ هوَ السلامُ".
[الشرح]
(باب لا يقال السلام على الله) ومناسبة هذا الباب للباب الذي قبله أنّ ترك قول السلام على الله هو من تعظيم الأسماء الحسنى ومن العلم بها؛ ذلك أن السَّلام هو الله جل جلاله والسلام من أسمائه سبحانه وتعالى، فهو المتصف بالسلامة الكاملة من كل نقص وعيب، وهو المنزه والمبعَد عن كل آفة أو نقص أو عيب، فله الكمال المطلق في ذاته وصفاته الذاتية وصفاته الفعلية جل وعلا.
والسلام في أسماء الله معناه أيضا الذي يعطى السلامة ويجعل السلامة، وأثر هذا الاسم في ملكوت الله أنّ كل سلامة في ملكوت الله من كل شر يؤذي الخلق فإنها من آثار هذا الاسم السلام، فإنه لكون الله جل وعلا هو السلام فإنه يفيض السلامة على العباد.
__________
(1) من الوجه الثاني من الشريط السادس.(1/439)
إذا كان كذلك فالله جل جلاله هو الذي يفيض السلامة، وليس العباد هم الذين يعطون الله السلامة، فإن الله جل وعلا هو الغني عن خلقه، هو الغني بالذات والعباد فقراء بالذات ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ?[فاطر:15]، فالعبد هو الذي يعطَى السلامة والله جل وعلا هو الذي يسلم.
لهذا كان من الدب الواجب في جناب الربوبية وأسماء الله وصفاته ألا يقال: السلام على الله؛ بل أن يقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على فلان وعلى فلان، السلام عليك يا فلان ونحو ذلك، فتدعو له بأن يبارك باسم الله السلام أو أن تحل عليه السلامة.
فإذن وجه مناسبة هذا الباب للذي قبله ظاهرة، ومناسبته لكتاب التوحيد أن الأدب مع أسماء الله جل وعلا وصفاته ألا يخاطب بهذا الخطاب، وألا يقال السلام على الله؛ لأن في هذا نقصا في تحقيق التوحيد، فتحقيق التوحيد الواجب أن لا تُقال هذه الكلمة لأن الله غني عن عباده، والفقراء هم الذين يحتاجون السلامة.(1/440)
قال (في الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: كنا إذا كنا مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاةِ قلنا: السلامُ على اللهِ من عِبادهِ, السلامُ على فلانٍ وفلان)، (السلامُ على اللهِ من عِبادهِ) قالوها مع كونهم موحدين عالمين بحق الله جل وعلا، قالوها ظنا أنها تحية لا تحوي ذلك المعنى، فجعلوها من باب التحية، والتحية في هذه الشريعة مرتبطة بالمعنى، فـ(السلامُ على اللهِ من عِبادهِ) كأنهم قالوا تحية لله من عباده، وهذا المعنى وإن كان صحيحا من حيث القصد لكنه ليس صحيحا من حيث اللفظ؛ لأن هذا اللفظ لا يجوز من جهة أن الله جل وعلا هو السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، والعباد مسلَّمون هم الذين سلمهم الله جل وعلا ويفيض عليهم السلام وهم الفقراء المحتاجون، فليسوا هم الذين يعطون الله السلام، فمعنى (السلامُ على اللهِ) يعني السلامة تكون على الله من عباده، وهذا لا شك أنه باطل، وإساءة في الأدب كما يجب لله جل وعلا في ربوبيته وأسمائه وصفاته، لهذا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا السلامُ على اللهِ, فإِنّ اللهَ هوَ السلامُ) نهاهم وهذا النهي للتحريم، ولا يجوز لأحد أن يقول: السلام على الله؛ لأن السلام على الله مُقتضٍ اهتضام جناب الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
إذا كان كذلك فما معنى قولك حين تسلم على أحد: السلام عليك يا فلان، أو السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟
فهذه تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة ?تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ?[الأحزاب:44].
قال بعض أهل العلم: إنّ معناها -وهذا هو أحد المعنيين- معنى السلام عليكم يعني كل اسم لله جل وعلا عليكم؛ يعني اسم السلام عليكم، فيكون ذلك تبركا بأسماء الله جل وعلا وصفاته، فاسم السلام عليكم؛ يعني اسم الله عليكم، فيكون ذلك تبركا بكل الأسماء، ومنها اسم الله جل وعلا السلام.(1/441)
والثاني ما قاله آخرون من أهل العلم أن قول القائل السلام عليكم ورحمة الله؛ يعني السلامة التي اشتمل عليها اسم السلام عليكم، نسأل الله أن يفيضها عليكم، أو أن يكون المعنى كل سلامة عليكم منِّي، فإنك لن تجد مني إلا السلامة، وهذا يصدق حين تنكر تقول سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ يعني كل سلامة مني ستأتيك يعني فلن أخفِرك في عرضك ولن أخفرك في مالك ولن أخفرك في نفسك.
وكثير من المسلمين يقول هذه الكلمة وهو لا يعي معناها؛ كيف أنه حين قال لمن أتاه السلام عليكم كأنه عاهده بأنه لن يأتيه منه إلا السلامة ثم هو يخفر هذه الذمة وربما أضره أو تناول عرضه أو تناول ماله أو نحو ذلك.
فهذا فيه التنبيه على فائدة مهمة وهو أن طالب العلم بالخصوص؛ بل عاقل بعامة إذا نطق بكلام لا بد أن يتبين ما معنى هذا الكلام، فكونه يستعمل كلاما لا يعي معناه هذا من العيب وليس من أخلاق الرجال أصلا؛ أن يتكلمون بكلام ولا يعون معناه، فيأتي بكلام ثم ينقضه في فعله وفي قوله، هذا ليس من أفعال الذين يعقلون، فضلا عن أن يكون من أفعال أهل العلم أو طلبة العلم الذين يعون عن الله جل وعلا شرعه ودينه.
فإذن صار هنا قولان، وكلا القولين صواب، فإن قول القائل السلام عليكم يشمل الأول والثاني، فتبرك بكل اسم من أسماء الله وتبرك باسم الله السلام الذي من آثاره السلامة عليك في دينك ودنياك فهو دعاء لك بالسلامة في الدين وفي الدنيا في الأعضاء وفي الصفات والجوارح إلى آخر ذلك، أو أن تكون بالمعنى الثاني كل منهما صحيح.
¹
باب قول: اللهم اغفر لي إن شئتَ
في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَقُلَ أَحَدُكُمُ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ. اللّهُمّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ. لِيَعْزِمْ المسألةَ, فَإِنَّ اللهَ لاَ مُكْرِهَ لَهُ". ولمسلم: "وَلْيُعَظِمِ الرّغْبَةَ. فَإِنّ اللّهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ".
[الشرح](1/442)
قال (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئتَ) حقيقة التوحيد أن يوحِّد العبد ربَّه جل وعلا بتمام الذل والخضوع والمحبة وأن يتضرع إلى الله جل وعلا ويتذلل إليه في إظهار فقره التام إليه وأنّ الله جل وعلا هو الغني عما سواه.
وقول القائل (اللهم اغفر لي إن شئت)، يفهم منه أنه مستغن عن أن يغفر له كما يأتي العزيز أو المتكبر من الناس فيقول للآخر لا يريد أن يتذلل له فيقول افعل هذا إن شئت يعني إن فعلت ذلك فحسن وإن لم تفعل فلست بملحٍّ عليك ولست بذي إكرام فهو مناف, هذا القول مناف لحاجة الذي قالها إلى آخر، ولهذا كان فيها عدم تحقيق للتوحيد، ومنافاة لما يجب على العبد في جناب ربوبية الله جل وعلا أن يظهر فاقته وحاجته لربه، وأنه لا غنى به عن مغفرة الله وعن غنى الله وعن عفوه وكرمه وإفضاله ونِعمه طرفة عين.
فقول القائل (اللهم اغفر لي إن شئت) كأنه يقول: لست محتاجا، إن شئت فاغفر، وإن لم تشأ فلست بمحتاج. وهذا فعل أهل التكبر وأهل الإعراض عن الله جل وعلا ولهذا حرم هذا اللفظ وهو أن يقول أحد: اللهم اغفر لي إن شئت.(1/443)
ولهذا ساق الحديث قال (في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَقُلَ أَحَدُكُمُ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ. اللّهُمّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ. لِيَعْزِمْ المسألةَ, فَإِنَّ اللهَ لاَ مُكْرِهَ لَهُ"، ولمسلم: "وَلْيُعَظِمِ الرّغْبَةَ. فَإِنّ اللّهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ") قوله (لِيَعْزِمْ المسألةَ) يعني ليسأل سؤال عازم، سؤال محتاج، سؤال متذلل، لا سؤال مستغنٍ مستكبر، فليعزم المسألة وليسأل سؤال جاد محتاج متذلل فقير يحتاج إلى أن يعطى ذلك، والذي سأل؛ سأل أعظم المسائل وهي المغفرة والرحمة من الله جل وعلا، فيجب عليه أن يعظم هذه المسألة ويعظم الرغبة وأن يعزم المسألة فإن الله لا مكره له، فالله جل وعلا لا أحد يكرهه لتمام عناه ونمام عزنه وقهره وجبروته وتمام كونه مقيتا سبحانه وتعالى، وهذا من آثار الأسماء والصفات.
لهذا لا يجوز في الدعاء أن يواجه العبد ربه بهذا القول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت.
وهذا واضح ظاهر في الدعاء الذي فيه المخاطبة كهذا الخطاب، اللهم اغفر لي إن شئت، هو يخاطب اله جل وعلا فيقول ذلك.
ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا يتقيد بالدعاء الذي فيه خطاب، أما الدعاء الذي ليس فيه خطاب فيكون التعليق بالمشيئة ليس تعليقا لأجل عدم الحاجة أو منبئا لعدم الحاجة -كهذا الدعاء- بل هو للتبرك، كمن يقول: رحمه الله إن شاء الله، أو غفر الله له إن شاء الله، أو الله يعطيه من المال كذا وكذا إن شاء الله ونحو ذلك، فهذا قالوا: لا يدخل في هذا النوع؛ لأنه ليس على وجه الخطاب وليس على وجه الاستغناء.(1/444)
ولكن الأدب يقتضي أن لا يستعمل هذه العبارة في الدعاء مطلقا؛ لأنها وإن كانت ليست بمواجهة فإنها داخلة في تعليق الدعاء والمشيئة، والله جل وعلا لا مكره له، فعموم المعنى المستفاد من قوله (فَإِنَّ اللهَ لاَ مُكْرِهَ لَهُ) عموم هذا التعليل يشمل هذه وهذه، فلا شك أن قول(اللّهُمّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ) أعظم، ولكن القول الآخر داخل أيضا في علة النهي ومعنى النهي، ولهذا لا يسوغ استعماله.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام لمن عاده كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما قال لمن عاده وقد أصابته الحمى قال "طهورٌ إن شاء الله" قال: بل هي حمى تفور... إلى آخر كلامه، هذا قوله عليه الصلاة والسلام (طهور إن شاء الله) هذا ليس فيه دعاء وإنما هو من جهة الخبر، قال يكون طهورًا إن شاء الله، فهو ليس بدعاء وإنما هو خبر، فافترق عن أصل المسألة.
قال طائفة أيضا من أهل العلم من شراح البخاري وقد يكون قوله (طهور إن شاء الله) للبركة فيكون ذلك من جهة التبرك، كقوله جل وعلا مخبرا عن قول يوسف ?ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ?[يوسف:99]، وهم قد دخلوا مصر، وكقوله جل وعلا ?لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تخافون?[الفتح:27]. نعم
¹
باب لا يقول: عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ: أَطْعِمْ رَبّكَ. وَضّئْ رَبّكَ. وَلْيَقُلْ: سَيّدِي, ومَوْلاَيَ, وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُم: عَبْدِي, وأَمَتِي, وَلْيَقُلْ: فَتَايَ, وفَتَاتِي, وغُلاَمِي".
[الشرح](1/445)
(باب لا يقول: عبدي وأمتي) هذا الباب مع الأبواب قبله وما بعده كلها في تعظيم ربوبية الله جل وعلا وتعظيم أسماء الله جل وعلا وصفاته؛ لأن تعظيم ذلك من كمال التوحيد، وتحقيق التوحيد لا يكون إلا بأن يعظم الله جل وعلا في ربوبيته وفي إلهيته وفي أسمائه وصفاته، فتحقيق التوحيد لا يكون إلا بالاحتراس من الألفاظ التي يكون فيها إساءة أدب مع ربوبيته الله جل وعلا على خلقه أو مع أسماء الله جل وعلا وصفاته، ولهذا عقد هذا الباب فقال (باب لا يقول عبدي وأمتي) العبودية عبودية البشر لله جل وعلا عبوديته حقيقية، وإذا قيل: هذا عبد الله. فهو عبد لله جل وعلا إما قهرا أو اختيارا فكل من في السماوات والأرض عبد لله جل وعلا كما قال ?إِنَّ كُلَّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ ءاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا(93) فَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّا(94)وَكُلٌّ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَة فَرْدا?[مريم:93-95] فعبودية الخلق لله جل وعلا ظاهرة؛ لأنه هو الرب وهو المتصرف وهو سيد الخلق وهو المدبّر لشؤونهم، فالله جل وعلا هو المتفرد بذلك سبحانه.
فإذا قال الرجل لرقيقه: هذا عبدي، وهذه أمتي. كان في نسبة العبودية عبودية أولئك له، وهذا فيه منافاة لكمال الأدب الواجب مع الله جل وعلا، ولهذا كان هذا اللفظ غير جائز عند كثير من أهل العلم، ومكروه عند طوائف آخرين.
فإذن سبب النهي عن لفظ (عبدي وأمتي) ما ذكرنا من تعظيم الربوبية وعدم اهتضام عبودية الخلق لله جل وعلا.
قال (في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ: أَطْعِمْ رَبّكَ. وَضّئْ رَبّكَ. وَلْيَقُلْ: سَيّدِي, ومَوْلاَيَ, وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُم: عَبْدِي, وأَمَتِي, وَلْيَقُلْ: فَتَايَ, وفَتَاتِي, وغُلاَمِي") هذا النهي في هذا الحديث اختلف فيه أهل العلم على قولين:(1/446)
الأول: أنه للتحريم؛ لأن النهي الأصل فيه للتحريم إلا إذا صرفه عن ذلك الأصل صارف.
وقال آخرون: النهي هنا للكراهة؛ وذلك لأنه من جهة الأدب؛ ولأنه جاء في القرآن من قول يوسف عليه السلام ?اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ?[يوسف:42]؛ ولأن الربوبية هنا المقصود بما يناسب البشر، فرب الدار ورب العبد هو الذي يملك أمره في هذه الدنيا، فلهذا قالوا النهي للكراهة وليس للتحريم، مع ما جاء في بعض الأحاديث من جواز أو من تجويز إطلاق بعض الألفاظ.
قال (وَلْيَقُلْ: سَيّدِي, ومَوْلاَيَ) السيادة مع كون الله جل وعلا هو السيد؛ لكن السيادة للإضافة لا بأس بها؛ لأن للبشر سيادة تناسبه، (ومَوْلاَيَ) المولى يأتي على معانٍ كثيرة، وأن يخاطب البشر بقوله مولاي أجازه طائفة من أهل العلم بناء على هذا الحديث قال (وَلْيَقُلْ: سَيّدِي, ومَوْلاَيَ)، وقد جاء في صحيح مسلم النهي عن أن يقول مولاي "لا تقولوا مولاي إنما مولاكم الله" أو نحو ذلك،(1) وهذا الحديث أعلّه بعض أهل العلم أنه يقول بالمعنى فهو شاذ من جهة اللفظ وهو معارض لهذا الحديث الذي هو نص في إجازة ذلك.
فيكون إذن الصحيح جواز إطلاق لفظ (مَوْلاَيَ) هنا (سَيّدِي, ومَوْلاَيَ) ونحو ذلك؛ لأن هنالك سيادة تناسب البشر، وقول (مَوْلاَيَ) هناك ما يناسب البشر من ذلك، فليست في مقام ربك أو عبدي وأمتي؛ لأن ذلك أعظم درجة وواضح أن فيها اختصاص العبودية بالله جل وعلا، وإطلاق ذلك على البشر لا يجوز.
قال (وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُم: عَبْدِي, وأَمَتِي, وَلْيَقُلْ: فَتَايَ, وفَتَاتِي, وغُلاَمِي) لأجل ما ذكرنا.
__________
(1) جاء في صحيح مسلم بلفظ: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها/ باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى: "وَلاَ يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيّدِهِ: مَوْلاَيَ فَإِنّ مَوْلاَكُمُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ".(1/447)
فتحصل من ذلك أن هذه الألفاظ -كما ذكرنا- يجب أن يُحترز فيها ما لا يكون معه الأدب مع مقام ربوبية الله جل وعلا وأسمائه سبحانه وتعالى.
وعليه فلا يكون جائزا أن يقول: عبدي وأمتي. أو أن يقول: أطع ربك وضئ ربك.
هذا كله مختص بالتعبير بالربوبية للمكلَّفين، أما إضافة الربوبية إلى غير المكلف فلا بأس بها؛ لأن حقيقة العبودية لا تتصور فيها، كأن تقول رب الدار ورب المنزل ورب المال ونحو ذلك، فإن الدار والمنزل والمال ليست بأشياء مكلَّفة بالأمر والنهي، فلهذا لا تنصرف الأذهان أو يذهب القلب إلى أن ثمة نوع من عبودية هذه الأشياء لمن أضيفت إليه؛ بل إن ذلك معروف بأنه إضافة ملك؛ لأنها ليست مخاطبة بالأمر والنهي وليست يحصل منها خضوع أو تذلل.
فإذن يقيدا النهي الوارد في ذلك بتعبير المكلف، أو يقال مكلف وضئ ربك أو أنا رب هذا الغلام، أو نحو ذلك من الألفاظ التي لا تناسب الأدب. نعم
¹
باب لا يُردّ من سأل الله
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وَمَنْ سَأَلَ بالله فأَعْطُوهُ، مَنِ اسْتَعَاذَ بالله فأَعِيذُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُم فأَجِيبُوهُ, وَمَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ, فإِنْ لَم تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ". رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
[الشرح]
(باب لا يردّ من سأل بالله) هذا الباب مع الباب الذي قبله ومع ما سبق -كما ذكرنا- كلها في تعظيم الله جل وعلا وربوبيته وأسمائه وصفاته؛ لأن تعظيم ذلك من إكمال التوحيد ومن تحقيق التوحيد.(1/448)
ومن سأل بالله جل جلاله فقد سأل بعظيم، ومن استعاذ بالله فقد استعاذ بعظيم؛ بل استعاذ بمن له هذا الملكوت وله تدبير الأمر بمن كل ما تراه وما لا تراه عبدٌ له جل وعلا، فكيف يرد من جعل مالك كل شيء وسيلة حتى تقبل سؤاله، ولهذا كان من -التعظيم الواجب- أن لا يرد أحد سأل بالله جل وعلا، فإذا سأل سؤالا وجعل الله جل وعلا هو الوسيلة فإنه لا يجوز أن يُرد تعظيما لله جل وعلا، والذي في قلبه تعظيم لله جل وعلا ينتفض إذا ذكر الله كما قال سبحانه ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ?[الأنفال:2]بمجرد ذكر الله تجل القلوب لعلمهم بالله جل وعلا وما يستحق وعلمهم بتدبيره وملكوته وعظمة صفاته وأسمائه جل وعلا.
فإذا سأل أحد بالله فإن قلب الموحد لا يكون رادا له؛ لأنه معظم لله مجل لله جل وعلا، فلا يرد أحدا جعل وسيلته إليه رب العزة سبحانه وتعالى.
أهل العلم قالوا: السائل بالله قد تجب إجابته ويَحرم رده، وقد لا يجب ذلك، وهذا القول قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار عدد من المحققين بعده، وهو القول الثالث في المسألة.
أما القول الأول: فهو من سأل بالله حَرُمَ أن يرد مطلقا.
والقول الثاني: أن من سأل بالله استحب إجابته وكره رده.
والقول الثالث: ما ذكرنا عن شيخ الإسلام أنه قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا، وقد لا يكون كذلك يعني يكون مباحا.
تفصيل شيخ الإسلام ظاهر؛ وذلك أنه أراد بحالة الوجوب أن يتوجه السؤال لمعين في أمر معين؛ يعني ألا يكون السائل سأل عددا من الناس بالله ليحصل على شيء، فلهذا لم يدخل فيه السائل الفقير الذي يأتي ويسأل هذا ويسأل هذا ويسأل هذا ويسأل هذا، أو ممن يكون كاذبا في سؤاله، فيقول: يجب إذا توجه لمعين في أمر معين، أما إذا توجه لفلان وفلان وفلان عدد فإنه لا يكون توجه لمعين، فإنه لا يجب عليه أن يؤتيه مطلبه، ويجوز له أن يرد سؤاله.(1/449)
وإذا كان كذلك فتكون الحالة على هذه الأحوال تكون ثلاثة:
"حال يحرم فيها رد السائل.
"وحال يكره فيها رد السائل.
"وحال يباح فيها رد السائل بالله.
هذا كلام شيخ الإسلام.
يحرم رد السائل بالله إذا توجه لمعين في أمر معين، خصك بهذا التوجه وسألك بالله أن تعينه، وأنت طبعا قادر على أن تأتيه مطلوبه.
ويستحب فيما إذا كان التوجه ليس لمعين كان يسأل فلان وفلان وفلان.
ويباح فيما إذا كان من سأل بالله يعرف منه الكذب.
فصارت إذن عندنا الأقوال ثلاثة في أصلها:
"يحرم رد السائل ويجب إعطاؤه هذا واحد.
"الثاني يستحب ويكره رده.
"والثالث هو التفصيل، وهذا الثالث هو قول شيخ الإسلام وعدد من المحققين.
وقوله هنا (باب لا يرد من سأل بالله) فيه عموم لأجل الحديث الوارد.
قال(عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وَمَنْ سَأَلَ بالله فأَعْطُوهُ") لماذا؟ تعظيما لله جل وعلا.(مَنِ اسْتَعَاذَ بالله فأَعِيذُوهُ) من استعاذ منك بالله فيجب أن تعيذه، من قال: أعوذ بالله منك. تعظيما لله جل جلاله تجيبه إلى ذلك وتتركه؛ لأن من استعاذ بالله فقد استعاذ بأعظم مستعاذ به، ولهذا في قصة الجونية التي دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام، فلما دخل عليها واقترب منها عليه الصلاة والسلام قالت له: أعوذ بالله منك. فابتعد عنها عليه الصلاة والسلام وقال "لقد استعذت بمَعَاذ الحقي بأهلك". استعاذت بالله منه فتركها عليه الصلاة والسلام.
قال(وَمَنْ دَعَاكُم فأَجِيبُوهُ) عامة أهل العلم(1) على أن هذا مخصوص بدعوة العرس وليس في كل الدعوات، وأما سائر الدعوات فهي على الاستحباب.(2)
__________
(1) وقد خالف الظاهرية فقالوا أنها تجب في كل الدعوات[العثيمين، القول المفيد، ص562].
(2) انتهى الشريط الرابع عشر.(1/450)
قال (وَمَن صَنَعَ إِلَيْكُم مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ) من صنع إليك معروفا فكافئه؛ كافئه بجنس معروفه؛ إن كان معروفه من جهة المال فكافئه من جهة المال؛ يعني بما يشمل الهدايا المختلفة، إن كان معروفه من جهة الجاه فكافئه من جهة الجاه فيكون من جهة الهدية.
سبب ذلك وصلته بالتوحيد كما قال المحققون أنّ الذي صنع له معروف فيكون في قلبه ميل ونوع تذلل وخضوع في قلبه واسترواح لهذا الذي صنع إليه المعروف.
ومعلوم أن تحقيق التوحيد أن يكون القلب خاليا من كل ما سوى الله جل جلاله، وأن يكون ذله وخضوعه وعرفانه بالجميل هو لله جل وعلا.
وتخليص القلب من ذلك يكون بالمكافئة على المعروف، وأنه إذا أدى إليك معروفا فخلِّص القلب من رؤية ذلك المعروف بأن ترد إليه معروفه، ولهذا قال (فإِنْ لَم تَجِدُوا ما تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ)، (حَتّى تَرَوْا أَنّكُم قَدْ كَافأْتُموهُ) لأجل أن يتخلص القلب من أثر ذلك المعروف، فترى أنك دعوت له ودعوت له ودعوت له بقدر ترجو معه بأنك قد كافأته، وهذا لتخليص القلب مما سوى الله جل وعلا وهذه مقامات لا يدركها إلا أرباب الإخلاص وتحقيق التوحيد. جعلنا الله وإياكم منهم.
¹
بابٌ لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لاَ يُسْأَلُ بِوَجْهِ الله إِلاّ الْجَنّةُ". رواه أبو داوود.
[الشرح]
الشيخ رحمه الله صنع هذا كصنيع البخاري في صحيحه، والبخاري في صحيحه على ثلاثة أصناف:
"تارة يضيف فيقول بابُ كذا.
"وتارة يقول بابٌ وتكمل.
"أو تقول بابْ وتسكت ثم تكمل الكلام.
وهذه ثلاثة أصناف في البخاري جارية في هذا الكتاب.(1/451)
هذا (باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة) ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة من أن تعظيم صفات الله جل وعلا -سواء في ذلك صفات الذات أو صفات الفعل- هذا من تحقيق التوحيد ومن كمال الأدب والتعظيم لله جل وعلا، فإن تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم أسمائه وتعظيم صفاته يكون بأنحاء وأشياء متنوعة ومن ذلك أنك لا تسأل بالله أو بوجه الله أو بصفات الله جل جلاله إلا المطالب العظيمة التي أعلاها الجنة، فقال (باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة), (لا يُسأل) هذا نفي، والنفي هنا مضمن النهي المؤكد كأنه قال: لا يَسأل بوجه الله إلا الجنة، أو لا تَسأل بوجه الله إلا الجنة، فعدل عن النهي إلى النفي لكي يتضمن أن هذا منهي عنه وأنه لا يسوغ وقوعه أصلا (لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة)، فلو فرض أنه يختار هل سيقع أو لا يقع فإنه ينفى وقوعه أصلا لما يجب من تعظيم الله جل جلاله وتعظيم توحيده وتعظيم أسماء الله جل وعلا وصفاته.
(لا يُسأل بوجه الله)، وجه الله جل جلاله صفة ذات من صفاته سبحانه وهو غير الذات، الوجه صفة من الصفات وهو ما يواجَه به, الوجه في اللغة ما يواجه به، وهو مجمع أكثر الصفات في اللغة، الوجه ما يواجه به ويكون مجمعا لأكثر الصفات. فالله جل وعلا متصف بالوجه متصف به على ما يليق بجلاله معظمته نثبت ذلك إثباتا نعلم أصل المعنى ولكن كمال المعنى أو الكيفية فإننا نَكِل ذلك إلى عالمه وإلى المتصف به جل جلاله؛ ولكن نثبت على أصل عدم التمثيل والتعطيل كما قال جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].(1/452)
(إلا الجنة ) الجنة هي دار الكرامة التي أعدها الله جل وعلا للمكلفين من عباده الذين أجابوا رسله ووحدوه وعملوا صالحا، وهي أعظم مطلوب؛ لأن الحصول عليها حصول على أعظم ما يسر به العبد، ولهذا كان من غير السائغ واللائق بل كان من غير الجائز أن يُسأل الله جل وعلا بنفسه أو بوجهه أو بصفة من صفاته أو باسم من أسمائه الحسنى إلا أعظم مطلوب، فإن الله جل جلاله لا يُسأل بصفاته الأشياء الحقيرة الوضيعة؛ بل يسأل أعظم المطلوب وذلك لكي يتناسب سؤال مع وسيلة السؤال، وهذا معنى هذا الباب في أن تعظيم صفات الله جل وعلا في أن لا تدعو الله بها إلا في الأمور الجليلة، فلا تسأل الله جل وعلا بوجهه أو باسمه الأعظم أو نحو ذلك في أمور حقيرة وضيعة لا تناسب تعظيم ذلك الاسم.
قال (عن جابر، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُسْأَلُ بِوَجْهِ الله إِلاّ الْجَنّةُ". رواه أبو داوود) وهذا ظاهر فيما بوب له الإمام المصنف رحمه الله تعالى، وقد قال العلماء هنا: إن وجه الله جل جلاله يُسأل به الجنة، ولا يجوز أن يسأل به غيرها إلا ما كان وسيلة إلى الجنة أو كان من الأمور العظيمة التي هي من جنس السؤال بالجنة أو من لوازم السؤال بالجنة كالنجاة من النار وكالتثبيت عند السؤال ونحو ذلك، فالأمر المطلوب الجنة أو ما يقارب إليها من قول أو عمل، والنجاة من النار أو ما يقارب إليها من قول أو عمل، هذا يجوز أن نسأل الله جل وعلا إياه متوسلا بوجهه العظيم سبحانه وتعالى.
وأما غير الوجه من الصفات أو من الأسماء فالأدب أن لا تسأل إلا في المطالب العظيمة، وإذا كان ثم شيء من المطالب الوضيعة أو التي تحتاجها مما ليس بعظيم فلا يكن ثَم توسل بصفات الله الجليلة العظيمة؛ بل تقول: اللهم أعطني كذا، اللهم أسألك كذا، ونحو ذلك.(1/453)
أما التوسل بصفات الله العظيمة كالوجه وكاسمه الأعظم ونحو ذلك فإن ذلك يختص بالمطالب العالية بما بين الاسم الأعظم والصفات العظمى مع المطالب العالية من المناسبة والله أعلم. نعم
¹
باب ما جاء في الـ (لو)
وقوله الله تعالى: ?يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا?[آل عمران:154].
وقوله: ?الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا?[آل عمران:168].
في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْرِصْ عَلَىَ مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزَنْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كذا لكَاَن كذا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللّهِ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ".
[الشرح]
(باب ما جاء في الـ(لو))، قلب الموحد؛ قلب المؤمن لا يكون محققا مكمِّلا للتوحيد حتى يعلم أنّ كل شيء بقضاء الله جل وعلا وبقدره، وأنّ ما فعله سبب من الأسباب، والله جل وعلا مضى قدره في خلقه، وأنه مهما فعل فإنه لن يحجز قدر الله جل وعلا، فإذا كان كذلك كان القلب معظِّما لله جل وعلا في تصرفه في ملكوته، وكان القلب لا يخالطه تمني أن يكون شيء فات على غير ما كان، وأنه لو فعل أشياء لتغير ذلك السابق؛ بل الواجب أن يعلم أن قضاء الله نافذ وأن قدره ماضٍ وأن ما سبق من الفعل قد قدره الله جل وعلا وقدر نتائجه، فالعبد لا يمكنه أن يرجع إلى الماضي فيغير، وإذا استعمل لفظ (لو) أو لفظ (ليت) وما أشبهها من الألفاظ التي تدل علة الندم وعلى التحسر على ما فات فإن ذلك يُضعف القلب ويجعل القلب متعلقا بالأسباب منصرفا من الإيقان بتصريف الله جل وعلا في ملكوته، وكمال التوحيد إنما يكون بعدم الالتفات إلى الماضي، فإن الماضي الذي حصل:(1/454)
إما أن يكون مصيبة أصيب بها العبد فلا يجوز له أن يقول: لو كان فعلت كذا لما حصل كذا؛ بل الواجب عليه أن يصبر على المصيبة وأن يرضى بفعل الله جل وعلا ويستحب له الرضى بالمصيبة.
وإذا كان ما أصابه في الماضي معصية فإن عليه أن يسارع في التوبة والإنابة، وأن لا يقول لو كان كذا لم يكن كذا؛ بل يجب عليه أن يسارع في التوبة والإنابة حتى يمحو أثر المعصية.
فإن ما مضى من المقدر للعبد ما حالان:
إما أن يكون مصائب، إما أن يكون ذلك الذي مضى مصائب فحالها كما ذكرنا.
وإما أن يكون مصائب ومعاصي، فالواجب عليه أن ينيب وأن يستغفر وأن يقبل على الله جل جلاله، قد قال سبحانه ?وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى?[طه:82]
الشيطان يدخل على القلب فيجعله يسيء الظن بربه جل وعلا وبقضائه وقدره، وإذا دخلت إساءة الظن بالله ضعُف التوحيد ولم يحقق العبد ما يجب عليه من الإيمان بالقدر والإيمان بأفعال الله جل جلاله، ولهذا عقد المصنف هذا الباب؛ لأن كثيرين يعترضون على القدر من جهة أفعالهم؛ يظنون أنهم لو فعلوا أشياء لتغير الحال، والله جل وعلا قد قدّر الفعل وقدّر نتيجة فالكل موافق لحكمته سبحانه وتعالى.(1/455)
قال (وقوله الله تعالى: ?يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا?[آل عمران:154]، وقوله: ?الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا?[آل عمران:168]) ذكرنا أن قول (لو) في الماضي أن هذا لا يجوز وأن هذا محرم ودليل ذلك من الآيتين، ومناسبة الآيتين للباب ظاهرة وهو أن التحسر على الماضي بالإتيان بلفظ لو إنما كان من خصال المنافقين قال جل وعلا عن المنافقين (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا) وقال (الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) وهذا في قصة غزوة أحد كما هو معروف، فهذا من كلام المنافقين.
فيكون -إذن- استعمال (لو) من خصال النفاق وهذا يدل على حرمتها.
قال (في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْرِصْ عَلَىَ مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزَنْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كذا لكَاَن كذا وكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرُ اللّهُ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ") وجه مناسبة هذا الحديث قوله(وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ لكَاَن كذا وكَذَا) (لو) هنا كانت على الماضي (أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ) وهذا النهي للتحريم (لَوْ أَنّي فَعَلْتُ لكَاَن كذا) هذا لأنه سوء ظن ولأنه فتح عمل الشيطان، فالشيطان يأتي المصاب فيغريه بـ(لو) حتى إذا استعملنا ضعف قلبه وعجز وظن أنه سيغير من قدر الله شيئا، وهو لا يستطيع أن يغير من قدر الله شيئا؛ بل قدر الله ماض ولهذا أرشده عليه الصلاة والسلام أن يقول: (قَدَّرُ اللّهُ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ)؛ لأن ذلك راجع إلى قدره وإلى مشيئته.(1/456)
هذا كله من النهي والتحريم راجع إلى ما كان من استعمال (لو) أو (ليت) وما شابههما من الألفاظ في التحسر على الماضي وتمني أن لو فعل كذا حتى لا يحصل له ما سبق، كل ذلك فيما يتصل بالماضي.
أما المستقبل أن يقول: لو فعلت كذا وكذا، في المستقبل، فإنه لا يدخل في النهي؛ وذلك باستعمال النبي عليه الصلاة والسلام لذلك حيث قال مثلا "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" ونحو ذلك من الأدلة، فاستعمال (لو) في المستقبل الأصل فيه الجواز إلا إن اقترن بقول القائل (لو) يريد المستقبل: اعتقاد أن فعله سيكون حاكما على القدر؛ كاعتقاد بعض الجاهليين: لو حصل لي كذا لفعلت كذا. تكبرا وأنفة واستعظاما لفعلهم وقدرتهم، فإن هذا يكون من المنهي؛ لأن فيه تجبرا، وفيه تعاظما، والواجب على العبد أن يكون ذليلا؛ لأن القضاء والقدر ماضٍ، وقد يحصل له الفعل، ولكن ينقلب على عقبيه، كحال الذي قال الله جل وعلا فيه ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكَوُنَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ(76)فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ بِمَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?[التوبة:75-77] فإنهم قالوا: لو كان لنا كذا وكذا وكذا لفعلنا كذا وكذا، فلما أعطاهم الله جل وعلا المال (بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ)، فهذا فيه نوع تحكم على القدر وتعاظم، فاستعمال (لو) في المستقبل إذا كانت في الخير، مع رجاء ما عند الله بالإعانة على أسباب الخير، فهذا جائز.
أما إذا كان على وجه التجبر والاستعظام فإنه لا يجوز؛ لأن فيه نوع تحكُّم على القدر. نعم.
¹
[الأسئلة]
[س/ كيف نخرّج قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لولا أنا لكان عمي في الدرك الأسفل من النار"؟(1/457)
ج/ قول القائل: لولا فلان لكان كذا. مُنع منه وصار شركا لفظيا ونوع تشريك؛ لأنه نسبة للنعمة لغير الله جل وعلا، يقول: لولا فلان لأصابني كذا، ولولا فلان أنه كان جيدا معي لكان حصل لي كذا وكذا، أو لو لا السيارة أنها قوية لكان هلكت، أو لو لا كذا لكان كذا. مما فيه تعليق دفع النقم أو حصول النعم لأحد من المخلوقين.
والواجب على العباد أن ينسبوا النعم إلى الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يسدي النعم، قال جل وعلا في سورة النعم ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ?[النحل:53] و قال جل وعلا أيضا في السورة نفسها ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، فالواجب على العبد المسلم أن ينسب النعم إسداءً وتفضيلا وإنعاما لله جل وعلا، وأن يتعلق قلبه بالذي جعل تلك النعم تصل إليه، والناس أو الخلق و الأسباب إنما هي فضل من الله جل وعلا جعلها أسبابا، ففلان من الناس جعله الله سببا لكي يصل إليك النفع عن طريقه، أما النافع في الحقيقة فهو الله جل وعلا، إذا اندفعت عنك نعمة فالذي دفعها هو الله جل وعلا بواسطة سبب ذلك المخلوق -إما آدمي وإما غير آدمي-، فيجب نسبة النعم إلى الله جل وعلا، فلا تنسب نعمة لغيره سبحانه، ومن نسبها لغيره سبحانه فهو داخل في قول الله جل وعلا (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا).
وأما الحديث الذي في الصحيح من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: هل نفعت عمك أبا طالب بشيء؟ قال"هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان من في الدرك الأسفل من النار"، قوله عليه الصلاة والسلام (لولا أنا) هذا فيه ذكر لعمله عليه الصلاة والسلام، وافترق عن قول القائل لولا فلان لحصل كذا من جهتين:(1/458)
الجهة الأولى: أن ذلك القائل هو الذي حصلت له النعمة أو اندفعت عنه النقمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا يخبر عن صنيعه بعمه وأنّ عمه اندفعت عنه النقمة، فذاك في المتحدث الذي تعلق قلبه بالذي نفعه أو دفع عنه الضر، وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو إخبار عن نفعه لغيره، فليس فيه تعلق للقلب في اندفاع النقمة أو حصول النعمة بغير الله جل وعلا، هذا وجه.
فيكون إذن معنى ذلك أن الوجه الذي نهى عنه للعلة التي من أجلها نهى عن قول (لولا أنا), أن يكون فيها نسبة النعمة إلى غير الله من جهة تعلق القلب بذلك الذي حصّل له النعمة، وهذا غير وارد في قول النبي عليه الصلاة والسلام (لولا أنا لكان من الدرك الأسفل من النار) لأنه عليه الصلاة والسلام ليس هو الذي حصلت له النعمة إنما هو مخير عن فعله لعمه.
الوجه الثاني في ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد بيَّن أن نفعه لعمه من جهة الشفاعة، فهو يشفع لعمه حتى يكون في ضحضاح من النار، فقوله (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) يعني لولا شفاعتي. ومعلوم بنصوص الشرع أنه عليه الصلاة والسلام يُكرم بالشفاعة ويعطي الشفاعة، فهو سائل وهو سبب من الأسباب، والمتفضل حقيقة هو الله جل وعلا، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام بضميمة علمنا أنه يشفع لعمه كأنه قال: لولا أن الله شفعني فيه لكان في الدرك الأسفل من النار.
فليس فيه بالوجهين جميعا تعليق للقلب بغير الله جل وعلا في حصول النعم أو اندفاع النقم، ممّا يكون في قول القائل: لولا فلان لحصل كذا أو لولا السيارة لحصل كذا أو لولا الطيار لحصل كذا أو لولا البيت كان مُحَصّناً لحصل كذا، ونحو ذلك مما فيه تعلق قلب من حصلت له النعمة بالمخلوقين. - والله أعلم -](1)
¹
باب النهي عن سب الريح
__________
(1) مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الثامن.(1/459)
عن أُبَيّ بنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسُبّوا الرّيحَ, فإِذَا رَأَيْتُمْ ما تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: الّلهُمّ إِنّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرّيحِ وَخَيْرِ ما فِيهَا وَخَيْرِ ما أُمِرَتْ بِهِ وَنَعْوذُ بِكَ مِنْ شَرّ هَذِهِ الرّيحِ وَشَرّ ما فِيهَا وَشَرّ ما أُمِرَتْ بِهِ" صححه الترمذي.
[الشرح]
(بابٌ النهي عن سب الريح) الريح مخلوق من مخلوقات الله مسخر، وهي واحدة الرياح، يجريها الله جل وعلا كما يشاء، وهي لا تملك شيئا، كالدهر لا يملك شيئا ولا يدبر أمرا، فسب الريح كسب الدهر، يرجع في الحقيقة إلى أذية الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي يصرِّف الريح كيف يشاء، يأتي بالريح بأمر مكروه فيذكِّر العباد بالتوبة والإنابة، ويذكر العباد بأمر قدرته عليهم وأنه لا غنى لهم عنه جل وعلا طرفة عين، ويأتي بالريح فيجعلها رياحا، فيسخرها جل وعلا لما فيه من مصلحة العباد، فالريح إذا لا تملك شيئا، فهذا الباب عقدة لبيان تحريم سب الريح كما عقد ما قبله لبيان أنّ سب الدهر لا يجوز ومحرم لأنه أذية لله جل وعلا.
وهذا الباب من جنس ذاك؛ لكن هذا يكثر وقوعه، فأفرده بكثرة وقوعه وللحاجة إلى التنبيه عليه.
قال (بابٌ النهي عن سب الريح) النهي للتحريم، وسب الريح يكون بشتمها أو بلعنها، وكما ذكرنا لكم في باب الدهر ليس من سبها أن توصف بالشدة كقول الله جل وعلا ?بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6)سَخَّرَهَا سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا?[الحاقة:6-7]، (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) هذا وصفٌ لها ووصفها بالشدة أو وصفها بالأوصاف التي يكون فيها شر على من أتت عليه كقوله ?مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ?[الذاريات:42] ليس هذا من المنهي عنه.(1/460)
قال(عن أُبَيّ بنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَسُبّوا الرّيحَ, فإِذَا رَأَيْتُمْ ما تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: الّلهُمّ إِنّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرّيحِ وَخَيْرِ ما فِيهَا وَخَيْرِ ما أُمِرَتْ بِهِ") هذا يدل على أن الريح يكون فيها أمر، ويكون عليها أمر ونهي، والله جل وعلا يرسل الرياح كيف يشاء، ويَصْرِفُها -أيضا- جل وعلا عمن يشاء، فهي مسخرة بأمره جل وعلا، والملائكة هي التي تصرِّف الريح بأمره جل وعلا، فللريح ملائكة تصرفها كيف شاء ربنا جل وعلا وتقدس وتعاظم، فيها خير وقد يكون فيها عذاب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (إِذَا رَأَيْتُمْ ما تَكْرَهُونَ فَقُولُوا) فأرشدهم إلى القول الآتي، وما يكرهون قد يكون من جهة صفة الريح، وقد يكون من جهة لون الريح -يعني صفتها من جهة السرعة أو الاتجاه-، وقد يكون من جهة لونها وقد يكون من جهة أثرها، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا رأى شيئا في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج ورُئي ذلك في وجهه حتى تمطر السماء فيُسَرَّ عنه ويسر عليه الصلاة والسلام، قالت له عائشة: يا رسول الله لما ذاك قال: "ألم تسمعي لقول أولئك-أو كما قال عليه الصلاة والسلام- ?فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمُ(24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا?[الأحقاف:24-25]".
فإذن الخوف من الله جل جلاله إذا ظهرت هذه الحوادث أو التغييرات في السماء أو في الأرض واجب، والله جل وعلا يتعرّف إلى عباده بالرخاء كما أنه يتعرَّف إلى عباده بالشدة حتى يعرفوا ويعلموا ربوبيته وقهره وجبروته ويعلم حلمه وتردده ورحمته أيضا لعباده.(1/461)
فإذن إذا رأى العبد ما يكره يدع إلى الله واستغاث بالله وسأل الله بقوله ("الّلهُمّ إِنّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرّيحِ وَخَيْرِ ما فِيهَا وَخَيْرِ ما أُمِرَتْ بِهِ وَنَعْوذُ بِكَ مِنْ شَرّ هَذِهِ الرّيحِ وَشَرّ ما فِيهَا وَشَرّ ما أُمِرَتْ بِهِ" صححه الترمذي).
بهذا نكون قد أخذنا هذا اليوم تسعة أبواب، ويبقى عندنا تسعة أبواب نكملها غدا إن شاء الله، وبها تمام الكتاب.
أسأل الله جل وعلا أن يجهلكم مباركين، وأن ينفع بكم وبما تعلمتم، وأن يجعلنا وإياكم من ورثة جنة النعيم وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يجعل وسيلتنا التوحيد وأن يجعل وسيلتنا إليه الإخلاص، فإنا مذنبون ولولا رحمة الله جل وعلا لهلكنا، اللهم فاغفر جما، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
باب قول الله تعالى: ?يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلُّهُ للهِ?الآية[آل عمران:154]، وقوله:?الظَّانِينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ?الآية[الفتح:6]
قال ابن القيم في الآية الأولى: فُسِّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفُسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يُتِمَّ أمرَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد؛ بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.(1/462)
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء.
ولو فتشت من فتشت، لرأيت عنده تعنُّتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك، هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ……وإلا فإني لا إخالك ناجياً
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي له الحمد كله في ربوبيته وإلهيته وفي أسمائه وصفاته، له الحمد على أفعاله -أفعال الحكمة والإحسان، وأفعال العدل- فهو ولي الفضل وولي النعمة، وله الحمد على ما أنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فله الحمد كله، وإليه ويرجع الأمر كله، تبارك ربنا وتعالى وتقدس.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا (باب قول الله تعالى: ?يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلّهُ للهِ?الآية[آل عمران:154]، وقوله: ?الظَّانِينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ?الآية[الفتح:6])، هذا الباب ذكر فيه الإمام المصنف هاتين الآيتين.(1/463)
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أنّ الله جل وعلا موصوف بصفات الكمال وله جل وعلا أفعالُ الحكمة وأفعال العدل وأفعال الرحمة والبر جل وعلا، فهو سبحانه كامل في أسمائه، كامل في صفاته، كامل في ربوبيته، ومن كماله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته أنه لا يفعل الشيء إلا لحكمة بالغة، والحكمة في ذلك هي أنه جل وعلا يضع الأمور مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها، وهذا دليل الكمال، فالله جل وعلا له صفات الكمال وله نعوت الجلال والجمال، فلهذا وجب لكماله جل وعلا أن يُظنّ به ظن الحق، وأن لا يظن به ظن السَّوء؛ يعني أن يعتقد فيه ما يجب لجلاله جل وعلا من تمام الحكمة وكمال العدل وكمال الرحمة جل وعلا وكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، فالذي يظن به جل وعلا وعلى أنه يفعل الأشياء لا عن حكمة، فإنه قد ظن به ظن النَّقص وهو ظن السوء الذي ظنه أهل الجاهلية.
فإذن يكون الظن بالله غير الحق منافٍ للتوحيد، وقد يكون منافيا لكمال التوحيد:
فمنه ما يكون صاحبُه خارج عن ملة الإسلام أصلا، كالذي يظنّ بالله غير الحق في بعض مسائل القدر كما سيأتي.
ومنه ما هو منافٍ لكمال التوحيد بأن يكون غير مؤمنٍ بالحكمة أو بأفعال الله جل وعلا المنوطة بالعلل التي هي منوطة بحكمته سبحانه البالغة.
ولهذا قال جل وعلا ?فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَاِلغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ?[الأنعام:149]، في الرد على القدرية المشركية، وقد قال أيضا جل وعلا ?حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ?[القمر:5]، فالله جل وعلا موصوف بكمال الحكمة وكمال الحمد على أفعاله؛ لأن أفعال الله جل وعلا قسمان:
"أفعال ترجع إلى الحكمة والعدل.
"وأفعال ترجع إلى الفضل والنعمة والرحمة والبر بالخلق.(1/464)
فالله جل وعلا يفعل هذا وهذا، وحتى وأفعاله التي هي أفعال بر وإحسان هي منوطة بالحكم العظيمة، وكذلك الأفعال التي قد يظهر للبشر أنها ليست في صالحهم أو ليست موافقة للحكمة فإن ظنَّ الحق بالله جل وعلا أن يُظن به وأن يعتقد أنه ليس ثم شيء من أفعاله إلا وهو موافق لحكمته جل وعلا العظيمة إذ هو العزيز القهار الفعال لما يريد.
إذن فالواجب تحقيقا للتوحيد أن يُظَن العبد بالله جل وعلا ظن الحق، وأما ظن السَّوء فهو ظن الجاهلية الذي هو مناف لأصل التوحيد في بعض أحواله أو مناف لكمال التوحيد.
فترجم المؤلف رحمه الله بهذا الباب ليبين لك أن ظن السَّوء بالله جل وعلا من خصال أهل الجاهلية وهو منافٍ لأصل التوحيد أو مناف لكماله بحسب الحال.
قال هنا (باب قول الله تعالى ?يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ?[آل عمران:154]) الظن يطلق ويراد به الاعتقاد أو يراد به ما يسبق إلى الوَهَم؛ يعني ما يسبق إلى الذهن، فهم يعتقدون أو يسبق إلى أذهانهم لما معهم من الشرك أنّ الله جل وعلا ليست أفعاله أفعال حق، والله سبحانه هو الحق وأفعاله كلها أفعال الحق، وذلك الظن ظن الجاهلية، فكل من ظن بالله غير الحق فقد ظنَّ ظن الجاهلية؛ بمعنى ظن بالله جل وعلا غير الكمال فهذا هو ظن الجاهلية، وظن أهل التوحيد والاسم -يعني يعتقدون ويعلمون ويسبق إلى أذهانهم- في أي فعل يحصل لهم أن الله جل وعلا موصوف بالكمال وبالحكمة البالغة.
فسَّر ذلك جل وعلا بقوله (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) وهذا فيه إنكار للحكمة أو إنكار للقدر، قل إن الأمر كله لله، وهذا في حال الرد على هؤلاء المنافقين أو المشركين.(1/465)
قال (وقوله: ?الظَّانِينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ?الآية[الفتح:6]) مرَّ معنا في كلام ابن القيم من كلام المصنف أن السلف فسروا هذا الظن السوء بأحد ثلاثة أشياء، وكلها صحيح، فظن السَّوء الذي يظنه الجاهليون يشمل هذه الأشياء جميعا.
أما الأول: فهو إنكار القدر.
وأما الثاني: فهو إنكار الحكمة.
وأما الثالث: فهو إنكار نصر الله جل وعلا لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أو لدينه أو لعباده الصالحين.
فهذه ثلاثة أشياء.
µ ووجه قوله إنكار القدر ظنا بالله ظن السَّوء: أن تقدير الأمور قبل وقوعها، هذا من آثار عزة الله جل وعلا وقدرته، فإن العاجز هو الذي تقع معه الأمور استئنافا عن غير تقدير سابق، وأما الذي لا يحصل معه أمر حتى يقدِّرَه قبل أن يوقعَه فيقع على وفق ما قدر، فهو ذو الكمال وهو ذو العزة وهو الذي لا يغالَب في ملكوته، ولهذا قال الشاعر في وصف رجل كامل قال:
لأنتَ تفري ما خلقتَ وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
الخلق هنا التقدير؛ يعني لأنت تقطع ما قدرت، وبعض القوم -وهم الناقصون إما لعدم قدرتهم أو لعدم عزتهم أو لجهلهم- وبعض القوم يخلق؛ يعني يقدِّر الأشياء ثم لا يفري، ثم لا يستطيع أن يقطعها على وفق ما يريد.
إذن فإنكار القدر هو ظن بالله جل وعلا ظن السوء لم؟ لأن فيه نسبة النقص لله جل وعلا، والله جل وعلا هو الكامل في أسمائه، الكامل في صفاته جل وعلا، الذي يجير ولا يجار عليه، والذي له الأمر كله، والذي إليه الأمر كله كما قال هنا (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلُّهُ للهِ)، فلهذا كان كل ما يحصل من الرب جل وعلا في بريته هو موافق لقدره السابق الذي هو دليل كمال حكمته وعلمه وخلقه وعموم مشيئته.
µ أما التفسير الثاني فهو إنكار الحكمة: وحكمة الله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع السلف، واسم الله (الحكيم) مشتمل على صفة الحكمة، فإنه جل وعلا:
"حكيم بمعنى حاكم.
"وحكيم بمعنى محكِم للأمور.(1/466)
"وحكيم بمعنى أنه ذو الحكمة البالغة.
فهذه ثلاثة تفسيرات لاسم الله الحكيم، وكلها صحيحة وكلها يستحقها الله جل وعلا:
فإنه جل وعلا حكيم بمعنى حكم وحاكم.
وحكيم بمعنى محكِم كما قال ?كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ?[هود:1]، وقال ?مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ?[الملك:3] لأجل إحكامه، وقال سبحانه وتعالى أيضا ?قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?[يونس:101]، ونحو ذلك من دليل إحكامه جل وعلا لما خلق.
والثالث أنه ذو الحكمة، والحكمة في صفة الله جل وعلا تُفَسَّرُ -كما ذكرت لكم-: بأنها وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها.
ولهذا نقول: إن أهل السنة والجماعة-أهل الأثر، الفقهاء بالكتاب والسنة- قالوا: إن أفعال الله جل وعلا معللة، وكل فعل يفعله الله جل وعلا لعلة من أجلها فعل، وهذه العلة هي حكمته سبحانه وتعالى، فإن أفعال الله جل وعلا منوطة بالعلل.
وهذا أنكره المعتزلة لأنهم قدرية، وأنكره الأشاعرة لأنهم جبرية، فقالوا: إن أفعال الله جل وعلا ليست مرتبطة بالحِكَم ويفعل لا عن حكمة وهذا سوء ظن بالله جل وعلا.
ولهذا أورد الشيخ رحمه الله هذا الباب ليبين لك أن تحقيق التوحيد وتحقيق كمال التوحيد أن توقن بالحكمة البالغة لله جل وعلا، ومن نفي الحكمة في أفعال الله فهو مبتدع، توحيده قد انتفى عنه كماله؛ لأن بدعته شنيعة، وكل البدع تنفي كمال التوحيد ومنها ما ينفي أصل التوحيد، هذا الثاني.(1/467)
µ والتفسير الثالث في ظن أهل الجاهلية وأهل النفاق ظن السوء بالله جل وعلا: أن الله جل وعلا لا ينصر رسوله سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا لا ينصر كتابه، أو أنه جل وعلا يجعل رسوله أو دينه في اضمحلال حتى يذهب ذلك الدين، هذا ظن سوء بالله جل وعلا، ولهذا كان من براهين النبوات أنّ كل نبي ادَّعى النبوة اضمحل أمره، لم يأتِ نبي يقول: أنا نبي يوحى إلي من السماء. وهو كاذب في دعواه إلا ويخذل إلا ويضمحل أمره، فكان من براهين النبوات عند أهل السنة أن كل نبي قال إنه مرسل من عند الله جل وعلا أُيِّد بالبراهين والآيات والبينات ونُصر على عدوه وجُعل دينه وأهل دينه في عزة على من سواهم، كما قال جل وعلا ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:59]، وقال جل وعلا ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173]، فظنُّ الجاهلية أن الخير أو الدين سيضمحل وأنهم إذا بذلوا إطفاء ذلك الأمر وحاربوه بكل ما أتوا من وسيلة وقاوموه فإنه سينتهي، وهذا مع كونه عملا محرما بما يشتمل على الظلم فإنه أيضا سوء ظن بالله جل وعلا غرور بالقوة وبالنفس، والله جل وعلا ناصر رسله، والله جل وعلا ناصر عباده المؤمنين؛ ولكن قد يبتلي الله جل وعلا المؤمنين بأن يكونوا في غير نصر زمنا طويلا، قد يبلغ مئات السنين كما حصل في قصة نوح عليه السلام فَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا ثم نصره الله جل وعلا وهذا يحصل كما ذكر ابن القيم من كثير من أهل الصلاح؛ بل من كثير من الناس؛ بل قد يحصل من بعض المنتسبين إلى العلم في أنواع شتى من سوء الظن بالله جل وعلا، وسبب حصول ذلك الظن السيئ في القلوب عدم العلم بما يستحقه الله جل وعلا وما أوجبه الله جل وعلا من الصبر(1/468)
والأناة ونحو ذلك من الواجبات.
فإذن المسألة متصل بعضها ببعض فالذي يخالف ما أمر الله جل وعلا به شرعا فيما يتصل بنصرة(1) [الدين فإنه قد يقع في سوء ظن بالله جل جلاله، وهذا مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
فهذه -إذن- ثلاثة أشياء ظنها أهل الجاهلية، وكلها باطلة، وكلام ابن القيم رحمه الله يدور على ذلك، ولهذا يجب عليك أن تتحرز كثيرا، وأن تحترس من سوء الظن بالله جل وعلا.
فيما ذَكر -في آخر الكلام- ابن القيم رحمه الله من أن](2) بعض الناس قد يحصل له الشيء فيرى أنه يستحق أكثر منه، وقد يحصل له الشيء بقضاء الله وبقدره فيظن أنه لا يستحق ذلك الشيء أو أن ذلك المفروض أن يصاب به غيره وأنه لا يصاب بذلك، فينظر إلى فعل الله جل وعلا وقضائه وقَدَره على وجه الاتهام، وقَلَّ من يسلم باطنا وظاهرا من ذلك، فكثيرون قد يسلمون ظاهرا؛ ولكن في الباطن يقوم بقلوبهم ظن الجاهلية واعتقاد السَّوء، ولهذا قال جل وعلا في الآية التي في صدر الباب (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) والظن محله القلب.
لهذا يجب على المؤمن أن يخلص قلبه من كل ظن بالله غير الحق وأن يتعلم أسماء الله جل وعلا وأن يتعلم الصفات وأن يتعلم آثار ذلك في ملكوت الله؛ حتى لا يقوم بقلبه إلا وأن الله جل جلاله هو الحق وأن فعله حق، حتى ولو كان في أعظم شأن وأصيب بأعظم مصيبة أو أُهين بأعظم إهانة فإنه يعلم أنه ما أصابه لتمام ملك الله جل وعلا وأنه يتصرف في خلقه كيف يشاء، وأن العباد مهما بلغوا فإنهم يظلمون أنفسهم، والله جل وعلا يستحق الإجلال والتعظيم.
فخلِّصْ قلبكَ أيها المسلم وخاصة طالبَ العلم، خَلِّصْ قلبك من كل ظن سَوء بالله جل وعلا بأن قلتَ: هذا لا يصلح، وهذا الفعل عليه كذا وكذا، ولا يصلح أن يعطى المال، أو أن تحسد فلانا وفلانا.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس عشر.
(2) سقط من الأشرطة، ونقلته من تفريغ جامع ابن تيمية.(1/469)
فإن كل ذلك سوء ظن بالله جل وعلا، ولهذا قال العلماء في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" قالوا سبب ذلك أن الحاسد ظن أن هذا الذي أعطاه الله جل وعلا ما أعطاه لا يستحق هذه النعمة، فحسده وتمنى زوالها منه فصار في ظن سوء بالله جل وعلا، فلهذا أكل الحسنات ظنُّه كما أكلت النار الحطب.
نسأل الله جل وعلا السلامة والعاقبة من كل ظن بغير الحق فيه جل وعلا، ونسأله أن يجعلنا من المعظِّمين له ومن المبجلين لأمره ونهيه المعظمين لحكمته سبحانه وتعالى.
¹
باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لَوْ كان لأحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً ثم أَنْفَقَهُ في سبيل الله مَا قَبِلَهُ الله مِنْهُ حَتّى يُؤْمِنَ بالْقَدَرِ، ثم استدلّ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ".
وعن عبادة بن الصامت، أنه قال لابنه: يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنّ أَوّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ. فقال: أُكْتُبْ. قال: رب! ومَاذا أَكْتُبُ؟ قال: اكْتُبْ مقادير كل شيء حتى تقومَ الساعة"، يا بني! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"من مات على غير هذا، فليس مني."
وفي رواية لأحمد: " إِنّ أَوّلَ مَا خَلَقَ الله تعالى القلم، فقال له: أكتب، فجري في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، أحرقه الله بالنار".(1/470)
وفي المسند والسنن عن ابنِ الدّيْلَمِيّ، قال: أتَيْتُ أُبَيّ بنَ كَعْبٍ, فَقُلْتُ: فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ الْقَدَرِ فَحَدّثْنِي بِشَيء لَعَلّ الله يُذْهِبَهُ مَنْ قَلْبِي، فقَالَ: لَوْ أنْفقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً مَا قَبِلَهُ الله تَعَالَى مِنْكَ حَتّى تُؤْمِنَ بالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أنّ مَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنّ مَا أخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ, وَلَوْ مُتّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النّارَ. قال: فأتَيْتُ عَبْدَ الله بنَ مَسْعُودٍ وحُذَيْفَةَ بنَ الْيَمَانِ وزَيْدَ بنَ ثَابِتٍ، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه.
[الشرح]
هذا (بابُ ما جاء في منكري القدر) ومناسبة هذا الباب للذي قبله ما ذكرنا أن إنكار القدر سوء ظن بالله جل وعلا، ويكون هذا الباب كالتفصيل لما اشتمل عليه الباب الذي قبله.
ومناسبته للذي لكتاب التوحيد ظاهرة وهي أن الإيمان بالقدر واجب ولا يتم توحيد العبد حتى يؤمن بالقدر، وإنكار القدر كفر بالله جل وعلا ينافي أصل التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: القدر نظام التوحيد فمن كذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه. يعني الإيمان بالقدر هو النظام يعني السلك الذي تجتمع فيه مسائل التوحيد من يقوم عقدُها في القلب، فإذا كذب بالقدر معنى ذلك انقطع السلك فنقض ذلك التكذيب أمور التوحيد، وهذا ظاهر؛ فإن أصل الإيمان أن يؤمن بالأركان الستة التي منها الإيمان بالقدر كما ذكر ذلك الشيخ في حديث ابن عمر.
قال (باب ما جاء في منكري القدر)؛ القدر في اللغة: هو التقدير كما هو معروف، وهو وضع الشيء في نحو ما بما يريده واضعه، قدَّر الشيء تقديرا وقدرا.(1/471)
وفي العقيدة عرَّفه بعض أهل العلم بقوله: إن القدر هو علم الله السابق بالأشياء، وكتابتُه لها في اللوح المحفوظ، وعموم مشيئته جل وعلا، وخلقُه للأعيان والصفات القائمة بها.
وهذا التعريف صحيح؛ لأنه يشمل مراتب القدر الأربعة، فالقدر الإيمان به إيمان بأربع مراتب، وهذه الراتب على درجتين:
الأولى والثانية من المراتب تسبق وقوع المقدَّر:
"وهي الإيمان بالعلم السابق.
"والإيمان بكتابة الله جل وعلا لعموم الأشياء.
كما قال "إن الله قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخلْق قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" (قَدَّر مَقَادير الخلق) يعني كتبها، هذان الأمران الإيمان بالعلم السابق والإيمان بالكتابة تسبق وقوع المقدر، فأنت تؤمن بها وهي سابقة للوقوع.
وأما ما يقارن وقوع المقدر، ما يقارن القضاء فهذا له مرتبتان:
"الأولى منهما هي مرتبة عموم المشيئة، فإن الله جل وعلا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والعبد لا يشاء وشيئا فيحصل إلا إذا كان الله جل وعلا قد شاءه ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا?[الإنسان:30]، وقال ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[التكوير:29]، فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله جل وعلا.(1/472)
"وكذلك المرتبة الأخيرة التي تقارن وقوع المقدر: الإيمان بأن الله جل وعلا خالق كل شيء للأعيان وللصفات التي تقوم بالأعيان، فالأعيان مثل الذوات هذه الله جل وعلا هو خالقها، هذا باتفاق أهل الإسلام؛ يعني أن الله جل وعلا هو الخالق للإنسان الخالق للحيوان الخالق للسماء للأرض، وكذلك الإيمان أن الصفات التي تقوم بتلك الأعيان الله جل وعلا هو الخالق لها، ومن ذلك أفعال العباد، فأفعال العباد معاني، ففعل العبد داخل في عموم خلقه جل وعلا، ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?[الزمر:62]، وكلمة (شَيْءٍ) عندنا تُعَرَّف بأنها ما يصلح أن يعلم، فكل ما يصح أن يعلم يقال له شيء ولهذا يدخل في عموم قول (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) العباد وأفعال العباد.
فهذه أربع مراتب.
إنكار القدر الذي بوب له الشيخ رحمه الله يصدق على إنكار أي مرتبة من هذه, أنكر المرتبة الأولى فهو منكر، الثانية هو منكر، أو الثالثة أو الرابعة فهو منكر للقدر، ولا يقال لأحد أنه مؤمن بالقدر إلا إذا سلم بها جميعا وآمن بها جميعا لدلالة النصوص.
فمنهم من منكري القدر القدرية الغلاة، وإذا قيل القدرية -يعني نفاة القدر- الذين نفوا العلم، أنكروا العلم السابق، فهم كفار ينافي فعلهم أصل التوحيد فمن أنكر العلم السابق هذا أنكر القدر إنكارا انتفى معه أصل التوحيد.
وكذلك من ينكر الكتابة، فإن إنكار الكتابة السابقة مع العلم بالنصوص الدالة عليها مناف لأصل التوحيد ولا يستقيم معه الإيمان.
وأما المرتبتان الأخيرتان -عموم المشيئة وعموم الخلق- فهذه إنكار عموم خلق الله للأفعال هذا مما جرى من المعتزلة ونحوهم، وبُدِّعوا بذلك وظللوا وجُعل لإنكارهم لتلك المرتبة ينافي كمال التوحيد ولا يُحكم عليهم بالكفر والخروج من الإسلام بذلك.
فإذن إنكار القدر صار منه ما هو كفر مخرج من التوحيد مخرج من الملة، ومنه ما هو دون ذلك ويكون منافيا لكمال التوحيد.
بهذا يظهر صلة هذا الباب بكتاب التوحيد.(1/473)
قال (وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لَوْ كان لأحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً ثم أَنْفَقَهُ في سبيل الله مَا قَبِلَهُ الله مِنْهُ حَتّى يُؤْمِنَ بالْقَدَرِ)لم؟ لأنّ الله جل وعلا لا يقبل إلا من مسلم، الإسلام شرط لصحة قبول الأعمال، ومن أنكر القدر ولم يؤمن بالقدر فإنه لا يقبل منه لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهبا، (ثم استدلّ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ")، هنا في قوله (تُؤْمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ) القدر منه ما هو خير ومنه ما هو شر؛ خير بالنسبة لابن آدم وشر بالنسبة لابن آدم، فالمكلَّف قد يكون عليه قدَر هو بالإضافة إليه خير، وقد يكون عليه القدر بالإضافة إليه شر، وأما بالنسبة لفعل الله جل وعلا فالله جل وعلا أفعاله كلها خير؛ لأنها موافقة لحكمته العظيمة، فلهذا جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ثنائه على ربه "الشر ليس إليك" فالله جل وعلا ليس في فعله شر فالشر بما يضاف إلى العبد أصيب العبد بمصيبة فهي شر بالنسبة إليه أما بالنسبة لفعل الله فهي خير لأنها موافقة لحكمة الله جل وعلا البالغة والله سبحانه وتعالى له الأمر كله.(1/474)
قال(وعن عبادة بن الصامت، أنه قال لابنه: يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وهذا لأن القضاء والقدر قد فُرغ منه يعني تقدير الأمور قد فرغ منه، والله جل وعلا قد قدر الأشياء وقدر أسبابها، فالسبب الذي سيفعله المختار من عباد الله مقدر كما أن نتيجته مقدرة، ومن الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله جل وعلا جعلك مختارا وأنك لست مجبورا، فالقول بالجبر منافٍ للقول بالقدر؛ يعني القول بالجبر لا يستقيم مع الإيمان بالقدر، لأنَّ الإيمان بالقدر إيمان معه الإيمان بأن العبد مختار ليس بمجبر؛ لأن التكليف وقع بذلك.
والجبرية طائفتان:
طائفة غلاة: وهم الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقولون إن العبد كالريشة في مهب الريح وحركاته حركات إضطرارية.
ومنهم طائفة ليست بالغلاة: وهم الأشاعرة ونحوهم الذين يقولون بالجبر في الباطن وبالإختيار في الظاهر، ويقولون: إنَّ العبد له كسب؛ وهو أن يكون العبد في الفعل الذي فعله محلا لفعل الله جل وعلا، فيُفعل به فيكون هو محلا للفعل ويضاف الفعل إليه على جهة الكسب على ما هو معروف في موضعه من التفاصيل في كتب العقيدة المطولة.
قال في ذلك ذكر مرتبة الكتابة (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنّ أَوّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ. فقال: أُكْتُبْ. قال: رب! ومَاذا أَكْتُبُ؟ قال: اكْتُبْ مقادير كل شيء حتى تقومَ الساعة") هذا فيه دليل على مرتبة الكاتبة.
وقوله (إِنّ أَوّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ) معناه على الصحيح عند المحققين: إنه حين خلق الله القلم، فـ(أَوّلَ) هنا ظرف بمعنى حين، و(إِنّ) اسمها ضمير [الشان] محذوف، إنه أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب؛ يعني حين خلق الله القلم قال له أكتب، فيكون قول أكتب هذا من جهة الظرفية؛ يعني حين خلق الله القلم قال له أكتب.(1/475)
وأما أول المخلوقات، فالعرش سابق في الخلق على القلم كما قال عليه الصلاة والسلام الحديث الذي في الصحيح "قَدَّرَ الله مَقَادِيرَ الخلْق قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وكان عرشُهُ على الماء" فهمنا من قوله (إِنّ أَوّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ. فقال: أُكْتُبْ) أنه حين خلق قال له أكتب والعرش كان قبل ذلك.
فإذن الكتابة كانت بعد الخلق مباشرة -بعد خلق القلم- أما العرش فكان سابقا والماء كان سابقا أيضا.
ولهذا نقول الصحيح: أن العرش مخلوق قبل القلم كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية
والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو بعده قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبله لأنه عند الكتابة كان ذا أركان
إلى آخر ما في هذا الباب من مباحث في الإيمان بالقدر.
¹
باب ما جاء في المصَوِّرين
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللّهُ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقوا ذَرّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً" أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَشَدّ النّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقيَامَةِ, الّذِينَ يُضَاهِئونَ بِخَلْقِ اللّهِ".
ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلّ مُصَوّرٍ فِي النّارِ. يُجْعَلُ لَهُ بِكُلّ صُورَةٍ صَوّرَهَا نَفْسٌ يُعَذّبُ بها فِي جَهَنّمَ"
ولهما عنه مرفوعا"مَنْ صَوّرَ صُورَةً فِي الدّنْيَا كُلّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَيْسَ بِنَافِخ".(1/476)
ولمسلم عَنْ أَبِي الْهَيّاجِ، قال: قَالَ لِي عَلِيّ. " أَلاّ أَبْعَثُكَ عَلَىَ مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أن لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْراً مُشْرِفاً إِلاّ سَوّيْتَهُ ".
[الشرح]
هذا (باب ما جاء في المصورين) والمصورون جمع تصحيح للمصوِّر، والمصور هو الذي يفعل إحداث الصور؛ يعني هو الذي يقوم بالتصوير، والتصوير معناه التشكيل؛ تشكيل الشيء حتى يكون على هيئة صورة، والصورة قد تكون صورة لآدمي أو لغير آدمي من حيوان أو لنبات أو لجماد أو لسماء أو أرض، فكل هذا يقال له مصور، إذا كان يشكل بيده شيئا على هيئة صورة -صورة معروفة-.
وقوله (باب ما جاء في المصورين) يعني من الوعيد، ومن الحاديث التي فيها أنهم جعلوا أنفسهم أندادا لله جل وعلا، وعموم ما ذكرنا في معنى المصور هذا من جهة المعنى، أما من جهة الحكم فسيأتي بيان التفصيل إن شاء الله.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن التوحيد هوأن لا يُجعل لله ند فيما يستحقه جل وعلا، والتصوير تنديد من جهة أن المصور جعل فعله ندا لفعل الله جل وعلا، ولهذا يدخل الرضى بصنيع المصوِّر في قول الله جل وعلا ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22] إذْ ذلك حقيقته أنه جعل هذا المصوِّر شريكا لله جل وعلا في هذه الصفة، مع أن تصويره ناقص وتصوير الله جل وعلا على جهة الكمال؛ لكن من جهة الإعتقاد مما جعل هذا المخلوق مصوٍّرا والله جل وعلا هو الذي ينفرد بالتصوير سبحانه وتعالى -يعني بتصوير المخلوقات كما يشاء- كان من كمال التوحيد أن لا يُرضى بالتصوير وأن لا يفعل أحد هذا الشيء؛ لأن ذلك لله جل وعلا، فالتصوير من حيث الفعل مناف لكمال التوحيد، وهذا هو مناسبة إيراد هذا الباب في هذا الكتاب.(1/477)
والمناسبة الثانية له أن التصوير وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا، والشرك ووسائله يجب وصدها وغلق الباب؛ لأنها تُحْدث في الناس الإشراك أو وسائل الإشراك.
فصار -إذن- التصوير له جهتان:
الجهة الأولى: جهة المضاهاة بخلق الله والتمثّل بخلق الله جل وعلا وبصفته واسمه.
الثانية: أنه وسيلة للإشراك, الصورة من حيث هي وسيلة، قد لا يشرك بالصورة المعينة التي عملت؛ ولكن الصورة من حيث الجنس هي وسيلة -ولا شك- من وسائل الإشراك، وشرك كثير من المشركين كان من جهة الصور، فكان من تحقيق التوحيد أن لا تقرّ الصور لأجل أن الصورة وسيلة من وسائل المشركين في عباداتهم.
قال (وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ اللّهُ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقوا ذَرّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً" أخرجاه) هذا الحديثفيه معنى وفيه تمثيل:(1/478)
أما المعنى: وهو قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي) فصار الظلم معلقا بأن العبد يخلق كخلق الله جل وعلا، والمقصود بذلك يصور كتصوير الله جل وعلا لخلقه، ثم قال معجِّزا (فَلْيَخْلُقوا ذَرّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً) معلوم أن الذرّةَ من حيث هي ذرة، هذا يمكن أن تُعمل بأي شيء وترمي فتراها في الضوء والشمس أنها ذرة، وكذلك الحبة -يعني حبة الحنطة حبة البر أو حبة الرز- ممكن أن تصنع؛ ولكن لا يمكن أن تكون كخلق الله جل وعلا، وكذلك الشعيرة يمكن أن تصنع شكلا وأن تصور شكلا؛ لكن يعجز فيها الحياة، فمثلا كحب البر أو الشعير أو الرز أو نحو ذلك ينبت فيما إذا وضع في الأرض الذي هو من خلق الله جل وعلا، أما ما صنعه المخلوق فإنه لا تكون فيه حياة، فالرز الصناعي مثلا الذي تأكلونه لو رُمي في الأرض لما خرج منه ساق ولما خرج له جذر ولَمَا كانت منه حياة، وأما الذي يكون من خلق الله جل وعلا فهو الذي أودع فيه سر حياة ذلك الجنس من المخلوقات.
ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا على وجه التعجيز، فالذي يخلق كخلق الله جل وعلا هذا من جهة ظنه، أما من جهة الحقيقة فإنه لا أحد يخلق كخلق الله، ولهذا صار ذلك مشبها نفسه بالله جل وعلا، فصار أظلم الخلق.
استدل مجاهد وغيره من السلف بقوله (فَلْيَخْلُقوا ذَرّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً) على أن تصوير ما لا حياة فيه أو ما لا روح فيه محرم؛ لأنه هنا قال (فَلْيَخْلُقوا ذَرّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبّةً. أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً) فذكر الحبة والشعيرة قالوا فتصوير الأشجار وتصوير الحَبّ ونحو ذلك لا يجوز.(1/479)
وجمهور العلماء على خلاف ذلك وأنّ الأمر في هذا الحديث للتعجيز وليس لجهة التعليل، ولهذا قال في الحديث الذي بعده قال (مَنْ صَوّرَ صُورَةً فِي الدّنْيَا كُلّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) فلما قال (كُلّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرّوحَ) علمنا أنَّ النهي من جهة التصوير كان منصبا على ما فيه روح يعني على ما حياته بحلول الروح فيه، أما ما حياته بالنماء كالمزروعات والأشجار ونحوها فليس داخلا في ذلك.
قال (ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَشَدّ النّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقيَامَةِ, الّذِينَ يُضَاهِئونَ بِخَلْقِ اللّهِ") هذا فيه تنبيه للعلة، وهذه العلة هي المضاهات بخلق الله جل وعلا وهي أحد العلتين اللتين من أجلهما حُرم التصوير، فالتصوير حُرِّم وصار صاحبه من أشد الناس عذابا لأجل أنه يضاهي بخلق الله جل وعلا؛ ولأن الصورة وسيلة للشرك.
المضاهاة بخلق الله جل وعلا التي رُتِّب عليها بأن يكون فاعلها أشد الناس عذابا يوم القيامة في هذا الحديث عند كثير من العلماء: أنها ما كانت على وجه الكفر، وتكون المضاهاة في التصوير كفرا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يصور صنما ليعبد، أو يصور إلها ليعبد، أو يصور إلها يعبد في الواقع، فيصور لأهل البوذية صورة بوذا، أو يصور للنصارى المسيح أو يصور أم المسيح ونحو ذلك، فتصوير ما يُعبد من دون الله جل وعلا مع العلم أنه يُعبد هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأنه صور وثنا ليعبد وهو يعلم أنه يعبد، فيكون شركا أكبر وكفرا بالله جل وعلا.
والدرجة الثانية: أن يصور الصورة ويزعم أنها أحسن من خلق الله جل وعلا، فيقول هذه أحسن من خلق الله، أو أنا فُقْتُ في خلقي وتصويري ما فعل الله جل وعلا، فهذا كفر أكبر وشرك أكبر بالله جل جلاله.(1/480)
وهذا هو الذي حُمل عليه الحديث وهو قوله (أَشَدّ النّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقيَامَةِ, الّذِينَ يُضَاهِئونَ بِخَلْقِ اللّهِ).
ويدخل فيه أيضا من ضاهى بالتصوير عامة بما لا يخرجه من الملة؛ كالذي يرسم بيده أو ينحت التمثال وينحت الصورة، مما لا يدخل في الحالتين السابقتين فهو كبيرة من الكبائر وصاحبها ملعون ومتوعد بالنار.
قال (ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلّ مُصَوّرٍ فِي النّارِ. يُجْعَلُ لَهُ بِكُلّ صُورَةٍ صَوّرَهَا نَفْسٌ يُعَذّبُ بها فِي جَهَنّمَ") قوله (نَفْسٌ) أفاد أنّ ذلك التصوير وقع لشيء تحله النفس وهو الحيوانات أو الآدمي، ولهذا صار الوعيد منصبا على ذلك، وقوله (كُلّ مُصَوّرٍ فِي النّارِ) هذا يفيد أن التصوير كبيرة من الكبائر.
قال (ولهما عنه مرفوعا"مَنْ صَوّرَ صُورَةً فِي الدّنْيَا كُلّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَيْسَ بِنَافِخٍ") لأن الروح إنما هي لله جل وعلا.
(ولمسلم عَنْ أَبِي الْهَيّاجِ، قال: قَالَ لِي عَلِيّ. "أَلاّ أَبْعَثُكَ عَلَىَ مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أن لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْراً مُشْرِفاً إِلاّ سَوّيْتَهُ") في هذا الحديث التنبيه على العلة الثانية من علتي تحريم التصوير وهو أنه وسيلة من وسائل الشرك، ووجه الاستدلال من هذا الحديث أنه قرن في الأمر؛ قرن بين الصورة والقبر المشرف، وبقاء القبر المشرف وسيلة من وسائل الشرك، وكذلك للإقتران بقاء الصورة أيضا وسيلة من وسائل الشرك، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث عليا بأن لا يدع صورة إلا طمسها؛ لأن الصورة من وسائل الشرك، وألا يدع قبرا مشرفا إلا سواه لأن بقاء القبور مشرفة يدعو إلى تعظيمها وذلك من وسائل الشرك.(1/481)
هناك خلاف في بعض مسائل التصوير محله كتب الفقه، والفتوى من جهة التصوير الحديث هذا الذي يكون بالآلات إما ما يخرج منها ثابتا كالكاميرا الفورية أو ما يبقى على الورق، أو ما يكون منها متحركا كالتصوير بالفيديو أو التلفزيون أو نحو ذلك، وهذا محل الكلام عليه كتب الفقه.
¹
باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى: ?وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ?[المائدة:89].
وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسّلْعَةِ, مَمْحَقَةٌ لِلكسب" أخرجاه.
وعن سَلمان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلّمُهُمُ الله, وَلاَ يُزَكّيهِمْ, وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أُشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه". رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ أمّتي قَرني, ثمّ الذين يَلونهم, ثمّ الذين يَلونهم. -قال عِمرانُ: فلا أدري أذكرَ بعدَ قرنِه مرتين أو ثلاثاً-. ثمّ إنّ بعدَكم قوماً يشهدون ولا يُستشهدون ويخونون ولا يُؤْتَمَنون, ويَنذرون ولا يَفون, ويَظهر فيهم السّمَن".
وفيه عن ابن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ النّاسِ قَرني, ثمّ الذين يَلونهم, ثمّ الذينَ يَلونَهم. ثمّ يَجيءُ أقوامٌ تَسبِقُ شهادةُ أحدِهم يَمينَه ويَمينُهُ شهادتَه". قال إبراهيم: وكانوا يَضرِبونَنا على الشهادةِ والعَهد ونحن صغار.
[الشرح](1/482)
هذا (باب ما جاء في كثرة الحلف) ومن الظاهر والبين أن القلب المعظم لله جل جلاله الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أنه لا يستعمل الحلف، وكثرة الحلف لا تجامع كمال التوحيد، فإن من كَمُل التوحيد في قلبه أو قارب الكمال لا يكون جاعلا لله جل وعلا في يمينه؛ يجعل الله جل وعلا في يمينه إذا تكلم تكلم بالحلف وإذا باع باع بالحلف وإذا اشترى اشترى بالحلف ونحو ذلك، فهذا ليس من التعظيم الواجب لله جل وعلا.
فإن الواجب على العبد أن يعظم الله جل وعلا أو لا يكثر اليمين والمقصود باليمين، والحلف هنا اليمين المنعقدة التي عقدها صاحبها، أما لغو اليمين فإن هذا معفو عنه مع أن الكمال فيه والمستحب أن يخلِّص الموحد لسانه وقلبه من كثرة من كثرة الحلف في الإكرام ونحوه بلغو اليمين.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة وهي أن تحقيق التوحيد وكمال التوحيد لا يجامع كثرة الحلف، فكثرة الحلف منافية لكمال التوحيد، والحلف هو كما ذكرنا تأكيد الأمر بمعظَّم وهو الله جل جلاله، فمن أكد وعقد اليمين بالله جل وعلا وأكثر من ذلك وأكثر فإنه لا يكون معظِّما لله جل جلاله له، إذْ الله سبحانه وتعالى يجب أن يصان اسمه ويصان الحلف به واليمين به إلا عند الحاجة إليها، أما كثرة ذلك؛ كثرة مجيئة على اللسان فهو ليس من صفة ليس من صفة أهل الصلاح.
ولهذا أمر الله جل وعلا يحفظ اليمين، فقال (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) وهذا الأمر للوجوب؛ لأنه وسيلة لتحقيق تعظيم الله جل وعلا وتحقيق كمال التوحيد، فقوله (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) هذا إيجاب بأن يحفظ العبد يمينه، فلا يحلف عاقدا اليمين إلا على أمر شرعي بيّن، أما أن يحلف دائما ويجعل الله جل وعلا في يمينه فهذا ليس من تعظيم أسماء الله جل جلاله.(1/483)
قال (وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسّلْعَةِ, مَمْحَقَةٌ لِلكسب" أخرجاه) وسبب ذلك أنه نوع عقوبة أنّ هذا الذي يبيع بالحلف فإنه تَنفق سلعته ولكن كسْبُه يُمحق لأن محق الكسب يكون نوع عقوبة لأجل أنه لم يفعل الواجب من تعظيم الله جل وعلا.
قال:( وعن سَلمان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلّمُهُمُ الله, وَلاَ يُزَكّيهِمْ, وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أُشيمط زان) يعني من شمطه الشيب وقلبه متعلق بالزنا والعياذ بالله، فإنه ليس عنده من الدواعي للزنا ما يجعله يقبل عليه، ليس كحال من كان شابا، فهو قد وَخَطَهُ الشيب،(1) فيكون إذن في قلبه حب المعصية وليست مسألة غلبة الشهوة، ولهذا كان من أهل هذا الوعيد العظيم؛ لأن لا يكلمهم الله ولا يزكيهم وله عذاب أليم.
__________
(1) خالط سوادَ شعره.(1/484)
والصفة الثانية قال (عائل مستكبر) هذا النوع الثاني وهو من جنس الأول، فإن الاستكبار كما قال العلماء يكون إستكبارا للذات ويكون استكبارا للصفات، فإذا كان استكبارا للصفات فهذا محرم ولكنه أهون كمن يكون ذا جاه ورفعة فتكبر لأجل مالَه من الجاه والرفعة، فهذا لا يجوز لكن عنده ما يُوقع في قلبه الشبهة والفتنة بالتكبر أو الاستكبار، أو يكون ذا جمال، أو يكون ذا سمعة ونحو ذلك، فعنده سبب يجعله يتكبر وهذا يكثر في أهل الغنى، فأهل الغنى يكون كثيرا عندهم نوع تكبر على من كانوا من أهل الفقر أو ليسوا من أهل الغنى، فهذا عنده وصف جعله يتكبر؛ لكن الأعظم أن يكون تكبره في الذات؛ لأنْ ليس عنده صفة تجعله متكبرا، وهذا هو النوع الأول وهو استكبار للذات، يرى نفسه كبيرا ويتعاظم وهو ليس عنده شيء من الصفات يجعله كذلك، فهذا يكون فِعله كبيرة من الكبائر العظيمة ويدخل في هذا الحديث، ولهذا قال (وعائل مستكبرا) لأن العائل وهو الفقير الكثير العيال ليس عنده من لصفات ما يكون الاستكبار شبهة عنده أو لأجل تلك الصفات أو يكون ثَم فتنة عنده إلا لما قام في نفسه الخبيثة من الكبر.
قال (ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه) وهذا موطن الشاهد من الحديث، وهو ظاهر في أنه مذموم وأنه صاحب كبيرة؛ لأنه جعل الله بضاعته ويبيع باليمين ويشتري باليمين وهذا لا يجامع كمال التوحيد؛ بل لا يجامع تعظيم الله جل وعلا التعظيم الواجب فيكون مرتكبا لمحرم.(1/485)
والحديث الذي بعضه واضح وكذلك الذي بعده، وآخره قول إبراهيم النخعي (قال إبراهيم: وكانوا يَضرِبونَنا على الشهادةِ والعَهد ونحن صغار.) هذا فيه تأديب السلف لأولادهم ولذراريهم على تعظيم الله جل وعلا، فإن الشهادة والعهد واجب أن تكون مع التعظيم لله جل وعلا والخوف من لقائه والخوف من الظلم، فكانوا يؤدِّبون أولادهم على ذلك حتى يتمرنوا وينشأوا على تعظيم توحيد الله وتعظيم أمر الله ونهيه.(1)
¹
بابُ ما جاء في ذِمّة الله وذمّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -
وقوله تعالى: ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ?[النحل:91].
__________
(1) انتهى الشريط الخامس عشر.(1/486)
وعن بُرَيْدَةَ، قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمّر أميراً على جَيْشٍ أو سريَّة أوْصَاهُ في خَاصّتهِ بِتَقْوَى الله ومَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خيَراً، فقال: اغْزُوا بِسْم الله في سبيلِ الله, قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بالله, اغْزُوا ولا تَغلُّوا تغدِروا ولا تَمْثلُوا, ولا تَقْتُلُوا وَليداً, فإذا لَقِيتَ عَدُوُكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فادْعُهُمْ إلى ثلاثِ خِصَالٍ (أو خِلاَلٍ) فأيّتهن ما أجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفّ عنْهُمْ، ثم ادْعُهُمْ إلى الإسلامِ فإن أجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثم ادْعُهُمْ إلى التّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلى دَارِ المُهَاجِرِينَ, وأخْبِرْهُمْ أنهم إن فَعَلُوا ذلكَ فإنّ لَهُمْ ما لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ ما عَلَى المُهَاجِرِينَ, فإنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوّلُوا منها فأَخْبِرْهُمْ أنّهُمْ يَكُونُوا كأعْرَابِ المُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الله تعالى, ولا يكون لَهُمْ في الغَنِيمَةِ والْفَيءِ شَيْءٌ إلاّ أن يُجَاهِدُوا مع المُسْلِمِينَ, فإنْ هم أبَوْا فاسألهم الجِزْية، فإن هم أجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفّ عنْهُمْ، فإنْ هم أبَوْا فَاسْتَعِنْ بالله وَقَاتِلْهُمْ. وإذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أنْ تَجْعَلَ لهم ذمَّةَ الله وذِمّةَ نَبيّهِ فلا تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ الله وذِمّةَ نَبِيّهِ ولكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمّتَكَ وذِمَة أصْحَابِكَ, فإنّكُمْ أنْ تَخْفِرُوا ذِمّتكُمْ وَذِمّة أصْحَابِكُمْ أَهْوَنْ مِنْ أنْ تُخْفِرُوا ذِمّةَ الله وذِمّةَ نبيِهِ, وإذا حَاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أنْ تُنزلهم على حُكْمِ الله فلا تُنْزِلُهُمْ على حُكْمِ الله ولكن أنْزِلْهُمْ على حُكْمِكَ فَإِنّكَ لاَ تَدْرِي أتُصِيبُ حُكْمَ الله فيهِمْ أم لا" رواه مسلم.
[الشرح](1/487)
هذا باب عظيم من الأبواب الأخيرة في هذا الكتاب وهو (باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -).
وذِكْرُ الإمام رحمه الله لهذا الباب لأجل حديث بريدة الذي ساقه وفيه (وإذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أنْ تَجْعَلَ لهم ذمَّةَ الله وذِمّةَ نَبيّهِ فلا تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ الله وذِمّةَ نَبِيّهِ ولكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمّتَكَ وذِمَة أصْحَابِكَ, فإنّكُمْ أنْ تَخْفِرُوا ذِمّتكُمْ وَذِمَّة أصْحَابِكُمْ أَهْوَنْ مِنْ أنْ تُخْفِرُوا ذِمّةَ الله وذِمّةَ نبيِهِ) وهذا لأجل تعظيم الرب جل وعلا وتعظيم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن تعظيم الله جل وعلا في مناجاته وفي سؤاله وفي العبادة له جل وعلا وفي التعامل مع الناس هذا كله من كمال التوحيد، وهذا الباب من جهة التعامل مع الناس كما جاء في الباب الذي قبله، فالباب الذي قبله وهو (باب ما جاء في كثرة الحلف) متعلق بتعظيم الله جل وعلا حين التعامل مع الناس، و(باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه) متعلق بالتعامل مع الناس في الحالات العَسِرة الصعبة وهي حال الجهاد، فنَبَّه على أن تعظيم الرب جل وعلا يكون في التعامل في أعصب الحالات وهو الجهاد فإن العبد يكون موقرا لله مجلا لله معظما لأسمائه وصفاته، ومن ذاك أن تعظم ذمة الله وذمة نبيه، والذمة بمعنى العهد وذمة الله يعني عهد الله وعهد نبيه، فإنه إذا كان يعطي بعهد الله ثم يخفر فقد خفر عهد الله جل وعلا وفجر في ذلك، وهذا مناف لكمال التوحيد الواجب؛ لأن الواجب علىالعبد أن يُعَظِّم الله جل جلاله وأن لا يخفر عهده وذمته؛ لأنه إذا أعطى بذمة الله فإنه يجب عليه أن يوفي بهذه النعمة مهما كان حتى لا يُنسب النقص لعدم تعظيم ذمّة الله جل جلاله ومن أهل الإسلام.(1/488)
لهذا كان إعطاء مثل هذه الكلمة مثل كثرة الحلف، فلا يجوز أن تجعل في العهد ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما لا يجوز كثرة الأيمان؛ لأن في كل منهما نَقصا في تعظيم الرب جل جلاله.
قال (وقوله تعالى: ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا?[النحل:91]) العهد في قوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) فُسِّر بالعقد وفُسِّر باليمين:
فالعهد بمعنى العقد كما قال جل وعلا ?أَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْد كَانَ مَسْئُولاً?[الإسراء:24]، وقال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ?[المائدة:1]، فالعقد والعهد بمعنى؛ فلهذا فسر (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) بأنها العقود التي تكون بين الناس.
وفُسِّر العهد هنا بأنه اليمين ودلّ عليه قوله بعدها (وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا).
فيجب الوفاء بالعهد ويجب الوفاء باليمين تعظيما لحق الله جل وعلا، لأن من أعطى اليمين لله فإن معناه أنه أكَّد وفاءه بهذا الشيء الذي تكلم به؛ أكد ذلك بالله جل جلاله، فإذا خالف وأخَّر فمعنى ذلك أنه لم يعظم الله تعظيما خاف بسببه من أن لا يقيم ما يجب لله جل وعلا من الوفاء باليمين، ولهذا قال (وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) حين استشهدتم الله جل جلاله أو حين حلفتم بالله جل جلاله، ولهذا كفّارة اليمين واجبة على ما هو مفصل في موضعه من كتب الفقه.
والحديث ظاهر الدِّلالة على ذكرنا؛ ففيه تعظيم الله جل جلاله بأن يعطى العبد الناس بذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ بل أن يعطى بذمته هو.(1/489)
وفي هذا تنبيه عظيم لأهل التوحيد وطلبة العلم الذين يهتمون بهذا العلم ويعرف الناس منهم أنهم يهتمون بهذا العلم ألا يبدُر منهم ألفاظ أو أفعال تدلّ على عدم تَمَثُّلِهم بِهذا العلم فإن التوحيد هو مقام الأنبياء والمرسلين ومقام أولياء الله الصالحين، فأن يتعلم طالب العلم مسائل التوحيد ثم لا تظهر على لسانه أو على جوارحه أو على تعامله لا شك أن هذا يرجع ولو لم يشعر يرجع إلى اتهام ذلك الذي حمله من التوحيد أو من العلم الذي هو علم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
فتذَكَّر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا (وإذا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أنْ تَجْعَلَ لهم ذمَّةَ الله وذِمّةَ نَبيّهِ فلا تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمّةَ الله وذِمّةَ نَبِيّهِ) لأجل أنه قد يُدخل على أهل الإسلام وأو على الدين في نفسه من جهة فعلهم، فيخفرون هذه الذمة فيرجه اخفار ذلك إلى اتهام ما حملوه من الإسلام ومن الدين، فهذه مسألة عظيمة فتستحضر أن الناس ينظرون إليك خاصة في هذا الزمان -الذي هو زمان شبه وزمان فتن- ينظرون إليك أنك تحمل سُنّة، تحمل توحيدا، تحمل علما شرعيا، فلا تعاملهم إلا بشيء يكون معه تعظيم الرب جل وعلا، وتجعل أولئك يعظمون الله جل وعلا بتعظيمك له، ولا تخفر في اليمين ولا تخفر في ذمة الله، أو تكون في الشهادة حائفا أو في التعامل حائفا؛ لأن ذلك مُنْقِصٌ لأثر ما تحمله من العلم والدين.(1/490)
فتذكر هذا، وتذكر أيضا قوله عليه الصلاة والسلام هنا (وإذا حَاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أنْ تُنزلهم على حُكْمِ الله فلا تُنْزِلُهُمْ على حُكْمِ الله ولكن أنْزِلْهُمْ على حُكْمِكَ فَإِنّكَ لاَ تَدْرِي أتُصِيبُ حُكْمَ الله فيهِمْ أم لا أو نَحْوَ هذا) وذلك حتى إذا كان غلظ فيكون الغلط منسوبا إلى من حَكَمَ -إلى هذا البشر-، ولا يكون منسوبا إلى حُكْم الله، فيصد الناس عن دين الله، وكم من الناس ممن يحملون سنة أو علما أو يحملون استقامة يسيئون بأفعالهم وأقوالهم؛ لأجل عدم تعلمهم أو فهمهم ما يجب لله جل وعلا وما يجب لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يدعوهم إليه الرب الكريم جل وعلا وتعالى وتقدس.
نبرأ إلى الله جل وعلا من كل نقص، ونسأله أن يعفو ويتجاوز ويرحمنا جميعا.
¹
باب ما جاء في الإقسام على الله
عَنْ جُنْدَب بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قَالَ رَجُل: وَاللّهِ لاَ يَغْفِرُ اللّهُ لِفُلاَنٍ، فقال اللهُ عز وجل: مَنْ ذَا الذِي يَتَأَلَّى عَلَيّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ. فَإِنّي قَدْ غَفَرْتُ لِهُ. وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ" رواه مسلم
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: تَكَلّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
[الشرح]
(باب ما جاء في الإقسام على الله) الإقسام على الله يكون على جهتين:(1/491)
جهة فيها التألي والتكبر والتجبر ورفعة هذا المتألي نفسه حتى يجعل له على الله حق, وهذا مناف لكمال التوحيد، وقد ينافي أصله، وصاحبه متوعد بالعقاب الذي جاء في مثل هذا الحديث، فهذا يتألى فيجعل الله جل وعلا يحكم بما اختاره هو من الحكم، فيقول: والله لا يحصل لفلان كذا. تكبرا واحتقارا للآخرين فيريد أن يجعل حكم الله جل وعلا كحكمه تأليا واستبعادا أن يفعل جل وعلا ما ظنه هو، فهذا التألي و الإستبعاد نوع تحكم في الله جل وعلا وفي فعله، وهذا لايصدر من قلب معظم لله جل وعلا.
والحال الثانية أن يقسم على الله جل جلاله لا على جهة التألي؛ ولكن على جهة أنه ما ظنه صحيح، في أمر وقع له أو في أمر يواجهه، فهذا يقسم على الله أن يكون كذا في المستقبل على جهة التذلل والخضوع لله لا على جهة التألي، وهذا هو الذي جاء فيه الحديث "ومن عباد الله ومن أقسم على الله لأبرَّه" لأنه أقسم على الله لا على جهة التعاظم والتكبر والتألي؛ ولكن على جهة الحاجه والإفتقار إلى الله، فحين أَقسم أقسم محتاجا لإلى الله وأكد ذلك بالله و أسمائه من جهة طنه الحسن بالله جل وعلا، فهذا جائز ومن عبادالله من أقسم على الله لأبره؛ لأنه قام في قلبه من العبودية لله والذل الخضوع ما جعل الله جل وعلا يجيبه في سؤاله ويعطيه طلِبَتَه ورغبته.
وأما الحال الأولى فهي حال المتكبر المترفِّع الذي يظن أنه بلغ مقاما بحيث يكون فعل الله جل وعلا تبعا لفعله، فتكبر واحتكر غيره.
فبهذا التفصيل يتضح ما جاء في هذا الباب من الحديث.(1/492)
قال (عَنْ جُنْدَب بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قَالَ رَجُل: وَاللّهِ لاَ يَغْفِرُ اللّهُ لِفُلاَنٍ، فقال اللهُ عز وجل: مَنْ ذَا الذِي يَتَأَلَّى عَلَيّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ") هذا الذي قال (وَاللّهِ لاَ يَغْفِرُ اللّهُ لِفُلاَنٍ) كان رجلا صالحا، والآخر كان رجلا فاسقا، فقال هذا الرجل الصالح: (وَاللّهِ لاَ يَغْفِرُ اللّهُ لِفُلاَنٍ)؛ لأن فلان هذا كان رجلا فاسقا مريدا كثير العصيان، متألي هذا العابد وعظم نفسه وظن أنه بعبادته إلى الله جل وعلا بلغ مقاما يكون متحكما فيه بأفعال الله جل وعلا وألا يرد شيء طلبه ، أو له أن يتحكم في الخلق، وهذا ينافي حقيقة العبودية التي هي التذلل لله جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى عاقبه فقال (مَنْ ذَا الذِي يَتَأَلَّى عَلَيّ) يعني يتعاظم ويتكبر عليّ ويحلف علي فيقسم عليَّ؛ لأن يتألى من الألِيَّة وهي الحلف ومنه قوله تعالى منه قوله تعالى ?لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِم تَرَبُصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُو فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[البقرة:226]، والإيلاء من الألية وهي الحلف، فـ(يَتَأَلَّى) يعني يحلف على جهة التكبر والتعاظم، (أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ. فَإِنّي قَدْ غَفَرْتُ لِهُ. وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ) فغُفرللطالح وأُحبط عمل ذلك الرجل العابد.
وهذا يبين لك عِظم شأن مخالفة تعظيم الله جل وعلا، وعِظم مخالفة توحيد الله سبحانه وتعالى، فهذا الرجل الفاسق، هذا الرجل الطالح، الرجل الفاسق أتاه خير من حيث لا يشعر، وقيلت فيه حقه كلمة بحسب الظاهر أنها مؤذية له، أنها فيها من الإحتقار و الإزدراء له ما يجعله في ضَعَة بين الناس، حيث شهد عليه هذا الصالح بقوله (وَاللّهِ لاَ يَغْفِرُ اللّهُ لِفُلاَنٍ)؛ فكانت هذه الكلمة التي ساءته وكان فيها إيذاء له كانت فيها مصلحة عظيمة له أن غفر له ذنبه.(1/493)
ولهذا نبه الشيخ في مسائل الباب بمسألة معناها أن من الابتلاء و الايذاء وكلام الناس في المكلَّف -في الشخص- ما يكون أعظم أسباب الخير له، (1) ولهذا ليست العبرة باحتقار الناس ولا بكلامهم ولا بإيذائهم ولا بتصنيفهم للناس أو بقولهم هذا فلان كذا وهذا فلان كذا، العبرة بحقيقة الأمر بما عند الله جل جلاله.
فالواجب على العباد جميعا أن يعظِّموا الله وأن يخبتوا إليه و أن يظنوا أنهم أسوء الخلق، حتى يقوم في قلوبهم أنهم أعظم حاجة لله جل وعلا وأنهم لم يوفوا الله حقه.
أما التعاظم بالنفس والتعاظم بالكلام والمدح والثناء ونحو ذلك فليس من صنيع المجلين لله جل وعلا الخائفين من تقلب القلوب، فالله جل وعلا يقلب القلوب ويصرِّفها كيف يشاء، فالقلب المخبت المنيب يحذر ويخاف دائما أن يتقلب قلبُه، فينتبه للفظه، وينتبه لحظه، وينتبه لسمعه، وينتبه لحركاته لعل الله جل وعلا ان يميته غير مفتون ولا مخزي. نعم
¹
باب لا يُستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -، قال: جاء أَعْرَابِيٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: يَا رَسُولَ الله! نُهِكَتِ الأنْفُسُ، وجاع الْعِيَالُ، وَهَلَكَتِ الأمْوَالُ فَاسْتَسْقِ لَنَا ربَّك فإِنّا نَسْتَشْفِعُ بالله عَلَيْكَ وبِكَ عَلَى الله. قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، سبحان الله", فَمَا زَالَ يُسَبّحُ حَتّى عُرِفَ ذَلِكَ في وُجُوهِ أَصْحَابِهِ, ثُمّ قالَ: "وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا الله؟ إِنّ شَأْنَ الله أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ, إنه لا يُسْتَشْفَعُ بالله عَلَى أَحَدٍ"وذكر الحديث. رواه أبو دوواد
[الشرح]
__________
(1) وهي المسألة الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.(1/494)
(باب لا يُستشفع بالله على خلقه)، (لا يستشفع) يعني لا يُجعل الله شفيعا على الخلق؛ لأن شأن الله جل وعلا أعظم وأجل من أن يستشفع به ويُجعل واسطة للإنتفاع بأحد من الخلق، فالشفاعة المعروفة: تأتي إلى أحد وتطلب أن يكون شفيعا عند آخر؛ لأن ذلك الآخر هو الذي يملك ما تريد والنفع عنده، وهذا يكون واسطة ولا يستطيع أن ينفعك بنفسه إلا بأن يتوسط، والله جل جلاله لا يجوز أن يظن به ذلك الظن لأن ظن سَوء بالله جل جلاله، والله سبحانه لا يصلح أن يُجعل واسطة لأحد أو إلى أحد من الخلق أو على أحد من الخلق؛ بل هو جل وعلا الذي يملك الأمور جميعا.(1/495)
فالإستشفاع بالله على الخلق؛ يعني أن يجعل الله واسطة يتوسَّط العبد بربه على أحد من الخلق هذا منافٍ لكمال التوحيد، وعمل وقول من الأقوال المنافية لتعظيم الله جل وعلا التعظيم الواجب، ولهذا لما ذكر الشيخ رحمه الله حديث جبير ابن مطعم كان الشاهد منه أنه قال الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام (فَاسْتَسْقِ لَنَا ربَّك فإِنّا نَسْتَشْفِعُ بالله عَلَيْكَ وبِكَ عَلَى الله) يعني (نَسْتَشْفِعُ بالله) نجعل الله جل وعلا واسطة يتوسط لنا عندك حتى تدعو، والله جل وعلا هو الملك الحي القيوم، الملك الحق المبين، الذي نواصي العباد بيديه يصرفها كيف يشاء، شأن الله أعظم من أن يستشفع به على أحد من خلقه؛ بل الرجل أو المكلف يستشفع بأحد من الخلق عند مخلوق آخر يحتاجه في شيء، والله جل وعلا هو الذي يملك الأشياء جميعا، وهو الذي يصرف القلوب، هو الذي بيده الملك والملكوت، هو الذي بيده مقاليد السموات والأرض وبيده خزائن كل شيء ?وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ?[الحجر:21], فالعباد هم المحتاجون إلى الله، وشأن الله أعظم من ذلك إذِ المخلوق حقير وضيع بالنسبة إلى الرب جل جلاله، وهو -هذا المخلوق- لا يصلح أن يُجعل الله جل وعلا واسطة عنده حتى يقبل هذه الواسطة؛ بل شأن الله جل وعلا أعظم من ذلك.(1/496)
ولهذا كان سيد الخلق وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام رادا على هذا الأعرابي حيث قال له الأعرابي (إِنّا نَسْتَشْفِعُ بالله عَلَيْكَ وبِكَ عَلَى الله. قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، سبحان الله", فَمَا زَالَ يُسَبّحُ), سبحان الله؛ يعني تنزيها وتعظيما لله، تنزيها وإبعادا لله عن كل وصف سوء أو شائبة نقص، سبحان الله؛ يعني أسبح الله تسبيحا، أسبح الله وأنزهه تنزيها وأبعِّده تبعيدا عن كل شائبة نقص وعن كل ظن سوء به جل وعلا، فما زال يكررها حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه من شدة تسبيحه وتنزيهه لربه جل وعلا، وهذا من الغضب لله جل جلاله، صلى الله وسلم على نبينا محمد فما كان أعلمه بربه وما كان أعرفه بربه.
(ثُمّ قالَ: "وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا الله؟ إِنّ شَأْنَ الله أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ, إنه لا يُسْتَشْفَعُ بالله عَلَى أَحَدٍ") فالله جل وعلا من علم أسماءه وعلى الصفات المستحقة له جل وعلا فإنه لن يدور بخاطره ظنُّ سَوْء به جل وعلا أو اسنتقاص له جل وعلا.
إذن هذا الباب فيه كما في الأبواب قبله ما يتحرز به الموحد من الألفاظ التي فيها سُوء ظن بالله جل وعلا وتنقص لمقام الربوبية لله جل جلاله. نعم
¹
باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسدِّه طرق الشرك
عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه -، قال: انْطَلَقْتُ في وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلنا: أَنْتَ سَيّدُنا. فقَالَ: "السّيّدُ الله تبارك وتعالى". , قُلْنا: وَأَفْضَلُنا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً. فَقَالَ "قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنّكمْ الشّيْطَانُ". رواه أبو داوود بسند جيد.(1/497)
وعن أنس - رضي الله عنه -: أن ناساً قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فقال"ياأيّها النّاسُ قُولُوا بِقولِكُمْ ولا يَسْتَهْوِيَنّكُمْ الشّيْطَانُ, أنا محمدٌ عَبْد الله وَرَسُولُه, ما أحِبّ أنْ تَرْفَعُوني فَوْقَ مَنْزِلَتِي التي أنزلني الله عَزّ وَجَلّ" رواه النسائي بسند جيد.
[الشرح]
(باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسده طرق الشرك)؛ النبي عليه الصلاة والسلام حَمى وحرس جناب التوحيد، وحَمى حمى التوحيد، وسد طريق توصل إلى الشرك، فإن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الدلائل على قاعدة سد الذرائع ما يبلغ مائة دليل أو أكثر، وأعظم الذرائع التي يجب أن تسد ذرائع الشرك التي توصل إليه، ومن تلك الذرائع قول القائل: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا ونحو ذلك، فإن هذا فيها التعظيم الذي لا يجوز أن يواجَه بشر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو سيد ولد آدم كما أخبر به عليه الصلاة والسلام؛ لكن كره المواجهة كما سيأتي.
إذن فحماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسده طرقَ الشرك:
"كان في جهة الاعتقادات.
"وكان في جهة الأعمال والأفعال.
"وكان في جهة الأقوال.
فإذا تأملت سنته وما جاء في هذا الكتاب -كتاب التوحيد- وجدت أنه عليه الصلاة والسلام:
سد الباب في الإعتقادات الباطلة.
وسد الباب في الأفعال الباطلة كقوله "اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَىَ قَوْمٍ اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
وسد الباب أيضا في الأقوال التي توصل إلى الغلو المذموم فقال "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
وهذا الباب أيضا من ذلك في بيان حمى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد فيما يتعلق بالقول الذي قد يتبعه اعتقاد.(1/498)
قال (عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه -، قال: انْطَلَقْتُ في وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلنا: أَنْتَ سَيّدُنا. فقَالَ: "السّيّدُ الله تبارك وتعالى". , قُلْنا: وَأَفْضَلُنا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً. فَقَالَ "قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنّكمْ الشّيْطَانُ". رواه أبو داوود بسند جيد) في هذا الحديث أن إطلاق لفظ (السيد) على البشر هذا مكروه، ومخاطبته بذلك يجب سدُّها، فلا يخاطب أحد بأن يقال له: أنت سيدنا. على جهة الجمع؛ وذلك لأن فيها نوع تعظيم:
"من جهة المخاطبة يعني الخطاب المباشر.
"والجهة الثانية من جهة استعمال اللفظ.
والنبي عليه الصلاة والسلام سيد كما قال عن نفسه "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" ولكن مخاطبته عليه الصلاة والسلام مع كونه سيدا؛ لكنه كرهها ومنع منها لأن لا تؤدي إلى ما هو أعظم من ذلك من تعظيمه والغلو فيه عليه الصلاة والسلام.
فهذا مناسبة هذا الحديث لهذا الباب أنّ في قوله عليه الصلاة والسلام (السّيّدُ الله تبارك وتعالى) مع كونه عليه الصلاة والسلام هو سيد ولد آدم ما يفيد أنه عليه الصلاة والسلام حمَى حِمى التوحيد وسدَّ الطرق الموصلة إلى الشرك ومنها طريق الغلو في الألفاظ.(1)
والقول للرجل بأنه سيد ونحو ذلك إذا كان على وجه المخاطبة له والإضافة إلى الجمع فهذا أشدُّها، وإذا كان بدون المخاطبة له ولفظ الجمع فإنه أهون منه، ومما ذَكر العلماء أن قوله عليه الصلاة والسلام (السّيّدُ الله تبارك وتعالى) أنه يُره كراهة شديدة أن يقال لبشر إنه السيد هكذا بالألف واللام وكلمة سيد؛ لأن هذا قد يفهم منه استغراق معاني السيادة لأن البشر له سيادة تخصه؛ لكن الألف واللام هنا قد يُفهم منه استغراق ألفاظ السيادة.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس عشر والأخير.(1/499)
ولهذا ترى أن الذين يشركون ببعض الأولياء كالسيد البدوي يعظمون كلمة السيد، ويكثر عندهم التعبير بالسيد ويريدون به السيد البدوي، فيكثر عندهم عبد السيد ونحو ذلك، ولا يريدون به الله جل وعلا ولكن يريدون به ذلك الذي اتخذوه معبودا، وتوجهوا إليه ببعض أنواع العبادة، فيفهمون من كلمة السيد أنه ذو السيادة وذو التصرف في الأمر، وهذا هو الذي اعتقدوه من أنّ للبدوي ولأمثاله أن لهم تصرفا في الأرض وقبولا للمطالب في الحاجات.
(قُلْنا: وَأَفْضَلُنا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً. فَقَالَ "قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنّكمْ الشّيْطَانُ")؛ لأن هذا فيه الثناء والمدح بالمواجهة، وهذا من الشيطان، فالشيطان هو الذي يفتح هذا الباب أن يُمدح أحد ويعظَّم في مواجهته، وذلك حتى يعظم في نفسه فيأتيه الخِذلان؛ لأن كل أحد تخلى عن (لا حول ولا قوة إلا بالله) وتخلى عن الإزدراء بالنفس والذل والخضوع الذي يعلمه الله من قلبه فإنه يُخذَل ويأتيه الأمر على غرة، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقال بمثل ذلك القول مواجهة، ونهى عن المدح؛ لأن فيه إضرارا بالمتكلم وأضرارا بالمقول فيه ذلك الكلام.(1/500)
قال (وعن أنس - رضي الله عنه -: أن ناساً قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فقال: "يا أيّها النّاسُ قُولُوا بِقولِكُمْ ولا يَسْتَهْوِيَنّكُمْ الشّيْطَانُ, أنا محمدٌ عَبْد الله وَرَسُوله, ما أحِبّ أنْ تَرْفَعُوني فَوْقَ مَنْزِلَتِي التي أنزلني الله عَزّ وَجَلّ". رواه النسائي بسند جيد) هو عليه الصلاة والسلام كما وصفوه؛ هو خيرهم وهو سيدهم عليه الصلاة والسلام؛ لكنه حمى الجناب جناب التوحيد وحمى حِمى التوحيد حتى لا يستدل أحد بعده عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام على أنه يجوز أن يقال لمن ظن الناس فيه ذلك؛ بل سد الباب في نفسه وهو سيد ولد آدم وهو خيرهم عليه الصلاة والسلام وأفضلهم؛ ولكن سد الاباب حتى لا يدخل أحد منه بإقراره هذا الفعل فيعظَّم أحد ويدخل الشيطان إلى ذلك المعظم وإلى المضم فيجعل القلوب تتعلق بذلك المعظم حتى يُشرَك به حتى يعظم بما لا يجوز له من التعظيم.
هذا الباب كالجامع لما يجب من سد الذرائع الموصلة للشرك، وهذا واجب على المسلم أنَّ كل طريق أو سبيل يجعل نفسه تتعاظم -من نفسه لنفسه أو من الخلق له- يجب عليه أن سيده؛ لأنه أعظم مقامات الشرف لك أن يعلم الله جل وعلا منك أنك متذلل خاضع بين يديه، وأنك خائف وجِلْ تدعوه راغبا راهبا، هذه صفة الخُلَّص من عباد الله جل وعلا الذين وعدهم الله جل وعلا بالخيرات قال سبحانه ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?[الأنبياء:90]، والخشوع نوعان:
"خشوع في القلب.
"وخشوع في الجوارح.
وخشوع القلب بالتطامن والذل والخضوع بين يدي الله.
وخشوع الجوارح بسكونها كما قالب جل وعلا ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً?[فصلت:39].نعم
¹(2/1)
باب ما جاء في قول الله تعالى: ?وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?[الزمر: 67]
عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: جَاءَ حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقال : يَا مُحَمّدُ لِلَّهِ إنا نجد أن الله يجعل السّمَاوَاتِ عَلَىَ إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلىَ إِصْبَعٍ، وَالشّجَرَ عَلَىَ إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَىَ إِصْبَعٍ، وَالثّرَى عَلَىَ إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَىَ إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فضَحِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، تصديقاً لقول الحبر، ثُمّ قَرَأَ:"?وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ? الآية" متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: وَالْجِبَالَ وَالشّجَرَ عَلَىَ إِصْبَعٍ، ثُمّ يَهُزّهُنّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أنا الله.
وفي رواية للبخاري: يجعل السّمَاوَاتِ عَلَىَ إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثّرَىَ عَلَىَ إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَىَ إِصْبَعٍ.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً : "يَطْوِي اللّهُ عَزّ وَجَلّ السّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمّ يَأْخُذُهُنّ بِيَدِهِ الْيُمْنَىَ. ثُمّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. أَيْنَ الْجَبّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبّرُونَ؟ ثُمّ يَطْوِي الأَرَضِينَ السبع ثُمّ يَأْخُذُهُنّ بِشِمَالِهِ. ثُمّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. أَيْنَ الْجَبّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبّرُونَ؟".
وروي عن ابن عباس، قال : ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.(2/2)
وقال ابن جرير: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس"
قال: وقال أبو ذر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما الكرسي في العرش إلا العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".
وعن ابن مسعود، قال: بين السماء والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمس مئة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفي عليه شيء من أعمالكم. أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله. ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم ". أخرجه أبو دواد وغيره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الشرح](2/3)
هذا (باب ما جاء في قول الله تعالى: ?وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?[الزمر: 67]) هذا الباب ختم به أمام هذه الدعوة شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتاب التوحيد، وخَتْمُه هذا الكتاب بهذا الباب خَتْمٌ عظيم؛ لأن من علم حقيقة ما اشتمل عليه هذا الباب من وصف الله جل وعلا وعظمة الله جل وعلا فإنه لا يملك إلا أن يَذُلَّ ذلا حقيقيا ويخضع خضوعا عظيما للرب جل جلاله، والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقِّروا وما قدروا الله جل وعلا:
"لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته.
"ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله.
قال جل وعلا ?وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ?[الأنعام:91]، فهذا في الإنزال؛ في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول.
وقال جل وعلا في بيان صفة ذاته, قال (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يعني ما عظَّموه حق تعظيمه، ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره ولما أطاعوا غيره ولعبدوه حق العبادة ولذلوا له ذلا وخضوعا دائما وأنابوا إليه بخشوع وخشية؛ ولكنهم (مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يعني ما عظموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره جل وعلا وعظم ذاته سبحانه وتعالى وصفاته.(2/4)
ثم بين جل وعلا شيئا من صفة ذاته العظيمة الجليلة فقال سبحانه (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فإن عقل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله جل وعلا على ما هو عليه، والله جل وعلا بيّن لك بعض صفاته فقال سبحانه (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ) فإذا نظرت إلى هذه الأرض -على عِظمها وعلى غرور أهلها فيها-، ونظرت إلى حجمها وإلى سعتها وإلى ما فيها فهي قبضة الرحمان جل وعلا؛ يعني في داخل قبضة الرحمان جل وعلا يوم القيامة كما وصف ذلك بقوله (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فنفهم من ذلك أن كف الرحمان جل وعلا وأن يد الرحمان جل وعلا أعظم من هذا، وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمان جل وعلا، كما قال سبحانه هنا (والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ) وقال في آية سورة الأنبياء ?يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ الخَلْقِ نُعِيدُهُ?[الأنبياء:104]، فهذه صفات الله جل جلاله هذه صفاته فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها والسماوات التي يتعاضمها من نظر فيها هي صغيرة وآيلة في الصغر إلى أن تكون في كف الرحمان جل وعلا، والله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجلّ؛ بل هو سبحانه وتعالى الواسع الحميد الذي له الحمد كله وله الثناء كله.(2/5)
ويبين لك ذلك؛ يبين لك عظمة الرب في ذاته وعظمة الرب جل وعلا في صفاته إذا تأملت هذه الأحاديث، فإنك إذا نظرت في هذه الأرض، ونظرت سعة هذه الأرض، وغرور أهل الأرض بها غرور أهل الأرض في الأرض بهذه الأرض وبسعتها وبقواهم فيها، نظرت إلى أن الأرض بالنسبة إلى السماء أنها صغيرة، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة خمسمائة سنة في مسير الراكب السريع، وكذلك بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة ألف سنة، وهكذا حتى تنتهي السبع السماوات، والأرض بالنسبة للسماوات صغيرة، ولهذا مثَّل السماوات السبع النبي عليه الصلاة والسلام في الكرسي الذي هو فوق ذلك وهو أكبر بكثير من السماوات, بقوله (إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس) يعني هذه السماوات صغيرة جدا بالنسبة إلى الكرسي؛ بل كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس مكتنفها متقوس عليها، فهي صغيرة فيه وهو واسعها كما قال جل وعلا عن الكرسي ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا?[البقرة:255].
فالأرض التي أنت فيها، وأنت فيها في نقطة صغيرة صغيرة هي بالنسبة إلى السماء هذا وصفها، والأرض والسماوات بالنسبة للكرسي هذا وصفه، والكرسي أيضا فوقه ماء، وفوق ذلك العرش عرش الرحمان جل وعلا، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فهو متناهي الصغر بالنسبة إلى عرش الرحمان الذي الرحمان جل وعلا مستو عليه وهو فوقه سبحانه وتعالى.
ولو تأملوا صفة الرب جل وعلا وما يجب له من الجلال وما هو عليه سبحانه وتعالى من صفات الذات ومن صفات الفعل وما هو في ذلك على الكمال الأعظم، فإنهم سيحتقرون أنفسهم، وسيعلمون أنه ما ثَم ينجيهم ويشرفهم إلا أن يكونوا عبيدا له وحده دون ما سواه.(2/6)
فهل يعبد المخلوقُ المخلوقَ؟ الواجب أن يعبد المخلوقُ هذا الذي هو متصف بهذه الصفات العظيمة، فهو الحقيق بأن يذل له، وهو الحقيق بأن يطاع، وهو الحقيق أن يجل، وهو الحقيق بأن يسأل، وهو الحقيق بأن يبذل كل ما يملكه العبد في سبيل مرضاته جل وعلا، إذ هذا من قدره حق قدره ومن تعظيمه حق تعظيمه.
فإذا تأمل العبد صفات الربوية وصفات الجلال وصفات الجمال لله جل وعلا، وأن ذات الله جل وعلا عظيمة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه على هذا العظم، وجد أنه ما ثَم إلا أنه يتوجه إليه بالعبادة وألا يعبد إلا هو، وأن من عبد المخلوق الحقير الوضيع فإنه قد نازع الله جل وعلا في ملكه ونازع الله جل وعلا في إلهيته، ولهذا يحق أن يكون من أهل النار المخلدين فيها عذابا دائما؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف وترك الرب العلي القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
ثم إذا تأملتَ ذاك تأملتَ ربك العزيز الحكيم المتصف بصفات الجلال وهو جل وعلا فوق عرشه يأمر وينهى في ملكوته الواسع -الذي الأرض كَشِبْه لا شيء في داخل ذلك الملكوت- يفيض رحمته ويفيض في نعيمه على من شاء، ويرسل عذابه على من شاء، وينعِّم من شاء، ويصرِف البلاء عن من شاء، وهوسبحانه ولي النعمة والفصل، فترى أفعال الله جل وعلا في السماوات وترى عبودية الملائكة في السماوات؛ تراها متجهة إلى هذا الرب العظيم المستوي على عرشه كما قال عليه الصلاة والسلام "أَطّتِ السّمَاءُ وَحُقّ لَهَا أَنْ تَئِطّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاّ وَمَلَكٌ قائم أو مَلَكٌ راكع أو مَلَكٌ سَاجِد" وهذا لأجل تعظيمهم لأمر الله، فتنظر إلى نفوذ أمر الله في ملكوته الواسع الذي لا نعلم منه ما هو لنا من هذه الأرض وما هو قريب منها؛ بل نعلم بعض ذلك، والله جل وعلا هو المتصف.(2/7)
ثم تنظر إلى أن الله جل وعلا هذا الجليل العظيم المتصف بهذا الملك العظيم أنه يتوجه إليك أيها العبد الحقير الوضيع فيأمرك بعبادته وهي شرف لك لو شعرت، ويأمرك بتقواه فهو شرف لك لو شعرت، ويأمرك بطاعته وذاك شرف لك لو شعرت، فإنه إذا علمت حق الله وعلمت صفات الله، وما هو عليه من العلو المطلق في ذاته وصفاته جل وعلا، وفي نفوذ أمره في هذه السموات السبع التي هي في الكرسي كدراهم ألقيت ترس، ثم ما فوق ذلك، والجنة والنار وما في ذلك، وجدت أنك لا تتمالك إلا أن تخضع له جل وعلا خضوعا اختياريا، وأن تذل له، وأن تتوجه إلى طاعته، وأن تتقرب إليه بما يجب، وأنك إذا تلوت كلامه تلوت كلام من يخاطبك به ويأمر وينهى به، فيكون حينئذ التوقير غير التوقير ويكون التعظيم غير التعظيم.(2/8)
ولهذا كان من أسباب رسوخ الإيمان في القلب وتعظيم الرب جل وعلا أن يتأمل العبد ويتفكر في ملكوت السموات والأرض كما أمر الله جل وعلا بذلك حين قال ?قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?[يونس:101]، وقال جل وعلا ?أَوَلَمْ [يَنْظُرُوا](1) فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءِ?[الأعراف:185]، وقال أيضا جل وعلا في وصف الخُلَّص من عباده ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ?[آل عمران:190-191] إلى آخر دعواتهم وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يتفكرون، ومع ذلك سيسألون النجاة من النار، فهم في ذل وخضوع لما عرفوا من أثار توحيد الربوبية ولما عرفوا من أثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس.
¹
الخاتمة
أسأل الله جل وعلا في ختام هذا الكتاب أن يجزى عنا مؤلفه الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب خير الجزاء، أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء، وكل من ساهم في شرح هذا الكتاب بما أفهمنا من معانيه، فإنه والله لكتاب عظيم إشتمل على ما به نجاة العباد لو شعروا، وقرّب الإمام رحمه الله فيه من نصوص الكتاب والسنة وأفهمنا دلائلها بما جازوا منه النجاة بعفو الله جل وعلا وكرمه.
__________
(1) وقال في الآية قبلها: ?أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا?[الأعراف:184].(2/9)
هذا ووصية أخيرة نختم بها هذا المجلس المبارك وهذا الدرس المبارك الذي يعزّ عليّ أن أفارق فيه هذه الأوجه وطلبة العلم، أوصي بالعناية بهذا الكتاب عناية عظيمة من جهة حفظه ومن جهة(1) دراسته ومن جهة تأمل مسائله ومن جهة معرفة ما فيه؛ فإنه الحق الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم من صالح عباد الله.
هذا واعتنوا رحمكم الله بذلك أعظم العناية، فإن فيه خيركم لو تعقلون، ووالله إن الانصراف عنه لنذير سوء ،وإن الإقبال عليه لنذير بشرى ومؤذن بالخير والبشرى.
وهذا وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، وأن يغفر لنا زللنا وخطلنا، وأن يعفو عنا ما أخطأنا فيه، وأن يجعلنا من المعفو عنهم، ونسأل الله التسامح، وأن يجعلنا من المحققين لتوحيده وأنه لا حول لنا ولا قوة لنا إلا به.
اللهم فكن لنا يا كريم، اللهم فكن لنا يا كريم، اللهم فكن لنا يا كريم.
هذا وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
تم بحمد الله
فهرست كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد
الموضوعڑالصفحةٹڑ
ڑمنهجي في هذا التفريغ المبارك................................................................................ڑ01ٹڑ
ڑكلمات في طلب العلم..........................................................................................ڑ03ٹڑ
ڑمقدِّمة الشارح.....................................................................................ڑ08ٹڑ
ڑكتاب التوحيد وقول الله تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات:56]................................ڑ09ٹڑ
ڑباب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب........................................................................ڑ15ٹڑ
__________
(1) وبكى الشيخ -حفظه الله-، جمعنا الله وإياه في الفردوس الأعلى. آمين.(2/10)
ڑباب من حقَّق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب.................................................................ڑ19ٹڑ
ڑباب الخوف من الشرك........................................................................................ڑ25ٹڑ
ڑباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.........................................................................ڑ31ٹڑ
ڑباب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله....................................................................ڑ34ٹڑ
ڑباب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه...............................................ڑ41ٹڑ
ڑباب ما جاء في الرقى والتمائم.................................................................................ڑ48ٹڑ
ڑباب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما........................................................................ڑ56ٹڑ
ڑباب ما جاء في الذبح لغير الله.................................................................................ڑ64ٹڑ
ڑباب لا يُذبح لله في مكان يُذبح فيه لغير الله....................................................................ڑ72ٹڑ
ڑباب من الشرك النذر لغير الله تعالى..........................................................................ڑ74ٹڑ
ڑباب من الشرك الاستعاذة بغير الله.............................................................................ڑ78ٹڑ
ڑباب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو أن يدعو غيره........................................................ڑ81ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191]................................................ڑ87ٹڑ(2/11)
ڑباب قول الله تعالى:?حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[سبأ:23]....................ڑ91ٹڑ
ڑباب الشفاعة...................................................................................................ڑ92ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى: ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ?[القصص:56].....................................ڑ101ٹڑ
ڑباب ما جاء أن سبب كُفْرِ بني آدم وتركِهم دينهم هو الغلو في الصالحين........................................ڑ104ٹڑ
ڑباب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟!....................................ڑ108ٹڑ
ڑباب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.......................................ڑ116ٹڑ
ڑباب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك..........................ڑ118ٹڑ
ڑباب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان...................................................................ڑ119ٹڑ
ڑباب ما جاء في السحر.........................................................................................ڑ125ٹڑ
ڑباب بيان شيء من أنواع السحر...............................................................................ڑ130ٹڑ
ڑباب ما جاء في الكهان ونحوهم................................................................................ڑ135ٹڑ
ڑباب ما جاء في النشرة.........................................................................................ڑ139ٹڑ(2/12)
ڑباب ما جاء في التطير.........................................................................................ڑ142ٹڑ
ڑباب ما جاء في التنجيم.........................................................................................ڑ145ٹڑ
ڑباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.............................................................................ڑ148ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ?[البقرة:165]...............................ڑ150ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175]..............ڑ154ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى: ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23].......................................................ڑ156ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى: ?أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ?[الأعراف:99]، وقوله: ?وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ?[الحجر:56].......................ڑ159ٹڑ
ڑباب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله.....................................................................ڑ161ٹڑ
ڑباب ما جاء في الرياء.........................................................................................ڑ165ٹڑ
ڑباب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا......................................................................ڑ166ٹڑ
ڑباب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً......................ڑ169ٹڑ(2/13)
ڑباب قول تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ?[النساء:60-62]......................................ڑ174ٹڑ
ڑباب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات.......................................................................ڑ178ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الكَافِرُونَ?[النحل:83].........................................ڑ182ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22].........................................................ڑ185ٹڑ
ڑباب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله..........................................................................ڑ187ٹڑ
ڑباب قول: ما شاء الله وشئت...................................................................................ڑ189ٹڑ
ڑباب من سبّ الدهر فقد آذى الله................................................................................ڑ190ٹڑ
ڑباب التَّسمِّي بقاضي القضاة ونحوه.............................................................................ڑ192ٹڑ
ڑباب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك...........................................................ڑ193ٹڑ
ڑباب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول..........................................................ڑ194ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى: ?وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ?[فصلت:50]................................................ڑ197ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى: ?فَلَمَّا ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ ?[الأعراف:190].................................................ڑ200ٹڑ(2/14)
ڑباب قول الله تعالى: ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا?الآية[الأعراف:180].................................................ڑ203ٹڑ
ڑباب لا يقال: السلام على الله...................................................................................ڑ206ٹڑ
ڑباب قول: اللهم اغفر لي إن شئتَ..............................................................................ڑ208ٹڑ
ڑباب لا يقول: عبدي وأمتي.....................................................................................ڑ209ٹڑ
ڑباب لا يُردّ من سأل الله........................................................................................ڑ210ٹڑ
ڑبابٌ لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة................................................................................ڑ212ٹڑ
ڑباب ما جاء في الـ (لو).......................................................................................ڑ213ٹڑ
ڑباب النهي عن سب الريح......................................................................................ڑ216ٹڑ
ڑباب قول الله تعالى: ?يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ?الآية[آل عمران:154]، وقوله:?الظَّانِينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ?الآية[الفتح:6]...........ڑ217ٹڑ
ڑباب ما جاء في منكري القدر..................................................................................ڑ221ٹڑ
ڑباب ما جاء في المصَوِّرين....................................................................................ڑ224ٹڑ
ڑباب ما جاء في كثرة الحلف...................................................................................ڑ227ٹڑ(2/15)
ڑبابُ ما جاء في ذِمّة الله وذمّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -..........................................................................ڑ228ٹڑ
ڑباب ما جاء في الإقسام على الله................................................................................ڑ230ٹڑ
ڑباب لا يُستشفع بالله على خلقه..................................................................................ڑ231ٹڑ
ڑباب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسدِّه طرق الشرك...............................................ڑ232ٹڑ
ڑباب ما جاء في قول الله تعالى: ?وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ?[الزمر: 67]الآية................................................ڑ234ٹڑ
ڑالخاتمة..................................................................................................ڑ238ٹڑ
ڑفهرست كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد....................................................................ڑ239(2/16)