كشف الغمة
في
بيان المسائل التي اختلفت فيها فرق الأمة
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العبيدي العراقي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي َتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (2).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (3).
أما بعد :
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلام الله ، وخيرَ الهدي هدي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة ،وكلَّ ضلالةٍ في النار. هذه رسالة مباركة تبين أهم المسائل التي اختلفت فيها فرق الأمة ، والتي كانت في الأصل عبارة عن سؤال طرحته على طلاب دورة الأئمة والخطباء المقامة في مسجد الشاكرين للبحث في الفِرق التي خالفت منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض المسائل المهمة ، ومن ثم رأيت أن أتمم الفائدة بكتابة هذا الرسالة والتي أسميتها (( كشف الغمة في بيان المسائل التي اختلفت فيها الأمة )) والتي ذكرت من خلالها أهم تلك المسائل وهي :
__________
(1) 1 ) سورة آل عمران : 102.
(2) 2 ) سورة النساء : 1.
(3) 3 ) سورة الأحزاب : 71 .(1/1)
المسألة الأولى : اختلافهم في الأسماء والأحكام على الفاسق الملي .
المسألة الثانية : اختلافهم وتنازعهم في أسماء الله وصفاته .
المسألة الثالثة : اختلافهم وتنازعهم في القدر .
ومن المعلوم أن معرفة هذه الاختلافات والمنازعات والتي حدثت عند هذه الفرق يكون من باب معرفة الشر ، وهذا أمر على درجة عالية من الأهمية والفائدة ، وأهميته وفائدة تظهر من خلال النظر في أمرين هما :
الأمر الأول : أن معرفة الإنسان للشر على أهمية عظيمة لا تقل عن أهمية معرفة الخير ، وذلك أن معرفة الشر تكون من باب عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه وأخذ الحذر منه ، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني .
فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟
قال : (( نعم )) .
قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ .
قال : (( نعم ، وفيه دخن )) .
قلت : وما دخنه ؟
قال : (( قوم يهدون بغير هدي ، تعرف منهم وتنكر )) .
قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال : (( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها )). قلت : يا رسول الله، صفهم لنا ؟ .
فقال : ((هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا )) .
قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ .
قال : (( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )) .
قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ .
قال : (( فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ))(1).
أما الأمر الثاني : فإن معرفة الخير والحق لا تتم ولا تتحقق إلا بمعرفة الشر والباطل ، وكما قيل :
فالضدُّ يظهر حسنَه الضدُّ ..........................
........................
__________
(1) 4 ) رواه البخاري ( 1 / 615 فتح ) ومسلم ( 1847 ).(1/2)
وبضدها تتبين الأشياء(1).
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد في القول و العمل ، وأن يجعل كل أعمالنا لوجهه خالصة ، إنه نعم المولى و نعم النصير ، وصلِّ اللهم على رسولك وعبدك ، وعلى آله وصحبه و سلم .
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العبيدي
1429 هـ
المسألة الأولى
اختلافهم في الأسماء والأحكام على الفاسق الملي :
فما هي الأسماء والأحكام ؟
هذا المصطلح حادث لم يكن معروفاً عند الرعيل الأول من السلف الصالح , وإن كان موجوداً بمعناه وأحكامه .
فالأسماء : هو ما يسمى العبد به في الدنيا من الأسماء الدينية : مؤمن , كافر , فاسق , عاصٍ , منافق . . . . .
والأحكام : هو ما يُحكم عليه به في الآخرة : في الجنة أو مخلد في النار أو غير مخلد فيها .
وهذا المبحث هو ثمرة الخلاف في مسمى الإيمان وحقيقته , ومسمى الكفر وحقيقته ، فكل من كان له قول في الإيمان تجد له في نهاية قوله تقريراً في حكم العبد في الآخرة , واسمه في الدنيا .
لأجل هذا سيكون الكلام ابتداءً على الغلو في باب الإيمان بين الطوائف ويتضمن الأسماء والأحكام كنتيجة له .
__________
(1) 5 ) هذا البيت من الشعر قد أخذته من كتاب ( مسائل الجاهلية ) للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله . وقال شارحه الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( ص : 22 ) : ((وقوله هنا ( فالضد يظهر حسنَه الضدُّ ) هذا من كلام عجز بيت للمنبجي أحد الشعراء المعروفين يقول في وصف شخص :
فالوجه مثل الصبح مبيضُّ والشعر مثل الليل مسودُّ
صنفان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنَه الضدُّ
وأما قوله (وبضدها تتبين الأشياء) فهذا من الشعر السائر المعروف لأبي الطيب المتنبي ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء
في قصيدة يُثني بها ويمدح بها أبا علي هارون بن عبد العزيز الكاتب أحد المتنسكة الذين مالوا إلى التصوف، وفي بعض الطبعات جُعلت وكأنها بيت واحد فتنبه لذلك )) أ.هـ(1/3)
فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الإيمان يكون بثلاثة أمور :
1- قول باللسان .
2- اعتقاد بالقلب والجنان .
3- عمل بالجوارح والأركان .
مع زيادته بطاعة الرحمن , ونقصانه بالمعصية , وأصل هذا القول مستفاد من استقراء الكتاب والسنة وفهم الصحابة لهما , ودلالة لغة العرب لألفاظهما .
وعليه فالعبد عند أهل السنة بمقتضى النصوص اسمه في الدنيا مؤمن ما لم يكن صاحب كبيرة مُفسِّقة أو مُكفِّرة .
فإن كانت له مُفسقة فيسمونه مؤمناً ناقص الإيمان بحسب معصيته , أو مؤمنا فاسقاً , ويعامل معاملة المسلمين إلا في الشهادة ونحوها , وهو يوم القيامة من أهل الجنة تحت مشيئة الله إن شاء عذبه بكبيرته أو غفر له برحمته , وإن عذبه بها فإنه لا يخلد في نار جهنم لأنه مسلم معه أصل الإيمان .
وإن كانت بدعة مُكفرة فيقام عليه حكمُ الردة , ويسمونه كافراً لإجراء أحكام الكافر عليه , وهو يوم القيامة - أي الكافر - مخلد في النار , لكنهم لا يشهدون لمعين - ولو أقيم عليه حدُّ الردة - أنه من أهل النار المخلدين فيها ؛ لعدم اطلاعهم على ما ختم الله به عمله من توبة نصوح .
وكذلك الشهادة بالإيمان ؛ لا يشهدون لمعين بأنه من أهل الجنة , إلا من نصَّ عليهم الدليل كالعشرة المبشرين بالجنة وعكاشة بن محصن ونحوهم رضي الله عنهم أجمعين(1).
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( الاستقامة : 1 / 431 )) : (( أول مسألة فرَّقت الأمة مسألة الفاسق الملي ـ نسبة إلى ملة الإسلام ـ فأدرجته الخوارج في نصوص الوعيد ، والخلود في النار ، وحكموا بكفره ، ووافقتهم المعتزلة على دخوله في نصوص الوعيد وخلوده في النار ، لكن لم يحكموا بكفره ، فلو كان الشيء خيراً محضاً لم يوجب فُرقة ، ولو كان شراً محضاً لم يخف أمره ، لكن لاجتماع الأمرين فيه أوجب الفتنة )) أ . هـ.
__________
(1) 6 ) الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف 48 للشيخ علي بن عبد العزيز بن علي الشبل(1/4)
ولهذا اختلفت هذه الفرق والطوائف في الحكم على المسلم الذي يرتكب كبيرة من الكبائر نظراً لما أصَّلوه في مذاهبهم ومناهجهم من أصول خاصة بهم ، فكان إختلافهم إلى أقوال :
1 ) الخوارج : قالوا : هو كافر في الدنيا ، وفي الآخرة مخلد في النار آبد الآبدين لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها .
والخوارج : هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وخرجوا على الأمة الإسلامية . ولذلك سموا بالخوارج لخروجهم على إمام المسلمين والأمة الإسلامية .وهم من أوائل الفرق خروجًا ، ويقال لهم : الحرورية نسبة إلى حروراء موضع بالعراق قرب الكوفة ، وهم يوصفون بأنهم من أشد الناس تدينًا كما قال - عليه الصلاة والسلام - : (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة )) .
وهم يستحلون قتل المسلمين ويجعلون ديارهم ديار حرب ، وهم يكفرون أهل التحكيم كعلي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبي موسى الأشعري ، ومن شارك في القتال ورضي بالتحكيم ، وينكرون الأخذ بالسنة ، فلا يأخذون بها جملة وتفصيلاً ، ويكفرون مرتكب الكبيرة ، ويعتقدون أنه إن مات مصرًا عليها فهو خالد في النار أبدًا كخلود الكفار ، وينكرون الشفاعة في الآخرة ، ويقولون في كثير من الصفات كقول الجهمية ، فينكرون الرؤية ، ويقولون : إن القرآن مخلوق ، ويحرفون سائر الصفات ، وقد تفرقوا أحزابًا وتمزقوا شيعًا وصاروا طوائف كثيرة ، ومن أخبث فرقهم في هذا الزمان الإباضية ، فإنهم هم الخوارج ، والله أعلم(1).
__________
(1) 7 ) أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : (( 3 / 474 س : 365 )) للشيخ وليد بن راشد بن سعيدان .(1/5)
2) المعتزلة: قالوا : هو في الدنيا لا كافر ولا مؤمن ، بل هو في منزلة بين منزلتين ، وفي الآخرة مخلد في النار ، فالتقوا مع الخوارج في حكم الآخرة ، واختلفوا في حكم الدنيا .
والمعتزلة : هم أتباع واصل بن عطاء ، وهي فرقة ظهرت في أوائل القرن الثاني ، وسلكت منهجًا عقليًا متطرفًا في بحث العقائد الإسلامية وسموا بذلك : لأن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري لما خالفه في حكم مرتكب الكبيرة ، فاعتزله وجلس عند سارية يقرر هذا المذهب ، فاجتمع معه بعض الأتباع كعمرو بن عبيد وغيره ، فسمي واصل ومن جلس إليه بالمعتزلة ، لاعتزالهم حلقة أهل السنة وأهل الحديث . [ أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : ((3 / 471 )) للشيخ وليد بن راشد بن سعيدان ] .
3 ) المرجئة : قالوا : هو مؤمن كامل الإيمان ، على ضوء قاعدتهم المشهورة (( لا تضر مع الإيمان معصية )) .
ومن الفائدة بمكان أنَّ نعرف المرجئة تعريفاً جامعاً ، لأنها البدعة التي يمكن أن نقول فيها أنها تقابل الخوارج في الجهة الأخرى .
قال الدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي في (( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 1 / 33 )) : (( المرجئة : أسم فاعل من الإرجاء ، ويأتي الإرجاء في اللغة بمعنيين :
أحدهما : بمعنى التأخير كما في قوله تعالى { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [الأعراف : 111] ، أي : أمهِله وأخِره .
الثاني : إعطاء الرجاء ، حيث تقول : أرجيت فلاناً ، أي : أنك أعطيته الرجاء .
ويمكن أن تكون تسمية هذه الفرقة مأخوذة من المعنى الأول ، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن الإيمان وعقد القلب .
ويمكن أن تكون مأخوذة من المعنى الثاني لأنهم كانوا يقولون (( لا تضر مع الإيمان معصية )) وكانوا يعطون المؤمن العاصي الرجاء ، وكذلك يحكمون بأنَّ صاحب الكبيرة مؤمن لا يعذب ، لأنَّ العذاب للكفار .(1/6)
أما المرجئة في الاصطلاح ، فقد عرفهم الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله ـ تعريفاً جامعاً فقال : (( هم الذين يزعمون أنَّ الإيمان مجرد النطق باللسان ، وأنَّ الناس لا يتفاضلون في الإيمان ، وأنَّ إيمانهم ، وإيمان الملائكة والأنبياء( صلوات الله وسلامه عليهم ) واحد ، وأنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وأنَّ الإيمان ليس فيه استثناء ، وأنَّ من آمن بلسانه ، ولم يعمل فهو مؤمن حقاً )) أ . هـ
4 ) أما أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح فقد وفقهم الله تعالى للحق الذي أثبتته النصوص الشرعية فقالوا : هو مؤمن ناقص الإيمان ، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، وقد ذكر شيخ الإسلام أبن تيمية في (( المجموع : 7 / 241 )) قول أهل السنة والجماعة في الحكم على مرتكب الكبيرة مقترناً بأقوال أهل الأهواء والبدع فقال : (( والتحقيق أن يقال : إنه مؤمن ناقص الإيمان ، مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته ، ولا يعطي اسم الإيمان المطلق ، فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق ، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر اللّه به ورسوله ......
وأما الخوارج والمعتزلة ، فيخرجونهم من اسم الإيمان والإسلام ؛ فإن الإيمان والإسلام عندهم واحد ، فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام ، لكن الخوارج تقول : هم كفار .
والمعتزلة تقول : لا مسلمون ولا كفار ينزلونهم منزلة بين المنزلتين )) أ . هـ
الرد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة :(1/7)
إن الناظر في سيرة الخوارج في هذا الشأن يرى أن الخوارج ومثلهم المعتزلة قد أخذوا بنصوص الوعيد(1)
__________
(1) 8 ) لقد وقع الكثير من الناس في خلط شديد خصوصاً في مسألة الوعد والوعيد ، حتى أخذت طوائف نصوص الوعيد وتمسكوا بها دون النظر في ما يخالفها من نصوص أُخر كالخوارج والمعتزلة ، حتى أوجبوا على الله ما لم يوجب على نفسه ، حتى قالوا أن الله إذا أوعد قوماً بعقاب لا ينبغي له أن يخلف ذلك ، وعدَّوا ذلك من الإخلاف والنقص ، والأمر بالتأكيد ليس كذلك ، حتى أنه على خلاف ما كانت عليه العرب الذي نزل القرآن بلغتهم ، والتي كانت تعد الرجوع عن الوعد نقصاً ولؤماً ، وتعد الرجوع عن الوعيد فضلاً وكرماً ، وفي المقابل فإن طوائف أخذت بنصوص الوعد كالمرجئة ، حتى أعطوا العصاة والمجرمين الرجاء في دخول الجنة وعدم دخول النار ، ولقد فات هؤلاء بسبب الخلط والعجمة الكثير من معاني ولوازم الوعد والوعيد فوقعوا فيما وقعوا فيه .
قال الإمام أبو الحجاج المزي في (( تهذيب الكمال 22 / 130 )) : (( قال الأصمعي : جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال : يا أبا عمرو يخلف الله وعده ، قال : لا . قال : أفرأيت إن وعد الله على عمل عقاباً يخلف وعده ؟ فقال أبو عمرو بن العلاء :من العجمة أُتيت يا أبا عثمان ، إن الوعد غير الوعيد ، إن العرب لا تعد خلفاً ولا عاراً أن تعد شراً ثم لا تفعله ، ترى إن ذاك كرم وفضل ، إنما الخُلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله ، قال : فأوجْدني هذا في كلام العرب . قال : أما سمعت إلى قول الأول :
لا يرهب أبن العم ما عشتُ صولتي ... ولا أختبي من خشية المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(1/8)
وعضوا عليها بالنواجذ ، وأعرضوا جانباً عن نصوص الوعد التي جاءت في الكتاب والسنة الصحيحة ، أو تعسفوا في تأويلها حتى أفرغوها من مضمونها ، ولهذا وقعوا في الضلال والخسران ، على عكس المرجئة الذين أخذوا بنصوص الوعد دون النظر في نصوص الوعيد ، فوقعوا فيما وقع فيه الخوارج .
أما أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح فأخذوا بنصوص الوعد والوعيد وأعطوا كل ذي حق حقه .
قال الدكتور علي بن عبد العزيز بن علي الشبل في (( الجذور التاريخية لحقيقة الغلو والتطرف والإرهاب والعنف : ص 55 )) : (( والرد على الوعيدية من الخوارج والمعتزلة في استدلالهم بآية النساء (( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) [النساء : 93] من عدة وجوه :
1- أن الله ذكر الخلود في الآية ولم يذكره على التأبيد كقوله عن أهل الجنة: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [ البينة :8] .
وكقوله عن أهل النار في ثلاثة مواضع من القرآن في أواخر النساء والأحزاب والجن { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } فصرّح سبحانه فيها بالخلود مع التأبيد .
فعليه يكون المراد بالتخليد في هذه الآية المكث الطويل , خاصة أن معصية قتل النفس التي حرم الله من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله , كما دل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في السبع الموبقات وهو عند مسلم , فدل على عظم هذا الجرم وكبره لا على كفر فاعله !
2- إن الله تعالى في أحكام القصاص سمى القاتل أخا للمقتول , كما في قوله تعالى: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة : 178](1/9)
فلو كان القاتل كافراً لما جاز أن يسميه الله أخا للمؤمن ؛ لأن الأخوة مودة ولا تكون إلا للمؤمن { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } . . . . . [المجادلة : 22]
3- كما أنه يجوز العفو في القصاص إلى الدية وإلى لا شيء تكرماً وتفضلاً ، فلو كان القاتل كافراً مرتداً لم يجز إسقاط الحد عليه بالعفو للحديث : (( من بدَّل دينه فاقتلوه )) ولحديث (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني , والنفس بالنفس ,والتارك لدينه المفارق للجماعة )) .
4 - القاتل لو أقيم عليه الحد يُصَليَّ عليه , ويُغَسَّل , ويدفن مع المسلمين في مقابرهم وتجوز الصدقة عنه . . . . وعليه إجماع السلف .
ولو كان كافراً ترتبت عليه أحكام المرتدين ولم يجز له ما سلف من الأحكام المخصوصة بالمسلمين فقط .
5 - قال بعض العلماء كأبن جرير وغيره : إن الآية خاصة في الذين يستحلون القتل , فإن كان كذلك فهو كافر لا شك فيه , لكن ظاهر الآية يبعد عن هذا التأويل والتفسير !
6 - وعلى سبيل التَّنزل فهذه الآية خاصة بمن يقتل مؤمناً متعمداً فلا يدخل معها غيرها من المعاصي كالسرقة والرجم والقذف . . . . . . إلخ .
7 - عموم قوله تعالى : في آيتي النساء : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48]
ولا شك أن القتل دون الشرك بالله إجماعا ؛ فهو داخل تحت المشيئة في هذه الآية )) أ . هـ
المسألة الثانية
اختلافهم وتنازعهم في أسماء الله وصفاته(1/10)
وهكذا توسعت رقعة الخلاف بينهم حتى وصل بهم الأمر إلى التكلم في ذات الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته ، فترى الناس وقد انقسموا إما إلى معطل ينفي أن يكون الله متصف بأسم أو صفة ، وإما إلى ممثل يمثل صفات الله بخلقه تبارك الله عما يصفه به الجاهلون ، وإما إلى محرَّف حرَّف حقائق النصوص لتوافق هواه ، وهكذا هي شأن البدع تبدأ صغيرة ثم تكبر حتى يمتد شررها ويعظم وخطرها .
قال محمد بن إبراهيم الحمد : (( هناك فرق عديدة ضلت في هذا الباب منها :
1. الجهمية : وهم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي ، الذي أخذ مقالة التعطيل عن الجعد بن درهم ، وهو الذي أذاعها ونشرها ، فنسبت الفرقة إليه ، وقتل الجهم في خراسان سنة 128هـ ، وهم من أخبث الطوائف وأضلها وأبعدها عن الحق .
ومذهبهم في الصفات والأسماء إنكارها وتعطيلها ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة ، بل هم رؤوس المعطلة .
ومذهبهم في أفعال العباد الجبر ، أي أن العبد مجبور على فعله ، فيسلبون العبد مطلق القدرة والاختيار ، فهم في باب القدر جبرية .
ومذهبهم في الوعد الوعيد الإرجاء ، أي أنه لا يضر مع الإيمان فعل الكبائر ما خلا الشرك ، فهم في باب أسماء الأحكام والدين يقال لهم المرجئة .
ولذلك فإن كثيرًا من أهل السنة المتأخرين يخرجونهم من جملة طوائف الأمة ؛ لأنهم كفار الكفر الأكبر ، وقد ذكر بعض أهل السنة الإجماع على ذلك ، ويعني به إجماع المتأخرين ، والله أعلم(1).
2) المعتزلة : وهم أتباع واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، وهم يثبتون الأسماء ، وينكرون الصفات، معتقدين أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء .
ومذهبهم : مبني على خمسة أصول وهي التي يسميها أصحابها الأصول الخمسة :
__________
(1) 9 ) أنظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب : (( 3 / 473 س 395 )) للشيخ وليد بن راشد بن سعيدان .(1/11)
الأصل الأول : التوحيد : ويقصدون به نفي صفات الله تعالى ، بحجة أنهم لو أثبتوا الصفات لاستلزم ذلك تعدد القدماء ، فلابد من توحيد الله بالقدم ، ولا يمكن ذلك إلا بإنكار الصفات وتحريفها ، وبه تعلم موقف المعتزلة في باب الأسماء والصفات ، فإنهم ينكرون الصفات جميعها ، ويثبتون الأسماء بلا صفات ، فأسماء الله تعالى عندهم أعلام محضة لمجرد التعريف فقط ، فهم في باب الأسماء والصفات معطلة جهمية نفاة .
والأصل الثاني : عندهم العدل : ويقصدون به إخراج أفعال العباد أن تكون مخلوقة لله تعالى ؛ لأنهم يعتقدون أن العبد هو الذي يخلق فعله وأنه لا تعلق أبدًا لأفعال العباد بمشيئة الله تعالى ، فالعبد هو الذي يوجد فعله استقلالا ،وبه تعلم أن المعتزلة في باب خلق أفعال العباد قدرية مجوسية ثنوية.
والأصل الثالث عندهم الوعد والوعيد ، ويعنون به أنه يجب على الله تعالى إنفاذ وعده ووعيده ، فلا يجوز على الله تعالى أن يخلف شيئًا مما وعد به ولا مما أوعد به ، وأصلهم هذا مخالف لما قرره أهل السنة في باب الوعد والوعيد ، فإن أهل السنة قالوا في الوعد : إن العبد لا يستحق بنفسه شيئًا على الله تعالى ، واتفق أهل السنة - رحمهم الله تعالى - على أن الله تعالى لا يخلف وعده أبدًا ، لكن لا لأن العبد يستحق ذلك بنفسه ، وإنما لأن الله تعالى أوجب ذلك الوعد على نفسه لعبده تفضلاً منه وإحسانًا للعبد ، والله تعالى لا يخلف الميعاد ، فالله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبًا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما يقوله المعتزلة ، وبذلك تعرف الفرق بين المذهبين .
وخلاصته أن نقول : إن المعتزلة قالوا : إنفاذ الوعد واجب ، وقال أهل السنة : إنفاذ الوعد واجب ، لكن قال المعتزلة : واجب بحكم استحقاق العبد له ، وقال أهل السنة : واجب بحكم الوعد تفضلاً وإحسانًا ومنَّة .(1/12)
وأما الوعيد فالمذهب فيه عند أهل السنة : أن الله تعالى قد يخلفه إحسانًا منه وتفضلاً ورحمة وجودًا وكرمًا على من استحق شيئًا من وعيده ، فيجوز أن يعفو الله تعالى عن المذنب ويخرج أهل الكبائر من النار فلا يبقى فيها أحد من أهل التوحيد ، والله أعلم .
والمقصود : أن المعتزلة يقصدون بهذا الأصل تخليد أصحاب الكبائر في النار ، وهم في هذا الاعتقاد خوارج مارقة وعيدية .
والأصل الرابع عندهم : المنزلة بين المنزلتين : وهي من أوائل أصولهم ، وهي التي بسببها سموا معتزلة كما ذكرت آنفًا ، ويعنون به أن مرتكب الكبيرة خرج من مسمى الإيمان ، ولكنه لم يدخل في مسمى الكفر ، بل أصبح بفعل الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر ، فلا هو مؤمن ولا هو كافر ، بل هو بين المنزلتين ، وهذا كلام ساقط ؛ وذلك لأن تقابل الإيمان والكفر الأكبر تقابل نقيض ، فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، فلما سلبوا مطلق الإيمان عنه لزمهم وصفه بالكفر ، لكن لأنهم خناثر للخوارج هابوا من وصفه بالكفر الصريح ، فتستروا وراء هذه اللفظة ، والدليل على ذلك حكمهم عليه في الآخرة ، فإنهم يخلدونه في النار الخلود الأبدي ، وهل يخلد في النار أبدًا إلا الكفار الكفر الأكبر ؟
والأصل الخامس والأخير عندهم : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقصدون به استعمال السيف ، والخروج على الأئمة بسبب ضلالهم وطغيانهم ، فهم يجيزون الخروج على السلطان إذا فعل الكبيرة ووصف بالفسق ، وأما أهل السنة فقد تقدم لك كيفية تعاملهم مع الحكام في سؤال مستقل . فهذه هي أصولهم ، فهي وإن كانت بعض أسمائها براقة إلا أن معانيها خاطئة زائغة عن الحق ، لكنهم يعبرون عنها بهذه الأسماء لتقبلها النفوس وتروج عند الأتباع ، والله أعلم(1).
__________
(1) 10 ) المصدر السابق : 3 / 471 .(1/13)
3 ) الأشاعرة : هم أتباع أبي الحسن الأشعري ، وهذه الفرقة تنسب إليه ، وقد تاب وعاد إلى مذهب أهل السنة وألف في ذلك بعض الكتب ، ولكن لم يسلم من بعض الألفاظ الكلامية حتى ولو بعد توبته - فنسأل الله تعالى أن يعفو عنه ويغفر له - .
والأشاعرة في باب الأسماء والصفات معطلة ، فهم يثبتون الأسماء ، ولكن لا يثبتون من الصفات إلا الصفات السبع فقط ، وهي : الحياة ، والكلام ، والبصر ، والسمع ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة فقط ، مع اختلاف مع أهل السنة في طريق إثباتها ، ويسمونها بالصفات العقلية .
وهم في باب القدر مرجئة ، لأنهم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ، بل ويخرجون القول أيضًا ويزعمون أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي فقط ، وأما القول والعمل فهما فضلة زائدة لا تأثير لوجودهما ، ولا لعدمهما في زيادة الإيمان ونقصه ، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص ، وهم في باب القدر جبرية لاعتقاد أن العبد لا قدرة له ولا اختيار ، والله أعلم(1).
4 ) الماتريدية : وهم أتباع أبي منصور الماتريدي ، وهم يثبتون الأسماء وبعض الصفات، وإن كان هذا الإثبات مخالفاً لطريقة السلف .
5 ) الممثلة : وهم الذين أثبتوا الصفات ، وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين ، وقيل إن أول من قال بذلك هو هشام بن الحكم الرافضي ))(2)أ . هـ
المحاذير التي يجب على المسلم أن يحذرها في باب الأسماء والصفات ؟
قال محمد بن إبراهيم الحمد في (( توحيد الأسماء والصفات : 30 )) : (( يضاد توحيد الأسماء والصفات الإلحادُ فيها ، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ، والتمثيل ُ، والتكييف ، والتفويض ، والتحريف ، والتأويل .
1_الإلحاد : الإلحاد في اللغة هو: الميل ، ومنه اللحد في القبر .
__________
(1) 11 ) إتحاف أهل الألباب : 3 / 475 .
(2) 12 ) أنظر : توحيد الأسماء والصفات : 29 .(1/14)
يضاد توحيد الأسماء، والصفات الإلحادُ فيها، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ ، والتمثيلُ، والتكييف ، والتفويض ، والتحريف ، والتأويل.
ويُقصد بالملحدين: المائلين عن الحق.
أما في الاصطلاح: فهو العدول عما يجب اعتقاده أو عمله .
والإلحاد في أسماء الله هو : العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها.
أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته :
1 ) أن ينكر شيئاً مما دلت عليه من الصفات كفعل المعطلة .
2 ) أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه ، كفعل أهل التمثيل .
3 ) أن يُسمي الله بما لم يُسمِّ به نفسه ؛ لأن أسماء الله توقيفية ، كتسمية النصارى له أباً ، وتسمية الفلاسفة إياه علة فاعلة ، أو تسميته بمهندس الكون ، أو العقل المدبر ، أو غير ذلك .
4 ) أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام ، كاشتقاق اللات من الإله ، والعُزَّى من العزيز
5 ) وصفه تعالى بما لا يليق به ، وبما ينزه عنه ، كقول اليهود : بأن الله تَعِبَ من خلق السماوات والأرض ، واستراح يوم السبت ، أو قولهم : إن الله فقير .
2 _ التعطيل : التعطيل في اللغة : مأخوذ من العطل ، الذي هو الخلو والفراغ والترك ، ومنه قوله تعالى : [وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ] (الحج: 45) ، أي: أهملها أهلها ، وتركوا وردها .
وفي الاصطلاح : هو إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات ، أو إنكار بعضه ، وهو نوعان :
أ_ تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات ، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً .
ب_ تعطيل جزئي : كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف ذلك من هذه الأمة الجعد بن درهم .
3_ التمثيل : هو : إثبات مثيل للشيء ، وفي الاصطلاح : اعتقاد أن صفات الله مثل صفات المخلوقين ، كأن يقول الشخص: لله يد كيدي .
4_ التكييف : حكاية كيفية الصفة كقول القائل : يد الله أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا ، أو يده طويلة ، أو غير ذلك ، أو أن يسأل عن صفات الله بكيف .(1/15)
5_ التفويض : هو الحكم بأن معاني نصوص الصفات مجهولة غير معقولة لا يعلمها إلا الله .
أو هو إثبات الصفات وتفويض معناها وكيفيتها إلى الله عز وجل.
والحق أن الصفات معلومة معانيها ، أما كيفيتها فيفوض علمها إلى الله عز وجل .
6 _ التحريف : التحريف لغة : التغيير .
وفي الاصطلاح : تغيير النص لفظاً أو معنى .
والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى ، وقد لا يتغير، فهذه ثلاثة أقسام :
أ_تحريف لفظي يتغير معه المعنى ، كتحريف بعضهم قوله تعالى: [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء: 164) إلى نصب لفظ الجلالة ؛ ليكون التكليم من موسى عليه السلام .
ب_ تحريف لفظي لا يتغير معه المعنى ، كفتح الدال من قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (الفاتحة : 2)، وذلك بأن يقول : الحمدَ لله. . . وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل ؛ إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالباً .
جـ_ تحريف معنوي : وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل كتحريف معنى اليدين المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك.
7 _التأويل: التأويل في اللغة يدور حول عدة معانٍ منها : الرجوع والعاقبة والمصير والتفسير.
أما في الاصطلاح فيطلق على ثلاثة معان ٍ: اثنان منهما صحيحان مقبولان معلومان عند السلف، والثالث مبتدع باطل.
وإليك بيان هذه المعاني:
المعنى الأول : التفسير، وهو إيضاح المعنى ، وبيانه .
وهذا اصطلاح جمهور المفسرين كابن جرير وغيره ، فتراهم يقولون: تأويل هذه الآية كذا وكذا ، أي تفسيرها .
الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء ، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ](الأعراف: 53)، وقوله : [ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (الإسراء: 35)، وقوله عن يوسف عليه السلام : ( هذا تأويل رؤياي من قبل ) .(1/16)
الثالث : صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر ، وهذا ما اصطلح عليه المتأخرون من أهل الكلام وغيرهم ، كتأويلهم الاستواء بالاستيلاء ، واليد بالنعمة ، وهذا هو الذي ذمه السلف ))(1).
__________
(1) 13 ) أقول : أعلم رحمك الله : أن ما جاء في الفقرتين السادسة والسابعة بحاجة إلى نوع من التفصيل والبيان ، ودونك هو : قال الإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين في (( شرح العقيدة الواسطية : 1 / 61 )) : (( فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي ، والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع ، وإذا وقع فإنما يقع من جاهل ، فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل فمثلاً: فلا تجد أحداً يقول: "الحمد لله رب العالمين" بفتح الدال ، إلا إذا كان جاهلاً.. .هذا الغالب ، لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس . فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف ، يعني : تغيير اللفظ أو المعنى ، وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً ، ويسمون أنفسهم بأهل التأويل ، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول ، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه ، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف ، لأنه ليس عليه دليل صحيح ، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا : تحريفاً ! ولو قالوا : هذا تحريف ، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم ، ولهذا عبر المؤلف ( أي أبن تيمية ) رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن ، فإن الله تعالى قال: { يحرفون الكلم عن مواضعه } [النساء : 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره ، لأنه أدل على المعنى .
الوجه الثاني: أنه أدل على الحال ، وأقرب إلى العدل ، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً ، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً.
الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل يجب البعد عنه والتنفير منه ، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل ، لأن التحريف لا يقبله أحد ، لكن التأويل لين ، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف ، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه ، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.
الوجه الرابع : أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ) ، وقال الله تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
والتأويل ليس بمعنى العاقبة والمآل، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
أ ) يكون بمعنى التفسير ، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى والسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام ، أي : جعلناه يؤول إلى معناه وسمي التفسير تأويلاً لأننا أولنا الكلام ، أي : جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
(ب) تأويل بمعنى : عاقبة الشيء ، وهذا إن ورد في طلب ، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً ، وإن ورد في خبر ، فتأويله وقوعه......
(جـ) المعنى الثالث للتأويل : صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم ، فإن دل عليه دليل ، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير ، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب التحريف ، وليس من باب التأويل.
وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل ،مثاله قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى { استوى } : استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل ، بل الدليل على خلافه )) [ بتصرف ، وأنظر ( المجموع : 3 / 165 ) ] .(1/17)
المسألة الثالثة
اختلافهم وتنازعهم في القدر
الإيمان بالقدر هو : إن الله تعالى قدَّر الأشياء في القدم وعَلِم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وفي أمكنة معلومة وهي تقع على حسب ما قدره وقضاه .
ولقد ضل في باب القدر من حيث الإثبات والنفي هي فِرق هي :
1 ) القدرية : وهم أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي ، وأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد من المعتزلة ومن وافقهم هؤلاء هم القدرية .
وقولهم بالقدر : إنَّ العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة ، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته في ذلك أثر ، ويقولون : إنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله ، وإنما العباد هم الخالقون لها ، ويقولون : إنَّ الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله وغلاتهم ينكرون أنَّ يكون الله قد علمها ، فيجحدون مشيئته الشاملة ، وقدرته النافذة ، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة ، لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا : إنَّ للكون إلهين : إله النور ، وهو خالق الخير ، وإله الظلمة وهو خالق الشر(1).
إذن القدرية هم الذين أنكروا علم الله السابق بالأفعال قبل وقوعها ، وأنه لم يقدرها وقالوا (( لا قدر وأنَّ الأمر أنف )) أي : مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه .
ومن هذا نعلم أنَّ بدعة القدر مركبة من أمرين :
الأول : إنكار علم الله تعالى السابق للحوادث .
الثاني : إنَّ العبد هو الذي أوجد فعله وأنَّ الله لم يقدره .
وهذا باطل من القول بل أثبت الله تعالى أنَّ للعبد مشيئة وقدرة على الفعل وأنَّ هذا الفعل مخلوق لله وأنه لا يقع إلا بأذنه ، قال تعالى { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [الإنسان : 30] .
وقال تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات : 96] .
__________
(1) 8 ) الإيمان بالقضاء والقدر : 173 ، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .(1/18)
وأول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة أسمه سوسن فأخذ عنه معبد الجهني .
قال اللالكائي : قال الأوزاعي : أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد(1).
ولهذا سموا بمجوس هذه الأمة بسبب إنكارهم لعلم الله تعالى ونسبة خلق الفعل للعبد . فعن (( عكرمة عن أبن عباس رضي الله عنهما قال صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ))(2).
أما تكفيرهم :
قال أبو بكر الخلال : عن عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافراً ، فقال أبي : إذا جحد العلم إذا قال الله جل وعز لم يكن عالماً حتى خلق علماً فعلم فجحد علم الله عز وجل كافر ، قال وسمعت أبي يقول إذا قال الرجل العلم مخلوق فهو كافر لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه ، إسناده صحيح(3).
وغاية ما أرادت القدرية الوصول إليه هو تنزيه الله تعالى عن فعل الشر فوقعت في نفي القدر ، ومن طريف ما يروى عنهم (( إنَّ إعرابياً سُرقت ناقته ، فجاء لحلقة عمرو بن عبيد _ وهو من رؤوس المعتزلة وممن يقول بمذهب القدرية _
فقال الأعرابي لعمرو : إنَّ ناقتي سُرقت فأدع الله أن يردها عليَّ .
فقال عمرو : اللهم إنَّ ناقة هذا المسكين سرقت ، ولم ترد سرقتها ، اللهم أرددها عليه فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك .
فقال عمرو : ولِمَ ؟
فقال الأعرابي : أخاف ، كما أراد أن لا تُسرق فسُرقت ، أن يريد ردها فلا ترد(4).
__________
(1) 10 ) أنظر (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : رقم : 750 )) .
(2) 11 ) المصدر السابق برقم 666 .
(3) 12 ) السنة لأبي بكر الخلال : رقم 862 .
(4) 13 ) الإيمان بالقضاء والقدر : 183 للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد .(1/19)
2 ) الجبرية : وهم الذين غلوا في إثبات القدر _ على خلاف القدرية الذين غلوا في نفيه _ حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل _ حقيقة _ بل هو في زعمهم لا حرية له ولا فعل كالريشة في مهب الريح ........
وهؤلاء في الحقيقة يزعمون أنَّ الله هو الفاعل الحقيقي لأفعالهم بخلاف ما عليه أهل السنة ، الذين يقولون : أن الله هو الخالق والعبد هو الفاعل ولذا ترتب على فعله الثواب والعقاب(1)أ . هـ
قال العلامة أبن عثيمين في (( شرحه : 114 )) : (( لقد ضل في القدر طائفتان :
إحداهما : الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه آثر.
والرد على الطائفة الأولى ( الجبرية ) بالشرع والواقع :
أما الشرع : فإن الله تعال أثبت للعبد إرادة ومشيئة ، وأضاف العمل إليه قال الله تعالى: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } { آل عمران : 152} وقال : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } { الكهف : 29}. وقال : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ومار بك بظلام للعبيد } { فصلت : 46}.
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الإختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل ، والشرب ، والبيع والشراء ، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالإرتعاش من الحمى، والسقوط من السطح ، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر ، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه.
والرد على الطائفة الثانية ( القدرية ) بالشرع والواقع :
__________
(1) 14 ) المصدر السابق : 175 .(1/20)
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء ، وكل شيء كائن بمشيئة ، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى : { ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما أقتلتوا ولكن الله يفعل ما يريد } { البقرة : 253} .
وقال تعالى : { ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } { السجدة: 13}.
وأما العقل : فإن الكون كله مملوك لله تعالى ، والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته )).
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد في القول و العمل ، وأن يجعل كل أعمالنا لوجهه خالصة ، إنه نعم المولى و نعم النصير ، وصلِّ اللهم على رسولك وعبدك ، وعلى آله وصحبه و سلم .
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العبيدي
1429 هـ
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة ....................................... 1
المسألة الأولى
اختلافهم في الأسماء والأحكام على الفاسق الملي ...... 5
المسألة الثانية
اختلافهم وتنازعهم في أسماء الله وصفاته .............. 14
المسألة الثالثة
اختلافهم وتنازعهم في القدر ........................ 24
الفهرس ............................................ 30(1/21)