علم الإيمان
تعريف العلم : هو ما تنكشف به الأمور على حقائقها(1) .
تعريف الإيمان
الإيمان لغة : مصدر آمن يؤمن إيمانا، قال ابن فارس(2):" أمن": الهمز والميم والنون أصلان متقاربان، أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب(3)، والآخر التصديق(4)، والمعنيان متدانيان فأما التصديق فكقول الله تعالى حكاية عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ?. (يوسف:17)(5).
أما في الشرع
1- فقد جاء الإيمان بمعنى التصديق - وهو المعنى اللغوي - كقوله تعالى?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? (يوسف:17)
وعبر القرآن عن الإيمان بلفظ اليقين القائم على الدليل، كما قال تعالى ?وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ? (البقرة:4)، وكما قال تعالى: ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ? (الأنعام:75).
والتصديق واليقين عملان من أعمال القلب .
ومن العلماء من يعرف الإيمان بأنه قول وعمل ويسمى هذا قول القلب(6).
وهذا المعنى الذي يكون في القلب يضاده الكفر ، وهو الجحود والتكذيب. وذهب بعض العلماء إلى أن هذا المعنى الذي يكون في القلب هو المعنى الوحيد للإيمان(7).
2- ويأتي الإيمان في الشرع أيضاً بالإعلان عنه بالقول .
قال تعالى : ?قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا… ? (البقرة:136).
وقال تعالى ?قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ? (الكافرون:1-2)
وقال تعالى : ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ( (الإخلاص :1-2) .(1/1)
وقال تعالى: ?وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا? (النساء:94) أي لمن قال كلمة الإسلام(8) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ....)(9).
وهذا يدل على أن الإيمان يكون بالقول . ومعلوم أنه لا يشهد بالإسلام لكافر إلا إذا نطق بالشهادتين، إلا أن يكون أخرساً فيقبل منه ما يدل على إيمانه .
3- ويأتي الإيمان في الكتاب والسنة بمعنى العمل ، قال تعالى: ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ? (البقرة:143) أي صلاتكم التي كانت القبلة فيها إلى بيت المقدس، كما جاء ذلك في أسباب نزول الآية .
وقال تعالى : ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ? (الحجرات:15) أي في إيمانهم، وقد اشتمل وصف الإيمان على عمل الجهاد.(1/2)
وقال عليه الصلاة والسلام : (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ) وإماطة الأذى عن الطريق عمل من الأعمال . وفي تتمة الحديث : (وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)(10) وقال عليه الصلاة والسلام: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)(11) والأخلاق من الأعمال، وقال عليه الصلاة والسلام لوفد عبدالقيس: (... آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَتُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ)(12) وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتأدية الخمس كلها أعمال دخلت في مسمى الإيمان. ومما سبق يتبين لنا أن الإيمان : اعتقاد بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان كما قال أكثر العلماء(13) .
تعريف علم الإيمان
هو علم يبحث في إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية العقلية والنقلية التي تزيل كل شك، وهو العلم الذي يكشف باطل الكافرين وشبهاتهم وأكاذيبهم ، وبه تستقر النفوس، وتطمئن القلوب. كما يبحث هذا العلم في الأقوال والأفعال التي يتحقق بها الإيمان ويزداد، وتلك التي تنقصه أو تنقضه وتحديد ضوابط ذلك .
مجالات علم الإيمان
علم الإيمان يبحث في عدة مجالات :
1 - في مجال الإيمان بالله وأدلته ، ومعرفة أسماء الله وصفاته وأدلتها .
2 - في مجال الإيمان برسل الله ، ومعرفة ما يجب لهم من حقوق ، وما يتصفون به من صفات، كالصدق والأمانة، وما لا يجوز في حقهم كالكذب والخيانة، وكذلك معرفة معجزاتهم ، وبينات رسالتهم ، وخاصة معجزات وبينات وأدلة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .(1/3)
3 - في مجال الإيمان بالكتب الإلهية التي أنزلها الله هداية لعباده عبر التاريخ البشري الطويل ، وبيان ما طرأ على الكتب السابقة من تحريف وتبديل ، وبيان حفظ الله للقرآن من كل تحريف وتبديل ، وهيمنته على ما سبق من الكتب .
4 - في مجال الإيمان بالملائكة وصفاتهم ، وما يقومون به من أعمال ، وصلتهم بنا في الدنيا والآخرة ، قال تعالى ?ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ? (البقرة:285).
5 - في مجال الإيمان باليوم الآخر وأدلته ، وما أعد الله فيه من ثواب للمؤمنين وعقاب للكافرين.
6 - في مجال الإيمان بالقدر : خيره وشره الذي يسير عليه كل ما في الكون، وما يتضمنه من مشيئةٍ وكتابةٍ وخلقٍ .
ولقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال : (... أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ...)(14).
7- البحث في العبودية لله ، وإخلاصها له ، وبيان ما ينافيها ، وبيان أنها الغاية من خلق الإنسان في الحياة الدنيا قال تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ? (الذاريات:56) .
8- البحث في الأقوال التي يتحقق بها الإيمان ويزداد ، والأقوال التي تعارض الإيمان أو تناقضه .
9- البحث في الأعمال التي يتحقق بها الإيمان ويزداد ، والأعمال التي تعارضه أو تناقضه وتخرج صاحبها من دائرته ، والضوابط المتعلقة بذلك .
10- الرد على شبهات الكافرين والمبطلين .
11- الرد على الفرق المنحرفة ، وصيانة الإيمان من تحريفاتها وتأويلاتها الباطلة.(1/4)
مكانة علم الإيمان بين سائر العلوم :
إن شرف كل علم بقدر شرف موضوعه، ومجال بحثه، فإذا كان الطب أشرف من النجارة ، فإنما ذلك لأن ميدان بحث النجارة هو الأخشاب ، وميدان بحث الطب هو الأجسام البشرية. أما شرف علم الإيمان فيستمد من شرف مجالات بحثه، وهل هناك ما هو أعظم من الله خالق الكون؟ وهل هناك من هو أكرم من رسل الله من بني البشر؟ وهل هناك ما هو أهم من معرفة الإنسان بدينه ، والحكمة من وجوده في الدنيا ؟ والمصيرُ الذي ينتظره بعد موته؟ لذلك فعلم الإيمان هو أصل العلوم الإسلامية ، وأفضل العلوم، وأهمها على الإطلاق .
حكم تعلمه
إن تعلم علم الإيمان فرض عين على كل مسلم ومسلمة ، حتى يتوافر اليقين القلبي والاقتناع العقلي لديهما أنهما على الدين الحق .والقدر من العلم الذي يصل بالإنسان إلى هذه الدرجة من اليقين هو فرض العين عليه، بحيث إذا وجد نقص فيه عنده فهو مقصر في أداء ذلك الفرض . فلو أن شخصاً جاءته شبهة تشككه في إيمانه فقد أصبح من فروض العين عليه أن يتخلص من تلك الشبهة، وأن يبحث عن جوابها والرد عليها ، وأما ما زاد على ذلك فهو فرض كفاية، كأن يعرف الرد على جميع شبهات الملاحدة، أو يعرف جميع الردود على الفلاسفة أو الفرق المنحرفة ، أو يعرف جميع الردود على أهل الأديان المحرفة ، أو يعرف الأدلة الواسعة في خلق السماوات والأرض بالتفصيل، فهذا فرض كفاية يجب أن يوجد في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يعرف ذلك، بحيث لو جاءنا يهودي مثلاً فألقى شبهة فلابد أن يوجد منا من يرد على تلك الشبهة ، ولو جاءنا متفلسف أو منحرف وألقى شبهةً فلابد أن يوجد من يرد على تلك الشبهة، وهكذا .. ويتعين على من وقعت في نفسه شبهة من شبه هؤلاء أن يتعلم العلم الذي يردها به .
قال تعالى: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ? (الحجرات:15).(1/5)
وقال تعالى : ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ? (محمد:19) وقال تعالى: ?أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى? (الرعد:19) فالعلم الذي يصل بك إلى هذه الدرجة من اليقين متعين عليك
القرآن كتاب الإيمان الأكبر :
إن الموضوع الأساسي في القرآن هو موضوع علم الإيمان ، فإنك لا تجد صفحة في كتاب الله تخلو من الدعوة إلى الإيمان بالله ، أو برسله ، أو باليوم الآخر، أو بالملائكة، أو بالكتب الإلهية السابقة، أو بالقدر الذي سنه الله لسير هذا الكون ، أو الرد على شبهات الكافرين ، أو بيان الأقوال والأفعال التي تثبت الإيمان أو تنقضه ، أو بيان ما يتعلق بعبادة الله وحده. والقرآن المكي الذي نزل بمكة قبل الهجرة لمدة ثلاثة عشر عاماً يكاد يكون كله حول الإيمان وما يتصل به.
اهتمام المسلمين بعلم الإيمان
إن عناية المسلمين بهذا العلم مستمدة من عناية القرآن به، فقد كان همهم الأكبر هو الدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة أي بما يقدمه علم الإيمان من أدلة وبراهين لتثبيت اليقين(15) ودعوة الناس للإيمان ، وإخلاص العبادة لله ، والرد على كل ما يعارض الإيمان. واستمرت عناية المسلمين به مدةً طويلة، ثم طرأ على علوم الإيمان الكلام والفلسفة والتقليد ثم الإهمال ثم غزي المسلمون بشبهات وشكوك العلمانية المادية والإلحاد.
إهمال المسلمين لهذا العلم
لما أهمل المسلمون بناء الإيمان الصحيح الذي يقوم على العلم والدليل والبرهان الذي يثمر اليقين بدأ الخلل يتسرب إلى إيمان كثير منهم، و إلى أعمالهم وانعكس ذلك ضعفاً في عبادتهم وأخلاقهم وسلوكهم ، وأخذ الفساد في الاتساع حتى سهل على أعدائهم الهيمنة عليهم ، واحتلال بلادهم واستذلالهم في أرضهم وديارهم.
أهمية الإيمان لقبول العمل(1/6)
إن الذين لا يؤمنون بالله ، ولا يرجون ثوابه ، ولا يخافون عقابه يعملون أعمالهم وهم لا يريدون بها وجه الله ، فهم بهذا لا يستحقون الثواب عليها ؛ لأنهم لم يقصدوا بها وجه الله ، بل الكافر معاقب على كفره وضلاله ؛ لأنه أعرض عن الاستجابة لدين الله أو كذب به، فهو إذا سمع آيات الله تتلى عليه اتخذها هزواً؛ لذلك فهو معاقب على كفره، وعمله مردود، قال تعالى: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا? (الفرقان:23) " أي لا وزن له ولا قيمة ، وقال تعالى: ?مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ? (إبراهيم:18) فترى أعمال الخير كالصدقة والأعمال الانسانية محسوبة في ميزان المؤمن يوم القيامة، لكنها عند الكافرين كلها ضائعة، لا تحسب لهم، ولا تكون في ميزانهم، فكل أعمالهم تذهب هباءً منثوراً؛ لأنها لم تبن على الإيمان، ولم يقصد بها وجه الله .
قال تعالى : ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ? (النور:39) .
شبهه(1/7)
يقول بعض المفتونين بمظاهر الدنيا كيف لا يثيب الله من اخترع الكهرباء ، ومن اخترع الطائرة ، ومن اخترع العلاج ، والذي يداوي المرضى ، ويذهب عنهم آلامهم ، والذي يصلح الطرق ، والذي يبني ويشيد العمارات ، فهل أصحاب هذه الأعمال العظيمة لا يأجرهم الله عليها ؟! وذلك الشخص العاكف في المسجد الذي لم يفد البشرية بشيء يؤجر ويدخل الجنة ، وذاك يدخل النار ، هل هذا من العدل ؟! هذه شبهة كم فتن بها من الناس ! وكأنهم يريدون أن يقولوا : ما دُمتَ قد فعلت خيراً وأحسنت إلى الناس وعملت الصالحات، فإن الله سبحانه وتعالى سيقبل منك ذلك ، وسيأجرك عليه !! هكذا يتصورون الثواب والعقاب بموازين وضعوها من عند أنفسهم ، ويريدون فرضها على الله ؛ ولكي يتضح الجواب نضرب المثال الآتي:
مثال ورد
دخل رجل إلى بستان كبير لا يملكه فوجد فيه الفواكه ، وأنواع المأكولات ، فأكل وشرب، ثم أخذ يقوم بأعمال داخل البستان ، هذه الشجرة يقلعها ، وتلك يغرسها ، وهذا الجدار يهدمه ، وهذه الحفرة يردمها ، وهذه المسالك يغيرها ، ودخل البستان رجل آخر فقال لنفسه : "لن أفعل شيئاً في هذا البستان حتى أتصل بصاحب البستان، أو من يمثله وينوب عنه" ، وأخذ يبحث عنه فإذا بمندوب صاحب البستان يصل إليهما ، فاستنكر المندوب أعمال الشخص الأول ، ولكن ذلك الشخص لم يهتم بإنكاره ، وأخذ يتصرف بالبستان بدون إذن من مالكه . أما الشخص الثاني فقد سمع التوجيهات من مندوب صاحب البستان ، وأخذ يعمل طبقاً لها، فأيهما يستحق المكافأة ؟!(1/8)
وهل يستحق ذلك الذي اقتحم البستان ، وسخر من توجيهات صاحب البستان التي حملها مندوبه مكافأةً ولو عمل عملاً صالحاً في البستان؟ لا شك أن كل عاقل يقول : إن الجزاء للذي اتبع إرشادات صاحب البستان، وإن الذي اقتحم البستان ، وأخذ يعمل فيه كما يشاء بدون رضا صاحبه ومالكه رغم وصول من ينذره ، لا شك أنه لا يستحق الجزاء الحسن ولو أحسن في بعض أعماله ، بل يستحق التأديب.
وكذلك هذه الأرض وما فيها ملك لله ، ورسل الله هم المندوبون ، والمؤمن هو الذي عمل طبقاً لهدى ربه، والكافر هو الذي يتصرف في ملك ربه بدون إذن أو هداية ، وهو في نفس الوقت قد أعرض عن رسل ربه ، فكيف يستحق الثواب من الله من لم يقصد بعمله الثواب منه ، وتكبر على رسله ، واستخف بهدى خالقه ، وأعرض عنه، وارتكب المعاصي والذنوب التي نهى الله عن ارتكابها ؟ وسنة الله في هؤلاء الكافرين أن توفى إليهم أعمالهم في الحياة الدنيا .
قال تعالى?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? (هود:15-16).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا)(16).(1/9)
قال القرطبي(17) عند تفسيره لقوله تعالى: ?قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ? (التوبة:53) . قال : وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنةً إنما هو بحسب ظن الكافر ، وإلا فلا يصح منه قربة ؛ لعدم شرطها المصحح لها وهو الإيمان(18) .
--------------------------------------------------------------------------------
(1) قال في اللسان : العلم : نقيض الجهل (مادة علم) قال أبو البقاء : العلم : معرفة الشئ على ما هو به ، وهو أيضاً حصول صورة الشئ في العقل، والمعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك، ويطلق على ثلاثة معان بالاشتراك:
أولها : نفس الإدراك ، الثاني: الملكة المسماة بالعقل حقيقة ، الثالث : نفس المعلومات . أنظر الكليات صـ610-616 باختصار ، وأنظر عدداً من التعاريف للعلم في إرشاد الفحول للعلامة الشوكاني 1/18-20.
(2) أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا الرازي لغوي حاذق مؤلف ، له معجم مقاييس اللغة توفي عام 395هـ .
(3) وفي لسان العرب : قالوا للخليل : ما الإيمان ؟ قال : الطمأنينة ، وقال الزجاج : الإيمان إظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه بالقلب ، قال الراغب في المفردات : الإيمان هو التصديق الذي معه أمن.
(4) وقد نقل في لسان العرب الاتفاق بين أهل اللغة وغيرهم على أن الإيمان في اللغة التصديق ، وانظر الخلاف فيما يدل عليه لفظ الإيمان في اللغة في شرح العقيدة الطحاوية ص379-382 .
(5) معجم مقاييس اللغة (مادة أمن) بتصرف .
(6) شرح العقيدة الطحاوية ص341 تخريج الألباني ، وانظر تجريد التوحيد للمقريزي ص117 .
(7) ممن ذهب إلى ذلك أبو منصور الماتريدي عزاه إليه ابن أبي العز شارح الطحاوية انظر "تقريب وترتيب شرح العقيدة الطحاوية" لخالد فوزي عبدالحميد حمزة 1/159 .(1/10)
(8) قال القرطبي رحمه الله : أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوته لست مؤمناً وقيل : السلام قوله: السلام عليكم وهو راجع إلى الأول لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده. أنظر الجامع لأحكام القرآن 5/336 نشر مؤسسة مناهل العرفان .
(9) أخرجه البخاري ك/الزكاة ب/ وجوب الزكاة ومسلم ك/ الإيمان ب/ الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله محمد رسول الله ، وأبو داود ك/ الزكاة ، والترمذي ك/ الإيمان ب/ ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، والنسائي ك/ الزكاة ب/ مانع الزكاة.
(10) رواه البخاري ك/ الإيمان ب/ أمور الإيمان ومسلم ك/ الإيمان ب/ بيان عدد شعب الإيمان ، وعند البخاري بضع وستون بدون شك وعند مسلم بالشك، وبلفظ بضع وسبعون بدون شك. وأخرجه الترمذي في الإيمان ب/ ما جاء في استكمال الإيمان ، وأخرجه النسائي في الإيمان وشرائعه ب/ ذكر شعب الإيمان ، وأخرجه أبو داود في السنة في رد الإرجاء، وأخرجه ابن ماجة في السنة ب/ في الإيمان ، وأخرجه أحمد في مسنده 4/148 وابن حبان في صحيحه 1/384 .
(11) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين، والترمذي ك/الإيمان عن رسول الله ب/ ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه ، وأبو داود ك/ السنة ب/ الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وابن حبان في صحيحه 2/227، والحاكم في المستدرك ك/ الإيمان1/ 43 قال : وهو صحيح على شرط مسلم، وحسنه المقدسي في الأحاديث المختارة 6/331.
(12) رواه البخاري ك/ التوحيد ب/ والله خلقكم وما تعملون ، ومسلم ك/ الإيمان ب/ الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله ، وأخرجه الترمذي ك/ الإيمان ب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان ، وأخرجه النسائي في ك/الإيمان وشرائعه ب/ أداء الخمس، وأخرجه أبو داود في الأشربة ب/ في الأوعية .(1/11)
(13) منهم الأئمة : مالك ، الشافعي ، أحمد ، الأوزاعي ، اسحق بن راهوية وسائر أهل الحديث ، وأهل المدينة ، وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين انظر : تقريب وترتيب شرح الطحاوية 1/157 ، ولمعرفة قول السلف في الإيمان انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/911- 933 ، 5/955-959 .
(14) أخرجه البخاري ك/ الإيمان ب/ سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم ك/ الإيمان ب/ الإيمان ما هو وبيان خصاله ، وأخرجه النسائي في الإيمان وشرائعه ب/ صفة الإيمان والإسلام ، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة ب/في الإيمان ، وأخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين .
(15) اصطلح بعض العلماء على تسمية الإيمان بالعقيدة .
(16) رواه مسلم ك/ صفة القيامة والجنة والنار ، ب/ جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا ، ورواه ابن حبان في صحيحه 2/101 بلفظ : إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً يثاب عليها الزرق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة فأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ، فإذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً ، ورواه أبو يعلى في مسنده 5/231 .
(17) احمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي أبو عبدالله من كبار المفسرين وله مؤلفات توفي بمصر عام 671هـ.
(18) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن .(1/12)