عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية
وأثرها في العالم الإسلامي
عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية
وأثرها في العالم الإسلامي
تأليف
د. صالح بن عبدالله بن عبد الرحمن العبود
الجزء الثاني
?? بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الرابع
التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها
لما كانت الفصول المتقدمة هي في عقيدة الشيخ التي هي عقيدة السلف الصالح؛ ناسب أن نتبعها بفصل يتضمن التحذير من ما يناقض عقيدتهم، أو يناقض كمالها وينقصه؛ ببيان ذلك المناقض.
وهذا أمر عظيم يستحق الاهتمام، ولذا كان جانبا بناء من عقيدة الشيخ رحمه الله تعالى، كيف لا وهو بيان ما ينقض البنيان من أساسه للحذر منه والتحرز عنه؟! قال الله تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } (1).
وما من شك أن بيان النواقض للإيمان أو لكماله للحذر منها من الأمور البناءة؛ لأنها حماية للبناء أن ينهدم.
قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - " كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني "(2)(3).
ولذا؛ فالشيخ يحذر من نواقض الإيمان ومبطلاته، ويبينها ويبعدها عن المسلمين، ويبعد المسلمين عنها بكل ما استطاع.
__________
(1) سورة النحل آية : 92.
(2) صحيح البخاري : كتاب المناقب (3606) وكتاب الفتن (7084) , وصحيح مسلم : كتاب الإمارة (1847).
(3) صحيح البخاري (ج 8، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، ص 92-93).(1/1)
ولقد اهتم بذلك أيما اهتمام، حتى كاد أن يستأثر هذا الجانب بكل همته، كما كاد أن يستأثر بالواقع في بداية الإصلاح، ولأن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في هذه الناحية، وكيد الشيطان يتركز على هذا الجانب، حيث يكيد للمسلم ويزين له ما يحبط عمله ويفسده، ثم بعد ذلك يصل الشيطان إلى غرضه؛ فلا يضيره كثرة عمل المسلم وضخامته ما دام أنه على شيء يناقضه ويفسده.
ولذا؛ فالشيخ رحمه الله كرس جهودا عظيمة في بيان هذه النقطة التي هي مفرق الطريق، ومنها يتميز المسلم المستقيم الثابت من الذي ينقض دينه، سواء علم أو لم يعلم.
ولئن كان أبو حيان قد أصاب في مدحه ابن تيمية بقوله:
داع إلى الله فرد ما له وزر ... لما أتانا تقي الدين لاح لنا
خير البرية نور دونه القمر ... على محياه من سيما الألى صحبوا
بحر تقاذف من أمواجه الدرر ... حبر تسربل منه دهره حبرا
مقام سيد تيم إذ عصت مضر ... قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
وأخمد الشر إذ طارت له شرر(1) ... وأظهر الحق إذ آثاره اندرست
فإن من يصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب بهذا الوصف
يصيب أيما إصابة، حيث إنه رحمه الله قد أظهر الحق إذ اندرست آثاره، وأخمد الشر بعد أن طار شرره، وقام مقام سيد تيم أبي بكر - رضي الله عنه - لما ارتد غالب العرب، وعصوا من بعد ما سمعوا، ونقضوا غزلهم، وأفسدوا صلاحهم، وأبطلوا أعمالهم، ففسدت قوتهم العلمية والعملية، كما سبق أن بينا ذلك في وصف البيئة التي ظهر عليها الشيخ رحمه الله(2).
فكان الشيخ يركز دفاعه على الاحتراز من إفساد هاتين القوتين: القوة العلمية، والقوة العملية.
__________
(1) عن "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" تأليف الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ج 1، ص 152).
(2) انظر: (1/37) من هذا البحث.(1/2)
يقول رحمه الله في استنباطه من قول الله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) } (1).
يقول: "فيها أن الذي أتاهم من الآيات ليست هذه وحدها (يعني: قصة يوسف)، بل كم وكم من آية من الآيات السماوية والأرضية يمرون عليها ويعرضون عن الانتفاع بها، وليس هذا قصورا في البيان؛ فإنه مشاهد، بل القلوب غير قابلة. وفيها المسألة العظيمة، وهي إخباره تبارك وتعالى أن أكثر هذا الخلق لو آمن؛ أفسد إيمانه بالشرك. فهذه فساد القوة العملية، والتي قبلها فساد القوة العلمية. وفيها التنبيه على الاحتراز من اجتماع الإيمان مع الشرك المفسد له،
خصوصا لما ذكر أن هذا حال الجمهور"(2).
هذا وقد بلغت آيات القرآن الكريم التي فيها لفظة الشرك وما تصرف منها في الحكم على الشرك وأهله حسب استقرائي ما يقارب مائة وخمسا وستين آية ما عدا الآيات الأخرى التي فيها ذم له بغير لفظه، أما الأحاديث الصحيحة من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكثيرة جدا.
إذًا؛ فلا غرابة إذا كثرت ألفاظ الشرك في التحذير عنه وذمه وذم أهله والبراءة منه ومن أهله في أعمال الشيخ ومؤلفاته(3)؛ ذلك أن الشرك أعظم مفسد للعلم والعمل المبتغى بهما رضوان الله والسعادة، وليس أضر على الإنسان من إفساد عمله وعلمه، ولذا؛ كان من أشد الناس خسرانا من اتصف بالناصية الكاذبة الخاطئة.
__________
(1) سورة يوسف آية : 105.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، التفسير، ص 177- 178).
(3) "انظر: "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول، كشف الشبهات، مفيد المستفيد، والقواعد الأربع، والأصل الجامع) وغيرهما .(1/3)
ويقول الشيخ: "قوله تعالى: { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) } (1) فيه الجمع بين الكذب والخطأ في وصف هذه الناصية، فدل على وصفه بفساد القول والعمل"(2).
فما من شك أن الاهتمام بهذا الجانب لاجتناب الفساد حق؛ فلنبدأ بنواقض الإسلام نبينها؛ لتعرف فتجنب.
نواقض الإسلام العشرة
يقول الشيخ: "اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:
الأول: الشرك في عبادة الله تعالى؛ قال الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (3).
وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) } (4).
ومنه الذبح لغير الله؛ كمن يذبح للجن أو للقبر".
وفي "كتاب التوحيد" عقد الشيخ بابا في ذلك، هو (باب ما جاء في الذبح لغير الله تعالى)، وأورد تحته أدلة؛ منها قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) } (5).
وقوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) } (6).
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ؛ قال: " حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غيّر منار الأرض "(7) رواه
__________
(1) سورة العلق آية : 16.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، التفسير، ص 372).
(3) سورة النساء آية : 48.
(4) سورة المائدة آية : 72.
(5) سورة الأنعام آية : 162.
(6) سورة الكوثر آية : 2.
(7) مسند أحمد (1/309 ,1/317).(1/4)
مسلم من طرق بمعنى ما ذكره المصنف، وفيه قصة، ورواه الإمام أحمد كذلك(1).
وقال الشيخ: "فيه تفسير (إن صلاتي ونسكي)، وتفسير (فصل لربك وانحر)، والبداء بلعنة من ذبح لغير الله(2).
ويقول الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد": "قال النووي: المراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى؛ كمن يذبح للصنم، أو للصليب، أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما وسلم، أو للكعبة... ونحو ذلك؛ فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له؛ كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك؛ صار بالذبح مرتدا، ذكره في "شرح مسلم"(3) ونقله غير واحد من الشافعية وغيرهم"(4).
قال الشيخ: "وقال أبو العباس رحمه الله في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" في الكلام على قوله تعالى { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } (5):
__________
(1) "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" (ص 156- 157). وانظر: "صحيح مسلم" (ج 3، ص 1567).
(2) "مؤلفات الشيخ (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 35- 36).
(3) "صحيح مسلم بشرح النووي" (ج 13، ص 141) .
(4) "تيسير العزيز الحميد" (ص 157) .
(5) سورة البقرة آية : 173.(1/5)
ظاهره أنه ما ذبح لغير الله؛ سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه؛ كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه؛ كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله؛ فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه؛ لحرم، وإن قال فيه: بسم الله؛ كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن"(1) انتهى.
قال الشيخ معلقا: "فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافق يصير مرتدا بذلك، وهذا في المعين؛ إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين"(2).
ويذكر الشيخ في جوابه لمن سأله عن الذبح للجن أن العلماء صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج من الملة، وقالوا: الذبيحة حرام، ولو سمى عليها. قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أهل به لغير الله. والثاني: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى الله عليها.
وقول العلماء: إنه منهي عنها، أو حرام، أو مكروهة، أو لا تنبغي... ألفاظ عامة تستعمل في المكفرات والمحرمات التي هي دون الكفر، وفي المكروهات كراهة التنزيه التي هي دون الحرام.
ومثال استعمالها في المكفرات قوله:
{ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) } (3).
وقولهم: لا تنبغي العبادة إلا لله وحده.
__________
(1) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 259).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد، ص 285- 286).
(3) سورة مريم آية : 92.(1/6)
وقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (1).
قال الشيخ: "وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: يحرم كذا؛ لما صرحوا في مواضع أخرى أنه كفر، وقولهم: يكره؛ لما هو كفر؛ كقوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (2) إلى قوله: { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) } (3).
وأما كلام الإمام أحمد في قوله: أكره كذا؛ فهو عند أصحابه على التحريم".
والمقصود من هذا هو إزالة شبهة أوردها السائل، وهي أن قول العلماء: الذبح للجن منهي عنه أو محرم؛ هل يفهم من قولهم هذا أنه دون الكفر والشرك الأكبر؛ لأن هذا القول ليس صريحا بأنه شرك.
وقد جادل بهذه الشبهة على أقوال العلماء تلك مجادلون رد عليهم الشيخ بمثل ما قدمت عنه، وكشف الشبهة، وبين حكم الذبح لغير الله وأنه شرك أكبر.
الثاني من نواقض الإسلام: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم؛ كفر إجماعا.
وسئل الشيخ عن قوله في "الإقناع" (باب: حكم المرتد): "أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم؛ كفر إجماعا"(4).
__________
(1) سورة الأنعام آية : 151.
(2) سورة الإسراء آية : 23.
(3) سورة الإسراء آية : 38.
(4) "الإقناع في فقه الإمام أحمد" للحجاوي (ج 4، ص 297) .(1/7)
فأجاب بقوله: "وكذلك (أي: يكفر) من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم إجماعا، وذكروا أن هذا بعينه هو الذي يفعله أهل زمانهم عند القبور؛ فكيف بزماننا؟ يبينه لك قول الشارح لما ذكر هذا وذكر بعده أنواعا من الكفر المخرج عن الملة؛ قال: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية..." انتهى كلامه في "شرح الإقناع"(1).
الثالث: من نواقض الإسلام: من لم يكفر المشركين أو شك فى كفرهم أو صحح مذهبهم، كفر.
الرابع: من نواقض الإسلام: من اعتقد أن غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه؛ كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه؛ فهو كافر.
الخامس: من نواقض الإسلام: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو عمل به؛ كفر إجماعا: والدليل قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) } (2).
وقد سئل الشيخ عن معنى قوله في (باب حكم المرتد) من كتاب "الإقناع في الفقه الحنبلي": "أو كان مبغضا لما جاء به الرسول اتفاقا"(3) ؟
__________
(1) "كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي (ج 6، ص 170). "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى رقم 14، ص 62- 63) .
(2) سورة محمد آية : 9.
(3) انظر: "الإقناع في فقه الإمام أحمد" لأبي النجا موسى الحجاوي (طبعة مصطفى محمد، ج 4، ص 297).(1/8)
فأجاب الشيخ: "إن معناه إذا كان مبغضا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يشرك بالله، لكن أبغض السؤال عنه، ودعوة الناس إليه؛ كما هو حال من يدعي العلم ويقرر أنه دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويبغضونه أكثر من بغض دين اليهود والنصارى، بل يعادون من التفت إليه، ويحلون دمه وماله، ويرمونه عند الحكام. وكذلك يقرون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتى بالإنذار عن الشرك، بل هو أول ما أنذر عنه، وأعظم ما أنذر
عنه، ثم يقولون: خلق الله ما يتيهون، وينصرون الشرك بالقلب واللسان واليد.
والتكفير بالاتفاق فيمن أبغض النهي عن الشرك وأبغض الأمر بمعاداة أهله، ولو لم يتكلم ولم ينصر؛ فكيف إذا فعل ما فعل؟ لِلَّهِ "(1).
السادس من نواقض الإسلام: من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ثواب الله، أو عقابه، كفر.
والدليل قوله تعالى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (2).
وقال الشيخ في كتاب "التوحيد": "باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقول الله تعالى:
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) } (3).
وعن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة (دخل حديث بعضهم في بعض)؛ أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء (يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء). فقال عوف بن مالك:
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى، رقم 14، ص 62) .
(2) سورة التوبة آية : 65.
(3) سورة التوبة آية : 65.(1/9)
كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله لِلَّهِ إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لِلَّهِ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"؛ ما يلتفت إليه وما يزيده عليه.
ويقول الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد": "هذا الأثر ذكره المصنف مجموعا من رواية ابن عمر ومحمد ابن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام، فأما أثر ابن عمر؛ فرواه ابن جرير(1) وابن أبي حاتم وغيرهما بنحو مما ذكره المصنف، وأما أثر محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة؛ فهي معروفة، لكن بغير هذا اللفظ"(2).
قال الشيخ: "فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا أنه كافر. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان"(3).
__________
(1) ج 10، ص 172- 173) من "تفسير ابن جرير".
(2) "تيسير العزيز الحميد" (ص 555- 556).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 117 - 118).(1/10)
وقد سئل الشيخ عن قول مؤلف "الإقناع في الفقه الحنبلي" في (باب حكم المرتد): "أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله، أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين... كفر"(1) ما وصف هذا الاستهزاء المكفر؟ فأجاب بأن العلماء استدلوا عليها بقوله تعالى في حق بعض الناس في غزوة تبوك: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } (2).
قال الشيخ: "فذكر السلف والخلف أن معناها عام إلى يوم القيامة فيمن استهزأ بالله أو القرآن أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وصفة كلامهم أنهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ يعنون بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعلماء من أصحابه، فلما نقل الكلام عوف بن مالك؛ أتى القائل يعتذر أنه قاله على وجه اللعب؛ كما يفعل المسافرون، فنزل الوحي، أن هذا كفر بعد الإيمان، ولو كان على وجه المزح، والذي يعتذر يظن أن الكفر إذا قاله جادا لا لاعبا.
وهذا قول صريح في الاستهزاء بالدين إذا فهمت أن هذا هو الاستهزاء؛ فكثير من الناس يتكلم في الله - عز وجل - بالكلام الفاحش عند وقوع المصائب على وجه الجد، وأنه لا يستحق هذا، وأنه ليس
بأكبر الناس ذنبا، وكذلك من يدعي العلم والفقه إذا استدللنا عليه بآيات الله؛ أظهر الاستهزاء(3).
وأما صفة الاستهزاء الفعلي؛ فمثل مد الشفة، وإخراج اللسان، أو رمز العين؛ مما يفعله كثير من الناس عندما يؤمر بالصلاة والزكاة؛ فكيف بالتوحيد؟!"(4).
__________
(1) "الإقناع في فقه الإمام أحمد" لأبي النجا موسى الحجاوي (ج 4، ص 297).
(2) سورة التوبة آية : 65.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى، ص 61، 62، 65).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى، ص 65).(1/11)
ويقول الشيخ في "ملخصه عن ابن تيمية" في الآية: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون): "الآية تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبآياته كفر، وبالرسول كفر، من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة، فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر، وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات، وأيضا؛ فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم"(1).
السابع: من نواقض الإسلام السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر.
والدليل قوله تعالى:
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } (2).
الثامن: من نواقض الإسلام: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين:
والدليل قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) } (3).
التاسع: من نواقض الإسلام: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام؛ فهو كافر.
العاشر: من نواقض الإسلام: إلإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به.
والدليل قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) } (4).
وهذه النواقض التي ذكرها الشيخ هي مسألة التكفير، لخصها الشيخ من كلام العلماء.
قال الشيخ: "وذكر (أي: الشيخ أبو النجا مؤلف "الإقناع") في "الإقناع" إجماع المذاهب كلها على ذلك"(5).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 110، ص 104 - 106).
(2) سورة البقرة آية : 102.
(3) سورة المائدة آية : 51.
(4) سورة السجدة آية : 22.
(5) انظر: "الإقناع" (باب حكم المرتد، ج 4، ص 297 - 308).(1/12)
ثم قال: "فإن كان عند أحد كلمة تخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب؛ فيذكرها وجزاه الله خيرا"(1).
والغالب أنه ليس عند أحد علم يخالف ما ذكروه، وإنما العناد.
فيقول الشيخ: "وإن كان يبغي يعاند كلام الله، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام العلماء، ولا يصغى لهذا أبدا؛ فاعرفوا أن هذا الرجل معاند ما هو بطالب حق، وقد قال الله تعالى:
{ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) } (2).
ثم يبين الشيخ أن هؤلاء الذين يعتذرون بالتكفير ليس لأنه مشكل عليهم تكفير أناس بأعيانهم قد اشتبه أمرهم، بل إذا تأمل المتأمل أحوالهم؛ يجد أن هؤلاء أعداء للموحدين يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركين والمنافقين هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم، كما جرى من رجال في الدرعية وفي العيينة الذين ارتدوا وأبغضوا الدين(3).
ثم يقول الشيخ بعد أن أورد النواقض العشرة: (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف؛ إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا؛ فينبغي للمسلم أن
يحذرها ويخاف منها على نفسه"(4).
إمكان وقوعها من المعينين
ويقرر الشيخ أنها تقع من المعينين، وممكن أن يرتد المسلم ويكفر بعد إسلامه والعياذ بالله من ذلك؛ فقد عرف المرتد في (باب حكم المرتد) بأنه المسلم الذي يكفر بعد إسلامه(5) ؛ فهذا يفيد الحذر والخوف والاستعاذة بالله.
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 32، ص 212).
(2) سورة آل عمران آية : 80.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 32، ص 212).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، نواقض الإسلام، ص 385 - 387، والقسم الخامس، الشخصية، رقم 32، ص 212 - 214)، و "الدرر السنية" (ج 8، ص 89 - 90).
(5) "الإقناع" (ج 4، ص 297) .(1/13)
وقد بين الشيخ لرجل من أهل الأحساء استشكل تكفير المعين لأنه يقول: لا إله إلا الله، وإن عبد الأوثان مع هذا عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدما شهد به مثل سب أبي جهل؛ فالشيخ يبين له أحكام هذه المسألة من كلام أهل العلم المتقدمين والمتأخرين، فيقول مخاطبا هذا المستشكل:
"فأول ما أنصحك به أنك تفكر: هل هذا الشرك الذي عندكم هو الشرك الذي ظهر نبيك - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه أهل مكة، أو شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه، أم هذا أغلظ؟ فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه وعدم البراءة من أهله؛ فتفكر: هل هذه المسألة
إلا مسألة الردة الصريحة التي ذكرها أهل العلم في الردة؟!
ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر.
أما استدلالك بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده تكفير المنافقين وقتلهم؛ فقد عرف الخاص والعام ببديهة العقل أنهم لو يظهرون كلمة واحدة أو فعلا واحدا من عبادة الأوثان أو مسبة التوحيد الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنهم يقتلون شر قتلة.
فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتبرأوا من الشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول، وقتلوا الطواغيت، وهدموا البيوت المعبودة؛ فقل لي.
وإن كنت تزعم أن الشرك الذي خرج عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر من هذا؛ فقل لي.(1/14)
وإن كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام؛ لا يكفر إذا أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سب دين الأنبياء، وسماه دين أهل العارض، وأفتى بقتل من أخلص لله الدين وإحراقه وحل ماله؛ فهذه مسألتك، وقد قررتها، وذكرت أن من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا لم يقتلوا أحدا ولم يكفروه من أهل الملة.
أما ذكرت قول الله تعالى:
{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ ضعtچ¨B.... } (1) إلى قوله:
{ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) } (2).
وقوله :
{ سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ (#qف،د.ِ'é&.... } (3) إلى قوله: { أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ } (4).
واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء:
{ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) } (5).
واذكر ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه أشخص رجلا معه الراية إلى من تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله؛ فأي هذين أعظم؛ تزوج امرأة الأب أو سب دين الأنبياء بعد معرفته؟!
واذكر أنه همّ بغزو بني المصطلق لما قيل: إنهم منعوا الزكاة، حتى كذب الله من نقل ذلك.
واذكر قوله في أعبد هذه الأمة وأشدهم اجتهادا: " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، أينما لقيتموهم؛ فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة "(6).
واذكر قتال الصديق وأصحابه مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم.
__________
(1) سورة الأحزاب آية : 60.
(2) سورة الأحزاب آية : 61.
(3) سورة النساء آية : 91.
(4) سورة النساء آية : 91.
(5) سورة آل عمران آية : 80.
(6) صحيح البخاري : كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930) , وصحيح مسلم : كتاب الزكاة (1066) , ومسند أحمد (1/131).(1/15)
واذكر إجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة وكفرهم وردتهم لما قالوا كلمة في تقرير نبوة مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا، والمسألة في "صحيح البخاري" وشرحه في الكفالة(1).
واذكر إجماع الصحابة لما استفتاهم عمر على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص مستدلا بقوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } (2) مع كونه من أهل بدر.
وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في علي مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر وردتهم وقتلهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهم أحياء، فخالفه ابن عباس في الإحراق وقال: يقتلون بالسيف؛ مع كونهم من أهل القرن الأول، أخذوا العلم عن الصحابة.
واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم على قتل الجعد بن درهم، قال ابن القيم:
لله درك من أخي قربان ... شكر الضحية كل صاحب سنة
قال الشيخ: "ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع ادعائه الإسلام
وأفتوا بردته وقتله؛ لطال الكلام، لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد ملوك مصر وطائفتهم، وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة والمفتين؛ أجمع العلماء على كفرهم وردتهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب يجب قتالهم...
واذكر كلامه في "الإقناع" و "شرحه" في الردة؛ كيف ذكروا أنواعا كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية. هذا لفظه بحروفه، ثم ذكر قتل الواحد منهم وحكم ماله(3).
__________
(1) "صحيح البخاري" (ج 3، كتاب الكفالة، باب 1، ص 56)، وانظر: "فتح الباري" (ج 4، ص 470).
(2) سورة المائدة آية : 93.
(3) انظر: "الإقناع" (ج 4، ص 297 - 308)، و "كشاف القناع عن متن الإقناع" لمنصور البهوتي، فرغ من تأليفه سنة 1046 هـ، والمتوفى سنة 1051 هـ، (ج 6، ص 167 - 187).(1/16)
هل قال واحد من هؤلاء الصحابة أو أحد من العلماء إلى زمن منصور: إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم؟ !".
ثم أخذ الشيخ يبين عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية في تكفير المعين، فيقول: "وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك؛ فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها؛ لكفرنا كثيرا من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة".
ثم أخذ الشيخ يقرر معنى قيام الحجة، وأن معناها أن المعين إن عرف الحق وخالف؛ كفر بعينه، وإلا لم يكفر.
ثم أخذ الشيخ يذكر له من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ما
يصدق هذا من "اقتضاء الصراط المستقيم" وغيره(1).
وكما بينا في منهج الشيخ أنه يعتبر قيام الحجة وبلوغها، فمن لم تبلغه الحجة وتقوم عليه؛ فإنه لا يكفره(2).
وقد سئل الشيخ عن قوله في "الإقناع": "أو نطق بكلمة كفر ولم يعلم معناها؛ فلا يكفر بذلك"(3) ؛ هل المعنى: نطق بها ولم يعرف شرحها، أو نطق بها ولم يعلم أنها تكفره ؟
فأجاب الشيخ بأنه إذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه؛ أي: فلا يكفر، وأما كونه لا يعرف أنها تكفره؛ يعني: إذا نطق بكلمة الكفر التي يعرف أنها كفر، لكن يظن أنه إذا نطق بالكفر هازلا أو مازحا أو يريد مصلحة من المصالح الدنيوية؛ أن هذا لا يكفره؛ قال الشيخ: "فيكفي فيه قوله: { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (4) ؛ فهم يعتذرون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظانين أنهم حين يقولونها على وجه اللعب أنها لا تكفرهم".
ثم أورد الشيخ أدلة توضح هذه النقطة، وهي: قوله تعالى: { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) } (5).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 33، ص 216 - 224).
(2) "انظر: (1/ 338) من هذا البحث.
(3) "انظر: "الإقناع" (ج 4، ص 297).
(4) سورة التوبة آية : 66.
(5) سورة الكهف آية : 104.(1/17)
وقوله تعالى: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) } (1).
وقوله تعالى: { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) } (2)(3).
وهؤلاء الذين ذكرهم الله في هذه الآيات الكريمة كفار، مع أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويحسبون أنهم مهتدون.
وكما ذكرنا في منهج الشيخ أن الشيخ يفرق بين الكفر المخرج من الملة والكفر الذي لا يخرج من الملة.
من أطلق الشارع كفره
وقد سئل الشيخ عن قولهم: "ومن أطلق الشارع كفره ؛ كدعواهم لغير أبيهم... إلى آخره؛ فللعلماء فيه أقوال": أيها أقرب إلى الصواب؟
فأجاب: "إن من أطلق الشارع كفره بالذنوب؛ فالراجح فيها قولان:
أحدهما: ما عليه الجمهور؛ أنه لا يخرج من الملة.
والثاني: الوقف؛ كما قال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت؛
يعني: لا يقال: يخرج، ولا: ما يخرج.
وما سوى هذين القولين غير صحيح"(4).
وإذا تأملنا هذه النواقض؛ نجد أنها تدور على الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن من ارتكب ناقضا منها؛ فهو إما لأنه جنى على الألوهية فأشرك بالله تعالى، وإما لأنه جنى على النبوة، وإما لأنه جنى عليهما معا.
غير أن المشكلة التي واجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي الجناية على الألوهية بالشرك؛ لذا فسيكون بيان الشرك أهم ما في هذا الفصل وأوسعه.
بيان ما هو الشرك ؟
أما تعريف الشرك؛ ما هو؟
يعرفه الشيخ رحمه الله بقوله: "هو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها".
__________
(1) سورة الأعراف آية : 30.
(2) سورة الزخرف آية : 37.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى، ص 58، وص 65 - 66).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى، ص 58، 66).(1/18)
فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله تعالى، أو قصد غير الله بشيء من أنواع العبادة؛ فقد اتخذ هذا الغير ربا وإلها من دون الله تعالى، وأشرك مع الله غيره الشرك الأكبر الذي نهى عنه وأنكره على المشركين، وأخبر أنه لا يغفره، فقال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1).
وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) } (2)(3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في "قرة عيون الموحدين" ما مضمونه: "إن صرف القصد بالعبادة لغير الله شرك بالله؛ لالتفاته في التعبد إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، وكل هذه الأبواب التي ذكرها المصنف رحمه الله تعالى تدل على أن من أشرك مع الله غيره بالقصد والطلب؛ فقد خالف ما نفته لا إله إلا الله، وعكس مدلولها، فأثبت ما نفته، ونفى ما أثبتته من التوحيد"(4).
فصرف أي نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بها عن طريق رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يعتبر شركا بالله تعالى.
وصرف الشيء من العبادة لغير الله كصرف مجموعها؛ لأن الله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى:
{
__________
(1) سورة النساء آية : 48.
(2) سورة المائدة آية : 72.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ثلاثة الأصول، ص 186، والجامع لعبادة الله وحده، ص 381).
(4) "قرة عيون الموحدين" (باب من الشرك النذر لغير الله، ص 67، الطبعة السلفية بمصر، ضمن مجموعة التوحيد).(1/19)
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) } (1)(2).
أما صفة إشراك المشركين؛ فيقول عنها الشيخ: "واعلم أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفة إشراكهم أنهم يدعون الله ويدعون معه الأصنام والصالحين؛ مثل عيسى وأمه والملائكة؛ يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وهم يقرون أن الله سبحانه هو النافع الضار المدبر؛ كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى:
{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } (3).
فإذا عرفت هذا، وعرفت أن دعوتهم الصالحين وتعلقهم عليهم أنهم يقولون: ما نريد إلا الشفاعة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليخلصوا الدعوة لله، ويكون الدين كله لله... وعرفت أن ذلك هو الشرك بالله الذي لا يغفر لمن فعله، وهو عند الله أعظم من الزنى وقتل النفس، مع أن صاحبه يريد به التقرب من الله، ثم مع هذا عرفت أمرا آخر،
__________
(1) سورة الزمر آية : 2-3.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، التفسير، ص 318، والقسم الخامس، الشخصية، رقم 17، ص 111 - 112).
(3) سورة يونس آية : 31.(1/20)
وهو أن أكثر الناس ما عرف هذا، منهم الذين يسمونهم العلماء في سدير والوشم وغيرهم، إذا قالوا: نحن موحدون الله، نعرف ما ينفع ولا يضر إلا الله، وأن الصالحين لا ينفعون ولا يضرون، وعرفت أنهم لا يعرفون إلا توحيد الكفار؛ توحيد الربوبية؛ عرفت كبر نعمة الله عليك، خصوصا إذا عرفت أن الذي يواجه الله وهو لا يعرف التوحيد أو عرفه ولم يعمل به أنه خالد في النار، ولو كان من أعبد الناس؛ كما قال تعالى:
{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) } (1)(2).
وقال الشيخ في "تلخيصه عن ابن تيمية": "المشركون يزعمون أن عبادتهم إما واجبة وإما مستحبة، ثم منهم من عبد غير الله فيتقرب به إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبد به الله؛ كما أحدثه النصارى من العبادات، وأصل الضلال في الأرض إنما نشأ من هذين: إما اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه، ولهذا؛ كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذهبهم أن الأعمال عبادات وعادات؛ فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله، وهذه المواسم المحدثة إنما نهي
عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به إلى الله"(3).
ويذكر الشيخ من مسائل الجاهلية أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يريدون شفاعتهم عند الله؛ لظنهم أن الله يحب ذلك، وأن الصالحين يحبونه؛ كما قال تعالى:
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (4).
__________
(1) سورة المائدة آية : 72.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، الرسالة الثالثة عشرة، ص 399).
(3) "مؤلفات الشيخ" (ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 100، ص 93- 94).
(4) سورة يونس آية : 18.(1/21)
وقال تعالى:
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1).
وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
ويقرر الشيخ في "القواعد الأربع" الأمر الذي صار به الكفار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنهم مقرون بأن الله تعالى هو الخالق المدبر، ولكن ذلك لم يدخلهم في الإسلام؛ لجحدهم توحيد الله بالألوهية، ويستدل بقول الله تعالى:
{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) } (3).
وأن هؤلاء المشركين يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، والدليل على قولهم هذا قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ } (4).
هذا دليل القربة، أما دليل الشفاعة، فقوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (5).
__________
(1) سورة الزمر آية : 3.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية، ص 334).
(3) سورة يونس آية : 31.
(4) سورة الزمر آية : 3.
(5) سورة يونس آية : 18.(1/22)
ثم إن هؤلاء المشركين متفرقون في عبادتهم: منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفرق بينهم، والدليل قوله تعالى:
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } (1).
والدليل على عبادتهم الشمس والقمر قوله تعالى: { وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) } (2).
والدليل على عبادتهم الملائكة قوله تعالى: { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } (3).
ودليل عبادتهم الأنبياء قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) } (4).
ودليل عبادتهم الصالحين قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } (5).
ودليل عبادتهم الأشجار والأحجار قوله تعالى:
{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) } (6).
__________
(1) سورة البقرة آية : 193.
(2) سورة فصلت آية : 37.
(3) سورة آل عمران آية : 80.
(4) سورة المائدة آية : 116.
(5) سورة الإسراء آية : 57.
(6) سورة النجم آية : 19.(1/23)
وحديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - ؛ قال : "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها : ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله لِلَّهِ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط... الحديث، قال الشيخ: "رواه الترمذي وصححه وهو كما قال"(1).
ويقول الشيخ في تفسير كلمة التوحيد: "ولنختم الكلام بآية ذكرها الله تعالى في كتابه تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم من كفر الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) } (2).
فقد ذكر الله عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة والمشايخ فلم يدعوا أحدا منهم ولم يستغيثوا به، بل يخلصون لله وحده لا شريك له، ويستغيثون به وحده، فإذا جاء الرخاء؛ أشركوا، وأنت ترى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة، إذا مسه الضر؛ قام يستغيث بغير الله؛ مثل
معروف أو عبد القادر الجيلاني، وأجلّ من هؤلاء مثل زيد بن الخطاب والزبير، وأجلّ من هؤلاء مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فالله المستعان، وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة"(3).
وبعد مقارنة أحوال مشركي زمان الشيخ بأحوال مشركي الجاهلية الأولى يقول الشيخ: "إن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة".
__________
(1) "انظر تصحيح الترمذي في أعلى صحائف "تحفة الأحوذي" (ج 6، ص 407 - 408).
(2) سورة الإسراء آية : 67.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، التفسير كلمة التوحيد، ص 367 - 369).(1/24)
ويدلل أيضا على أن شرك الأولين أخف بقوله تعالى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) } (1).
أما المشركون في زمان الشيخ؛ فشركهم يكون دائما في الرخاء والشدة، ودليله الواقع المشهود(2) والذين قاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصح عقولا وأخف شركا من هؤلاء(3).
وخلاصة ما تقدم من تعريف للشرك هو أن يُصرف شيء من أنواع
العبادة لغير الله تعالى طلبا للزلفى عند الله، وهذه نظرة المشركين إلى شركهم أنه عبادة لله تعالى وقربة إليه، ولذا كان أشبه بهم أهل البدع الذين يتعبدون لله بالبدع، والشرك أكبر البدع في العبادة.
أما حكم الشرك؛ فإنه أعظم ما نهى الله عنه في مثل قوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (4) وغير ذلك من الآيات الكثيرة.
الشرك أول المحرمات
والشرك أول المحرمات ؛ كما قال الله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } (5)(6).
والله سبحانه يقرن بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص، ولهذا في الصحيح. "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله"، ثم قرأ قوله: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } (7).
__________
(1) سورة العنكبوت آية : 65.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع، ص 199 - 202).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص 171).
(4) سورة النساء آية : 36.
(5) سورة الأنعام آية : 151.
(6) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، التوحيد، ص 8 - 9).
(7) سورة الحج آية : 30 - 31.(1/25)
وقال: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) } (1) إلى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) } (2).
وقوله: { %¸3ّےح r& آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) } (3).
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) } (4).
وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ } (5).
قال أبو قلابة: "هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكل من كان أقرب إلى الشرك؛ كان أقرب إلى الكذب؛ كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركا"(6).
تقسيمه وأفراده
و ينقسم الشرك إلى أكبر وأصغر ؛ فالأكبر مخرج من الملة،
والأصغر لا يخرج من الملة(7).
وقد مثل الشيخ للشرك الأصغر، فقال: "كيسير الرياء والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا".
قال الشيخ: "وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده"(8).
ويمثل الشيخ للشرك الأكبر بطلب الحوائج من الموتى، ودعائهم لذلك، والنذر لهم ليشفعوا عند الله لداعيهم والناذر لهم.
ويقول الشيخ عن هذا: إنه هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه، فكفر من لم يتب منه، وقاتله، وعاداه.
__________
(1) سورة القصص آية : 74.
(2) سورة القصص آية : 75.
(3) سورة الصافات آية : 86.
(4) سورة الزمر آية : 3.
(5) سورة الأعراف آية : 152.
(6) "مؤلفات الشيخ" (ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 99، ص 91 - 92).
(7) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 28،وص 33 ، وص 86، وص 110، وص 113، وص 123)، و"مفيد المستفيد" (ص 295).
(8) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة)، "مفيد المستفيد" (ص 295).(1/26)
ثم يشير إلى ما ذكر في "الإقناع" عن الشيخ تقي الدين أن من دعا علي بن أبي طالب، فهو كافر، وأن من شك في كفره؛ فهو كافر.
ويقول الشيخ: "فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له؛ فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده؟! فكيف بمن أحبه؟! فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته وتعذر أنَّا لا نقدر على
التجارة أو طلب الرزق إلا بذلك؟ لِلَّهِ "(1).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في كتابه "القول السديد على مقاصد التوحيد": "حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده: أن يصرف العبد نوعا أو فردا من أفراد العبادة لغير الله؛ فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع؛ فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر؛ فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء.
كما أن حد الشرك الأصغر هو كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة.
فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر؛ فإنه مما يعينك على فهم الأبواب السابقة واللاحقة من هذا الكتاب"(2) ؛ يعني: "كتاب التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وفي "كتاب التوحيد" عقد الشيخ أبوابا كثيرة في بيان أشياء من أفراد الشرك بنوعيه الأكبر والأصغر مما ينافي التوحيد أو ينافي كماله، وهي كما يلي:
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو
دفعه(3).
وباب ما جاء في الرقى والتمائم(4).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة)، "مفيد المستفيد" (ص 296 - 297)، و"الدرر السنية" (ج 2، ص 4 - 5).
(2) "القول السديد في مقاصد التوحيد" (ص 52 - 53).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 27 - 28).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 29 - 31).(1/27)
وباب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما(1).
وباب ما جاء في الذبح لغير الله(2).
وباب من الشرك النذر لغير الله(3).
وباب من الشرك الاستعاذة بغير الله(4).
وباب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره(5).
وباب ما جاء في السحر(6).
وباب بيان شيء من أنواع السحر(7).
ووجه إدخالهما في ذلك أن كثيرا من أقسام السحر لا يتأتى إلا
بالشرك والتوسل بالأرواح الشيطانية إلى مقاصد الساحر؛ فالسحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبون، والشرك مما يحبون، فيتقرب به إليهم، ليقوموا بخدمته ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، وهذا من شعب الشرك(8).
وباب ما جاء في الكهان ونحوهم(9).
وباب ما جاء في النشرة(10) وهي حل السحر بسحر مثله.
وباب ما جاء في التطير(11) وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع وغيرها.
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 32 - 34).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 35 - 37).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 40).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 41).
(5) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 42 - 44).
(6) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 72 - 73).
(7) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 74 - 75).
(8) "القول السديد في مقاصد التوحيد" للشيخ عبد الرحمن بن سعدي (ص 93 - 95).
(9) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 76 - 78).
(10) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 79 - 80).
(11) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 81 - 83).(1/28)
وباب ما جاء في التنجيم(1) وهو زعم تأثير الأحوال الفلكية في الحوادث الكونية.
وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء(2) ؛ أي: نسبة السقي ومجيء المطر إليها.
وباب قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } (3)(4) ؛ فاتخاذ الأنداد التي تجذب بمحبتها عن محبة الله من الشرك.
وباب قول الله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) } (5)(6) ؛ فخوف العبادة من غير الله تعالى من الشرك.
وباب قول الله تعالى: { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } (7)(8) وقوله: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) } (9) ؛ فالأمن من مكر الله أو القنوط من رحمة الله من شعب الشرك.
وباب ما جاء في الرياء(10).
وباب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا(11).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 84).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 85 - 87).
(3) سورة البقرة آية : 165.
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 88 - 90).
(5) سورة آل عمران آية : 175.
(6) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 91 - 92).
(7) سورة الأعراف آية : 99.
(8) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 81 - 83).
(9) سورة الحجر آية : 56.
(10) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 98 - 99).
(11) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 100 - 101).(1/29)
وباب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله؛ فقد اتخذهم أربابا من دون الله(1).
وباب قول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ . . . } (2) الآية(3) ؛ لأن الله تعالى له الحكم القدري، وله الحكم الشرعي، وكذلك الحكم الجزائي له وحده لا شريك له، فإذا قدم العبد طاعة الأمراء والعلماء على طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وتحاكم إلى الطاغوت، وترك التحاكم إلى شريعة الله؛ فهذا من شعب الشرك(4).
ومن أفراد الشرك أو من أفراد أبوابه ووسائله التي عقد الشيخ لها أبوابا في كتابه "كتاب التوحيد": باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات(5) ؛ فذلك من شعب الكفر، ونسبته إلى غير الله من الشرك؛
كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة(6).
وباب قول الله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) } (7)(8) ؛ فإنكار نعمة الله بعد معرفتها هو بنسبتها إلى غيره، وهذا هو الشرك.
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 102 - 103).
(2) سورة النساء آية : 60.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 104 - 105).
(4) انظر: "القول السديد في مقاصد التوحيد" (ص 130 - 134).
(5) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 106 - 107).
(6) انظر: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" للشيخ سليمان (ص 511 -512).
(7) سورة النحل آية : 83.
(8) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 108).(1/30)
وباب قول الله تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } (1)(2) ؛ فجعل الأنداد من الشرك.
وباب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله، وذكر تحته النهي عن الحلف بغير الله؛ كالحلف بالآباء ونحو ذلك(3).
وباب قول: ما شاء الله وشئت(4).
وباب من سب الدهر فقد آذى الله(5) ؛ لأن الله يقلب الليل والنهار.
وباب التسمي بقاضي القضاة ونحوه(6).
وباب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - (7).
وباب قول الله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ ZpyJح !$s% } (8)(9) ؛ أي: فيمن يزعم أن ما أوتيه من النعم والرزق إنما هو بكده وحذقه وفطنته.
وباب قول الله تعالى: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) } (10)(11) ؛ أي: يسمونه باسم معبد لغير الله تعالى.
__________
(1) سورة البقرة آية : 22.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 109 - 110).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 111).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 112 - 113).
(5) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 114).
(6) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 115).
(7) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 117 - 118).
(8) سورة فصلت آية : 50.
(9) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 119 - 121).
(10) سورة الأعراف آية : 190.
(11) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 122 - 123).(1/31)
وباب قول الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } (1) والمقصود الذين يلحدون في أسمائه؛ أي: يشركون(2).
وباب لا يقال: السلام على الله(3) ؛ لأن الله هو السلام.
وباب قول: اللهم اغفر لي إن شئت(4) ؛ لأن الله لا مكره له.
وباب لا يقول: عبدي وأمتي(5) ؛ للبعد عن الألفاظ التي فيها إيهام التشريك.
وباب لا يرد من سأل بالله(6) وباب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة(7) فإن رد من سأل بالله والسؤال بوجه الله غير الجنة ترك لتعظيم الرب إلى تعظيم من سواه بغير إذنه.
وباب ما جاء في اللو(8) ؛ لأن (لو)، تفتح عمل الشيطان.
وباب النهي عن سب الريح(9) ؛ لأنها مأمورة، فيستعاذ بالله من شر ما أمرت به.
وباب قول الله تعالى: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ } (10) الآية(11) ؛ لأنهم لم يوحدوا الله توحيد المعرفة والإثبات في الأسماء والصفات.
__________
(1) سورة الأعراف آية : 180.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 124).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 124).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 126).
(5) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 127).
(6) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 128).
(7) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 129).
(8) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 130 - 131).
(9) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 132).
(10) سورة آل عمران آية : 154.
(11) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 133 - 134).(1/32)
وباب ما جاء في منكري القدر(1).
وباب ما جاء في المصورين(2) الذين يضاهئون بخلق الله.
وباب ما جاء في كثرة الحلف(3) ؛ لأن كثرته من غير داع شرعي استخفاف بحق الله تعالى.
وباب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - (4) ؛ لأن نقضها ترك لتعظيم الله من أجل غيره.
وباب ما جاء في الإقسام على الله(5) وباب لا يستشفع بالله على خلقه(6) ؛ لأن في الإقسام والتألي على الله أن لا يغفر لفلان وفي الاستشفاع بالله على خلقه سوء أدب؛ فالأول من العجب بالنفس، والثاني من تعظيم غير الله، وهذان من شعب الشرك.
وباب ما جاء في قول الله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } (7)(8) ومن أشرك؛ لم يقدر الله حق قدره.
ولهذا الشرك أسباب ووسائل يبينها الشيخ رحمه الله ويهتم ببيانها للحذر منها، وقد عقد في ذلك أبوابا في "كتاب التوحيد" أيضا هي:
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في
الصالحين(9).
وباب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله(10).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 135 - 137).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 138 - 139).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 140 - 141).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 142 - 143).
(5) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 144).
(6) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 145).
(7) سورة الزمر آية : 67.
(8) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 148 - 151).
(9) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ص 56 - 59).
(10) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ص 64 - 65).(1/33)
وباب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده(1) ؟!
وباب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما(2) ؛ أي: باب ما جاء فيمن تبرك...
وباب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله(3).
وباب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك(4) ويقصد بهذا الباب حماية التوحيد من جانب الأعمال.
وباب آخر يشبهه في العنوان، وهو: باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - التوحيد وسده طرق الشرك(5) ويقصد بهذا الباب حماية التوحيد من جانب الألفاظ والأقوال.
تحديد أسباب الشرك ومباديه
وعن أسباب الشرك أيضا، فالشيخ يبينها في مثل استنباطه من قول الله تعالى:
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } (6).
قال الشيخ: "في هذه الآية التنبيه على سبب الشرك، وهو أن المشرك بان له شيء من جلالة الأنبياء والصالحين، ولم يعرف الله سبحانه وتعالى، وإلا، لو عرفه؛ لكفاه وشفاه عن المخلوق، وهذا معنى قوله: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } (7) الآية"(8).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ص 60 - 63).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ص 32 - 34).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ص 38 - 39).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ص 66 - 67).
(5) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ص 146 - 147).
(6) سورة الزمر آية : 67.
(7) سورة الزمر آية : 67.
(8) "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، التفسير، ص 345 - 346) .(1/34)
ويقول الشيخ في بيانه سبب الشرك: "لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك؛ فتارة يسألونه، وتارة يسألون الله عنده، وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره، ولما كان هذا بدء الشرك؛ سد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الباب؛ ففي "الصحيحين" أنه قال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر ما صنعوا "(1)(2)..."، إلخ.
وسيأتي هذا الحديث للاستدلال به وبغيره من الأدلة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد سد أبواب الشرك.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: "والغلو في الصالحين لا
شك أنه هو الباب المفضي إلى الشرك قديما وحديثا؛ فالغلو فيهم هو مجاوزة الحد؛ بأن يجعل للصالحين من حقوق الله الخاصة به شيء؛ فإن حق الله الذي لا يشاركه فيه مشارك هو الكمال المطلق، والغنى المطلق، والتصرف المطلق من جميع الوجوه، وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه.
فمن غلا بأحد من المخلوقين حتى جعل له نصيبا من هذه الأشياء؛ فقد ساوى به رب العالمين، وذلك أعظم الشرك، ومن رفع أحدا من الصالحين فوق منزلته التي أنزله الله بها؛ فقد غلا فيه، وذلك وسيلة إلى الشرك وترك الدين.
والناس في معاملة الصالحين ثلاثة أقسام:
1- أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة لهم والتوقير والتبجيل.
2- وأهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها.
3- وأهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية، ولكنهم يبرأون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم.
والصالحون أيضا يتبرءون من أن يدعوا لأنفسهم حقا من حقوق ربهم الخاصة؛ كما قال الله عن عيسى - صلى الله عليه وسلم -
{
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء (3454) وكتاب المغازي (4444) وكتاب اللباس (5816).
(2) "الدرر السنية" (الطبعة الثانية، ج 2، ص 5).(1/35)
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } (1).
واعلم أن الحقوق ثلاثة:
حق خاص لله لا يشاركه فيه مشارك، وهو التأله له وعبادته وحده لا شريك له، والرغبة والإنابة إليه؛ حبا، وخوفا، ورجاء.
وحق خاص للرسل، وهو توقيرهم وتبجيلهم والقيام بحقوقهم الخاصة.
وحق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسله، وطاعة الله ورسله، ومحبة الله ومحبة رسله، ولكن هذه لله أصلا، وللرسل تبعا لحق الله.
فأهل الرسل يعرفون الفرقان بين هذه الحقوق الثلاثة، فيقومون بعبودية الله وإخلاص الدين له، ويقومون بحق رسله وأوليائه على اختلاف منازلهم ومراتبهم... والله أعلم"(2).
وأورد الشيخ تحت (باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين) أدلة مناسبة من الكتاب والسنة؛ مثل قول الله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } (3).
واختصر الشيخ ما في "صحيح البخاري" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى:
{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) } (4).
قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت".
ثم يقول الشيخ: "وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم".
__________
(1) سورة المائدة آية : 116.
(2) "القول السديد في مقاصد التوحيد" للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، المطبوع بهامش "كتاب التوحيد" (ص 75 - 79).
(3) سورة النساء آية : 171.
(4) سورة نوح آية : 23.(1/36)
ويسوق الشيخ حديثا عن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله "(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(2).
ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى حديثا عن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو "(3) رواه أحمد في "المسند" (ج 1/ ص 215، وص 347).
ولمسلم عن ابن مسعود؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " هلك
المتنطعون "(4) ؛ قالها ثلاثا.
يقول الشيخ: "فيه أن من فهم هذا الباب وبابين بعده"، ويعني بهما: باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده ؟! وباب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله. قال الشيخ: "من فهم هذه الأبواب الثلاثة؛ تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب، وفيه معرفة أول شرك حدث في الأرض؛ أنه بشبهة الصالحين، وأول شيء غير به دين الأنبياء، وسبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم.
وفيه قبول الناس البدع مع كون الشرائع والفطر تردها، وأن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل؛ فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
وفيه تفسير الآية التي في سورة نوح، وبيان جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
وفيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء (3445).
(2) وهو الحديث الخامس عشر من عشرين حديثا من "صحيح البخاري"، قام بدراسة أسانيدها الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد مع شرح متونها "عشرون حديثا . . ." (ص 169).
(3) سنن النسائي : كتاب مناسك الحج (3057).
(4) صحيح مسلم : كتاب العلم (2670) , وسنن أبي داود : كتاب السنة (4608) , ومسند أحمد (1/386).(1/37)
وفيه بيان سبب محبة الشيطان للبدعة لمعرفته بما تئول إليه، ولو حسن قصد الفاعل.
وفيه معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يئول إليه.
وفيه مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، ومعرفة النهي
عن التماثيل، والحكمة في إزالتها، ومعرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
وفيه فائدة وهي أعجب وأعجب: قراءة بعض أهل الزمان هذه المسألة إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال.
وفيه التصريح بأن هؤلاء الذين دعوا صور الصالحين لم يريدوا إلا الشفاعة من الصالحين، وظنهم أن الناس الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
وفيه البيان العظيم في قوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "(1).
فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين، ونصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، والتصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده، وأن سبب فقد العلم موت العلماء"(2).
وتحت (باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله) أورد الشيخ أن مالكا روى في "الموطأ" ؛ أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(3).
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء (3445).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 56 - 59)، وانظر: "تيسير العزيز الحميد في شرح التوحيد" (ص 270 - 272، 275).
(3) موطأ مالك : كتاب النداء للصلاة (416).(1/38)
ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) } (1) ؛ قال: "كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره"، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: "كان يلت السويق للحاج".
ويقول الشيخ في "ملخصه عن ابن تيمية": "سبب عبادة اللات تعظيم قبر رجل صالح، وهذه هي العلة في تغليظه - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن اتخاذ قبور الصالحين مساجد، ونهيه عن الصلاة في المقبرة، وقد نبه عليها بقوله: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "(2) وقد ذكر هذه العلة الشافعي وأبو بكر الأثرم وغيرهما من العلماء، وهي التي أوقعت كثيرا من الأمم: إما في الشرك الأكبر أو ما دونه؛ فإن الشرك بقبر الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله، ولهذا؛ نجد قوما كثيرا يتضرعون عندها، ويتعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد ولا في السحر؛ فهذه المفسدة هي التي حسم - صلى الله عليه وسلم - مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد بركة البقعة كما يقصد بركة المساجد الثلاثة، كما نهى عن الصلاة وقت الطلوع والغروب والاستواء؛ لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها؛ فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد ذلك الوقت؛ سدا للذريعة، فأما إذا قصد الصلاة عند قبور الصالحين
__________
(1) سورة النجم آية : 19.
(2) موطأ مالك : كتاب النداء للصلاة (416).(1/39)
متبركا؛ فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن الله به؛ فنهى - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذها مساجد، وعن الصلاة عندها، وعن اتخاذها عيدا، ودعا الله أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، واتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إتيانه لعبادة أو غيرها، وتقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها وإليها، وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء والدعاء ضمنا وتبعا"(1).
وينقل الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: "وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات والعزى ومناة، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب؛ فكانت اللات لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحجاج، فلما مات؛ عكفوا على قبره. وأما العزى؛ فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون. وأما مناة؛ فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في "أخبار مكة" وغيره من العلماء، ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس: يا رسول الله لِلَّهِ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 98، ص 90 - 91).(1/40)
فقال: " الله أكبر، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم "(1) فأنكر - صلى الله عليه وسلم - مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم، فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه.
إلى أن قال: "فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق؛ مثل مسجد يقال له مسجد الكف، فيه تمثال كف، يقال: إنه كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن، وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد، وفي الحجاز منها مواضع".
ثم ذكر كلام طويلا في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند القبور، فقال: "العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك، ذكر ذلك الشافعي وغيره، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد؛ كأبي بكر الأثرم، وعللوا بهذه العلة، وقد قال تعالى:
{ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) } (2) الآية.
ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. ذكر هذا البخاري في "صحيحه"، وأهل التفسير كابن جرير وغيره.
ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجسا، وقال عن نفسه:
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء (3456) , وسنن الترمذي : كتاب الفتن (2180) , وسنن ابن ماجه : كتاب الفتن (3994) , ومسند أحمد (2/450 ,2/511 ,2/527 ,5/218 ,5/340).
(2) سورة نوح آية : 23.(1/41)
" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "(1) ؛ فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ سدا للذريعة؛ لئلا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله؛ لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها، وكلا الأمرين قد وقع؛ فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب، ويدعوها بأنواع الأدعية، وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف بعض المشهورين فيه كتابا على مذهب المشركين؛ مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت والجبت، وهم ينتسبون إلى الكتاب؛ كما قال تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } (2) انتهى كلام الشيخ رحمه الله(3).
ويختار الشيخ تحليلات جيدة للأمور التي ضل فيها من ضل من المشركين وأشباههم من المتفلسفة، حيث جعلوا ما يجري بين الخلق بعضهم مع بعض من الأسباب هو مثل ما بينهم وبين الخالق تعالى الله
عن ذلك.
__________
(1) موطأ مالك : كتاب النداء للصلاة (416).
(2) سورة النساء آية : 51.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة)، "مفيد المستفيد" (ص 286 - 288)، وقد نقل الشيخ هذا الكلام من "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكر، وقد اختصره من مواضع من الكتاب. انظر: (ص 313، 314، 316، 318، 404، 405).(1/42)
فيقول الشيخ في "تلخيصه" لهذه النقطة عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن ما بين الخلق من الأسباب الكسبية التي بها يتساءلون ويشفع بعضهم إلى بعض هي من جنس المشاركة، والسبب الآخر الولادة، فالأسباب والصلات التي بينهم لا تخرج عن سبب خلقي وهو الولادة، أو كسبي من جنس المشاركة والمعاوضة، ولهذا؛ افتتح سورة النساء بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (1) الآية.
فذكر في السورة حكم الأسباب من هذا وهذا، فذكر ما يتعلق بالولادة من القرابة والرحم، وما يتعلق بذلك من المواريث والمناكح، وكذلك ما يحصل بينهم بالعقود من المناكح والمواريث والوصايا على اليتامى؛ فالنسب من الأول، والصهر من الثاني؛ كما قال:
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } (2).
فافتتحها بقوله: { الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (3) ثم قال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ } (4) ؛ أي: تتعاهدون وتتعاقدون (والأرحام)؛ فدخل في الأول ما بينهم من التساؤل والتعاقد الذي يجمع المعاوضة والمشاركة، وفي الثاني الولادة وفروعها، وقد نزه الله نفسه المقدسة عنهما، فقال:
{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } (5).
وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } (6).
وقال: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ } (7).
وقال: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } (8) إلى آخرها.
__________
(1) سورة النساء آية : 1.
(2) سورة الفرقان آية : 54.
(3) سورة النساء آية : 1.
(4) سورة النساء آية : 1.
(5) سورة الإسراء آية : 111.
(6) سورة الفرقان آية : 1.
(7) سورة الأنعام آية : 100.
(8) سورة الإخلاص آية : 1.(1/43)
ومن هنا، ضل من ضل من المشركين وأشباههم من المتفلسفة، حيث جعلوا لله ما نسبوه إليه نسب الولادة أو جعلوه كالشريك، ولهذا؛ كانوا يتخذون هؤلاء شفعاء؛ فإنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى، ويتخذوهم وسيطا ووسائل كما يتخذون ذلك عند المخلوقين؛ فهذا أصل مادة هؤلاء الجهلة الضلال ونحوهم، والقرآن قد حسم هذه المادة، وجرد التوحيد، وبين أنه لا نسبة بين المخلوق والخالق إلا نسبة العبودية المحضة؛ كما قال: { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) } (1).
وقال: { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ } (2) وقال: { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } (3)" (4).
وفي قياس الصابئة المشركين طريقتهم في اتخاذ النجوم وسائط معبودة على اتخاذ الحنفاء الرسل متبوعين، ينقل الشيخ ما يفسد هذا القياس من كلام ابن تيمية أيضا، فيقول:
"المشركون من الصابئة ونحوهم لما عبدوا الكواكب والملائكة وجعلوها وسائط بين الله وبين خلقه؛ جادلوا الحنفاء الذين يتبعون الرسل ولا يعبدون إلا الله، فقالوا: نحن نتخذ الروحانيين وسائط، وأنتم تتخذون البشر. فأخذ يعارضهم طائفة كالشهرستاني في "الملل والنحل" وغيره، ويذكرون أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيين، فبنوا معارضتهم على أصل فاسد، وهو مقايسة وسائط أولئك بوسائط الحنفاء، وهذا جهل بدين الحنفاء؛ فإنه ليس بينهم وبين الله واسطة في العبادة، وإنما الرسل بلغتهم أمر الله؛ فهم وسائط في التبليغ؛ كدليل الحاج، وإمام الصلاة، وبعض من دخل دين الصابئة
__________
(1) سورة الأنبياء آية : 26.
(2) سورة النساء آية : 172.
(3) سورة مريم آية : 90.
(4) "مؤلفات الشيخ" (ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 102، ص 95 - 96).(1/44)
والمشركين ظنوا أن شفاعة الرسول لأمته لا تحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المستشفع من غير شعور من الرسول ولا دعاء منه، ومثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة؛ فكذلك الفيض لا بد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة، وجعلوا الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه، وقالوا: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة، فيقوى تأثيرها. وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم كابن سينا وأبي حامد وغيرهم، وهذه من أصول عباد الأصنام، وهي من المقاييس التي قال فيها بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس"(1).
وينقل الشيخ أيضا عن ابن تيمية أن أصل كل شرك في العالم إنما حدث برأي أئمة هؤلاء المتكلمين أصحاب المقاييس المعارضة للوحي، فيقول بعد أن ذكر بعض أحوالهم المخالفة:
"كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم؛ فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك؛ فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما؛ فقد يرجح في غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا؛ فتدبر هذا؛ فإنه نافع جدا.
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 103، ص 96 - 97).(1/45)
ولهذا؛ كان رءوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك أو يأمرون به أو لا يوجبون التوحيد، وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم) ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد؛ فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه، فلو كانوا موحدين بالقول والكلام؛ لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لا بد من أن يعبد الله وحده، ويتخذه إلها دون ما سواه، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله)". انتهى كلام الشيخ ابن تيمية.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "فتأمل رحمك الله هذا الكلام؛ فإنه مثلما قال الشيخ؛ فهو نافع جدا، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين حال من أقرّ بهذا الدين، وشهد أنه الحق، وأن الشرك هو الباطل، وقال بلسانه ما أريد منه، ولكن لا يدين بذلك؛ إما بغضا له أو عدم محبته؛ كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا، وإما إيثارا للدنيا مثل تجارة أو غيرها، فيدخلون في الإسلام، ثم يخرجون منه؛ كما قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } (1) الآية.
وقال تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ } (2) إلى قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ } (3).
فإذا قال هؤلاء بألسنتهم: نشهد أن هذا دين الله ورسوله، ونشهد أن المخالف له باطل، وأنه الشرك بالله؛ غر هذا الكلام ضعيف البصيرة"(4).
__________
(1) سورة المنافقون آية : 3.
(2) سورة النحل آية : 106.
(3) سورة النحل آية : 107.
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة)، "مفيد المستفيد" (ص 299 - 300).(1/46)
ويقول الشيخ سليمان في "شرحه": "ولما كان عباد القبور إنما دُهوا من حيث ظنوا أنهم محسنون، فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة؛ كما قال تعالى: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا } (1) ؛ نوَّع المصنف التحذير من الافتتان بالقبور، وأخرجه في أبواب مختلفة؛ ليكون أوقع في القلب، وأحسن في التعليم، وأعظم في الترهيب"(2).
ويقول الشيخ في "ملخصه عن ابن تيمية": "ومما يبين حكمة الشريعة أنها كسفينة نوح: إن الذين خرجوا عن المشروع خرجوا إلى الشرك، وطائفة منهم يصلون للميت، ويدعو أحدهم الميت، فيقول: اغفر لي وارحمني، ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي لله مستدبرا
الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة(3) وهذا يقوله من هو أكثر عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل أصحاب شيخه لقوله في شيخه.
وآخر من أعيان الشيخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها.
__________
(1) سورة فاطر آية : 8.
(2) "تيسير العزيز الحميد" (ص 277).
(3) وقد سمعت عام 1398هـ نحو هذه العبارة بل أشد، من رجل يتكلم العربية، وأظنه من الهنود اللاجئين إلى باكستان جاء زائرا إلى المسجد النبوي، وقد رأيته متجها نحو القبر يدعو رافعا يديه من مسافة بعيدة عن القبر منحرفا إليه عن القبلة، فلما نبهته إلى القبلة؛ قال لي مثل هذه العبارة، وزاد بتكفير من يخالفه، وقال يخاطبني: "وهابي كافر"!
وهذه الظاهرة نذير خطر من أخطار الشرك، وقد كثرت في هذه الأيام، وأقل ما فيها أنها بدعة منكرة نسأل الله السلامة والاستقامة والهداية، إنه هو السميع العليم.(1/47)
وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد، وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتبا وسموها مناسك حج المشاهد، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإن لم يسموه منسكا وحجا؛ فالمعنى واحد.
وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والصلاح صنف كتاب الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ... وذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة، وكان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة،
وجعل هذا من مناقبه!
وبسبب الخروج عن الشريعة؛ صار بعض الشيوخ ممن يقصده القضاة والعلماء قيل عنه: إنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والذي بالهند الذي للمشركين؛ لأنه يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق، وجاءه بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك على يدك. فقال له: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: اليهود والنصارى أليسوا كفارا؟ قال: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل!
ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات؛ يسافرون إليها وقت الموسم فيعرفون بها، كما يفعل بالمغرب والمشرق.
وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله؛ فليسوا على ملة إبراهيم.
والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته موجود في كلام بعض الناس؛ مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر؛ خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس.
وهؤلاء مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت، فرأوه أتى في(1/48)
الهوى، وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة أو الأنبياء أو الكواكب والأوثان؛ فإن الشيطان يتمثل لهم، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا؛ لطال المقال، وقد طاف هذا بجوابه (يعني: الذي ذكر فيه جواز الاستغاثة بالنبي) على علماء مصر ليوافقه واحد منهم؛ فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته؛ فما خالفوه، مع أن قوما كان لهم غرض، وفيهم جهل بالشرع؛ قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط تعصبهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكائد شيطانهم"(1).
ويورد الشيخ آثارا في سد ذرائع الشرك فيقول: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "(2).
قال الشيخ: "رواه أهل السنن".
ويقول الشيخ: "فيه تفسير الأوثان، وتفسير العبادة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه، وقرنه - صلى الله عليه وسلم - بدعائه أن لا يجعل الله قبره وثنا يعبد إخباره بوعيد اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذكر شدة الغضب من الله على ذلك، وفيه ما هو من أهم هذه المسائل، وهو صفة معرفة اللات التي هي من أكبر الأوثان، ومعرفة أنه قبر رجل صالح، وأنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية، ولعنه زوارات القبور، ولعنه من
أسرجها"(3).
قال الشيخ سليمان في شرحه "تيسير العزيز الحميد لكتاب التوحيد": "أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورا:
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (ملحق المصنفات، رقم 104، ص 97 - 99).
(2) سنن الترمذي : كتاب الصلاة (320) , وسنن النسائي : كتاب الجنائز (2043) , وسنن أبي داود : كتاب الجنائز (3236) , ومسند أحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 64 - 65). وقوله: "تفسير الأوثان"؛ أي: في الحديث بيان معنى الوثن.(1/49)
الأول: التحذير من الغلو في قبور الصالحين.
الثاني: أن الغلو فيها يئول إلى عبادتها.
الثالث: أنها إذا عبدت؛ سميت أوثانا، ولو كانت قبور الصالحين.
الرابع: التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد"(1).
وتحت (باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده؟!) أورد الشيخ أحاديث، فقال: "في الصحيح (ويعني: في "الصحيحين")(2) " عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح؛ بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "(3).
قال الشيخ: "فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل".
قال الشيخ: "لهما (أي: للبخاري ومسلم) عنها (أي: عن عائشة)، قالت: " لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها؛ كشفها، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ؛ يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك؛ أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا "(4) أخرجاه (أي: البخاري ومسلم).
ولمسلم عن جندب بن عبد الله؛ قال: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم؛ كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك "(5).
__________
(1) ص 293 - 294).
(2) "تيسير العزيز الحميد" (ص 277).
(3) صحيح البخاري : كتاب الصلاة (434).
(4) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء (3454) وكتاب اللباس (5816).
(5) صحيح مسلم : كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532).(1/50)
قال الشيخ: "فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبن مسجد، وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا"؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه؛ فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "(1).
وقال الشيخ: "ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه -
مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "(2). ورواه أبو حاتم في "صحيحه".
وقال الشيخ: "فيه ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، وفيه النهي عن التماثيل، فإذا اجتمع الأمران؛ غلظ الأمر.
وفيه العبرة في مبالغته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، كيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق؛ لم يكتف بما تقدم.
وفيه نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر، وبيانه أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، ولعنه إياهم على ذلك، وأن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
وفيه بيان العلة في عدم إبراز قبره، وبيان معنى اتخاذها مسجدا، وأنه قرن بين من اتخذها مساجد وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته، وذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما شرار أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد"(3).
__________
(1) سنن النسائي : كتاب المساجد (736) , وسنن ابن ماجه : كتاب الطهارة وسننها (567) , ومسند أحمد (2/240).
(2) مسند أحمد (1/405 ,1/435 ,1/454).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 60 - 62).(1/51)
ومن أسباب الشرك ووسائله التي يجب القضاء عليها ومنعها: لمس القبر، والتمسح به، وبناء القباب على القبور، والصلاة عندها، وقصدها لأجل الدعاء عندها معتقدا أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره، أو النذر لله في هذا المكان، ونحو ذلك؛ فهذا ليس من دين المسلمين، بل هو مما أحدث من البدع القبيحة التي هي من شعب الشرك.
قال الشيخ: "أما بناء القباب على القبور؛ فيجب هدمها، ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر، وكذلك الصلاة عنده (أي: القبر)، وقصده لأجل الدعاء؛ فكذاك لا أعلمه يصل إلى ذلك، ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك؛ كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "(1) وذكر العلماء أنه يجب التغليظ على هذه الأمور؛ لأنه يفتح باب الشرك؛ كما أنه أول ما حدث في الأرض بسبب ود وسواع ويعوق ونسر، لما عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم يتذكرون بها الآخرة، ثم بعد ذلك بقرون عبدوا؛ فكذلك في هذه الأمة؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب؛ لدخلتموه "(2)(3) ؛ فأول ما حدث الصلاة عند القبور والبناء عليها من غير شرك، ثم بعد ذلك بقرون وقع الشرك، وأول ما جرى من هذا أن بني أمية لما بنوا مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسعوه واشتروا بيوتا حوله، ولم يمكنهم إدخال بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه قبره
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب الصلاة (436) وكتاب أحاديث الأنبياء (3454) وكتاب المغازي (4444) وكتاب اللباس (5816) , وصحيح مسلم : كتاب المساجد ومواضع الصلاة (531) , وسنن النسائي : كتاب المساجد (703) , ومسند أحمد (6/228 ,6/275) , وسنن الدارمي : كتاب الصلاة (1403).
(2) مسند أحمد (2/327 ,2/450 ,2/511 ,3/84 ,3/89).
(3) انظر تخريجه في: (1/ 271) من هذا البحث.(1/52)
وقبر صاحبيه، ولكن أدخلوا البيت في المسجد(1) ؛ لأجل توسيع المسجد، ولم يقصدوا تعظيم الحجرة بذلك، لكن قصدوا تعظيم المسجد، ومع هذا أنكره علماء المدينة، حتى قتل خبيب بن عبد الله بن الزبير بسبب إنكاره ذلك؛ فانظر إلى سد العلماء الذرائع، وأما النذر له (أي: القبر) أو صاحبه ودعاؤه والخضوع له؛ فهو من الشرك الأكبر؛ فتأمل ما ذكره البغوي في تفسير سورة نوح في قوله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا } (2) الآية، وما ذكره أيضا في سورة النجم قي قوله: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) } (3) أن اللات قبر رجل صالح؛ فتأمل الأصنام التي بعثت الرسل بتغييرها كيف تجد فيها قبور الصالحين"(4).
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: " الممنوع مما يفعل عند القبور نوعان:
أحدهما: محرم ووسيلة للشرك؛ كالتمسح بها، والتوسل إلى الله بأهلها، والصلاة عندها، وكإسراجها، والبناء عليها، والغلو فيها
وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة.
والنوع الثاني: شرك أكبر؛ كدعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم؛ فهذا شرك أكبر، وهو عين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم.
__________
(1) يعني ببيت النبي - صلى الله عليه وسلم - : الحجرة التي ضمت قبره وقبر صاحبيه؛ فهذه قد أحاطوها بثلاثة جدران على شكل مثلث قاعدته جنوبي الحجرة لأنه لا يمكنهم إدخالها في المسجد، أما بقية بيوت أزواجه؛ فأدخلوها.
(2) سورة نوح آية : 23.
(3) سورة النجم آية : 19.
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى، ص 60، وص 69 - 71). وانظر: "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، مختصر زاد المعاد، ص 67 - 68، والقسم الأول، مسائل الجاهلية، ص 347 - 348).(1/53)
ولا فرق في هذا بين أن يعتقد الفاعل لذلك أنهم مستقلون في تحصيل مطالبه، أو متوسطون إلى الله؛ فإن المشركين يقولون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (1)، ويقولون { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (2) فمن زعم أنه لا يكفر من دعا أهل القبور حتى يعتقد أنهم مستقلون بالنفع ودفع الضرر، وأن من اعتقد أن الله هو الفاعل وأنهم وسائط بين الله وبين من دعاهم واستغاث بهم لا يكفر، من زعم ذلك؛ فقد كذب ما جاء به الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة؛ من أن من دعا غير الله؛ فهو مشرك كافر في الحالين المذكورين، سواء اعتقدهم مستقلين أو متوسطين، وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ فعليك بهذا التفصيل الذي يحصل به الفرقان في هذا الباب المهم الذي حصل به من الاضطراب والفتنة ما حصل، ولم ينج من فتنته إلا من عرف الحق واتبعه"(3).
وتحت (باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله) يورد الشيخ قول الله تعالى: { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) } (4).
وعن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - ؛ قال: " نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟". قالوا: لا. قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟". قالوا: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم "(5). قال الشيخ: "رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما".
__________
(1) سورة الزمر آية : 3.
(2) سورة يونس آية : 18.
(3) "القول السديد في مقاصد التوحيد" (ص 82 - 84) .
(4) سورة التوبة آية : 108.
(5) سنن أبي داود : كتاب الأيمان والنذور (3313).(1/54)
قال الشيخ: "فيه تفسير قوله: { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } (1)، والمنع من تخصيص البقعة بالنذر إذا كان فيها وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله، أو كان فيه عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله، والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده"(2).
ويذكر الشيخ أن الشيطان - والعياذ بالله منه - أظهر لهؤلاء الغلاة الذين غلوا في الصالحين وفي قبورهم أن دعاءهم أو اتخاذ قبورهم مساجد يدعون عندها ويصلون في صورة المحبة لهؤلاء الصالحين أو القيام بحقوقهم والتعظيم لهم، أما من يخلص لله الدين ولا يغلو في الأولياء والصالحين؛ فقد أظهر الشيطان عمله هذا لهؤلاء الغلاة في صورة تنقص الصالحين، والتقصير في حقوقهم(3).
وتحت (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) يورد الشيخ قول الله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) } (4).
وعن أبي واقد الليثي؛ قال: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة؛ قلنا: يا رسول الله لِلَّهِ اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون"، لتركبن سنن من كان قبلكم ". قال الشيخ: "رواه الترمذي وصححه".
__________
(1) سورة التوبة آية : 108.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، التوحيد، ص 38 - 39).
(3) انظر: "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ستة أصول عظيمة مفيدة، ص 393)، وانظر: "مفيد المستفيد" (ص 291).
(4) سورة النجم آية : 19.(1/55)
يقول الشيخ: "فيه تفسير آية النجم، ومعرفة صورة الأمر الذي طلبوا، وكونهم لم يفعلوا، وكونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه، وأنهم إذا جهلوا هذا؛ فغيرهم أولى بالجهل، وأن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: " الله أكبر، إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم "(1) ؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وفيه الأمر الكبير - وهو المقصود -؛ أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا } (2).
وأن نفي جعل ذات الأنواط للتبرك والعكوف عندها من معنى لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك، ولذا؛ حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة، وفيه أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا، وقولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر": فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك، وفيه سد الذرائع، والنهي عن التشبه بالجاهلية، وأن العبادات مبناها على الأمر، وأن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين، وما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن تحذير لنا أن نقع فيه، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة؛ لقولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر"(3).
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء (3456) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسند أحمد (2/450 ,2/511 ,2/527 ,4/137 ,5/340).
(2) سورة الأعراف آية : 138.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، التوحيد، ص 32 - 34).(1/56)
ويقول الشيخ: "هذه القصة تفيد أن المسلم، بل العالم، قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيد فهمناه: أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان، وتفيد أيضا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري، فنبه على ذلك، فتاب من ساعته؛ أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفيد أيضا أنه لو لم يكفر؛ فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "(1).
وفي بيان حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إبطال أسباب الشرك العملي يورد الشيخ تحت (باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد
وسده كل طريق يوصل إلى الشرك) قول الله تعالى:
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) } (2).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "(3).
قال الشيخ: "رواه أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات".
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص 175).
(2) سورة التوبة آية : 128.
(3) سنن أبي داود : كتاب المناسك (2042).(1/57)
وعن علي بن الحسين، أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليّ؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم "(1) رواه في "المختارة"(2).
قال الشيخ: "فيه تفسير آية براءة، وإبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد، وذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته، ونهيه عن زيارة قبره على
وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال، ونهيه عن الإكثار من الزيارة، وحثه على النافلة في البيت، وأنه متقرر عندهم أنه لا يصلي في المقبرة، وتعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد؛ فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب، وكونه - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه"(3).
أما بيان حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إبطال أسباب الشرك حتى في الأقوال، فيورد الشيخ تحت (باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسده طرق الشرك) حديثا عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - ؛ قال: " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا. فقال: "السيد الله تبارك وتعالى". قلنا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا؟ فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان "(4). قال الشيخ: "رواه أبو داود بسند جيد".
__________
(1) مسند أحمد (2/367).
(2) "المختارة": كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على "الصحيحين"، ومؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام، توفي سنة 643 هـ.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 66 - 67).
(4) سنن أبي داود : كتاب الأدب (4806).(1/58)
وعن أنس - رضي الله عنه - ؛ " أن ناسا قالوا: يا رسول الله! يا خيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فقال: "يا أيها الناس! قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل - "(1). قال الشيخ: "رواه النسائي بسند جيد".
قال الشيخ: "فيه تحذير الناس من الغلو، وما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا، وقوله: "لا يستجرينكم الشيطان"، مع أنهم لم يقولوا إلا الحق، وقوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي" "(2).
ضرر الشرك وخطره
وعن خطورة الشرك وقبحه وضرره؛ فالشيخ يبين ذلك بيانا بليغا من القرآن والسنة، وأن الحكمة في كون الله سبحانه يغفر الكبائر ولا يغفر الشرك هي لأنه أقبح المسبة لله تعالى، وهو الذي لا يبرأ من السوء والنقص والعيب سواه، ولا ينبغي الحمد والثناء مطلقا إلا له سبحانه لكماله؛ فالشرك أعظم الظلم، ولا تسعه المغفرة التي هي صفة كمال له، سبحانه وتعالى عما يشركون(3).
ويقرر الشيخ أن الشرك إذا دخل في العبادة، بطلت ولم تقبل، وأن كل ذنب يرجى له العفو؛ إلا الشرك، والدليل قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) } (4).
وقال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) } (5).
وقال تعالى:
{
__________
(1) مسند أحمد (3/249).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 146 - 147).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، التفسير، ص 347، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 20 - 21).
(4) سورة الزمر آية : 65.
(5) سورة النساء آية : 116.(1/59)
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) } (1)(2).
ويقول الشيخ في موضع آخر: "إن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة؛ فسدت؛ كالحدث إذا دخل في الطهارة، فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة؛ أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار؛ عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله تعالى"(3).
ويقرر الشيخ في موضع ثالث خطورة الشرك ببيان أن الإنسان إذا لم يجتنب الشرك؛ فهو كافر، ولو كان من أعبد هذه الأمة؛ يقوم الليل، ويصوم النهار، قال الله تعالى في الأنبياء: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) } (4) وتصير عبادته كلها كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة، أو كمن يصوم في شدة الحر وهو يزني في أيام الصوم.
ويبين الشيخ أهمية معرفة هذا الشرك قبل معرفة الزنى وغيره من المحرمات(5).
ولما كان الشرك ناقضا للعبادة ومفسدا لها وظلما عظيما وأقبح مسبة لله تعالى؛ كان أعظم ذنب عصي الله به، ولهذا؛ رتب الله عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه؛ من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه.
__________
(1) سورة المائدة آية : 72.
(2) "الدرر السنية" (ج2، ص 3 - 4).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع، ص 199 - 202).
(4) سورة الأنعام آية : 88.
(5) "الدرر السنية" (ج 1 ، ص 93).(1/60)
ولما كان الشرك خطيرا مخوفا من وقوعه؛ عقد الشيخ بابا في مؤلفه "كتاب التوحيد" أورد فيه ما جاء من التخويف منه والتحذير، وبيان أنه يقع في الأمة، ولذا؛ يخاف منه المسلم، فقال الشيخ: "باب الخوف من الشرك"، ثم أورد تحت هذا الباب الأدلة من الكتاب والسنة مثل قول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1)، وقول الله تعالى عن الخليل: أنه قال يدعو ربه: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) } (2).
وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه؟ فقال: الرياء "(3) رواه أحمد والطبراني والبيهقي.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا ؛ دخل النار "(4). رواه البخاري.
ولمسلم عن جابر - رضي الله عنه - ؛ " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لقي الله لا يشرك به شيئا ؛ دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا؛ دخل النار "(5).
__________
(1) سورة النساء آية : 48.
(2) سورة إبراهيم آية : 35.
(3) مسند أحمد (5/428 ,5/429).
(4) صحيح البخاري : كتاب تفسير القرآن (4497).
(5) صحيح مسلم : كتاب الإيمان (93).(1/61)
قال الشيخ: "فيه الخوف من الشرك، وأن الرياء من الشرك الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين، وأن من لقي الله لا يشرك به شيئا؛ دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا؛ دخل النار، ولو كان من أعبد الناس. وفيه المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام، واعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } (1) وفضيلة من سلم من الشرك"(2).
إذًا؛ فالشرك خطير؛ ينافي التوحيد، ويوجب دخول النار والخلود فيها، وحرمان الجنة إذا كان أكبر، ولا تتحقق وتكمل السعادة إلا بالسلامة منه، وكان حقا على العبد أن يخاف منه أعظم خوف، وأن يسعى في الفرار منه ومن طرقه ووسائله وأسبابه، ويسأل الله العفو والعافية منه؛ كما فعل ذلك الأنبياء والأصفياء وخيار الخلق(3).
ولأن عباد القبور الذين يفعلون الشرك يقولون: إنه لا يقع الشرك
__________
(1) سورة إبراهيم آية : 36.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 18 - 19، وانظر: ص 21)، وانظر: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" (ص 89 - 90)، و "القول السديد في مقاصد التوحيد" (ص 29 - 31) .
(3) انظر: "القول السديد في مقاصد التوحيد" لابن سعدي (ص 30 - 31) .(1/62)
في هذه الأمة المحمدية، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولو ظهر منهم دعاء الأموات، والذبح لهم، والطواف حول قبورهم، والنذر لهم، والاعتقاد فيهم؛ فهذا ليس شركا، والشرك لا يقع؛ فقد أراد الشيخ الرد عليهم بالباب الذي عقده في "كتاب التوحيد"، وترجمته: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)، وأورد تحته ما يناسب من أدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ بيَّن فيها ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة، ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى(1).
وهذه الأدلة هي قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) } (2).
وقوله تعالى:
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } (3).
وقوله تعالى:
{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) } (4).
عن أبي سعيد - رضي الله عنه - " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة(5) حتى لو دخلوا جحر ضب؛ لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ !" " أخرجاه.
__________
(1) انظر: "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" (ص 315).
(2) سورة النساء آية : 51.
(3) سورة المائدة آية : 60.
(4) سورة الكهف آية : 21.
(5) القذة)؛ بضم القاف: واحدة القذذ، وهو ريش السهم.(1/63)
ولمسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا "(1) رواه البرقاني في "صحيحه" وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، حتى
يأتي أمر الله تبارك وتعالى "(2)(3).
قال الشيخ: "فيه تفسير آية النساء، وتفسير آية المائدة، وتفسير آية الكهف، وفيها - وهي أهمها - ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؛ هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟".
__________
(1) صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة (2889) , وسنن الترمذي : كتاب الفتن (2176) , وسنن أبي داود : كتاب الفتن والملاحم (4252) , ومسند أحمد (5/284).
(2) سنن أبي داود : كتاب الفتن والملاحم (4252) , ومسند أحمد (5/278).
(3) تقدم إيراد هذا الحديث وتخريجه، وترجمة البرقاني أيضا. (انظر: 1/ 432) من هذا البحث .(1/64)
يقصد الشيخ أن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب وافقوا المشركين في الظاهر، أما في قلوبهم؛ فيعتقدون بطلانها ويعرفونه، ومع ذلك قالوا: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين؛ فبمجرد هذه الموافقة للمشركين في الظاهر؛ فقد آمنوا بالجبت والطاغوت(1).
قال الشيخ: "وفيها مسألة، وهي المقصودة بالترجمة؛ أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة؛ كما تقرر في حديث أبي سعيد.
وفيها التصريح بوقوعها (أعني: عبادة الأوثان في هذه الأمة) في جموع كثيرة.
__________
(1) انظر سبب نزولها في "تفسير ابن جرير الطبري". قال ابن جرير: "حدثنا محمد ابن المثنى ثنا ابن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس؛ قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة؛ قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم؟ قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خيرا منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه؟ قال: فأنزلت: /4 إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ /4 ، وأنزلت: /4 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ /4 إلى قوله: /4 فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا /4 ". ابن جرير "التفسير" (ج 5، ص 133). والحديث؛ ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره" من رواية الإمام أحمد؛ قال: "حدثنا محمد بن أبي عدي به"، وذكر قريبا منه من رواية ابن أبي حاتم، ثم قال ابن كثير: "وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف". (ابن كثير، التفسير، ج 1، ص 513)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" كما في "موارد الظمآن في زوائد ابن حبان" (ص 428).(1/65)
وفيها العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا؛ يصدَّق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة؛ يعني: فلا يستبعد تصديق من يدعي أن الشرك الأكبر لا يكفر صاحبه إذا كان يقول: لا إله إلا الله؛ كما جرى من المختار.
وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة، والآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وأن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
وفيها حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين، والتنبيه على معنى عبادة الأوثان"(1).
ويعلق الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في "القول السديد" على هذا الباب: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأصنام)؛ فيقول:
"مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه، وأنه أمر واقع في هذه الأمة لا محالة، والرد على من زعم أن من قال: لا إله إلا الله، وتسمى بالإسلام؛ أنه يبقى على إسلامه، ولو فعل ما ينفيه من الاستغاثة بأهل القبور ودعائهم، وسمى ذلك توسلا لا عبادة؛ فإن هذا باطل؛ فإن الوثن اسم جامع لكل ما عبد من دون الله، لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية، ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع، وهو العبادة؛ فإنها حق الله وحده، فمن دعا غير الله أو عبده؛ فقد اتخذه وثنا، وخرج بذلك عن الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام؛ فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد وكافر ومنافق! والعبرة بروح الدين وحقيقته، لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها"(2).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 68 - 71)، "مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد" (ص 296 - 310، وص 311).
(2) "القول السديد في مقاصد التوحيد" (ص 89 - 92) .(1/66)
وقد ذكر الشيخ معنى الطاغوت ورءوس أنواعه وصفة الكفر به، فقال:
"الطاغوت عام؛ فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع فى غير طاعة الله ورسوله؛ فهو طاغوت، ورءوسهم خمسة: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله تعالى، والحاكم الجائر المغير لأحكام الله تعالى، والذي يحكم بغير ما أنزل
الله، والذي يدعي علم الغيب من دون الله، والذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة. وأما صفة الكفر بالطاغوت؛ فهو أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم"(1).
وما ذكره الشيخ عن معنى الطاغوت هو ما ذكره ابن جرير الطبري في "تفسيره"، فقال ابن جرير الطبري:
"الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان، وإذا كان كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها؛ كانت معظمة بالعبادة من دون الله؛ فقد كانت جبوتا وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف؛ لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فكانا جبتين وطاغوتين"(2).
وكذلك ابن القيم ذكر معنى الطاغوت، فقال: "الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، معنى الطاغوت، ص 376 - 378) .
(2) "تفسير ابن جرير الطبري" (5/ 133) .(1/67)
طواغيت العالم، إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس؛ رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعة الله ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة، وهم الصحابة ومن تبعهم، ولا قصدوا قصدهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معا"(1).
شبهات وكشفها
هذا وللمشركين شبه كثيرة وحجج ومعارضات يتوصلون بها إلى الشرك وإبطال التوحيد، ولو قامت شبههم؛ لقامت الفتنة، وأصبح الدين مفرقا، ليس كله لله تعالى، ولكن الشيخ كشف شبههم واحدة واحدة، ونقضها حتى أبطلها جميعا، وحاصل هذه الشبه يمكن تصويره في سبع شبهات هي:
1- أن الشرك لا يكون فيمن يشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، ولكنه يقصد أولياء الله والصالحين؛ لأن لهم جاه وشفاعة عند الله تعالى وهو مذنب، فيدعوهم ويستغيث بهم ويذبح لهم وينذر لهم ليشفعوا له عند الله تعالى لا غير.
2- والشرك إنما هو فيمن يعبد الأصنام، والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام، فمن يدعوهم؛ ليس مثل من يدعو الأصنام.
3- أن من يقصد الصالحين والأولياء بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك ليس مشركا، وليست هذه الأمور شركا؛ لأنه وهو يفعل
ذلك لا يريد منهم، وإنما يطلب من الله شفاعتهم؛ فهذا ليس عبادة لهم، ولا شركا بالله تعالى، بل توسل بهم.
4- أنه وهو يقصدهم بهذا الفعل إنما يطلبهم مما أعطاهم الله تعالى، وقد أعطاهم الشفاعة والجاه والقرب لديه، ولا سيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن قيم الجوزية (ج 1، ص 55).(1/68)
5- قالوا: وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى؛ فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك في قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار؛ أن جبريل عرض عليه الإغاثة؛ قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركا.
6- ويقولون: إن المشركين هم الذين نزل فيهم القرآن أولا، وهم لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحرا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم؛ فكيف تجعلوننا مثل أولئك المشركين؛ لأننا قصدنا أولياء الله ليشفعوا لنا فحسب؟!(1/69)
7- ويقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله... وقال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "(1) وأحاديث أخر بهذا المعنى في الكف عمن قالها، فمن قالها؛ لا يكفر ولا يقتل، ولو فعل ما فعل.
هذا هو حاصل الشبه التي يشبه بها المشركون ممن يدعي الإسلام، ويريد قلب الحقائق، فيجعل التوحيد إلحادا، والإلحاد توحيدا.
وقد كشف الشيخ هذه الشبه ونقضها، فبطلت بكتاب الله المحكم وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الحاكمة، والحق القائم الذي أحقه الله بكلماته الكونية كما أحقه بكلماته الشرعية.
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب الصلاة (393) وكتاب الزكاة (1400) وكتاب الجهاد والسير (2946) وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) , وصحيح مسلم : كتاب الإيمان (20 ,21) , وسنن الترمذي : كتاب الإيمان (2606 ,2607) وكتاب تفسير القرآن (3341) , وسنن النسائي : كتاب الزكاة (2443) وكتاب الجهاد (3090 ,3091 ,3092 ,3093 ,3095) وكتاب تحريم الدم (3970 ,3971 ,3972 ,3973 ,3974 ,3975 ,3976 ,3977 ,3979 ,3982) , وسنن أبي داود : كتاب الزكاة (1556) وكتاب الجهاد (2640) , وسنن ابن ماجه : كتاب الفتن (3927 ,3928 ,3929) , ومسند أحمد (1/11 ,1/19 ,1/35 ,1/47 ,2/377 ,2/423 ,2/475 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394 ,4/8) , وسنن الدارمي : كتاب السير (2446).(1/70)
ونورد كيف بين الشيخ كشفه لهذه الشبهات، فقال ما معناه: "إن الشبهة الأولى - وهي قولهم: إن الشرك لا يكون فيمن يشهد أن الله هو النافع الضار المدبر ولو دعا غيره واستغاث به وذبح له ونذر له ليشفع له ويقر به عند الله - إن هذه مقالة المشركين الأوائل سواء بسواء، وهم الذين كفرهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستحل دماءهم وأموالهم، وسبى نساءهم وذراريهم، مع إقرارهم بأن الله هو النافع الضار الخالق المدبر؛ بدليل قول الله تعالى:
{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) } (1) وغير هذه الآية من الآيات الكثيرة.
وأن هؤلاء المشركين يقولون ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب
القربى والشفاعة؛ بدليل قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (2) وقوله تعالى: { وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (3).
__________
(1) سورة يونس آية : 31.
(2) سورة الزمر آية : 3.
(3) سورة يونس آية : 18.(1/71)
وكشف الشيخ الشبهة الثانية - وهي قولهم: إن الشرك إنما هو فيمن يعبد الأصنام، والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام، فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام - بما ذكر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة من الحكم بكفر جميع من يدعو غير الله تعالى مهما كان هذا الغير، سواء كان نبيا أو ملكا أو من دونهما، أو دعا طاغوتا أو صنما؛ فالحكم على من دعا غير الله واحدة، ولم يفرق الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بين من يعبد الأصنام وبين من يعبد الصالحين في الحكم، بل الجميع يحكم عليهم بأنهم مشركون بالله.
ويقول الشيخ في قوله تعالى:
{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) } (1) إلى قوله تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (2).
يقول : "فيه مسائل فيها أنواع من بطلان الشرك وتقبيحه:
الأولى: الجواب عن قول المشركين: هذا في الأصنام وأما الصالحون فلا: قوله: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ } (3) : عام فيما سوى الله.
الثانية: أن المسلم إذا أطاع من أشار عليه في الظاهر؛ كفر، ولو كان باطنه يعتقد الإيمان؛ فإنهم لم يريدوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تغيير عقيدته؛ ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب إلى الإسلام في إظهار الموافقة للمشركين خوفا منهم، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قلبه كارها له.
__________
(1) سورة الزمر آية : 64.
(2) سورة الزمر آية : 63.
(3) سورة الزمر آية : 60.(1/72)
الثالثة: أن الجهل وسخافة العقل هو موافقتهم في الظاهر، وأن العقل والفهم والذكاء هو التصريح بمخالفتهم، ولو ذهب مالك؛ خلافا لما كان عليه أهل الجهل من اعتقاد أن بذل دينك لأجل مالك هو العقل، وذلك في آخر الآية (أيها الجاهلون)"(1).
ويقول الشيخ: "فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكن هؤلاء الصالحون مقربون، ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم ونريد بذلك الوجاهة والشفاعة، وإلا؛ فنحن نفهم أن الله هو الخالق الرازق المدبر. فقل: كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله؛ فإنهم يدعون عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك؛ كما قال الله تعالى:
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (2).
وقال تعالى:
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (3).
وكشف الشيخ الثالثة، وهي قولهم: إن من يقصد الصالحين بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك ليس مشركا، وليست هذه الأمور شركا، بل هي توسل بهؤلاء الأولياء.
فأجاب الشيخ بأن الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحوها مما أمر الله أن يتقرب العبد به إليه؛ فهو عبادة، وكل أنواع العبادة لا يجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى، والشرك إنما هو في العبادة وفي أنواعها، وصرف شيء من أنواعها كصرف مجموعها؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك معه غيره؛ تركه وشركه، وقولهم: إن التوجه بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحوها إلى غير الله لا يريد منه وإنما يريد من الله بشفاعته ليس عبادة؛ قد أبطله الله بأنه سماه عبادة؛ كما تقدم من قوله تعالى:
{
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، التفسير، ص 344).
(2) سورة الزمر آية : 3.
(3) سورة يونس آية : 18.(1/73)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } (1)(2).
وقال الشيخ رحمه الله في كشف تسميتهم دعاء الأموات والأولياء بالتوسل ليتوصلوا إلى جوازه:
الدعاء الذي يفعل في هذا الزمان أنواع:
النوع الأول: دعاء الله وحده لا شريك له الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
النوع الثاني: أن يدعو الله ويدعو معه نبيا أو وليا، ويقول: أريد شفاعته، وإلا، فأنا أعلم ما ينفع ولا يضر إلا الله، لكن أنا مذنب، وأدعو هذا الصالح لعله يشفع لي؛ فهذا الذي فعله المشركون وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتركوه، ولا يدعو مع الله أحدا لا لطلب شفع ولا نفع.
النوع الثالث: أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أو بالأنبياء أو الصالحين؛ فهذا ليس شركا، ولا نهينا الناس عنه على أنه شرك، ولكن المذكور عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم أنهم كرهوه، لكن؛ ليس مما نختلف نحن وغيرنا فيه"(3).
__________
(1) سورة يونس آية : 18.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كشف الشبهات، ص 160) وما بعدها .
(3) "الدرر السنية" (الطبعة الثانية، ج 2، ص 43).(1/74)
وسئل الشيخ رحمه الله عن قول بعض الفقهاء في الاستسقاء: لا بأس ب التوسل بالشيوخ والعلماء المتقين وقولهم: يجوز أن يستشفع إلى الله برجل صالح، وقيل: يستحب، وقول أحمد: إنه يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه، والفرق بين هذا القول وقول أحمد وغيره في قوله عليه الصلاة والسلام: " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق "(1).
الاستعاذة لا تكون بمخلوق؛ فما معنى هذا؟ وما العمل عليه منهما؟
فأجاب بقوله: "قولهم في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالصالحين، وقول أحمد: يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، مع قولهم: إنه لا يستغاث بمخلوق؛ فالفرق ظاهر جدا، وليس الكلام مما نحن فيه؛ فكون بعض يرخص بالتوسل بالصالحين، وبعضهم يخصه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه؛ فهذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور أنه مكروه؛ فلا ننكر على من فعله، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر، يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر أو غيره، يطلب فيه تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات؛ فأين هذا ممن يدعو الله مخلصا له الدين لا يدعو مع الله أحدا، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده، ولكن لا يدعو إلا الله مخلصا له الدين؛ فأين هذا مما نحن فيه؟!"(2).
__________
(1) صحيح مسلم : كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708 ,2709) , وسنن الترمذي : كتاب الدعوات (3437 ,3966) , وسنن أبي داود : كتاب الطب (3898) , وسنن ابن ماجه : كتاب الطب (3518) , ومسند أحمد (2/290 ,2/375 ,3/448 ,5/430 ,6/378 ,6/409) , وموطأ مالك : كتاب الجامع (1774) , وسنن الدارمي : كتاب الاستئذان (2680).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى، ص 59، 60، 68، 69) .(1/75)
وهكذا كشف الشيخ تلبيسهم، حيث جعلوا دعاء غير الله توسلا، ببيان ما هو التوسل الحقيقي في الدعاء، والفرق بينه وبين دعاء غير الله تعالى، وأن التوسل مسألة خارجة عن موضوع النزاع، وهو دعاء غير الله تعالى.
وكشف الشيخ الرابعة - وهي قولهم: إنهم يطلبون الأنبياء والأولياء مما أعطاهم الله تعالى، وقد أعطاهم الشفاعة والجاه والقرب لديه، ولا سيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الله تعالى وإن أعطاهم ما أعطاهم؛ فقد نهى أن يطلب منهم الشفاعة والزلفى عند الله، وأمر بأن يطلب ذلك منه وحده لا شريك له، فيقول: "اللهم شفع فيّ نبيك" مثلا، ذلك أن الشفاعة لله جميعا، ولا يشفع عند الله أحد إلا من بعد إذنه، والله سبحانه لم يأذن بأن نطلب من الميت ذلك، وأما الحي؛ فالذي يطلب منه دعاؤه، وهذا عام في جميع الصالحين الأحياء القادرين على الدعاء.
والمقصود أن الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة ونحوها مما أمر الله أن يعبد به لا بد من أن تؤدى لله خالصة، لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) } (1).
وغير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي بينها الشيخ للدلالة على الإخلاص في جميع أنواع العبادة، ومن أنواعها طلب الشفاعة من الله لديه، فيتوجه بذلك الطلب والرغبة والقصد إلى الله مباشرة وبدون واسطة؛ كما قال تعالى:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } (2).
فلا تطلب الشفاعة من غير الله تعالى؛ لأن الشفاعة كلها له سبحانه، قال تعالى: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } (3).
__________
(1) سورة الجن آية : 18.
(2) سورة البقرة آية : 186.
(3) سورة الزمر آية : 44.(1/76)
ولا يشفع أحد في أحد إلا من بعد أن يأذن الله تعالى؛ كما قال سبحانه: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } (1).
وكما قال تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } (2).
والله لا يرتضي أن تطلب الشفاعة من أحد إلا بإذنه، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد.
قال الله تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) } (3).
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) } (4).
وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) } (5).
وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } (6).
__________
(1) سورة البقرة آية : 255.
(2) سورة الأنبياء آية : 28.
(3) سورة الجن آية : 18.
(4) سورة الجن آية : 20.
(5) سورة النساء آية : 48.
(6) سورة سبأ آية : 22.(1/77)
قال الشيخ: "قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } (1) ؛ فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة؛ كما نفاها القرآن، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: " ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع "(2) وقال أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك؛ قال: من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه "(3) ؛ فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص،
فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود.
ف الشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها من شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص" اهـ كلام ابن تيمية.
قال الشيخ: "فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد؛ تبين لك أن الشفاعة كلها لله؛ فاطلبها منه، وقل: اللهم لا تحرمني شفاعة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - اللهم شفعه في... وأمثال هذا.
__________
(1) سورة الأنبياء آية : 28.
(2) سنن الترمذي : كتاب تفسير القرآن (3148) , ومسند أحمد (1/4).
(3) صحيح البخاري : كتاب العلم (99) وكتاب الرقاق (6570).(1/78)
وأيضا؛ فإن الشفاعة أعطيها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة؛ فاطلبها منهم، فإن قلت هذا؛ رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا؛ بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله"(1).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في "فتح المجيد" : "وأما الاستشفاع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته؛ فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصا به - صلى الله عليه وسلم - بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له؛ فلا بأس أن
يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة؛ كما " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك "(2)(3).
والحديث؛ رواه الإمام أحمد في "المسند" عن عبد الله بن عمر؛ " أن عمر استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمرة؛ فأذن له، فقال: " يا أخي! أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا "(4).
قال عبد الرزاق في حديثه: فقال عمر:"ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي"(5).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، كشف الشبهات، ص 165-166، وكتاب التوحيد، باب الشفاعة، ص51-53، ومسائل الجاهلية، ص 351، والقسم الخامس،الشخصية، رقم 17، ص 112-113، ورقم 8، ص52،54 ).
(2) سنن أبي داود : كتاب الصلاة (1498).
(3) "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" (ص 515، طبعة راجعها الشيخ عبد العزيز بن باز).
(4) مسند أحمد (2/59).
(5) انظر: "المسند" (ج1، ص29، ج2، ص59 ).(1/79)
وكشف الشيخ الخامسة، وهي قولهم: يستدلون على جواز الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ودعائه كذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى؛ فكلهم يعتذرون، حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ويستدلون كذلك بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما ألقي في النار؛ عرض جبريل الإغاثة، فلو كانت شركاً؛ لم يعرضها جبريل عليه السلام.
فكشفها الشيخ ببيان أن المنكر هو استغاثة العبادة التي تفعل عند القبر وسائر القبور، أو تفعل في غيبة المستغاث به، والتي يطلب بها ما لا يقدر عليه إلا الله وحده من غير الله تعالى.
أما استغاثة الناس يوم القيامة بالأنبياء ليدعوا لهم؛ فهذا جائز، بل يجوز في الدنيا وفي الآخرة أن يطلب الشخص من حي صالح حاضر يسمع قوله ويقدر أن يدعو الله له.
وكذلك استغاثة إبراهيم بجبريل لو وقعت؛ فهي في أمر يقدر عليه جبريل عليه السلام؛ فهو كما وصفه الله شديد القوى؛ ففي مقدوره أن يغيث إبراهيم مثل قوي في مقدوره أن يغيث عاجزا بقوته؛ كما فعل موسى بالقبطي إغاثة للذي من شيعته.
وكشف الشيخ السادسة، وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحرا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم؛ فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟!(1/80)
فكشفها الشيخ ببيان نواقض الإسلام، وبيان أحكام المرتد، وأنه الذي يكفر بعد إسلامه، وبيان أن النواقض للإسلام لا يصح معها إسلام ولا عمل، كما لا تصح الصلاة مع ناقض من نواقض الوضوء؛ فالشرك مثلا يفسد العبادة، ويفسد قول: لا إله إلا الله، مهما كانت العبادة كثيرة، ولو أمثال الجبال؛ فالشرك يفسدها ويحبطها ويجعلها هباء منثورا؛ لأن الإسلام والشرك لا يجتمعان، فمن ادعى بقاء إسلامه مع ممارسته الشرك؛ فهو كاذب؛ قال الله تعالى: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) } (1).
قال الشيخ: "فيها المسألة الكبرى، وهي كشف شبهة علماء المشركين، الذين يقولون: هذا شرك، ولكن لا يكفر من فعله؛ لكونه يؤدي الأركان الخمسة، فإذا كان الأنبياء لو يفعلونه كفروا؛ فكيف بغيرهم؟! وأن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة؛ فإن هذا الذي ذكرهم الله لم يريدوا منه - صلى الله عليه وسلم - تغيير العقيدة، بل إذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لأجل ماله أو بلده أو أهله مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم؛ فهذا كافر؛ إلا من أكره(2).
وقال تعالى: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) } (3).
ويقول الشيخ: "إنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله في شيء وكذبه في شيء؛ أنه كافر، لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه؛ كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج.
ولما لم ينقد أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج؛ أنزل الله في حقهم:
{
__________
(1) سورة الزمر آية : 65.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الرابع، التفسير، ص 345).
(3) سورة الأنعام آية : 88.(1/81)
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) } (1).
ومن أقر بهذا كله، وجحد البعث؛ كفر بالإجماع، وحل دمه وماله؛ كما قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) } (2).
فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض؛ فهو الكافر حقا، وأنه يستحق ما ذكرت؛ زالت الشبهة.
وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.
ويقال أيضاً: إن كنت تقر أن من صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة؛ أنه كافر، حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله؛ لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا؛ فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم -
وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج؛ فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور؛ كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم؛ لا يكفر، سبحان الله لِلَّهِ ما أعجب هذا الجهل!
__________
(1) سورة آل عمران آية : 97.
(2) سورة النساء آية : 150.(1/82)
ويقال أيضا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون. فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي. فقل: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كفر، وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان، ولا الصلاة؛ فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيا أو نبيا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؛ سبحان الله! ما أعظم شأنه!.
{ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) } (1).
ويقال أيضا: الذين حرقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما؛ فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟! أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟! أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟!
ويقال أيضا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في
زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون، حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
__________
(1) سورة الروم آية : 59.(1/83)
ويقال أيضا: إذا كان الأولون لم يكفروا، إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك؛ فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب: (باب حكم المرتد)، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها؛ مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضا: الذين قال الله فيهم: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ } (1).
أما سمعت الله كفرهم بكلمة، مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاهدون معه، ويصلون، ويزكون، ويحجون، ويوحدون؟
وكذلك الذين قال الله فيهم:
{ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (2).
فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.
فتأمل هذه الشبهة، وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها؛ فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ومن الدليل على ذلك أيضا ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم؛ أنهم قالوا لموسى:
{
__________
(1) سورة التوبة آية : 74.
(2) سورة التوبة آية : 65.(1/84)
اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ } (1) وقول أناس من الصحابة: اجعل لنا ذات أنواط. فحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا نظير قول بني إسرائيل: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا } (2) ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - اجعل لنا ذات أنواط؛ لم يكفروا.
فالجواب أن تقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك
الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك؛ لكفروا، وكذلك؛ لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لو لم يطيعوه، واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه؛ لكفروا، وهذا هو المطلوب.
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم، بل العالم، قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيد فهمناه؛ أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان. وتفيد أيضا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري، فنبه على ذلك، فتاب من ساعته؛ أنه لا يكفر؛ كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - . وتفيد أيضا أنه لو لم يكفر؛ فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا؛ كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... انتهى.
ويقول الشيخ: "إن هذه الشبهة هي من أعظم شبههم؛ فأصغ سمعك لجوابها"(3) ؛ لذا نقلت جوابه بنصه.
وأشير إلى أن الشيخ ألف رسالة أخرى في هذه المسألة، وهي "مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد"(4).
وكشف الشيخ الشبهة السابعة، وهو قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر
__________
(1) سورة الأعراف آية : 138.
(2) سورة الأعراف آية : 138.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص 171-175).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة)، "مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد" (ص 279-329).(1/85)
على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله، وكذلك قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "(1) وأحاديث أخر في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل، فكشف الشيخ هذه الشبهة ببيان أن من قالها؛ وجب الكف عنه؛ إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك؛ كدعاء الأولياء وقصدهم فيما هو من حق الله تعالى.
فأما حديث أسامة؛ فإنه قتل رجلا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام؛ وجب الكف عنه، حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } (2).
أي: فتبينوا؛ فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام؛ قتل، لقوله تعالى: (فتبينوا)، ولو كان لا يقتل إذا قالها؛ لم يكن للتثبت معنى.
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب الصلاة (393) وكتاب الزكاة (1400) وكتاب الجهاد والسير (2946) وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) , وصحيح مسلم : كتاب الإيمان (20 ,21) , وسنن الترمذي : كتاب الإيمان (2606 ,2607) وكتاب تفسير القرآن (3341) , وسنن النسائي : كتاب الزكاة (2443) وكتاب الجهاد (3090 ,3091 ,3092 ,3093 ,3095) وكتاب تحريم الدم (3970 ,3971 ,3972 ,3973 ,3974 ,3975 ,3976 ,3977 ,3979 ,3982) , وسنن أبي داود : كتاب الزكاة (1556) وكتاب الجهاد (2640) , وسنن ابن ماجه : كتاب الفتن (3927 ,3928 ,3929) , ومسند أحمد (1/11 ,1/19 ,1/35 ,1/47 ,2/377 ,2/423 ,2/475 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394 ,4/8) , وسنن الدارمي : كتاب السير (2446).
(2) سورة النساء آية : 94.(1/86)
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكر أن من أظهر التوحيد والإسلام؛ وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك، والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: " أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله ؟! "(1) وقال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "(2) هو الذي قال في الخوارج: " أينما لقيتموهم؛ فاقتلوهم، لئن أدركتهم؛
__________
(1) مسند أحمد (5/200).
(2) صحيح البخاري : كتاب الصلاة (393) وكتاب الزكاة (1400) وكتاب الجهاد والسير (2946) وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) , وصحيح مسلم : كتاب الإيمان (20 ,21) , وسنن الترمذي : كتاب الإيمان (2606 ,2607) وكتاب تفسير القرآن (3341) , وسنن النسائي : كتاب الزكاة (2443) وكتاب الجهاد (3090 ,3091 ,3092 ,3093 ,3095) وكتاب تحريم الدم (3970 ,3971 ,3972 ,3973 ,3974 ,3975 ,3976 ,3977 ,3979 ,3982) , وسنن أبي داود : كتاب الزكاة (1556) وكتاب الجهاد (2640) , وسنن ابن ماجه : كتاب الفتن (3927 ,3928 ,3929) , ومسند أحمد (1/11 ,1/19 ,1/35 ,1/47 ,2/377 ,2/423 ,2/475 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394 ,4/8) , وسنن الدارمي : كتاب السير (2446).(1/87)
لأقتلنهم قتل عاد "(1) ؛ مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا وتسبيحا، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة، وكذلك ما ذكر في جوابه في السادسة وكشفها من قتال اليهود وهم يقولونها، وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (2) وكان الرجل كاذبا عليهم.
قال الشيخ: "وكل هذا يدل على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي احتجوا بها وجوب الكف عمن قالها حتى يتبين منه مخالفتها(3).
وبهذا انتهى هذا الفصل، وبنهايته ينتهي الباب الأول، وهو ما يخص عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية.
وحيث قد أتينا على ذكر عقيدة الشيخ من جانبيها: جانب عرضها من خلال بيان منهجه وجملة عقيدته في الإيمان وأركانه؛ في التوحيد من مقاميه: المقام الخبري، والمقام الطلبي، وفي نواقض عقيدة السلف الصالح أو نواقض كمالها للتحذير من ذلك في هذا
الباب الأول؛ بقي علينا أن نتعرف على أثرها، وذلك ما يتضمنه الباب الثاني، وهو ما يلي:
الباب الثاني
أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في العالم الإسلامي
الفصل الأول: ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها.
الفصل الثاني: أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها آل سعود.
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب المغازي (4351) وكتاب التوحيد (7432) , وصحيح مسلم : كتاب الزكاة (1064) , وسنن النسائي : كتاب الزكاة (2578) وكتاب تحريم الدم (4101) , ومسند أحمد (3/68 ,3/73).
(2) سورة الحجرات آية : 6.
(3) "مؤلفات الشيخ"(القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص155-181).(1/88)
الفصل الثالث: أثرها في الدور الثاني (الإمام تركي وابنه الإمام فيصل).
الفصل الرابع: أثرها في الدور الثالث (الإمام الملك عبد العزيز وأبناؤه الملوك).
الفصل الخامس: أثرها في خارج سلطانها.
الفصل الأول
في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها
لقد اتضح لنا مما سبق بيانه عن الشيخ وعقيدته أنها عقيدة السلف الصالح؛ عقيدة سليمة، تعتمد على الكتاب والسنة غاية ووسيلة، وعلماً وعملاً، ومضمونا ًومنهجاً.
ونزيد هنا شيئا من التوضيح، فنقول: أما الغاية؛ فإنها تتضح من مواقف الإيمان التي وقفها الشيخ بقوة، وكم نراه فيما قدمنا من سيرته وفيما سنذكر إن شاء الله من مواقفه الجهادية وجهوده المرضية في سبيل الله مثالا للرجل المؤمن بالغيب، القوي في إيمانه بذلك، البعيد عن البدع والمحدثات في دين الله.
ولقد اعتقد الشيخ عقيدة السلف الصالح في حين غربتها، وضعف تأثير أصحابها في المجتمع، كما بينا ذلك في مبحث البيئة التي كانت سائدة في عصر الشيخ، ثم لما قام الشيخ بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح؛ أصبح أثرها ينتشر شيئا فشيئا، لا في الجزيرة العربية فحسب، بل في العالم الإسلامي كله، ولا أحد ينكر صحوة نشطة في المسلمين، تنشد سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعمل على نشرها،
ونشر ما كان عليه سلفهم الصالح.
وهذا المسلك السلفي الصالح قد اشتهر كأنه طابع خاص بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه رحمهم الله تعالى، على الرغم من أنه لا يخص الشيخ، وليس من عنده، وإنما هو ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/89)
حتى إن الشيخ ملا عمران بن رضوان صاحب لنجة لما تبين له حقيقة معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنه التمسك باتباع النبي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ قام بتأييده، فلقبوه بالوهابي؛ يشنعون عليه، ومقصدهم ليترك اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ذنب للوهابي عندهم إلا أنه لم تأخذه في اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لومة لائم، فقال الشيخ ملا عمران في الرد على هؤلاء الشانئين منظومة منها:
فأنا المقر بأنني وهابي ... إن كان تابع أحمد متوهبا
رب سوى المتفرد الوهاب ... أنفي الشريك عن الإله فليس لي
قبر له سبب من الأسباب ... لا قبة ترجى ولا وثن ولا
عين ولا نصب من الأنصاب ... كلا ولا شجر ولا حجر ولا
أو حلقة أو ودعة أو ناب ... أيضا ولست معلقا لتميمة
الله ينفعني ويدفع ما بي ... لرجاء نفع أو لدفع بلية
في الدين ينكره أولو الألباب(1) ... والابتداع وكل أمر محدث
وما من شك أن تأثير العقيدة واستمرارها يتم إذا توفر لها أسباب هي:
أسباب تأثير العقيدة
أولا: وقبل كل شيء: توفيق الله تعالى ومنته بالفضل والهداية.
ثانيًا: صلاح النية وسمو الغاية وحسن القصد بالأعمال الصالحة التي هي من لوازم العقيدة.
ثالثًا: كون العقيدة حقاً ثابتاً في نفس الأمر والواقع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
رابعًا: علم صاحب العقيدة وبصيرته.
خامسًا: سلامة منهج صاحب العقيدة.
سادسا: الإمارة الراشدة والسلطان الوازع.
سابعًا: استمرار وجودها بوجود حملتها من عالم وارث للميراث النبوي وسلطان مناصر قوي.
وفيما يلي توضيح ذلك:
__________
(1) نقلا عن "الهدية السنية"، جمع الشيخ سليمان بن سحمان (ص 119-120، طبعة المنار، سنة 1344 هـ)، و"الهدية السنية" (طبعة مكة عام 1393 هـ، ص 148-149).(1/90)
أما توفيق الله تعالى ومنته بالفضل والهداية؛ فهو أمر ظاهر من منته سبحانه على أهل هذه الجزيرة العربية خصوصا وأهل الأرض عموما بآخر الرسالات النبوية، بالقرآن العظيم المبين، والرسول العربي الخاتم، وبيت الله الحرام، وضمانته سبحانه لحفظ دينه ونصرته إلى قيام الساعة، ودليله القرآن الذي هو كلام الله محفوظا في الصدور، ومتلوا بالألسن، ومكتوبا بالمصاحف، لا يوجد له نظير من
الكلام في جلب الخير ودفع الشر، كما أن رسول الله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بشخصه لا نظير له في الأشخاص، وسنته موجودة، ودينه باق، وهديه خير الهدي، وهو مستمر إلى قيام الساعة، ولا نظير له في الهدي، وبيت الله الحرام فيه آيات بينات؛ مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، ولا نظير له في بيوت الله في الأرض.
وكل هذه الخصوصيات التي امتن الله بها على أهل هذه الجزيرة، ووفق من شاء منهم للقيام بحقوقها، كل ذلك له دور كبير في التأثير، وما من شك أن من وفقه الله للقيام بحقوقها؛ فقد حاز نفوذا وتأثيرا قويا لا نظير له، وللشيخ وأنصاره نصيب من هذا كبير؛ فبناء عقيدته السلفية إنما هو على كلام الله الذي هو خير الكلام، وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خير الهدي، وعلى نهج سلف هذه الأمة الذين هم خير هذه الأمة.
وأما سمو الغاية من العقيدة وكون العقيدة حق، ومتانة علم صاحبها، وقوة بصيرته، وسلامة منهجه؛ فقد بيناه فيما سبق من بيان عقيدته ومنهجه وشيء من سيرته، ولا مانع من زيادة توضيح هنا لهذه الجوانب المؤثرة، وفيما يلي أنقل بعضا من كلمات الشيخ تبين سمو الغاية وتجردها من الحظوظ الدنيوية الزائلة.
يقول الشيخ في مخاطبته لعبد الوهاب بن عيسى: "إن كنت تظن في خاطرك أنا نبغي أن نداهنك في دين الله، ولو كنت أجل عندنا مما كنت؛ فأنت مخالف، فإن كنت تتهمني بشيء من أمور الدنيا؛(1/91)
فلك الشرهة"(1).
وفي مخاطبته لعبد الوهاب المذكورة ولأبيه مرة أخرى يقول: "أشوف(2) غايتكم قريبة، وتحملون الأمر على غير محمله"(3).
ويقول الشيخ لبعض من توجس منهم غاية قريبة: "إن الخطر عظيم؛ فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة، ما تسوى بضيعة تربح توماناً أو نصف تومان"(4).
ويحيل في هذه المسألة على الإيمان بالله، ويستدل بقول الله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) } (5).
ويقول الشيخ في مخاطبة بعض من أحس منه خمولاً عن الموافقة: "إن كان جاريا مني شيء تنقده، فتراني أحب أن تنبهني عليه؛ لا تترك بيان شيء في خاطرك من قبلي، وإن كنتم متجرفين على
التغير؛ أو جتكم(6) الفتنة، وودكم ببرد الأرض(7) ؛ فهذا شيء آخر".
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 40، ص 280).
(2) أشوف)؛ أي: أرى، وفي "مختار الصحاح": "شاف الشيء: جلاه وبابه قال، ودينار مشوف؛ أي: مجلو.." إلى أن قال: "وتشوف إلى الشيء: تطلع".
(3) "مؤلفات الشيخ" (رقم 49، ص315).
(4) التومان): عملة نقدية. "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 34، ص224).
(5) سورة العنكبوت آية : 60.
(6) "جتكم الفتنة"؛ أي: "جاءتكم"، وقد عبر الشيخ باللهجة التي يفهمونها ليكون أبلغ في نفوسهم.
(7) "ودكم ببرد الأرض"؛ أي: "تودون التثاقل إلى الأرض والتخلي عن القيام بأعباء الدعوة والجهاد لنصرة دين الله ورسوله؛ زهدا منكم بأجر ذلك في الآخرة، وإيثارا للحياة الدنيا".(1/92)
إلى أن قال يذكره بالإيمان والغاية: "فهذا لا ينبغي منك، ولا يطاع أحد في معصية الله، فإن وافقتمونا على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله؛ فلكم الحظ الأوفر، وإلا؛ لم تضروا الله شيئاً، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطائفة المنصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار، وقد ذم الله الذي لا يثبت على دينه إلا عندما يهواه؛ فقال:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } (1) وينبغي لكم إذا عجزتم أو جبنتم أنكم ما تلوموننا، ونحمد الله الذي يسر لنا هذا، وجعلنا من أهله، وقد أخبر أنه عند وجود المرتدين؛ فلا بد من وجود المحبين المحبوبين، فقال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } (2).
جعلنا الله وإياكم من الذين لا تأخذهم في هذا لومة لائم(3).
ولقد كانت هذه الغاية ووسيلتها واضحة تمام الوضوح لدى الشيخ؛ فقد ذكر في الإيمان بالله والإيمان بالرسل أن هاهنا غاية ووسيلة، فأما الغاية؛ فهي الإيمان بالله، وأما الوسيلة؛ فهي الإيمان بالرسل، وقال الشيخ: "الإيمان بالله مثل الماء والإيمان بالرسل مثل الدلو والرشاء"(4).
ولقد صدق الشيخ ما يقول، وطبق ما كان ينادي به ويقرره ويدعو إليه؛ لأنه عقيدته، فلما بين أن من أطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووحد الله؛ لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب؛ بدليل قوله تعالى:
{
__________
(1) سورة الحج آية : 11.
(2) سورة المائدة آية : 54.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم50، ص 319-320).
(4) "الدرر السنية" (الطبعة الثانية، ج1، ص107).(1/93)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) } (1)(2).
وابتلي الشيخ نفسه، ولكنه صبر وثبت، حتى جاوز الامتحان والابتلاء، وما ذلك إلا تأييد الله له بروح منه، وتقويته لإيمانه، وأمثلة ذلك في حياته كثيرة.
ولنأخذ مثلا من أحوال الشيخ التي وقعت؛ ففي حالة إخراجه من العيينة طريدا منها، قد افتقد كل حظ من حظوظه الدنيوية المباحة؛ افتقد ثقة الأمير وثقة الناس من حوله به وبما يدعو إليه من عقيدة السلف الصالح، وافتقد المسكن والمكانة والجاه والنفوذ وجميع الحظوظ النفسية والغايات الدنيوية، ومشى وحيدا أعزل من أي سلاح، ليس بيده إلا مروحة من خوص النخل، ولا يأمن مثله على نفسه أن يقتل بأهون قتلة لمن أراد ذلك، ولن يأبه له أحد فيما يظهر من طبائع الأمور المعتادة، لكن كان على ثقة من ربه، والله قد قوى إيمانه حتى صغر في ميزانه أمر صاحب الأحساء، وخذلان ابن معمر له، وفراق الوطن والمال والأهل والزوجة والمسكن، وما بقي لديه سوى الإيمان القوي بصحة عقيدة السلف الصالح، وحسن الظن بالله تعالى، والثقة به سبحانه، وأنه سيجعل له فرجا ومخرجا، وأن الله سينصر دينه ويعلي كلمته.
__________
(1) سورة المجادلة آية : 22.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص168).(1/94)
وكأني بالشيخ في حالته تلك قد ترك الناس وهو محتاج أحوج ما يكون من أجل الله، ليس لديه منعة من أتباع وجنود، ولا حمية من عشيرة أو حلف ولا غيرهم من أصدقاء وأصحاب ونحوهم، ومع هذا كله؛ مضى ثابتا على عقيدته وإيمانه بأن الله تعالى سوف يجعل له وللمؤمنين فرجاً ومخرجاً، وإن غاب عنه ذلك، ولم يفكر في استرضاء الأمير، والإبقاء على أي حظ من حظوظ النفس البشرية بالتنازل عن
هذه العقيدة أو المهادنة فيها؛ طلبا للراحة والإبقاء على شيء من حظوظ النفس ورغباتها، ولو إلى أن تحين الفرصة كما يتحين المتربصون، بل مضى في سبيل الله، عليه من الله الرحمة والإيمان، زاده الإيمان القوي بعزيمة الواثق بموعود الله وحده في الغيب، وبصيرة من ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جرى عليه من أذى قومه وطرد ثقيف له من الطائف وغير ذلك، لا يطلب غايته العظيمة وعوض ما فقده في سبيل الله إلا من الله تعالى وحده، وهو الله الأحد الصمد الذي لا يخيب من رجاه.
لقد سار من العيينة إلى الدرعية يمشي راجلا ليس معه إلا مروحة من خوص النخل في غاية الحر في فصل الصيف، لا يلتفت عن طريقه، ويلهج بقوله تعالى { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (1) ويلهج بالتسبيح: سبحان الله وبحمده، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولما وصل الدرعية؛ قصد بيت ابن سويلم العريني، فلما دخل عليه؛ ضاقت عليه داره، وخاف على نفسه من محمد بن سعود، فوعظه الشيخ، وأسكن جأشه، وقال: سيجعل الله لنا ولك فرجا ومخرجا(2).
__________
(1) سورة الطلاق آية : 2.
(2) ابن بشر "عنوان المجد" (1/11).(1/95)
ما أقوى هذا الإيمان والاتكال على الله تعالى في قلب هذا الشيخ رحمه الله في تلك الأحوال والأهوال التي بلغت معها القلوب الحناجر، وتواردت من أجلها الظنون الفواقر، وإيمان الشيخ ثابت في نفسه، قادر على طمأنة الآخرين المتزلزلين وتثبيتهم أيضا، هذا هو
الشيخ المؤمن القوي؛ القوي بالإيمان لا بالحديد والنار والدولة والمال؛ فقد ذهب عن هذا كله، ولم يتبعه منها شيء، ولم يبق معه سوى مهفة من خوص النخل، لا رغبة لأحد بها، وأصبح غريباً يستوحش منه؛ فهذا أقرب تلامذته إليه في منفاه إلى الدرعية يضيق به وبنزوله عليه ذرعا، قد خشي عاقبة أداء الحق في ضيافة الشيخ، وهي أدنى الحقوق، وما ذاك إلا لشدة غربة الشيخ، وهوان دعوته على الناس، وطمعهم في الباطل، وإعجابهم بمنافاة الحق أعظم ما يكون، وتسلط الملوك والأمراء على دعاة الخير وأهله تسلطا ملأ الأفئدة رعبا، وزلزل القلوب عن بصيرتها واستنارتها، ولكن الشيخ ما زال قاعدة صلبة في ثباته على الحق وقوة إيمانه ومضاء عزيمته على المسير فيما دعا إليه من دين الإسلام بالطريقة التي سار عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
يقول الشيخ محمد بن أحمد الحفظي رحمه الله (1178-1237 هـ)(1).
يصرخ بين أظهر القبيلة ... دعا إلى الله وبالتهليلة
ولا له معاون موازر ... مستضعفا وما له مناصر
مهفة تغنيه عن مهنده ... في ذلة وقلة وفي يده
والحق يعلو بجنود الرب ... كأنها ريح الصبا في الرعب
وضرب موسى بالعصا للحجر ... قد أذكرتني درة لعمر
ليس إلى نفس دعا أو مذهب ... ولم يزل يدعو إلى دين النبي
أن لا إله غير فرد يعبد ... يعلم الناس معاني أشهد
رسوله إليكم وقصده ... محمد نبيه وعبده
__________
(1) "الأعلام" للزركلي (6/17) :.(1/96)
شيئا به والابتداع فاتركوا(1) ... أن تعبدوه وحده لا تشركوا
ما أعظمها من عقيدة! وما أسمى غايتها! لقد تطهرت عقيدته، بل وتجردت غايته، حتى صارت خالصة لله وحده، وبقي إيمانه قويا لم يهن، ثابتا لم يتزعزع، ماضيا لم يتراجع، حتى كانت له العاقبة، وحتى لقي الله وهو على عقيدته، لم يتغير بالنصر والظفر والغنيمة، وتلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثباته وصموده؛ كما قال الله تعالى:
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } (2).
قال الشيخ فيها: "إن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه، وأن البصيرة من الفرائض، وأن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة، وأن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى، وإبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك، وهي من أهم ما فيها"(3).
__________
(1) "الهدية السنية" للشيخ سليمان بن سحمان (ص124)، وانظر: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب..." لأحمد بن حجر آل بوطامي (ص 82-83)، و"تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور منير العجلاني (ص327)، و"تذكرة أولي العرفان" لإبراهيم بن عبيد (ج1/29).
(2) سورة يوسف آية : 108.
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص21).(1/97)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم عنه رحمه الله: "وفيه مشابهة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما ناله من الرؤساء والأحبار في ابتداء دعوته؛ فإنه رحمه الله لما أظهر الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة؛ استصرخوا بأهل الحرمين والنجرانيين وبني خالد وغيرهم عليه، وألبت تلك الطوائف؛ فثبته الله ومن آواه ونصره على قلة منهم وضعف، وصبروا على مخالفة الناس، وتحملوا عداوة كل من عادى هذا الدين، بل أشبه أمر الشيخ ما جرى لخاتم النبيين، حتى في مهاجره وأنصاره وكثرة من عاداه وناوأه في حال الابتداء؛ كما هو حال الحق في المبادئ؛ يرده الكثيرون وينكرونه، ويقبله القليل وينصرونه، ثم تكون الغلبة له"(1) اهـ.
ولا شك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة المثلى والإمام الأعلى لجميع المسلمين، وكل من كان في محبته واتباعه أتم؛ كان في أحواله إليه أقرب - صلى الله عليه وسلم - .
وقد أفصح عن هذا الاتباع في هذه الحالة في منشوره إلى علماء الإسلام آنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المتقين ورسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم - ؛ ففي هذا المنشور شكا إلى علماء الإسلام ما جرى من الفتنة بسبب نهيه العوام عن عاداتهم الشركية التي نشأوا عليها، وعظمت في نفوسهم أن تنقطع عاداتهم تلك، وساعدهم بعض أدعياء العلم وهم من أبعد الناس عنه؛ إذ العالم من يخشى الله، فتوهموا أن
__________
(1) "الدرر السنية" (12/7 ).(1/98)
النهي عن الشرك تنقص للأنبياء والصالحين، وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب ليس له من الأمر شيء؛ قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحبهم ولم يغل فيهم؛ رموه ببغض أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا هؤلاء؛ لما ذكر لهم ما ذكره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله؛ قالوا له: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء(1) والله تعالى ناصر لدينه ولو كره المشركون(2).
فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو؛ لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة؛ نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره، ومقتهم الجمهور، وأوذوا؛ فثبطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان، وقريب من هذا حال
الغلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين(3).
__________
(1) ولقد أحسن الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" حيث قال: "من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل، ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم، يرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلوا في عيسى عليه السلام، كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك" (ج1/6).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 26، ص 176-177).
(3) "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" تأليف الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (ج1/6).(1/99)
ويقول حافظ وهبة: "إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح مجدد، داع إلى الرجوع إلى الحق؛ فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة، وكل ما يطبق في نجد من الفروع هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وأما في العقائد؛ فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عداهم، وتكاد تكون عقائدهم وعباداتهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم، وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة من فروع الدين، وهم يرون فوق ذلك أن ما عليه أكثر المسلمين من العقائد والعبادات لا ينطبق على أساس الدين الإسلامي الصحيح".
إلى أن قال عن الشيخ وأتباعه: "وبالجملة؛ فإنهم يحرصون على العبادات الشرعية أن تكون على السنة التي وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا زيادة ولا نقص(1).
هذا وقد شهد للشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه متبع وغير مبتدع وأنه إمام مجدد وداع إلى الله على بصيرة كثيرون من الكتاب والعلماء، لا يحصون كثرة، من الشرق والغرب، من الموالين وغير الموالين، من المسلمين وغير المسلمين.
وقد سبقنا إلى جمع هذه الآراء والشهادات جمع من العلماء والباحثين، ونذكر منهم الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه "الشيخ محمد بن عبد الوهاب: عقيدته السلفية، ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه"؛ فقد قال: إن العلماء السلفيين والمؤرخين المحققين قد أكثروا من الثناء على الشيخ والتنويه بدعوته القائمة على دعائم الكتاب والسنة. ثم نقل عن اثنين وأربعين عالما وكاتبا وباحثا ومفكرا من المسلمين وغيرهم، ومن الموالين وغير الموالين، ومن مستشرقين وغيرهم، في أزمنة مختلفة وأمكنة متعددة، ومن مصادر مختلفة، واستغرق ما نقله من ذلك إحدى وأربعين صفحة (ص 80-121).
__________
(1) "جزيرة العرب في القرن العشرين" تأليف حافظ وهبة ص (322-323).(1/100)
ومن هؤلاء المشايخ الذين سبقونا في جمع هذه الشهادات وتدوينها الشيخ عبد الله بن سعد الرويشد في كتابه "الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ"؛ فقد عقد في الجزء الثاني من كتابه فصلا هو الفصل العاشر في آراء العلماء والباحثين والمفكرين من الشرق والغرب، وذكر من ذلك نقولا عن أربعة وأربعين شخصا تزيد وتنقص عما أورده الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، وهي آراء من أناس كثيرين مختلفي المشارب والمذاهب والأزمنة والأمكنة، وكلها تجمع على أن الشيخ يعتقد عقيدة السلف الصالح، ويذهب مذهبهم، وما خرج عنهم قيد شعرة، واستغرق ما نقله من (ص 277-360).
وأورد أيضا الدكتور عبد الله عبد الماجد إبراهيم كثيرا من هذه النقول في بحثه الذي قدمه لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد
الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تضمنت كثيرا من كلام العلماء والباحثين من مسلمين وغيرهم، واستغرق ما نقله وجمعه (ص139-162).
وقد نقلوا شهادات كثيرة، حتى من الأعداء، تجعلنا نتمثل بقول القائل:
والفضل ما شهدت به الأعداء ... مناقب شهد العدو بفضلها
والمقصود أن نشير إلى ما توصل إليه من سبقونا في جمع هذه الشهادات المختلفة زماناً ومكانا وعقيدة، ألا وهو أن جميع هذه الشهادات تتفق من غير تواطؤ وتواعد بين أصحابها على حقيقة واقعية رأوها جميعا على اختلاف رؤيتهم، وهي أن عقيدة الشيخ ومنهجه هو ما يقتضيه الإسلام الخالص، الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن أعداء عقيدة الشيخ ومنهجه هم أعداء الإسلام في الحقيقة.
وقد أوردنا فيما تقدم شيئا من هذه الشهادات، وسنورد إن شاء الله تعالى بعضاً من هذه الشهادات والآراء الصحيحة والأقوال السديدة التي تبين أثر عقيدة الشيخ الحسن وانتشارها الواسع، سيما فيما خرج عن سلطان أنصارها(1).
__________
(1) انظر: (2/382) وما بعدها من هذا البحث.(1/101)
أما في هذا الفصل؛ فمن أجل استكشاف أسباب ومبادئ تأثير عقيدة الشيخ نستعرض جهود الشيخ وجهاده قبل مناصرة آل سعود له.
كيف أثر الشيخ بعقيدة السلف دون غيره من معاصريه؟
وقبل ذلك أجيب عن سؤال ملح هو: كيف أثر الشيخ في البيئة
من حوله دون سائر مشايخه والمشايخ في عصره؟! وكيف اختص بذلك دون غيره منهم؟!
والجواب هو: سبق أن بينا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ العلم عن أجل علماء نجد في بلده، كما أخذ العلم عن أجل علماء الحرمين والبصرة، والتقى بعلماء الأحساء وغيرهم من علماء الأقطار التي زارها، وفيهم عدول زمانهم، الذين اتصل بهم سند الشيخ إلى من قبلهم ممن اتصل سنده بالسلف الصالح، وجميع العلماء الذين أخذ عنهم قد أجازوه، وقرروا له التوحيد، واستحسنوا اتجاهه، وأقروه على معرفته النيرة لحقيقة الإسلام الذي بعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - به، وحرروا له المعتقد السليم؛ عقيدة السلف الصالح، وشاركوه في مقت الأعمال المنكرة الشائعة في بلاد المسلمين، وأن بعضها قد وصل إلى الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، ولا يصح معه إسلام، ولكن عذرهم عدم المساعد لهم في تحقيق ما تضمنه الكتاب والسنة من إقامة الدين وإخلاصه لرب العالمين، وإلا؛ فهم يدينون لله بأنه لا يستحق العبادة سواه في أنفسهم وأهليهم وما يقدرون عليه، أما إزالة هذه البدع ونهي الناس عما اعتقدوه وعملوه من منافاة الدين؛ فيحتاج إلى سيف قائم وإمام عادل، وكان ذلك متعذرا في وقتهم(1).
أما علماء السوء الذين آثروا الحظ الأدنى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين؛
فقد جانب الشيخ محمد بن عبد الوهاب طريقهم، وتركهم وترك منهاجهم.
__________
(1) انظر: "التوضيح عن توحيد الخلاق" (ص 19)، وانظر: مقالة الشيخ ابن حميد (ص 90) المطبوعة ضمن "تحفة الناسك ورسائل أخرى" الطبعة السابعة.(1/102)
قال ابن غنام عن الشيخ: إنه رحمه الله "رفض منهج الغلول والخيانة، وأدى من العلم الأمانة، وترك ما كان علماء السوء قبله له سالكون، وفي قعره العميق راكسون"(1).
ثم قيض الله للشيخ أميرا راشدا؛ ينصر دعوته إلى عقيدة السلف الصالح، وينشر دين الله ورسوله بسلطانه وسيفه؛ فالشيخ يبين العلم والأمير يقوم بتنفيذه، بل إن كلا من الشيخ والأمير قد توحدت جهودهما وتكاملت، فحصل لكلام الشيخ بالحق نفاذ لم يحصل لمشايخه وغيرهم، وهذا فضل من الله تعالى أكرمه به، والله يؤتي فضله من يشاء، وتصديق لما أخبر الله به من نصرة من ينصر دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما هي القاعدة في كرامات الأولياء حسب ما حققه شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، من أن الكرامة الخارقة للعادة تحصل عند اشتداد الحاجة إلى إقامة الحجة، وتكون على يد أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتدادا لآيات نبوته - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته، وهي في نفس الوقت كرامة من الله لهم على قدر اتباعهم، والكرامة فعل الله تعالى، وليست فعلا لمن وقعت له؛ فلله الحمد والشكر..."(2) والله أعلم.
جهود الشيخ المؤثرة في نشر عقيدة السلف الصالح واستعداده:
__________
(1) "روضة ابن غنام" (ج 1/28).
(2) انظر: "قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات ..." من "قواعد شيخ الإسلام ابن تيمية" (ص 2-36، الطبعة الأولى 1349هـ، مطبعة المنار).(1/103)
عاد الشيخ من رحلاته العلمية المباركة إلى حريملاء، وكان أبوه قد انتقل إليها من العيينة، ولما استقر الشيخ في هذه البلدة مع أبيه وأسرته؛ أخذ يدرس على أبيه، وإن كان مستواه العلمي لا يقل عن مستوى أبيه، إن لم يزد عليه، لكنه من باب أدبه وتواضعه مع والده وشيخه الأول وموجهه(1) ومع ذلك أخذ ينكر ما يفعله الجهال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال.
قال ابن بشر: "وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات، حتى وقع بينه وبين أبيه كلام، وكذلك وقع بينه وبين أناس في البلد، فأقام على ذلك مدة سنين، حتى توفي أبو عبد الوهاب في سنة ثلاث وخمسين ومئة وألف، ثم أعلن بالدعوة والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبعه أناس من أهل البلد مالوا معه، واشتهر بذلك"(2).
ويقول ابن غنام يصف دعوته وجهوده بعد عودته من رحلته إلى حريملاء ما معناه: "وانتظم في سلكه رجال فحول، قرأوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير، وحقق لهم منهج الدعوة إلى الله أتم
التحقيق، وكان رحمه الله يعلن بالتوحيد ويدعو إليه، وينادي بإبطال دعاء غير الله، وينكر على من يمارسه جهارا إذ لم يكف الإسرار، وينصح من عدل عن الحق بأسلوب سديد، ويزجر الناس عموماً عن الشرك والفساد، وجد واجتهد في تعليم الواجب، وبذل المناصحة للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام، وإقامة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكشف الشبه، ودحض المفتريات، وتحذير الناس إن داموا على ما هم فيه وقوع النقمة والعذاب، وكل ذلك قياما بأمانة العلم، رغبة فيما عند الله، وما أعده تعالى للقائمين بذلك، وخشية من الوقوع في الوعيد الوارد في القرآن المجيد:
{
__________
(1) ابن بشر"عنوان المجد" (1/8)، وانظر: مبحث عودة الشيخ من رحلاته العلمية (1/182) من هذا البحث، ومبحث نتيجة رحلاته العلمية (1/180) من هذا البحث أيضا.
(2) ابن بشر "عنوان المجد" (1/8-9).(1/104)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) } (1)(2).
يقول حافظ وهبة: "عندما رجع الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى وطنه... جد به العزم أن ينقذ نجدا مما حل بها، فبدأ يدعو الناس أن يعودوا إلى دين الله الصحيح، ويتركوا ما جد من البدع وغيرها مما يتنافى مع نصوص الكتاب والسنة، وفي الوقت نفسه طلب إلى الأمراء ذوي الشأن أن يطبقوا أحكام الشرع، وقد قام بدعوته مسالماً، لا يدعو إلى شدة أو عنف، وراسل علماء عصره في البلاد الإسلامية الأخرى، وأظهر ألمه لما أصاب المسلمين، وحضهم على أن يكونوا من زمرة المصلحين الدينيين، فكان ذلك سببا طبيعيا لغضب خصومه، أولئك
الذين خافوا على سلطانهم من دعوته"(3).
__________
(1) سورة البقرة آية : 159.
(2) "روضة ابن غنام" (ج1/28-29).
(3) "جزيرة العرب في القرن العشرين" تأليف حافظ وهبة (ص 320).(1/105)
ويصف ابن غنام استعداد الشيخ في دعوته إلى عقيدة السلف الصالح، فيقول ما معناه: وكان الشيخ رحمه الله قد أعطاه الله استعدادا قويا، فلم يخف في الله لومة لائم، وصار له توكل على ربه واعتصام به، فلم يبال بجحافل الأعداء، وجهامة الباطل(1) وكيد شياطين الجن والإنس، ووحي بعضهم إلى بعض بزخرف القول وغروره، وما رموه به من القوادح والمفتريات، وما صوبوا له من سهام البغي والحسد والتكبر والتجبر، وأقام رحمه الله -كما يذكر ابن غنام- في بلد حريملاء على هذه الصفة سنين، ولم يحددها ابن غنام ولا ابن بشر بعدد، لكنهما ذكراها بصيغة الجمع، وكان الشيخ -على ما يصفه ابن غنام- في تلك المدة يروع كل معاند ومعارض، فاشتهر حاله في جميع بلدان العارض في حريملاء والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة، وجعل الله لدعوته قبولا في هذه البلدان، وهو لا يزال في حريملاء، فكان له في كل بلد من هذه البلدان أتباع؛ كما أن له معارضين وأعداء حسب سنة الله تعالى؛ فقد جعل لمن يقوم بالحق معارضين وأعداء، حتى الأنبياء؛ فكيف بأتباعهم؟! ولكن الله يجعل العاقبة للمتقين.
ولقد قبل دعوة الشيخ أناس لهم مكانتهم في بلدانهم كالأمير
عثمان بن معمر، وكان يفد إليه الناس من جميع ما حوله ممن سمع به وهو مقيم في حريملاء، ويسمعون بيانه ودروسه، حتى كثر محبوه وتابعوه، وانضم لدعوته جم غفير.
__________
(1) قال في "مختار الصحاح": "(الجهام)؛ بالفتح: السحاب الذي لا ماء فيه".(1/106)
وكلما زاد شأن الدعوة؛ كلما تباين الناس فيه، حتى انقسموا إلى فريقين: فريق فرح بالشيخ وأحبه وأحب دعوته وعاهده على ذلك وبايعه على نشر الإسلام والقيام به، وفريق أنكر عليه وأبغضه وكره دعوته وقام وقعد في الصد عن الإسلام وإلقاء الشبه على القائمين بها ليصدوهم ويثنوا سيرهم الحميد، وفي هؤلاء الفريق المعارض كثير من ذوي العلم والأفهام، ولكن انسلخوا من علمهم، واتبعوا أهواءهم، وركضوا مع الرؤساء الظلمة والجهلة، واستهوتهم الشياطين؛ فقلدهم العوام والطغام -وهم الأكثر-، فاشتدت المحنة، ولكن أتباع الشيخ على بصيرة من الأمر، يعلمون أن هذه سنة الله تعالى في الذين خلوا من قبل، وهي جارية، لا تبديل لها ولا تحويل؛ فمن سنة الله تعالى أن الناس إذا جاءهم بيان الهدى؛ فمنهم من يقبله، وهو من سبقت لهم السعادة، ومنهم من يرفضه، وهو من كتب عليه الشقاء، قال الله تعالى:
{ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) } (1).
__________
(1) سورة البقرة آية : 213.(1/107)
ولذا؛ كان فريق الشيخ مع قلتهم مصممين على المضي معه في بيان الواجب، حتى لا يخسروا دينهم، مهما كانت النتائج، فأثابهم الله تعالى لما علم صدق نيتهم بأن جعل شأنهم يرتفع وكفتهم ترجح، وكل يوم يمر كان في زيادتهم ونقصان معارضيهم، فكان شأن المعارضين بعد أن بلغ نهايته في البغي ينخفض ويخف، أما أتباع الشيخ؛ فهم يزيدون في قوتهم وعددهم وبصيرتهم وعلومهم ويقينهم بوضوح رشد طريقتهم وهدايتهم؛ كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } (1)(2).
ولكن حريملاء كانت غير صالحة لأن تكون منطلقا للدعوة إلى الله تعالى؛ فقد كان رؤساؤها منقسمين إلى قبيلتين، أصلهما قبيلة واحدة، وكل منهم يدعي أن القول له، وليس للأخرى على الثانية قول، وما كان لحريملاء رئيس يزع الجميع ويجنبهم هذا الاختلاف، وكان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين، كثير تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ أن يمنعوا عن الفساد، وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يحصل ذلك؛ لعدم وجود الرئيس الوازع، بل إن هؤلاء العبيد المفسدين في الأرض هموا أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه بالليل سرا، فلما تسوروا عليه الجدار؛ علم بهم أناس، فصاحوا بهم، فهربوا، فانتقل الشيخ بعدها من حريملاء إلى العيينة(3).
__________
(1) سورة العنكبوت آية : 69.
(2) انظر: "روضة ابن غنام" (1/28-30).
(3) ابن بشر "عنوان المجد" (1/9).(1/108)
والمصادر الأولى -كما قال الدكتور العثيمين- لا تشير إلى سنة انتقال الشيخ من حريملاء إلى العيينة(1) ويميل الدكتور منير العجلاني إلى أن المدة التي قضاها الشيخ في حريملاء لا تتجاوز أربعة أعوام: سنتين قبل وفاة أبيه، ثم سنتين بعد وفاته(2) وإذا علمنا أن والده توفي سنة 1153 هـ(3) ؛ فيكون عام ارتحاله هو ما يقارب 1155 هـ، والله أعلم.
تحليل أسباب انتقال الشيخ بدعوته من حريملاء إلى العيينة:
وبالرغم من القبول الذي جعله الله لدعوة الشيخ إلى الإسلام وهو لا يزال في حريملاء؛ إلا أن حريملاء -كما ذكرنا- ما كانت تنعم برئيس مطاع يزع جميع سكانها إلى الحق والدعوة إلى الإسلام، وإن كان الإسلام حقاً؛ فإنه لا بد لها من أمير مطاع يزع الله به الناس جميعا، فيكون بمثابة المرجع للجميع، يجد فيه المحق تأييدا وتشجيعاً وضماناً لحقه ورعاية لجهوده، كما يجد فيه المبطل رادعا قويا يمنعه من الفوضوية والتعدي وتخريب أمن مجتمعه وحياة مواطنيه.
قال الله تعالى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) } (4).
وقال تعالى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) } (5).
__________
(1) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب.." للدكتور العثيمين (ص 42).
(2) "تاريخ البلاد العربية السعودية" (ص 211).
(3) انظر: (2/135) من هذا البحث.
(4) سورة البقرة آية : 251.
(5) سورة الحج آية : 40.(1/109)
ولذا يقول العالم الاجتماعي ابن خلدون في "مقدمته" تحت عنوان (ضرورة العمران البشري إلى السلطان الوازع بعضهم عن بعض): "إن الاجتماع الإنساني ضروري... ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر... وتم عمران العالم بهم؛ فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض؛ لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم... فيكون ذلك الوازع واحدا منهم، يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الملك، وقد تبين لك بهذا أن للإنسان خاصة طبيعية، ولا بد لهم منها، وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء؛ كما في الجراد والنحل لما استقرئ فيها من الحكم والانقياد والاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه؛ إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية، لا بمقتضى الفكرة والسياسة { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) } (1)(2).
لذلك؛ بعد مواجهة الشيخ للوضع السياسي في حريملاء؛ أدرك رحمه الله أنه لا بد للبناء والعمران الإسلامي من سلطان يحميه من هدم الآخرين، وأن البناء لا يبلغ تمامه إذا كان يوجد بجانب من يبني أحد غيره يهدم، وأدرك رحمه الله أن السلطان مختل في تلك البلدة، وإذا كان مختلا؛ فلا تصلح لأن تكون مقرا للدعوة؛ لما في طباع البشر من العدوان عند فقد السياسة الشرعية أو السلطة الوازعة، عندئذ؛ تعين لدى الشيخ أن السياسة الشرعية في بناء البيئة الإسلامية وهدم البيئة الجاهلية تقتضي البحث عن أمير قوي لا ينازع، وليس مجرد أمير قوي لا ينازع فحسب، بل مع ما أعطاه الله من السيادة وحسن السياسة وتدبير الملك والرعية وجودة الرأي والفكرة، مع هذا يكون بصيرا في الدين، يدين بالإسلام، ويقتنع بصحة الدعوة إليه والقيام بنصرته.
__________
(1) سورة طه آية : 50.
(2) "مقدمة ابن خلدون"، طبعة مصطفى محمد المصرية، (ص 41).(1/110)
وحريملاء ليس فيها من هذه صفته، وكان عثمان بن معمر أمير العيينة ممن تتوفر فيهم صفة الأمير، وكان الشيخ قد أبلغه الدعوة إلى الإسلام، فقبل، فكان المرشح من قبل الشيخ لسد الحاجة إلى أمير يحمي منجزات الدعوة بسيفه، وينشرها بقيادته وجهاده ونصرته، فانتقل إلى العيينة، واختارها منطلقا للدعوة.
قال ابن غنام: "ثم بعد ذلك عزم على المسير عنها (يعني: حريملاء) والارتحال، والإقامة بالعيينة، فجد في الرحيل والانتقال، وذلك بعد أن هدى الله تعالى عثمان بن معمر لقبول هذا الدين الذي أحياه ذو القلب المنور، فدخل منه شيء في قلبه(1).
هذا هو حقيقة سبب انتقال الشيخ من حريملاء إلى العيينة الذي هو كما نرى سعي في مصلحة الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح التي هي الإسلام، وليس خوفا على نفسه من اغتيال أمثال عبيد حريملاء، ولا شوقا إلى مسقط رأسه ومرتع صباه العيينة، ولكن هو ما ظهر له من أن العيينة أصلح بلد تنطلق منه الدعوة إلى الله تعالى على نهج السلف الصالح واعتقادهم السليم، ولذلك لما جفاه أميرها وخذله على ما سنبينه بحول الله؛ هاجر من العيينة، وهجر مرتع صباه ومسكنه يبحث عن ضالته في غيرها.
أثر إقامة الشيخ في حريملاء:
__________
(1) "روضة ابن غنام" (1/30).(1/111)
لقد كان لإقامة الشيخ في حريملاء تلك المدة أثر كبير فيما يعود على دعوته إلى الله بالفائدة؛ فكانت إقامته وجهوده -خصوصا بعد وفاة أبيه- المرحلة الأولى التأسيسية، وهي مرحلة البيان والنشر؛ فإن الشيخ بعد أن توفي والده أصبح أكبر شخصية علمية في البلدة، والتفتت الأنظار إليه وإلى ما يقول من بيان التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، مما لا عهد لأكثر الناس به، حيث كانوا في غفلة عن تقرير التوحيد ونقد المجتمع والبيئة في بعدهم عنه والبراءة من الشرك وأهله، حتى ولو كان أهل الشرك من الأقرباء والمعارف والأصحاب، وهذا زاد من انتشار سمعته في المناطق الأخرى، وجعل بعض الأفراد من بلدان العارض المختلفة يفدون إليه في حريملاء ليستمعوا ما يقول وما يدعو إليه، وبهذه الوسيلة التي هيأها الله له جعل يوضح حقيقة الإسلام الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند الله تعالى، ويبين ما يضاده
وينقضه من أنواع الشرك والكفر، ثم يقارنه بالواقع من هذه الأمور في البيئة من حوله؛ فانتشرت عقيدة السلف الصالح، وبدأ الناس ينتبهون لما كانوا في غفلة عنه، وبدأ الإحساس يقوى، واليقظة تزيد، ولقيت دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح قبولا وأنصارا في بعض المدن؛ كالعيينة، والدرعية، وقدم عليه طائفة من أهل العارض إلى حريملاء، وكان أعظم رجل كسبه إلى الدعوة إلى الله خلال هذه المرحلة هو أمير العيينة عثمان بن معمر، والذي كان على يديه بداية تطبيق الدعوة عمليا(1).
أثر عقيدة الشيخ في العيينة:
__________
(1) انظر: "تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور منير العجلاني (ص 211)، و"الشيخ محمد بن عبد الوهاب ..." للدكتور العثيمين (ص 41-42).(1/112)
انتقل الشيخ إلى العيينة، وكان أميرها هو عثمان بن حمد بن عبد الله بن معمر بعد أخيه محمد بن حمد الملقب (خرفاش)، وقد هداه الله تعالى، فاقتنع بدعوة الشيخ، وأعلن ذلك بين رجاله المقربين، وتلقى الشيخ بالقبول وأكرمه، وتزوج الشيخ عمته الجوهرة بنت عبد الله بن معمر، وكانت ذات مكانة عالية، فقد ذكر المؤرخون أن محمد بن سعود ورفاقه لم ينزلوا من موضع تحصنهم عقب قتل محمد بن حمد بن عبد الله بن معمر الملقب (خرفاش) لزيد بن مرخان إلا بعد أن أعطتهم الأمان سنة 1139 هـ(1).
ولعل الشيخ يترسم بذلك الزواج منها خطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خديجة ذات المكانة العالية رضي الله عنها، وما من شك أن العلاقة بالمصاهرة تزداد متانة، سيما وأن الشيخ يرجو نصرة هذا الأمير؛ لأنه رأى بعد ما وجده في حريملاء أن المتعين اتخاذ سياسة راشدة لحماية منجزات الدعوة ومكاسبها، والقيام بنصرتها؛ لأنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بالسمع والطاعة، والسمع والطاعة إنما تكون للأمير الذي توفرت فيه ملكات الإمارة مع صحة دينه، وكان عثمان هذا من المرجوين لهذا المقام الجليل على حد قول الشاعر:
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل ... قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
لذا؛ فإن الشيخ جاء إلى العيينة، وعرض على عثمان هذه الرغبة، وبين خطورة هذا الشأن وأهميته وقيمته العظمى، ورشحه لمقام الإمامة فيه، فقال له بعد أن استعرض ما قام به ودعا إليه من التوحيد ورغب إليه في نصرة دين الله: "إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله؛ أن يظهرك الله تعالى، وتملك نجدا وأعرابها"(2).
__________
(1) "عنوان المجد"، ابن بشر، (سابقة سنة 1139هـ؛ ج1/234-235)، وانظر: الدكتور العثيمين في كتابه "الشيخ محمد ..." (ص 43).
(2) "عنوان المجد ..." لابن بشر (1/9).(1/113)
ثم بعد ذلك الذي عرضه الشيخ على ابن معمر، ورغبه فيه من أمل الخير لمن ينصر الإسلام في الدنيا ثم الآخرة، قام عثمان وساعد الشيخ، فأعلن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبعه أناس من أهل العيينة(1).
قال المؤرخ ابن غنام: "قام معه عثمان وقعد، وساعده على
ذلك واجتهد، وأمر الناس بالاتباع، وعدم المشاققة له والنزاع، وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره وكلامه، ويسلكوا سبل الاستقامة، ويظهروا توقيره وإكرامه، فكان بعد ذلك الأمر والإلزام، وصدور ذلك الاعتناء التام، وشدة الرغبة والاهتمام، وإبداء التعظيم له والاحتشام، تسمع أقواله وتطاع، وتملأ الصدور والأسماع، فصار للزيغ ارتداع وقمع وإقلاع، وللحق والهدى أتباع؛ ففشا الدين في بلدان العارض المعروفة، وأكثرهم قلوبهم عن ذلك النور مصروفة، وعلى ما كانوا عليه من الأمور المألوفة ملازمة محبوسة موقوفة.
ولكن لم يصبر على الإقامة بذلك المكان مع مشاهدته فيه الأوثان، فعند ذلك؛ أمر الشيخ محمد الأمير عثمان بهدم القبب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، وقطع الأشجار التي كانت الخلق لها في كل ساعة منتابة؛ فبادر عثمان لذلك وامتثل، وخرج الشيخ معه وجماعتهم على عجل، وخرجوا بالمعاول، والكل للأجر آمل؛ فهدموا تلك المساجد، وأزالوا رفيع المشاهد، وأزالوا جميع المحظور عن جميع تلك القبور، وعدلت على السنن المشروع، واندرس الأمر الممنوع، وهدم رفيع ذلك البناء، وبطل ذلك التعظيم لها والاعتناء، وخر شامخ الأحجار، وخر ما في العارض من معبدات الأشجار؛ كشجرة قريوة، وأبي دجانة، والذيب، فلم يكن أحد إلى التبرك بهما ينيب، ولم تسألها من لم تتزوج مثل العادات زوجا حبيب(2) وليس في تلك الأزمان بغريب، وليس وقع أقبح منه
بعجيب.
__________
(1) "عنوان المجد.." لابن بشر (1/9).
(2) الصحيح (حبيبا)، وإنما جرى على السجع.(1/114)
وكان الشيخ رحمه الله تعالى هو الذي باشر قطع شجرة الذيب بيده مع بعض أصحابه؛ فنال من ربه جزيل أجره وثوابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم؛ فأدركوا من الفوز مناهم، فلم يبق وثن في البلدان التي كانت تحت يد عثمان، وشاع ذلك واستبان، ونعم بذلك أهل الإيمان، وصلحوا حالا من ذلك المكان، وانتشر الحق من ذلك الأوان، واشتهر الأمر وبان، وسارت بذلك الركبان"(1) انتهى.
وقد نقلته بنصه من "تاريخ ابن غنام"؛ لأنه تضمن وصفاً واضحاً لحماسة الأمير عثمان بن معمر في مناصرة الشيخ، ودقيقاً في ذكره ما تم من تنفيذ أمور العقيدة السلفية، وما كان لها من أثر في انتشار توحيد الله بالعبادة، وزوال الشرك وعقده من أعمال الناس وقلوبهم؛ فإنهم إذا كانوا يعتقدون مثلا أن قبر الولي يحميهم، وأن الولي فيه سر النفع والضر، ثم وجدوا هذا الولي غير قادر على حماية مقامه وعظمته في النفوس، ولا حماية القبة المبنية على قبره والثأر ممن هدمها وأهانه؛ عرفوا بأنهم كانوا على خطأ في الاعتقاد بقدرته على النفع والضر، ومن ثم خشيته ورجائه وتقريب النذور والقرابين إليه، وبذلك تكون الأعمال أمضى في إقناع الناس من الأقوال، وأنفع من كلام لا نفاذ له؛ فرحم الله الشيخ رحمة واسعة.
__________
(1) "روضة ابن غنام" (ج1/30-31).(1/115)
ونستخلص وصفا للحالة النفسية والمقاومة العملية من خلال ما يذكره المؤرخ ابن بشر من قصة هدم القبة المبنية على قبر الصحابي زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - التي عند الجبيلة: "قال الشيخ لعثمان: دعنا نهدم هذه القبة التي وضعت على الباطل، وضل بها الناس عن الهدى. فقال: دونكها؛ فاهدمها. فقال الشيخ: أخاف من أهل الجبيلة أن يوقعوا بنا، ولا أستطيع هدمها إلا وأنت معي. فسار معه عثمان بنحو ست مئة رجل، فلما قربوا منها؛ ظهر عليهم أهل الجبيلة، يريدون أن يمنعوها، فلم رآهم عثمان؛ علم ما هموا به، فتأهب لحربهم، وأمر جموعه أن تتعزل للحرب؛ فلما رأوا ذلك؛ كفوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها".
وقال ابن بشر: "ذكر لي أن عثمان لما أتاها قال للشيخ: نحن لا نتعرضها. فقال الشيخ: أعطوني الفأس. فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها، ثم رجعوا، فانتظر تلك الليلة جهال البدو وسفهاؤهم ما يحدث على الشيخ بسبب هدمها، فأصبح في أحسن حال"(1) انتهى.
لا شك أن هذه الأعمال التنفيذية لعقيدة السلف الصالح حين تأتي في مناسبتها من أعظم وسائل التطهير وإقناع الناس بصحة ما يقوله الداعية من بيان لساني، وإيقاظ الضمائر المتبلدة، وإحياء القلوب المريضة، وتصحيح العقائد السقيمة.
ولا أدل على ذلك التيقظ والإحساس بالحياة من قصة امرأة من
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد" (1/9-10).(1/116)
أهل العيينة، استيقظ قلبها بالشعور الغامر بفحش الزنى، والرغبة في الطهارة منه على ضوء شرع الله الذي طهر به الشيخ محمد بن عبد الوهاب العيينة من مظاهر الوثنية بهدمها وإهانتها، وإقامة توحيد الله بالخشية والرغبة والمراقبة والتقوى، فما كان من هذه المرأة إلا أن تندفع بصدقها في التوبة وتأتي إلى الشيخ فتعترف عنده بالزنى والإحصان ترغب في تطهير نفسها من هذه الفاحشة؛ لتنال ثواب المطهرات عند الله، فأعرض الشيخ عنها، وتكرر منها الإقرار، فأراد الشيخ تطبيق سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذلك فعل، فلقد التمس هل لها من عذر؟ وسأل عن عقلها؛ فإذا هي صحيحة العقل، وقال: لعلك مغصوبة! وأمهلها الشيخ أياما، فلم تزل مستمرة على إقرارها بذلك، فكانت أقرت أربع مرات في أيام متواليات بما يوجب إقامة الحد الشرعي الذي هو الرجم، فلم يكن للشيخ مندوحة عن الأمر برجمها لإقامة حد من حدود الله تعالى... فخرج الوالي عثمان وجماعة من المسلمين، فرجموها حتى ماتت، وكان أول من رجمها عثمان المذكور، فلما ماتت، أمر الشيخ أن يغسلوها، وأن تكفن، ويصلى عليها(1) ؛ كما جرى من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الواقعة.
وهكذا كان الشيخ رحمه الله يطبق عقيدة السلف الصالح في بلد العيينة؛ يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعلم الناس دينهم، ويميت ما قدر عليه من البدع، ويقيم الحدود، ويأمر الوالي بإقامتها،
__________
(1) انظر: "روضة ابن غنام" (2/2)، وابن بشر في "عنوان المجد" (1/ ص10).(1/117)
ويراسل العلماء والزعماء من غير بلدة العيينة، يدعوهم إلى إقامة دين الله، ويرسل الدعاة إلى البلدان النائية لبيان الدين وإرشاد الناس إليه، ومن بين تلك البلدان الدرعية؛ فقد راسل قاضيها عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب، وراسل ثنيان بن سعود وعبد العزيز بن محمد بن سعود وأحمد بن سويلم، وراسل أهل الرياض وابن عبد اللطيف من أهل الأحساء، وغيرهم من أهل البلدان الأخرى.
نهاية معارضة علماء السوء أمام جهاد الشيخ:
إن جهود الشيخ ودعوته إلى عقيدة السلف الصالح قد لقيت معارضة، حتى من علماء! علماء السوء عارضوا دعوة الشيخ، وهي نشر لميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإحياء سنته، واتباع لملته، ولكل قوم وارث؛ فكما أن الشيخ رحمه الله وأتباعه يرثون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن يكون للشيخ أعداء من شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وكلما كان الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتم؛ كلما كانت المشابهة في تطور الأحوال أشد.
ولقد بدأ أعداء الله وأعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم - من علماء السوء في مقاومة الشيخ والكيد له ولدعوته منذ كان في حريملاء؛ ففي إحدى الرسائل التي بعثها الشيخ من العيينة إلى عبد الوهاب بن عبد الله ذكر الشيخ أن عبد الوهاب هذا منذ خمس سنوات وهو يجاهد جهادا كبيرا في رد دين الإسلام، فإذا جاءه مساعد أو ابن راجح أو صالح بن سليم وأشباه هؤلاء الذين يلقنهم الشيخ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن عبادة المخلوقات كفر، وأن الكفر بالطاغوت فرض؛ قام عبد الوهاب يجاهد
ويبالغ في نقض ذلك ويستهزئ به(1).
__________
(1) انظر: "روضة ابن غنام" (1/157-158)، وقارن بما في كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب ..." للدكتور العثيمين (ص45).(1/118)
وقال ابن غنام ما حاصله: "وأشر الناس والعلماء إنكارا عليه وأعظمهم تشنيعا وسعيا بالشر إليه سليمان بن سحيم وأبوه محمد؛ فقد أتهم في ذلك وأنجد، وجد في التحريش عليه والتحريض، وأرسل بذلك إلى الأحساء والحرمين والبصرة، وحشر علماء السوء ونادى، وكذب عليه وبهت وزور، وبعث الطروس مترعة بالباطل والمين إلى علماء السوء من تلك الأقطار، فقاموا معه فورا بالإنكار، وأفتوا للحكام والسلاطين والأشرار، بأن القائم بدعوة التوحيد خارجي وأصحابه خوارج، وليس له تثبت في الحق، وجزم كثيرمن علماء الأمصار -وهم علماء السوء- بأن هذا المبين لآثار السلف الصالح من أقبح الضلال وأشر الخوارج، وحسبوا أنهم إذا حرشوا عليه الحكام يفوزون بقتله وطمس دعوته، مع أن بعض قد عرف أن الذي جاء به الحق ولكنهم لذلك كانوا يكتمون، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله، وزعمهم تغييره للشرع النبوي وتبديله، وعدم معرفته بأسرار العلوم وتجهيله، وسطروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله، وحكموا بأن الشيخ ساحر وكذاب ومفتري وكافر حلال الدم والمال، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، فأطبق أهل الباطل والضلال على قبيح تلك الأقوال، وأرهفوا أسنة المقال، والكل
خاض في الإفك ونال، والذي تولى منهم هذا الأمر الكبير واقتحم لجج موجه الخطير، وشمر فيه أعظم التشمير، وتنادى عليه مع أعوانه لأجل التغيير، حسدا وبغيا، بالإضافة إلى سليمان بن سحيم وأبيه محمد من مطاوعة أهل الرياض -كما تقدم- عبد الله بن عيسى المشهور بالمويس، ولد في بلد حرمة من بلدان وادي سدير، وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق من الأحساء"(1).
__________
(1) "روضة ابن غنام" (1/31-32) بتصرف واختصار.(1/119)
ولقد عارض الشيخ غير هؤلاء ممن يدعي الرفعة والشأن والقدم الراسخة في العلم والعرفان، مع أن أكثرهم يقر على نفسه ويعترف بأن ما أتى به محمد بن عبد الوهاب هو الحق والصواب، وأن هذا هو التوحيد المطلوب، ومن لم يتحقق به؛ لم يفرق بين الرب والمربوب، لكن أنفت قلوبهم، واستنكفوا، وخشوا أن يكون إقرارهم وموافقتهم سبباً في أن تسلب منهم رئاستهم ودنياهم وجاههم بين الناس، فأنكروا بعد المعرفة، وأصبحت ألسنتهم في ذلك مسرفة، ووجوههم عن الحق منصرفة؛ حتى أنكروا من الشرع الأمور المعروفة.
قال ابن غنام: "فذكر لنا عن تحقيق ويقين أنهم أنكروا على عثمان بن معمر أدبه من تخلف عن الصلاة في جماعة المسلمين، وتأديبهم من لم يصل جملة، وجبايته الزكاة، وغير ذلك من أمور الدين، وكان كثير من علماء السوء في نجد يأتون إلى رؤساء البدو ويحذرونهم وقوع الصلاة في حيهم وسماع الأذان، ويحثونهم على
التمسك بقبيح تلك الأديان، وما كانوا عليه من الفسق والعصيان"(1).
وقد أنكروا على الشيخ أمره الوالي بإقامة الحدود، فزعموا أن الشيخ لا صفة له تخوله الحكم والأمر برجم من استوجبه مثلا، وقد رد عليهم الشيخ، وبين لهم أن ما فعله هو حكم الله المؤيد بالسنة والجماعة، ومما قاله الشيخ: "إن الأئمة من كل مذهب مجمعون على أن من تغلب على بلد أو بلدان؛ له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرف أن أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم... إلى أن يقول: "ولكن أعداء الله يجعلون هذه الشبهة حجة في رد ما لا يقدرون على جحده، كما أني لما أمرت برجم الزانية؛ قالوا لا بد من إذن الإمام".
__________
(1) "روضة ابن غنام" (1/37-38) بتصرف واختصار.(1/120)
قال الشيخ: "فإن صح كلامهم؛ لم تصح ولايتهم القضاء، ولا الإمامة، ولا غيرها"(1).
هذا وقد مر بنا في مبحث البيئة من حول الشيخ أن نجدا لم يدخلها السلطان العثماني تحت نفوذه قبيل ظهور الشيخ، وإنما كانت نجد مجزأة بين أمراء متعددين، وكل أمير مستقل بما تحت يده(2).
ومن أسباب مقاومة هؤلاء المخالفين أن الشيخ جاءهم بشيء
استغربوه، وخالف ما اعتادوه وألفوه وأشربوه في قلوبهم، ألا وهو: إعلان الشيخ رحمه الله تعالى وجوب التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة، والعمل بما جاء من هدي الأصحاب، وبما اختاره الأئمة الأربعة الذين شاعت مذاهبهم في الأمة، فهو وإن كان يختار مذهب الحنابلة؛ فإنه لا يقدمه على النص القاطع، ولا يتعصب له، بل يختار من المذاهب الأخرى مذهب من هو أقرب إلى الدليل والصواب الموافق للشريعة، وقد أسفر كلام الشيخ عن هذا الاتجاه وظهر وشاع؛ فلذا طارت قلوب متعصبة المذاهب والمقلدة في العمى؛ فرقاً من هذا النور، والذي مداره على اتباع ما أمر الله به من الرد في حال التنازع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - "(3).
مع أن الرد إلى الكتاب والسنة هو الصواب المتعين، والحق المطلوب من دين الإسلام بالضرورة، وفيه من أسباب الألفة والاجتماع والتوحيد بين المسلمين ودحر الشر والتفرق ما يغيظ تجار الحروب ومستغلي فرص التفريق والمنازعات ليسودوا ويثروا على أنقاض الدمار والفساد وعبادة الأوثان والأنداد.
__________
(1) "روضة ابن غنام" ( 1/207).
(2) انظر: (1/37) من هذا البحث.
(3) "روضة ابن غنام" (1/38، 39، 40).(1/121)
وكذلك قد اعتبروا الرد إلى الكتاب والسنة بدعة وإلحادا وخروجا عن الدين، وقد زين لهم الشيطان شبهة أنهم لا يقدرون على فهم كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام السلف الصالح، وأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر(1).
ويمكن أن نحصر نقطة الخلاف بين الشيخ وخصومه من علماء السوء وغيرهم في أنه يقول: كل ما يعبد الله به بجميع أنواعه يجب أن يكون خالصا لله وحده؛ فلا يصرف منه شيء لغيره؛ كالدعاء والذبح والنذر والتوكل والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة وغير ذلك مما ورد به شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبين للناس ذلك، وأمرهم بإخلاصه لله وحده، ونهاهم عن الشرك بذلك، وبين لهم أن من الشرك ما هو واقع من أكثر الناس حين يدعون الأنبياء والأولياء والصالحين، بل وغيرهم من الفسقة والطواغيت والمجانين، من أهل القبور والمقامات والمشاهد، وغيرهم من الأموات والأحياء، يتعلقون بهم، ويذبحون لهم، وينذرون، ويتقربون إليهم بأشياء إنما هي من حقوق الله التي شرعها تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته ليتعبد له بها، وبين الشيخ أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة، الذين يدعون علياً وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
لذلك؛ لم يستطع العلماء المكابرون الصمود للشيخ في ميدان الحجة والبرهان، وغلبهم بيان الحق وأسكتهم برهانه عن الرد عليه ومناظرته، ودحضت حججهم، وكشفت شبهاتهم، وهم قد أشربوا محبة ما اعتادوه ووجدوا عليه مجتمعهم وكبراءهم وأسلافهم من الآباء والأجداد من الشرك والفسوق وأكل الربا والسحت؛ فلجأوا إلى الافتراء والكذب والمكر والحيل، والاستعانة بتخويف الملوك والحكام
__________
(1) انظر: رسالة الشيخ إلى عبد الله بن عبد اللطيف في "روضة ابن غنام" (ج 1/53-57)، وانظر: "تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران" بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي (ص 11).(1/122)
وأصحاب المناصب؛ من فوات حظهم بظهوره، فكتبوا إلى رئيس الأحساء وبني خالد سليمان بن محمد؛ لأن هؤلاء الشياطين والعياذ بالله عرفوا كيف يدخلون على أمير العيينة من جهته؛ فهو يدور في فلكه، وله عنده خراج ومصالح، وينقاد إلى أمره، فقالوا لأمير الأحساء فيما قالوه من الأكاذيب: إن عثمان بن معمر قد آوى مطوعا(1) يريد إخراجكم من ملككم وإثارة الناس عليكم، وأقل ما يقوله للعامة: إن المكوس والعشور التي يأخذها الأمراء باطلة لا يقرها الدين، وها هو يرجم امرأة من أجل الزنى بغير إذن منكم... إلى غير هذا من التحريش والبهتان وإثارة الملوك بما يثيرهم ويخوفهم مهما كان.
ويذكر ابن غنام أنه لما جرت قضية إقامة حد الرجم في العيينة ؛ كثر القيل والقال من أهل البدع والضلال، وطارت قلوبهم خوفا، وداخلهم من حصول تلك القضية ما لم يعاينوا قبله مثله، ولم يسمعوا به منذ زمن، وذلك لما ألفوه من الفواحش، مقارنا لما كانوا عليه من الشرك، ثم لما أعياهم أن يردوا الحكم المشروع بالسنة والإجماع أمام الشيخ وأنصاره؛ لجأوا إلى ردها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم الظالم سليمان آل محمد رئيس بني خالد والحسا، وكان قبحه الله مغرما بالزنى، مجاهرا به، غير مختف بذلك، وحكايته في ذلك مشهورة، وقصصه فيه غير محصورة، فأغروه به، وصاحوا عنده، وقالوا: إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم، ويسعى في قطع ما أنتم
عليه من الأمور والأمكاس والعشور"(2) فلما خوفوه بزوال محبوبه وتفويت مطلوبه، كتب إلى عثمان يأمره بقتله، أو إجلائه عن وطنه؛ وألزم عليه وشدد وهدد.
وكذلك ابن بشر في "تاريخه" يذكر أن قضية الرجم كانت من الأمور التي استغلها أعداء الشيخ في التحريش عليه.
__________
(1) المطوع): اصطلاح في نجد أنه الذي يصلي بالناس ويكون عنده شيء من المعرفة.
(2) "روضة ابن غنام" (2/2-3).(1/123)
قال ابن بشر: "فلما صدرت منه هذه (أعني: رجم المرأة)؛ اشتهر أمره في الآفاق، فبلغ خبره سليمان بن محمد بن غرير الحميدي قائد الأحساء والقطيف وما حوله من العربان، وقيل له: إن في بلد العيينة عالما فعل كذا وكذا، وقال كذا وكذا، فأرسل سليمان إلى عثمان كتاباً، وقال: إن هذا المطوع الذي عندك فعل وفعل، وتهدد عثمان وقال: اقتله، فإن لم تفعل؛ قطعنا خراجك الذي عندنا في الأحساء. وخراجه عندهم كثير"(1).
أما ابن معمر؛ فإنه انهزم أمام تهديد ابن غرير، ولم يثبت على المبدأ والعهد، فخذل الشيخ، واستجاب لداعي الشيطان.
مواصلة الشيخ جهوده رغم خذلان ابن معمر له:
قال ابن غنام: "إن ابن معمر آثر الدنيا على الدين، وسلك منهج
المبطلين، وأمر الشيخ بالخروج، ولم يكن إلى قتله سلم ولا عروج، وذلك لما اقتضته الحكمة الإلهية والعناية الصمدانية من إحياء دارس السنة المحمدية والآثار السلفية، فخرج الشيخ إلى بلد الدرعية"(2).
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد" (1/10)، وانظر: "تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور منير العجلاني (ص217)، و"تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ" تأليف حسين خلف الشيخ خزعل (ص141).
(2) "روضة ابن غنام" ( 2/3).(1/124)
ويفصل ابن بشر وصف حالة ابن معمر لما ورد عليه كتاب صاحب الأحساء بقوله: "فلما ورد عليه كتابه؛ ما وسع مخالفته، واستعظم أمره في صدره؛ لأنه لم يعلم قدر التوحيد، ولا لمن نصره وقام به من العز والتمكين في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة، فأرسل إلى الشيخ، وقال له: إنه أتانا خط من سليمان قائد الأحساء، وليس لنا طاقة بحربه ولا إغضابه، فقال له الشيخ: إن هذا الذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله وأركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أنت تمسكت به ونصرته؛ فإن الله سبحانه يظهرك على أعدائك؛ فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك، فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك به بلاده، وما وراءها وما دونها.
فاستحيى عثمان وأعرض عنه، ثم تعاظم في صدره أمر صاحب الأحساء وباع بالآجل العاجل، وذلك لما علم الله سبحانه الذي يعلم السر وأخفى؛ يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير: أن نصر هذا الدين والظهور والغلبة والتمكين يكون لغيره، وعلى يد غيره، فأرسل إلى الشيخ ثانيا وقال: إن سليمان أمرنا بقتلك، ولا نقدر على غضبه ولا مخالفة أمره؛ لأنه لا طاقة لنا بحربه، وليس من الشيم والمروءة أن نقتلك في بلادنا؛ فشأنك ونفسك وخل
بلادنا(1) اهـ.
مما نقلناه عن ابن غنام وابن بشر نتبين أن ابن معمر آثر الدنيا على الدين، وباع العاجل بالآجل، لما تعارض في صدره أمر صاحب الأحساء وأمر الله تعالى، فأمر الشيخ بالخروج، وقد كان الشيخ يهيئ ابن معمر لأمر عظيم، ويرجوه لمكان جليل وملك عريض، ولكن خاب الظن فيه، ولم ينفذ القتل الذي أمر به، لأن الله تعالى أراد ظهور هذا الدين على يد غيره، وهو العليم الحكيم، يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } (2).
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد" (1/10-11).
(2) سورة آل عمران آية : 145.(1/125)
أما الشيخ؛ فإنه كان رغم ما جرى له من خذلان ابن معمر له على ثقة من ربه، وقد قوى الله إيمانه حتى صغر في نفسه وفي ميزان إيمانه بعقيدة السلف الصالح أمر صاحب الأحساء وخذلان ابن معمر له وإخراجه من الوطن والمال والأهل والمسكن، وبقي لديه إيمانه بصحة عقيدة السلف الصالح، وأن الله ناصر دينه، وبقي حسن الظن بالله تعالى والثقة به وحده لا شريك له.
قال الشيخ حسين بن غنام:
عفا رسمه والأرض من نوره قفر ... فقد جاءنا يدعوا إلى الدين بعدما
من الحق والبرهان يكشفه السبر ... فجادله الأحبار فيما أتى به
وصار إليه الفلج والورد والصدر ... ونوظر حتى ألزم الخصم عجزه
لملة آباء عليها مضى العمر ... فعودي بغيا واهتضاما ونصرة
فما ناله مما أرادوا به ضر ... وهموا بما لم يدركوا من وقيعة
فآواه بل ساواه من خصه البر ... نفته العدا لما جفته أقارب
بآل سعود حين شد له أزر(1) ... فجاهد حتى أطلع الله بدره
والآن إلى الفصل الثاني، وهو بحث أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها آل سعود.
الفصل الثاني
أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها آل سعود
" الشيخ في الدرعية:
فيما يلي أسوق خلاصة خبر وصول الشيخ إليها وما جرى له.
لما وصل الشيخ بلد الدرعية؛ دخلها من أعلاها وقت العصر، فنزل على عبد الله بن سويلم تلك الليلة، فأقام عنده ذلك اليوم، ولعله هو الذي تبرم بوجود الشيخ عنده؛ خوفا على نفسه من محمد بن سعود(2).
__________
(1) "روضة ابن غنام" (ج2/ص240)، وانظر: "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (طبعة المعارف، ج1، ص145، 146).
(2) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب ..." للدكتور العثيمين (ص54).(1/126)
ثم إن الشيخ انتقل من عنده إلى بيت تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم، فعلم به خصائص من أهل الدرعية، فزاروه خفية، ورأوه لا يزال على سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثابتاً، يدعو إلى الله على بصيرة، ويقرر لهم التوحيد الذي هو أساس الدين، والذي وقعت فيه الخصومة، فاستقر التوحيد في قلوب هؤلاء الخصائص، فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود ويشيروا عليه بنصرته، فهابوه، فأتوا إلى زوجته موضى بنت
أبي وهطان من آل كثير(1) وأخيه ثنيان الضرير، وكانت المرأة ذات عقل ودين ومعرفة، فأخبروهما بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلوبهما معرفة التوحيد، وقذف الله في قلوبهما محبة الشيخ(2).
اللقاء التاريخي بالأمير الراشد:
وهذه خلاصة أيضا أنقلها عن ابن بشر وابن غنام:
دخل محمد بن سعود على زوجته، فأخبرته بمكان الشيخ، وقالت له: إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة؛ فاغتنم ما خصك الله به. فقبل قولها، ثم دخل عليه أخوه ثنيان وأخوه مشاري، وأشاروا عليه بمساعدته ونصرته، وألقى الله سبحانه في قلبه للشيخ محبة، فأراد أن يرسل إليه، فقالوا: سر إليه برجلك في مكانه، وأظهر تعظيمه والاحتفال به، لعل الناس أن يكرموه ويعظموه. فقام محمد بن سعود من فوره، وسار إليه ومعه أخواه ثنيان ومشاري، فدخلوا عليه في بيت أحمد بن سويلم، فسلم عليه، ورحب به، وأبدى غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده، وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر بالعز والمنعة. فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين؛ وهذه كلمة لا إله إلا الله، من تمسك بها وعمل بها
__________
(1) في الأصل من "تاريخ ابن بشر" بياض، والزيادة من بحث حمد الجاسر "المرأة في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (ص 3-4).
(2) انظر: ابن بشر "عنوان المجد ..." (ج 1/11-12، والطبعة الثالثة، ص 24)، و"روضة ابن غنام" (ج 1/3).(1/127)
ونصرها؛ ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى نجدا وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم لبعض؛ فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك.(1).
وهكذا تم اللقاء التاريخي، وحصلت البيعة المباركة على ذلك كما سيأتي إن شاء الله.
وأما ما يقال عن اختلاف ابن بشر عن ابن غنام في تفصيلات ما حدث للشيخ محمد منذ وصوله إلى الدرعية حتى اتفاقه مع أميرها محمد بن سعود(2) فهو ليس اختلافا ينقض بعضه بعضا، ولكن غايته أن ابن بشر انفرد بذكر أمور فيها زيادة بيان؛ مثل ذكره خوف ابن سويلم من نتائج حلول الشيخ في بيته، وزيارة بعض كبار أهل البلد له سرا، وإخبارهم زوجة الأمير بالقضية، واشتراكها بإقناع زوجها بأن يستقبله استقبالا حسناً، وهذه الزيادات التي انفرد بها ابن بشر لا تتعارض مع ما اتفقا فيه؛ مثل كون الأمير محمد بن سعود سار إلى الشيخ في بيت ابن سويلم، ورحب به، ووعده النصر والحماية، وكون الأمير محمد بن سعود اشترط على الشيخ مقابل تأييده له عدم مغادرته بلدته، وأن
__________
(1) انظر: ابن بشر "عنوان المجد" (ج1/11-12)، وطبع وزارة المعارف (ج1/24)، و"روضة ابن غنام" (ج1/3).
(2) انظر: "تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور منير العجلاني (90-91)، فقد جعل هذا الاختلاف سبباً في تضعيف رواية ابن بشر وتبعه على ذلك الدكتور العثيمين "الشيخ محمد... حياته وفكره" ( ص 54 -55).(1/128)
الشيخ وافقه على ذلك، وكذلك ما انفرد بذكره ابن بشر، وهو شرط آخر اشترطه محمد بن سعود على الشيخ، وهو أن يقره على ما اعتاد أن يأخذه من أهل الدرعية. أقول: إن هذه الأمور التي زادها ابن بشر على ما ورد في "تاريخ ابن غنام" ليست معارضة لما اتفقنا على ذكره؛ فلا يسوغ تضعيفها بمجرد انفراد ابن بشر بها عن ابن غنام؛ فإن ابن بشر موثوق، ولا محل لترجيح ما ذكره أحدهما؛ لعدم التعارض بينهما، وكون أمر الشيخ معروفاً لدى خصائص من أهل الدرعية لا ينفي ما ذكره ابن بشر ولا يضعفه(1).
ولا شك أن أمر الشيخ ودعوته إلى عقيدة السلف الصالح منذ ابتدأ به في حريملاء والعيينة من قبل ليس مجهولا في الدرعية، بل كان فيها من يعرفه معرفة جيدة، وكان له فيها أتباع وتلاميذ، كانوا يترددون عليه في العيينة، ويحضرون حلقات دروسه، ويأخذون عنه، ويكاتبونه، ويجيبهم، من هؤلاء الذين يعرفونه ثنيان ومشاري أخوا الأمير محمد بن سعود، والشيخ أحمد بن سويلم، وجماعة سواهم(2) وعبد العزيز بن محمد بن سعود؛ فقد كان يكاتب الشيخ، وكتب له الشيخ تفسير سورة الفاتحة(3) وبين له من خلال تفسيره الأمر العظيم
الذي خلق الله لأجله الجن والإنس، وهو عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به في العبادة، وفي ثنايا تفسيره كأن الشيخ يرمز لعبد العزيز بمقام من يقوم بالتوحيد، فيستشهد له ببيت الشعر المعروف والذي هو:
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(4). ... قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
ولقد كان أتباع الشيخ في الدرعية يتتبعون أخباره ويتشوفون إلى نصرته.
البيعة المباركة:
__________
(1) انظر: "تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور منير العجلاني (90-91)، و"الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ حياته وفكره" للدكتور العثيمين (ص 54-55).
(2) "روضة ابن غنام" (1/31)، وانظر: "تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور العجلاني (ص97).
(3) "روضة ابن غنام" (1/222).
(4) "روضة ابن غنام" (1/223).(1/129)
بعد أن تم لقاء الأمير محمد بن سعود بالشيخ محمد بن عبد الوهاب -كما أسلفت- في بيت ابن سويلم، وسلامه على الشيخ، وذكر الشيخ ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما دعا إليه، وما عليه أصحابه، وما أعزهم الله به من الجهاد في سبيله، وأغناهم به، وجعلهم إخوانا، ثم ذكر ما عليه أهل نجد في زمانهم من مخالفتهم بالشرك والبدع والاختلاف والجور والظلم.
فتحقق محمد بن سعود معرفة التوحيد وفضله، ورأى بعد الناس في الواقع عنه، فقال للشيخ: يا شيخ! إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين:
الأولى: نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان؛ أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.
الثانية: أن لي على أهل الدرعية
قانوناً آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئا.
فقال الشيخ: أما الأولى؛ فابسط يدك: الدم بالدم، والهدم بالهدم. وأما الثانية؛ فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها(1).
ويقول الدكتور العثيمين: "إن إجابة الشيخ عن الشرط الثاني غير حاسمة، ولكن من الواضح أن الشيخ قارن بين المصلحة العامة لدعوته وبين مسألة جزئية كان واثقاً من حلها مستقبلا بسهولة، وهو كما قال"(2).
ثم إن محمدا بسط يده، وبايع الشيخ على دين الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فقام الشيخ، ودخل معه البلد، واستقر عنده، ووقع تحقيق ظن الشيخ؛ فإنه أتى إليهم غنيمة، فقال الشيخ للأمير: هذا أكثر مما أنت أخذته على أهل بلدك. فتركها بعد ذلك(3).
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد" (1/12).
(2) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب..." (ص 55).
(3) ابن بشر "عنوان المجد" (1/12).(1/130)
ولا أدل على بركة الإسلام ولله الحمد مما أولاه الله من نعم على هذه البلاد من المال والأمن منذ ذلك العهد المبارك والبيعة الصادقة إلى يومنا هذا، وما تخلف شيء من ذلك إلا بسبب المخالفة،
وكلما راجع القوم عهدهم؛ عاد الله عليهم بعائدته، ولله الحمد والمنة.
ومعنى قول الشيخ: "الدم بالدم والهدم بالهدم"؛ أي: أقبر حيث تقبرون، ومنزلكم منزلي، وإن طلب دمكم؛ فقد طلب دمي، وإن هدر دمكم؛ فقد هدر دمي(1).
وهذا فيه إشارة إلى ما ورد في "سيرة ابن هشام"؛ أن أبا الهيثم ابن التيهان قال: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها (يعني: اليهود)؛ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: " بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم "(2) قال ابن هشام: ويقال: الهدم الهدم؛ أي: ذمتي ذمتكم، وحرمتي حرمتكم(3).
أثر العقيدة السلفية ينشط في الدرعية:
ولما استقر الشيخ في الدرعية، ومنع، ونصر، وجهر بالدعوة إلى الله تعالى معززا ينشر الإسلام، وساعده على ذلك الأمير محمد بن سعود بكل ما لديه؛ بلا فتور ولا ضجر، وقام مع الأمير كذلك وزراؤه، وأعوانه، وأنصاره من أهل الدرعية، وإخوانه، ومن مشاهيرهم: ثنيان ابن سعود، ومشاري بن سعود، وفرحان بن سعود، والشيخ أحمد بن
سويلم، والشيخ عيسى بن قاسم، ومحمد الحزيمي، وعبد الله بن دغيثر، وسليمان الوشيقري، وحمد بن حسين، وأخوه محمد، وغيرهم؛ فجردوا للدعوة هممهم وعزائمهم، وقاموا بها من غير كسل ولا تهاون، وكانت بداية هذه القومة في سنة سبع وخمسين ومئة وألف من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (4).
__________
(1) انظر: "لسان العرب" (ص 185).
(2) مسند أحمد (3/460).
(3) "الروض الأنف" ( 2/189، 214).
(4) "روضة ابن غنام" (2/3-4).(1/131)
وبقي الشيخ رحمه الله على مناصحة الناس، وعرض الحق وبيانه، وكشف الشبه عنه، قريبا من سنتين، وخلال ذلك كان قد تسلل إليه أنصاره الذين في العيينة، ومن ينتسب إلى الدين، ومعهم أناس من رؤساء المعامرة؛ منهم: عبد الله بن محسن وأخواه زيد وسلطان المعامرة؛ معاكسين لعثمان بن معمر على ما يقول ابن بشر(1) وعبد الله بن غنام وأخوه موسى، وهاجر مع هؤلاء خلق كثير؛ كما أخذ كثير من أنصار الشيخ وتلامذته في مختلف بلدان نجد يقدمون عليه ويهاجرون إليه(2) حتى إن عثمان بن معمر نفسه -على ما يقول ابن بشر- لما علم أن محمد بن سعود آوى الشيخ ونصره، وأن أهل الدرعية فرحوا به، والذين كانوا عنده في بلده هاجروا وتركوه، وأن أمر الشيخ قوي وصار إلى زيادة؛ ندم ابن معمر على ما فعل من إخراجه وعدم نصرته، وخاف منه أمور تفاقم عليه، فركب في عدة رجال من أهل
العيينة ورؤسائها، فقدم على الشيخ في الدرعية، وحاوله على الرجوع معه، ووعده نصره ومنعه، فقال الشيخ: ليس هذا إلي، إنما هو إلى محمد بن سعود، فإن أراد أن أذهب معك؛ ذهبت، وإن أراد أن أقيم عنده؛ أقمت، ولا أستبدل برجل تلقاني بالقبول غيره؛ إلا أن يأذن لي. فأتى عثمان إلى محمد، فأبى عليه، ولم يجد إلى ما أتى إليه سبيلا، فرجع إلى بلده(3).
__________
(1) "عنوان المجد" (1/12)، و"روضة ابن غنام"( 2/4)، والمقصود بالمعامرة آل معمر.
(2) "عنوان المجد" (1/12)، و"روضة ابن غنام"( 2/4)، والمقصود بالمعامرة آل معمر.
(3) "عنوان المجد..." (1/13)، و"روضة ابن غنام" (2/4).(1/132)
وكان أهل الدرعية في غاية الجهالة، وقد وقعوا فيما وقعوا فيه من الشرك الأكبر والأصغر والتهاون بالصلاة والزكاة ورفض شعائر الإسلام(1) وهم يومئذ في غاية الضعف وضيق المئونة(2) فتخولهم الشيخ بتعليمهم وتلقينهم التوحيد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأمر بتعلم معنى لا إله إلا الله، وأنها نفي وإثبات؛ ف (لا إله: تنفي جميع المعبودات، (وإلا الله): تثبت العبادة لله وحده لا شريك له، ثم أمرهم بتعلم ثلاثة الأصول وهي: معرفة الله تعالى بآياته ومخلوقاته الدالة على ربوبيته وإلهيته، كالشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والسحاب المسخر بين السماء والأرض وما عليها من الأدلة من القرآن، ومعرفة الإسلام، وأنه تسليم الأمر لله، وهو الانقياد لأمر الله، والانزجار عن مناهيه، ومعرفة أركانه التي بني عليها، وما عليها من الأدلة من القرآن، ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه ونسبه ومبعثه وهجرته،
ومعرفة أول ما دعا إليه، وهي: لا إله إلا الله، ثم معرفة البعث، وأن من أنكره أو شك فيه؛ فهو كافر، وما على ذلك من الأدلة من القرآن والسنة، ومعرفة دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو التوحيد، ودين أبي جهل وأتباعه، وهو الشرك بالله تعالى.
فلما استقر في قلوبهم معرفة التوحيد بعد الجهالة، أشرب في قلوبهم محبة الشيخ، وأحبوا المهاجرين، وآووهم(3).
وكان المهاجرون في أضيق عيش وأشد حاجة، وابتلوا بلاء شديدا، وكان الشيخ ينفق عليهم ما استطاع، ويستدين لذلك، وكانوا في الليل يأخذون الأجرة ويحترفون، وفي النهار يجلسون عند الشيخ في درس الحديث والمذاكرة(4).
انطلاق الدعوة وبدء الجهاد:
__________
(1) "عنوان المجد..." (1/14).
(2) "عنوان المجد..." (1/13).
(3) "عنوان المجد..." (1/14).
(4) "عنوان المجد..." (1/13).(1/133)
ثم إن الشيخ كاتب أهل البلدان ورؤساءهم وقضاتهم ومدعي العلم منهم؛ فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من اتخذه سخرياً، واستهزءوا به، ونسبوه إلى الجهل وعدم المعرفة، ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأشياء هو بريء منها(1).
واستمر الشيخ على المناصحة والدعوة والمكاتبة مدة سنتين، حتى عام 1159 هـ؛ من غير غزو ولا مقاتلة، وممن قام الشيخ والأمير محمد بن سعود بمناصحته دهام بن دواس رئيس بلد الرياش، فاجتهدا
__________
(1) "عنوان المجد..." (1/14).(1/134)
في مناصحته غاية الاجتهاد، ولكن دهاما لم يقبل الحق، وأعرض عنه، واشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فحمله ذلك على البغي والحسد، فأبطن عداوة أهل الدين رغم إقراره بأنه دين الحق، وأظهر موالاة المبطلين، وكان قد فشا الإسلام والسنة في بلده، ودخل في ذلك كثير منهم، فصار إذا رأى من جماعته من يحب هذا الدين ويفشيه؛ أخذ يصادره ويتعرض له بصنوف الأذى، وإذا رأى عدوا؛ قربه وآواه، وجعل يتزايد في العداوة، ويتظاهر بقمع الحق، ويعلن القبائح الشنيعة، وقد كانت أخلاقه القديمة وأفعاله السابقة غير محمودة، ولما جاءه الحق؛ زاد في طغيانه وشره، وحاكى بأفعاله الفاجرة نمرودا وفرعون، فأخاف أهل منفوحة لأنهم دخلوا في دعوة الشيخ وتبعوا الإمام محمد بن سعود، فعدا عليهم صباحاً ومعه بعض البوادي من آل ظفير على غرة وغفلة لأنهم ما كانوا يتوقعون ذلك منه، وهو صديق لمحمد بن سعود فيما يتظاهر به؛ لأن محمد بن سعود سبق أن أعانه على ثورة من أهل الرياض ضده، ولكنه فجأهم، واحتل قصر الإمارة، وقهرهم ساعة، ثم إن الله سبحانه أعقب أهل منفوحة بالنصر والفرج، فكانت الدائرة على دهام وحزبه، وقتل من أشرارهم ورؤسائهم أحد عشر رجلا تقريبا، وجرح دهام نفسه، وعقر حصانه، فهرب هو ومن معه وقد باء بالفشل، ولكنه قد افتضح بإظهاره عداوة أهل الدين، فزاده ذلك تمادياً، وأعلن محاربة ابن سعود لأجل ذلك، ونذر جزورا لتاج بن شمسان إن تغلب على ابن سعود(1).
عند ذلك أمر الشيخ بالجهاد، وحض عليه(2) وكان هذا في سنة 1159 هـ، بعد مضي سنتين من اتفاق الأمير محمد بن سعود مع الشيخ على القيام بالإسلام؛ لأن وقت الجهاد قد حان، وهو من واجبات الدين، والخطر أصبح وشيكاً على النفس والحرمة، والفتنة كائنة على أهل السنة، وليس من ذنب ينقمه العدو إلا الإيمان بالله وإقامة سنة رسوله، وقد قامت عليه الحجة.
__________
(1) "روضة ابن غنام" ( 2/6-7) .
(2) ابن بشر "عنوان المجد .." (1/14).(1/135)
والأمر كما قال أبو تمام:
تميل ظباه أخدعي كل مائل ... وما هو إلا الوحي أو حد مرهف
وهذا دواء الداء من كل جاهل ... فهذا دواء الداء من كل عاقل
وإن تغفلوا فالسيف ليس بغافل(1) ... هو الحق إن تستيقظوا فيه تغنموا
وكما قال شوقي يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم ... قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم ... جهل وتضليل وأحلام وسفسطة
تكفل السيف بالجهال والعمم(2) ... لما أتى لك عفوا كل ذي حسب
وكما قال شاعر:
وتأمن سبل بيننا وشعاب(3) ... وما الدين إلا أن تقام شريعة
وأبلغ من ذلك قوله تعالى:
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) } (4).
وقد قال الشيخ في رسالته إلى السويدي: "وأما القتال، فلم نقاتل أحدا إلى اليوم؛ إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا، ولا أبقوا ممكنا(5) ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة، (وجزاء سيئة سيئة مثلها)، وكذلك من جاهر بسب دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعدما عرفه، والسلام"(6).
__________
(1) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين" (ص84)، وابن بشر "عنوان المجد" من تعليق عبد الرحمن بن عبد اللطيف (1/ص26).
(2) "الشوقيات" (ج1/242).
(3) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين" (ص84).
(4) سورة البقرة آية : 193.
(5) المعنى: لم يبقوا شيئاً ممكنا من أذانا إلا فعلوه.
(6) "روضة ابن غنام" (1/154).(1/136)
ومنذ بلغ ابن سعود وإخوانه من المسلمين غدر دهام بن دواس، واعتداؤه على أهل الدين؛ حدثوا نفوسهم بالجهاد في سبيل الله تعالى، وحين رآه الشيخ متعينا لمثل غدرات ابن دواس وغيره بأصحاب السنة المحمدية؛ أمر به، وحض عليه، فتعاهدوا على أن تكون أول عدوة يعدونها مبتدئين بها جهاد أعداء الدين على دهام بن دواس في قصره، فكان ذلك، ووفوا بعهدهم(1).
فأقاموا علم الجهاد في سبيل الله؛ لأن الجهاد في سبيل الله من
الواجبات الدينية، وهو ذروة سنام أمر الدين(2) وما زالوا على ذلك؛ يجاهدون في سبيل الله، وينشرون دين الله تعالى، ومحمد بن سعود إمامهم، صابر على عداوة الأدنى والأقصى من أهل نجد، ومن الملوك المجاورين من كل جهة، وقتل أولاده فيصل بن محمد وسعود بن محمد، فما زاده إلا قوة وصلابة في دينه على ضعف منه وقلة في العدد والعدة، وكثرة من عدوهم، وفاء بعهده، والتزاما بوعده، واحتسابا لموعد ربه لمن نصر دينه، وفيما جرى منه شبه بما جرى من الأنصار في بيعة العقبة(3).
__________
(1) "روضة ابن غنام" (2/7)، و"عنوان المجد ..." لابن بشر (1/17-18).
(2) انظر آخر رسالة "الأصول الثلاثة" للشيخ.
(3) انظر: "الدرر السنية" (ج11/ ص61-62).(1/137)
وليس الأمر كما يزعمه بعض الباحثين في عصرنا هذا جريا مع المستشرقين في زعمهم أن الحروب الإسلامية كان يدفعها جوع المسلمين ومشكلات دنيوية، فزعم هذا الباحث أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يخطط لدعوته مراحل، وأنه أمر بالجهاد لتنتقل دعوته إلى مرحلة جديدة ينال فيها بالقوة ما عجز عنه بطريقة الإقناع والإغراء(1) وأن الأمير محمد بن سعود كان مستعدا للقتال من أجل الدعوة، خاصة أنها وسيلة من وسائل توسيع نفوذه، وإمكان تحقيق كثير من النجاح العسكري في بداية الأمر دون تدخل خارجي، وأن إمكانيات الدرعية الاقتصادية محدودة، وكان على قادتها أن يجدوا حلا
لمشكلة ازدياد الوافدين إليها من أنصارهم الفقراء، وأن هؤلاء الوافدين مؤهلون لأن يلعبوا دورا كبيرا في تأسيس جيش قوي(2) فكل هذه الالتواءات والتعليلات مكشوفة، يراد منها أن الشيخ وابن سعود وأتباعهم إنما قاتلوا للظفر والنفوذ وحل المشكلة الاقتصادية، وهذا غير صحيح.
أما أن الشيخ رحمه الله أمر بالجهاد؛ فنعم؛ أمر به حين رأى أن وقت الجهاد قد حان؛ تعبدا لله تعالى، وجهادا في سبيله بكل أنواع الجهاد وأحواله، التي تحدث لهم بحول الله وتدبيره، والشيخ يرصد حاله وأحوال من معه، وما يجري لها من تغيرات، ويستلهم من شريعة الله أحكام تلك الأحوال المتغيرة، فيقوم بتنفيذها؛ تعبدا لله، وقياماً بالواجب الذي فقهه من دين الله تعالى، وكذلك من كان معه على شيء من فقه الإسلام.
__________
(1) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ حياته وفكره" للدكتور العثيمين (ص58).
(2) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره" للدكتور العثيمين (ص58).(1/138)
والتحدث عن مقاصد الشيخ ومقاصد أمثاله وأعوانه على ضوء قياسها بمقاصد أهل السياسة الدنيوية والخطط الماكرة في سبيل الدنيا يعتبر ظلما وتعدياً عليه وقصورا عن مستوى حسن الظن بالمسلم، ولكن الواجب إذا تحدثنا عن مقاصد الشيخ ونواياه أن نتحدث عنها على ضوء ما يظهره ويدعو إليه، أما السرائر وما لا نعلمه؛ فنكله إلى الله تعالى، مع وجوب حسن الظن فيمن يظهر منه الخير والرشد والصلاح، وكذلك محمد بن سعود، لا نظن به أنه قام بنصرة الإسلام لأنه وسيلة لتوسيع نفوذه أو استقلاله عن سيادة الأتراك؛ كما يقوله
صاحب كتاب "الفكر السامي"(1) فإنه إنما قام بنصرته لأنه دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالدرجة الأولى؛ كما قال ذلك عند لقائه بالشيخ رحمه الله، وما كانت ظروف الدرعية المشكلة من ناحية الاقتصاد هي الدافع للقتال؛ فإن أولئك القوم تركوا تنمية اقتصادهم مختارين ليقوموا بتنمية دينهم وعلمهم به؛ فكيف ينحرفون لحل مشكلاتهم الاقتصادية بالقتال وسفك الدماء ليأخذوا أموال الناس ويستولوا على أملاك الغير بطريقة جاهلية؟! ألا يمكن حل مشكلتهم الاقتصادية بالتجارة ومزاولة أسباب المعيشة ولو في خارج البلدة لو كانوا إنما أرادوا حل المشكلة الاقتصادية؟! لكنهم بالجهاد أرادوا إعلاء كلمة الله، ونشر الإسلام، وما جاءهم من الغنائم من غير أن يقصد؛ قبلوه وتعاملوا به على ما يرضي الله تعالى.
وليس صحيحا ما يزعمه مؤلف كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي من أن ابن سعود توصل بنشر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأمنيته، وهي الاستقلال والتملص من سيادة الأتراك(2).
__________
(1) "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (ج2، ص374).
(2) "الفكر السامي ..." (2/374).(1/139)
والواقع أن ابن سعود ونجدا كلها لم تكن تحت سيادة الأتراك كما أثبتناه فيما سبق(1) وابن سعود كان مستقلا، ليس لأحد عليه ولاية من الأمراء والسلاطين، حتى إن العداء كان قائما بينه وبين سليمان بن
محمد زعيم بني خالد ورئيس الأحساء(2).
محمد بن سعود مؤسس دولة آل سعود :
يتفق الدكتور العجلاني والدكتور العثيمين على استقرار إمارة الدرعية عشرين سنة في يد محمد بن سعود قبل مبايعته للشيخ، مما يدل على حكمة الرجل وحسن سياسته وقضائه على دسائس المنافسين في الداخل والدفاع ضد الأعداء والطامعين من الخارج، ويبدو أنه على صلات حسنة مع أمير العيينة؛ لأن ابنه عبد العزيز تزوج بنت عثمان بن معمر، وأما أمير الرياض دهام بن دواس، فإنه كان مدينا لمحمد بن سعود ببقائه في الإمارة؛ لأنه أنجده بعدد من الجنود حين ثار عليه أهل الرياض، فاستقر له الحكم(3).
وعلى أية حال، فإذا كان ليس كل أحد يصلح للسياسة والحكم(4) ؛ فإن محمد بن سعود قد امتاز على غيره بما وهبه الله من ملكات الإمارة والحكم، وأنه كما يقول المؤرخ حسين بن غنام: "كان في جاهليته بحسن السيرة معروفا، وبالوفاء وحسن المعاملة موصوفا، مشهورا بذلك دون من هنالك، وكان من وفائه أن وفى بكفالته لزيد بن
مرخان وفاء كلفه ثمنا باهظا، أدى إلى قتل عمه مقرن بن محمد لما خفر الأخير ذمة ابن أخيه بقتله زيد بن مرخان غدرا"(5).
__________
(1) انظر: (1/38) من هذا البحث.
(2) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب....." للدكتور العثيمين (ص53).
(3) "روضة ابن غنام" (2/5-6)، وانظر: "تاريخ البلاد العربية السعودية" للدكتور العجلاني (ص63-64)، وانظر: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للدكتور العثيمين (ص53).
(4) انظر: "فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام" رسالة ماجستير أعدها صالح العبود (ص 125-126).
(5) "روضة ابن غنام" (2/3).(1/140)
ثم إن الأمير محمد بن سعود قد أدرك بصفاء بصيرته وسلامة تفكيره أنه لا مطمع للشيخ في الإمارة ولا في الرئاسة ولا في أي علو في الأرض ولا فساد من دعوته، بل إلى صلاح الدين والدنيا معاً، إلى عقيدة السلف الصالح، وتيقن من خلال ما سمعه من الشيخ ورآه أن نصيحته صادقة وعرضه صحيح، وأن القيام بنصر دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سبب للنصر والعز والتمكين وحصول الملك، وزاد يقين الأمير رسوخا ما بينه الشيخ له من أن الله سيمكن من يقوم بنصر لا إله إلا الله ويعزه ويورثه الملك، وأن الأمة بحاجة إلى إقامة الدين، وإصلاح ما أفسد الناس، وأن هذا واجب عليه، فقبل محمد بن سعود وأصبح هو المؤسس لدولة آل سعود، وهو الذي سن سنة حسنة لبنيه بمناصرة دين الله وإكرام علماء السنة(1).
وهذا ما يحققه الدكتور العجلاني أيضا، حيث يقرر أن مؤسس دولة آل سعود هو محمد بن سعود، بمبايعته للشيخ محمد بن عبد الوهاب على إخلاص العبادة لله وحده، واتباع حكم الإسلام الصحيح في سياسة البلاد(2) وإقامة علم الجهاد في سبيل الله.
وأقول: إن مبايعته للشيخ على ذلك لدليل على عظيم عقله، وبعد همته، وطموحه، وتوفيق الله له.
__________
(1) انظر: "عنوان المجد"، لابن بشر، (سابقة سنة 1139، ج1/234-235).
(2) "تاريخ البلاد العربية السعودية" (ص 46-47).(1/141)
قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "وكفى برهاناً على شجاعته وثبات جأشه، وشهامته وإرادته الحديدية وعزمه البات وقوة إيمانه وسائر خصاله الحميدة إيواؤه للشيخ وقيامه بنصرته، وقد رأى وعلم ما وراء ذلك من الأخطار، وتأليب الملوك والأمراء وعامة الناس عليه، ولولا أنه هو الأوحد فرد زمانه؛ لما نجح في توطيد دعائم ملكه ونشر سلطته على البلدان وتوحيد كلمة التوحيد تحت لوائه بين خطوب سود ونظراء أقوياء، وتكالب من جميع أطراف جزيرة العرب؛ فلهو القائد الباسل، والأوحد الحلاحل، فما قام بنصرة هذا الشيخ والأخذ بساعده إلا عن اعتقاد راسخ وإيمان قوي"(1).
ونستطيع أن ندرك من خلال حديث اللقاء والبيعة بينه وبين الشيخ أنه مدرك لحقيقة الإسلام، ومميز لما هو من دين الله ورسوله من غيره بما آتاه الله من صفاء الفطرة ونفوذ البصيرة، وما بلغه من الحجة على يد الشيخ وغيره، فكان من صدقه ووفائه استجابته وعدم استنكافه عن قبول الحق لما جاءه، وإن كان قد جاءه من مستضعف، ثم أدرك شيئا بعيدا، فاشترط على الشيخ إن نصرهم الله أن لا يرتحل عنهم إلى غيرهم؛ لأنه رحمه الله ذو فراسة وذكاء ومن أعظم العقلاء، وأنه حين لقي الشيخ ورآه؛ عرف الصدق في وجهه وبديهته، وتحقق في قوله وحاله حلية أولياء الله، وكل عاقل يرغب في أولياء الله وفي قربهم،
وفعلا وقع ما كان يتوجسه محمد بن سعود من مجيء ابن معمر نادما يطلب عودة الشيخ إليه(2).
وحيث كان شأن العاقل أن ينقاد لأولياء الله؛ فقد انقاد الأمير محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ لأن الأمير من أعظم عقلاء زمانه، والشيخ من أعظم أولياء زمانه.
__________
(1) " الدرر السنية" (12/29).
(2) انظر: (1/168) من هذا البحث.(1/142)
قال أبو نعيم في "حلية الأولياء": "واعلم أن لأولياء الله تعالى نعوتا ظاهرة وأعلاما شاهرة، ينقاد لموالاتهم العقلاء والصالحون"، وذكر من نعوت هؤلاء الأولياء ما رواه بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رب أشعث ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله عز وجل؛ لأبره "(1)(2).
وكان الشيخ في تلك الآونة ضعيفا مستضعفا، أشعث من السفر، قد نبت عنه أعين الناس أهل الدنيا والبأس؛ إلا أنه من أولياء الله، ومن العلماء بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الأمناء، فلا ينقاد له ويوافقه إلا ذو عقل صريح؛ كما هو الشأن من موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح؛ فكان بتوفيق الله ومعونته وفضله على أهل الجزيرة أن وفق لأمير عظيم الفراسة كبير القلب راجح العقل، حيث اغتنم أعظم فرصة وغنيمة سيقت إليه، وكانت سبب ارتفاعه وارتفاع ذكره وذكر نسله من بعده وعزه في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى؛ فرحمة الله عليه وعلى
خلفه من أسلاف صالحين، وبارك في المعاصرين من خلفه، وثبتهم على أسباب رضى رب العالمين الذي هو عزهم وسبب نصرهم آمين.
هذا وما زال الإمام محمد بن سعود وفياً بالعهود حتى لقي ربه.
الإمام عبد العزيز بن محمد، والعلماء في زمنه
وبعد وفاة الإمام محمد بن سعود سنة 1179 هـ بويع لابنه عبد العزيز بن محمد إماما للمسلمين، بايعه الخاص والعام، والشيخ محمد هو رأس ذلك النظام(3).
__________
(1) مسند أحمد (3/145).
(2) "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" للحافظ أبي نعيم (1/5-7).
(3) "روضة ابن غنام" (2/74).(1/143)
وللإمام عبد العزيز مكانة خاصة من أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية؛ فمنذ أن كان صغير السن كان له اهتمام بعلم الشيخ؛ فلقد كتب للشيخ والشيخ إذ ذاك في العيينة عند ابن معمر يسأله أن يكتب له تفسير الفاتحة، فكتب الشيخ ذلك، وقد ضمن تفسير سورة الفاتحة عقيدة السلف الصالح، وأرسلها إلى الأمير عبد العزيز وقد ناهز الاحتلام(1) وما من شك أن تلقي العلم في هذه الفترة من العمر له كبير الأثر والرسوخ.
ولذا؛ فقد اجتمع في الإمام عبد العزيز مؤهلات الإمارة وملكاتها ومواهبها، مع رسوخه في العلم وسلامة العقيدة منذ نعومة أظفاره؛ فهو ليس أميرا يناصر الحق بقوة السلطان فحسب، بل مع ذلك عالم ينصر الحق بقوة الحجة والبرهان.
ولهذا الإمام رسالة جليلة القدر، لها أثر كبير وواسع في نشر عقيدة السلف الصالح، افتتحها بالثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال:
__________
(1) انظر: "روضة ابن غنام" (ج1، ص222) وما بعدها، وانظر: (2/ 164) من هذا البحث.(1/144)
"من عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المشرق والمغرب..."، ثم أخذ يشرح عقيدة السلف الصالح بالبيان الواضح والأدلة القويمة والبراهين العظيمة، فتكلم عن الحكمة من إيجاد الله الخلق، ومعنى كلمة التوحيد والشفاعة والوساطة، وحق الله وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه، وعن خصوم أنصار العقيدة السلفية، خصوصا أنصار الشيخ الإمام، وعن إرادة الله القدرية الكونية وإرادته الشرعية، وأن المشروع للموتى وللنبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لهم لا دعاؤهم، وبيان ما يفعل عند قبره - صلى الله عليه وسلم - والمأثور من نهيه عن اتخاذ قبره - صلى الله عليه وسلم - عيدا، وحديث شد الرحال، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وإنكار عبادة القبور بالدعاء وغيره، وبيان كونها شركاً، وأن حقيقة التوحيد تقتضي الإيمان بالله وعبادته وحده، وعدم الشرك به، ووصف دين المشركين، وبيان الشرك الأصغر والأكبر، وبيان التوسل الصحيح، والنهي عن الإقسام على الله بمخلوق، ثم يبين ما هي الوسيلة، ويكمل وجوه الرد على المشبهين بالحديث لتجويز دعاء غير الله تعالى، ويبين أن العادة هي عداوة القبوريين لأهل التوحيد، ورميهم إياهم بالعظائم والجرائم، ونسبة كل قبيح إليهم، وتنفير الناس عن الموحدين؛ بأنهم يتنقصون الصالحين، ثم ختام هذه الرسالة بالتوجيه إلى القرآن الكريم، وإلى حديث رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - والعمل بهما، والاستغناء بالسنة النبوية عن البدع والشرك والتخرصات والشطحات التي هي وساوس الشيطان والنفوس المتبعة للهوى، وقد استغرقت هذه الرسالة ما يقارب من (34) صفحة كبيرة(1).
__________
(1) "الهدية السنية" لابن سحمان، أولها.(1/145)
وله رسالة إلى من يراه من أهل بلدان العجم والروم، أرسلها مع رجل منهم، اسمه محمد خلف النواب، وفد عليهم، وأقام عندهم مدة طويلة، وأشرف على ما هم عليه من الدين الحق وما يدعون إليه الناس ويقاتلونهم عليه ويأمرونهم به وينهونهم عنه، ويقول في تلك الرسالة: "إن حقائق ما عندنا يخبركم بها أخونا محمد من الرأس"، وذكر لهم جملة ما هم عليه من عقيدة السلف الصالح(1).
وكتب أيضا إلى أهل المخلاف السليماني بناء على طلب واحد منهم اسمه الشريف أحمد، قدم عليهم، ورأى ما هم عليه، وتحقق صحة ذلك لديه، ثم التمس من الإمام عبد العزيز أن يكتب له ما يزيل الاشتباه ليعرف أهل هذا المخلاف دين الإسلام وعقيدة السلف الصالح، فضمنها ذلك رحمه الله.
ومما قال: "فلما من الله علينا بمعرفة ذلك، وعرفنا أنه دين الرسل؛ اتبعناه، ودعونا الناس إليه، وإلا؛ فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم
والتقرب إلى الله بالذبح لهم وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلوات، وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله تعالى الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد عفائه، على يد شيخ الإسلام، فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام، وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحسن الله له في آخرته المآب، فأبرز لنا ما هو الحق والصواب، من كتاب الله المجيد وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام الأئمة الأعلام الذين أجمعت الأمة على درايتهم، ثم مضى يبين ما هم عليه من التزام عقيدة السلف الصالح.
وله رسائل أخرى ونصائح رحمه الله موزعة في "الدرر السنية" وغيرها(2).
__________
(1) "الدرر السنية" (ج1، ص143-146).
(2) "الدرر السنية" (ج1، ص 146-148)، وانظر: (ص 152، 153).(1/146)
وطلب الإمام عبد العزيز من الشيخ محمد أن يكتب رسالة موجزة في أصول الإسلام ليتعلمها الناس، فكتب الشيخ "ثلاثة أصول"، وهي: معرفة الرب المعبود والرسول - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام بالأدلة، مبنية على مسائل القبر الثلاث: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وأرسلها الإمام عبد العزيز إلى جميع النواحي، وأمر الناس أن يتعلموها في المساجد على يد أئمتها وطلبة العلم، وأن يعملوا بها جميعا بدون استثناء، فصاروا يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشاءين عن معرفة "ثلاثة الأصول"(1).
وقد كتب بصيغ مختلفة؛ مطولة ومختصرة، وباللغة الفصحى
وبالعامية، على حسب طبقات الناس، وعلى مستوى كل طبقة وما يناسبها، وكان الشيخ يعلمها الناس في الدرعية، ويأمرهم بتعلمها(2) وألحق بها شروط الصلاة وأركانها، ونحو ذلك من أمور الدين التي لا يسع أحدا من المسلمين جهله.
__________
(1) "الدرر السنية" (ج1/87-89).
(2) "عنون المجد... " لابن بشر (ج1، ص14، وص 90-91).(1/147)
وأرسل الإمام عبد العزيز برسائل للشيخ منها "كتاب التوحيد" إلى الوزير سليمان باشا في بغداد نصيحة له(1) فأحالها الباشا إلى عبد الله أفندي الراوي البغدادي خطيب المسجد المنسوب للوزير سليمان باشا، فقام الراوي بالرد عليها برسالة مضمونها أن التوحيد مختص بمعنى الربوبية؛ فالإله اسم مختص بالخالق الرازق الضار النافع فحسب(2) فرد عليه محمد بن علي بن غريب بالكتاب المسمى: "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق"، وفند شبهه، وكسر تحدياته، وأرسل إليهم في العراق، ووجد مخطوطا في بغداد عند رجل يقال له: الملا دليم، ليس له عنوان، وليس عليه اسم مؤلفه، ثم طبع عام 1319 هـ بالمطبعة الشرقية بمصر، وجعل اسمه: "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق"، ونسب تأليفه للشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وليس له، وإنما هو لشيخه محمد بن غريب المذكور، ذلك أن في الكتاب
مسائل يبعد أن تصدر من الشيخ سليمان في علمه وتحقيقه؛ مثل قوله: "فالله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو تعالى كما كان قبل أن يخلق المكان"(3) ومثل هذه العبارة ليست على طريقة السلف في العقيدة؛ فإن المعطلة يقصدون بها نفي استواء الرب على عرشه استواء حقيقياً يليق بجلاله(4) بالإضافة إلى أن صاحب "السحب الوابلة" ذكر أن ابن غريب هو الذي رد على أهل العراق.
__________
(1) "الدولة السعودية الأولى" للدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن (ص192).
(2) انظر: "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق" (ص 10،17).
(3) انظر: "التوضيح..." (ص43).
(4) حاشية بقلم محمد بن مانع على كتاب "تحفة المستفيد" (قسم 2، ص104، حاشية رقم 1). و"علماء نجد خلال ستة قرون" للبسام (3/915-916).(1/148)
ويوجد لكتاب "التوضيح" هذا نسخة خطية في المكتبة السعودية بالرياض، ناقصة من الآخر قليلا، بخط حسن، وعليها تملك الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ عام 1319 هـ، ثم انتقلت منه إلى أخيه الشيخ محمد بن عبد اللطيف(1).
وبغض النظر عن الغلط الموجود في الكتاب كما ذكرنا؛ فهو ذو أثر بالغ في نشر عقيدة السلف الصالح، خصوصاً في بيان معنى التوحيد.
ويقول ابن بشر: "وكان عبد العزيز كثير الخوف من الله والذكر؛ آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ينفذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيماً إذا ظلم فيقمعه عن
الظلم وينفذ الحق فيه، ولا يتصاغر حقيرا ظلم فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن، وكان لا يكترث في لباسه ولا سلاحه، بحيث إن بنيه وبني بنيه محلاة سيوفهم بالذهب والفضة ولم يكن في سيفه شيء من ذلك إلا قليلا، وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى، وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية، وخصوصا أهل البلدان؛ بإعطائهم الأموال، وبث الصدقة لفقرائهم، والدعاء لهم، والتفحص عن أحوالهم".
__________
(1) "علماء نجد خلال ستة قرون" (3/915، 916).(1/149)
يقول ابن بشر: "وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه يكثر الدعاء لهم في ورده؛ قال: وسمعته يقول: اللهم أبق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها. وكانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشة هنيئة، وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه؛ لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء، شتاء وصيفا، يمناً وشاماً، شرقاً وغربا، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعمان وغير ذلك، لا يخشى أحدا إلا الله؛ لا سارقا، ولا مكابرا، وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي(1) من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك، ليس لها راعي ولا مراعي، بل إذا عطشت وردت على البلدان، ثم تصدر إلى مفاليها، حتى ينقضي الربيع، أو يحتاج لها أهلها لسقي زروعهم
ونخيلهم، وربما تلقح وتلد ولا يدري أهلها إلا إذا جاءت وولدها معها؛ إلا الخيل الجياد، فإن لها من يتعاهدها في مفاليها لسقيها وحدها بالحديد.
وكانت إبل أهل سدير ونجائبهم وخيلهم مسيبات أيام الربيع في الحمادة وفي أراط والعبلة، ومعها رجل واحد يتعاهدها ويسقيها ويزور أهله ويرجع إليها وهي في مواضعها فيصلح أربطها وقيودها ثم يغيب عنها، وكذلك خيل أهل الوشم ونجائبهم في الحمادة وفي روضة محرقة وغيرهما، وهكذا يفعلون بها، وكذلك خيل عبد العزيز وبنيه وعشيرته في النقعة، الموضع المعروف قرب بلد ضرمي، وفي الشعيب المعروف بقرى عبيد في وادي حنيفة، وليس عندها إلا من يتعاهدها لمثل ما ذكرنا، وكذلك جميع النواحي تفعل ذلك.
__________
(1) "عنوان المجد" لابن بشر (ج1، ص124-125). و(المفالي): جمع مفلى، أي: مراعي بلغة أهل نجد العامية.(1/150)
وكان رحمه الله تعالي من رأفته بالرعية شديدا على من جنى جناية من الأعراب أو قطع سبلا أو سرق شيئاً من مسافر أوغيره؛ بحيث من فعل شيئا من ذلك؛ أخذ ماله نكالا أو بعض ماله أو شيئاً منه على حسب جنايته، وأدبه غير ذلك أدبا بليغا".
ويذكر ابن بشر أن السبل والطرق تأمنت كثيرا في عهد الإمام عبد العزيز، فكان أهل الأسفار يسافرون ويرجعون إلى أوطانهم لا يخشون أحدا من جميع البوادي مما احتوت عليه هذه المملكة؛ لا بحرب ولا سرق، وليس يؤخذ منهم شيء من الإتاوات والقوانين والجوائز التي يأخذها الأعراب على الدروب يحيون بها سنن الجاهلية، فبطلت جميعها ولله الحمد، وصار بعض العمال إذا جاؤوا
بالأخماس والزكاة من أقاصي البلاد يجعلون مزاود الدراهم أطنابا لخيمتهم وربطاً لخيلهم بالليل لا يخشون سارقا ولا غيره، ونمت المواشي والثمار، وساد الأمن جميع البلاد، وهذا من أثر عقيدة السلف الصالح التي أظهرها الشيخ؛ قال الله تعالى:
{ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) } (1).
وكان الإمام عبد العزيز يوصي عماله بتقوى الله وأخذ الزكاة على الوجه المشروع وإعطاء الضعفاء والمساكين، ويزجرهم عن الظلم وأخذ كرائم الأموال، ويكثر العطاء والصدقات للرعية من الوفود والأمراء والقضاة وأهل العلم وطلبته ومعلمة القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد، حتى أئمة مساجد نخيل البلدان ومؤذنيهم.
__________
(1) سورة الأنعام آية : 82.(1/151)
وإذا أراد من الناس الغزو معه أو مع ابنه سعود؛ بعث رسله إلى رؤساء القبائل من العربان، وواعد جميعهم يوماً معلوماً على ماء معلوم، فلا يتخلف أحد عن ذلك الموعد؛ لا حقير ولا جليل، لا من بوادي الحجاز ولا العراق ولا الجنوب ولا غير ذلك، فمن ذكر متخلفاً ممن تعين عليه الأمر من راجل أو فارس؛ أدب أدباً بليغا وأخذ من ماله نكالا، والرجل الواحد أو الاثنان إذا أرسلهم عبد العزيز وابنه سعود إلى البوادي من جميع أقطار جزيرة نجد؛ أخذوا منهم النكال من الأموال والخيل والإبل وغير ذلك، ويضربون الرجال، ويعذبون المجرم بأنواع
العذاب، ولا يتجاسر أحد أن يقول لهم شيئا، أو يشفع فيه، بل كلهم طائعون مذعنون.
قال ابن بشر: "وهذا الذي ذكرت من جهة الأمن وطاعة الحاضر والباد وغير ذلك اتفق في زمنه وزمن ابنه سعود وصدر من ولاية عبد الله".
ثم مضى ابن بشر يذكر أمراء عبد العزيز وقضاته(1).
ومن هؤلاء القضاة الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي أخذ عن أبيه، واستكمل فنون العلم، وفاق بالمعرفة أقرانه، حتى صار الخليفة بعد أبيه والقاضي في بلد الدرعية(2) وكان له دور كبير في نشر عقيدة السلف الصالح وتأثره بها وتأثيره في الناس لحملها ونشرها وتطبيقها، وله عدة بنين طلبة علم وقضاة.
قال ابن بشر: "ومعرفتي منهم بعلي وحمد وحسن وعبد الرحمن وعبد الملك، فأما علي، فهو الشيخ الفاضل وحاوي الفضائل، العلامة في الأصول الفروع، الجامع بين المعقول والمشروع، كشاف المشكلات، مفتاح خزائن أسرار الآيات، قاضي الدرعية بوجود أعمامه، وخليفتهم فيها إذا غابوا زمن سعود وابنه عبد الله، ثم ولي القضاء لتركي بن عبد الله رحمه الله تعالى في حوطة بني تميم، ثم
__________
(1) "عنوان المجد في تاريخ نجد" (ج1، ص 126-129، وفي طبعة وزارة المعارف سنة 1394هـ، ص 168-178).
(2) "الدرر السنية" (12/46)، و"مشاهير علماء نجد وغيرهم" (ص 28).(1/152)
كان قاضيا في بلد الرياض عند الإمام فيصل بن تركي أسعده الله تعالى"(1) اهـ.
وذكر ابن بشر أن له اليد الطولى في معرفة الحديث ورجاله، وأنه علق شرحا على "كتاب التوحيد" تأليف جده محمد بن عبد الوهاب(2) لكن عبد الرحمن بن عبد اللطيف المعلق على "عنوان المجد" ينكر وجود هذا الشرح(3) ولا وجه لإنكاره؛ فقد يكون في زمن مبكر، وله رسائل وفتاوى نشرت مفرقة في "الدرر السنية" التي جمعها عبد الرحمن بن قاسم، وفي "الرسائل والمسائل النجدية" طبع محمد رشيد رضا(4).
ومن هؤلاء القضاة أيضا الشيخ الزاهد الورع عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الحصين، الذي طبق بركة علمه الآفاق، وشهد له بالفضل أهل الآفاق، القاضي في ناحية الوشم زمن عبد العزيز وابنه سعود وابنه عبد الله(5).
أخذ الفقه في صغره عن الشيخ إبراهيم بن محمد بن إسماعيل،
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد... " (1/93).
(2) ابن بشر "عنوان المجد..." (1/93).
(3) هامش (ص 87، رقم 1، من جزء 1) من "عنوان المجد"، طبعة وزارة المعارف سنة 1387هـ.
(4) "الدرر السنية" (12/45)، و"مشاهير علماء نجد" (ص 49).
(5) ابن بشر "عنوان المجد .. " (1/94)، و"الدرر السنية" (12/ 49-50).(1/153)
ثم أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد الله والشيخ حسين والشيخ حمد بن ناصر بن معمر وخلق غيرهم، له مجالس في التدريس مشهورة، وأوقاته بالعبادة معمورة، وله رسالة في معنى التوحيد وفتاوى، ولي القضاء في الوشم في ولاية الإمام عبد العزيز بن محمد وأول ولاية الإمام سعود، وأخذ عنه عدة من العلماء، منهم الشيخ عبد الله أبا بطين، والشيخ إبراهيم بن سيف، والشيخ غنيم بن مسفر، والشيخ عبد الله بن سيف، والشيخ محمد بن عبد الله الحصين، والشيخ عثمان بن منصور، والشيخ علي بن يحيى بن مساعد، والشيخ عبد الله بن سليمان بن عبيد، والشيخ محمد بن سيف، والشيخ إبراهيم بن حجي، والشيخ عثمان بن عبد المحسن أبا حسين، والشيخ محمد بن نشوان، والشيخ عبد الله القضيبي، ولم يل القضاء، والشيخ عبد الكريم بن معيقل، وغيرهم ممن لم يل القضاء الجم الغفير(1).
الإمام سعود بن عبد العزيز، والعلماء في زمنه
وكان للشيخ عبد العزيز الحصين جهود خاصة في نشر عقيدة السلف الصالح لدى شريف مكة وعلمائها، حيث كان الذي وقع عليه الاختيار من قبل الشيخ والإمام عبد العزيز ليكون مفوضا عنهما في شرح المعتقد وبيان حقيقة الدعوة بناء على طلب شريف مكة.
يقول السباعي: "في سنة 1185 هـ طلب الشريف أحمد بن سعيد من الإمام عبد العزيز بن محمد ومن الشيخ محمد بن عبد
الوهاب أن يرسلا إليه فقيها منهم؛ يبين له حقيقة الدعوة بمحضر من علماء مكة، فأرسلا الشيخ عبد العزيز الحصين، ووقعت المناظرة مع بعض علماء مكة، منهم مفتي السلطان في مكة، بحضور الشريف أحمد، في ثلاث مسائل:
1- في التهمة المفتراة على الشيخ، وهي: التكفير بالعموم.
2- هدم القباب التي على القبور.
3- طلب الشفاعة عند الله من الأموات(2).
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد..." (1/232، 233، 234)، و"الدرر السنية" (12/50).
(2) "تاريخ مكة" للسباعي (ج 2، ص77، 124).(1/154)
ويذكر ابن غنام أن الإمام عبد العزيز والشيخ محمد كتبا مع الشيخ عبد العزيز الحصين رسالة إلى الشريف أحمد بن سعيد، يهيبان به أن ينصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وأن يعادي من خرج عنها؛ كما هو الواجب على ولاة الأمور، ويذكران أنهما تجاوبا مع طلبه أن يرسلا إليه طالب علم يشرح له ولعلماء مكة عقيدة السلف الصالح التي قاما بنصرتها، فأرسلا إليه الشيخ الحصين للحضور مع علماء الحرم في مجلس الشريف، فإن اجتمعوا؛ فالحمد لله، وإن اختلفوا؛ أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة، مع قصد وجه الله، ونصرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمنوا به وينصروه؛ فكيف بأمته؛ فلا بد من الإيمان به ونصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس وأولاهم بذلك أهل البيت الذين بعثه الله منهم، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته - صلى الله عليه وسلم - (1).
وقال ابن غنام: "فذكر لهم الشيخ عبد العزيز الحصين أن نسبة التكفير بالعموم إلينا زور وبهتان علينا، وأما هدم القباب؛ فهو الحق والصواب، كما هو مقرر بالأدلة في كتب كثيرة، وليس لدى العلماء فيه شك، وأما دعاء الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل، فقد نص عليه الأئمة أنه من الشرك الذي فعله الأولون، ولا يجادل فيه إلا جاهل ظالم.
ثم أحضروا من كتب الحنابلة "الإقناع"، فرأوا عبارته في الوسائط، وحكايته الإجماع، فاقتنعوا وأقروا وتفوهوا بأن هذا دين الله، وانتشر فيما بينهم وشاع، وقالوا: هذا مذهب الإمام أحمد، وانصرف عبد العزيز مبجلا ومكرما(2).
__________
(1) "روضة ابن غنام" (ج 2، ص 80-81).
(2) "روضة ابن غنام" (2/81 ).(1/155)
ويبدو أن الشريف قد اقتنع بصحة العقيدة، وأنها عقيدة السلف الصالح، ولكن ثار آل مساعد على عمهم أحمد بن سعيد هذا، وانتزعوا من يده ولاية مكة بالقوة، فأخرجوه منها، ووضعوا مكانه شريفا آخر، هو ابن أخيه سرور بن مساعد، سنة 1186 هـ، فمنع أهل نجد من الحج إلا بضريبة، ثم تولى أخوه غالب.
وفي سنة أربع ومئتين وألف للهجرة أرسل غالب الشريف إلى الإمام عبد العزيز كتاباً، وذكر في أثنائه أنه يريد إنساناً عارفاً من أهل الدين حتى يعرف حقيقة الأمر، فأرسل إليه الشيخ عبد العزيز الحصين، وكتب معه الشيخ رسالة يبين فيها عقيدة السلف الصالح
التي يدعو إليها، ونصها بعد البسملة:
من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في البلد الحرام نصر الله بهم سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام وتابعي الأئمة والأعلام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم، وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء الذي على القبور؛ كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى، مع أسباب أخر، فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين، وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها، وأنا أخبركم بما نحن عليه بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب على أناس متظاهرين بمذهبهم عند الخاص والعام، فنحن ولله الحمد متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.(1/156)
وتعلمون أعزكم الله أن المطاع في كثير من البلدان لو يتبين(1) بالعمل بهاتين المسألتين أنها تكبر على العامة الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك، وأنتم تعلمون رحمكم الله أن في ولاية الشريف أحمد ابن سعيد وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما
عندنا بعدما أحضروا كتب الحنابلة التي عندنا عمدة ك"التحفة" و"النهاية" عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب أعزه الله ونصره، امتثلنا، وهو إليكم واصل، فإن كانت المسألة إجماعاً؛ فلا كلام، وإن كانت مسألة اجتهاد؛ فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عمل بمذهبه في محل ولايته؛ لا ينكر عليه، وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم أني على دين الله ورسوله، وأني متبع لأهل العلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم ذكر ابن غنام أن غالب أكرم عبد العزيز الحصين لما قدم عليه مكة المشرفة بهذه الرسالة، واجتمع معه مرات عديدة، وعرض عليه رسالة الشيخ المفيدة، فعرف ما بها من الحق والهدى، وما نفته من الباطل والردى، فأذعن بذلك وأقر، ثم بعد مدة؛ تنكر وتمسك بقديم سنته، وطلب منه عبد العزيز الحصين أن يحضر العلماء معه، فيقف على كلامهم ويسمعه، ويناظرهم في أصول التوحيد، فأبوا عن الحضور، وقالوا: هؤلاء الجماعة ليس عندهم بضاعة إلا إزالة نهج آبائك وأجدادك، ورفع يدك عن معتادك وجوائز بلادك. فطار لبه، وارتعش قلبه(2) فصار يقاتل أهل التوحيد، ثم لم يربح، بل خسر حيث عاند الحجة التي أقامها عليه الشيخ عبد العزيز الحصين(3).
__________
(1) يتبين بالعمل؛ معناه: يظهر العمل.
(2) "روضة ابن غنام" (ج 2، ص 144-145).
(3) انظر: "تاريخ مكة" للسباعي (2/ 77-80، 92-94، 123-124)، و"عنوان المجد.." لابن بشر (1/122)، و"روضة ابن غنام" (ج 2، ص 145-150) .(1/157)
ومن هؤلاء القضاة في عهد الإمام عبد العزيز الشيخ العالم حمد ابن ناصر بن عثمان بن معمر، ولد في الدرعية، وأخذ عن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب حتى كان فقيها محدثاً زاهدا عابدا كثير الخير، له قدم راسخ في الفتوى، وله رسائل وأجوبة تبلغ مجلدا، فرقها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في مواضع من "الدرر السنية" حسب ترتيبه لها(1) ومن هذه الرسائل رسالة جيدة ألفها الشيخ حمد بعنوان "النبذة الشريفة في الرد على القبوريين"؛ جوابا لأسئلة أوردها بعض المجادلين على الشيخ محمد بن أحمد الحفظي اليمني في جمادى الثانية من شهور سنة سبع عشرة بعد المئتين والألف من الهجرة، فطلب جوابها، واستغرقت ستا وستين صفحة، وله أيضاً في "مجموعة الرسائل والمسائل" رسالة له في معرفة الدليل والتقليد، واستغرقت ثلاثين صفحة، وعدة رسائل أخر في مسائل فقهية واستغرقت اثنتين وستين صفحة(2) وكان قاضيا في الدرعية وغيرها، ثم أرسله الإمام سعود قاضيا ومعلماً في مكة المكرمة، وأقام فيها مدة، وتوفي فيها سنة 1225 هـ(3).
ويذكر الشيخ حسين بن غنام في حوادث سنة 1211 هـ من
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد.. " (1/94)، و"الدرر السنية" (12/47)، وتوجد في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (ج 4، ص591-662).
(2) انظرها في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (ج 2) تحت عنوان رسائل وفتاوى الشيخ حمد بن ناصر بن معمر.
(3) "الدرر السنية" (12/47).(1/158)
"تاريخه" الجزء الثاني أنه في هذه السنة أرسل غالب الشريف رسلا إلى عبد العزيز يطلب منه علماء من أهل الدين والتوحيد، ويزعم أنه يقصد بذلك تحقيق هذا الأمر، ولينجلي له في مناظرتهم ما كان خافيا عليه، وكان من حسن سيرة عبد العزيز وعظيم فضل الله عليه أنه يدعو إلى الله تعالى بالتي هي أحسن وأحكم، ويرشد العباد للتي هي أقوم، فرأى إجابة الشريف غالب إلى ما طلب، فعسى أن يكون له سبباً للسعادة، وأرسل إليه جماعة من أهل الدين والعلم المشهورين بحسن المحاضرة في المناظرة بالبراهين، وكبيرهم حمد بن ناصر بن معمر ورئيسهم وأميرهم، فلما وصلوا؛ دخلوا مكة معتمرين، ومعهم جزر مهداة من سعود تذبح في الحرم، فنحروها في المروة من شعائر الله، فقابلهم الشريف بالإكرام، وأحضرهم لديه مع علمائهم ليال، وعقدوا للمناظرة مجالس، فكانت الغلبة بالحجة للشيخ حمد بن معمر وأصحابه على علماء الشريف غالب، لكن علماء الشريف غالب أجمعوا على المغالطة في الألفاظ، فأبرموا ذلك، ولكنهم لم يعثروا في حجج الشيخ وما سرده من صحيح السنة القامعة على شيء فيه لبس لدى العلماء المنصفين سوى لفظة جرى اللسان فيها على اللحن في الإعراب، فارتفع من بعضهم عند ذلك التخطئة في الجواب مبادرين ومعاجلين؛ رغم أن الحجة فالجة وقاطعة وملزمة، لكنهم جحدوا وشوشوا لِلَّهِ
وصفة ما جرى أنهم حضروا ببيت الشريف تجاه بيت الله الحرام، وجرت المناظرة بينهم في مسألتين: مسألة قتال الموحدين(1/159)
الناس ما وجهها؟ فطلب من حمد بيان الحجة والدليل والبرهان، فأتى لهم بالنصوص القاطعة، وأصل لهم الأصول الواضحة، وأسمعهم من نصوص الآيات والأحاديث الصحيحة الراجحة والأدلة والوضحة، وأوقفهم على المنصوص في الكتب المعتبرة عندهم، وكانوا من قبل ينكرون وجودها في الكتب أصلا، وتفوهوا بذلك بحضرة الشريف، فلما أوقفهم حمد عليها؛ خجلوا وخافوا، فأقروا وسلموا لتلك النصوص. ثم تفاوضوا بعد ذلك في مجالس عديدة في دعوة الأموات، فأبدى لهم حمد من النصوص الصحيحة والآثار الراجحة والأقوال السديدة ما أدهش العقول مما لا يسع المنصف إنكاره، ولكنهم جحدوا أن يقع ذلك في الوجود، وأنكروا وجوده في الأقطار، رغم وجوده عندهم واقعا مشهودا، يشهده الخلق عيانا عندهم وجهارا.
ثم يقول ابن غنام: "لا بدع فيما جرى منهم؛ فقد قال كبيرهم أول ما قال وتأهب للمناظرة وجر ذيول المفاخرة: اعلم أني لا أناظرك بالدليل من الكتاب والسنة، ولا أطالبك بما قاله علماء المذاهب، سوى ما قال به إمامي أبو حنيفة؛ لأني مقلد له فيما قال؛ فلا أسلم لغير قوله، ولو قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال الله تعالى؛ لأنه أعلم مني ومنك، والأخذ بغير قول الأئمة مهلك ".
ويقول ابن غنام: "فلما انقضت تلك الأيام والليالي، وانتهت ساعات الجدال والمناظرة؛ طلبوا من حمد بن ناصر بن معمر تأصيل ما برهن به واحتج به وقرره، وكتابة ما سجله عليهم أثناء المناظرة؛ فانتدب لذلك، فحرر من الكتب التي عندهم ما أرادوه رسالة أوجز فيها(1/160)
ما فيه حجة ودلالة تكفي المنصف العاقل للشهادة بفضل محررها وصحة وصدق مضمونها"، ثم أورد الشيخ ابن غنام نصها، وشغلت ما يقارب ثلاثين صفحة من الجزء الثاني من "تاريخ ابن غنام"(1) وهي في "الهدية السنية" التي جمعها الشيخ سليمان بن سحمان، وشغلت خمسا وثلاثين صفحة(2) واستغرقت في "الدرر السنية" ثمانياً وعشرين صفحة(3).
وقد أشار إلى هذه المناظرة الشيخ محمد بن علي الشوكاني؛ حيث قال في ترجمة الشريف غالب: "وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين"(4).
وطبعت في رسالة مستقلة بمؤسسة النور بالرياض، ويذكر ناشرها أنه سمى أجوبة الشيخ حمد المذكورة "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب"(5).
ومن هؤلاء القضاة في زمن الإمام عبد العزيز: الشيخ سعيد بن حجي؛ رحل إلى الدرعية، فقرأ على الشيخ، وأخذ عن ابني الشيخ حسين وعبد الله، وقرأ على الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وعلى غير
هؤلاء من علماء الدرعية، وكان قاضيا في حوطة بني تميم زمن عبد العزيز وابنه سعود، وله رسائل في كلمة الإخلاص وفي أجوبة فقهية محررة سديدة نشرت في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية"(6).
ومن هؤلاء القضاة الشيخ حمد بن راشد العريني القاضي في ناحية سدير زمن عبد العزيز(7).
__________
(1) "روضة ابن غنام" (ج 2، ص 203- 232).
(2) "الهدية السنية" (طبعة المنار، ص 51-87).
(3) "الدرر السنية" (ج 2، ص 176-204).
(4) "البدر الطالع" (ج 2، ص7).
(5) المقدمة (ص 2-3).
(6) "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (ج 4، ص 840- 876، وج 1، ص 601- 725). وانظر: "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (1/ 94)، و"علماء نجد خلال ستة قرون" (1/ 273).
(7) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (1/ 94)، و"علماء نجد خلال ستة قرون" (1/ 223).(1/161)
ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن خميس الذي صار عالما وإماما في قصر آل سعود وقاضيا في الدرعية زمن عبد العزيز وابنه سعود(1).
ومنهم الشيخ حسين بن عبد الله بن عيدان الذي صار قاضيا في بلد حريملاء زمن عبد العزيز ودرس وأفتى في مقر عمله(2).
ومنهم الشيخ محمد بن سويلم الذي صار بسبب الأخذ عن الشيخ محمد عالما وقاضيا في بلد الدلم وناحية الخرج زمن عبد العزيز(3).
ومنهم الشيخ عبد العزيز بن سويلم العريني الذي صار عالما قاضيا في ناحية القصيم زمن عبد العزيز وابنه سعود وابنه عبد الله، وكان مقره مدينة بريدة وما حولها، فاستمر في القضاء مدة طويلة ودرس وأفتى، فانتفع بعلمه جماعة منهم الشيخ عبد الله بن صقيه، وبقي بعد خراب الدرعية وهو لا يزال القاضي والمدرس في القصيم حتى توفي، فتولى القضاء بعده تلميذه عبد الله بن صقيه(4).
وغير هؤلاء من القضاة عدد كبير.
وكان القضاة لا يعينون إلا بمشورة من الشيخ محمد؛ لأن منصب القضاء منصب مهم له تأثير كبير، فبالإضافة إلى القضاء يتولون الإمامة والخطابة والتدريس والفتوى والإرشاد، ويكونون أصحاب الكلمة الفاصلة في البلد الذي يتولون القضاء فيه، ولا يخفى ما يكون لهم من أثر كبير وعظيم في نشر عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى .
__________
(1) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (1/ 94، 129، 169، 175).
(2) "عنوان المجد ..." لابن بشر (1/ 94)، و"علماء نجد..." (1/ 214)0.
(3) ابن بشر "عنوان المجد... " (1/ 94).
(4) ابن بشر"عنوان المجد ..." (1/ 94)، و"علماء نجد" (2/ 463، 559).(1/162)
وقد كان لخلق كثير وجم غفير أثر في نشر عقيدة السلف الصالح التي تلقوها عن الشيخ محمد زمن الإمام عبد العزيز وبعد زمنه ممن ولي القضاء وممن لم يله من العلماء والأعيان ومن دونهم(1).
ومن هؤلاء ابن الشيخ؛ الشيخ علي.
قال ابن بشر: "كان عالما، جليلا، ورعا، كثير الخوف من الله، وكان يضرب به المثل في بلد الدرعية بالورع والديانة، وله معرفة في الفقه والتفسير وغير ذلك، وراودوه على القضاء، فأبى عنه، وأبناؤه صغار ماتوا قبل التحصيل؛ إلا محمدا؛ فإنه طالب علم، وله معرفة"(2) اهـ.
ومنهم أيضا ابن الشيخ؛ الشيخ إبراهيم.
قال ابن بشر: "رأيت عنده حلقة في التدريس، وله معرفة في العلم، ولكنه لم يل القضاء، قرأت عليه في صغري في "كتاب التوحيد" سنة أربع وعشرين ومئتين وألف"(3).
وأبناء الشيخ على العموم ممن حمل ميراث أبيهم ونشره بصفة خاصة، كيف لا وهو عقيدة السلف الصالح وميراث العلماء الصالحين رحمهم الله ورضي عنهم؟!
قال ابن بشر عنهم: "ولقد رأيت لهؤلاء الأربعة العلماء- حسين وعبد الله وعلي وإبراهيم- مجالس ومحافل في التدريس في الدرعية عندهم من طلبة العلم من أهل الدرعية وأهل الآفاق الغرباء ما يفضي لمن حكاه إلى التكذيب، ولهؤلاء الأربعة المذكورين من المعرفة ما فاقوا به أقرانهم، وكل واحد منهم قرب بيته مدرسة فيها طلبة العلم
الغرباء، ونفقتهم من بيت المال، ويأخذون عنهم العلم في كل وقت"(4).
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد ... " (1/ 94- 95)، و " مجلة الدارة" (العدد الثاني/ رجب / 1398 هـ، صورة اللوحة من كتاب "رفع العقاب "، رقم 54 و75 ، ص 97).
(2) عنوان المجد ... " (1/ 93).
(3) "عنوان المجد ... "(1/ 93).
(4) "عنوان المجد ... " (1/ 93).(1/163)
قال محمد الحفظي بعد ثنائه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أولاد الشيخ: "أولاده مشايخ التحقيق، وسدرة في منتهى الطريق "(1).
ومن هؤلاء غير أبناء الشيخ: الشيخ أحمد بن مانع الوهيبي التميمي، انتقل من أشيقر إلى الدرعية في أول عهد الدعوة السلفية، فقرأ على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأدرك حظه من العلوم الشرعية، وكان من الموالين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المدافعين عنها.
قال ابن بسام: "وقد اطلعت له على رسالة يرد بها على عبد الله المويس - أحد علماء نجد المعادين لدعوة الشيخ محمد- فى ترخيصه للناس في التخلف عن صلاة الجماعة وتهوين أمرها بحجة أن الإمام من أتباع ابن عبد الوهاب، فبين أن ابن عبد الوهاب إنما يدعو الناس إلى التوحيد والتبري من الشرك وأهله، وهذا دين النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلا يسع المسلم غيره، وبين الأدلة الشرعية على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وقد توفي في الدرعية في شهر رمضان عام 1186 هـ"(2).
وقد كان لبعض المشايخ الكبار الذين ليسوا من تلاميذ الشيخ المتخرجين على يديه جهود طيبة في نشر عقيدة السلف الصالح متأثرين بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ومنهم الشيخ المؤرخ حسين بن غنام، قد التقى بالشيخ محمد ابن عبد الوهاب، واستفاد منه، ودون كثيرا من علم الشيخ ورسائله، وأرخ للشيخ وأنصاره وللإمام من آل سعود تأريخا مباشرا من أشمل التواريخ، ودون كثيرا من أخبارهم؛ فتاريخه من أوثق التواريخ التي كتبت في هذا الشأن، وسبق أن طلب العلم على علماء بلده الأحساء، ولذا لما وصل الدرعية؛ كان أهلا لأن يجلس للتدريس.
__________
(1) هو محمد بن أحمد بن عبد القادر الحفظي (1178-1237 هـ) من أهل عسير. "الدرر السنية" (12/ 47).
(2) "علماء نجد خلال ستة قرون" (1/ 183).(1/164)
قال عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: "نزح من الأحساء إلى مدينة الدرعية، فقدمها على الإمام عبد العزيز بن محمد والشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأكرماه وأنزلاه المنزلة الرفيعة، فاستقر في الدرعية، وجلس فيها لطلبة العلم يقرءون عليه في علم النحو والعروض فقط، فأخذ عنه جملة من علماء الدرعية"، وذكر من فضلائهم: سليمان بن عبد الله بن الشيخ، وعبد العزيز بن حمد بن معمر، وعبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ(1).
ويعتبر الشيخ حسين بن غنام ممن شهد بالحق لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن الذين ناصروها بالقلم وبيان الحق والعلم؛ فمن ذلك ست قصائد قالها هي:
1- قصيدة في رثاء الشيخ وذكر محاسنه، وسبق أن ذكرناها(2).
2- قصيدة بمناسبة جلاء دهام بن دواس ومطلعها:
ومحا الدين جملة الأرجاس(3) ... كشف الحق ظلمة الأغلاس
3- وموعظة لبعض من تزعزع عن لزوم الحق، ومطلعها:
إلى الغي لا يلفى لدين حنينها(4) ... نفوس الورى إلا القليل ركونها
4- والرابعة رد على قصيدة محمد بن عبد الله بن فيروز، ومطلعها:
عروس هوى ممقوتة زارت الشطا(5) ... على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا
5- والخامسة بمناسبة قتل ثويني وتهنئة الأمير سعود ووالده الإمام عبد العزيز بن محمد حين فتح الأحساء، ومطلعها:
وديجور ليل الشرك مزقه الظهر(6) ... تلألأ نور الحق وانصدع الفجر
6- والسادسة بمناسبة تهنئة سعود بن عبد العزيز بالحج، وذكر
في أولها مدح الشيخ محمد، ومطلعها:
__________
(1) "مشاهيرعلماء نجد وغيرهم " (ص 147)0.
(2) انظر: (1/ 237) من هذا البحث.
(3) "روضة ابن غنام" (ج 2، ص 86- 88).
(4) "روضة ابن غنام" (ج 2، ص 71- 72).
(5) روضة ابن غنام (ص 190- 192).
(6) روضة ابن غنام (ص 237- 242)، و"عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر، (طبعة وزارة المعارف، ج 1، ص 145) وما بعدها.(1/165)
فأصبح دين الحق طالعه الغفر(1) ... غياهب ليل الشرك مزقه الفجر
وله تقريرات حسنة وكشف شبهات يبين بها عن الحق الذي دعا إليه الشيخ محمد ويشهد له، وقد ألف كتابا سماه : "العقد الثمين في شرح أصول الدين "؛ بإشارة من الإمام عبد العزيز كما يقول(2) بعد وفاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولا يزال الكتاب مخطوطا، وهو كتاب مفيد، ولكن في مسألة القرآن سلك فيها مسلك الأشعرية، وقد نبه على ذلك تلميذه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ(3) وكذلك الشيخ محمد بن نافع(4).
ومن آثار عقيدة الشيخ في عهد الإمام عبد العزيز أن بعض معارضيه- كأخيه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب- بعد أن كان معارضا يؤلف كتبا ضدها؛ اتضح له الحق، وتاب إلى الله، ووفد على أخيه الشيخ محمد في الدرعية، واستقر بها إلى أن توفي. ذكر ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقه على كتاب: "الشيخ محمد بن عبد
الوهاب... " للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، ونص هذا الخبر في "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر في حوادث 1190 هـ(5) وفي "روضة ابن غنام" كذلك.
__________
(1) انظر: "عنوان المجد في تاريخ نجد" (طبعة وزارة المعارف، ج 1، ص 123-125).
(2) انظر: "كتاب العقد الثمين في شرح أصول الدين" مخطوط في المكتبة السعودية بالرياض تحت (رقم 86 / 57، الغلاف ولوحة رقم 13).
(3) "الدرر السنية في الأجوبة النجدية" (ج 1، ص 157، الطبعة الثانية).
(4) انظر: حاشية مخطوطة "كتاب العقد الثمين في شرح أصول الدين " المحفوظة بالمكتبة السعودية بالرياض تحت (رقم 86 / 57، لوحة رقم 28).
(5) "عنوان المجد ... " (ص 65).(1/166)
وقال ابن غنام: " وكان من الشيخ إلى أخيه سليمان أعظم تحنن واهتشاشة، فدثر حاله حينئذ وأراشه، ووسع عليه قوته ومعاشه، فكان ذلك سببا لإنقاذ سليمان وصدقه مع أهل الإيمان، وتحققه بهذا الشان، فقام في هذا الدين بتحقيق وجزم ويقين، وأقر على نفسه واعترف بما قدمه قبل وأسف، ووفى بما عاهد عليه وما أخلف، ومات ولله الحمد على حالة رضى بعدما جرى منه ومضى، فلم يوافه القضا إلا بعدما رفض ما كان عليه وانقضى"(1) وتوفي سنة 1208 هـ(2).
وفي "مصباح الظلام" للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن نص رسالة من سليمان بن عبد الوهاب فيها رجوعه(3) وكذلك في كتابه "الضياء الشارق" تأليف سليمان بن سحمان(4) وفي كتاب
"صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان "(5).
وفي هذا رد على الشيخ عبد الله بن بسام في قوله: "إن سليمان بقى مصرا على مباينة الدعوة السلفية وأصحابها؛ إلا أنه رضخ لسلطتها وقوتها... ".
وقال: "إن الرسالة المذكورة يرجح أنها نسبت إليه لغرض حسن الظن به، وإبعاد المسبة عن أبنائه العلماء الصالحين، أو لغرض الرد على أعداء الدعوة الذين نفروا عنها بحجة أن أقرب الناس إلى أصحابها باينه فيها أو لغير ذلك من المقاصد".
__________
(1) "روضة ابن غنام " (ج 2، ص 96).
(2) "علماء نجد خلال ستة قرون" (1/ 304).
(3) "مصباح الظلام" تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ص 96-103).
(4) "الضياء الشارق " تأليف الشيخ سليمان بن سحمان (ص 22- 25، الطبعة الأولى، المنار، 1344 هـ).
(5) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" (ص 468- 473).(1/167)
وأمور الترجيح هذا لدى البسام هي باختصار: لأنه قام وقعد بمحاربة الدعوة السلفية مع علماء وقته، وقال: "ولم نر أحدا من هؤلاء رجع، وكل أتباعها هم تلاميذ الشيخ محمد"، ولذكر ابن لعبون في "تاريخه" المخطوط أنه لم ينزل الدرعية إلا كرها، ولأن ابن بسام لم ير له نشاطا في الدعوة غير هذه الرسالة، ولأن ابن بسام اطلع على جواب تلك الرسالة، وفيها الترحم على الشيخ محمد، مما يدل على أنها كتبت بعد وفاة الشيخ محمد، فلو كانت حقيقة؛ لكان الجواب في عهد الشيخ محمد لا بعده(1). انتهى ملخصا.
ولا يخفى أن الشيخ البسام عارض رواية الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن والشيخ سليمان بن سحمان ودليلهما- وهو
الرسالة المذكورة من سليمان-، ولم يذكر البسام رواية ابن بشر وابن غنام، وكان الشيخ عبد العزيز بن باز قد ذكر رجوعه بناء على ما ذكره ابن بشر، والبسام عارض هذا كله بظنون، والظن لا يبنى عليه شيء؛ فكيف يعارض به روايات الثقات، ويرجح هذا الظن عليها بأمور لا تقوم ولا تتم؟!
فأما الأمر الأول؛ فما يدريه عن رجوع من رجع وتاب، ثم إنه يجوز ويمكن أن من قام وقعد في محاربة الحق أن يتضح له الحق ويرجع ويتوب، يجوز ذلك في العقل والواقع والشرع، وكونه لم ير له نشاطا؛ فالنشاط ليس بلازم، وربما كان له نشاط غير ظاهر، مع أن ابن غنام حكى ذلك عنه، وكون ابن لعبون ذكر في مخطوطته التي عند البسام أن سليمان قدم كرها؛ فهذا معارض برواية ابن بشر وابن غنام.
الثانية: ثم لو كان الأمر صحيحا؛ فلا مانع من كون العاقبة رجوعه إلى الحق؛ أنسي أن من أهل الجنة من يقاد إليها بالسلاسل؟!
__________
(1) "علماء نجد خلال ستة قرون " (ج 1، ص 304-306).(1/168)
وكون ابن بسام اطلع على رسالة يذكر كاتبها أنها من هؤلاء الثلاثة الذين كتب لهم سليمان تلك الرسالة المذكورة، وأنها جواب له، وأن تاريخها متأخر بعد موت الشيخ محمد لا بعد موت الشيخ سليمان، بل هي في حياته، فتأخر تاريخها هذا إن صح ليس به ما يبرر أنها مزيفة أيضا، ما دام أن هذه الرسالة حصلت في حياة الشيخ سليمان، والتي استمرت سنتين بعد وفاة أخيه الشيخ محمد، واستنتاج البسام من هذه الرسالة أن سليمان كان ساكتا في حياة أخيه على معتقده الأول، ثم بعد وفاة أخيه يعلن رجوعه وموافقته لأخيه، وأن هذا الأمر
من البعيد جدا، فلو صح الاستنتاج؛ لكان من القريب جدا أن سليمان كان في حياة أخيه يجد في نفسه، ثم لما مات ؛ زال ذلك الوجد المانع من قبل الحق، فأعلنه، وكم أسلم من أسلم بعد وفاة من كان يدعوه إلى الإسلام ويأبى في حياته، وقد قال الإمام أحمد: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائزء(1).
وزعمه أن كل أتباع عقيدة الشيخ هم تلاميذه؛ يرده الواقع السلفي.
وعلى كل؛ فعقيدة الشيخ محمد السلفية رحمه الله مؤثرة بعد مماته كما كانت في حياته، وربما أكثر؛ لأنها تكشفت عنها الشبهات، وتجردت من كل ما يخالف عقيدة السلف الصالح، وأثمرت اتحاد الكلمة، واجتماع الشمل، وائتلاف القلوب، والأمن، والهدى، سيما في عهد الإمام عبد العزيز؛ فلعمر الله قد أصبحت سلفية خالصة لا يشوبها شائبة؛ فما للقلوب النافرة عنها أدنى عذر ولا حجة ... والله أعلم.
وأذكر ما يقول ابن بشر معقبا على ما وصف في عهد الإمام عبد العزيز من اتساع دولة أنصار العقيدة وقوتها، وما أنعم الله به عليها من الأمن وطاعة الرعية وانتظام ولايتهم؛ فيقول:
"وهذا الأمر في هذه المملكة شيء وضعه الله تعالى في قلوب العباد من البادي والحاضر في كل ما احتوت عليه هذه المملكة، مع
__________
(1) انظر: تخريح هذه الرواية في (1/ 236) من هذا البحث.(1/169)
الرعب العظيم في قلوب من عادى أهله، وذلك- والله أعلم- ومن سببين:
أحدهما: أن الراعي إذا عف؛ عفت رعيته، فإذا عمل الإمام بطاعة الله، وبذل العدل في الرعية، وصار الغريب والبعيد والغني والفقير والجليل والحقير في الحق سواء، وكان متواضعا يحب العلماء وطلبة العلم وحملة القرآن ويعظمهم، ويحب الفقراء والمساكين، ويعطيهم حقهم، ويضع في المسلمين فيئهم؛ جعل الله له الهيبة في القلوب، وتداعى له كل مطلوب.
والسبب الثاني: أن الله جعل لكل شيء ضدا مخالفا له منافيا أو معاديا، فجعل الشرك ضد التوحيد، والعلم ضد الجهل..0 إلى غير ذلك من الأضداد المنافية بعضها لبعض، وأما الأضداد المعادية بعضها لبعض؛ كعداوة الحية لبني آدم، وعداوة إبليس لهم، وعداوة السباع لأضدادها، وعداوة البادي لأهل القرى؛ عداوات قديمة طبيعية؛ فلا يصلح هذه العداوة بين أهل القرى وبينهم بذل المال؛ فإنه إذا بذل لهم؛ أصلح عداوتهم الظاهرة نحو أسبوع أو شهر، وأما عداوتهم الباطنة؛ كالسرق ونحوه كالخيانة؛ فإنه لا يصلحها ويصلح الظاهرة معها إلا السيف.
ولما عرف عبد العزيز رحمه الله هذا الداء؛ عرف الدواء، فاستعمل لمن عاداه منهم السيف، ولمن والاه منهم قوة الجانب والغلظة والشدة، فكان يأخذ منهم الأموال الكثيرة على السرقة وقطع السيل، ويجعل +رؤساءهم في السجن وأغلال الحديد، حتى إنه جعل
الحميدي بن هذال رئيس بوادي عنزة ورجلا هيتميا في حديد واحد، وربط وطبان الدويش وابن هذال في حديد واحد، ويأخذ النكال الكثير من أموالهم على من تخلف منهم عن المغزى مع المسلمين من فرس أو ذلول معروفة أو رجل معروف، حتى ذكر لي أنه لم يوجد عند مطير إلا فرس أو فرسان، وذلك لأن بوادي هذه الجزيرة لم يحتاجوا لها؛ لأنهم لم يخافوا من أحد، ولا يخاف منهم أحد، ولا يطمعون في أحد، قد حجز عبد العزيز جميع القبائل، ويأخذ منهم هذه الأموال مع زكواتهم، ويفرقها على أهل النواحي والبلدان... ".(1/170)
إلى أن قال ابن بشر: " فصار البلد الواحد من قرايا نجد بهذا السبب يركب من هذا الغزو معه ومع ابنه سعود سبعون أو ستون مطية أو أقل أو أكثر، وإذا أرسل عماله لقبض الزكاة من الأعراب؛ أمرهم أن لا يأخذوا من الزكاة عقالا حتى يأخذوا لصاحب الدين حقه، ولمن سرق له شيء قيمة ماله والنكال، فقويت البلدان، واشتدت وطأتهم على عدوهم، فصار الأعرابي يرفع يده ولا يخفضها على شيء من مال أهل القرى ولا من مال البوادي، بعضهم من بعض في مفازة خالية فضلا عن غيرها، وصار هذا مطردا سائغا في زمنه وزمن ابنه سعود وصدر من ولاية عبد الله"(1).
ولما توفي الإمام عبد العزيز بن محمد شهيدا سنة 1218 هـ؛ تولى بعده ابنه سعود، فصار هو الإمام، وكان الشيخ محمد بن عبد
الوهاب قد أمر أهل بلدان نجد وغيرهم أن يبايعوه، وأن يكون ولي العهد بعد أبيه، وذلك في السنة الثانية بعد المئتين والألف (1202 هـ)؛ بناء على أمر الإمام عبد العزيز، فبايعه جميعهم(2) وهو صاحب السيرة الحسنة في السلم والحرب، يتتبع سيرة السلف الصالح في كل ذلك، ويطبق مقتضى عقيدتهم السليمة، وكان كثيرا ما يذكر رعيته- خصوصا جيوش المسلمين- بما أنعم الله عليهم من الاجتماع على كلمة الإسلام، وأن سببه العمل بطاعة الله والصبر في مواطن اللقاء، وأن النصر لا ينال إلا بالصبر.
__________
(1) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (طبعة وزارة المعارف سنة 1394 هـ، ج1، ص 170- 171).
(2) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (ج 1، ص 83).(1/171)
يقول ابن بشر: "وكان متيفظا بعيد الهمة، يسر الله له من الهيبة عند الأعداء والحشمة في قلوب الرعايا ما لم يره أحد، وكانت له المعرفة التامة في تفسير القرآن، أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أقام مدة سنين يقرأ عليه، ثم كان يلازم على مجالس الدرس عنده، وله معرفة في الحديث والفقه وغير ذلك؛ بحيث إنه إذا كتب نصيحة لجميع رعاياه من المسلمين؛ أتي فيها بالعجب العجاب، وبهرت عقول أولي الألباب، وكان أول ما يصدر النصيحة بالوصية بتقوى الله تعالى، ومعرفة نعمة الإسلام، ومعرفة التوحيد، والاجتماع بعد الفرقة، ثم الحض على الجهاد في سبيل الله، ثم الزجر عن جميع المحظورات من الزنى والغيبة والنميمة وقول الزور والمعاملات الربوية وغير ذلك، وكل نوع من ذلك يأتي عليه بالأدلة من الكتاب والسنة وكلام العلماء، فمن وقف على شيء من مراسلاته ونصائحه؛ عرف
بلاغته ووفور علمه، وإذا تكلم في المحافل بنصيحة أو مذاكرة؛ بهر عقل من لم يكن قد سمعه، وخال في نفسه أنه لم يسمع مثل قوله وحسن منطقه، وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها في الملوك السالفة؛ بحيث إن ملوك الأقطار لا تتجاسر على مراجعته الكلام، ولا ترمقه بأبصارها إعظاما له، وهو مع ذلك في الغاية من التواضع للمساكين وذوي الحاجة، وكثير المداعبة والانبساط لخواصه وأصحابه... " إلخ ما وصفه به من صفات كريمة هي من أثر التمسك بعقيدة السلف الصالح(1).
__________
(1) "عنوان المجد في تاريخ نجد" (ج 1 / 165- 176).(1/172)
وقال الشيخ راشد بن علي الحنبلي في كتابه "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" عن الإمام سعود بن عبد العزيز: "تولى ملك نجد، وجند منها جنودا تزيد على أربع مائة ألف ما بين فارس وراجل، وأخضع جزيرة العرب، وحاول مناهضة ملوك الدنيا وانتزاع الممالك، وكان مدة حياته لم تهزم له راية، وكان عالما ذكيا، يحسن الخط والقراءة، وعليه من الأبهة والهيبة والجلال ما يبهر العقول، وكان فصيحا، إذا تكلم؛ أنصت له كل سامع "(1).
وعلى الجملة؛ فهو شجاع، فارس، صادق في الحديث، وعالم راسخ في العلم، وتقي دين، سلم لأولياء الله حرب على أعدائه، اجتمعت فيه ملكات الحكم والإمارة، ومواهب العلم والإمامة، رحمه الله تعالى، وقد تم على يديه دخول الحجاز في ولاية
الدولة السعودية الأولى، وكان انتشار عقيدة السلف الصالح في عهده انتشارا مستمرا وواسعا، حتى شمل الحرمين، وساد في أرجاء الجزيرة وما حولها.
__________
(1) "مثير الوجد ... " (ص 42)0.(1/173)
وقد قام الإمام سعود بن عبد العزيز بتقديم كتاب كان موجها إلى سليمان باشا يشرح فيه عقيدة السلف الصالح، والتي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود ومن خلفه من أبنائه، وفند مطاعن الأعداء، وكشف شبهاتهم، وأن كل ما قالوه ضد عقيدة الشيخ وأنصاره باطل، وليس لهم حجة إلا من جنس ما يحتج به أعداء الرسل على الرسل وعلى أتباعهم إلى يوم القيامة، فاطلع عليه أهل مكة وعلماؤهم، ووقع عليه علماء مكة وقضاتها وأرباب الفتوى فيها من جميع المذاهب الأربعة، ووقع الشريف غالب بن مساعد على ذلك، وكذلك علماء المدينة المنورة، وكلهم يقولون: نشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله - عز وجل - ونفي الشرك الذي ذكره؛ أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، الذي جاء به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا ومصر والشام وغيرهما من البلاد إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب؛ أنه الكفر المبيح للدم والمال، والموجب للخلود في النار، ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله ويعادي أعداءه؛ فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين جهاده وقتاله حتى يتوب إلى الله مما هو عليه ويعمل بهذا
الدين.
ومن هؤلاء المشايخ: الشيخ عبد الملك بن عبد المنعم القلعي الحنفي مفتي مكة المكرمة، والشيخ محمد صالح بن إبراهيم مفتي الشافعية بمكة، والشيخ محمد بن محمد عربي البناني مفتي المالكية بمكة المشرفة، والشيخ محمد بن أحمد المالكي، والشيخ محمد بن يحيى مفتي الحنابلة بمكة المكرمة، وغيرهم(1).
__________
(1) انظر: " الدرر السنية" (ج 1، ص 318- 320).(1/174)
وبهذا؛ كسر الطاغوت وأرغم الشيطان ولله الحمد، نصر من الله وفتح قريب، وهذا النصر العزيز والفتح المبين هو من آثار عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفوقه مدخل إلى الجنة كريم إن شاء الله تعالى.
ومن أشهر العلماء العاملين في زمن الإمام سعود: ابن الشيخ، الشيخ عبد الله العالم الجليل.
قال ابن بشر: "هو الخليفة بعد أخيه حسين، والقاضي في بلد الدرعية زمن سعود، فكان آية في العلم ومعرفته ومعرفة فنونه "(1).
وحصل علما كثيرا حيث أوقف حياته على تحصيل العلم وتعليمه ونشره، وأخذ عنه خلق كثير من فطاحل العلماء، وصار مرجع القضاة، وله مؤلفات عديدة وفتاوى كثيرة؛ منها: " رد على بعض علماء الزيدية فيما اعترض به على دعوة التوحيد السلفية"، و " مختصر السيرة
النبوية" و"الكلمات النافعة"، ورسالة طويلة كتبها حال دخوله مكة المكرمة مع الإمام سعود فاتحا سنة 1218 هـ، اشتملت على بيان عقيدة شيوخ الدعوة، وما هم عليه، ورد مفتريات أعداء الإسلام.
جاء في هذه الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين.
__________
(1) "عنوان المجد... " (1/ 93).(1/175)
وبعد؛ فإنا- معاشر الموحدين- لما من الله علينا وله الحمد بدخول مكة المشرفة نصف النهار يوم السبت في ثامن شهر المحرم الحرام سنة 1218 هـ، بعد أن طلب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود الأمان، وقد كانوا تواطئوا مع أمراء الحجيج وأمير مكة على قتاله أو الإقامة في الحرم ليصدوه عن البيت، فلما زحفت أجناد الموحدين؛ ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة، وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا وشعارنا التلبية؛ آمنين محلقين +رؤوسنا ومقصرين غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين، ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون؛ لم يعضدوا به شجرا، ولم ينفروا صيدا، ولم يريقوا دما؛ إلا دم الهدي أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع، ولما تمت عمرتنا؛ جمعنا الناس ضحوة الأحد، وعرض الأمير رحمه الله على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه، وهو إخلاص التوحيد لله تعالى، وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين :
أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة.
والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه.(1/176)
فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق، لا سيما العلماء، ونقرر لهم حال اجتماعهم وحال انفرادهم لدينا أدلة ما نحن عليه، ونطلب منهم المناصحة والمذاكرة، وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم بأنا قابلون ما وضحوا برهانه من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف الصالح؛ كالخلفاء الراشدين المأمورين باتباعهم؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم - " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي "(1) أو عن الأئمة الأربعة المجتهدين، ومن تلقى العلم عنهم إلى آخر القرن الثالث؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "(2) وعرفناهم أنا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمرا.
فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إن بقي لديهم شبهة، فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين، فرددناها بالدلائل
__________
(1) سنن الترمذي : كتاب العلم (2676) , وسنن أبي داود : كتاب السنة (4607) , وسنن ابن ماجه : كتاب المقدمة (42 ,44) , ومسند أحمد (4/126) , وسنن الدارمي : كتاب المقدمة (95).
(2) صحيح البخاري : كتاب الشهادات (2651 ,2652) وكتاب المناقب (3650 ,3651) وكتاب الرقاق (6428 ,6429) وكتاب الأيمان والنذور (6658 ,6695) , وصحيح مسلم : كتاب فضائل الصحابة (2533 ,2535) , وسنن الترمذي : كتاب الفتن (2221) وكتاب الشهادات (2302) وكتاب المناقب (3859) , وسنن النسائي : كتاب الأيمان والنذور (3809) , وسنن ابن ماجه : كتاب الأحكام (2362) , ومسند أحمد (1/378 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/277 ,4/426 ,4/427 ,4/436).(1/177)
القاطعة من الكتاب والسنة، حتى أذعنوا، ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب فيما قاتلنا الناس عليه أنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه، وحلفوا لنا الأيمان المغلظة من دون استحلاف لهم على انشراح صدورهم وجزم ضمائرهم أنه لم يبق لديهم شك في أن من قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِلَّهِ أو: يا ابن عباس لِلَّهِ أو: يا عبد القادر! أو غيرهم من المخلوقين؛ طالبا بذلك دفع شر أو جلب خير من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ من شفاء المريض، والنصر على العدو، والحفظ من المكروه... ونحو ذلك؛ أنه مشرك شركا أكبر؛ يهدر دمه، ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله تعالى وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء؛ متشفعا بهم ومتقربا بهم لتقضى حاجته من الله بسرهم وشفاعتهم له فيها أيام البرزخ، وأن ما وضع من البناء على قبور الصالحين صارت في هذه الأزمان أصناما تقصد لطلب الحاجات ويتضرع عندها ويهتف بأهلها في الشدائد كما كانت تفعله الجاهلية الأولى.
وكان من جملتهم مفتي الحنفية الشيخ عبد الملك القلعي، وحسين المغربي مفتي المالكية، وعقيل بن يحيى العلوي؛ فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ويرجى النفع والضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم تبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد؛ فالحمد لله على ذلك.
ثم رفعت المكوس والرسوم، وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه، وأحرقت أماكن الحشاشين والمشهورين بالفجور، ونودي
بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك؛ بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم، واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة، وسقطت الكلفة، وأمر عليهم، واستتب الأمر؛ من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين.(1/178)
ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد في التوحيد، المتضمنة للبراهين وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات والأحاديث المتواترة مما يثلج الصدر، واختصر من ذلك رسالة مختصرة للعوام؛ تنشر في مجالسهم، وتدرس في محافلهم، ويبين لهم العلماء معانيها؛ ليعرفوا التوحيد، فيتمسكوا بعروته الوثيقة، فيتضح لهم الشرك، فينفروا عنه وهم على بصيرة آمنين.
وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها من دون حياء ولا خجل لعدم سابقة جرم له؛ فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم؛ خلافا لمن قال: طريق الخلف أعلم ".
ومضى الشيخ يبين عقيدتهم السلفية في الأصول والفروع في رسالته هذه، وهي طويلة، ونقلت منها ما نقلت لتضمنه وصفا لأثر
عقيدة الشيخ في نشر دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثنى عليها العلماء وصدقوها وزكوها، وما علمت أن أحدا نفى ما جاء فيها من وصف ما جرى وما هو واقع.
يقول محمد كرد علي الدمشقي في كتابه "القديم والحديث" عن هذه الرسالة: "ورسالة عبد الله بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهد عدل أنه بريء من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه، وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل، وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين "(1). والحق أن الشيخ أنصف، ولم يترك لأحد مقالا، وأحال إلى الواقع الذي لا يقدر أحد أن ينكره.
__________
(1) نقلا عن هامش "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر، تهميش عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (ص 164، طبعة المعارف، سنة 1394 هـ).(1/179)
يقول في رسالته تلك: "ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا؛ علم قطعا أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين؛ تنفيرا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه؛ بأن الله لا يغفره ويغفر ما دونه لمن يشاء".
ويشير إلى ما كذب عليهم من أنهم مخالفون لعقيدة أهل السنة والجماعة في أي مسألة من مسائل العقيدة(1).
ومن هؤلاء القضاة في زمن الإمام سعود:
الشيخ عبد الرحمن بن نامي، الذي صار قاضيا في بلد العيينة، ثم صار قاضيا في الأحساء زمن سعود وابنه عبد الله(2).
الشيخ محمد بن سلطان العوسجي قاضي المحمل، صار قاضيا في الأحساء زمن "سعود(3) وقد حصل في التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول هذه العلوم، وقام بنشر عقيدة السلف الصالح في الأحساء(4).
والشيخ عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين، الذي صار قاضيا في حريملاء وبلد الزلفى وغيرهما زمن سعود وابنه عبد الله(5).
الأثر العمراني والحضاري
وعن الأثر العمراني والحضاري لهذه العقيدة السلفية التي لا ينسى صاحبها نصيبه من الدنيا، ويحسن كما أحسن الله إليه، يحدثنا المؤرخ ابن بشر عن مثال رآه وشاهده، فيقول :
"ولقد رأيت في الدرعية بعد ذلك في زمن سعود رحمه الله تعالى، وما فيه أهلها من الأموال، وكثرة الرجال، والسلاح المحلى بالذهب والفضة الذي لا يوجد مثله، والخيل الجياد، والنجايب العمانيات، والملابس الفاخرة، وغير ذلك من الرفاهيات؛ ما يعجز عن
__________
(1) انظر: نص رسالة الشيخ عبد الله كاملا في "الدرر السنية" (ج 1، ص 123- 134) .
(2) "عنوان المجد في تاريخ نجد" (1/ 94)0.
(3) "عنوان المجد في تاريخ نجد" (1/ 94)0.
(4) "علماء نجد خلال ستة قرون" (3/ 809).
(5) "عنوان المجد في تاريخ نجد" (1/ 94).(1/180)
عده اللسان، ويكل عن حصره الجنان والبنان، ولقد نظرت إلى موسمها يوما في مكان مرتفع (وهو في الموضع المعروف بالباطن) بين منازلها الغربية التي بها آل سعود والمعروفة بالطريف ومنازلها الشرقية المعروفة بالبجيري التي فيها أبناء الشيخ، ورأيت موسيم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب، وموسم اللحم في جانب، وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام والبيع والشراء والأخذ والعطاء وغير ذلك، وهو مد البصر، لا تسمع فيه إلا كدوي النحل من النجناج، وقول: بعت وشريت، والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي، وفيها من الهدم والسلاح والقماش ما لا يعرف ولا يوصف "(1).
"وكان قوة هذه البلد، وعظم مبانيها، وقوة أهلها، وكثرة رجالها وأموالها؛ لا يقدر الواصف صفتها، ولا يحيط العارف بمعرفتها، فلو ذهبت أعد رجالها وإقبالهم فيها وإدبارهم قي كتائب الخيل والنجائب العمانيات، وما يدخل على أهلها من أحمال الأموال من سائر الأجناس التي لهم مع المسافرين من أهلها ومن أهل الأقطار؛ لم يسعه كتاب، ولرأيت العجب العجاب، وكان الداخل في موسمها لا يفقد أحدا من أهل الآفاق من اليمن وتهامة والحجاز وعمان والبحرين وبادية الشام ومصر وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاق، ممن يطول عدهم؛ هذا داخل فيها، وهذا خارج منها، وهذا مستوطن فيها، وكانت الدور لا تباع فيها إلا نادرا، وأثمانها سبعة آلاف ريال وخمسة
__________
(1) " تاريخ نجد... " (1/13-14).(1/181)
آلاف ريال، والداني بألف ريال وأقل وأكثر، وكل شيء بقدره على هذا التقدير، وكروة الدكان الواحد في الشهر خمسة وأربعون ريالا، وسائر الدكاكين الواحد بريال في اليوم، وشيء نصف ريال، وذكر لي أن القافلة من الهدم إذا أتت إليها؛ بلغت كروة الدكان في اليوم الواحد أربعة أريل. وأراد رجل منهم أن يوسع بيته ويعمره، فاشترى نخيلات تحت هذا البيت يريد قطعها وتعمير موضعها، كل نخلة بأربعين ريالا وخمسين ريالا، فقطع النخل، وعمر الببت، ولكنه وقع عليه الهدم(1) قبل تمامه. وذكر لي من أثق به أن رجلا من أهل الدرعية قال له: إني أردت ميزابا في بيتي، فاشتريت خشبة طولها ثلاثة أذرع بثلاثة أريل، وأجرة نجره وبناه ريال، وكان غلا الحطب فيها والخشب إلى حد الغاية، حتى قيل: إن حمل الحطب بلغ خمسة أريل وستة، والذراع من الخشبة الغليظة بريال، وكل بيوتها مقاصير وقصور، كأن ساكنيها لم يكونوا من أبناء ساكني القبور، فإذا وقفت في مكان مرتفع، ونظرت موسمها وكثرة ما فيها من الخلائق، وتزايلهم فيه، وإقبالهم وإدبارهم، ثم سمعت رنتهم ونجناجهم فيه؛ فكأنه دوي السيل القوي إذا صب من عالي جبل(2). اهـ.
لا شك أن هذا الوصف يصور تطورا عمرانيا وحضاريا متفوقا على جميع الأقطار من حولهم، حيث كان الداخل في موسمها لا يفقد أحدا من أهل الآفاق من اليمن وتهامة والحجاز وعمان والبحرين وبادية
الشام ومصر وأناس من حاضرتهم ... إلى غير ذلك من أهل الآفاق ممن يطول عدهم... إلخ كلام ابن بشر الذي رأى ذلك زمن الإمام سعود.
الإمام عبد الله بن سعود
وأما الإمام عبد الله بن سعود؛ فيقول الشيخ راشد بن علي الحنبلي في كتابه "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" بعد أن ذكر وفاة الإمام سعود بن عبد العزيز سنة 1229 هـ؛ قال :
__________
(1) يعني: هدم الدرعية على يد إبراهيم باشا.
(2) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (ج 1، ص 214).(1/182)
"لما توفي الإمام سعود؛ تولى الإمامة بعده ابنه عبد الله بن سعود، فسار سيرة والده؛ إلا أن إخوته لا يوافقونه على إرادته، وكان لا يخالفهم، ونازعه أخوه فيصل بن سعود، فكان يأمر وفيصل يأمر، فتفرقت شوكتهم، ونفر منهم فئام من العرب، واتسع الخرق في قوتهم، فحاربتهم الدولة المصرية، وانحاز إلى المصريين أكثر العرب من نجد والحجاز واليمن والعراق والشام، وكان عبد الله شجاعا دينا عفيفا كريما سخيا؛ إلا أنه ليس له من الرأي والألمعية كما لوالده؛ فلذلك أضاع من سياسة الرعية شيئا عظيما، فوافاه القدر المحتوم، فتوفي في مدينة قسطنطينية سنة 1233 هـ"(1).
وقال ابن بشر:" وهذا الذي ذكرت من جهة الأمن وطاعة الحاضر والباد وغير ذلك اتفق في زمن عبد العزيز وزمن ابنه سعود، وصدر من ولاية عبد الله "(2).
حاصل أثر عقيدة الشيخ في هذا الدور
يمكننا تحصيل أبرز آثار عقيدة الشيخ في هذا الدور من أدوار دولة أنصارها في نقاط هي: إشراق نور الحق من نجد، وإمامة الأئمة والملوك من آل سعود، وتحقيق أن منهج السلف يأتي بالخلافة في الأرض، وتحقيق أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية قامت عليها دولة عظيمة فاقت أهل زمانها، وهي صالحة لأن تقوم عليها دولة عصرية تفوق أهل هذا الزمان بحول الله وقوته.
وهذه النقاط يمكن استعراضها بشكل موجز فيما يلي :
إشراق نور الحق من نجد :
لقد أشرق نور الحق وأضاء نور هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أثار طواغيت العالم حوله القتام من نجد هذه المرة؛ كما قال حسين بن غنام :
وديجور ليل الشرك مزقه الظهر ... تلألأ نور الحق وانصدع الفجر
ولاح بأفق السعد أنجمه الزهر ... وشمس الأماني أشرقت في سعودها
كأن سناها في غياهبه بدر ... وجلا ظلام الخطب بيض صنائع
وحالت بصنع الله أحواله الكدر ... وأسفر وجه الوقت بعد تعبس
إلى أن قال:
__________
(1) ص 42).
(2) "عنوان المجد... " (1/128).(1/183)
ولم تبق أرض ليس فيها له ذكر(1) ... تشعشع من خمسين عاما ضياؤه
ومن عادة المؤرخين أنهم لا يهتمون في تأريخهم بتدوين الحوادث في الأزمنة والأمكنة ما لم تكن لها دولة ذات شأن، ولذا؛ فإن الباحث في أية ناحية من نواحي التاريخ المتعلقة ببلاد نجد وما جاورها في القرون التي تلت القرن الثالث الهجري حتى زمن ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعوزه المصادر، ولا يرى اهتماما من المؤرخين بحوادثها، وكل من كتب من المؤرخين المحدثين يبني تاريخه على الشهرة القديمة في صدر الإسلام، ويعول على ما ذكره متقدمو المؤرخين عنها(2) أما بعد أن أنعم الله على هذه البلاد بظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح، وإصلاح ما فسد وانحرف من عقائد الناس على أيدي الغر الميامين آل سعود؛ فقد عمت بركتها، وشمل يمنها الجزيرة وما جاورها، وبلغت أقصى أقطار المعمورة، وكان ذلك موضع اهتمام المؤرخين والعلماء، فكان همهم الأكبر فهم حقيقة تلك النهضة التي هي حقيقة الإسلام خالصا من كل شائبة.
وكان من أول من قام بتدوين تاريخ قيام هذه النهضة المباركة وتصوير كفاح أولئك الأبطال الذين حموا حوزتها ودافعوا عنها بالنفس والنفيس عالم جليل من بلاد الأحساء، هو الشيخ حسين بن غنام (ت 1225 هـ)، فسجل حوادث ما يزيد على نصف قرن من الزمان، وجاء بعده عالم جليل آخر، هو عثمان بن بشر (1210- 1290 هـ)، فسجل
__________
(1) "روضة الأفكار" (ج 2، ص 237، وص 240).
(2) انظر: حمد الجاسر في كتابه "مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ " (ص 45- 79، 80- 100)، ومقدمته لـ "تاريخ بعض الحوادث " لابن عيسى (ص 5-6).(1/184)
أهم حوادث أكثر من قرن كامل من الزمان بطريق التسلسل (من سنة 1158 إلى سنة 1268 هـ)(1).
ويلاحظ أن ابن بشر قد خصص كتابه لتاريخ تلك النهضة المباركة والدولة الميمونة وما دونه من نتف قبلها اعتبرها سوابق سبقت تلك العصور الزاهرة، وقال: "إنما دونتها ليعرف من وقف عليها نعمة الإسلام والجماعة، والسمع والطاعة، ولا تعرف الأشياء إلا بأضدادها"(2).
ويرى الدكتور منير العجلاني أن مبدأ تاريخ نجد الحديث والجزيرة العربية والشرق الأدنى هو من السنة التي هاجر فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية؛ قال: "ففيها بدأت نجد تكتشف نفسها، وتعي رسالتها، وتصنع وحدتها، وتبني نهضتها، وقبل ذلك، وحتى القرن الثاني عشر، كانت نجد تعبيرا تاريخيا أو جغرافيا في الكتب القديمة، وأما في الواقع؛ فما كان شيء يذكر بوحدتها أو وجودها... وإنما كانت هناك مجموعة كبيرة من الإمارات والمشيخات، تنفرد كل واحدة منها بسلطانها، وتعتز باسمها، ولا ترى شيئا فوقه، وقد تتحالف أحيانا لقتال الآخرين، واستباحة ديارهم
وأموالهم، ولكنها متى فرغت من قتال عدوها؛ عادت تتقاتل فيما بينها ولما يجف مداد عهدها ودم جندها".
إلى أن قال: "فلما تأسست دولة الإسلام في الدرعية؛ أحذت الصفوف تتجمع، والبلدان تتوحد، فنشأت وحدة في العارض، ثم وحدة في نجد، ثم توسع مدلول نجد نفسه، فنشأت دولة نجد الكبرى؛ إن صح هذا التعبير "(3).
__________
(1) إبراهيم بن صالح بن عيسى "عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث والعبر في آخر القرن الثالث عشر والرابع عشر" عام 1372 بإشراف عبد الله الحاتم (ص 101)، وانظر: حمد الجاسر مقدمته لـ "تاريخ بعض الحوادث... " لابن عيسى (ص 5-7)، و"علماء نجد ... " (3/700،703).
(2) ابن بشر (1/ 157-158).
(3) " تاريخ البلاد العربية السعودية" (ص 35، 36، 40، 41، 42).(1/185)
ولقد أيد الدكتور العجلاني هذا الرأي بنقول عن صحيفة " الخليج الفارسي" وعن الدكتور فيليب حتي في كتابه "تاريخ العرب " وعن "دائرة المعارف الإسلامية" النسخة الإنجليزية الطبعة الجديدة(1).
وإذا اعتبرنا- وهو اعتبار صحيح يؤيده الواقع التاريخي- أن وجود العلماء والمؤرخين إنما يكون بقيام الدولة الإسلامية؛ لأن من شأنها الاستقرار والعدل والقضاء على الظلم والجهل؛ فإننا نستطيع القول بأن التاريخ أشرق مرة +أخرى بقيام دولة آل سعود بنصر عقيدة السلف الصالح منذ عقد الإمامان المحمدان العهد بينهما على نصرة دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عام 1158 هـ0
إمامة الأئمة والملوك من آل سعود وتاريخهم
قال الله تعالى:
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) } (2).
فمن آتاه الله الملك، وسار فيه على النهج السوي؛ كانت له هيبة مأثورة، ومكانة مرهوبة، وأنساب محفوظة، وتاريخ مجيد، وآل سعود منذ آووا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ونصروه في دعوته إلى عقيدة أهل السنة والجماعة قد جعل الله لهم ملكا قائما وتاريخا مجيدا بالفضائل مشرقا، ودونت أنسابهم، وسلسلت أعلامهم في مشجرات الأنساب، وحفظت في تواريخ ومؤلفات.
__________
(1) انظر: (ص 42- 45) " من تاريخ البلاد العربية السعودية".
(2) سورة آل عمران آية : 26.(1/186)
ومن هذه المؤلفات كتاب: "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد"، تأليف شيخ من أفاضل السلفيين، هو راشد بن علي الحنبلي، من آل جريس، من قرية نعام، ومن أهل القرن الثالث عشر، كان معاصرا لصديق حسن خان، وله ترجمة في "التاج المكلل" لصديق حسن خان(1).
ولعل الدكتور منير العجلاني لم يطلع على هذا الكتاب؛ فإنه في بحثه نسب آل سعود قصر سلسلة نسبهم على مانع الجد السابع
لمحمد بن سعود، وقال: "هذه هي سلسلة النسب التي نجدها في كل كتاب يبحث في تاريخ الدولة السعودية؛ لأنها قريبة العهد، وأما ما فوق مانع من الآباء؛ فبعض المؤلفين يهمله، وبعضهم ينقص منه، وبعض يغلط فيه، ولكن المؤلفين يجمعون على أن مانع يتحدر من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان(2).
ثم عدد الدكتور العجلاني المراجع التي اطلع عليها وناقش ما ورد فيها من معلومات ومشجرات لهذا النسب، ولم يذكر كتاب "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" هذا، وهو لعالم من علماء النسب في نجد الأثبات كما يبدو من ترجمته(3) وقد ذكر فيه مشجر ربيعة وتميم الذي تضمن ذكر من فوق مانع حتى ربيعة(4) وفي ظني أنه مشجر صحيح.
__________
(1) انظر: مقدمة محب الدين الخطيب لكتاب "مثير الوجد ..." (الطبعة السلفية بالقاهرة 1379 هـ، ص 3- 8)، وانظر: "التاج المكلل" (ص 517، طبعة الهند عام 1382 هـ).
(2) "تاريخ البلاد العربية السعودية" (ص 67).
(3) "تاريخ البلاد العربية السعودية" (ص 67-79) ، و"علماء نجد خلال ستة قرون" للشيخ البسام (1/ 257- 260)، و"روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد" لمحمد القاضي (1/ 104- 105)، و"التاج المكلل" لصديق حسن (ص 517).
(4) "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" (ص 30- 39).(1/187)
وعلى كل حال؛ فإن ذلك الغموض في تاريخ من فوق محمد ابن سعود يؤكد بأن هذه الأسرة الكريمة لم يظهر صيتها ولم يهتم بها المؤرخون حتى آتى الله آل سعود الملك ببركة اتفاق جدهم محمد بن سعود مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب على نصرة الإسلام.
يقول الدكتور العثيمين: "إن تاريخ الأسرة السعودية في بلدة
الدرعية يعود إلى منتصف القرن التاسع الهجري، وكان جد هذه الأسرة مانع المريدي مقيما في مكان يقال له: الدرعية، ناحية القطيف، وكان ابن عمه ابن درع مستقرا في حجر اليمامة، ونتيجة لمراسلات بينهما؛ انتقل مانع إلى منطقة نقوذ ابن عمه سنة 850 هـ"(1) اهـ.
ويقول أيضا: "والمتأمل في تاريخ هذه الأسرة خلال أكثر من قرنين ونصف القرن يجد أنه لا يختلف عن تاريخ كثير من الأسر التي كانت في نجد آنذاك على العموم: كانت هذه الأسرة في بدايتها ضعيفة، ثم قويت وتوسعت على حساب جيرانها آل يزيد، وكغيرها من الأسر، قام بين أفرادها صراع حول السلطة والنفوذ، حتى ضعف مركزها، وانتقلت رئاسة بلدة الدرعية إلى رجل من خارج هذه الأسرة، يسمى سلطان بن محمد القبس سنة 1107 هـ، وعلى أية حال؛ فإن رئاسة البلدة عادت بالقوة إلى أصحابها السابقين بعد ثلاثة عشر عاما، وأصبح موسى بن ربيعة أميرا، لكنه ما لبث أن أبعد عن الإمارة، وحل محله سعود بن محمد بن مقرن، وحين توفي سعود سنة 1137 هـ؛ لم يتول ابنه محمد الإمارة بعده، وإنما تولاها زيد بن مرخان، على أن محمدا كان له تأثير قوي على سير الحوادث في الإمارة، وكان قد حل بالعيينة وباء سنة 1138 هـ، مات فيه أميرها عبد الله بن معمر، وعدد كبير من رجالها، واستغلالا لذلك؛ أخذ زيد بن مرخان يعد العدة لمهاجمتها، لكن خطته فشلت حين استدرجه أمير العيينة الجديد محمد بن معمر وقتله غدرا في السنة التالية، وحينما عاد بقية من كانوا
__________
(1) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب... " (ص 51).(1/188)
معه إلى الدرعية بقيادة محمد بن سعود؛ أصبح هذا الأخير أميرا لها"(1).
ويقول الدكتور العجلاني: "وبقي محمد بن سعود رئيسا للدرعية قبل هجرة الشيخ إليها نحو عشرين سنة؛ أي: منذ عام 1139 هـ إلى عام 1157 هـ، ولسنا نعرف شيئا من أخبار هذه الفترة الطويلة، ولعله لم يكن فيها شيء يستحق الذكر"(2) اهـ.
هذا هو تاريخ الأسرة السعودية؛ فقبل قيامهم بدين الله على منهج السلف الصالح نجده تاريخا لا يختلف عن تاريخ أي أسرة من الأسر النجدية الأخرى التي كانت كل واحدة منها دولة، وفي كل بلدة من بلدانها إمارة أو مشيخة.
تحقيق أن منهج السلف الصالح يأتي بالخلافة في الأرض:
لما قام آل سعود بدين الله على منهج السلف الصالح، وفازوا على غيرهم بإيواء حامل لوائه ونصرته، ووفوا بما عاهدوا عليه الله؛ آتاهم الله الملك، واستخلفهم في الأرض؛ كما قال تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } (3).
فكانت لهم مكانة مرهوبة وهيبة مأثورة وأنساب وتاريخ محفوظ.
ولا غرو في ذلك؛ لأنهم نصروا منهج السلف الصالح، وامتازوا بذلك على غيرهم، ومنهج السلف الصالح هو الأساس في بناء الأمة الإسلامية، وهو قطب رحاها؛ فكما أن الأمة الإسلامية وسط بين الأمم، وكذلك منهج السلف الصالح وسط بين المناهج والفرق الإسلامية، والدين الراشد هو الأمر الوحيد الذي ينقاد له العرب، وبالدين يأتيهم الملك؛ كما قرر هذا عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في " مقدمته"، فقال :
__________
(1) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب... " (ص 52-53).
(2) "تاريخ البلاد العربية السعودية" (ص 63).
(3) سورة النور آية : 55.(1/189)
"إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض؛ للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية؛ كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله؛ يذهب منهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق؛ تم اجتماعهم، وحصل لهم الملك
والتغلب "(1).
وقال أيضا: "إن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين: إما من نبوة، أو دعوة حق، وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية، واتفاق القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه؛ قال تعالى :
{ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (2).
وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا؛ حصل التنافس، وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق، ورفضت الدنيا والباطل، وأقبلت على الله؛ اتحدت وجهتها، فذهب التنافس، وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة"(3) اهـ.
وهكذا؛ فإن دولة آل سعود التي عظمت؛ إنما أصلها الدين، أصلها الدعوة إلى الإسلام والسنة، التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقبلوها، وأقاموها خالصة من أي شيء يخالف عقيدة السلف الصالح ونهجهم السليم.
إن الشيخ وابن سعود وأتباعهم قصدوا إقامة دين الله، ونشر
__________
(1) "مقدمة ابن خلدون" (ص 151).
(2) سورة الأنفال آية : 63.
(3) "مقدمة ابن خلدون " (ص 157).(1/190)
الإسلام، وإقرار السنة، وإماتة البدعة؛ فجعل الله سبحانه وتعالى لهم عاقبة حميدة، ونصرهم في نهاية جهادهم، وأوصلهم ما كانوا يأملون به؛ رغم كثرة الخصوم وشراستهم، وعداوة الأمراء والملوك من حولهم لهم ولما قاموا به، بالإضافة إلى استمرار معارضة علماء السوء- وما أكثرهم-، وابتلاء الأمة بأشخاص عرفوا بالعلم والديانة ثم انسلخوا من أداء الأمانة وقول الصدق وشهادة الحق في شأن الشيخ وأنصاره وما دعوا إليه من الدين، فراحوا يشبهون ويفترون على الإسلام والمسلمين، ولم تحل خشية الله بينهم وبين كتمان ما أنزل الله من البينات، بل لم تحل بينهم وبين افتراء الكذب ولبس الحق بالباطل.
ومع ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى كتب لدعوة الشيخ النجاح، ولمناصريه العز والتمكين، ولخاذليه الذل والإزالة؛ فها هو عثمان بن معمر الذي طرد الشيخ مهابة من ملك الأحساء يجد نفسه وقد ذهبت عنه تلك المهابة وبطل عنه كل ما كان يجد من دون الله تعالى، وما وجد غير أن يأتي إلى الدرعية نادما تائبا، يرجو من الشيخ أن يعود معه، ثم لما رأى بالبصيرة أن اغتنام بقاء الشيخ قد فاته، وظفر به ابن سعود(1) ؛ لم يجد بدا من أن ينضوي تحت لواء ابن سعود؛ يجاهد في سبيل الله، وهذا مقتضى العقل وعين الحق الذي لا مفر منه، ثم نلمح الوفاء والكرم من الشيخ ومحمد بن سعود؛ يكرمون هذا العزيز الذي ذل، ويجعلونه أمير الغزو كله؛ بمثابة القائد العام للجيوش التي هي عدد الأمة وعدتها، يريدون بذلك إعادة اعتباره بين قومه، والإبقاء على
__________
(1) "روضة ابن غنام " (2/ 4).(1/191)
مكانته، وإشباع طموحه في الزعامة، والذي كان هو سبب ضعفه عن نصرة الإسلام، عسى أن يجد في الإسلام ما فقده في غيره، وعسى أن يغتبط بهذا الفضل وينسى ما يطمح إليه، وقد قصر عن مستواه(1) ولكنه ظل متأرجحا بين الحق والباطل، ثم أدركه حب الرياسة والاستقلال، وأعمته الأنفة عن طريقه الذي سلكه، وهو الصواب، ولم يصبر على ما توهم أنه تبعية مذلة لابن سعود وابن عبد الوهاب، فنزعت به نفسه إلى سلوك ما يريب منه ويشينه ويفتح عليه باب المؤاخذة والعقوبة، فيقتله بعض جماعته من أهل العيينة بسبب ذلك(2) والعيينة يحرسها الله بولائها للشيخ وابن سعود من استشراء الفتن فيها وتمزيقها لها، فما كان إلا أن تداركها الله بسرعة مجيء الشيخ إليها، وتعيين أمير يخلف الراحل، وتستمر العيينة بأهلها في مسيرتها تحت لواء الدعوة استمرارا يسحق ما يقف في طريقها، حتى ولو كان الواقف في طريقها أميرهم عثمان(3) أو قصر آل معمر فيها(4).
وفشلت كل معارضات علماء السوء النجديين، وخططهم، وسعاياتهم، وانكشفت تشبيهاتهم، وزهق باطلهم؛ بانتشار دعوة الحق
ودولتها، حتى انهزم أمير الرياض، وافتتحها عبد العزيز بن محمد بعد حروب استمرت حوالي ثمانية وعشرين عاما، تخللتها فترات صلح، يلجأ إليها دهام بن دواس حين يحس بضعف موقفه، فيظهر الطاعة، ثم ينكث، وأخيرا هرب منها، فأدخلوها تحت حكمهم الراشد، وغنموا ما فيها من عائدات الدولة(5).
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد. . . " (1/ 21)، و"روضة ابن غنام" (2/ 9,10,11,12,13,14).
(2) ابن بشر "عنوان المجد" (1/ 23،24)، و"روضة ابن غنام" (2/ 9،11،12،13،14).
(3) "روضة ابن غنام" (2/14).
(4) "روضة ابن غنام" (2/ 57)، وابن بشر في "عنوان المجد ... " (1/43).
(5) "روضة ابن غنام" (2/ 83- 88).(1/192)
وخاضت دولة الدعوة معارك في زمان محمد بن سعود كثيرة مع أعداء كثيرين وشرسين، من أعظمهم في زمان محمد بن سعود ثلاثة أمراء: أمير الرياض، وأمير نجران، وأمير الأحساء، فكانا يشتركان بالهجوم على الدرعية، وينضم معهم كثير من بلدان نجد وبواديها؛ يرمونهم عن قوس واحدة، وكانت نهاية النجراني ومن تبعه الخذلان عام 88- 1189 هـ في ولاية عبد العزيز خذلانا عظيما، ويرجع إلى بلاده مقهورا مدحورا هالكا(1).
أما أمير الأحساء الذي كان يخشاه ابن معمر؛ فقد هلك بعد أن أذله الله، وقام خلفه عرعر بن دجين، وجمع جموعا من عشائر بني خالد، وعددا كبيرا من بلدان نجد المناوئين من أهل سدير والوشم والرياض والخرج وغيرهم وبواديهم من عنزة والظفير، وتحزبوا أحزابا هائلة، اشرأب الباطل لها، ونقضت عهود لأجلها، ووقدت بينه وبين أهل الجبيلة والدرعية عدة وقائع، وقتل من جنده عدة قتلى، ولم يحصل على طائل، فنكس على عقبيه؛ قد فشل وفشل من نقض
العهد لأجله(2) ثم عاد مع النجراني وأتباعه ليحارب ابن سعود معه، ولكن الله لم يوفق بينه وبين النجراني، فلم يدرك شيئا مما أراده، ورجع إلى الأحساء(3).
ثم إن سعدون بن عريعر الذي تولى أمر الأحساء بعده جاء ليحارب ابن سعود مساعدة لأعدائه ومعه المدافع، ولم يفز، ورجع إلى بلاده، وترك مدافعه في اليمامة، فغنمها أهل الإسلام، وذلك في سنة خمس وتسعين ومائة وألف(4).
__________
(1) "روضة ابن غنام " (2/ 88- 89، 91- 93).
(2) "روضة ابن غنام " (2/ 68- 72).
(3) "روضة ابن غنام " (2/ 66- 68).
(4) "روضة ابن غنام " (2/ 110).(1/193)
ثم في سنة مئتين وألف دب الخلاف والفتن بين بني خالد بما كسبت أيديهم، فصار ذلك لعز الإسلام مقدمة، واستولت دولة الدعوة على الأحساء وما حولها(1) ثم تجمعت أحزاب ثويني من بغداد وعلماء السوء لديه فهاجموا الأحساء، فهزمهم الله على يد آل سعود تحت راية التوحيد.
وهكذا؛ تم القضاء على بقية الأمراء الذين وققوا في وجه الإسلام، وطما على بلدانهم ملك أنصاره؛ كما جرى للسابقين الأولين، وكما قال تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } (2). والحمد لله رب العالمين.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في نصيحته للإمام عبد الله ابن فيصل: "تفهم أن أول ما قام به جداك محمد وعبد الله وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة؛ يطلبون الحق، ويعملون به، ويقومون ويغضبون له ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم، إذا مشى العدو؛ كسره الله قبل أن يصل؛ لأنها خلافة نبوة، ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به؛ كما قال تعالى :
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } (3).
وأخذ عمك في الإسلام، حتى جاوز الثمانين في العمر، والإسلام في عز وظهور، وأهله يزيدون، وحصل لهم مضمون قوله :
{
__________
(1) " الدرر السنية" (11/ 47)، وانظر: "عنوان المجد..." لابن بشر (ص 124-128).
(2) سورة النور آية : 55.
(3) سورة النور آية : 55.(1/194)
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } (1) وصار أهل الأمصار يخافونهم "(2).
وما من شك أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية هي
التي قامت عليها هذه الدولة العظيمة؛ فإنه لم يتوف إلا ومنطقة الأحساء تكاد كلها تخضع لها(3).
وقد استمرت هذه الدولة في تطور عظيم كلما قامت بنشر العقيدة السلفية وحمايتها، ولقد يسر الله من يقوم بنشرها من العلماء والأمراء، حتى بعد وفاة الشيخ محمد سنة 1206 هـ، كما كانوا في حياته على ما قدمنا ذكره، حتى تمكنت دولة العقيدة السليمة من ضم الأحساء ومناطق كبيرة من الساحل الغربي للخليج العربي وعمان، كما تمكنت من صد حملتين عسكريتين وجههما إليها باشا بغداد، واستطاعت أيضا أن تستولي على الحجاز وما يقع إلى الجنوب منه حتى أواسط اليمن، وتمكنوا من صد الحملة المصرية وهزيمتها في حياة سعود.
وبتلك العقيدة، في أقل من عشرين عاما من وفاة الشيخ، أصبحت مساحة دولة الدرعية تمتد من الشام والعراق شمالا حتى أواسط اليمن جنوبا، ومن البحر الأحمر غربا حتى الخليج العربي وأواسط عمان شرقا، وبذلك تعدى نفوذ سلطانها خارج جزيرة العرب، وأصبحت تشن الغارات داخل الأراضي العراقية والشامية، حتى بات كثير من القبائل الموجودة هناك تدفع إليها الزكاة(4).
قال الشاعر :
وشاما إلى البصرى بل الغرب والشرقا ... وقد ملكوا نجدا وغورا وأتهموا
وكانوا أولي بأس فسل كل من تلقى(5) ... حنيفية في دينها سلفية
" مجمل إصلاحات الشيخ السلفية
__________
(1) سورة النور آية : 55.
(2) " الدرر السنية" (11/ 47)، وانظر: "عنوان المجد..." لابن بشر (ص 124-128).
(3) "عنوان المجد ..." (1/ 128).
(4) انظر: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ حياته وفكره" للدكتور العثيمين (ص 65).
(5) "الدرر السنية" لابن قاسم (12/ 30).(1/195)
والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هو الذي دعا إلى عقيدة السلف الصالح، وقام معه أنصاره بهذا الدين على حين غربة، فنشره الله في الآاق، وبارك الله في جهوده وجهاده؛ فكل امرىء أخذ منه حظه وقسمه، وبعثت العمال لقبض الزكاة بعد أن كانوا يسمون قبل ذلك عند الناس مكاسا وعشارا، ونشرت راية الجهاد بعد أن كانت فتنا وقتالا، وعرف الصغير والكبير التوحيد بعد أن كان لا يعرفه إلا الخواص، واجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن أصل الإسلام وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها ومعاني قراءتها، وتعلمها الصغير والكبير والقارئ والأمي بعد أن كان لا يعرفها إلا الخصائص، وانتفع بعلمه أهل الآفاق؛ لأنهم يسألون عما يأمر به وينهى عنه، فيقال لهم: يأمر بالتوحيد وينهى عن المنكر، ويقال لهم: إن أهل نجد يمقتونكم بذلك؛ فانتهى أنايس كثير من أهل الآفاق بسبب ما سمعوا من أوامره ونواهيه، وهدم المسلمون جميع القباب والمشاهد التي بنيت على القبور وغيرها من جميع المواضع الشركية في أقاصي الأقطار من الحرمين واليمن وتهامة وعمان والأحساء ونجد وغير ذلك، حتى لا تجد في من شملته ولاية المسلمين الشرك الأصغر فضلا عن غيره؛ إلا(1/196)
الرياء الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنه أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل "(1) وأمر جميع أهل البلدان من أهل النواحي يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشائين عن معرفة ثلاثة الأصول: معرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة أركانه، وما ورد عليها من الأدلة من القرآن، ومعرفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونسبه، ومبعثه، وهجرته، وأول ما دعا إليه، وهي: لا إله إلا الله، ومعرفة معناها، والبعث بعد الموت، وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها، وفروض الوضوء ونواقضه، وما يتبع ذلك من تحقيق التوحيد من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله؛ كالدعاء، والذبح، والنذر، والخوف، والرجاء، والخشية، والرغبة، والرهبة، والتوكل، والإنابة... وغير ذلك كما سبق ذكره، وذلك يسأل عنه الناس، ويلزمون بتعلمه؛ كل على قدر مستواه.
وكان الشيخ هو المرجع في أمور الدين وما يتعلق به من الأمور الأخرى؛ فهو المرجع في شئون الإفتاء، وكان هو الذي يختار القضاة ويعينهم، كما كان يرسل المرشدين إلى المناطق المختلفة، ويبعث العلماء لمناقشة من يود أن يعرف ما كان يدعو إليه؛ كما طلب الشريف؛ فأرسل إليه الشيخ عبد العزيز الحصين وغيره، وقد شرح لعلماء مكة حقيقة الدعوة، وللشيخ دور كبير في تدريس وتخريج كثير ممن أصبحوا قادة في ميادين العلوم الدينية المختلفة، وقاموا بأدوار إصلاحية هامة(2) وكان رحمه الله تعالى هو الذي يجهز الجيوش،
ويبعث السرايا، ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه، والوفود إليه، والضيوف عنده، والداخل والخارج من عنده(3).
__________
(1) مسند أحمد (4/403).
(2) "الشيخ محمد بن... " للدكتور العثيمين (ص 71) بتصرف.
(3) ابن بشر، "عنوان المجد... " (1/ 90)، و"الدرر السنية" (11/31).(1/197)
ولم يزل الشيخ مجاهدا حتى أذعن أهل نجد وتابعوا، وعمل فيها بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبايعوه، فعمرت نجد بعد خرابها، وصلحت بعد فسادها، ونال الفخر والملك من آواه، وصاروا ملوكا بعد الذل والتفرق والقتال، وهكذا كل من نصر الشريعة من قديم الزمان وحديثه؛ فإن الله يظهره على أعدائه، ويجعله مالكا لمن عاداه، وما مات إلا وقد قرت عينه بنصر الله لدين الإسلام، فكان كثيرا ما يتمثل شاكرا لربه بثلاثة أبيات هي :
لذو نعمة قد أعجزت كل شاكر ... بأي لسان أشكر الله إنه
علي وبالقرآن نور البصائر ... حباني بالإسلام فضلا ونعمة
عليها اعتقادي يوم كشف السرائر(1) ... وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل
ويلهج دائما بقوله تعالى :
{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) } (2).
وكان قد ثقل في آخر عمره، فكان يخرج لصلاة الجماعة يتهادى بين رجلين حتى يقام في الصف، فكان لا يزال قدوة حتى وهو في هذه الحال إلى أن توفي رحمه الله تعالى.
ويمكننا أن نتبين مجمل إصلاحات الشيخ السلفية حسبما ذكره الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن ذلك؛ فقال رحمه الله :
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد... " (1/ 91).
(2) سورة الأحقاف آية : 15.(1/198)
"فأتاح الله بمنه في هذه البلاد النجدية والجهات العربية من أحبار الإسلام وعلمائه الأعلام من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة، وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق وصريح الدين، الذي لا يخالطه ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين، فنافح عن دين الله، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنف الكتب والرسائل، وانتصب للرد على كل مبطل ومماحل، وعلم من لديه كيف يطلب العلم، وأين يطلب، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب(1).
واجتمع له من عصابة الإسلام والإيمان طائفة يأخذون عنه، وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله، حتى ظهر واستنار ما دعا إليه، وأشرقت شموس ما عنده من العلم وما لديه، وعلت كلمة الله، حتى أغشى إشراقها وضوءها كل مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل، وحقق الله وعده لأوليائه وجنده ؛ كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) } (2).
وقوله:
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } (3) الآية.
__________
(1) ابن بشر "عنوان المجد... " (ص 95).
(2) سورة غافر آية : 51.
(3) سورة النور آية : 55.(1/199)
فزال بحمد الله ما كان بنجد وما يليها من القباب والمشاهد والمزارات والمغارات، وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية من الأوتار والتعاليق والشركيات، وألزم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت وبسائر الواجبات، وحث من لديه من القضاة والمفتين على تجريد المتابعة لما صح وثبت عن سيد المرسلين، مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين والسلف الصالح المهديين، ونهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أو علم يهتدى به، وأنكر ما كان الناس عليه في تلك البلاد وغيرها من تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية التي لم ينزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان؛ لأن ذلك فيه مشابهة للنصارى الضالين في أعيادهم الزمانية والمكانية، وما هو باطل مردود في شرع سيد المرسلين.
وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة وضلال المبتدعة من التدين والتعبد باللهو واللعب والمكاء والتصدية والأغاني التي صدهم
بها الشيطان عن سماع آيات القرآن، وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان الذين قال الله فيهم: { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } (1).
وكل من عرف ما جاء به الرسول تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق وكراهة سماع كلام الله.
وأنكر رحمه الله ما أحدثته العوام والطغام من اعتقاد البركة والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت الذي يترشحون لتأله العباد لهم وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح وأن لهم كرامات ومقامات ونحو هذا من الجهالات؛ فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة.
وأنكر رحمه الله ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب وأشباههم، الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم ويلحق بالمجانين.
__________
(1) سورة الأنفال آية : 35.(1/200)
وأرشد رحمه الله إلى ما دل عليه الكتاب وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق، ويعتمدها أهل الايمان والتحقيق؛ فإن الله جل ذكره وصف الأبرار ونعتهم بما يمتازون به ويعرفون؛ بحيث لا يخفى حالهم ولا يلتبس أمرهم، وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان
من الكفار والفجار، ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم ولا يلتبس أمرهم على من له أدنى نظر في العلم وحظ من الإيمان.
وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي وأمراء القرى والنواحي فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه؛ من قطع السبيل، وسفك الدماء، ونهب الأموال المعصومة، حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك(1).
أسباب زوال الدولة وتسليط العدو
ثم إنه حصلت ذنوب من الناس بعد ذلك، وأمور من التقصير والاختلاف، فكانت سببا في تسليط الأعداء على المسلمين؛ ابتلاء وامتحانا، وتمحيصا واختبارا؛ كما هي سنة الله تعالى العزيز الحكيم.
وقد تنبه إليها أبناء الشيخ- وهم حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي- منذ حدوثها، واستنكروها، ونصحوا كافة المسلمين بمنشورهم إليهم، وحثوا على التوبة منها قبل أن تحل العقوبة وتنزل الكارثة؛ فلا ينفع حينئذ ندم نادم.
ومن هذه الأمور المخالفة: ترك المحافظة على الصلوات الخمس، وهي عمود الإسلام، من حفظها وحافظ عليها؛ حفظ دينه، ومن ضيعها؛ فهو لما سواها أضيع.
ومنها الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى إن من الناس من
ينشأ وهو ما يعرف دين الإسلام، ومنهم من يدخل فيه وهو ما يعرفه ولا يفعله؛ ظنا منه أن الإسلام هو العهد، ومعرفة الإسلام والعمل به واجب على كل أحد، ولا ينفع فيه التقليد.
__________
(1) "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (ج 4، ص 440- 441).(1/201)
ومنها أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر على المنع يحبسها، والزكاة ركن من أركان الإسلام.
ومنها ظهور عقوق الوالدين وقطيعة الرحم من كثير من الناس.
ومنها ما يجري من بعض الأمراء والعامة من الغلول من المغانم، ومن لم يستطع؛ يتحيل على الغلول بالشراء، ولا ينقد الثمن.
ومنها ظلم بعض الأمراء؛ يأخذون من أموال الناس بصورة الجهاد، ولا يصرفه في الجهاد، بل يأكله، وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة ولا يعطي المساكين منها شيئا، وربما يجري من هؤلاء تحميل الناس ما لا يستطيعون.
ومنها اختلاط الجيد بالرديء، وصاحب الدين بالمنافق، ولا يميز هذا من هذا، ووقع بسببه ظهور الكلام الباطل، والذي لو يظهر من أحد في أول أمر هذه العقيدة ؛ أدب أدبا بليغا، وعرف أن قائله منافق.
ومنها الظلم، والوقوع فيما حرم الله؛ من الدماء، والأموال، والأعراض، والغيبة، والنميمة، وقول الزور، وبهت المسلم بما ليس فيه، وصار هذا ما يستنكر، فإذا بان كذبه وتزويره؛ ما سقط من العيون.
ومنها الجسرة على ذمة المسلم، فإذا أعطى أحد من المسلمين أحدا من الكفار ذمته؛ خفر في دمه أو ماله، والعجب أن بعض الجهال يفعل هذا ديانة، ويظن أنه معاداة للكفار، واستحلال المحرم أعظم من ارتكابه مع معرفة تحريمه.
ومنها أن بعض الناس يغضب إذا أنكر على رجاله أو من له علاقة إذا فعل المنكر وأنكر عليه، وهذا أمر ما يحل.
ومنها التعاطي بمعاملات من الربا، ويمحق الله الربا.
ومنها التثاقل عن الجهاد، ومعصية الإمام في ذلك وغيره، وقد فرض الله الجهاد على المسلمين، وبهذا الجهاد أعزهم الله بعد الذلة، وقواهم بعد أن كانوا مقهورين.
ومنها ما يجري من تطليق على غير السنة؛ يطلق الرجل زوجته بطريقة مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك من الأمور التي تجري من الناس قبيل نكبتهم على يد إبراهيم باشا.(1/202)
والعلماء من آل الشيخ وغيرهم من حملة العقيدة السلفية ينبهون على ذلك وينصحون وينكرون، وكذلك الإمام سعود وابنه عبد الله لهما في ذلك نصائح، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم هذه النصائح، وأوردها بنصوصها وتفاصيلها(1) وقد اختصرت منها ما ذكرته من تلك الأمور التي كانت أسبابا في التغير.
قال الله تعالى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (2).
نتيجة التغير عن عقيدة السلف الصالح
وأهم هذه الأمور، والتي كأنها نتيجة لتلك الأمور المنكرة المتقدمة، وسراية لها: ما يذكره الشيخ راشد بن علي الحنبلي في رسالته "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد"؛ من تنازع على الإمارة والسلطة واختلاف بسبب ذلك بين القادة، فقال ما نصه عن الإمام عبد الله بن سعود:
"فسار سيرة والده؛ إلا أن إخوته لا يوافقونه على إرادته، وكان لا يخالفهم، ونازعه أخوه فيصل بن سعود، فكان يأمر وفيصل يأمر، فتفرقت شوكتهم، ونفر منهم فئام من العرب، واتسع الخرق في قوتهم، فحاربتهم الدولة المصرية، وانحاز إلى المصريين أكثر العرب من نجد والحجاز واليمن والعراق والشام "(3).
ويجمل ابن بشر ذلك بقوله: "إن الدولة المصرية سلطت على المسلمين بسبب الذنوب "(4).
والمقصود بيان أثر عقيدة الشيخ السلفية حين تقرر وتطبق، أما إذا جرى أمور تخالفها؛ فيكون الأثر عكسيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد أثر العدوان على القائمين بها وخذلانهم دمارا رهيبا يصوره لنا ابن بشر رحمه الله في "تاريخه "، فيقول في سنة حلول النكبة المصرية :
__________
(1) انظر: " الدرر السنية" (ج 11، كتاب النصائح، ص 3- 21).
(2) سورة الأنفال آية : 53.
(3) "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" للشيخ راشد بن علي الحنبلي (الطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1379 هـ، ص 42).
(4) "عنوان المجد..." (1/ 128).(1/203)
"وكانت هذه السنة قد كثر فيها الاضطراب، والاختلاف، ونهب الأموال، وقتل الرجال، وتقدم أناس، وتأخر آخرين، وذلك بحكمة الله سبحانه وقدرته، وقد أرخها بعض الإخوان من أهل سدير، وهو محمد بن عمر الفاخري، فقال:
ونال منا الأعادي فيه ما نالوا ... عام به الناس جالوا حسبما جالوا
أرخت قالوا بماذا قلت غربال(1) ... قال الأخلاء أرخه فقلت لهم
والشاهد كلمة غربال؛ فإنها بحسب حروف الجمل تساوي 1233، وهي السنة التي حصلت فيها النكبة.
ويقول ابن بشر: "انحل نظام الجماعة والسمع والطاعة، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة، وعمل بالمحرمات والمكروهات جهرا، وليس للطاعات ومن عمل بها قدر، وجرى الرباب والغناء في المجالس، وسفت الذواري على المجامع والمدارس، وعمرت المجالس بعد الأذان في الصلاة، واندرس معرفة ثلاثة الأصول وأنواع العبادات، وسل سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في وسط بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وتطاير شرر الفتن في الأوطان، وظهرت
دعوى الجاهلية بين العباد، وتنادوا بها على رءوس الأشهاد، فلم تزل هذه المحن على الناس متتابعة، وأجنحة ظلامها بينهم خاضعة "(2).
ويقول الشيخ عبد العزيز ابن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر من قصيدة نظمها في رثاء أهل الدرعية، وذكر ما جرى لهم وعليهم، وأولها قوله :
إلى أن قال:
ويجبر منا ما قد تصدعا ... عسى وعسى أن ينصر الله ديننا
ويفتح سبلا للهداية مهيعا ... ويعمر للمسحا ربوعا تهدمت
فيضحى ظلام الشرك والشك مقشعا ... ويظهر نور الحق يعلو ضياؤه
رءوفا رحيما مستجيبا لنا الدعا ... إلهي فحقق ذا الرجاء وكن بنا
إلى أن قال:
أرى الصبر للمقدور خيرا وأنفعا ... ألا أيها الإخوان صبرا فإنني
... ... ...
إذ شاء ربي كشف ذاك تمزعا ... ولا تيأسوا من كشف ما ناب إنه
__________
(1) "عنوان المجد... " (ج 1/ 210).
(2) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (ج 1/ 210- 211).(1/204)
ولا جزعا مما أصاب فأوجعا ... وما قلت ذا أشكو إلى الخلق نكبة
بها قهر الله الخلائق أجمعا ... فما كان هذا الأمر إلا بقدرة
أخذنا به حينا فحينا لنرجعا ... وذلك عن ذنب وعصيان خالق
وأن نعرف التقصير منا فنقلعا ... وقد آن أن نرجو رضاه وعفوه
ويا واسعا قد كان عفوك أوسعا ... فيا محسنا قد كنت تحسن دائما
فإن لنا في العفو منك لمطمعا ... نعوذ بك اللهم من سوء صنعنا
أصابت وصابت واكشف الضرر وارفعا ... أغثنا أغثنا وادفع الشدة التي
من العفو والغفران يا غيث من دعا(1) ... فجد وتفضل بالذي أنت أهله
وبذلك نأتي إلى نهاية هذا الفصل، وقد تضمن ذكر أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها التي بحول الله وقوته لا تنقطع أبدا؛ فإلى الفصل التالي، وهو الفصل الثالث من الباب الثاني، باب أثر عقيدة الشيخ السلفية، ويتضمن أثرها في الدور الثاني من أدوار دولة أنصارها.
الفصل الثالث
أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثاني
قال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف في قصيدة له :
وليس لما قد فات عود ولا رد ... وأقسم قوم أنها دولة مضت
به جاء في القرآن والسنة الوعد ... وقلنا لهم نصر الإله لحزبه
من الله مولانا له الشكر والحمد ... فعادت كما كانت بفضل ورحمة
له النصر والإقبال والحل والعقد(2) ... فهذا إمام المسلمين مؤيدا
إنه رغم حلول النكبة وإصابة المصيبة؛ فإن عقيدة الشيخ السلفية لم تمت، ولم تنته ولم تزل ولله الحمد، لقد أتاح الله لعقيدة السلف الصالح عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد ذلك الذي جرى نورا ساطعا وسيفاً لمن أثار الفتنة قاطعاً، فكشف الله بسببه المحن، وشهره من غمده في رءوس أهل الفتن، الإمام الوافي بالعقود، والمتمم للعهود، تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، وذلك بعد سنوات من حلول النكبة، تقارب خمس سنوات أو ستا.
__________
(1) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (ج 2، ص 34- 35، وفي طبعة المعارف ص 43- 45).
(2) "ديوان ابن مشرف" (ص 47).(1/205)
قال ابن بشر عن الإمام تركي: "أطفأ الله به نار الفتنة بعد
اشتعال ضرامها، وهان على كثير من الناس دينها وإسلامها، كأنهم لم يكونوا حدثا بإسلام، ولم يجتمعوا على إمام، وتهاون كثير منهم بالصلاة، وأفطروا في البلدان في شهر رمضان، وصار هذا الشهر العظيم عندهم كأنه جمادى أو شعبان، وتعذرت بين البلدان الأسفار، واتخذوا دعوى الجاهلية لهم شعارا، فحارب البلدان، وقاتل العربان، ودعاهم إلى الجماعة، والسمع والطاعة، حتى ضرب الإسلام بجرانه، وسكنت الأمة في أمنه وأمانه "(1).
وكان من شأن الإمام تركي فيما يتعلق بنصره دين الله، وعطفه على الرعية، وحزمه مع أمرائه؛ ما يذكره ابن بشر؛ قال: "لما خرج من الدهناء؛ نزل على غدير يقال له: وثيلان، فأمر على رؤساء النواحي أن يجتمعوا، فلما حضروا؛ قام فيهم، وذكرهم نعمة الله عليهم بالاجتماع بعد الفرقة، والأخوة بعد العداوة، والغنى بعد العيلة، واعترف عند ذلك بنعمة الله عليه، وضعفه وعجزه وتقصيره، وحقر نفسه، ثم إنه أغلظ الكلام على الأمراء، وتهددهم وتوعدهم عن ظلم الرعايا والأخذ منهم غير الحق، ثم قال: وإنكم إذا ورد أمري عليكم بالمغزا؛ حملتموهم زيادة لكم، وإياكم وذلك؛ فإنه ما منعني أن أجعل على أهل البلدان زيادة ركاب في غزوهم إلا الرفق بهم، وإني ما حملتهم إلا بعض ما حملهم الذين من قبلي، والله تعالى يقول: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) } (2).
وإنه إذا ورد عليكم أمري؛ فرحتم بذلك؛ لتأكلوا في ضمنه، وصرتم كراصد النخل؛ يفرح بشدة الريح؛ ليكثر الساقطة عليه.
واعلموا أني لا أبيحكم أن تأخذوا من الرعايا شيئا، ومن حدث منه منكم ظلم على رعيته؛ فليس أدبه عزله، بل أجليه عن وطنه.
__________
(1) انظر: تاريخ ابن بشر "عنوان المجد... " (ج 2، ص 8).
(2) سورة البقرة آية : 249.(1/206)
ثم قال للرعايا: أيما أمير ظلمكم؛ فأخبروني، فقام أمير بريدة عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن حسن، فقال: يا إمام المسلمين! خص بقولك ولا تعم به، فإن كنت نقمت على أحد منا؛ فأخبره بفعله، فقال: إنما القول فيك وفي أمثالك، تحسبون أنكم ملكتم البلدان بسيوفكم، وإنما أخذها لكم وذللها سيف الإسلام والاجتماع على إمام"(1).
جهود شيخ المسلمين في عهده الشيخ عبد الرحمن بن حسن
وكان من توفيق الله للإمام تركي أن أتاح له شيخا من شيوخ العقيدة السلفية، هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ، قدم على الإمام تركي من مصر، ففرح به الإمام وأكرمه، ووضعه بالمكان الرفيع، وقربه إليه، فأحيا الله به مدارس العلم بعدما عطلت، وتزينت بدروسه المساجد بعدما أقفرت، وكان الشيخ من أعلام عقيدة السلف الصالح، ومن علمائها العاملين، كان قد أخذ عن جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في صغره، وولي القضاء في الدرعية زمن سعود
وابنه عبد الله(2) ثم أخذ مع من أخذ إلى مصر، ولكن الله تعالى من عليه بالعودة سنة إحدى وأربعين ومئتين بعد الألف، مع ما من به عليه من ثبات على العقيدة، وإتاحة الناصر لها من آل محمد بن سعود، زاده الله في العلم النافع بسطة؛ فاغتبط بطلعته المسلمون؛ خاصهم وعامهم، وبذل وقته لطالبي العلم، وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين(3).
__________
(1) تاريخ ابن بشر "عنوان المجد.. " (ج 2، ص 44).
(2) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (ج 1، ص 94، ج 2، ص 20).
(3) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر ( ج 2، ص 20).(1/207)
قال ابن بشرعن الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "فممن انتفع به وتفقه عليه حتى صار قاضيا يرجع في الفتوى إليه من ذريته وذرية جده محمد بن عبد الوهاب عدد كثير، منهم العالم الفاضل ابنه الشيخ عبد اللطيف، قدم من مصر سنة أربع وستين ومئتين وألف ومعه كتب كثيرة، وانتفع الناس بعلمه، وكان عنده حلقة في التدريس، وكان أخذ العلم عن أبيه في مصر، وأخذ أيضا عن غير أبيه، واستعمله الإمام فيصل قاضيا في الأحساء، ثم كان قاضيا مع أبيه في الرياض، وتفقه على الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضا الشيخ العالم عبد الرحمن ابن القاضي حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان قاضيا في ناحية الخرج، وتفقه عليه أيضا الشيخ العالم الفقيه حسن بن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الؤهاب قاضي الإمام تركي في الرياض، ولم تطل مدته، مات شابا سنة خمس وأربعين ومئتين وألف، وتفقه عليه
أيضا الشيخ العالم عبد الملك بن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب القاضي في حوطة بني تميم للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضا الشيخ حسين بن حمد بن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب القاضي في الحريق للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضا الشيخ حسين بن علي بن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب القاضي في الرياض للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضا الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأخذ عنه ممن لم يل القضاء من ذرية الشيخ، وهو الآن في طلب العلم يترقى: حسن بن علي بن حسين، وأبناء الشيخ محمد بن علي ابن الشيخ، وهم: عبد الله وعبد العزيز وعلي وعبد الرحمن، وأبناء القاضي علي بن حسين، وهما: عبد الله وحسن".(1/208)
وقد أخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن من غير قرابته من علماء نجد عدد كثير وجم غفير ممن ولي القضاء وغيرهم؛ فمنهم العالم الشيخ عبد العزيز ابن القاضي عثمان بن عبد الجبار بن شبانه قاضي بلدان منيخ(1) والزلفى والغاط للإمام تركي ثم لابنه فيصل، وأخذ عنه أيضا العالم الشيخ عبد الله بن نصير القاضي في الرياض للإمام تركي ثم في ضرما، وأخذ عنه الشيخ ناصر بن عيد القاضي للإمام تركي في بلد الحلوة، وأخذ عنه أيضا الشيخ محمد بن سلطان قاضي بلد عرقة للإمام تركي ثم لابنه فيصل، وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن
ابن حمد الثميري القاضي في سدير للإمام تركي ثم كان قاضيا في الزلفى للإمام فيصل، وأخذ عنه الشيخ عبد الله بن جبر القاضي في منفوحة، وأخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف القاضي في جبل شمر عند ابن رشيد، وأخذ عنه العالم عبد العزيز بن حسن بن يحيى القاضي في حريملاء والمحمل للإمام فيصل، وأخذ عنه الشيخ محمد ابن إبراهيم بن عجلان القاضي في الحريق، وأخذ عنه الشيخ عبد الله ابن علي بن +مرخان القاضي في ضرما للإمام فيصل، وأخذ عنه أيضا الشيخ حمد بن عبد العزيز ابن القاضي محمد بن عبد العزيز قاضي بلد ثادق للإمام فيصل، وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن بن عدوان.
وأما من أخذ عنه ممن لم يل القضاء؛ فعدد كثير.
ونفع الله الطلبة بعلمه؛ بحيث إن الطالب لا يلبث إلا يسيرا عنده حتى يكون فائقا بفهمه، فضربت إليه أباط الإبل من أقطار نجد والأحساء، وظهرت آثار بركات علمه وتعليمه(2).
__________
(1) منيخ: اسم كان يطلق على المجمعة وما حولها من واديها. " معجم اليمامة" (ج 2/ ص 402).
(2) ابن بشر "عنوان المجد في تاريخ نجد" (2/ 21- 22)0.(1/209)
وللشيخ عبد الرحمن بن حسن المؤلفات والفتاوى والرسائل المشهورة، والتي عمرت بها المدارس من بعده ؛ مثل "فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد"، وهو تهذيب واختصار لشرح التوحيد المسمى " تيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ، و"قرة عيون الموحدين"، وردود كثيرة على أهل الشبه وأعوان الباطل.
يقول ابن بشر:" وقد صنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن
مصنفات في الأصول والفروع، أكثرها رد على أهل المقالات ومن غالط منهم في الصفات، وله مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، فمن طالعه؛ دله على علمه الغزير".
ويقول ابن بشر: "كتبت له مرة، ودعوت له في آخر الكتاب، وقلت في ختام الدعاء: إنه على ما يشاء قدير. فكتب إلي، وقال في أثناء جوابه: إن هذه الكلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير إذا سأل الله تعالى؛ قال: وهو القادر على ما يشاء، وهذه الكلمة يقصدون بها أهل البدع شرا، وكل ما في القرآن: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) } (1) وليس في القرآن والسنة ما يخالف ذلك أصلا؛ لأن القدرة شاملة كاملة، وهي والعلم صفتان شاملتان، تتعلقان بالموجودات والمعدومات، وإنما قصد أهل البدع بقولهم: وهو القادر على ما يشاء؛ أي أن القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة" انتهى.
__________
(1) سورة المائدة آية : 120.(1/210)
وقال ابن بشر: " وكتبت إليه مرة أهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر، وتوسلت إلى الله في دعائي بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو، فكتب إلي، فقال: وقد ذكرت وفقك الله في وسيلة دعوتك جزاك الله عني أحسن الجزاء عن تلك الدعوات؛ قلت: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت. فاعلم أيها الأريب الأديب أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة، وأما الصفة؛ فيعلمها أهل العلم بالله؛ كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم من معنى الصفة على ما يليق بالله، فيقال: استواء لا يشبه استواء المخلوق، ومعناه ثابت
لله؛ كما وصف به نفسه، وأما الكيف؛ فلا يعلمه إلا الله؛ فتنبه لمثل هذا؛ فالإمام مالك تكلم بلسان السلف".
يقول ابن بشر: " فانظر إلى سعة علومه واطلاعاته ومفهومه، وما لديه من التحقيق والتدقيق، وكان كثيرا ما يتعاهد أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح؛ يعلمهم ما يجب عليهم من أمر دينهم، ويذكرهم نعمة هذا الدين، واجتماع شمل أهل الإسلام عليه، وما من الله به على أهل نجد في آخبر هذا الزمان "(1).
ويقول ابن بشر عن رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حسن:" وورد علينا منه رسالة بعثها إلى بلدان نجد، وأحببت أن أذكرها في ترجمته؛ لأنه ذكر فيها بدء أمر الشيخ جده محمد بن عبد الله وأول ظهور هذا الدين على يديه في نجد"، وأوردها كما أوردها ابن بشر للغرض نفسه، ولتأكيد وراثة الشيخ عبد الرحمن بن حسن لجده الشيخ محمد في حمل عقيدة السلف الصالح ونشرها والتأثير على الناس في العودة إلى دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ كما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكأنها بيان للخطة التي يسير عليها عالم الدولة في دورها الثاني.
__________
(1) "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (ج 2، ص 22-23)0.(1/211)
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "بسم الله الرحمن الرحيم، { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) } (1) وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الفاتحة آية : 2.(1/212)
وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام، الذي عرفكم به وهداكم إليه وتسمون به؛ فلا يعني باسم الإسلام إلا أنتم، وما أعطاكم الله تعالى في هذا الدين من النعم أكثر من أن تحصر، لكن منها نعم كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة؛ لأن المعارض لها قوي جدا : أولها: كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل واحد، فلما شرح الله صدره، واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة، وتدبر الآيات، وطالع كتب التفسير وأقوال السلف في المعنى والأحاديث الصحيحة؛ سافر إلى البصرة، ثم إلى الأحساء والحرمين؛ لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإسلام، فلم يجد أحدا، كلهم قد استحسن العوائد، وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد الله، وأنكر الشرك المنافي له، بل قد ظنوا جواز ذلك واستحبابه، وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت والقبور والجن والأشجار والأحجار في جميع القرى والأمصار والبوادي وغيرهم، فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر؛ فرحم الله كثيرا من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله، وكان قد عزم وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج، فعاقه عائق، فقدم المدينة وأقام بها، ثم إن العليم الحكيم رده إلى نجد؛ رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤويه وينصره، وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملاء، فبادأهم بالدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك والبراءة منه ومن أهله، وبين لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة(1/213)
وكلام السلف، فقبل منه من قبل- وهم الأقلون-، وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة؛ فكرهوا دعوته، فخافهم على نفسه، وأتى العيينة وأظهر الدعوة بها، وقبل منه كثير منهم، حتى رئيسهم عثمان بن حمد ابن معمر، ثم إن أهل الأحساء- وهم خاصة العلماء- أنكروا دعوته، وكتبوا شبهات تبين جهلهم وضلالهم، وأغروا به شيخ بني خالد، فكتب لابن معمر أن يقتل هذا الشيخ أو يطرده، فما تحمل مخالفته، فنفاه من بلده الدرعية، فتلقاه محمد بن سعود بالقبول، وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده، وهذه أيضا نعمة عظيمة، وكون الله أتاح له من ينصره ويؤويه، والذي أقوى من ابن سعود لم يحصل منه ذلك، وصبر محمد على عداوة الأقصى والأدنى من أهل نجد والملوك من كل جهة، وبادأهم دهام بن دواس بالحرب، فهجم على الدرعية على حين غفلة من أهلها، وقتل أولاد محمد: فيصل وسعودا؛ فما زاد محمدا إلا قوة وصلابة في دينه، على ضعف منه وقلة في العدد والعدة وكثرة من عدوهم، وذلك من نعمة الله علينا وعليكم؛ فرحم الله هذا الشيخ الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه في الدعوة إلى دينه، ورحم الله من آواه ونصره؛ فلله الحمد على ذلك.
وفيما جرى من ابن سعود شبه مما جرى من الأنصار في بيعة العقبة.
ثم إن بني خالد وأهل نجد وأهل العراق والأشراف والبوادي وغيرهم تجردوا لعداوة هذا الشيخ ومن كان آواه ونصره، وأقبلوا على حربهم بجدهم وجنودهم، فأبطل الله كيد من عاداهم، وكل من رام
من هؤلاء الملوك وأعوانهم أن يطفئ هذا النور؛ أطفأ الله ناره، وجعلها رمادا، وجعل كثيرا من أموالهم فيئا للمسلمين، وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة.(1/214)
ثم إن الله بفضله وإحسانه أظهر هذا الدين في نجد، وأذل من عاداه، فعمت النعمة أهل نجد ومن والاهم شرقا وغربا، وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام التي رضيها سبحانه لعباده دينا، فلم يقدر أحد أن يقدرها بقوته وقدرته؛ فاشكروا ربكم، وأقبلوا على التوحيد تعلما وتعليما، والأمر بما يحبه من طاعته، والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي.
فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعمة العظيمة، والتنافس في هذا الدين الذي من الله به عليكم، وهو الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتبه، وأكمله، ورضيه لعباده، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1).
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } (2).
فاحذروا نسيان ربكم عما افترضه عليكم، وأقبلوا على توحيده وطاعته، واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار؛ فكونوا أئمة في هذا
الدين، الذي هو معنى لا إله إلا الله، وقد بين الله معناه في آيات كثيرة من كتابه ؛ فإنها دلت على نفي الشرك، والبراءة منه وممن فعله، وإخلاص العبادة لله وحده، وذلك في آي كثير:
فمن ذلك قوله تعالى :
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) } (3).
فقوله: { أَقِمْ وَجْهَكَ } (4) فيه الإخلاص، و { حَنِيفًا } (5) فيه نفي الشرك، و { وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) } (6) فيه البراءة منهم ومن دينهم.
قال تعالى : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } (7).
__________
(1) سورة المائدة آية : 3.
(2) سورة الحشر آية : 18.
(3) سورة يونس آية : 105.
(4) سورة يونس آية : 105.
(5) سورة يونس آية : 105.
(6) سورة يونس آية : 105.
(7) سورة الزمر آية : 2.(1/215)
والآيات في معنى: لا إله إلا الله أكثر من أن تحصر ؛ كقوله : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } (1).
والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد الذي فيه الفلاح والنجاة وصلاح الدنيا والآخرة؛ فلا تنسوا ربكم بالإعراض عن الهدى فينسيكم أنفسكم، ومن عقوبة الإعراض عمي البصر في الدنيا والآخرة، ولا باق معكم إلا دينكم لمن من الله عليه بحفظه والإقبال عليه والعمل به، وإلا تفهمون أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله،
وغير ذلك زائل. هذا ما نوصيكم به وندلكم عليه عامة والعلماء والأمراء خاصة.
فيجب عليكم أن تكونوا صدرا في هذا الدين بالرغبة فيه والترغيب، وأن تكونوا سندا وعونا لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ويتفقدون أهل بلدهم في صلاتهم، وتعليمهم دينهم، وكفهم عن السفاهة وما يحرم عليهم؛ لأن الله سائلهم عنهم، ومن أحب شيئا؛ أكثر من ذكره... وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين"(2).
وللشيخ عبد الرحمن بن حسن ردود ونصائح ورسائل وفتاوى كثيرة في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" و"الدرر السنية في الأجوبة النجدية" التي جمعها ابن قاسم، وكلها في شرح عقيدة السلف الصالح وبيانها والرد على من عارضها وألصق فيها التهم وشبه عليها.
وقد بارك الله في عمر الشيخ عبد الرحمن بن حسن كما بارك في عمله.
قال عبد الرحمن بن عبد اللطيف في تعليقه على "عنوان المجد": "عاصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن ستة من ملوك آل سعود الذين تعاقبوا على الحكم، وهم: الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنه سعود بن عبد العزيز، وابنه عبد الله بن سعود بن عبد
__________
(1) سورة يوسف آية : 40.
(2) "عنوان المجد . . . " (ج 2، ص 23- 26).(1/216)
العزيز، ثم الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، وابنه الإمام فيصل بن تركي، وابنه عبد الله بن فيصل بن تركي، ومات الشيخ عبد الرحمن في أول حكم عبد الله بن فيصل سنة (1285 هـ) رحمه الله تعالى"(1).
جهود الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن
وفي هذه المدة كلها كان الشيخ عبد الرحمن بن حسن وريث جده وشيخه في العلم والعمل، كما كان الإمام تركي وابنه فيصل وريثي جدهما محمد بن سعود وأبنائه الأئمة في مناصرة دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ بعد أن خرب أهل البغي مدينة الدرعية وحضارتها الإسلامية، وبعد أن ظن الناس كل الظن أن لا رجوع لهم؛ فالحمد لله الذي لا إله إلا هو؛ صدق وعده، وجعل العاقبة للمتقين، وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال، ويأتي أمر الله، فتنتهي الدنيا، وتقوم الساعة، وتأتي الآخرة، والله المستعان.
هذا؛ وقد ساعده على حمل راية العلم والسنة ابنه الشيخ عبد اللطيف؛ فقد كتب رسائل كثيرة في بيان عقيدة السلف الصالح التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورد ما ألصق فيها من تهم باطلة، وخصص "جامع الرسائل والمسائل النجدية" الجزء الثالث من مجموعة الرسائل والمسائل لبعضها، فبلغت ستا وسبعين رسالة في أربع مئة وثلاث وخمسين صفحة (453)، وهي ليست كل رسائله
ومؤلفاته وفتاويه؛ فهي كثيرة موزعة في أجزاء "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" الأخرى، وفي "الهدية السنية" جزء منها، و" في الدرر السنية" منها كثير.
__________
(1) هامش ص 266 من جزء 1 من "عنوان المجد"، طبعة المعارف سنة 1387هـ).(1/217)
وعلى سبيل المثال ألخص فصلا كتبه الشيخ عبد اللطيف في سيرة جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعقيدته، فقال: "قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة والمقروءة عليه وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء والنبلاء من أصحابه وتلامذته:
أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين وأهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية وتلقاها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقبول والتسليم؛ يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها كما جاءت؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها.
وفي توحيد العبادة والإلهية؛ فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه؛ فقد دعا إلى أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان، وأفضل شعبة في العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين ".
ثم أخذ الشيخ عبد اللطيف يفصل هذه الجملة، ويستدل بالآيات الكريمة، ويبين الأنواع التي تدخل في العبادة وضدها، وبين(1/218)
أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلما، بل هو حجة على ابن آدم، وبين مسألة التكفير، وأن الشيخ فيها على ما كان عليه العلماء قاطبة؛ كما هو مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة، بل إن الشيخ لم يكفر أحدا إلا بما أجمع عليه العلماء، وهو ترك التوحيد، وبين مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل، وأن الشيخ فيها على ما كان علية السلف الصالح وأئمة الهدي والدين، وبين عقيدة الشيخ في القرآن، ورفض الشيخ للبدع الصوفية وغيرها، وبين تقرير الشيخ على شهادة أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه؛ من تجريد المتابعة، والقيام بحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحب والتوقير والنصرة والطاعة، وتقديم سنته على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث وقفت في أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره، ثم صار يبين مآثر الشيخ ومناقبه، ثم أورد الشيخ عبد اللطيف ما قاله أبو الحسن الأشعري من جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة من المعتقد(1).
وقد لخصت هذا عن الشيخ عبد اللطيف في هذا الموضع لبيان أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيهم، وأنهم حملوها بقوة في العلم والحجة والسلطان رحمهم الله تعالى.
وفي هذا المجال نذكر من قضاة الإمامين تركي وفيصل الشيخ
__________
(1) انظر: "الهدية السنية" (طبعة المنار، الرسالة الرابعة ص 88- 100)، وانظر: "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (ج 3، ص 367- 377).(1/219)
العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين؛ فله مكان كبير من أثر عقيدة الشيخ ونشرها والدفاع عنها تجاه أباطيل المغرضين والأعداء، وله رسائل وفتاوى في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية"، وقد أفرد بعضها؛ مثل "الرد على داود بن سليمان بن جرجيس "، طبع بمطبعة الحلبي سنة 1344 هـ، وقد توفي سنة 1282 هـ رحمه الله تعالى، وسبق أن عينه الإمام سعود بن عبد العزيز قاضيا على الطائف وملحقاته عام 1220 هـ(1).
جهود الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين
ولا ننسى عالما من علماء عقيدة السلف الصالح، ومن مشايخ الدعوة إليها، وارثي الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن طريق سنده المتصل إليه، ذلك العالم هو الشيخ الإمام العلامة الثقة في العقيدة ذو الهمة والشجاعة حمد بن علي بن محمد بن عتيق: أخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم، وكان له حظ من المعرفة وإقدام وشهامة وعبادة وتهجد وطول صلاة ولهج بالذكر، شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه والحث عليه(2) وهو الذي يعنيه الشاعر محمد بن عثيمين وهو يرثي ابنه الشيخ سعد بن حمد بقوله :
لم يبنها لكم مال ولا خطر ... بنى لكم حمد يا للعتيق علا
على الجهول ولو من جده مضر(3) ... لكنه العلم يسمو من يسود به
ويقول فيه الشيخ سليمان بن سحمان:
لحل عويص المشكلات البوادر ... يعز علينا أن نرى اليوم مثله
إذا ما تبدت من كفور مقامر ... وللشبهات المعضلات وردها
فحل على هام النجوم الزواهر ... فلله من حبر تصعد للعلا
إلى أن قال:
يجدد من منهاجهم كل داثر ... ويقفو لآثار النبي وصحبه
ويعمر من بنيانه كل دامر ... ويحيي علامات من العلم قد عفت
بها وارتقى مجدا سمي المظاهر ... إمام تزيى بالعبادة فاستما
إلى أن قال:
__________
(1) "علماء نجد خلال ستة قرون " (ج 2/ 567-573).
(2) " الدرر السنية... " (ج12، ص 77- 79).
(3) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين " (ص 480).(1/220)
وقد كان ذا علم بفقه الأواخر ... عليم بفقه الأقدمين محقق
تسامى بها فوق النجوم الزواهر(1) ... وقد حاز في علم الحديث محلة
ولي مناصب القضاء في عهد حكم الإمام فيصل بن تركي في الخرج، ثم في الحوطة، ثم في الأفلاج.
وأخذ عنه العلم: ابنه الشيخ سعد، وابنه الشيخ عبد العزيز، وابنه الشيخ عبد اللطيف، وأخذ عنه الشيخ الحبر عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سليمان بن سحمان، وغيرهم خلق كثير(2).
وله مؤلفات جيدة؛ منها: كتاب "إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد"، وهو حاشية على " كتاب التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و"بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك "، و" الرد على ابن دعيج "، و"الفرقان المبين بين مذهب السلف وابن سبعين "، وله رسائل ونصائح ومكاتبات مع أعيان البلاد من حكام وعلماء من أجل الدعوة والإصلاح.
وتوفي على رأس القرن، سنة 1301 هـ(3) ورثاه تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان بقصيدة مطلعها:
وشمس الهدى فليبك أهل البصائر ... على الحبر بحر العلم بدر المنابر
ومنها:
حميد المساعي مشمعل المآثر(4) ... فما حمد في العلم إلا متوج
[جهود الشيخ الشاعر أحمد بن مشرف الأحسائي]
ويحسن أن نذكر في هذا الدور شيخا من الأحساء وشاعرا مجيدا قد تأثر أثرا طيبا وإيجابيا بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، هو الشيخ الفقيه المحدث الأديب السلفي أحمد بن علي بن حسين ابن مشرف الوهيبي، ولد بالأحساء في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، ولما بلغ من النمو أشده، وتلقى العلم في ذلك العهد المبارك، عهد إشراق شمس التوحيد وعقيدة السلف الصالح بدعوة
__________
(1) "ديوان ابن سحمان " (ص286-287).
(2) " الدرر السنية" (ج 12، ص 78- 79).
(3) مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب "إبطال التنديد" بقلم إسماعيل بن سعد آل عتيق (ص 4).
(4) "ديوان ابن سحمان" (ص 287).(1/221)
الشيخ محمد ونصرة آل سعود؛ أدرك في سائر العلوم إدراكا طيبا، ونظم مقدمة "رسالة أبي زيد القيرواني"، وهي مقدمة مختصرة مفيدة في عقيدة السلف الصالح، نظمها نظما طريفا ليسهل حفظها على طالبيها، واختصر "صحيح الإمام مسلم"، ثم توفي في بلدته الأحساء في سنة 1285 هـ(1).
وهو صاحب الديوان المسمى "ديوان ابن مشرف في العقائد والتوحيد والفقه والأدب"، وطبع بمطبعة السنة المحمدية، ونشره إبراهيم المحمد الضبيعي ومحمد العبد الله الحواس عام 1370 هـ.
ونورد من ديوانه قطعة من قصيدة جيدة، وسببها أنه في السنة التاسعة والستين بعد المئتين والألف حدث أن استولى عايض بن مرعي العسيري على اليمن، وأرسل بهدية للإمام فيصل بن تركي ومعها قصيدة لقاضيهم علي بن الحسين الحفظي، ومن هذه القصيدة قوله يوصي المرسول:
ودمعك سفاحا على الخد والثدي ... وأشرف على وادي اليمامة قائلا
وتابع رشد للإمام الممجد ... سلام على عبد العزيز وشيخه
فئام فمنهم عالمون ومقتدي ... دعا الناس دهرا للهدى فأجابه
مميز مجود النقود من الردي ... وقفاهما حذوا سعود بسيفه
على عرصات للرياض بمقصد ... وعرج بها ذات اليمين وقد هوت
ومن نسل سادات الملوك مسدد ... وناد بأعلى الصوت بشرى لفيصل
إلى آخر القصيدة.
فأجابه عن الإمام فيصل الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بقصيدة كما ذكرت ضمنها مدح آل سعود على إيوائهم الشيخ ونصرتهم للتوحيد؛ منها:
فنال المنى بالنصر كل موحد ... همو نصروا التوحيد بالبيض والقنا
يسمى بشيخ المسلمين محمد ... وآووا إماما قام لله داعيا
وقد جد في إخفائه كل ملحد ... لقد أوضح الإسلام عند اغترابه
فأكرم به من عالم ومجدد ... وجدد منهاج الشريعة إذ عفت
كما قد أمات الشرك بالقول واليد ... وأحيا بدرس العلم دارس رسمها
بكل دليل كاشف للتردد ... وكم شبهة للمشركين أزاحها
__________
(1) انظر ترجمته بقلم محمد حامد الفقي في أول "ديوان ابن مشرف" (ص- د- و).(1/222)
بها قد هدى الرحمن للحق من هدي ... وألف في التوحيد أوجز نبذة(1)
وكل حديث للأئمة مسند ... نصوصا من القرآن تشفي من العمى
على قلة منهم وعيش منكد ... فوازره عبد العزيز ورهطه
ولم يثنه صولات باغ ومعتد ... فما خاف في الرحمن لومة لائم
إلى حين ووري في الصفيح الملحد ... وقفى سعود إثره طول عمره
فما وهنوا للحرب أو للتهدد ... وقد جاهدوا في الله أعداء دينه
إلى أن قال:
وكم هدموا بنيان شرك مشيد ... وكم سنة أحيوا وكم بدعة نفوا
إلى أن قال:
بها أيد الرحمن سنة أحمد ... وكم لهم من وقفة شاع صيتها
ودانت لهم بدو وسكان أبلد ... وكم فتحوا من قرية ومدينة
وما بين جعلان إلى جنب مربد ... وكم ملكوا ما بين ينبع بالقنا
قلوصك من مبدأ سهيل إلى الجدي(2) ... ومن عدن حتى تنيخ بأيلة
ذوي الشرك والإفساد كل مطرد ... وقد طهروا تلك الديار وطردوا
وبالصلوات الخمس للمتعبد ... بأمر بمعروف ونهي عن الردى
كما عمرت أيديهم كل مسجد ... وقد هدموا الأوثان في كل قرية
إلى آخر القصيدة، وهي طويلة جدا(3).
ومما قال رحمه الله في قبة عين نجم بالأحساء بعد أن هدمت بأمر الإمام فيصل رحمه الله سنة 1277 هـ:
على شفا جرف للشك والرين ... فغادروها كبنيان الذين بنوا
مبارك الأمر محمود الفعالين ... بأمر وال طبيب في رعيته
وما أصاخ لأهل الزور والمين ... إذا قام يحمي من التوحيد جانبه
أفتوا وسل حساما ذا غرارين ... لكن أطاع هداة المسلمين بما
إلى قوله:
بسيفنا في عمان والعراقين ... فقال كم قبة للشرك قد هدمت
في أرضنا وهي ما بين الخميسين ... فكيف نرضى بها تبنى مشيدة
ونال من رحمة الرحمن كفلين(4) ... جزاه ربي بنصر الدين نصرته
__________
(1) يعني "كتاب التوحيد" الذي ألفه الشيخ.
(2) جعلان: بلد في عمان في الجنوب منه، ومربد: يقصد مربد البصرة، وعدن في اليمن والجنوب، وأيلة بالشام، والشيخ الشاعر يذكر حدود مملكة آل سعود من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال.
(3) انظر : "ديوان ابن مشرف " (ص56-59).
(4) "ديوان ابن مشرف "(ص28-29).(1/223)
وقال في الإمام فيصل سنة 1263 هـ قصيدة مطلعها:
ودهرا دهانا صرفه بالعجائب ... إلى الله نشكوا حادثات النوائب
إلى أن قال:
على جبر مطلوب وإسعاف طالب ... وسألت هل في دهرنا من مساعد
إمام الهدى نسل الكرام الأطايب ... فلم أرى إلا الألمعي أخا الندا
على طرسه يحكي هتون السحائب ... كريم المساعي فيصلا من يراعه
وأعلمت عيس اليعملات النجائب ... فيممت من أرض هجر عشية
إلى آخرها(1).
وقد مدح الإمام فيصل بما هو أهل له من الكرم وتجديد معالم الدين على ضوء ما فعله أسلافه الميامين(2).
وكان عثمان بن سند البصري قد أنشأ قصيدة أقذع فيها بسب المسلمين وشمت بهم حين نزل إبراهيم باشا الدرعية، وقال يخاطب إبراهيم باشا :
لدى لاح من بين السيوف له السعد ... لقد فتحت للدين أعينه الرمد
فأجابه الشيخ أحمد بن مشرف بقصيدة عصماء كبحه بها، وذلك في عهد الإمام فيصل، ومطلعها:
أم الفتنة الظلماء قد أقبلت تعدو ... أليل غشا الدنيا أم الأفق مسود
إلى أن قال:
وأنصاره تبا لما قاله الوغد ... وقد أقذع البصري في ذم شيخنا
إلى منهج التوحيد فاتضح الرشد ... أيهجو إماما هاديا أرشد الورى
وأبوا إلى الإسلام من بعد أن صدوا ... ويصرهم نهج المحجة فاهتدوا
إلى أن قال:
بعدلهم من ضمه الشام والسند ... فلما مضت تلك العصابة لم يقم
فلم تنكر الفحشا ولم يقم الحد ... ولكن فشا فيها الزنى وبدا الخنا
حرام وكم ضلت عصائب وارتدوا ... فكم فتنة عمت وكم طل من دم
فصاروا بها مثل الذئاب التي تعدوا ... وكم قطع السبل البوادي وأفسدوا
فقد فتحت للدين أعينه الرمد ... فإن كان هذا عنده الدين والهدى
إلخ(3).
أسباب نهاية الدور الثاني لدولة أنصار عقيدة الشيخ
لقد حصل خلل في التمسك بعقيدة السلف الصالح؛ من الأمر بالاجتماع، ونبذ الفرقة والاختلاف؛ بسبب ما جرى من فتنة بين
__________
(1) انظر: "ديوان ابن مشرف" (ص 39- 40).
(2) انظر: الديوان (ص 39- 42، وص 47- 52، وص 59- 69، وص 72).
(3) انظر: الديوان (ص 45- 47) .(1/224)
المسلمين، وخورج بعضهم على بعض قد جرت له بيعة وانعقدت له ولاية شرعية في الجملة.
وقد وصف لنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن كيف كان أول هذه الفتنة في رسالته إلى الشيخ حمد بن عتيق(1). وفي غيرها(2) وصفا دقيقا حكيما صادقا؛ لأنه رحمه الله عايش تلك الأمور، واتفق أن وقعت الفتنة والشقاق في زمنه، وهو العالم الخبير، وقد أدرك رحمه الله تعالى ببعد فراسته وصدقها أن من وراء تلك الفتنة أصابع الدولة العثمانية، لا بل أصابع أعداء الإسلام المتسترين بثياب الناصحين، وكثيرا ما يجري من الماكرين الاستحواذ على السلطات بالمخادعة والنفاق، وهم أعداء ألداء لعقيدة أصحاب السلطة، فكان الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في كثير من رسائله يقيم الحجج والبراهين على وجوب معاداة العساكر التي أرسلت باسم الدولة التركية لإبطال التوحيد، ومستشاريهم الذين غايتهم بث الشبه والشكوك في العقيدة، فكان رحمه الله يبين وجوب البراءة من هؤلاء الأعداء ومجاهدتهم وهجرهم ومقاطعتهم وتحريم موالاتهم ومساكنتهم ومساكنة أنصارهم والاجتماع بهم، في كل ذلك يجاهد جهاد دفاع(3) وجهاد اتباع يجاهد الابتداع.
ويهمنا في هذه النقطة أن نبين أثر عقيدة الشيخ السلفية حين
تستقر في النفوس، وأثر مخالفتها، فيحسن أن نقتبس من قصيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أبياتا تصف لنا بدقة أثر مخالفة عقيدة السلف الصالح في تلك الفترة، فقال:
وسلت سيوف البغي من كل غادر ... ودارت على الإسلام أكبر فتنة
وكانوا على الإسلام أهل تناصر ... وذلت رقاب من رجال أعزة
تزورهم غرثى السباع الضوامر ... وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق
بأيدي غواة من بواد وحاضر ... وهتك ستر للحرائر جهرة
لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر ... وجاءوا من الفحشاء ما لا يعده
إلى أن قال:
__________
(1) "مجموعة الرسائل... " (ج 3، ص 273- 276).
(2) مجموعة الرسائل ... (ص 162- 172، وص 69- 72).
(3) مجموعة الرسائل ... (ص 179- 181، وص 256- 262).(1/225)
إمام هدى يبني رفيع المفاخر ... وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح
لسالكها حر اللظى والمساعر ... وينقذهم من قعر ظلما مضلة
عليها خيار الصحب من كل شاكر ... ويخبرهم أن السلامة في التي
أكابرهم كنز اللهى والذخائر ... فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى
مشايخهم واستنصروا كل داغر ... سعوا جهدهم في هدم ما قد بنى لهم
وجاءوا بهم من كل أفك(1) وساحر ... وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم
تهدم من ربع الهدم كل عامر ... ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة
يبوء بها من دهره كل خاسر ... وباءوا من الخسران بالصفقة التي
وقام بها سوق الردى والمناكر ... وصار لأهل الرفض والشرك صولة
معاهد يغدو نحوها كل فاجر ... وعاد لديهم للواط وللخنا
وصار مضاعا بين شر العساكر ... وشتت شمل الدين وانبت حبله
ولم يرض بالتوحيد حزب المزامر ... وأذن بالناقوس والطبل أهلها
وبين طريد في القبائل صائر(2) ... وأصبح أهل الحق بين معاقب
إلخ قصيدته رحمه الله.
__________
(1) أفك على وزن أشر؛ أي: كثير الإفك.
(2) "الدرر السنية" (ج 7، ص 189- 190).(1/226)
وإنها تشخيص ممن شاهد الداء ويصف الدواء بقوله: "وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان في جهة أو بلد؛ حصل من الملك والعز والظهور لهم بقدر تمسكهم بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك؛ صار لشيخنا- شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب- ولطائفته وأنصاره من الملك والظهور والنصر بحسب نصيبهم وحظهم من متابعة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بدينه، فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان، ومن الحيرة إلى اليمن، وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكا؛ كانوا أعز وأظهر، وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة والخروج عن متابعة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وما يعفو الله عنه من ذلك أكثر وأعظم، والمقصود أن كل خير ونصر حصل وعز وسرور اتصل؛ فهو بسبب متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتقديم أمره في الفروع والأصول"(1).
استمرار أثر المشايخ رغم ضعف المناصر
ومن المشايخ الذين لهم تأثير حسن رغم ضعف المناصر في
شرح عقيدة السلف الصالح في الحجاز الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، المتوفى عام 1328 هـ، قاضي المجمعة في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وصاحب المؤلفات التالية:
1- "الرد على المدراسي والسندي والحلبي" في "مجموعة الرد الوافر".
2- "شرح نونية ابن قيم الجوزية".
3- "الرد على ما جاء في تاريخ خلاصة الكلام عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته لدحلان".
4- "الرد على شبهات المستعينين بغير الله تعالى"، ألفه عام 1294 هـ بمكة، نشر محمد نصيف، طبع دار مصر للطباعة بدون تاريخ (61 ص).
__________
(1) "مجموعة الرسائل والمسائل.0.. " (ج 4، ص 443- 444، وج 3، ص (198).(1/227)
قال عنه الشيخ محمد نصيف في ترجمته له في أول مؤلفه "الرد على شبهات المستعينين بغير الله تعالى" المذكور: "كان رحمه الله يشتغل إلى جانب عمله في القضاء بالتجارة، وغالب تجارته في الأقمشة القطنية، جالس أمير مكة الشريف عون الرفيق ابن محمد بن عون المتوفى عام 1323 هـ، فأقنعه بهدم القباب المشيدة على قبور الصالحين في مكة وجدة والطائف؛ إلا قبة قبر المزعوم أنه قبر حواء أم البشر في جدة، وقبة السيدة خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبة قبر آمنة المزعوم أنه في مكة، وقبة قبر ابن عباس بالطائف؛ فإنه لم يهدمها خوفا من السلطان عبد الحميد العثماني أن يعزله من الإمارة؛ فالسلاطين
والملوك يبنون القباب على قبور الصالحين وقبور أجدادهم، وقد رأيتها في إستانبول وبورسة، والعلماء في كل عصر منهم الخائف من تهمة أنه وهابي، وأما المتصوفة؛ فجاءت على أهوائهم، وفي كل عصر للتهم أنواع، والمسلمون والعرب مظلومون من الأقوياء، سلطهم الله بعضهم على بعض، وجعل بأسهم بينهم شديدا.(1/228)
وكان يتردد بين جدة ومكة لشراء الأقمشة من الشيخ عبد القادر ابن مصطفى التلمساني??أحد تجار جدة- ومن ذوي الأملاك في القطر المصري، كان يدفع له أربع مئة جنيه ويشتري بألف ويسدد الباقي على أقساط بضمانة الشيخ مبارك المساعد البسام من التجار ومن أهل عنيزة، وقد دام التعامل بينه وبين الشيخ التلمساني زمنا طويلا، وكان لصدقه وأمانته ووفائه بوعده أثر طيب في نفس الشيخ التلمساني، حتى إنه لم ير ضرورة للضامن، وأخذ يبيعه ما يحتاج إليه بوثيقة تسدد فيما بعد على أقساط، وقال له: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عاما؛ فما وجدت أحسن من التعامل معك يا وهابي، يظهر أن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين بسبب الحروب التي وقعت بينكم وبين أشراف مكة والمصريين والأتراك؛ فقد أشاعوا عنكم أقوالا منكرة. فسأله الشيخ أحمد أن يبينها له؟ فقال الشيخ التلمساني: يقولون: إنكم لا تصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ?ولا تحبونه. فأجابه المؤلف: سبحانك لِلَّهِ هذا بهتان عظيم! كيف ومن لم يصل عليه في التشهد في الصلاة؛ فصلاته باطلة، ومن لا يحبه؛ فكافر؟! وإنما نحن أهل نجد ننكر الاستغاثة والاستعانة بالأموات، ولا نستغيث إلا بالله وحده، ولا
نستعين إلا به سبحانه؛ كما كان على ذلك سلف الأمة.
وقد استمر النقاش بينه وبين الشيخ التلمساني ثلاثة أيام، وأخيرا؛ هدى الله الشيخ التلمساني للحق، وصار موحدا ظاهر وباطنا، ثم سأله الشيخ التلمساني أن يوضح له بعض أوجه الخلاف بينهم وبين خصومهم، فقال: إننا نعتقد أن الله فوق سماواته، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله؛ من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل، وهكذا في جميع آيات الصفات والأحاديث كما هي عقيدة السلف الصالح، وكما جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابيه: "الإبانة في أصول الديانة"، و " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين".(1/229)
وقد دامت المناظرة بينهما خمسة عشر يوما؛ لأن الشيخ التلمساني كان أشعريا، درس في الجامع الأزهر كتب العقائد " السنوسية" و"أم البراهين" و"شرح الجوهرة" وغيرها، وقد انتهت هذه المناقشات الطويلة باقتناع الشيخ التلمساني بأن عقيدة السلف هي الأسلم والأحكم والأعلم، ثم صار الشيخ التلمساني داعيا من دعاة العقيدة السلفية، وطبع على نفقته كتبا كثيرة كان يوزعها بالمجان؛ مثل: "الصارم المنكي في الرد على السبكي " لابن عبد الهادي، و" القصيدة النونية المسماة الشافية" لابن قيم الجوزية، و " الاستعاذة من الشيطان الرجيم " لابن مفلح، و "المؤمل في الرجوع إلى الأمر الأول " لابن أبي شامة المؤرخ الدمشقي، و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لابن تيمية، و " الرد الوافر" لابن ناصر الدين
الدمشقي، مع رسائل أخرى ضمن "الرد الوافر"، و"غاية الأماني في الرد على شواهد النبهاني " لمحمود شكري الآلوسي البغدادي، وشاركته في نفقات الطبع، واشترى نسخا من "تفسير الطبري"، ووزعها على بعض الناس رحمهم الله أجمعين.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هدى الشيخ التلمساني على يد الشيخ أحمد بن عيسى؛ فقد هداني أنا أيضا على يده.... وكان له تلاميذ كثيرون، ومن أشهرهم: الشيخ عبد القادر التلمساني المغربي، والشيخ أبو بكر بن محمد عارف خوقير المكي الكتبي، وأما في نجد؛ فكثيرون "?(1)??اهـ??
__________
(1) مقدمة الناشر محمد نصيف (ص 3- 5).(1/230)
وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في كتابه هذا بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أما بعد؛ فقد وقفت على كراسة لبعض العصريين من أهل العراق سماها "أنموذج الحقائق "، وضمنها كثيرا من الهذيان والشقاشق، مضمونها الانتصار للشرك بالله المسمى بالتوسل، وتجويز دعوة الأموات والغائبين من دون الله تعالى واستحبابه، والتشنيع على من يمنع من ذلك وسبابه، فأحببت أن أبين بطلان ما تضمنته كراسته من الشبهات الواهية والترهات المتناهية، وأن أزيح شبهاته ببراهين التوحيد الساطعة، وأوضح ضلالاته بحجج الكتاب والسنة القاطعة وكلام علماء الإسلام ومصابيح الاهتداء في الظلام.
والرسالة المذكورة شبه لا شيء، لكن ربما يخيل بها إلى بعض قاصري الأفهام، أو لعله يحصل عليهم بها إيهام، ونحن نكتب على بعضها ما تنتقض به شبهاته، وتبطل به خيالاته وترهاته...
وقد تصدى للرد على رسائله التي مضمونها الدعوة إلى الشرك بالله ووسائله، وانتصب لقمع أباطيله وإيضاح تلبيسه وأضاليله، جمع من العلماء، وجل من الأئمة الفهماء؛ منهم: شيخنا العلامة فقيه زمانه وقدوة عصره وأوانه عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وشيخنا العلامة واللوذعي الهمام ناصر الموحدين وقامع الملحدين عبد الرحمن بن حسن، ومنهم شيحنا العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ومنهم العلامة المحدث فخر الديار اليمنية الشريف محمد بن ناصر الحازمي، والشيخ العلامة المحقق نعمان بن محمود البغدادي"(1) انتهى باختصار.
ولقد كان لهؤلاء العلماء الصادقين مؤهلات عالية وأفكار صالحة؛ في رأب الصدع، وجمع الكلمة، واتحاد القوة، ودحض الفرقة، ونبذ الخلاف.
__________
(1) " الرد على شبهات المستعينين بغير الله" (ص 6-7).(1/231)
فهذا الشيخ العلامة عبد الله بن عبد اللطيف الذي سنتحدث عنه وعن سطوع نجمه في عهد الملك عبد العزيز له رسالة إلى المشايخ وكافة الإخوان من طلبة العلم، نتبين منها قوة أثر عقيدة السلف الصالح في علمه وفكره ؛ أولها بعد البسملة:
?من عبد الله بن عبد اللطيف إلى جناب الفضلاء والأعلام والمشايخ الكرام: إبراهيم بن عبد الله، وحمد بن حسين، وزيد بن محمد، وحمد بن عتيق، وصالح الشثري، ومحمد بن علي، وعلي بن إبراهيم الشثري، وابراهيم بن عميقان، وسعود بن مفلح، وكافة الإخوان من طلبة العلم ??????إلخ.
وفيه بين الشيخ وجوب النصيحة لله ولكتابه وللأئمة والعامة من المسلمين بالأدلة من الكتاب والسنة، وحث على التفكير المتزن على ضوء الكتاب والسنة، ومن أجل رضى الله، وابتغاء ما عنده يوم القيامة، وأنه لا بد في التوحيد من العلم به والعمل والدعوة إليه؛ كما هي طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه في كل زمان ومكان، وهذا واجب على كل إنسان بحسبه، وليس مقصورا على العالم لعلمه، أو على الفاضل لفضله، بل كل بحسبه ومقداره؛ يجب عليه العلم بالتوحيد والعمل والدعوة، ومع ذلك؛ فالأخوة الإسلامية باقية، لا يشوبها هوى ولا استكبار عن اتباع الحق مع من كان معه، فإن أشكل؛ فالرد بينهم إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عند موارد النزاع، والفتن كثيرا ما يلتبس فيها الحق بالباطل، ولكن يجب على المسلم معرفة الحق في ذلك بالبحث والمذاكرة، وإظهار ما يعتقده ويدين به، فإن كان حقا؛ سأل ربه الثبات والاستقامة، وشكره على التوفيق والإصابة، وإلا؛ رده إلى من هو أعلم منه بحجة؛ يجب المصير إليها، ويقف المرشد عليها، والله عند لسان كل قائل وقصده، ومجازيه بعمله؛ فلا بد من زلة قلم، وعثرة قدم، وفوق كل ذي علم عليم، ولا يحيطون به علما.
ثم ذكرهم بنعم الله، وأعظمها: بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام وظهوره.(1/232)
ثم شخص أسباب الكفر وبينها، وأهمها موانع في النفوس من هوى وإرادات ورياسات لا يقوم ناموسها ولا يحصل مقصودها إلا بمخالفة الحق وترك الاستجابة له، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، ولولا ذلك؛ ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خصمان.
ثم تطرق إلى تذكيرهم باختصاص الله إياهم بنعمة التوحيد من بين سائر الأمم وأصناف الناس في هذه الأزمان، فأتاح لهم من أحبار الأمة وعلمائها حبرا جليلا وعلما نبيلا، فقيها عارفا بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا بما انحل من عرى الإسلام، فتجرد للدعوة إلى الله، ورد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، وتجريد المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار.
وأثنى الشيخ ابن عبد اللطيف على من وازر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تلك الدعوة من أسلاف آل سعود الماضين، وقال:
"إن الله أظهر لهم من الدولة والصولة ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة رتبة بمجرد السابقة والعادة، لا(1/233)
تزحمهم فيها العرب العرباء، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء، وصالحهم يرجو فوق ذلك مظهرا، وجاهلهم يرتع في ثياب مجد لا يعرف من حاكها ولا درى، فلم يزل الأمر في مزيد، حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة ووزيره العبد الصالح رحمهما الله رحمة واسعة، ثم حدث من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من الابتلاء والتطهير ما يعرفه الفطن الخبير، ثم أدرك سبحانه من رحمته وألطافه أهل هذه الدعوة ما رد لهم به الكرة، ونصرهم ببركته المرة بعد المرة، وبعضكم أدرك لهذا ورآه، ومن لم يدركه بلغه كيف كثر الابتلاء والامتحان لأهل هذه الدعوة ثم تكون لهم العاقبة، وذلك سنة الله السابقة في أنبيائه ورسله؛ "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه "، وله في ذلك حكمة بالغة".
ثم أورد الشيخ ابن عبد اللطيف الأدلة على بعض أفراد هذه الحكمة.
ثم يصف تلك المحنة ويقول: " إنها فتنة عم شرها، وطار شررها، وتفرق الناس فيها أحزابا وشيعا؛ ما بين ناكث لعهده، خالع لبيعة إمامه؛ بغير حجة ولا برهان؛ بغضا للجماعة، ومحبة للفرقة والشناعة، وبين مجتهد لما رأى إمامه صدر مكاتبة للدولة، وبين واقف عند حده يلوح بين عينيه إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان، والرابع ضعيف العنان خوار الجنان، مع هؤلاء تارة ومع الآخرين تارة يتبع طمعه، وكل فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى
وتفسقها أو تكفرها، بل وتنتسب إلى طالب علم تأتم به وتقلده وتحتج بقوله عياذا بالله، والمعصوم من عصمه الله، وحساب الجميع على الله، وهو أعلم بسرائرهم، وسيحكم بينهم سبحانه بعلمه".(1/234)
ويقول: "ثم أذهب الله ذلك بالعود إلى الجماعة، وتجديد الأخوة الإسلامية، وذهاب الشحناء، وعاد الأمر إلى ما كان عليه من ثبوت الإمامة والدعوة إلى الجماعة، وتجديد العهود والمواثيق على ذلك؛ فحمدنا الله تعالى، وسألناه المزيد من فضله ورحمته، وكنا مغتبطين، وأذهب الله عنا هباء الشبهات، وأطفأ نار تلك الضلالات".
ثم جعل الشيخ ابن عبد اللطيف يحذر هؤلاء العلماء خاصة، وينصحهم من بوادر بدرت تريد المشاقة وفل جميع المسلمين، إلى أن قال محذرا:
"فاستأنف النهار يا ابن جبير قبل أن تنفرج ذات البين بينكم معشر العلماء، ويضلل بعضكم بعضا، أو يفسقه، أو يكفره؛ فتكونوا بذلك فتنة لجاهل مغرور، أو ضحكة لذي دهاء وفجور، تستباح بذلك أعراضكم، ولا ينتفع بعلمكم؛ فاعقدوا لكم محضرا، ولو طال منا ومن بعضكم لأجله سفر، للنظر فيما يصلح الإسلام، وتقوم به الحجة، ولو لم يعمل به عامل؛ تسدوا بذلك عنكم باب الفرقة؛ نصحا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ فأنا والله لا أخال الجرح يندمل، ولا الحية تموت؛ إلا أن يشاء ربي شيئا، وذلك لكثرة الطلاب لهذا الأمر؛ فقد وقع والله بكثرتهم البأس وأعضل، واحتاج العاقل للنظر فيما هو الأصلح لدينه والأرضى لربه؛ بالاجتماع على الأسد فالأسد،(1/235)
والأجد فالأجد(1) والأصلح فالأصلح؛ فإن الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، فاتح حصنه لأهله، يدأب بين الأمة بالشحناء والعداوة ؛ عنادا لله ولرسوله ولدينه؛ تأليبا وتأنيبا؛ يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويزين بالزور، ويمني أهل الفجور والشرور، يوحي إلى أوليائه بالباطل؛ دأبا له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله في سالف الأزمان، لا ينجو منه إلا من أحب الآجل وغض الطرف عن العاجل وقط هامة عدو الله وعدو الدين باتباع الحق والعمل به، رضي ذلك من رضيه وسخطه من سخطه "(2).
هذا هو الشيخ عبد الله؛ ذو الرأي السديد، والعقيدة السليمة، والعقل الرشيد، وقد كان الملك عبد العزيز - كما سيأتي الحديث عنه في الدور الثالث- كان موفقا غاية التوفيق؛ حيث اختاره، وقربه إليه، واعتبره المرجع في بيان منهج السلف الصالح وعقيدتهم، التي صمم العزم على نصرتها واستعادة مكاسبها، كما صمم أسلافه عزمهم وإرادتهم التي تضعضعت أمامها الممالك والقوى من حولهم.
هذا وما زال مشايخ الدعوة في تلك الفترة - بعد انتهاء الدور الثاني من أدوار دولة آل سعود - ما زال مشايخ الدعوة يحملون عقيدة السلف الصالح، ويبثون العلم بها بين الناس؛ رغم ضعفهم وقلتهم وهوانهم على الناس وغيبة الناصر لها؛ لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه، وكما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه لا تزال طائفة على الحق
لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة.
__________
(1) انظر: "الدرر السنية"؛ ففيها نص هذه الرسالة كاملا (ج 7، ص 265- 272)، والأجد فالأجد؛ يعني: الأكثر جدا.
(2) انظر: "الدرر السنية"؛ ففيها نص هذه الرسالة كاملا (ج 7، ص 265- 272)، والأجد فالأجد؛ يعني: الأكثر جدا.(1/236)
وقد أنعم الله سبحانه على هاتين الأسرتين الكريمتين، فمهما بقيت عداوة من يعاديهما من أجل عقيدة السلف الصالح والمحافظة عليها؛ فسوف يبقي الله من هاتين الأسرتين ما يغيظ أعداءهم الذين ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، وهذا هو أثر عقيدة السلف الصالح الذي لا يتخلف أبدا حتى قيام الساعة؛ كما قال تعالى :
{ $¯Rخ)?çژفاZoYs9?$oYn=ك™â'?ڑْïد%©!$#ur?(#qمZtB#uن?'خû?حo4quٹptّ:$#?$u÷R'‰9$#?tPِqtƒur?مPqà)tƒ?ك‰"ygô©F{$#?اختب } (1).
ولذا؛ فقد قيض الله لأهل هذه العقيدة السلفية السليمة الإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
وبقيام الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يبدأ الدور الثالث من أدوار دولة أنصار عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية؛ فإلى ذلك في الفصل التالي.
الفصل الرابع
أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثالث الحاضر
إن الله سبحانه وتعالى عاد بعائدته - كما جرت به سنته للطائفة المنصورة -، فقيض الله لعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية إماما راشدا وسلطانا نصيرا وملكا حاميا، ألا وهو أبو الملوك، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمهم الله تعالى، الذي سار على سنة آبائه في نصرة عقيدة السلف الصالح، وإعزاز أهل الدين الحق، واستعادة مكاسب آبائه من ذلك، وتجديد مجدهم، وإحياء سنتهم الراشدة.
يقول الشاعر الأديب العالم محمد بن عثيمين رحمه الله يخاطبه :
جددت من مجدهم من بعد ما بانوا ... أرضيت آباءك الغر الكرام بما
للمارقين ضباب فيه دخان ... نبهت ذكرا توارى منه حين علا
تمضي بسيفك ما أمضاه قرآن ... فجئت بالسيف والقرآن معتزما
للدين في الأرض أعلام وأركان ... حتى انجلى الظلم والأظلام وارتفعت
??
__________
(1) سورة غافر آية : 51.(1/237)
تفيض من كفه بالجود خلجان(1) ... دين ودنيا وبأس في الوغى وندى
ويقول فيه أيضا:
كما جرت بك للإسعاد أقدار ... تلألأت بك للإسلام أنوار
لما يريد من الخيرات يختار ... إن الذي قدر الأشيا بحكمته
لا بد يبدو لها في الكون آثار ... والعبد إن صلحت لله نيته
إلى أن قال يخاطبه:
تأججت بينهم من قبلك النار ... تألفت بك أهواء مفرقة
بعد الشقا والجفا في الدين أخيار ... فأصبحوا بعد توفيق الإله لهم
إلى أن قال :
من قبله إذ تولى الأمر أشرار ... كنا نمر على الأموات نغبطهم
به لأهل الهدى والدين أوتار(2). ... فالآن طابت به الأيام إذ أخذت
ويقول فيها أيضا :
مقيم سواء بالرعية يرفق ... إمام هدى للرشد يهدي ويهتدي
إلى أن قال :
لكم ناصح بالطبع لا متخلق ... فيا معشر الإخوان دعوة صارخ
ويعلم أن الحب في الله أوثق ... يود لكم ما يمتنيه لنفسه
وكونوا له بالسمع جند توفقوا ... تحاموا على دين الهدى مع إمامكم
هو الهلك في الدنيا وللدين يوبق ... وإياكم والافتراق فإنه
يمين امرئ لا مفتر يتملق ... فوالله ثم الله لا رب غيره
إماما على الإسلام والخلق يشفق(3) ... لما علمت نفسي على الأرض مثله
__________
(1) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين"، جمعه ورتبه وشرح ألفاظه سعد بن عبد العزيز بن رويشد (ص 82- 85).
(2) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين " ، جمعه ورتبه وشرح ألفاظه سعد بن عبد العزيز بن رويشد (ص 108، 109- 110).
(3) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين " ، جمعه ورتبه وشرح ألفاظه سعد بن عبد العزيز بن رويشد (ص122-123).(1/238)
وصدق ابن عثيمين؛ فإن عبد العزيز الإمام؛ لما خرج من الكويت؛ خرج وهو يريد أن يسترد مكاسب العقيدة السلفية التي اكتسبها آباؤه حين تأثروا بعقيدة السلف الصالح وطبقوها، وقد علم يقينا أن مفتاح استردادها هو العمل لنصرتها؛ كما كان آباؤه وأجداده، ولن يصلح آخرهم إلا ما أصلح أولهم، ولا سبيل لبلوغ هذه الغاية إلا التمسك بالشريعة السمحاء، وإقامة حدود الله، والحكم بما أنزل الله، وفي سبيل ذلك لا بد من نشر العلم، والمعرفة بعقيدة سلفنا الصالح، وتعليم فرائض الدين وأحكام الشريعة؛ كما كان هذا هو منهجهم أيضا.
وما أن أظفره الله بالاستيلاء على الرياض؛ إلا وكان أول همته تقريبه العلماء، وتكريمه لآل الشيخ من أجل الشيخ وعهده مع جده، ولأجل ما يتصفون به من علم راسخ وعمل ثابت.
وقد كان الملك يشارك العلماء في البيان والنصيحة وبيان منهج السلف الصالح في تطبيق العقيدة تطبيقا عمليا لرعيته حتى يجنبهم المخاطر ودروب الهلاك والفرقة، مع كونه يجمعهم مع العلماء في
مجالس يبينون لهم ويكشفون عنهم الشبه، ومن ذلك مجلس عقده، وفيه جمع من العلماء، وبعده وجه نداء عاما شرح فيه حقيقة ما هو عليه من العقيدة هذا نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود إلى الإخوان وفقنا الله وإياهم إلى فعل الخيرات وترك المنكرات آمين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/239)
وبعد ذلك: تفهمون أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بنعمة الإسلام، ومن علينا بأن جعلنا من أهله، ولا يخفى عليكم ما مضى عليه أسلافكم من الأعراب؛ من انحرافهم عن الدين والتقيد بشريعة سيد المرسلين بما يأتونه من ارتكاب الأمور التي تغضب الله ورسوله من استحلال الدماء ونهب الأموال وترك فرائض الإسلام، فأنتم اليوم لما أن الله جل شأنه من عليكم بهدايته لكم على دينه القويم؛ وجب عليكم أن تقيدوا تلك النعمة بالشكر للمنعم تبارك وتعالى، وأعظم الشكر لله هو اتباع أمره واجتناب نهيه على وفق ما جاء به نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن لا تحيدوا عنه ذات اليمين وذات الشمال فتكونوا من الهالكين.
إني أريد أن أشرح لكم حقيقة ما نحن عليه من العقيدة في الدين، التي أشار إليها العلماء في جوابهم السابق في هذا المجلس؛ فاسمعوا واحفظوا عني ما أقوله لكم؛ تنجوا من المهالك:
إن أصل الدين كتاب الله تعالى، وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان؛ فهم السلف الصالح، ثم الأئمة الأربعة من بعدهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل؛ رضي الله عنهم وعن سلف الأمة من الصحابة ومن تبعهم إلى يوم القيامة؛ فإن هؤلاء الأئمة المقتدى بهم عند جميع المسلمين من أهل الكتاب والسنة؛ فإنه لا خلاف بينهم في أصل الدين؛ من توحيد الله تعالى في ربوبيته وفي ألوهيته وأسمائه وصفاته، وهذا - والحمد لله - ثابت في كتبهم الموجودة بين أيديكم، وإن حصل بينهم اختلاف في الفروع؛ فما ذاك إلا من شدة حرصهم وتمسكهم بكتاب ربهم وما صح عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - واستخراج معانيهما، كل منهم على قدر ما آتاه الله من العلم والفهم في دينه، وكلهم إن شاء الله تعالى على حق ومن سلك طريقهم وحذا حذوهم إلى يوم القيامة.(1/240)
فهذا الذي ندين لله به، وهو اعتقادنا نحن واعتقاد مشايخنا وأسلافنا، وهو الصراط المستقيم، والميزان العدل، فمن استقام عليه؛ فهو المتبع المهتدي، ومن حاد عنه وهو جاهل؛ فيجب عليه الرجوع والتوبة إلى الله تبارك وتعالى، ومن خالفه معتقدا بطلانه؛ فهذا ليس على شيء من الدين؛ لا أصله ولا فرعه، نعوذ بالله من ذلك، ولا يقال عن هذا: إنه مكذب للمشايخ، بل مكذب لكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
وإن من حضر منكم هذا المجلس المبارك، وسمع كلام العلماء بغير واسطة؛ فقد قامت عليه الحجة، وليس هو بمعذور بما يأتيه من
المخالفة، وعلى الشاهد أن يبلغ الغائب، وإني أحذركم من التفرق في الدين، وتتبع الخلافات فيه؛ فإن هذا من أعظم أسباب الهلاك.
وإنكم في زمن قد تشعبت فيه الأمة الإسلامية، وكثرت فيها الفرق، وفشت فيها البدع، ودنس وجه الدين بما ليس منه، وكثرت فيه شبه الضالين المضلين؛ غير أنه بحمد الله لم يخل زمان من قائم لله في أمر دينه؛ ينفي عنه غلو الغالين وانتحال المبطلين، أولئك هم علماء الدين، وهم ورثة الأنبياء، وهم الحافظون لدين الله تعالى؛ حيث أقامهم لذلك: { $¯Rخ)?ك`ّtwU?$uZّ9¨"tR?tچّ.دe%!$#?$¯Rخ)ur?¼çms9?tbqفàدے"ptm:?ازب } (1) وكل يدعي أنه القائم لله بحفظ دينه، ولكن ميزان العدل في ذلك هو اتباع هذا النبي الكريم: { ِ@è%?bخ)?َOçFZن.?tbq™7إsè??©!$#?'دRqمèخ7¨?$$sù?مNن3ِ7خ6َsمƒ?ھ!$# } (2).
__________
(1) سورة الحجر آية : 9.
(2) سورة آل عمران آية : 31.(1/241)
إني أرشدكم إلى أعظم قائم لله تعالى في نصر دينه، بعد الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وذلك بعد أن كثرت الملل والنحل، وتشعبت الأهواء، وتفرق الناس شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، ذلك هو شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام محمد بن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى ومن هو على طريقتهم في الدعوة والتحقيق إلى يوم القيامة؛ فقد قام هذان الشيخان بما أوجبه الله على العلماء من بيان الحق، وعدم كتمانه، ولم تأخذهما في الله لومة لائم؛ فقد توفي الشيخ ابن تيمية رحمه الله بينما كان محبوسا في قلعة دمشق، وما ذنبه إلا بيان الحق والدعوة إليه وإبطال ما خالفه من العقائد الزائفة والطرائق الضالة الفاسدة؛ فهذه كتب هذين الشيخين بحمد الله بين أيديكم؛ قد سهل الله نشرها بعد أن كانت مدفونة في زوايا الترك والإهمال؛ فعليكم
بمطالعتها؛ فإنها بأدلة الكتاب والسنة تجلو عن القلوب صداها، وبمآثر الصحابة وهديهم تميط عن الأبصار غشاها.
وهذا شيخنا ذلك الإمام(1) الوحيد في زمانه، الجليل القدر، رحمه الله تعالى، قد قام بما قام به هذان الشيخان من الدعوة إلى تحقيق التوحيد لله تعالى في أسمائه وصفاته وتوحيده في ألوهيته، بإفراده بالعبادة له وحده لا شريك له بجميع أنواعها، وهذا التوحيد هو أصل بعثة الرسل من نوح إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: { !$tBur?$uZù=y™ِ'r&?`دB?ڑپخ=ِ6s%?`دB?@Aqك™'?wخ)?ûساrqçR?دmّs9خ)?¼çm¯Rr&?Iw?tm"s9خ)?Hwخ)?O$tRr&?بbrك‰ç7ôم$$sù?اثخب } (2).
وهذا التوحيد هو أصل الأصول للدين، الذي لا يجوز التقليد فيها؛ فعليكم بالتفقه في دينكم، واتباع نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وسلفكم الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة.
__________
(1) يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
(2) سورة الأنبياء آية : 25.(1/242)
وقد تقدم لكم البيان بأننا في الأصل على القرآن، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - .
إن هذا المقام ليس مقام تفصيل وإطالة، بل هو مقام نصيحة وتنبيه لكم فيما تأتونه من أمور دينكم، بأن تكونوا فيه على بصيرة؛ قال تعالى: { !$tBur?مNن39s?#uن?مAqك™چ9$#?çnrنم‚sù?$tBur?ِNن39pktX?çm÷Ytم?(#qكgtFR$$sù? } (1).
وقال تعالى: { فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (2).
فمن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر، وقصده في هجرة البداوة وانتسابه إلى الخير طلب رضى الله تعالى والتماس ما عنده من الثواب لمن تاب إليه وأناب؛ فلا يتمسك أحدكم بأمور دينه برأيه، وليس الدين بالاستحسان؛ فكل طريق إلى الحق غير طريق نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإنه مسدود، وكل عمل على غير سنته؛ فهو إلى صاحبه مردود، فاتبعوا ولا تبتدعوا، وقاربوا؛ فمن سار على الدرب وصل.
وهذا ما يجب لكم علينا من النصيحة، فمن خالف ما بيناه لكم بقول أو فعل؛ فذمتنا وذمة المسلمين منه بريئة، ولا يأمن البطش بنفسه وبحلاله، ومن أنذر؛ فقد أعذر.
نرجو الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين"(3).
وفي موضع آخر يقول الملك عبد العزيز: "على أنه في آخر الأمر أظهر الله شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ثم من بعدهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله ونفع بهم الإسلام والمسلمين،
__________
(1) سورة الحشر آية : 7.
(2) سورة النحل آية : 43.
(3) "تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها" تأليف صلاح الدين المختار (ج2، ص 152 - 155).(1/243)
وخصوصا محمد بن عبد الوهاب، عندما اندرست أعلام الإسلام، وكثرت الشبهات والبدع، فلما رأى أسلافنا موافقة أقوالهم وأفعالهم لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبلوا ذلك، وقاموا بما أظهره الله على أيديهم، ونحن إن شاء الله على سبيلهم ومعتقدهم، نرجو أن يحيينا على ذلك، ويميتنا عليه، وقد عرّفناكم بذلك لموجب ذكر المشايخ في الاعتقاد، والعمدة على ما ذكروه".
إلى أن قال: "ومن أشكل عليه شيء من الأمور؛ فليرده إلى طالب العلم المنصوب عندكم بأمر الولاية ورضى المشايخ"(1).
وله رسالة إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين في سنة 1339 هـ يقرر فيها ما كتبه إليهم المشايخ: حسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة آل الشيخ، حيث كتبوا يذكِّرون بما أظهر الله على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من دين الإسلام والعمل به، ثم ذريته من بعده سلكوا على منواله، وأيدهم الله بولاة الأمر من آل سعود، وآخر من قام بهذا الأمر في زمانهم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، ثم يبينون أنه من المتعين على الجميع لزوم الاقتداء بهم، والسلوك على منهاجهم، وأنه لا ينبغي
__________
(1) نجد وملحقاته، و "سيرة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتهما"، تأليف أمين الريحاني (الطبعة الثالثة، ص 435 - 436).(1/244)
لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ، ومخالفة ما استمروا عليه من أصول الدين؛ فإنه الصراط المستقيم، الذي من حاد عنه، فقد سلك طريق أصحاب الجحيم، وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى؛ لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه، واستمرت عليه الفتوى منهم؛ لأن الاختلاف بين الناس - خصوصا في جهة نجد - لا بد أن يكون سبب شر وفساد وفتنة، وسد باب الشر والفتن والفساد أمر مطلوب في الشريعة، بل من أعظم مقاصدها؛ كما لا يخفى.
فقرر الملك على ذلك قائلا: "هذا كتاب إخوانكم المشايخ، تشرفون عليه، والعمل إن شاء الله على ما فيه، ثم بعد ذلك ما هو بخافيكم أول منشأ هذا الأمر وتقويمه؛ أنه من الله، ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مرارا، وكلما اختلف الأمر وشارف الناس لنقض دين الله وإطفاء نوره؛ أبى الله، وأخرج من ها الحمولتين من يقوم بذلك، حتى إن آخرهم والدنا وشيخنا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف".
إلى أن قال الملك: "والحمد لله ما حنا(1) في شك من أمر ديننا، وتفهمون أنه من حين أظهر الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قرن أطيب من وقتنا ورجال أطيب من رجالنا وعلماء أطيب من
علمائنا؛ فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة، وجدد الله أمر هذا الأصل، وأنقذ الله بأسبابه الناس من الظلمات إلى النور؛ فبان أمره لأولي الأبصار، وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند من أزاغ الله قلبه وأعمى بصيرته، وقبل هذا الحق ورضيه آباؤنا وأجدادنا وعلماء المسلمين فيما أتى به من الأصل والفروع، ويتعين علينا إن شاء الله أن نقتدي بما اقتدوا به".
__________
(1) "الدرر السنية" (ج11، ص 131 - 134)، ويلاحظ أن الملك يتكلم بلهجة عامة الرعية، وذلك أبلغ في أنفسهم، ومعنى "ما حنا" أي: ما نحن، و "مراوز للشر": هو من يريد موافقة الشر.(1/245)
إلى أن قال الملك: "فالآن يكون الأمر على ما ذكر المشايخ أعلاه، فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده عبد الله وعبد الرحمن وعبد اللطيف وعبد الله بن عبد اللطيف؛ فهو متعرض للخطر؛ لأننا نعرف أنه ما يخالفهم إلا إنسان مراوز(1) للشر والفتنة بين المسلمين".
إلى أن قال الملك مستثنيا: "إلا إن كان هنا إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب أو السنة..." إلخ ما قاله رحمه الله(2).
ومن كلمات الملك عبد العزيز وخطبه قوله: "إني مسافر إلى مكة، لا للتسلط عليها، بل لرفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله، إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها؛ فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع".
ثم استطرد قائلا: "... الذي أبغيه من هذه الديار أن تعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه في الأمور الأصلية، أما في الأمور الفرعية،
فاختلاف الأئمة رحمة"(3).
ومن خطبة له بمكة يقول: "أنا بذمتكم وأنتم بذمتي، إن الدين النصيحة، أنا منكم وأنتم مني، هذه عقيدتنا في الكتب بين أيديكم، فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فردونا عنه، واسألونا عما يشكل عليكم فيها، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة".
__________
(1) "الدرر السنية" (ج11، ص 131 - 134)، ويلاحظ أن الملك يتكلم بلهجة عامة الرعية، وذلك أبلغ في أنفسهم، ومعنى "ما حنا" أي: ما نحن، و "مراوز للشر": هو من يريد موافقة الشر.
(2) "الدرر السنية" (ج11، ص 131 - 134)، ويلاحظ أن الملك يتكلم بلهجة عامة الرعية، وذلك أبلغ في أنفسهم، ومعنى "ما حنا" أي: ما نحن، و "مراوز للشر": هو من يريد موافقة الشر.
(3) "تاريخ المملكة العربية السعودية" للصف الثالث المتوسط (الطبعة الأولى عام 1394هـ، ص 210).(1/246)
ويقول: "ما كنا عربا إلا بعدما كنا مسلمين، كنا عبيدا للعجم، ولكن الإسلام جعلنا سادة، ليس لنا فضيلة إلا بالله وطاعته واتباع محمد، ويجب أن نعرف حقيقة ديننا وعربيتنا ولا ننساهما.
كل حرية باطلة إلا حرية الإسلام، والإنسان لا ينفع إلا بالدين، ونحن لا نبغي محاربة أوروبا، وإنما نطلب حقوقنا باتحادنا، فنعتصم بالله، والإسلام أكبر وسيلة وأكبر حصن، هو أكبر مزايا الحسب والنسب، فيجب على المسلم محبة دينه وشعبه ووطنه".
ويقول في خطبة له بمكة أيضا: "يسموننا بالوهابيين، ويسمون مذهبنا بالوهابي؛ باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد؛ فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب
الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق بين الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة؛ كلهم محترمون في نظرنا"?(1)???
ومن خطبتين له في مكة - إحداهما عام 1353 هـ - يقول: "هذه عقيدتنا في الكتب التي بين أيديكم، فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله؛ فردونا عنه... والحكم بيننا وبينكم كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة. إننا لم نطع ابن عبد الوهاب وغيره إلا فيما أيدوه بقول من كتاب الله وسنة رسوله، وقد جعلنا الله أنا وآبائي وأجدادي مبشرين ومعلمين بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ومتى وجدنا الدليل القوي في أي مذهب من المذاهب الأربعة، رجعنا إليه، وتمسكنا به، وأما إذا لم نجد دليلا قويا، أخذنا بقول الإمام أحمد، فهذا كتاب "الطحاوية" في العقيدة الذي نقرؤه وشرحه للأحناف، وهذا "تفسير ابن كثير" وصاحبه شافعي"(2).
__________
(1) "الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز" تأليف خير الدين الزركلي (ص 217).
(2) "تاريخ البلاد العربية السعودية" تأليف الدكتور منير العجلاني (ص 229).(1/247)
ويقول ينبه بعض المستعمرين: "قد فاتكم أن الراعي مسئول عن رعيته، وقد فاتكم أن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إلا بالعدل والإحسان، وقد فاتكم أن العرب لا ينامون على الضيم ولا يبالون إذا
خسروا كل ما لديهم وسلمت كرامتهم"(1).
ولما دخلت بلاد الحجاز في ولاية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود؛ حصل اتفاق بين علماء مكة ونجد، وقد نشرته رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية بعنوان: "البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد"، وقد اشتمل على بيان ما يجب على الأمة الإسلامية اعتقاده من توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، وتحذيرها من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ?كدعاء غير الله، والاستغاثة والاستعانة بالأموات، وطلب الشفاعة منهم، والذبح والنذر لغير الله، وكالحلف بغير الله، وتعظيم القبور بغير ما شرع الله من البناء عليها واتخاذها مساجد وشد الرحال إليها والطواف حولها والتبرك بها مما عمت به البلوى، وقد سبق نشرها في "جريدة أم القرى" في أجزاء متفرقة في سنة 1343?هـ، ثم جمعت في رسالة تحت عنوان: "البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد"، وطبعت عام 1344?هـ، ثم ضم إليها مناظرة في نفس الموضوع جرت بين علماء مكة ونجد، نشرتها "جريدة أم القرى" يوم الجمعة 15\ 5\ 1343?هـ، وطبعت بمطابع دار الثقافة بمكة عام 1398?هـ?طبعتها الثانية، وأولها نداء عام من علماء بلد الله الحرام إلى أمتنا الكريمة وإلى شعبنا النبيل، بينوا فيه ذلك المضمون الذي ذكرناه، ووقعه كل
__________
(1) "تاريخ المملكة العربية السعودية" للصف الثالث المتوسط (الطبعة الأولى عام 1394هـ، ص 211).(1/248)
من: الشيخ محمد المرزوقي قاضي مكة المكرمة، والشيخ عبد الله ابن إبراهيم حمدوه، والشيخ سعد وقاص، والشيخ حسين مكي الكتبي، والشيخ عيسى دهان، والشيخ عبد القادر أبو الخير مرداد، والشيخ محمد سعيد أبو الخير، والشيخ أبو بكر بن محمد خوقير، والشيخ حسين عبد الغني، والشيخ محمد نور محمد الفطاني، والشيخ محمد عرابي سجيني، والشيخ عباس المالكي، والشيخ محمد أمين فودة، والشيخ محمد جمال المالكي، والشيخ محمد عبد الهادي كتبي، والشيخ درويش عجيمي.
ثم أعقبه خطاب رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن بليهد الذي ألقاه في الاجتماع الذي عقد بين علماء نجد وعلماء مكة المكرمة، ثم ذكر المناظرة التي وقعت بين علماء مكة وعلماء نجد وما توصلوا إليه واتفقوا عليه في بيان نذكر نصه كما يلي:
"بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
من علماء حرم الله الشريف وأئمته: الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ عمر باجنيد أبي بكر، والشيخ درويش عجيمي، والشيخ محمد مرزوقي، والشيخ أحمد بن علي النجار، والشيخ جمال المالكي، والشيخ عباس الملكي، والشيخ حسين بن سعيد بن محمد بن سعيد عبد الغني، والشيخ حسين مفتي المالكية، والشيخ عبد الله حمدوه، والشيخ عبد الستار، والشيخ سعد وقاص، والشيخ عمر بن
صديق خان، والشيخ عبد الرحمن الزواوي: إلى من يراه من علماء الحكومات الإسلامية وملوكهم وأمرائهم...(1/249)
أما بعد، فقد اجتمعنا نحن المذكورين مع مشايخ نجد حين قدومهم إلى الحرم الشريف مع الإمام عبد العزيز حفظه الله، وهم: الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد الله بن عبد الوهاب بن زاحم، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ مبارك بن عبد المحسن بن باز، والشيخ إبراهيم بن ناصر بن حسين؛ فجرى بيننا وبين المذكورين والمحترمين مباحثة، فعرضوا علينا عقيدة أهل نجد، وعرضنا عليهم عقيدتنا، فحصل الاجتماع بيننا وبينهم بعد البحث والمراجعة في مسائل أصولية:
منها: أن من أقر بالشهادتين وعمل بأركان الإسلام الخمسة ثم أتى بمكفر ينقض إسلامه قولي أو فعلي أو اعتقادي؛ أنه يكون كافرا بذلك، يستتاب ثلاثا، فإن تاب، وإلا، قتل.
ومنها: من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه، يدعوهم في جلب نفع أو دفع ضر، أو يقربونه إلى الله زلفى؛ أنه كافر، يحل دمه وماله، ومن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ أن ذلك شرك؛ فإن الشفاعة ملك لله، ولا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد إلا بإذنه؛ كما قال تعالى: { `tB?#sŒ?"د%©!$#?كىxےô±o"?ے¼çny‰Yدم?wخ)?¾دmدRّŒخ*خ/? } (1).
وهو لا يأذن إلا فيمن رضي قوله وعمله؛ كما قال تعالى: { ںwur?ڑcqمèxےô±o"?wخ)?ا`yJد9?4س|سs?ِ'$# } (2).
وهو لا يرضى إلا بالتوحيد والإخلاص.
ومنها تحريم البناء على القبور، وإسراجها، وتحري الصلاة عندها؛ أن ذلك بدعة محرمة في الشريعة.
ومنها أن من سأل الله بجاه أحد من خلقه؛ فهو مبتدع، مرتكب حراما.
__________
(1) سورة البقرة آية : 255.
(2) سورة الأنبياء آية : 28.(1/250)
ومنها أنه لا يجوز الحلف بغير الله، لا الكعبة، ولا الأمانة، ولا النبي، ولا غير ذلك، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من حلف بغير الله؛ فقد أشرك "(1).
فهذه المسائل كلها لما وقعت المباحثة فيها، حصل الاتفاق بيننا وبين المذكورين، ولم يحصل خلاف في شيء، فاتفقت بذلك العقيدة بيننا معاشر علماء الحرم الشريف وبين إخواننا علماء أهل نجد، نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه آمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
وهكذا يحصل الاتفاق على الحق، ويحصل زهوق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
وكتب الملك عبد العزيز إلى الشيخ أبي اليسار الدمشقي وناصر
الدين الحجازي نزيل دمشق؛ كتب إليهما في الشام كتابا يعتبر منشورا إعلاميا وبيانا لما عليه الملك عبد العزيز من عقيدة السلف الصالح ونورد نصه؛ لأنه وثيقة لا يقدر أحد أن ينكرها.
"بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى جناب الأخوين المكرمين الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي سلمهما الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد؛ فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو على نعمه التي من أجلّها نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه إذ جعلنا من أهلها وأنصارها والذابين عنها، ونسأله أن يصلي على عبده ورسوله وحبيبه وخيرته من خلقه محمد وآل وصحبه وحزبه.
وغير ذلك ورد علينا ردكم على عبد القادر الإسكندراني، فرأيناه ردا سديدا وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود، فحمدنا الله على ما منَّ به عليكم من معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشايخ المسلمين فاستحسنوه وأجازوه.
__________
(1) سنن الترمذي : كتاب النذور والأيمان (1535) , وسنن أبي داود : كتاب الأيمان والنذور (3251) , ومسند أحمد (2/69 ,2/86 ,2/125).(1/251)
فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة تذب عن دين المرسلين وتحمي حماه عن زيغ الزائغين وشبه المارقين والملحدين، فلربنا الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه.
وهذه منة عظيمة، ومنحة جليلة جسيمة، حيث جعلكم الله في هذه الأزمان التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودينا يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة من ينهى عن ذلك أو يغيره، فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام، واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك ويحذر عنه خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم، وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم من الكفر والشرك والبدع والمنكرات الفظيعة، فالعالم بالحق والعارف له والمنكر للباطل والمغير له يعد بينهم وحيدا غريبا.
فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بالحجة والبيان، حتى يمن الله عليكم بمن يساعدكم على هذا؛ فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات، لا سيما في هذا الزمان، الذي قل خيره، وكثر شره.
قال - صلى الله عليه وسلم - " من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه؛ من غير أن ينقص من أجورهم شيء "(1).
__________
(1) صحيح مسلم : كتاب العلم (2674) , وسنن الترمذي : كتاب العلم (2674) , وسنن أبي داود : كتاب السنة (4609) , وسنن ابن ماجه : كتاب المقدمة (206) , ومسند أحمد (2/397) , وسنن الدارمي : كتاب المقدمة (513).(1/252)
وقال لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - " فوالله، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "(1).
ونحن إن شاء الله من أنصاركم وأعوانكم.
ومن حسن توفيق الله لكم أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق وحجة على الخلق؛ فاشكروه على ذلك.
واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله؛ فإن الحق منصور وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان.
وهذه(2) هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشايخنا عليه من الطريقة المحمدية والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه نحن وسلفنا الماضون، نسأل الله لنا ولكم التوفيق، والهداية لأقوم منهج وطريق، والسلام"(3).
والهدية السنية التي أشار إليها الملك عبد العزيز وقال إنها تبين حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه نحن وسلفنا الماضون هي "مجموعة رسائل خمس لكبار أئمة نجد وعلمائها" جمع وترتيب الشيخ سليمان ابن سحمان، طبعت بأمر ملك الحجاز وسلطان نجد عبد العزيز آل سعود، وقف على طبعها وعلق عليها بعض الفوائد والإيضاحات محمد رشيد رضا، الطبعة الثانية، في سنة 1344 هـ، بمطبعة المنار بمصر،
وأعيد طبعها في مطابع دار الثقافة بمكة المكرمة على نفقة فهد بن قاسم بن علي آل ثاني عام 1393 هـ، وهي عبارة عن:
__________
(1) صحيح البخاري : كتاب المناقب (3701) وكتاب المغازي (4210) , وصحيح مسلم : كتاب فضائل الصحابة (2406) , ومسند أحمد (5/333).
(2) إشارة إلى كتاب "الهدية السنية" للشيخ سليمان بن سحمان المطبوعة بمصر سنة 1344هـ.
(3) "الدرر السنية" (ج 1، ص 303 - 305).(1/253)
رسالة من الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المشرق والمغرب يشرح فيها حقيقة العبادة ويبين التوحيد والفرق بين حق الله وحق أنبيائه وأوليائه ويحذر من الشرك ويبينه ما هو ليجتنب، وسبق ذكرها في أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها(1).
والثانية من الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد، وسبق ذكرها في أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها(2) وفيها شرح مذهب الشيخ وأنصاره وأتباعه، وأنه مذهب أهل السنة والجماعة، وهي عبارة عن محضر سجل ما وقع بالفعل ووثيقة تاريخية لا يقدر أحد أن ينكرها.
والرسالة الثالثة هي: "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" للشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهي كذلك وثيقة تاريخية، سجلت مناظرة وقعت بين الشيخ حمد بن معمر وأصحابه وبين علماء مكة وأعيانها في دعاء غير الله، وتميز الشرك من التوحيد، وفي حكم تارك الصلاة والزكاة، وفي حكم البناء على القبور،
وسبق ذكرها أيضا في أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها(3).
والرسالة الرابعة للشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ في نبذة من سيرة جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومجمل عقيدته واتباعه، وهي نبذة أصيلة من مؤتمن لا يشك في أمانته العلمية، فتعتبر أصدق مرجع في زمانها يؤخذ منه حقيقة ما عليه الشيخ محمد وأتباعه وأنصاره، وسبق ذكرها في الدور الثاني من أدوار دولة أنصارها(4).
__________
(1) انظر: (الفصل الثاني من الباب الثاني، 2/ 182) من هذا البحث.
(2) انظر: (الفصل الثاني من الباب الثاني، 2/ 217) من هذا البحث.
(3) انظر: (الفصل الثاني من الباب الثاني، 2/ 200) من هذا البحث.
(4) انظر: (الفصل الثالث من الباب الثاني، 2/ 270) من هذا البحث.(1/254)
والرسالة الخامسة للشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ تتضمن سجلا بما عمله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن من بعثه هذا الشيخ إلى اليمن وعسير وتهامة لينشر عقيدة السلف الصالح هناك، ويبين التوحيد ليعمل به، والشرك ليجتنب، وهي وثيقة تاريخية جليلة لا يقدر أحد أن ينكرها أو أن ينكر صلتها الحاضر بالماضي، وبيانها أن الحاضر لم ينحرف عن الماضي وإنما على سننه؛ كما قال الملك عبد العزيز: "هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشايخنا عليه من الطريقة المحمدية والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه نحن وسلفنا الماضون".
ثم ختامها بقصيدة دالية للشيخ سليمان بن سحمان في جملة عقيدة الشيخ السلفية، وقصيدة من صاحب لنجة في بيان طريقة
الشيخ، وأرجوزة للعلامة محمد ابن الشيخ أحمد الحفظي الحجازي اليمني في بيان عقيدة الشيخ، وذكر مآثر آل سعود لما استجابوا لداعي الحق حتى ظهر دين الله وبان منهح الشريعة المحمدية(1).
__________
(1) انظر: "الهدية السنية والتحفة الوهابية والنجدية لجميع إخواننا الموحدين من أهل الملة الحنيفية والطريقة المحمدية"، جمع وترتيب الشيخ سليمان ابن سحمان النجدي، طبعت بأمر جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد عبد العزيز آل سعود، بمطبعة المنار، الطبعة الثانية سنة 1344هـ.(1/255)
ولا شك أن الملك عبد العزيز كان كأسلافه عقيدته سلفية، وكان نصيرا لعقيدة السلف، ويستشير العلماء في أمور الدين، وينفذ أحكامهم، ويعمل بنصائحهم وفتاويهم، مع أنه ذو فكر سديد، وإدراك عميق، واعتقاد سليم، مبني على استقلال في الشخصية، وحرية في الاختيار، وقوة في الإرادة، ومضاء في العزيمة، وسعة في الأفق، ويشاركهم في التوجيه والنصائح والإرشاد والدعوة إلى عقيدة السلف الصالح كما ذكرنا(1) مما يدل على علمه ورسوخ قدمه في عقيدة السلف الصالح، وأن عليها اعتقاده رحمه الله تعالى، لكنه مع ذلك يدرك أهمية العالم المتخصص المعروف بالديانة والصدق، ويضعه في مكانه، ويعلم أن ذلك هو منهج الصواب.
وكان من أبرز هؤلاء المشايخ الذين استعان بهم هو العلامة التقي الورع شيخ الإسلام الشيخ عبد الله ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد
في الأحساء سنة 1265?هـ، وقدم بلد الرياض سنة 1272?هـ، وأخذ العلم عن أبيه وجده والشيخ حمد بن عتيق وغيرهم، وبرع في جميع الفنون الأصول والفروع والتفسير والنحو وغيرها، وصار رفيع القدر جم الفضائل، انتهت إليه الرئاسة في العلم والرأي والكرم، له اليد الطولى في التدريس ومجالسه المحفوفة بفحول العلماء والمدرسين وأهل الرأي، وله صدور المجالس والمحافل، وإلى قوله المنتهى في الفصل بين العشائر والقبائل، له رسائل وفتاوى ونصائح كثيرة مفيدة، ورأي راجح في الحوادث المدلهمة، وهيبة ألبسها بين الأمة، وأخذ عنه العلم جم غفير ترعرعوا ونموا في مدرسته، ونالوا من إكرام الملك ونصرته ما تمم نموهم وإدراكهم، فكانوا خير عون له، وعلى رأس هؤلاء التلاميذ للشيخ عبد الله علامة الديار النجدية ومفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
__________
(1) وانظر أيضا: "الدرر السنية" (ج11، ص 156 - 160، ص 171 - 174).(1/256)
وهذه قائمة بأسماء التلامذة الأوائل الذين ضمتهم مدرسة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وأخذوا عنه مباشرة، وقربهم الملك عبد العزيز واستعان بهم:
1- الشيخ عبد الملك بن عبد الله.
2- الشيخ عبد اللطيف بن عبد الله.
3- الشيخ محمد بن عبد الله.
4- الشيخ صالح بن عبد الله.
5- الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن.
6- الشيخ محمد بن عبد اللطيف.
7-الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف.
8-الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف.
9-الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف.
10- الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن.
11- الشيخ محمد بن إبراهيم.
12- الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم.
13- الشيخ عبد الرحمن بن إسحاق.
14- الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللطيف.
15- الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بن عبد الملك.
16- الشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم بن عبد الملك.
17- الشيخ علي بن عبد العزيز.
18- الشيخ عمر بن حسن.
19- الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد.
20- الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن محمد.
21- الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري.
22- الشيخ عبد الله بن فيصل.
23- الشيخ عبد العزيز بن بشر.
24- الشيخ عبد الرحمن بن سالم.
25- الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود.
26- الشيخ عبد العزيز بن حمد بن عتيق.
27- الشيخ عبد الله بن سليمان السياري.
28- الشيخ عبد الله بن حمد الدوسري.
29- الشيخ سالم الحناكي.
30- الشيخ محمد الحناكي.
31- الشيخ عمر بن سليم.
32- الشيخ عبد الرحمن بن عودان.
33- الشيخ محمد بن عثمان الشاوي.
34- الشيخ ناصر بن سعود بن عيسى.
35- الشيخ مبارك بن عبد المحسن.
36- الشيخ عبد الله بن زاحم.
37- الشيخ عبد الله بن بليهد.
38- الشيخ عبد العزيز بن عبد الله النمر.
39- الشيخ سعد بن سعود.
40- الشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك.
41- الشيخ إبراهيم بن سليمان بن راشد.
42- الشيخ عبد الله بن عتيق.
43- الشيخ عبد اللطيف بن عتيق.
44- الشيخ إبراهيم بن حسين.(1/257)
45- الشيخ عبد الرحمن بن حسين.
46- الشيخ عبد الله بن رشيدان.
47- الشيخ سليمان بن حمدان.
48- الشيخ محمد بن علي البيز.
49- الشيخ فالح بن عثمان بن صغير.
50- الشيخ عبد العزيز الشثري.
51- الشيخ عبد العزيز بن مرشد.
52- الشيخ حمد بن محمد بن موسى.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "وأخذ عن الشيخ عبد الله خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى"(1).
وقد أخذ عن هؤلاء أضعاف مضاعفة ممن صاروا علماء وقضاة ودعاة إلى عقيدة السلف الصالح(2).
وتوفي الشيخ عبد الله سنة 1339 هـ رحمه الله تعالى، ورثاه العلماء والشعراء.
وممن رثاه الشيخ محمد بن إبراهيم بقصيدة مطلعها:
نريق كصوب الغاديات الهواطل ... على الشيخ عبد الله بدر المحافل
ورثاه غيره(3).
ومن الشعراء الشاعر محمد بن عثيمين، والذي من مرثيته قوله:
طريقة المصطفى بالله معتصما ... شيخ مضى طاهر الأخلاق متبعا
لكنه سائغ في ذوق من طعما ... بحر من العلم قد فاضت جداوله
تهدي إلى الحق مفهوما وملتزما ... تنشق أصدافه في البحث عن درر
أشاد رسما من العليا قد انثلما ... فكم قواعد فقه قد أبان وكم
والعلم والفضل والإحسان والكرما ... نعى إلينا العلا والبر مصرعه
على الرجال فأضحى فيهم علما ... هذي الخصال التي كانت تفضله
ما حل منها عويص يبهم الفهما ... فليت شعري من للمشكلات إذا
على الفحول من الأحبار والعلما ... وللعلوم التي تخفى غوامضها
إلى أن قال:
لو أن لهفا شفى من لاهف سدما ... لهفي عليه ولهف المسلمين معي
ومسجد كان فيه ينثر الحكما(4) ... ولهف مدرسة بالذكر يعمرها
__________
(1) "الدرر السنية" (ج12، ص 98 - 99).
(2) انظر: تراجمهم في "كتاب علماء نجد خلال ستة قرون" لابن بسام ثلاثة أجزاء، و"مشاهير علماء نجد وغيرهم" للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف.
(3) انظر: "الدرر السنية" (ج12، ص 96 - 104)، و "روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد" لمحمد بن عثمان القاضي (ج1/ 362 - 363).
(4) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين" (ص 461 - 465).(1/258)
ولا ننسى في خضم هذا الأثر علما بارزا من تلاميذه هو الشيخ سليمان بن سحمان، العالم العلامة، حسان زمانه، وشاعر عقيدة السلف الصالح في وقته، المجاهد بنثره ونظمه، والمنافح بجهده وبيانه عن عقيدة الشيخ السلفية، أخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن ابن حسن وابنه عبد اللطيف وابنه عبد الله، وكان له دور في التدريس ونشر العلم النافع، وهو من العلماء الذين استعان بهم الملك عبد العزيز في الدعوة إلى التمسك بالعقيدة السليمة وطلب العلم النافع والالتزام بالعمل الصالح وتخريج العلماء وتنشئتهم، وقد تخرج على يديه الكثير من العلماء الذين نفع الله بهم، وله المؤلفات النافعة؛ منها:
1- "الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق".
2- "الهدية السنية"، جمعها ورتبها، وفي آخرها "المنظومة الدالية" له.
3- "تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين".
4،5- "منهاج أهل الحق والاتباع" و "إرشاد الطالب" في مجلد.
6- "الصواعق المرسلة".
7- وديوان شعر ومؤلفات وغيرها.
وهو القائل:
حنيفية نسقي لمن غاضنا المرا ... نعم نحن وهابية حنفية
سنصعقه صعقا ونكسره كسرا ... ومن هاضنا أو غاضنا بمغيضة
فعاد حسيرا خاسئا نائلا شرا ... وكم من أخي جهل رمانا بجهله
نصول على الأعدا فنأطرهم أطرا ... بمحكم آيات وسنة أحمد
إلى أن قال:
يؤيد أهل الحق أرجو بها الأجرا(1) ... وألفت كتبا نثرها ونظامها
وله جهود في جمع وتحقيق رسائل علماء الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح؛ كمجموعة "الرسائل والمسائل النجدية" أربعة أجزاء
في مجلدات كبار، وقد طبعها الملك عبد العزيز ونشرها ضمن ما أنفق عليه وعلى طبعه من كتب علماء العقيدة السلفية في جميع فنون العلم.
وقال في الانتصار لها الشاعر محمد بن عثيمين سنة 1346 هـ:
تجلت فأجلت ظلمة الهزل والجد ... شموس من التحقيق في طالع السعد
__________
(1) "ديوان ابن سحمان" (ص 52، وص 59، طبعة هندية قديمة)، وانظر: "الدرر السنية" (ج 12، ص 92).(1/259)
بأعناق أهل الزيغ مرهفة الحد ... قواطع من آي الكتاب كأنها
إلى أن قال:
لنصر الهدى والدين أكرم به مهدي ... كفاناهم من لم يزل متجردا
مسير مهب الريح في الغور والنجد ... سليمان من سارت فضائل مجده
إلى أن قال:
وبالسنة الغرا عن الصادق المهدي ... تمسك بما في محكم النص ظاهرا
وأبنائه أهل الدراية والنقد ... وطالع تصانيف الإمام محمد
بها من أوار الجهل وقد على وقد ... فإن بها ما يطفئ الغلة التي
وميزان عدل لا يميل عن القصد(1) ... هم قدوة في ذا الزمان وحجة
وكانت وفاة الشيخ سليمان سنة 1349 هـ في الرياض رحمه الله تعالى(2).
وقد رثاه حمد الجاسر، ورثى معه سعد بن عتيق، ومن ذلك
قوله:
يؤم إمامه قد سار سعد ... مضى عنها سليمان محثا
يحاربه كثير وهو فرد(3) ... فأضحى العلم بعدهما يتيما
ومن هؤلاء العلماء الجهابذة الذين حملوا عقيدة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب السلفية، وقربهم الملك عبد العزيز، وصدر عن علمهم، العلم الحافظ الشيخ سعد ابن الشيخ حمد بن عتيق، أخذ العلم عن والده، ثم سافر لطلب العلم نحو تسع سنين، فأخذ عن الشيخ نذير حسين الدهلوي، والشيخ شريف حسين، والشيخ محمد بشير السهسواني، والشيخ سلامة الله الهندي، والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي، وكلهم أجازوه، وأخذ عن جماعة من علماء مكة؛ منهم: الشيخ حسب الله الهندي، والشيخ عبد الله الزواوي، والشيخ أحمد أبو الخير، وجم غفير، ولما رجع من رحلته لطلب العلم من الهند ثم من مكة إلى بلده الأفلاج؛ قال الشيخ سليمان بن سحمان فيه:
فآبت لها الألطاف من كل جانب ... على بلد الأفلاج أشرق سعده
مآثر تزهو كالنجوم الثواقب ... هنيئا لكم أهل العمار(4) بمن له
__________
(1) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين" (ص 437 - 442).
(2) "الدرر السنية" (ج 12، ص 92).
(3) "الدرر السنية" (ج 12، ص 93).
(4) "ديوان ابن سحمان" (ص 247 - 248)، وانظر: "الدرر السنية" (ج 12، ص 93 - 96)، و "العمار من قرى الأفلاج جنوب الرياض".(1/260)
سلالة حبر فاضل ذي مناقب(1) ... هنيئا لكم هذا القدوم بعالم
ولما فتح الملك عبد العزيز الرياض عام 1319 هـ، واستولى على الأفلاج، نقله منها إلى الرياض قاضيا في جميع قضايا البادية وجميع الدماء من القتل فما دونه من أنواح الجراحات، كما عينه الملك عبد العزيز إماما في جامع الرياض الكبير، وفي هذا المسجد الواسع عقد له حلقتين للتدريس: إحداهما بعد طلوع الشمس حتى امتداد النهار، والثانية بعد صلاة الظهر، وكان حريصا على ما يلقيه من الدروس، شديد التثبت لمعنى ما يقرأ عليه، فلا يلقي درسه ولا يسمعه من الطالب حتى يراجع عليه شروحه وحواشيه وما قاله العلماء عليه، وضبطه لغة ونحوا وصرفا، حتى يحرر الدرس تحريرا بالغا، وقد أوقع الله محبته في القلوب، وأمده بسعة العلم، وكان كثير الدعاء والابتهال، متواضعا عند العامة، رفيع القدر عند الخاصة، مجالسه معمورة بالعلماء، مشحونة بالفقهاء والمحدثين، مشتغلا بنفسه وبإلقاء الدروس المفيدة على أصحابها كما وصفنا، وأخذ العلم عنه الجم الغفير، منهم أبناؤه محمد وعبد العزيز وحمد، وأخذ عنه إخوته الشيخ عبد العزيز والشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد الله، ومحمد ابن أخيه عبد العزيز، والشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ محمد والشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد الملك أبناء الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ عبد الله والشيخ عمر ابنا الشيخ حسن بن حسين، والشيخ سعد بن سعود بن رشود، والشيخ عبد الرحمن وإبراهيم ابنا حسين، وعبد الرحمن ابن الشيخ إسحاق، والشيخ عبد اللطيف بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ، والشيخ محمد بن
__________
(1) "الدرر السنية" (ج 12، ص 93).(1/261)
عثمان الشاوي، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ إبراهيم بن سليمان، والشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك، والشيخ عبد العزيز بن مرشد، والشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، والشيخ عبد الله بن رشيدان، والشيخ عبد الرحمن بن عودان، والشيخ محمد بن رشيد، والأستاذ حمد الجاسر، وغيرهم خلق كثير(1).
كما تصدى لنشر العلم بالكتابة والرسائل والنصائح، وحرر الفتاوى والأجوبة على الأسئلة، فرقها الشيخ ابن قاسم في مجموعه المسمى "الدرر السنية"، ونظم مختصر "المقنع" المسمى "زاد المستقنع" حتى كاد أن يتمه، وأتمه الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز ابن سحمان، وطبع بعنوان "نيل المراد بنظم متن الزاد" بمراجعة الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق، وله رسالة سماها "حجة التحريض في تحريم الذبح للمريض" في مكتبة جامعة الرياض برقم (215)، ورسالة أخرى سماها "عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية"، وقد طبعت، قال فيها بعد أن حمد الله وصلى وسلم على رسوله اللهم صل وسلم على رسولك:
"أما بعد؛ فقد سألني بعض الأحباب أن أكتب ما أعتقده ويعتقده مشايخي من أهل بلدي فيمن يأتي إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول:
يا رسول الله أغثني أو اشفع لي أو غير ذلك من أنواع السؤال، وكذلك ما نعتقده في شد الرحل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ?وما نعتقده في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ???
ثم أورد عقيدة السلف الصالح: أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية، إلى أن قال:
__________
(1) انظر: "الدرر السنية" (ج 12، ص 93 - 95)، و "علماء نجد خلال ستة قرون" (ج 1/ 266 - 269)، و "روضة الناظرين عن مآثر نجد" لمحمد بن عثمان القاضي (ج 1/ 106 - 111).(1/262)
"ونعوذ بالله من كل قول أو فعل يخالف ما شرعه الله ورسوله، ومن يعرف أحوالنا؛ يعلم أنما ينسبه إلينا أكثر الناس لا أصل له، بل هو من البهتان، وسبب ذلك أن الرجل المشهور الذي أقام الله به هذه الملة الحنيفية ونفع بدعوته جمعا غفيرا من الأمة، وهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، لما دعا إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله والتخلي من الرسوم العادية والوسائل الشركية؛ شرق بذلك أكثر الناس واستعظموه؛ قائلين ما قال إخوانهم الأولون: { ں@yèy_r&?spolخ;Fy$#?$Yg"s9خ)?#´‰دn؛ur? ?¨bخ)?#x"yd?ينَسy´s9?ز>$yfمم?اخب?t,n=sـR$#ur?_|yJّ9$#?ِNهk÷]دB?بbr&?(#qà±ّB$#?(#rçژة9ô¹$#ur?#'n?tم?ِ/ن3دGygد9#uن? ?¨bخ)?#x"yd?ضنَسy´s9?كٹ#tچمƒ?ادب?$tB?$uZ÷èدےxœ?#x"pkح5?'خû?د'©#دJّ9$#?حotچإzFy$#?÷bخ)?!#x"yd?wخ)?î,"n=دG÷z$#?اذب } (1).
وجنوا عليه وعلى أتباعه بالسب والتكفير، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وسعوا لهم بالغوائل، كل ذلك عند قوله: { يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (2).
كما قال رحمه الله تعالى في تفسير الفاتحة: "ومن عرف البردة ومن فتن بها؛ عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة واستحلال دمائنا وأبنائنا ونسائنا ليس عند التكفير والقتال؛ فإنهم الذين بدءونا بالقتال، بل عند قوله: { ںxsù?(#qممô‰s??yىtB?"!$#?#Y‰tnr&?اترب } (3).
وعند قوله: { ¼çms9?نouqôمyٹ?بd,ptّ:$#? ?tûïد%©!$#ur?tbqممô‰tƒ?`دB?¾دmدRrكٹ?ںw?tbqç7ةftGَ،o"?Oكgs9?>نَسyخ/ } (4).
وعند قوله: { y7ح´¯"s9'ré&?tûïد%©!$#?ڑcqممô‰tƒ?ڑcqنَtGِ6tƒ?4'n<خ)?قOخgخn/u'?s's#إ™uqّ9$#?ِNهkڑ‰r&?ـ>tچّ%r& } (5) " انتهى.
__________
(1) سورة ص آية : 5.
(2) سورة الأعراف آية : 59.
(3) سورة الجن آية : 18.
(4) سورة الرعد آية : 14.
(5) سورة الإسراء آية : 57.(1/263)
وجعل أهل العداوة والحسد - خصوصا بعض علماء السوء - يرمونه بالعظائم، ويلفقون من الأكاذيب ما الله به عليم، ومرادهم بذلك تنفير الناس عنه وعن ما دعا إليه، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، والكلام في هذه المادة على وجه الكمال لا تحتمله هذه الأوراق.
ومما يجب أن يعلم أن أكثر الناس في هذه الأزمان قد غرهم الشيطان ولبس عليهم، حتى وقعوا في الشرك، وغيروا اسمه، وأسموه
توسلا، فتجدهم يدعون الأنبياء والصالحين من الأموات والغائبين، ويسألونهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ويسمون ذلك توسلا، فيخدعون الجهال بهذه التسمية، ويلبسون على خفافيش البصائر بقولهم: هذا الذي نفعل توسل وليس بشرك والله يعلم وملائكته وعباده المؤمنون أنه هو الشرك الذي قال الله فيه: { `tB?ُ8خژô³ç"?"!$$خ/?ô‰s)sù?tPچym?ھ!$#?دmّn=tم?sp¨Yyfّ9$#?çm1urù'tBur?â'$¨Y9$#? ?$tBur?ڑْüدJخ="©à=د9?ô`دB?9'$|ءRr&?اذثب } (1) (2).
وعلى العموم؛ فكتاباته وفتاواه تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه وحسن تصوره، وهو في عداد كبار علماء نجد المقربين من الملك عبد العزيز، ويعتمد عليه في مهام الأمور الدينية كما ذكرنا، وهو معزز محترم عند علماء الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح؛ يجلونه، ويقدرونه، ويعرفون له حقه ومكانته العلمية ونشاطه في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح وموالاة أهلها، وما زال على أحواله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى توفي في الرياض في اليوم الثالت عشر من جمادى الأولى عام 1349 هـ، ودفن في مقبرة العود في الرياض، وبكاه الناس، ورثاه الشعراء(3).
وممن رثاه الشاعر محمد بن عثيمين بالقصيدة التي مطلعها:
__________
(1) سورة المائدة آية : 72.
(2) "عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية" تأليف الشيخ سعد بن عتيق (ص 5 -21).
(3) انظر: "علماء نجد خلال ستة قرون" للشيخ البسام (1/ 268 - 269).(1/264)
ويفقد العلم لا عين ولا أثر ... أهكذا البدر تخفي نوره الحفر
إلى أن قال:
بذكر أفعاله الأخبار والسير ... وابك على العلم الفرد الذي حسنت
ولا يحابي امرءا في خده صعر ... من لم يبال بحق الله لائمة
أضحى وقد ضمه في بطنه المدر ... بحر من العلم قد فاضت جداوله
حارت بغامضها الأفهام والفكر ... فليت شعري من للمشكلات إذا
ينتابها زمر من بعدها زمر ... من للمدارس بالتعليم يعمرها
ثكلى عليه ولكن عزها القدر ... هذي رسوم علوم الدين تندبه
كانوا فبانوا وفي الماضين معتبر ... طوتك يا سعد أياما طوت أمما
فعلمك الجم في الآفاق منتشر ... إن كان شخصك قد واراه ملحده
بموته يتأسى البدو والحضر ... والأسوة المصطفى نفسي الفداء له
لم يبنها لكم مال ولا خطر ... بنى لكم حمد يا للعقيق علا
على الجهول ولو من جده مضر(1) ... لكنه العلم يسمو من يسود به
ورثاه الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بن عبد اللطيف بمرثية مطلعها:
ورزء عظيم قد أهاج بلابل ... مصاب دهى بالمعضلات النوازل
إلى أن قال:
بموت إمام العلم زاكي الشمائل ... لدن جاءنا الناعي مساء مخبرا
بكل فنون العلم بين القبائل ... هو الشيخ سعد من غدا متفردا
... ...
تقي نقي ما له من مماثل ... إمام لعمري ناسك متورع
يراقب ربا ليس عنه بغافل ... إمام لعمري كان بالعلم عاملا
يقرر للتوحيد بين المحافل ... إمام لعمري كان للعلم باذلا
إلى أن قال:
تشد إليه مضمرات الرواحل ... له مجلس بالعلم يزهر دائما
تراهم عكوفا بين قار وسائل ... يؤمونه الطلاب من كل وجهة
يحل عويص المشكلات المسائل(2) ... فيلقون حبرا للغوامض كاشفا
رحمه الله رحمة واسعة، ورحم جميع العلماء وسائر المسلمين.
__________
(1) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين" (ص 474 - 482).
(2) "الدرر السنية" (ج 12/ 96).(1/265)
ومن هؤلاء العلماء المحققين المجاهدين ذوي العقول الكبيرة: صاحب السماحة، ذو العقل الراجح، الطود الثابت، والعالم الراسخ، الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، مفتي المملكة العربية السعودية، ورئيس قضاتها، ومرجع علمائها، ورئيس رابطة العالم الإسلامي والجامعة الإسلامية في زمانه، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
حفظ القرآن عن ظهر قلب، ثم أخذ في تلقي العلم عن والده الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف الذي كان قاضيا لمدينة الرياض في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وقد قرأ على والده في مختصرات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومبادئ النحو والفرائض، ثم أخذ العلم
عن عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وقد مر ذكره قبل قليل(1) قرأ على عمه هذا "كتاب التوحيد" تأليف جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من كتب عقيدة السلف الصالح ك "الواسطية" و "الحموية"، وقرأ على عمه أيضا في أصول التفسير والحديث، وقرأ على الشيخ سعد ابن الشيخ حمد بن عتيق في الفقه ومصطلح الحديث، ولازمه ملازمة تامة، وقرأ على الشيخ حمد بن فارس في الألفية وغيرها من المؤلفات النحوية وفي الفقه، وقرأ على الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود في الفرائض، ولم يزل مجدا في طلب العلم، إلى أن صار مرجع العلماء وأبرز الفقهاء ونادرة الأذكياء.
__________
(1) انظر: (2/ 317).(1/266)
وكان عمه وشيخه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف كما ذكرنا من قبل ممن أعان الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل بعلمه وعمله ومحض النصيحة والولاء والإخلاص، فلما مرض مرض موته؛ أوصى الملك عبد العزيز به خيرا، وأخبره بكفاءته العلمية والدينية، وأنه بموجب ذلك يصلح أن يكون خليفة بعده، وتوفي سنة 1339 هـ، فعينه الملك عبد العزيز خلفا لعمه في الفتيا وإمامة المسجد والتدريس، فباشر ذلك بكفاءة وإخلاص وعزيمة ومضاء، وفي سنة 1345 هـ أرسله جلالة الملك عبد العزيز إلى أهل الغطغط لما شددوا تشديدا ينافي الشرع، فمكث عندهم ستة شهور؛ يبين لهم معاني الكتاب والسنة وعبارات رسائل علماء دعوة التوحيد السلفية، ويحذرهم من الغلو ومجاوزة الحدود، ثم رجع إلى الرياض، واستمر في نشر
العلم وتعليمه.
ويقول مؤلف كتاب "مشاهير علماء نجد": "وكان رحمه الله لا يدع طالب العلم المبتدئ يقرأ عليه في الفقه والمطولات حتى يقرأ في مختصرات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وهي: "شروط الصلاة وأركانها"، و "أربع القواعد"، و "ثلاثة الأصول"، و "كشف الشبهات"، و "آداب المشي إلى الصلاة"، و "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، فإذا قرأ عليه هذه المختصرات عن ظهر قلب، سمح له في القراءة عليه في "مختصر المقنع" وغيره من كتب الفقه، وفي القراءة في "بلوغ المرام" وغيره من كتب أحاديث الأحكام وشروحها، و "الروض المربع شرح زاد المستنقع"، وهذه قاعدته وقاعدة من تقدمه من علماء دعوة التوحيد السلفية رحمهم الله"(1).
وما زال الشيخ مستمرا في إمامة مسجد عمه المعروف بمسجد الشيخ وتدريس الطلاب فيه من عام 1339 هـ إلى قبيل وفاته رحمه الله.
وقد تخرج على يديه أفواج من العلماء كثيرون، شغلوا مناصب القضاء والتدريس والدعوة إلى الله والإرشاد والبحث العلمي، وأذكر اثنين هم أبرزهم:
__________
(1) "مشاهير علماء نجد وغيرهم" (ص 139).(1/267)
1- الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي كان نائبه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم أسندت إليه رئاسة الجامعة
بعد وفاة شيخه ورئيسها، ثم أسند إليه منصب رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
2- الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله، وكان آخر ما أسند إليه منصب رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وقد قضى خمسين عاما من بعد وفاة عمه في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح والجهاد في سبيل الله والذب عن الإسلام بجد وحزم وصبر.
هذا ومع أعماله الكثيرة التي قام بها وهي تشق على الجماعة من الرجال قد خلف وراءه من الفتاوى ما يبلغ المجلدات الكثيرة، وقد جمع بعضها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم، وأكثرها في ملفات دار الإفتاء، ويجري طبعها حاليا، وطبع منها حتى الآن عدة مجلدات، وله نصائح توجيهية عامة وخاصة، ورسائل قيمة كبيرة الفائدة قد طبع كثير منها(1).
وتوفي رحمه الله عام 1389 هـ، ورثي بمراثي كثيرة ما بين شعر ونثر، ومنها قصيدة للشيخ عبد الله بن إدريس تبلغ أبياتها عشرين بيتا، ومطلعها:
وقضى الحياة مكرم الأوصاف ... ما عاش إلا للعلوم وشرعة الإنصاف
ومنها قصيدة للدكتور كامل الفقي تبلغ اثنين وثلاثين بيتا، ومطلعها:
??فلتنفطر مهج ولتنهمر مقل(2) ... دهى الجزيرة خطب ليس يحتمل
وقد أصدرت صحيفة الدعوة التي تصدر بالرياض عددا خاصا عنه، وذلك عددها (231/ الصادر يوم الاثنين 13 شوال عام 1389 هـ)، يشتمل على سبع وعشرين مقالة نثرا وشعرا(3).
__________
(1) "عالم جهبذ وملك فذ" (ص 12 - 13).
(2) "مشاهير علماء نجد وغيرهم" (ص 142)، و "علماء نجد خلال ستة قرون" (ج 1، ص 96).
(3) "عالم جهبذ وملك فذ" (ص 18 - 22).(1/268)
وقد عني بترجمته وتدوينها أتم ما يعنى بتراجم علماء الأمة الإسلامية الذين هم لأمتهم رواسي ترسيهم أن يجهلوا أو يميدوا، كما هي الجبال أوتاد ورواسي للأرض أن تميد أو تضطرب(1) أولئك حملة عقيدة السلف الصالح، والمتأثرون بها، والدعاة إليها، وناشروها، ومعلمو أممهم إياها، والذين وصفهم الشاعر المفلق محمد بن عثيمين بقوله:
والصادقين فما خانوا ولا ختروا ... الثابتين على الإيمان جهدهم
أهل البسيطة ما بالوا ولو كثروا ... الصادعين بأمر الله لو سخطوا
ما قررت محكم الآيات والسور ... والسالكين على نهج الرسول على
والآمرين بخير بعدما أتمروا ... والعادلين عن الدنيا وزهرتها
??بل نزهوه فلم يعلق به وضر(2) ... لم يجعلوا سلما للمال علمهم
إلى أن قال:
ولا الشفوف التي تكسى بها الجدر(3) ... هذي المكارم لا تزويق أبنية
ولقد صدق الشاعر العثيمين في وصفهم؛ فإنهم قد سلكوا منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصدعوا بأمر الله، غير مبالين، ولا طامعين في الدنيا بديلا عن الآخرة.
وذلك الذي ذكرته عن العلماء ونشرهم العقيدة السلفية هو من آثار قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، وقد كانوا في عهد الملك عبد العزيز وعهد أبنائه من بعده.
وما ذكرناه من ذلك أمثلة يسيرة، ثم لا يعزب عن البال أن الحاضرة من الناس تبع لهؤلاء العلماء، ويصدرون عنهم في عقيدتهم وعبادة ربهم، لا سيما تحت حزم الحكومة على ذلك.
__________
(1) انظر: "علماء نجد خلال ستة قرون" للبسام (ج 1، ص 88 - 97)، و "مشاهير علماء نجد وغيرهم" (ص 134 - 146)، و "روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد" (ج 2، ص 302 - 308)، و "عالم جهبذ وملك فذ" ترجمتان موجزتان للشيخ محمد بن إبراهيم والملك فيصل رحمهما الله (ص 7 - 17).
(2) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين" (ص 477).
(3) "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين" (ص 477).(1/269)
أما ما يختص بالبادية الذين شملهم الله تعالى بنعمة الأمن والاستقرار تحت ولاية الملك عبد العزيز وقيادته وحزمه الموفق؛ فقد شمل إكرامه جميع عشائر البدو الرحل، وسعى في تحضيرهم ولمّ شملهم وتشجيعهم على الاستقرار؛ يعاونهم على بناء المدن والقرى - وهي ما يسمى بالهجر - وسكناها؛ لأن حياة البداوة والغزو والسلب والتفرق وسفك الدماء لا تقوم معها حياة دينية ولا دنيوية صحيحة
مستقرة، فأخذ يسكنهم هذه الهجر، ويشجعهم على التعلم وتلقي علوم دينهم وأصول عقيدة السلف الصالح ومختصرات الشيخ محمد ابن عبد الوهاب في ذلك على أيدي المشايخ وأئمة المساجد وطلبة العلم، وصار يبعث إليهم من يعلمهم ويرشدهم ويبث فيهم عقيدة السلف الصالح بكل عناية وحزم، وذلك ابتداء من سنة 1330 هـ تقريبا، حيث كانت هجرة الأرطاوية أول هجرة بنيت سنة 1330 هـ(1).
ويقول حافظ وهبة: "إن من أعظم المشروعات الإصلاحية التي قام بها الملك عبد العزيز مشروع تحضير البادية وإقطاعهم الأراضي للسكنى والزراعة وتعليم المبادئ الدينية ومكارم الأخلاق، ولا شك أنه حصل نجاح عظيم لإصلاحات الملك عبد العزيز، وإقبال على دين الله، خاصة من البدو الرحل؛ فقد أقبلوا على الهجر يبنونها بمساعدة الملك عبد العزيز، ويبني لهم المساجد، ويبعث إليهم المشايخ والأئمة وطلبة العلم؛ يعلمونهم دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى تم تهجيرهم، وأقبل الناس على بناء حضارة إسلامية، وأغدق الله عليهم من نعمه الكثيرة في الدين والدنيا والعلم والقراءة والأمن والاستقرار وما لا يحصى من النعم".
ويذكر حافظ وهبة أنه في سنة 1347 هـ في ثامن شهر جمادى الأولى أمر الملك بعقد المؤتمر النجدي أو الجمعية العمومية(2) وكان مؤتمرا عاما، وفي هذا المؤتمر قال الملك علنا وبصراحة تامة:
__________
(1) حافظ وهبة "جزيرة العرب في القرن العشرين" (ص 289).
(2) "جزيرة العرب في القرن العشرين" (ص 298).(1/270)
"إني لم أطلب منكم أن تجتمعوا اليوم في هذا المكان خشية منكم؛ فإني قد أسست هذه المملكة بقدرة الله وحده، الذي عاضدني وساعدني، والذي كتب لي الفوز، وكتب لي التوفيق، وإن خوفي من الله وحده هو الذي حدا بي لأن أجمع شملكم اليوم لنتباحث معا، وقد فعلت ذلك حتى لا أقع في نقيصة الإعجاب بالنفس والكبرياء".
وقال الملك: "أيها الإخوان! تعلمون عظم المنة التي من الله بها علينا بدين الإسلام؛ إذ جمعنا به بعد الفرقة، وأعزنا به بعد الذلة، واذكروا قوله تعالى: { "uژzچ|،sù?ھ!$#?ِ/ن3n=uHxه } (1) الآية، إن شفقتي عليكم وعلى ما من الله به علينا، وخوفي من تحذيره سبحانه وتعالى بقوله: { cخ)?©!$#?ںw?çژةiچtَمƒ?$tB?BQِqs)خ/?4س®Lym?(#rçژةiچtَمƒ?$tB?ِNحkإ¦àےRr'خ/? } (2) كل هذا دعاني لأن أجمعكم في هذا المكان لتذكروا:
أولا: ما أنعم الله به علينا، فنرى ما يجب عمله لشكران هذه النعمة.
وثانيا: لأمر بدا في نفسي، وهو أنني خشيت أن يكون في صدر أحد شيء يشكوه مني أو من أحد نوابي وأمرائي؛ بإساءة كانت عليه، أو بمنعه حقا من حقوقه، فأردت أن أعرف ذلك منكم؛ لأخرج أمام الله بمعذرة من ذلك، وأكون قد أديت ما علي من واجب.
وثالثا: لأسألكم عما في خواطركم، وما لديكم من الآراء، وما ترونه يصلحكم في أمر دينكم ودنياكم".
وقال الملك: "إن القوة لله جميعا، وكلكم يذكر أنني خرجت
__________
(1) سورة التوبة آية : 105.
(2) سورة الرعد آية : 11.(1/271)
عليكم وكنتم فرقا وأحزابا، يقتل بعضكم بعضا، وينهب بعضكم بعضا، وجميع من ولاه الله أمركم من عربي أو أجنبي كانوا يدسون لكم الدسائس؛ لتفريق كلمتكم، وإضعاف قوتكم؛ لذهاب أمركم، ويوم خرجت كنت محل الضعف، وليس لي من عضد وساعد إلا الله وحده، ولا أملك من القوة إلا أربعين رجلا تعلمونهم، ولا أريد أن أقص عليكم ما من الله به علي من فتوح، ولا بما فعلت من أعمال معكم كانت لخيركم، إن تاريخ ذلك منقوش في صدر كل واحد منكم، وأنتم تعلمونه جميعا، وكما قيل: السيرة تبين السريرة.
إنني لم أجمعكم اليوم في هذا المكان خوفا أو رهبا من أحد منكم؛ فقد كنت وحدي من قبل وليس لي مساعد إلا الله؛ فما باليت الجموع، والله هو الذي نصرني، وإنما جمعتكم كما قلت لكم خوفا من ربي، ومخافة من نفسي، أن يصيبها زهو أو استكبار، جمعتكم هنا في هذا المكان لأمر واحد، ولا أجيز لأحد أن يتكلم في غيره، ذلك هو النظر في أمر شخصي وحدي، فيجب أن تجتنبوا في هذا المجلس الشذوذ عن هذا الموضوع، أما الأشياء الخارجة عن هذا، فسأعين لكم اجتماعات خاصة وعامة ننظر فيها.
أريد منكم أن تنظروا أولا فيمن يتولى أمركم غيري، وهؤلاء أفراد الأسرة أمامكم؛ فاختاروا واحدا منهم، ومن اتفقتم عليه؛ فأنا أقره وأساعده، وكونوا على يقين بأنني لم أقل هذا استخبارا؛ لأنني ولله الحمد لا أرى لأحد منكم منة علي في مقامي هذا، بل المنة لله وحده، ولست في شيء من مواقف الضعف حتى أترك الأمر لمنازع
بقوة، ولا يحملني على القول إلا أمران:
الأول: محبة راحتي في ديني ودنياي.(1/272)
والثاني: أني أعوذ بالله من أن أتولى قوما وهم لي كارهون، فإن أجبتموني إلى هذا؛ فذلك مطلبي، ولكم أمان الله؛ فإن من يتكلم في هذا؛ فهو آمن، ولا أعاتبه لا آجلا ولا عاجلا، فإن قبلتم طلبي هذا، فالحمد لله، وإن لا تزالوا مصرين على ما كلمتموني به على إثر دعوتي لكم؛ فإني أبرأ إلى الله أن أخالف أمر الشرع وفي اتباع ما تجمعون عليه مما يؤيد شرع الله".
ثم قال: "ابحثوا في شخصي وأعمالي، من كان له علي أنا عبد العزيز شكوى أو حق أو انتقاد في أمر دين أو دنيا؛ فليبينه، ولكل من أراد الكلام عهد الله وميثاقه وأمانه أنه حر في كل نقد يبينه، ولا مسئولية عليه، وإني لا أبيح لإنسان من العلماء ولا من غيرهم أن يكتم شيئا من النقد في صدره، وكل من كان عنده شيء؛ فليبينه، ولكم علي أن كل نقد تذكرونه أسمعه، فما كان واقعا؛ أقررت به، وبينت سببه، وأحلت حكمه للشرع يحكم فيه، وما كان غير بين، وهو عندكم من قبيل الظنون؛ فلكم علي عهد الله وميثاقه أنني أبينه ولا أكتم عليكم منه شيئا، وأحكم في كل ما تقدم شرع الله، فما أثبته؛ أثبته، وما نفاه؛ نفيته.
أنتم أيها الإخوان! أبدوا ما بدا لكم، وتكلموا بما سمعتموه وبما يقوله الناس من نقد ولي أمركم أو من نقد موظفيه المسئول عنهم.
وأنتم أيها العلماء! اذكروا أن الله سيوقفكم يوم العرض، وستسألون عما سئلتم عنه اليوم، وعما أمنكم عليه المسلمون، فأبدوا الحق في كل ما تسألون عنه، ولا تبالوا بكبير ولا صغير، وبينوا ما أوجب الله للرعية على الراعي، وما أوجب للراعي على الرعية في أمر الدين والدنيا، وما تجب فيه طاعة ولي الأمر، وما تجب فيه معصيته، وإياكم وكتمان ما في صدوركم في أمر من الأمور التي تسألون عنها، ولكل من تكلم الحق عهد الله وميثاقه أنني لا أعاتبه.(1/273)
إني أكون مسرورا منه، وأن أنفذ قوله الذي يجمع عليه العلماء، والقول الذي يقع الخلاف بينكم فيه أيها العلماء، فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح، إذ أقبل ما كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو قول أحد العلماء الأعلام المعتمد عليهم عند أهل السنة والجماعة، وإياكم أيها العلماء أن تكتموا شيئا من الحق تبتغون بذلك مرضاة وجهي، فمن كتم أمرا يعتقد أنه يخالف الشرع، فعليه من الله اللعنة، أظهروا الحق وبينوه، وتكلموا بما عندكم"(1).
وقد بين الملك لهم أنه فاوض البريطانيين حول المخافر التي بنيت على حدود السعودية من جهة العراق، ولكنهم أصروا على ذلك، وتمسكوا بمبانيهم؛ بسبب ما افتاته الدويش عليه، حيث غزاهم بحجة الجهاد من غير إذن الإمام، فقتلوا عمال المخفر وبعض شرطته، وأخذوا أموالهم واستباحوها غير مرة وبدون إذن الإمام؛ فالدويش هو
المسئول عن فشل المفاوضات التي لولا ما فعله الدويش لنجحت، وعلى كل؛ فالجهاد لا بد فيه من إذن الإمام، فهو يرى ما فيه المصلحة، وهو نائب عن المسلمين، ورأيه لهم خير من رأيهم لأنفسهم.
ولنعد إلى خطبة الملك؛ نتأمل ما ورد فيها على ضوء عقيدتنا السلفية كما هو موضوعنا:
فهذا الملك قد خرج من الكويت، ممتشقا سيفه، يقطع به رءوس الفتن، ويخضع به كل معاند مستكبر؛ حتى ذلت له كل صعبة، وانقاد له كل مستعص، وأمسك بيده زمام الأمور، حتى أصبح أعظم ملك في زمانه، عندئذ؛ قال كلمة العقيدة السلفية الخالصة؛ قالها من مركز القوة، مركز من يقول ويفعل، لأنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وقالها من مركز التضحية والفداء؛ لأن بذل حظوظ النفس بسخاء هكذا دليل صدق القائل بقوله.
__________
(1) انظر: "تذكرة أولي النهى والعرفان" للشيخ إبراهيم بن عبيد (ج 3، ص 183 - 186).(1/274)
أما مكاسب عقيدة السلف الصالح التي نصرها واستردها من غاصبيها؛ فذلك أمر لا يتنازل عنه بحال، كيف وقد كان يوم خروجه من الكويت يسترد مكاسب عقيدتهم السلفية على ما وصف من القلة والذلة، ومع ذلك لم يبال بالجموع، ولا من بأقطارها من الدول، ثقة بالله وحده، وطمعا في نصره سبحانه لهذه العقيدة المهضوم أهلها، والمستباح بيضتهم من أنفسهم.
ولكنه كان مستعدا لتنازله عن مكاسبه الشخصية وحظوظه
النفسية، وهي وإن كان يستحقها، لكنه يتنازل عنها في سبيل ظهور العقيدة السلفية وانتصارها وعدم المساس بشيء من مكاسبها التي استردها، فحين يحيل في خطابه المؤتمرين إلى أحد أفراد الأسرة ليختاروا منها غيره، هو دليل صدقه في تنازله عن حظوظه الشخصية، مع عدم تفريطه بأي شيء من مكاسب عقيدة السلف الصالح.
والأسرة السعودية هي من مكاسب عقيدة السلف الصالح التي دعا إليها الشيخ، فلم تنعم الجزيرة - كما هو المعروف من التاريخ - بأنصار لعقيدة السلف مثل هذه الأسرة المباركة، كما أن هذه الأسرة لم يكن لها شأن يميزها بالأفضلية قبل أن تنصر عقيدة السلف الصالح، وكأن الكلام الذي جرى بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب "الدم بالدم والهدم بالهدم" هو ترجمان هذا الالتحام المصيري، ومنذ تبايعا وتعاهدا وتعاقدا على نصرة دين الله ورسوله؛ كان قد تم ظهور عقيدة السلف الصالح بائتلاف علماء العقيدة السلفية مع أنصارها؛ لأن هذا الائتلاف من ماهية هذه العقيدة ومن ذاتيتها، لا يتخلف إلا إذا تخلفت قلوب الناس عنها.(1/275)
ولذا؛ فإن حملة العقيدة السلفية لا ينسون لهذه الأسرة تاريخها، ولا يرتابون في صدق وفائها لعهودها وعقودها، ولا يمكن أن تطمئن نفوسهم من خلال تجاربهم التاريخية لغيرهم، وحملة عقيدة السلف الصالح هم أهل الحل والعقد؛ لأن هذه العقيدة هي مركز ثقل المسلمين وثقتهم، وقد جربوا غياب هذه الأسرة عن الحكم، فرأوا في غيبتهم ضعف العقيدة والتفرق وعدم الأمن، وهذا ما يفهمه الملك عبد
العزيز راسخا في نفوس المؤتمرين، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك في سبيل تحقيق مكاسب عقيدة السلف الصالح، إنه لا يتأخر عن تقديم نفسه وأسرته ضحية في سبيل ذلك.
قال رحمه الله من خطبة له: "أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ولنشره بين الأقوام.
أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها؛ فأرجع بشأنه إلى أقوال الأئمة الأربعة؛ فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين.
أنا مسلم، وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين، وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة المسلمين، ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية في سبيل الله"(1).
ويقول: "ليس لهذا الملك وعظمته عندي من قيمة، وإنما الذي أحبه وأريده هو رضاء الله تعالى".
ويقول: "أرجو الله أن يوفقنا للخير، وافهموا أننا لا نعز أحدا ولا نذل أحدا، وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه؛ نجا، ومن اعتز بغيره؛ هلك"(2).
وقد بيّن العلماء ونصحوا كما أمرهم الملك الإمام، وقد كانوا من أول الأمر ينصون للراعي والرعية، وما زالوا يسايرون الأحداث ويداوونها بعقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
__________
(1) "الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز" تأليف خير الدين الزركلي (الطبعة الثانية، ص 216).
(2) "تاريخ المملكة العربية السعودية" للصف الثالث المتوسط (الطبعة الأولى عام 1394هـ، ص 210).(1/276)
وكم كان للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف من مواقف حاسمة وإرشادات صحيحة تنبئ عنها مراسلاته للإخوان في عهد الملك عبد العزيز، يحذرهم الضلال والفرقة، ويبين الهدى والجماعة، وهذه المراسلات موجودة في "الدرر السنية" في (الجزء7\ من ص 265 - 278) ومن ذلك قوله في بعضها:
"قد بلغني عن بعض من غره الغرور من الطعن في العلماء ورميهم بالمداهنة وأشباه هذه الأقاويل التي صدت أكثر الخلق عن دين الله وزين لهم الشيطان بسبب ذلك الطعن في الولاية بأمور حقيقتها البهتان والطعن بالباطل"(1).
وقد كتب هو وعدد من العلماء للملك عبد العزيز رسالة سنة 1338 هـ هذا أولها بعد البسملة:
"من عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن وحسن بن حسين وسعد بن حمد بن عتيق ومحمد بن عبد اللطيف إلى جناب عالي الجناب الإمام المفخم والرئيس المقدم عبد العزيز ابن الإمام عبد الرحمن آل فيصل".
ثم ذكروا السبب لتحريره، وأنه محض النصيحة، وبينوا له نعمة
__________
(1) "الدرر السنية" (ج 7، ص 276).(1/277)
الإسلام، ومن ذلك أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بالسمع والطاعة، كما لا يخفى على الملك، ولا على أحد له معرفة بالإسلام، ومن ذلك منة الله تعالى في آخر هذا الزمان، الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، بهداية غالب بادية أهل نجد، خصوصا رؤساءهم، وما جعله الله من حظ وافر للملك عبد العزيز في إعانتهم ببناء مساجدهم ومدنهم، وفشو الإسلام في نجد جنوبا وشمالا، وعناية الله بعبادة وحكمته لا يعلمها إلا هو، ولكن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ومن معه رأوا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام، ويدخل التفرق في دولتهم، وهو الاستبداد من دون إمامهم بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو وبذل الذمة للعامة وإقامة الحدود أنها مختصة بالإمام ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك إلا بولايته، والذي يعقد له راية ويمضي في أمر من دون إذن الإمام ونيابته، فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله..." إلى آخر ما دونوه في هذه الرسالة(1).
وفي رسائل أخرى ومناسبات متعددة كان جميع المشايخ من علماء الدعوة يبينون عقيدة السلف الصالح للناس، ويحثونهم على الجماعة والسمع والطاعة، ويبينون حقوق الراعي والرعية، وما يجب لكل وما يجب عليه، ويحذرون من خطر القول على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا علم، والتحذير من أمور الشيطان التي يدخلها على أهل الدين؛ من المسارعة في التكفير والتهاجر والتقاطع، واتهام علماء
المسلمين بالمداهنة، وإساءة الظن بهم، وعدم الأخذ عنهم، مما هو سبب للحرمان من العلم النافع، وإساءة الظن بولي الأمر، وعدم الطاعة له.
__________
(1) "الدرر السنية" (ج 7، ص 277 - 278).(1/278)
وعلى العموم؛ فقد كانت للمشايخ فتاوى سديدة ومواقف حميدة تجاه كل حادثة وفي كل مناسبة، وما قصروا في بيان عقيدة السلف الصالح، واستقصاء ذلك يطول، وحصره يصعب، ومن أراد الاطلاع على شيء من ذلك، فنحيله على مجموعة "الدرر السنية" (ج 7\ ص 277 - 345).
وهكذا كان أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية؛ يخمد الفتن، ويداوي الأمراض، ويجمع الأمة تحت راية واحدة، ويلم شعثها على إمام واحد، وينبذ الفرقة والخلاف، ولا يقر الشذوذ والاعتساف، ويميت الهوى والبدعة، ويدعو إلى الائتلاف وإقامة السنة، ولا غرو؛ فعقيدة الشيخ هي مذهب أهل السنة والجماعة وعقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
وما زال أثر عقيدة الشيخ يحمله العلماء والزعماء، وكلما مضى علماء وزعماء؛ ورثهم علماء وزعماء آخرون، حتى وصل إلينا عن طريق علمائنا وزعمائنا المعاصرين، وأذكر منهم بالثناء طبقة الشيخ محمد بن إبراهيم وتلاميذه، الذين كانت لهم حلقات علم في المساجد وغيرها.
وكذلك من تخرج من الكليات الشرعية في جامعات المملكة
وتلقى عقيدة السلف الصالح بالقبول والرضى والعمل.
وأخص بالذكر الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية، والتي تحولت إلى جامعة باسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وتعددت فروعا في أنحاء المملكة، خصوصا معاهدها العلمية؛ فقد كان لها أثر طيب في نشر عقيدة السلف الصالح.
وأذكر بالثناء والولاء والعرفان الزعماء الذين عاصروا أولئك العلماء إلى يومنا هذا آل سعود ومن وازرهم في نشر الإسلام منذ الملك عبد العزيز رحمه الله.(1/279)
كما ذكرنا جانبا من أثر عقيدة الشيخ السلفية على يديه ويدي من بعده إلى يومنا هذا، وأنه بعد أن توفي الملك عبد العزيز تولى بعده الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله، والذي تم على يديه فتح الجامعة الإسلامية، وكان في المناسبات يشكر الله على ما حبا به الشعب السعودي من نعمة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في السمع والطاعة ولزوم طريق أهل السنة والجماعة.
ويذكر أن أول ما يهم الجميع هو الاعتصام بحبل الله المتين، واتخاذ الوسائل التي تمكن روح التوحيد الخالص في قلوب أفراد الشعب كافة، حتى يخلص الجميع العبادة لله وحده، والسير في ذلك بهدي الكتاب والسنة، في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في كل مجال، وعلى الأخص في المدارس، ومراقبة ذلك، وحث الناس على كل ما يأمر به الشرع الإسلامي، ومنعهم من كل ما ينهى
عنه؛ لأن في ذلك خيري الدنيا والآخرة، ولأنه ليس شيء من الخير إلا أمر به الإسلام، وليس شيء من الشر إلا ينهى عنه الإسلام(1).
__________
(1) انظر: "تاريخ الدولة السعودية عهد سعود بن عبد العزيز" تأليف أمين سعيد، (المجلد الثالث، ص 17 - 18).(1/280)
ثم الملك فيصل بن عبد العزيز ذو الأفق الواسع والجهد الصادق في السير مع المسلمين والدول الإسلامية فيما يحقق للمسلمين جميعا تضامنهم، عملا بقوله تعالى: { (#qكJإءtGôم$#ur?ب@ِ7pt؟2?"!$#?$YèدJy_?ںwur?(#qè%چxےs?? } (1) وما دام أن العالم الإسلامي يشكل كتلة واحدة تربط أجزاءه وشعوبه عقيدة واحدة؛ كما ورد ذلك في القرآن الكريم: { ¨bخ)?ے¾حnة"yd?ِNن3çF¨Bé&?Zp¨Bé&?Zoy‰دm؛ur?O$tRr&ur?ِNà6ڑ/u'?آcrك‰ç7ôم$$sù?ازثب } (2) ويتعرض العالم الإسلامي كله لهجمات سياسية وفكرية من أعدائهم، فكل ذلك يحتم على المسلمين أن يتضامنوا، لا سيما في مقابل تضامن أعدائهم عليهم، من اليهود والصهيونية في كل أنحاء العالم، وأن جمع أكثر من ست مئة مليون مسلم على الشعور بالرابطة الإسلامية وتوحيدهم بذلك كفيل بالوقوف دون أعدائهم أن يستبيحوا بيضتهم، وأن يتسلطوا عليهم ويحتلوا ديارهم، كفلسطين وغيرها.
ولهذا؛ تبنى الملك فيصل رحمه الله الدعوة إلى مؤتمر القمة الإسلامي بالرباط سنة 1389 هـ، ثم تلته مؤتمرات إسلامية أخرى.
ومن خطاب له ألقاه في موسم الحج للدعوة إلى تضامن
المسلمين:
"إخواني... إننا اليوم في هذا العصر الذي يتعرض فيه الإسلام إلى امتحان واختبار، نتجه بأفئدتنا إلى العلي القدير، ضارعين أن يثبتنا جميعا، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن ينير لنا طريقنا القويم.
__________
(1) سورة آل عمران آية : 103.
(2) سورة الأنبياء آية : 92.(1/281)
أيها الإخوة... إن الإسلام هو دين المحبة، دين الأخوة، دين السلام، دين القوة، دين العلم، دين البناء، دين التقدم، دين الفضيلة... لم يبق فضيلة ولا مكرمة إلا دعا إليها، ولم يبق رذيلة إلا حذر منها؛ فحينما نقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى اتباع ما جاء به في كتابه وسنة نبيه؛ فإنما تؤدون واجبا مفروضا عليكم تجاه ربكم وتجاه دينكم وتجاه أنفسكم، وإن واجب المسلمين أن يتكاتفوا، وأن يثبتوا لما يصيبهم من مكاره، وما يعترض سبيلهم من صعاب، وعليهم أن يسعوا إلى ما يؤلف قلوبهم، ويقرب بينهم، ويبذر بذور المحبة والأخوة والتعاون فيما يصلح دينهم ودنياهم"(1).
وقال رحمه الله في خطبته التي ألقاها في موسم الحج عام 1388 هـ، وهو يتحدث عن تحرير المسجد الأقصى:
أيها الإخوة المسلمون! نريدها غضبة ونهضة إسلامية، لا تدخلها قومية ولا عنصرية ولا حزبية، إنما دعوة إسلامية، دعوة إلى الجهاد في سبيل الله، في سبيل ديننا وعقيدتنا، دفاعا عن مقدساتنا
وحرماتنا، وأرجو الله سبحانه وتعالى أنه إذا كتب لي الموت أن يكتب لي الموت شهيدا في سبيل الله" انتهى.
ونرجوا أن يكون قد نال الشهادة التي تمناها(2).
ومن كلمة له ارتجلها في الحفل الذي أقامته الجامعة الإسلامية بمناسبة زيارته لها؛ قال:
__________
(1) "تاريخ المملكة العربية السعودية" للصف الثالث المتوسط (الطبعة الأولى عام 1394هـ، ص 291).
(2) "عالم جهبذ وملك فذ" بقلم عبد المحسن العباد (ص 26 - 27).(1/282)
ليس غريبا أن أرى وأسمع وألمس في هذه الجامعة ما يثلج الصدور ويبهج الخاطر من انطلاقة إسلامية كبرى، أرجو لها النجاح، وأرجو أن تؤتي ثمارها في أقطار العالم الإسلامي، لخدمة هذه الدعوة المباركة، والنهوض بها، والسعي إلى نشرها بين أبناء الملة الإسلامية، والدعوة إليها بين أبناء الملل الأخرى، وإنني لأرجو لها نجاحا باهرا ما دامت ترتكز على مثل هذه السواعد ومثل هذه الروح الوثابة المنطلقة بحول الله لنشر هذا الدين والدعوة إليه والجهاد في سبيله.
أيها الإخوة!
إن المسئولية الملقاة على عواتقكم وعواتق الجميع مسئولية كبرى؛ فاسعوا إلى التفقه في دينكم ومعرفة كل ما يمكن معرفته؛ لتكونوا مسلحين بسلاح العلم وسلاح الفقه وبسلاح المعرفة، حتى تكونوا مستعدين لما يجابهكم من صعاب ومن دعوات مضللة ومن مجهودات يرغب ويأمل أصحابها أن يأخذوا من هذا الدين، وأن يحطوا من قدره، وأن يهاجموه بكل ما أوتوا من قوة، وإنني لأرجو الله مخلصا
أن يهبكم الصبر والشجاعة والقوة لتكافحوا في سبيل هذا الدين، ولتبصروا الناس بما يحتويه هذا الدين، وما تحتويه هذه الدعوة والشريعة من مزايا ومن مكارم ومن أسس، هي أصلح ما يكون للبناء الذي يهدف إلى صالح البشر وإلى خير الأمة، ولا يهدف إلى التزوير وإلى البدع والمضللات، وإلى هدم الكيانات البشرية، وإلى هدم الأخلاق وكل ما هو كريم في بني الإنسان.
أيها الإخوة!(1/283)
إن أمامكم طريقا شاقا وطريقا طويلا وصعابا جمة، وأرجو أن تتسلحوا لها بالعلم والعرفان والنفس المطمئنة الصابرة الحكيمة في الدعوة إلى الله، وقد قال سبحانه وتعالى: { ني÷ٹ$#?4'n<خ)?ب@خ6y™?y7خn/u'?دpyJُ3دtّ:$$خ/?دpsàدمِqyJّ9$#ur?دpuZ|،ptّ:$#? ?Oكgّ9د‰"y_ur?سةL©9$$خ/?}'دd?ك`|،ômr&? } (1) وجادل الكفرة، وجادل المشركين، وجادل المرتدين والملحدين والمعاندين؛ حتى تلقمهم الحجة وتتغلب عليهم بالحكمة والعقل والصبر؛ فهذا هو السبيل إلى الدعوة، وهذا هو السبيل إلى تنوير أذهان الناس وتبصيرهم فيما تحتويه هذه الدعوة وما يحتويه الشرع الإسلامي والدين الإسلامي من مزايا وخصائص لا يمكن أن تخطر على قلب بشر ولا يمكن أن ينكرها أو يجحدها إلا جاحد أو مكذب".
إلى أن قال: "إن ما نقوم به في سبيل نشر العلم والدعوة إلى الله ونشر الثقافة الإسلامية ما هو إلا قليل مما يجب علينا، ولكننا نسير حسب الإمكانيات، وحسبما يتحمله أو يقتدر عليه مجهود البشر، ولكن ثقوا بحول الله أننا سائرون بكل ما أوتينا من قوة لنصر ديننا
ولخدمة الإسلام وللدفاع عنه ولتبصير الناس به، فمن أراد الحق ومن أراد الخير؛ فسبيله واضح، ومن أراد غير ذلك؛ استعنا عليه بالله سبحانه وتعالى، ثم بقوة العقيدة والإصرار على التمسك بها، فإن أخشى ما يخشى على المسلمين هو إدخال الشك في نفوسهم من عقيدتهم ومن دينهم، وهذا ما يخشى على المسلمين منه، وإنني أرجو الله مخلصا أن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه، وأن يحفظنا بالإسلام، وأن يوفقنا لسبيل الحق والصواب"(2).
__________
(1) سورة النحل آية : 125.
(2) "عالم جهبذ وملك فذ" بقلم عبد المحسن العباد (ص 32 - 38).(1/284)
ومن كلمات الملك فيصل رحمه الله: "إن غيرنا من الحكام مقلدون وليسوا مبتكرين، ونحن لسنا في حاجة إلى استيراد تقاليدنا من الخارج، وقد كان لنا تاريخ مجيد، وقدنا العالم، ونحن لنا أجداد وأمجاد وتاريخ وتراث؛ فلماذا نتنصل من هذا ونلتفت يمينا وشمالا نتلمس الطريق ونتلمس المبادئ، تراثنا أشرف تراث، وتاريخنا أشرف تاريخ، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس، ونحن لا نقبل أبدا أن يقال عن ديننا وعن شريعتنا: إنه دين التأخر والجمود، نحن نريد لأمتنا أن تكون قائدة لا مقودة، وأن تكون في المقدمة لا في المؤخرة، وبإمكاننا أن نتقدم ونمسك الأمر إذا اتبعنا كتاب الله وسنة نبيه"(1).
ومن ضمن ما تدعو إليه مفاوضات الملك فيصل مع رؤساء الدول الإسلامية هو التمسك برسالة الإسلام الخالدة نصا وروحا.
وقام الملك فيصل برحلات إلى الأقطار الإفريقية والآسيوية وبعض الدول الأوربية لشرح وجهة نظر المملكة من منطلق إسلامي تجاه الخطر الصهيوني على العرب والمسلمين.
وكان فيصل رحمه الله قد تربى في بيت جده لأمه العلامة الحبر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، والذي تقدم ذكر شيء عنه، وتعهده جده منذ نعومة أظفاره بتلقينه أصول الدين الحنيف ومبادئ العلوم، وحفظ في رحاب أبيه الملك عبد العزيز كثيرا من تجاربه، وقال: "إن والدي هو مدرستي الحقيقية"(2).
ثم الملك خالد، وكان رحمه الله رجلا فاضلا متواضعا، ذا سجايا حسنة وأخلاق فاضلة، وزامل كبار تلاميذ الشيخ محمد بن إبراهيم في الدراسة؛ كالشيخ عبد الله بن حميد، وقد حدثني بذلك الشيخ ابن حميد رحمه الله.
__________
(1) "تاريخ المملكة العربية السعودية" للصف الثالث المتوسط (الطبعة الأولى عام 1394هـ، ص 289 - 290).
(2) انظر: "تاريخ المملكة العربية السعودية" للصف الثالث المتوسط وفق المنهج الجديد (الطبعة الأولى عام 1394هـ، ص 221 - 291).(1/285)
وكان مما أعلنه الملك خالد في أول جلسة لمجلس الوزراء بعد توليه الملك شعوره بعظم المسئولية ومشقتها التي تحملها هو وأعضاء حكومته، وبيّن أن الواجب هو الاستعانة بالله وحده، والحرص على بذل المجهود، والاهتمام بكل ما من شأنه إسعاد هذه الأمة وحفظ دينها وإصلاح دنياها، وبين أن البلاد السعودية ليست مثل بلاد العالم من الناحية الإسلامية؛ لأن كل المسلمين يتطلعون إليها، وأن أهل هذه
البلاد مغبوطون بشريعة الله وسنة رسوله كما هم مغبوطون بثروتهم المادية.
وقد عاضده ولي عهده فهد بن عبد العزيز وإخوانه في تحمل هذه المسئولية، وفي عهده عقد مؤتمر القمة الإسلامي في مكة والطائف، وعن ذلك المؤتمر صدر بلاغ مكة للعالم الإسلامي.
ثم الملك فهد بن عبد العزيز أيده الله وأعز به الإسلام، وهو الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، وكان في كل مناسبة يحث على التمسك بالعقيدة الإسلامية، ويؤكد أن قوتنا مستمدة من العقيدة الإسلامية وتنفيذ العقيدة الإسلامية حرفيا، ونفتخر بذلك.
ويقول: "هذه الجامعة عندما أسست؛ قصد بها شيء معين في الواقع، هو المساهمة في بث روح العقيدة الإسلامية الصحيحة الخالية من الشوائب".
ويقول عن نشاط الجامعة في الخارج: " نؤكد أن الأساس هو: كيف يمكن أن تعطي المملكة مجالا بواسطة الجامعة الإسلامية، وأن تبرز العقيدة الإسلامية في إطارها الصحيح الخالي من الشوائب، وأظن الإخوان يدركون تماما أنه فاتت مئات السنين، وأدخلت على العقيدة الإسلامية أمور كثيرة، والعقيدة الإسلامية براء منها، وقد أدخل هذه الأمور من أراد أن يبرز العقيدة الإسلامية بأنها عقيدة غير صالحة وغير مفيدة، وأن دورها انتهى، والواقع أن دور العقيدة الإسلامية يتجدد دائما... كذلك أبانت الطريق وأنارته لما فيه خير المجتمع، سواء(1/286)
كان من ناحية العبادات، أو من ناحية التشريع، وبهذا يكون البشر سعيدا إذا التزم بمبادئ العقيدة الإسلامية، هذا الباب طرق من مستشرقين غير مسلمين، وأبانوا بشكل أو بآخر التنظيمات والتشريعات التي أنزلها رب العزة والجلال على نبيه على أنها صالحة في هذا العصر وفي هذا الوقت؛ لأن العالم جرب مبادئ وعقائد مادية مختلفة، ووجد أنها غير كافية، ولا تستطيع أن تسعد البشر، ووجد في العقيدة الإسلامية الرأفة والرحمة والمحبة والقوة التي تبنى على الحق؛ فلذلك نأمل أن نوفق ونؤدي واجبنا في هذا الإطار".
إلى أن قال: "الآن -وهذا من فضل الله- أصبحت البلاد الإسلامية وغير الإسلامية حرة، تتمتع بالحرية التامة، وقادة المسلمين فيها هم المسئولون مسئولية مباشرة عن أن يجعلوا العقيدة الإسلامية هى الأساس في تكوينهم، سواء في العبادات أو في أمورهم الخاصة، والعقيدة الإسلامية -والحمد لله- صريحة واضحة المعالم، ومن سلك الطريق الإسلامي على الأسس الصحيحة؛ لا بد أن يصل إلى فضيلتين: فضيلة ما ينعم به الله عليه في هذه الدنيا، والرصيد الأكبر في الآخرة، ربنا أبان لنا الطريق... إنما الدنيا كلها زائلة، ولا يبقى إلا ما قدم الإنسان من عمل صالح".
ثم قال: "بقي شيء واحد، وهو أن أوجه كلمة قصيرة لطلبة الجامعة الإسلامية، هي أن يواصلوا هذا المجهود الخير، سواء في ذلك إخواننا الذين قدموا من جميع البلدان الإسلامية، أو من السعوديين الموجودين فيها، أن يستبصروا في العقيدة الإسلامية التبصر(1/287)
الصحيح... العقيدة الإسلامية -والحمد لله- أبانت الأمور بشكل غير قابل للنقاش؛ إلا من أراد أن يوهم بأشياء أخرى... الدين الإسلامي وسط... لا رهبنة في الإسلام... لأنه يمكن الكثير يعتقد في ناحية التصوف أو النواحي الأخرى التي هي بعيدة عن منطق الإسلام، هذا هو الإسلام، بالعكس الإسلام فيه من المرونة والمحبة والتقوى والعمل والجد والنشاط، لم تأمر العقيدة الإسلامية بالكسل أو التكاسل أو التصوف على غير معنى... لأن هذا البلد -والحمد لله- بلد إسلامي، وكل ما أرجوه أن يكونوا رسل البلاد الإسلامية، الذين شرفوا المملكة العربية السعودية، ورحبت بهم، أن يعودوا إلى أوطانهم دعاة للإسلام في الإطار الصحيح... كلنا نعرف ما أدخل على العقيدة الإسلامية، والسبب من المسلمين أنفسهم... ليس من العقيدة الإسلامية... العقيدة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة وهي القمة؛ فلذلك أرجو أن ندرك معنى العقيدة الإسلامية، ولا نقع فيما وقع فيه الغير بواسطة من يريد أن يبعدنا عن مسار العقيدة الإسلامية الصحيح".
إلى أن قال: "وسوف نسير في الخط المستقيم إن شاء الله، ونجعله دائما الهدف الرئيسي... نتمسك بعقيدتنا الإسلامية، وربنا وعدنا بالحق: { bخ)?(#rçژفاZs??©!$#?ِNن.÷ژفاZtƒ } (1) ".
وكل هذه الكلمات قد سمعناها من الملك فهد خلال لقائه مع منسوبي الجامعة الإسلامية وغيرهم بالمدينة المنورة يوم الثلاثاء 16
محرم 1403 هـ(2).
__________
(1) سورة محمد آية : 7.
(2) انظر: الكتيب الذي أصدرته وزارة الإعلام، الإعلام الداخلي، بعنوان "الفهد في رحاب الجامعة الإسلامية" (ص10، 16- 17، 23- 24، 31، 39، 40). وانظر: الكتاب الذي أصدرته العلاقات العامة بالجامعة الإسلامية في 30 صفر 1403هـ عن لقاء الملك فهد بن عبد العزيز مع أبنائه طلاب الجامعة الإسلامية، وبلغت صفحاته (239ص).(1/288)
وعلى العموم؛ فولاة الأمر قد فهموا أن من واجبهم واللازم عليهم أن يكونوا حماة لمهد الإسلام ومكاسب عقيدة السلف الصالح، والتي تحققت على أيديهم، وأن يكونوا أمناء على خدمة الإسلام ونشره بالنفس والنفيس، وأن يكونوا قدوة في التمسك بعقيدة السلف الصالح والعمل بأحكام الشريعة الإسلامية.
يقول حافظ وهبة في أثر التمسك بعقيدة السلف الصالح: "إن العقيدة الراسخة عند النجديين -أمرائهم وعلمائهم- أن الله مكنهم في جزيرة العرب، وأن سلطانهم في تلك الجزيرة لإحياء معالم الشريعة وإظهار دين الله، وجعل سلطان التوحيد في الجزيرة هو السلطان الأول، وإزالة كل أثر من آثار الشرك".
ولقد قال الإمام سعود في خطبته بعد دخول مكة سنة 1218 هـ: "إنا كنا من أضعف العرب، ولما أراد الله ظهور هذا الدين، دعونا إليه، وكل يهزأ بنا ويقاتلنا".
وكان الملك عبد العزيز رحمه الله في كل مناسبة يشير إلى هذا، ذاكرا فضل الله عليه وعلى أجداده من قبل، وأن ما وقع على آل سعود
في أيامهم الأولى لم يكن إلا عقوبة لهم من الله تعالى؛ لتهاونهم في أمر المحافظة على الدين، والانصراف إلى أمور الدنيا.
ولذا؛ فإن المشايخ من وقت لآخر ما زالوا يقدمون النصيحة لإمامهم، ويوصونه بالمحافظة على الدين، والأخذ على أيدي المتهاونين به، إذا رأوا شيئا من التراخي والتهاون من ذوي النفوذ والسلطان(1).
وكما قال حافظ وهبة: "لا يزال العلماء وذوو الحجى في كل عهد يقدمون النصيحة، ولا يتوانون في لفت نظر ولي الأمر منهم إلى ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ويذكرونه بعاقبة التفريط، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(2).
__________
(1) "جزيرة العرب في القرن العشرين" تأليف حافظ وهبة (ص 328).
(2) "جزيرة العرب في القرن العشرين" تأليف حافظ وهبة (ص 328).(1/289)
وقد ثبت الله بهؤلاء جميعا الأمة، ونفع بعلم العلماء منهم الناس، وقمع بهم بوادر الفتن، بسلطان العلم وسلطان السيف؛ كما قال الشاعر في الملك عبد العزيز:
تمضي بسيفك ما أمضاه قرآن ... فجئت بالسيف والقرآن معتزما
وأبلغ من ذلك قوله تعالى: { ô‰s)s9?$uZù=y™ِ'r&?$oYn=ك™â'?دM"uZةi t7ّ9$$خ/?$uZّ9t"Rr&ur?قOكgyètB?|="tGإ3ّ9$#?ڑc#u"چدJّ9$#ur?tPqà)uد9?â¨$¨Y9$#?إفَ،ة)ّ9$$خ/? ?$uZّ9t"Rr&ur?y‰ƒد‰ptّ:$#?دmٹدù?س¨ù't/?س‰ƒد‰x©?كىدے"oYtBur?ؤ¨$¨Z=د9?zNn=÷èuد9ur?ھ!$#?`tB?¼çnçژفاZtƒ?¼م&s#ك™â'ur?ح=ّtَّ9$$خ/? ?¨bخ)?©!$#?;"بqs%?ض"ƒج"tم?اثخب } (1).
هذا، ومن يتأمل عهد آل سعود، وأثر عقيدة الشيخ السلفية فيه؛ يجده متكامل البناء، متصل الحلقات، وكم لهم من يد طولى في نشر كتب السلف الصالح، وطباعتها، وبذل الأموال الطائلة على التعليم، ونشر الإسلام في الآفاق، وهم بذلك أسبق أمم أهل الأرض في هذا الزمان قاطبة، وأسدهم منهجا، وأسلمهم طريقا؛ فمنذ عهد الملك عبد العزيز وكتب السلف تطبع وتنشر وتوزع مجانا، هذه مجموعة "الرسائل والمسائل النجدية" و "الدرر السنية" و "مجموعة فتاوى ابن تيمية" وكتب ابن القيم وكتب الفقه والتفسير والحديث في ذلك بين أيدينا شاهدة بآثارهم، وغيرها وغيرها مما لا يحصيه إلا الله تعالى، وقد تمت طباعة ذلك ونشره في هذا العهد المبارك، مما كان له أعظم سبب في نشر عقيدة السلف الصالح، ولولا فضل الله تعالى بهذا العهد الميمون؛ ما وصل إلينا من ذلك عين ولا أثر، ونخص رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالذكر، لما لها من اختصاص بهذه الناحية وأعمال جليلة ظاهرة من نشر لكتب السلف ودعوة وإرشاد وإفتاء في عقيدة السلف الصالح رحمهم الله.
انتشار مؤلفات وآثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب
__________
(1) سورة الحديد آية : 25.(1/290)
ويحسن هنا استعراض كيفية انتشار مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب بصفة خاصة؛ لما لها من أثر في نشر عقيدة السلف
الصالح، وإعادة الناس إليها؛ غير أنه تمشيا مع ما تقتضيه طبيعة الدراسة الجامعية، وهي الإفادة من جهود السابقين إذا كانت جهودا علمية صادقة، وعدم إهدارها أو إغفالها؛ لأن الدراسات العلمية متكاملة، وتهدف إلى الوصول إلى الحقيقة العلمية؛ فسأكتفي في هذه النقطة بالإحالة على مجهود سبقني قد أتى عليها وفرغ من بحثها صاحبه، ألا وهو: دليل ببليوجرافي أصدره الدكتور أحمد الضبيب، وهو عميد شئون المكتبات بجامعة الرياض، في كتاب عنوانه: "آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب: سجل ببيلوجرافي لما نشر من مؤلفاته"(1).
ومقصود مؤلفه أن يجد الباحث بغيته ميسرة، توخى فيه مؤلفه أن يكون كتابا جامعا للمتفرق من أعمال الشيخ، ولجميع ما سطره مما وصل إلى علمه مطبوعا؛ يدل على مظانها، وتواريخ طبعها، وأماكن نشرها، وعدد هذه الطبعات، وصورها المختلفة، وجعلها في ثلاثة أبواب: خصص أولها وأضخمها لما كتبه الشيخ في العقيدة، ذلك أن معظم ما كتبه الشيخ يتعلق بالعقيدة، والثاني لما كتبه الشيخ في الفقه، والثالث لما كتبه الشيخ في التفسير والحديث والسيرة النبوية.
وقسم الباب الأول إلى فصول ثلاثة:
1- الكتب والرسائل والنبذ، ويشتمل على ما كتبه مستقلا في شكل كتاب، أو عالجه في رسائل قصيرة أو مطولة، أو سطره في هيئة
نبذ قصيرة تتعلق بموضوعات معينة، وقد طبع بعض ذلك مستقلا، وطبع بعضه ضمن مجموعات الدعوة السلفية.
2- المسائل والأجوبة، وأكثر هذه ردود على أسئلة موجهة للشيخ حول موضوعات معينة في العقيدة، أجاب عنها إجابات تختلف طولا وقصرا.
__________
(1) طبع طبعة أولى في الرياض بالمطابع الأهلية للأوفست في (199ص عام 1397هـ).(1/291)
3- المكاتبات، وتشمل رسائله الخاصة التي بعثها إلى أشخاص بأعيانهم، أو منشوراته العامة التي يوجهها إلى أهالي القرى والمدن ومن يراها من المسلمين.
والباب الثاني لما كتبه الشيخ في الفقه، وضمنه فصلين:
الأول: الكتب والرسائل والنبذ.
الثاني: الفتاوى والأجوبة الفقهية.
والباب الثالث لما كتبه الشيخ في تفسير القرآن الكريم، والتعليق على بعض آياته، وما ألفه في الحديث والسيرة النبوية، واشتمل هذا الباب على فصلين:
الأول: ما كتبه في تفسير القرآن الكريم، والتعليق على بعض آياته، واستمداد بعض المسائل من هذه الآيات.
والثاني: ما كتبه في الحديث والسيرة النبوية، وتعليقات الشيخ على بعض الأحاديث.
إلا أن الباحث في عقيدة الشيخ السلفية لا يستغني بهذا القسم
الذي سماه الدكتور قسم العقيدة عن ما كتبه الشيخ رحمه الله في التفسير والحديث والسيرة وفروع الدين مما له صلة وثيقة بالعقيدة؛ فإن الشيخ رحمه الله بيّن الوحدة الموضوعية الجامعة لهذا الدين برسالته العظيمة "الأصول الثلاثة": الرب المعبود والعبادة، ودين الإسلام بمراتبه الثلاث وأدلته من الكتاب والسنة، والرسول بخصائصه وحقوقه - صلى الله عليه وسلم - .
ولذا؛ لا بد من الإلمام بجميع ما أثر عن الشيخ بقدر الطاقة.
وقد ألحق الدكتور الضبيب بكتابه فصلا مستقلا يشتمل على بعض ما كتب من شروح على بعض مؤلفات الشيخ، وضم إلى ذلك قائمة ببعض الكتب التي تناولت شخصية الشيخ بالترجمة.
وهذا السجل لا يستوفي جميع ما سطره المجدد ونشر من بعده، وللمؤلف عذره في هذا، لكن فاته مما توخى أشياء:
فإنه مثلا أغفل ذكر "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (الأجزاء 1، 2، 3)، وفي الأول منها آثار للشيخ ورسائل، بينما نجده ذكر الجزء الرابع من هذه المجموعة، وذكر جميع أجزاء "الدرر السنية"، حتى جزئي (9، 11) رغم خلوهما من ما سطره الشيخ.(1/292)
ولم يذكر نبذة كتبها الشيخ، وهي موجودة في الجزء الثاني من "الدرر السنية" في (ص 12).
كما لم يذكر وجود النبذة التي أولها: "الواجب عليك أن تعرف إرسال الرسل" في "الدرر السنية" (ج 1، ص 95).
ولم يحقق نسبة بعض ما نسب للشيخ من مؤلفات وآثار؛ كما وقع له في كتاب "نصيحة المسلمين بأحاديث سيد المرسلين" ونسبه للشيخ(1) وهو ليس له، كما حققناه في الكلام على مؤلفاته في المدخل.
وانظر: (المواد 69 - 74\ ص 32 - 33)، و (مادة 889 - 891\ ص 153 - 154) من كتابه المذكور.
وجعل لرسالة "قواعد الدين الأربع" عنوانين، للمطولة عنوان، وللمختصرة عنوان آخر، وموضعهما واحد، إلا أن الأولى مطولة، والثانية مختصرة.
ووقع خطأ في ترقيم الصفحات المحال عليها في (المادة 429\ ص 87).
وقد التزم أن يذكر طرفا من أول كل مادة(2) في كتابه، ولم يذكر أول (المادة رقم 34 - 35\ ص 27).
وكرر مادة واحدة من غير فائدة؛ فانظر: (مادة 297) هي (مادة 311)، و (مادة 298) هي (مادة 312).
وخلط في الإحالة على الصفحات مادة مع مادة في (المادة رقم 213\ ص 52) كلمة: "لا إله إلا الله..."، دمج معها رسالة أخرى، أولها: "اعلم أرشدك الله..."، وكان قد ذكرها تحت (المادة
- 366 - 211\ ص 51) بعنوان: كلمة التوحيد، ولم يذكر وجودها في "الدرر السنية" (ج 2\ ص 62 - 65).
وحصل خطأ قي كتابه تعليق على (مادة 422)، وهو إنما يصلح ل (مادة 416).
وعلى الرغم من ذلك؛ فهو أول دليل يسجل معظم أعمال الشيخ محمد بن عبد الوهاب من مؤلفات وآثار حسب قواعد علم الببليوجرافيا الحديثة، وهو نافع في ذلك؛ ففيه مادة لا يستغني عنها باحث جاد في آثار الشيخ، وقد استفدت منه، ونسأل الله أن يجزيه خيرا، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) المقدمة (ص 9).
(2) المقدمة (ص 9).(1/293)
سأكتفي بهذه الإحالة فيما يختص بهذه النقطة تفاديا للتكرار والإطالة بذلك، غير أني أذكر ما جد في هذا الموضوع، وهو ما قامت به جامعة الإمام محمد بن سعود، فقد طبعت جل مؤلفات الشيخ محققة ومقابلة على مخطوطات، وطبعت مؤلفات للشيخ لأول مرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند ذكر مؤلفات الشيخ في المدخل، ثم قامت بتوزيع هذه المؤلفات على كثير من الباحثين في البلدان الإسلامية، ووفرت لديهم ذلك، وهذا له قيمته الواضحة في تأثير عقيدة الشيخ أثرا صحيحا مباشرا من آثار الشيخ الصحيحة الموثوقة، وفي تعريف طلاب العلم على حقيقة عقيدته، والبحث الموضوعي العلمي في ذلك، وعلى أثر ذلك استكتبت الجامعة عددا كثيرا من العلماء والباحثين عن دعوة الشيخ وعقيدته، ثم وصلتها بحوث في ذلك قامت بطبعها أيضا، ولكن على الآلة الكاتبة، وبلغت ما يقرب من ستة
مجلدات، ثم وزعتها على مجموعة كبيرة من طلبة العلم والكتاب والعلماء والمثقفين، ومن ضمن ذلك مصورات جغرافية تبين أماكن انتشار أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإسلامي، بلغت أربعا وعشرين لوحة، يمكن من أراد ذلك مراجعتها، وهذا عمل يبين مدى أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وما من شك أن هذا الاعتناء والنشر لمؤلفات الشيخ وآثاره يوضح جانبا من أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وما كان ليتم بهذا الشكل الجيد ولا يكون لعقيدة الشيخ هذا الأثر لولا ما أنعم الله به على أهل المملكة العربية السعودية رعاة ورعية، وعلى الخصوص ورثة الشيخ في علمه وورثة أنصار الشيخ في قوتهم وسلطانهم.(1/294)
هذا ومن أعظم ما قامت به حكومة المملكة العربية السعودية تجاه العالم الإسلامي لتعليم العلم النافع والدعوة إلى الخير هو إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام 1381 هـ(1) وهي مؤسسة علمية ذات فائدة ومنفعة كبيرة في الدين والدنيا، عامة وخاصة، فهي منذ تأسيسها تؤتي ثمارها، ويتخرج منها أفواج من أبنائها، ينتشرون في أنحاء المعمورة، محققين بذلك بحول الله وقوته ما تهدف إليه الحكومة من تأسيسها، فنرجوا الله سبحانه أن يفتح بها آذانا صما عن استماع الحق، وقلوبا غلفا قد استحكم عليها غلافها حتى صارت بعيدة عن الحق، وأعينا عميا عن النظر في الأدلة والبراهين التي نصبها
الله لتدل على وجوده وأنه المستحق للعبادة دون ما سواه.
وكذلك إنشاء رابطة العالم الإسلامي للقيام بمهمة الدعوة لدين الله الحق، والعمل في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام، وحث المسلمين على احترام الأخوة الإسلامية، والدعوة إلى التضامن الإسلامي بالحكمة والموعظة الحسنة.
وإن ما ينعم فيه أهل البلاد السعودية من نعمة لا مثيل لها في العالم كله في هذا الزمان من أمن في الأوطان وصحة في الأبدان واتحاد تحت راية التوحيد؛ تحت ولاية آل سعود؛ ما هذا إلا من أثر تلك العقيدة السلفية.
وإننا ولله الحمد -كما يشهد الواقع- نمتاز في هذه المملكة عن جميع من حولنا ومن في أقطار المعمورة كلها بهذه الميزة، وكلما كنا متمسكين بعقيدة السلف الصالح؛ كلما كانت آثارها من الأمن والهداية أرسخ وأقوى، كما قال الله تعالى: { tûïد%©!$#?(#qمZtB#uن?َOs9ur?(# qف،خ6ù=tƒ?OكguZ"yJƒخ)?AOù=فàخ/?y7ح´¯"s9'ré&?مNكgs9?ك`ّBF{$#?Nèdur?tbrك‰tGôgoB?ارثب } (2).
__________
(1) الشيخ عبد المحسن العباد "عالم جهبذ. وملك فذ" (ص 5).
(2) سورة الأنعام آية : 82.(1/295)
ومن يخالجه شك؛ فليستقرئ الواقع في العالم الإسلامي، بل وفي غيره، وسيجده شاهدا بذلك، وهذا شأن عقيدة السلف الصالح؛ لأنها قطب رحى المسلمين، ويوم يحققونها؛ تكون لهم الإمامة والتمكين، وعد الله لا يخلف الميعاد؛ قال تعالى:
{ y‰tمur?ھ!$#?tûïد%©!$#?(#qمZtB#uن?َOن3ZدB?(#qè=دJtمur?دM"ysخ="¢ء9$#?َOكg¨Zxےخ=ّـtGَ،uٹs9?'خû?اعِ'F{$#?$yJں2?y#n=÷‚tGَ™$#?ڑْïد%©!$#?`دB?ِNخgخ=ِ6s%?£`uZإj3uKمs9ur?ِNçlm;?مNهks]ƒدٹ?"د%©!$#?4س|سs?ِ'$#?ِNçlm;?Nهk¨]s9دd‰t7مٹs9ur?.`دiB?د‰÷èt/?ِNخgدùِqyz?$YZّBr&? ?سح_tRrك‰ç6÷ètƒ?ںw?ڑcqن.خژô³ç"?'خ1?$\"ّx©? ?`tBur?tچxےں2?y‰÷èt/?y7د9؛sŒ?y7ح´¯"s9'ré'sù?مNèd?tbqà)إ،"xےّ9$#?اخخب } (1).
ونزل الوحي في الجزيرة العربية، ومن الجزيرة أضاء، والمسلمون جميعا يستقبلون البيت الحرام، ويأتمون بأهل الحرم وحماته وولاته؛ فهم في وحدة مدارها على عقيدة السلف الصالح، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك تنتصر عقيدة السلف الصالح، ولله الحمد.
وعلى كل حال؛ فالكلام عن أثر عقيدة السلف الصالح في داخل سلطانها مهما بلغ من استيعاب ودقة لا يفي بوصف الواقع، كما أن وصف الواقع يعجز عنه جهد الباحث، ويخرج بنا عن حدود ما رسم لهذا البحث من حجم وجهد ووقت، ولكن؛ حسبنا أن نبين صلة هذا الأثر الحاضر بالماضي؛ ليعلم مشاهد هذا البناء الضخم المتماسك في وحدة المملكة العربية السعودية أن سنده وأساسه وأصله هو عقيدة السلف الصالح التي اعتقدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودعا إليها ونصرها الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى، فأظهرها الله بذلك على ما سواها، وتوارثها بعدهم بنوهم إلى يومنا هذا، ونسأل الله بأنه الأحد الصمد الذي لا إله إلا هو أن يثبتهم على عقيدة السلف
الصالح، وأن يوفقهم لنشرها والقيام بحقوقها، وهو المجيب القريب الجواد الكريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) سورة النور آية : 55.(1/296)
ولعل فيما قدمته من نقول وبيان كفاية في الدلالة على أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في داخل المملكة العربية السعودية، وحيث عرفنا أثر تلك العقيدة السلفية في بناء ذلك السلطان القوي، والذي هو أصل أثرها في خارج سلطانها، ننتقل إلى تعرف تأثرها في الخارج، وهو ما يشتمل عليه الفصل التالي.
الفصل الخامس
أثرها في خارج سلطانها
·?تمهيد:
من الثابت في الحقيقة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يأت الناس بعقيدة جديدة، بل هو عالم عامل بيّن عقيدة السلف الصالح وعمل على تطبيقها ووفق بأنصار أحرار ينصرون عقيدة السلف الصالح عن وعي وإدراك؛ كما قال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل رحمه الله بعد أن ذكر الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ قال:
"فلما رأى أسلافنا (يعني: آل سعود) موافقة أقوالهم وأفعالهم (يعني: هؤلاء الأئمة) لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ قبلوا ذلك، وقاموا بما أظهره الله على أيديهم، ونحن إن شاء الله على سبيلهم ومعتقدهم، نرجوا الله أن يحيينا ويميتنا عليه"(1).
والدليل على ذلك أننا نسمع دائما لمز المتمسك بالسنة والمجانب للبدعة صوفية أو كلامية أو غيرها ليعمل بالسنة؛ فهو وهابي،
وطريقته وهابية، ولو لم يكن قد أخذ عن الشيخ، أو لقيه، أو عاصره، أو أخذ عمن أخذ عنه، أو درس حتى كتبه.
__________
(1) "نجد وملحقاته وسيرة عبد العزيز..." أمين الريحاني (ص 436).(1/297)
وهؤلاء الذين يحاولون لمز من يعمل على نشر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوهابية -على حد قولهم- إنما يريدون محاربة انتشار السنة والطريقة التي كان عليها السلف الصالح بذلك، فيلمزون كل من عمل بالسنة وجانب البدعة؛ أنه ينشر الوهابية، ويقصد توسيع نفوذ سلطانها، ومد رقعته، فيحاربونه بهذه الفرية، ويصمونه بأنه عميل يعيش على أموال السعوديين لينشر ما يسمونه بالوهابية، وبأمثال هذه التشنيعات يحاربون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطريقة السلف الصالح، ومعلوم أن أصل مذهب السلف الصالح هو اتباع سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين وسبيل المؤمنين، ولم ينفرد به الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحده، ولم ينحصر في دعوته واعتقاده، بل حمله عدول عن عدول في كل زمان، وفي أمكنة متباعدة، ليس في زمان عن زمان، ولا مكان عن مكان.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله صار إماما كغيره من أئمة السنة، وشرف ونبل بذلك، وكذلك أتباعه وأنصاره شرفوا باتباعهم مذهب السلف الصالح، واتخاذ طريقهم في الوسيلة والغاية.
لذلك؛ فإني في هذا البحث لا أزعم أن كل أثر من آثار عقيدة السلف الصالح هو من أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، إلا إذا وجد ما يدل على ذلك؛ لأن السلفية -كما ذكرنا- ليست محصورة إلا من طريق الشيخ؛ فأتباع السلف الصالح لا يزالون في كل زمان ومكان يقومون لله بحجته على خلقه قياما يفيد العلم
اليقيني إلى قيام الساعة، ولله الحمد والمنة.(1/298)
كما أنني لا أزعم أيضا أن الدعوات الإصلاحية أو الحركات السياسية في العالم الإسلامي قد تأثرت بدعوة الشيخ وحركته وحركة أنصاره من أجلها ما لم أجد دليلا يفيد ذلك، سيما وأن أكثر هذه الحركات والدعوات مشوبة بما يخالف عقيدة الشيخ السلفية؛ إما في الوسيلة أو في الغاية، وإن كان ينتسب هؤلاء الدعاة المصلحون والمتحركون السياسيون إلى الإسلام والسنة، فليس اجتماع حركة الشيخ وأنصاره مع غيرها من الحركات في قدر مشترك في الذهن يسوغ لنا أن نحكم بأن تلك الحركات متأثرة بحركة الشيخ؛ لأن الشيخ وأنصاره إنما قاموا بنصرة دين الله، ليس لهم غرض سوى ذلك، لا يبتغون زعامة ولا دنيا، إلا أنهم يريدون رضوان الله وما وعدهم الله به، فإن جاءهم فضل من الله لا منة لأحد فيه أو مكسب لا يمس عقيدتهم وليس على حساب تنازل منهم عن شيء من عقيدة السلف الصالح؛ فهم يقبلونه شاكرين، وليس من عقيدتهم تصدير الحركات السياسية والثورات والاغتيالات في بلدان العالم، ولا من شأنهم التفريق وتشتيت الشمل والتحزبات والشيع، بل إنهم -على العكس من ذلك- دعاة تأليف واجتماع واتحاد على الحق، دعاة إلى الله على طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسرهم أن يجيب المدعوون داعي الله، وأن يقبلوا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينجي هؤلاء المدعوون أنفسهم من الهلاك، ويهتدوا إلى الصراط المستقيم، إلى سعادة من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.(1/299)
والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: "نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان ومكان"، ولا يقول: إن من تبع دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفيه حتى يجيء عندنا ويوالينا. ولا يقول: إن الذي ما يدخل تحت طاعتي؛ فهو كافر. ولا يقول: إنه مبطل مذاهب أهل السنة والجماعة، وإنه ليس لهم كتب إلا ما بيده، وليس لهم علماء إلا من شهد له بالعلم... لا بقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا ولا غيره مما وصفه به أعداء الحق، وليس من عقيدته ذلك، بل مراده اتباع دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإظهاره في أي أرض وطائفة كانت(1) ومن أي جهة".
وقد سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: من لم تشمله دائرة إمامتكم، ويتسم بسمة دولتكم؛ هل داره دار كفر وحرب على العموم؟ فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به أن من دان بالإسلام، وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما نهى عنه وزجر، فهو المسلم، حرام المال والدم؛ كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولم نكفر أحدا دان بدين الإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده؛ فقد كذب وافترى?(2)???
وإذا كانت عقيدة الشيخ السلفية هكذا، إنما هي تمسك بالكتاب والسنة، ودعوة إلى الله وحده بهذا التمسك الراشد؛ فكذلك هي ليست مصدر تزمت وترك للدنيا ورفض للمصالح فيها، وإنما هي عقيدة الصلاح والأصلح في الدنيا والآخرة، كيف لا وهي مبنية على أن صريح العقل يوافق صحيح النقل؟!
__________
(1) انظر: "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 10، ص 60، ورقم 9، ص 58، ورقم 1، ص 12، ورقم 11، ص 64).
(2) "الدرر السنية" (ج 7، ص 355).(1/300)
وعلى ضوء هذا التمهيد وضوء ما قدمت في الفصل الأول من الباب الثاني عن أسباب تأثير عقيدة الشيخ السلفية سأبحث عن أثر عقيدة الشيخ السلفية في خارج سلطانها سفي هذا الفصل؛ فأقول:
إنه ما من شك أن تطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، وتطهير الحرمين عموما من عبادة القبور وأنواع البدع والفجور، والضرب على أيدي العابثين، وتاًمين الطرق إليهما من القطاع والسراق، مع تعظيم حرمتهما، وخدمة حجاج بيت الله، والعمل على تيسير أدائهم فريضة الحج التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام بكل وسائل الأمن والراحة والمعيشة أيضا، هو أثر من آثار عقيدة السلف الصالح رحمهم الله؛ فهذا شأنهم في ولاية البيت؛ قال تعالى: { ÷bخ)?ے¼çnنt!$uد9÷rr&?wخ)?tbqà)GكJّ9$# } (1).
وبالتالي؛ فله من الأثر العظيم في انتشار عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي ما لا يستطيع أحد جحده وإنكاره، وكل يدرك بالبداهة أثر ولاية أنصار العقيدة السلفية الطيب المشكور، غير أن تتبع
ذلك الأثر ليس في وسع الباحث، وحسبنا بهذا إشارة إليه.
ونشير إلى سبب آخر، وهو الرسائل التي كان يرسلها أئمة وعلماء عقيدة السلف الصالح من ورثة الشيخ وورثة أنصاره إلى عموم المسلمين في الخارج؛ فلها أثر بالغ أيضا.
فمنذ ظهور الشيخ محمد رحمه الله، وتلك الرسائل تتوالى:
فقد أرسل الشيخ نفسه إلى السويدي عالم من أهل العراق يجيبه على كتاب ورد إلى الشيخ منه، فبين الشيخ في جوابه أنه متبع وليس بمبتدع، وأن عقيدته ودينه الذي يدين الله به هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين؛ مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة(2).
__________
(1) سورة الأنفال آية : 34.
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 5، ص 36 - 38).(1/301)
ورسالة إلى فاضل آل مزيد رئيس بادية الشام بناء على ما ذكر راشد بن عربان للشيخ من كلام حسن عن فاضل، وأنه طالب منه المكاتبة بسبب ما يجيئه من الكلام، فذكر له الشيخ صفة الأمر، وأنه الدعوة إلى الإسلام(1).
ورسالته إلى البكيلي صاحب اليمن(2) وإلى إسماعيل الجراعي(3) وإلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني(4) ورسالته أهل
المغرب(5)...
وغير هذه الرسائل من رسائل شخصية ورسائل عامة ومؤلفات شاملة تبعث في كل اتجاه حسب القدرة والطاقة؛ كما فعل الإمام عبد العزيز بن محمد حين بعث "كتاب التوحيد" وغيره إلى والي بغداد(6).
كل ذلك لا شك أن له أثر في انتشار عقيدة السلف الصالح وتأثيرها في تلك المواطن خارج سلطانها.
ومن بعد الشيخ محمد ما زالت الرسائل ترسل، فتلك الرسالة المهمة الجليلة، رسالة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود التي أرسلها إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المشرق والمغرب؛ يبين فيها حكمة خلق الله الخلق، وأنها ليعبدوه، فأمرهم بها، وحذرهم مخالفته، وأن الجزاء واقع لا محالة، وأخذ يشرح ذلك، ويدلل عليه من الكتاب والسنة، وهي رسالة عظيمة التأثير(7).
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 4، ص 32 - 33).
(2) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية، رقم 14، ص 94 - 98).
(3) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية) (رقم 15، ص 100 - 101).
(4) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية) (رقم 16، ص 103 - 107).
(5) "مؤلفات الشيخ" (القسم الخامس، الشخصية) (رقم 17، ص 110 - 115).
(6) انظر (2/ 185) من هذا البحث.
(7) "الدرر السنية" (ج 1، الطبعة الثانية، ص 143- 146).(1/302)
والرسالة الأخرى التي أرسلها الإمام عبد العزيز بن محمد إلى من يراه من بلدان العجم والروم، وشرح فيها عقيدة السلف الصالح، بعثها مع محمد خلف النواب، الذي قدم الدرعية مع الحاج، وجلس مدة يتعلم العقيدة، فلما فقه، أرسل معه تلك الرسالة، وأحالهم عليه
ليبين لهم.
ورسالته أيضا إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني مع الشريف أحمد الذي قدم عليهم ورأى وحقق صحة ما هم عليه، التمس أن يرسل الإمام معه إلى قومه رسالة، فكتبها(1) وسبق ذكر شيء من ذلك(2).
ورسالة الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، التي كتبها لما مكنهم الله مع الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد من ولاية الحرمين، وقد شرح فيها دعوة الشيخ محمد، وبين عقيدتهم، وأنها عقيدة السلف الصالح، وشرح مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والفروع، ورد المفتريات عليهم بالقول والفعل، وكل يشهد مصداق ذلك، وما من شك أنها تقدم للحجاج والعمار والوافدين من خارج الدولة، فيكون لها تأثير بالغ عظيم، وسبق ذكرها(3).
ومن الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد إلى سليمان باشا جوابا على خطاب من سليمان مبني على خطاب سابق من الإمام سعود إلى يوسف باشا؛ يبين فيها الإمام أنهم متبعون ما أمر الله به رسوله وعباده المؤمنين، ويرد عليه افتراءاته وتلبيساته، ويبين له طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعيهم بإحسان(4).
__________
(1) "الدرر السنية" (ج1، الطبعة الثانية، ص 146 - 148).
(2) انظر: (2/ 183) من هذا البحث.
(3) انظر: (2/ 218) من هذا البحث.
(4) "الدرر السنية" (ج 1، ص 305 - 318).(1/303)
وللشيخ إسحاق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رسالة جليلة في بيان معتقد الشيخ، وكان قد سافر الهند بطلب العلم على أهل الحديث وعلماء السنة هناك، وينشر الحق باستطاعته، ولعله كتبها لمواجهة بعض الإشاعات والترويجات على الشيخ في الهند وغيره، فنشرها بين طلبة العلم، وجاء فيها بعد الثناء على الله سبحانه وبحمده والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم -
"أما بعد؛ فإنه ابتلي من استحوذ عليه الشيطان بعداوة شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومسبته وتحذير الناس عنه وعن مصنفاته لأجل ما قام بقلوبهم من الغلو في أهل القبور، وما نشأوا عليه من البدع التي ملأت الصدور، فأردت أن أذكر طرفا من أخباره وأحواله؛ ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره؛ فلا يروج عليه الباطل، ولا يغتر بحائد عن الحق مائل، مستنده ما ينقله أعداؤه الذين اشتهرت عداوتهم له في وقته، وبالغوا في مسبته".
إلى أن قال: "والذي يقضي به العجب قلة إنصافهم وفرط جورهم واعتسافهم، وذلك أنهم لا يجدون زلة من المنتسبين إليه ولا عثرة إلا نسبوها إليه، وجعلوا عارها راجعا عليه، وهذا من تمام كرامته وعظم قدره وإمامته.
وقد عرف من جهالهم واشتهر من أعمالهم؛ أنه ما دعا إلى الله أحد، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، في أي قطر من الأقطار؛ إلا سموه وهابيا، وكتبوا في الرسائل إلى البلدان، بكل قول هائل يحتوي على الزور والبهتان، ومن أراد الإنصاف، وخشي مولاه وخاف؛ نظر
في مصنفات هذا الشيخ" اهـ.
ثم ذكر الشيخ بعض ما وقف عليه من كلامه، وما عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته؛ أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى، ثم سرد عقيدة الشيخ رحمه الله حسب ما ذكر(1).
__________
(1) "الدرر السنية" (ج 1، ص 256 - 268).(1/304)
وهذا سنلاحظ أثره الواضح في تلك الديار التي سافر إليها في الهند وغيرها، كما في "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" للشيخ محمد بشير السهواني الهندي وغيره فيما يأتي من بحث أثر عقيدة الشيخ السلفية في الهند.
ثم في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن كانت رسائل مثل رسالة محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى من يراه من أهل القرى ورؤساء القبائل من أهل اليمن وعسير وتهامة وشهران وبني شهر وقحطان وغامد وزهران وكافة أهل الحجاز؛ يقول فيها:
"إنه لما كان في سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة وألف من الهجرة، بعثنا الإمام المقدم، والرئيس المفضل المفخم، صاحب السعادة والسيادة، عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، أعلى الله سعوده، وأدام للمسلمين وجوده؛ لأجل تعليمكم ما أوجبه الله عليكم
وتعبدكم به من دين الإسلام، الذي معرفته والعمل به والبصيرة فيه سبب لدخول الجنة، والجهل به والإعراض عنه وعدم قبوله والانقياد له سبب لدخول النار، فلما قدمنا بعض جهاتكم؛ رأينا أهلها قد جال بهم الشيطان والهوى، وتمادوا في الغي والطغيان والإعراض عن النور والهدى، وفرقوا أمرهم وكانوا شيعا، وغلب عليهم الجهل وإيثار الشهوات، واستجابوا لداعي الشبهات، فوقعوا في وادي جهل خطير، فهم على شفا حفرة من السعير، وغلب على أكثرهم الاعتقاد في أهل القبور والأحجار والغيران، وتعظيم أهل الصلاح من المقبورين، وهذا هو دين أهل الجاهلية الأولين..." ثم أخذ يشرح عقيدة السلف الصالح ويدعو إليها بالحجج والبراهين(1).
__________
(1) "الدرر السنية" (ج 1، ص 283 - 290).(1/305)
ورسالة أخرى من الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى من ذكرنا في الرسالة التي قبلها من أهل تلك الجهات، ومنها جهة اليمن، وفي هذه الرسالة يركز الشيخ محمد بن عبد اللطيف على أن عقيدتهم ودينهم هو دين الإسلام، وهو عقيدة أهل الحق؛ أهل السنة والجماعة، وهم السلف الصالح(1).
وما من شك أن مثل تلك الجهود والرسائل كان لها أثر جيد في جهات اليمن مما خرج عن سلطان أنصارها على ما سنبينه قريبا في مبحث أثرها في اليمن.
ويضاف إلى ما تقدم من الأسباب تشجيع ولاة الأمور في
المملكة للوافدين من أجل طلب العلم، وتوفير المنح الدراسية لهم من جميع أنحاء العالم الإسلامي، لا سيما في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أول عاصمة للخلافة الإسلامية.
ويشكل الطلاب الوافدون إليها من خارج المملكة من غير السعوديين من أبناء العالم الإسلامي في شتى أقطار المعمورة وينتمون إلى 88 قطرا، يشكلون 85% من طلاب الجامعة الإسلامية البالغ عددهم 6660 طالبا حسب إحصائيات شهر جمادى الآخرة عام 1403 هـ، وهؤلاء الطلاب الوافدون يتلقون العلم المستمد من الكتاب والسنة وفقا لما كان عليه سلف الأمة الإسلامية.
ولا ننسى ما تسهم به جامعة الإمام محمد بن سعود في هذا المجال، لا سيما بالفروع التي تم فتحها في خارج المملكة، وهي تابعة لها، كمعهد تعليم اللغة العربية بإندونيسيا، والمعهد العلمي برأس الخيمة، والمعهد العلمي في موريتانيا.
وكذلك رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في نشاطها خارج المملكة.
ومن ذلك مبتعثوها في سائر أنحاء العالم للدعوة والإرشاد، وهذا له أثر حسن في نشر عقيدة السلف الصالح، وكل ذلك من أثر عقيدة الشيخ السلفية.
أثرها في اليمن
يذكر محمد رشيد رضا أن علماء السنة في اليمن قد بلغهم كل
__________
(1) "الدرر السنية" (ج 1، ص 290 - 291).(1/306)
ما قيل في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى، فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره، وعدوه من الأئمة المصلحين المجددين للإسلام ومن فقهاء الحديث؛ كما نراه في كتبهم(1).
وإذا تذكرنا قصيدة الإمام الصنعاني التي يمدح فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويثني على طريقته، ويؤيد عقيدته ومسلكه، بدا لنا كيف وصل تأثير عقيدة الشيخ إلى هناك، ودورها في نشر عقيدة السلف الصالح.
يقول الأمير الصنعاني بين يدي قصيدته الدالية المشهورة التي مطلعها:
وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي ... سلام على نجد ومن حل في نجد
قال: "لما طارت الأخبار بظهور عالم في نجد يقال له: محمد ابن عبد الوهاب، ووصل إلينا بعض تلاميذه، وأخبرنا عن حقائق أحواله وتشميره في التقوى وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اشتاقت النفس إلى مكاتبته بهذه الأبيات سنة 1163 هـ، وأرسلناها من طريق مكة المشرفة، وهي (ثم أوردها في ديوانه، ويقول فيها):
به يهتدي من ضل عن منهج الرشد ... قفي واسألي عن عالم حل سوحها
فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي ... محمد الهادي لسنة أحمد
بلا صدر في الحق منهم ولا ورد ... لقد أنكرت كل الطوائف قوله
ولا كل قول واجب الرد والطرد ... وما كل قول بالقبول مقابل
فذلك قول جل قدرا عن الرد ... سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
تدور على قدر الأدلة في النقد ... وأما أقاويل الرجال فإنها
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي ... وقد جاءت الأخبار عنه فإنه
ومبتدع منه فوافق ما عندي ... وينشر جهرا ما طوى كل جاهل
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد ... ويعمر أركان الشريعة هادما
يغوث وود بئس ذلك من ود ... أعادوا بها معنى سواع ومثله
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد ... وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
__________
(1) مقدمة محمد رشيد رضا لكتاب "صيانة الإنسان..." تأليف محمد بشير السهسواني (ص 14 الطبعة الخامسة).(1/307)
أهلت لغير الله جهلا على عمد ... وكم عقروا في سوحها من عقيرة
وملتمس الأركان منهن باليد ... وكم طائف حول القبور مقبل
إلى أن قال يصف ما في "دلائل الخيرات" من غلو:
بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي ... غلو نهى عنه الرسول وبدعة
تساوي فليسا إن رجعت إلى النقد(1) ... أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا
يرى درسها أزكى لديهم من الحمد ... وصيرها الجهال للذكر ضرة
وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي ... لقد سرني ما جاء لي من طريقه
إلى آخر قصيدته الطويلة المفيدة، والتي تدل على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجته، غير أن الشيخ رحمه الله رزق بأنصار يبتغون
وجه الله وحده، وهذا فضل من الله تعالى.
ويدل كلام الأمير الصنعاني في قصيدته هذه على أن أثر عقيدة الشيخ في إظهار مذهب أهل السنة والجماعة قد وصل إلى اليمن. وانظر الأمير يقول في قصيدته هذه التي قالها في الشيخ ومن أجله وإصلاحه:
نشأت على حب الأحاديث من مهدي ... سلام على أهل الحديث فإنني
وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد ... هم بذلوا في حفظ سنة أحمد
إلى أن قال:
فكم جاوزت غورا ونجدا إلى نجد ... إليك طوت عرض الفيافي وطولها
وعاد خليا عن رحيل وعن شد ... أناخت بنجد واستراح ركابها
جوابا فقد أضحت لديك من الوفد ... فأحسن قراها بالقراءة ناظما
لحسن ختام النظم واسطة العقد(2) ... وصل على المختار والآل إنها
__________
(1) انظر: "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة)، "مفيد المستفيد" (ص 310).
(2) "ديوان الأمير الصنعاني" (ص 128 - 132)، وانظر: بعضها في "عنوان المجد في تاريخ نجد" لابن بشر (ج 1، ص 54 - 55)، وانظر: بيتا واحدا منها في "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة)، "مفيد المستفيد" (ص 310)، وانظر: "تبرئة الشيخين الإمامين من تزويد أهل الكذب والمين" للشيخ العلامة سليمان بن سحمان طبع بأمر الإمام السلطان عبد العزيز آل سعود بمطبعة المنار سنة 1343هـ، وانظر: "روضة ابن غنام" (ج 1، ص 46 - 49).(1/308)
وكانت ولادة الصنعاني سنة 1099 هـ، ووفاته سنة 1182 هـ(1).
ونجد في اليمن عالما جليلا من علمائه الأعلام، هو الشيخ حسين بن مهدي النعمي التهامي، ثم الصنعاني، وفد من مدينة صبيا بتهامة إلى صنعاء لطلب العلم، فأخذ بها في العلوم النقلية والعقلية الفرعية والأصولية، فأقرأ في كتب السنة في صنعاء، وكثر الآخذون عنه من الخاصة والعامة، وعملوا بالسنن؛ من رفع اليدين عند الركوع والرفع، وقبضهما على الصدر، وتأمين الإمام والمأموم، وغيرها من السنن في الصلاة؛ وهو معاصر للأمير الصنعاني، واستمر على الإقراء في كتب السنة، والعمل بها؛ مجللا محترما، وقد أذن له المهدي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المخالف من خاصة المهدي، وتوفي في سنة 1187 هـ، وخلفه تلميذه يحيى بن حسن الكبسي، وطريقته طريقة شيخه المذكور. انتهى ملخصا مما نقله سليمان بن عبد الرحمن الصنيع من مخطوط كتاب "نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف"(2).
وقد عرضت عليه أجوبة علماء الحرم الشريف من مختلف المذاهب، والتي اتفقت أجوبتهم على إبقاء القباب والأضرحة والأبنية على القبور؛ بناء على سؤال رفع إليهم بشأن هدم القباب وتسوية القبور؛ بسبب ظهور أمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بذلك، وسعيه في هدم تلك الأضرحة، ومحاربة ما ترتب على وجودها من وثنية وعبادة لغير الله من دونه، فتصدى هذا الشيخ النعمي للرد عليها، وجعله كتابا
__________
(1) انظر مقدمة ديوانه (ص 5 - 12).
(2) انظر: ترجمته في أول كتاب "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب" (ص 13 - 15، الطبعة الثانية عام 1393هـ).(1/309)
اسمه "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب"، وبإمعان النظر فيه يتضح لنا ما وهبه الله من المقدرة وسعة الاطلاع وقوة اليقين، مما حمله على إعلان الحق، وعدم المبالاة بمخالفة الناس والمفتين وأرباب المناصب والجاه(1).
قال الشيخ النعمي في مقدمة كتابه هذا: "وبعد؛ فلما كان في شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وسبعين ومئة وألف من الهجرة النبوية؛ وقفت على صورة سؤال وغير ما جواب في شأن ما يسر الله هدمه وافتقاده من المشاهد والقباب، وإزالة ما أزيل منها بالتدمير والخراب، لما تفاحشت خطوب مفاسدها في هذا الزمان، وضاهت رسوم الجاهلية الجهلاء المنافية للتوحيد والإيمان، مع كون وضع القباب أمرا صادم المأثور الصحيح من النهي الصريح، فهو بمجرده ممنوع شرعا، كما قد شرحت ما جاء فيه ضمن رسالة مستقلة وجيزة أسفرت عن وجهه الصبيح، واسمها: "مدارج العبور على مفاسد القبور"، وكان قبل هذا التاريخ بمدة يسيرة ألقى إليّ بعض أعيان الزمن بمدينة صنعاء اليمن... كتابا ورد عليه من مكة المشرفة، ذكر فيه ما حاصله أنه وصل إلى هنالك سؤال في هذه المسألة، وأنه أجاب فيه مفتو الأربعة المذاهب بما يتضمن التشنيع على من دل على هدم القباب والمشاهد، وأشار بتخريب تلك المعاقل والمعاهد(2).
ثم ذكر أنه اطلع على الأجوبة، وإذا هي أحموقات حرية بالاطراح، وأغاليط خليقة أن يتسلى عنها ويستراح، وأن لا يرفع لبيب إليها رأسا، ولا يتسنم للرد عليها قرطاسا، لأنها لم ترح رائحة التحقيق، ولا تمسكت من تحري السداد بحبله الوثيق"(3).
__________
(1) انظر: كلمة الافتتاح للطبعة الثانية لكتاب "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب" للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين (ص 3 - 14).
(2) "معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب" (ص 21).
(3) "معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب" (ص 22).(1/310)
ثم قال: "ولولا وجوب النصح والإرشاد ورفع اللبس، لاتجه في السكوت عن فتاويهم إلحاق اليوم بالأمس"(1).
وذكر أن المجيبين أضاعوا عهود العلم والهدى وأهملوها، وليس سبيل من هذا شأنه إلا التنبيه وإزاحة الضرر عمن لم يعلم ما في مقاله من التمويه، لأنه لم يسلك معك مسلك المحاورات بين أهل التحصيل، بل سد عليك طريق أخذ الحكم من دليله، فما الذي تبتغيه عنده بعد؟! وأي سفاهة علمت أقبح مما صنع هؤلاء الجماعة؟!
ويقول: "إن طفقنا نقول لهم: هذا حرام لدلالة هذه الأحاديث الصحيحة على ذلك. أجابوا بأنه صرح به في "المنهاج" وشرحه -وهو الذي فهمه ابن عبد الحق عن عبارة "الروضة"- بالجواز. قلنا: ما هي الحجة على الآخر؟ قالوا: لا يحل لنا ولا لك أن نقول: يحل كذا ويحرم كذا، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، ومحال في زماننا هذا شيء من ذلك، فلم يبق حجة إلا ما ذكر سنان أفندي في كتاب "تبيين المحارم"، والشيخ زكريا في "شرح المنهاج" وحواشيه لنور الدين الزيادي، وما ذكرته مطرح، وأنت عاص بهذا الصنيع...". إلى آخر
ما ذكره عنهم من أصلهم الذي حرروه، وهو امتناع أخذ الحكم من دليله، وتعذر ذلك في هذه الأعصار، مع أنهم نقضوه بشيء كثير من كلامهم، فأورد أمثلة من قولهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا مرارا كثيرة، وهو من عجيب ما يستظرفه العقلاء، ودليل على بطلان أصلهم بديهة وطبعا ووضعا... إلى آخر ما قال(2).
ثم حصر الكلام في ثلاثة أبواب:
الأول: في أبحاث متفرقة تتعلق بتلك الأجوبة(3).
__________
(1) "معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب" (ص 20- 22).
(2) انظر: "معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب" (ص 22 - 28).
(3) ص 28 -105).(1/311)
والباب الثاني: في ذكر جملة شافية من الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة الشاهدة بأن وضع القباب والبناء على القبور من أصله وتشريفها والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها مساجد وما يتصل بذلك أمر تقرر في الشرع منعه، وسبق الحكم الجازم بالنهي عنه والكف عن ارتكابه، وتثبتت القضية في ذلك، ومضت كلمة الحق بسد ذريعته؛ تحذيرا لنا أن نسلك سنن من قبلنا، مع قطع النظر عن المفاسد المترتبة على ذلك(1).
والباب الثالث: في سوق ألفاظ من ذلك السؤال وتلك الأجوبة، مع الإشارة إلى ما فيها من فساد(2).
وهو كتاب عظيم النفع، سديد في جوابه وبيانه، رحم الله مؤلفه، وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمن.
ومن بعد الأمير الصنعاني والشيخ حسين النعمي الإمام الشوكاني المولود سنة 1173 هـ، والمتوفى سنة 1250 هـ(3).
وقد عايش الشوكاني أحداث باشا مصر وما حل من مصائبه، وكان لهذه الأحداث وما يصحبها من إشاعات وبلبلة في الأخبار وتضارب أثر في ما يكتبه؛ إلا أنه لا يشك في الإمام سعود ومعتقده؛ فقد قال:
"وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحا؛ فإن صاحب نجد وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من محمد بن عبد الوهاب، وكان حنبليا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة، فعاد إلى نجد، وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة؛ كابن تيمية وابن القيم وأضرابهما، وهما من أشد الناس على معتقدي الأموات، وقد رأيت كتابا من صاحب نجد الذي هو الآن صاحب تلك الجهات، أجاب به على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده، فرأيت جوابه مشتملا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنة"(4).
ويقول: "وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد
__________
(1) ص 105 - 137).
(2) ص 137 - 255).
(3) انظر: "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" (ج 1، ص 478، وج 2، ص 214).
(4) "البدر الطالع" (ج 2، ص 6 - 7).(1/312)
المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين؛ وفي سنة 1215 هـ وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان، أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله، أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب، كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيدة، مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة، ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة تدل على أن المجيب(1) من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة، وقد هدم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه؛ لأنهم مقصرون متعصبون، فصار ما فعلوه خزيا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه، وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى الإمام، فدفع حفظه الله جميع ذلك إليّ، فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه: إن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندري من هم، وكلامهم يدل على أنهم جهال، والأصل والجواب موجودان في مجموعي"(2).
__________
(1) ويعني به الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد في جوابه لهم المسمى "جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية"، انظره في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" (ص 47 - 222).
(2) "البدر الطالع" (ج 2، ص 7).(1/313)
ويقول الشوكاني عن الإمام ابن سعود: ??سمعنا أنه قد استولى على بلاد الحسا والقطيف وبلاد الدواسر وغالب بلاد الحجاز، ومن دخل تحت حوزته؛ أقام الصلاة والزكاة والصيام وسائر شعائر الإسلام، ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعدة غالبهم؛ إما رغبة وإما رهبة، وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئا، ولا يقومون بشيء من واجباته، إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين، على ما في لفظهم بها من عوج، وبالجملة؛ فكانوا جاهلية جهلاء؛ كما تواترت بذلك الأخبار إلينا، ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها، ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها"?(1)???
وقد صارت جيوش صاحب نجد في بلاد يام وفي بلاد السراة المجاورين لبلاد أبي عريش، ومن تبعه من هذه الأجناس؛ اغتبط بمتابعته، وقاتل من يجاوره من الخارجين عن طاعته، فبهذا السبب صار معظم تلك البلاد راجعا إليه(2).
ويقول: "وفي سنة 1217 هـ دخلت بلاد أبي عريش وأشرافها في طاعة صاحب نجد، ثم تزلزلت الديار اليمنية بذلك، واستولى أصحابه على بعض ديار تهامة، وجرت أمور يطول شرحها، وهي الآن في سريان، وقد أفردت ما بلغنا من ذلك في مصنف مستقل؛ لأن هذه الحادثة قد عمت وطمت وارتجفت لها أقطار الديار الشامية والمصرية
والعراقية والرومية، بل وسائر الديار، لا سيما بعد دخول أصحاب النجدي مكة المشرفة، وطرد أشرافها عنها، ولله أمر هو بالغه.
__________
(1) "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" (ج 2، ص 5).
(2) "البدر الطالع" (ج 2، ص 6).(1/314)
ثم في سنة 1222 هـ وصل إلينا جماعة من صاحب نجد سعود ابن عبد العزيز، لبعضهم معرفة في العلم، ومعهم مكاتيب من سعود إلى الإمام المنصور بالله رحمه الله تعالى وإليّ أيضا، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة 1227 هـ، ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة 1228، ودار مع هؤلاء الواردين ومع غيرهم من المكاتبة ما لا يتسع المقام لبسطه"(1).
ويقول في ترجمة الإمام سعود بن عبد العزيز: "وكان جده محمد ابن سعود شيخا لقريته التي هو فيها، فوصل إليه الشيخ العلامة محمد ابن عبد الوهاب الداعي إلى التوحيد المنكر على المعتقدين في الأموات، فأجابه، وقام بنصره، وما زال يجاهد من يخالفه، وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية، وصار الإسلام فيها غريبا، ثم مات محمد بن سعود وقد دخل في الدين بعض البلاد النجدية، وقام ولده عبد العزيز مقامه، فافتتح جميع الديار النجدية والبلاد العارضية والحسا والقطيف، وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية، ثم استولى على الطائف ومكة والمدينة وغالب جزيرة العرب، وغالب هذه الفتوح على يد ولده سعود، ثم قام بعده ولده سعود، فتكاثرت جنوده، واتسعت فتوحه، ووصلت جنوده إلى اليمن، فافتتحوا بلاد أبي عريش وما يتصل بها، ثم تابعهم الشريف حمود بن محمد شريف أبي
__________
(1) "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" (ج 2، ص 7 - 8).(1/315)
عريش، وقد تقدمت ترجمته، وأمدوه بالجنود، ففتح البلاد التهامية؛ كاللحية والحديدة وبيت الفقيه وزبيد وما يتصل بهذه البلاد، وما زال الوافدون من سعود يفدون إلينا إلى صنعاء إلى حضرة الإمام المنصور وإلى حضرة ولده الإمام المتوكل بمكاتيب إليهما بالدعوة إلى التوحيد وهدم القبور المشيدة والقباب المرتفعة، ويكتب إلي أيضا مع ما يصل من الكتب إلى الإمامين، ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأمكنة المجاورة لها، وفي جهة ذمار وما يتصل بها"(1).
ولنذكر قصيدته الجيدة التي رثى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما توفي، ومطلعها:
وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي ... مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي
إلى أن قال عن الشيخ:
ومروي الصدى من فيض علم ونائل ... إمام الهدى ماحي الردى قامع العدا
وقال عنه:
وشيخ الشيوخ الحبر فرد الفضائل ... إمام الورى علامة العصر قد وتى
وجل مقاما عن لحوق المطاول ... محمد ذو المجد الذي عز دركه
سلالة أنجاب زكي الفضائل ... إلى عابد الوهاب يعزى إنه
إلى أن قال:
وقام مقامات الهدى بالدلائل ... لقد أشرقت نجد بنور ضيائه
إلى آخر القصيدة، وهي طويلة، تنيف على المئة بيت، أوردت منها شطرا في ترجمة الشيخ فيمن رثاه رحمه الله، وما أوردته هناك يناسب إيراده هنا، ولكن تفاديا للتكرار أحيل عليه.
__________
(1) "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع" (ج 1، ص 262 - 263). وانظر: "الدرر السنية" (12/ 20 - 24)، و "تذكرة أولي النهى والعرفان" لإبراهيم بن عبيد (1/ 50 - 54)، و "أثر الدعوة الوهابية" لمحمد حامد الفقي (ص 78 - 80)، و "الشعر يواكب الدعوة" لابن خميس بحث قدم إلى أسبوع الشيخ (ص 2 - 3)، و "الإمام الشوكاني مفسرا" رسالة دكتوراه إعداد محمد حسن بن أحمد الغماري (ص 32) في جامعة أم القرى.(1/316)
وأما في العصر الحاضر؛ ففي اليمن كثير من أهل السنة والجماعة، وبعضهم كان سبب هدايته إلى مذهب السلف هو ما تلقاه في جامعات المملكة، وما سمعه من مشايخ الدعوة، وما توصل إليه من بحثه في ميراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ فاقتنع اقتناعا حرا بصحة عقيدة السلف الصالح، وصار من الدعاة إليها وإلى نشرها في بلاده.
أثرها في الشام
وفي الشام كان لها أثر جيد، وقد اطلعت على رسالتين صغيرتين: إحداهما بعنوان "النفخة على النفحة" لمؤلفها الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري، وقد شغلت (56 صفحة) من الوسط، والثانية بعنوان "نظرة في النفحة الزكية في الرد على الوهابية" لمؤلفها أبو اليسار الدمشقي الميداني في (34 صفحة) من الوسط، وكأنها ذيل للأولى، وتعليق عليها، طبعتا في مجلد واحد سنة 1340 هـ بمطبعة
الترقي بدمشق.(1/317)
والأولى عبارة عن رد بليغ صدر من عالم محقق يتقي الله ويلتزم في رده الحكمة والموعظة الحسنة والإنصاف في المحاجة، جاء في أولها بعد البسملة والحمد لله والثناء على الله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه بينما كان سائرا في إحدى طرق مدينة دمشق؛ إذ بصر برجل عليه سيما العلم، وبيده رسائل يوزعها، فأهداه رسالة وهو يرتجف، ويشير إلى أنه أبدع فيما كتب، فذهب ناصر الدين إلى أحد مساجد البلد، ووجد أحد أهل العلم فيه، فلما أبصره والرسالة بيده؛ هز رأسه وقال: ما هذه الرسالة؟ فأجابه بأنه رأى عنوانها، وأن من حاكها أسماها "النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية"، ومؤلفها يزعم أنه من أكابر علماء دمشق، يقال له الشيخ عبد القادر الإسكندراني، المنتحل لنفسه لقب الكيلاني، فأجابه ذلك العالم الذي في المسجد بأن مدعي هذه الرسالة إنما أغار على كتاب "الفجر الطالع" لجميل صدقي الزهاوي، وعلى ما لفقه الشيخ دحلان، فأخذ ما اختاره منهما، ولم يزد من عنده إلا أحرفا يسيرة، فدهش ناصر الدين، وأخذ الرسالة يتصفحها، ثم رآها على غير قاعدة المحققين، وإنما هي تلفيقات، فانتدب لنقضها بأسلوب العالم المتزن ومسلك المحقق الذي بينه كمنهج لرده، ويمكن تلخيصه بنقاط هي:
1- أن المحققين ينزهون أنفسهم عن السباب والشتم لمن يردون عليه.
2- يجعلون نصب أعينهم قوله تعالى:
{ $pkڑ‰r'¯"tƒ?tûïد%©!$#?(# qمZtB#uن?bخ)?َOن.uن!%y`?7,إ™$sù?:*t6t^خ/?(# qمY¨ t6tGsù?br&?(#qç7ٹإءè??$JBِqs%?7's#"ygpg؟2?(#qكsخ6َءçGsù?4'n?tم?$tB?َOçFù=yèsù?tûüدBد‰"tR?ادب } (1).
3- وأن من يرد على أحد في كلامه، يأخذ جملة من كلامه فيبين الغلط فيها، ثم جملة، وجملة... حتى يستوفي الكلام بلا تحامل ولا اعتساف.
__________
(1) سورة الحجرات آية : 6.(1/318)
4- وأن يتلو قوله تعالى: { ¢OèO?ِNن3¯Rخ)?tPِqtƒ?دpyJ"uٹة)ّ9$#?y‰Zدم?ِNن3خn/u'?ڑcqكJإءtGّƒrB?اجتب } (1).
ولكن صاحب الرسالة -كما قال ناصر الدين- لم يسلك في رده ذلك المسلك، فأراد ناصر الدين خدمة الحقيقة، فقال: "إن صاحب النفحة صدر رسالته بما لفقه الشيخ أحمد دحلان في آخر "تاريخ أمراء البيت الحرام"، وسلك موطئ قدمه حذو النعل بالنعل؛ بلا تاًمل ولا تدبر، ولا شك أن الله تعالى يجمع الكل يوم القيامة، ثم ينبئهم بما كانوا يعملون".
قال ناصر الدين: " وقبيح بمؤلف يملأ كتابه بالافتراء والتعدي، وفي قصه الإفك أعظم رادع لمن كان يؤمن بالله ورسوله ويطلب النجاة لنفسه فيحاسبها خاليا { 'خûur?ِ/ن3إ،àےRr&? ?ںxsùr&?tbrçژإاِ7è??اثتب } (2) ومهما تملق المتملقون، واستتر المراءون؛ فإن الله لا تخفى عليه خافية، ولا بد أن يشف الباطل عن الحق، فيظهر ناصعا واضحا، وإليك جملا من
كلام صاحب الرسالة تدل على افترائه بما ادعاه".
إلى أن قال: "ومن طبعه الوقوع في أعراض الناس، يرى لذلك لذة، ولا يحلو في ذوقه إلا الغيبة والنميمة واتباع الهوى".
ثم نقل عنه قوله عن محمد بن سعود أمير الدرعية بلاد مسيلمة؛ فقال ناصر الدين له: "هب أننا سلمنا أنها بلاد مسيلمة؛ فما الذي تراه من ذمها؟! أليست مصر كانت بلاد فرعون وهامان وقارون، وما الإسكندرية إلا من بعض بلاد مصر؟! أليست بابل كانت بلاد نمرود؟! أليست مكة كانت موطن أبي جهل وأبي لهب وأضرابهما؟! أليست فلسطين كانت بلاد قوم لوط؟! هل ضر هذه البلاد شيء من ذلك، أم هل تناقص قدرها؟! ألم تعلم أن أول من أسس هذا القياس من أخبر الله عنه أنه قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)؟ وما أخالك يا رعاك الله إلا أنك بعد هذا تتبع الحق وتحسن النظر في القضية.
__________
(1) سورة الزمر آية : 31.
(2) سورة الذاريات آية : 21.(1/319)
وقال ناصر الدين عن صاحب الرسالة : "إنه قال عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وممن أخذ عنهم الشيخ محمد حياة السندي والشيخ محمد بن سليمان الكردي، وكانا يتفرسان فيه الإلحاد، ويحذران الناس دسائسه".
فقال ناصر الدين: "أقول: لو أنصف؛ لعلم أنه يطعن في هذين العالمين، وذلك أن كلا منهما أجاز ابن عبد الوهاب بإجازة مطولة، وأجاز له أيضا الشيخ عبد الله بن إبراهيم نزيل المدينة والمشهور بها؛ كما ذكره صاحب "كتاب التوضيح عن توحيد الخلاق"، وأخذ أيضا عن
الشيخ إسماعيل العجلوني محدث الديار الشامية، والشيخ علي أفندي الداغستاني، وكلهم أجاز له؛ فكيف يتفرسان فيه الإلحاد ويجيزانه ويمدحانه في إجازاتهما؟! وهل هذا إلا مكابرة؟! إلى غير ذلك مما افتراه من غير دليل ولا ثبت، سوى سوء الظن بذلك الرجل، فالله يلهمنا رشدنا ويهدينا سواء السبيل".
وقال ناصر الدين: "ادعى ذلك الكاتب أنه يتعجب من شرذمة تروج في دمشق العقيدة الفاسدة والآراء المضللة..." إلخ.
فقال ناصر الدين: "يا لله العجب! هل من يدعو إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإلى عقيدة السلف يعد ضالا مضلا؟! والذي يدعو إلى الترهات يعد صالحا؟! على رسلك! تمهل! وانظر ما كان عليه السلف الصالح والأئمة المجتهدون من الاعتقاد، وتأمل مقالات أبي الحسن الأشعري في "الإبانة"، وعقيدة الإمام الطحاوي، وما قاله الإمام البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات"، وما قاله الإمام الذهبي وغيرهم من أساطين العلماء في التوحيد، ثم ارجع إلى نفسك، وقل ما شئت، وتأمل أيضا ما قاله علماء المذاهب الأربعة الموثوق بهم فيما الناس عليه من البدع، ثم احكم بما شئت، ألم يأتك والأنباء +تنمى ما قاله الإمام الشاطبي وابن الحاج في "المدخل" وأبو شامة في كتابه "الباعث" وابن وضاح وغيرهم من الأئمة، فإن كنت تعد أمثال هؤلاء وهابية؛ فيا برد الذي قالت على كبدي".
وهكذا يمضي حتى أجهز على نفحته التي ليست بزكية بنفخة أطارتها.(1/320)
وكذلك الرسالة الثانية، والتي عنوانها "نظرة في رسالة النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية"، مؤلفها أبو اليسار الدمشقي الميداني؛ قال:
"إن صاحب هذه النفحة تناول في ذمه النجديين والشاميين، وآذى في سبه وشتمه الأحياء والأموات، وجعل في طليعة نفحته ترجمة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ما أظن أن أحدا ممن رزق حظا من التحقيق والمعرفة بحال المترجم وجانبا من الإنصاف يرضى عنها، لا سيما إذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى".
وقال: "لا أحب أن أخوض معه فيما كتبه عن الوهابيين ومن يتهمه بالانتساب إليهم من الدمشقيين؛ فإن السب لا يعمد إليه إلا عاجز أو صاحب هوى".
ثم نقل عنه قوله: "فوا خجلتاه كيف يروق للشرذمة المنتسبة إليهم الموجودة في دمشق المتصفة بالتمدن والحضارة أن تكون تابعة لسكان البوادي وتفتتن بعقائدهم البديهية البطلان، مع أن فيهم من ينتسب إلى العلم ويدعي الفهم".
إلى أن قال: "كيف افتتنوا بتلك الترهات، وانخدعوا بالمموهات، ونهضوا يروجون تلك العقائد الزائفة والأضاليل الباطلة، ويبثون في أفكار العوام هذا المذهب الذي أطبقت عقلاء الأمة على فساده؟!" اهـ.
قال أبو اليسار: " أقول: هذه جمل من عباراته العالية وآدابه
السامية في وصف إخوانه الدمشقيين - دع النجديين وما وصفهم به -، عرضناها على القارئ الكريم، ليعرف بها مبلغه من الأدب، ودرجته من الحرص على جمع الكلمة والتأليف بين المسلمين في هذا اليوم الأيوم.
وقد نقل لنا غير واحد عن هذا الرجل أنه صار في درسه يذم بعض علماء دمشق وغيرهم من أموات وأحياء، ويصرح بأسمائهم وأسماء بعض محلاتهم وأحيائهم، وينفر ممن أخذ العلم عنهم أو سمع شيئا منهم".(1/321)
إلى أن قال: "ثم ليت شعري، كيف يتهم الفئة الدمشقية بالانتساب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجماعته، ثم يقول بعد: وقد سألت رجلا منهم (يعني: الدمشقيين) عن مذهبه يوما: أشافعي أو حنفي؟ فأجابني باًنه أثري؛ يعني: لا ينتسب إلى أحد من المجتهدين رضي الله عنهم اهـ.
فإذا كنت تفسر قوله بأنه أثري بعدم الانتساب إلى أحد من الأئمة المجتهدين أنفسهم رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، فكيف تنسبه إلى رجل من أتباع أحمد بن حنبل، وهو محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى؟! وكيف يمكنك أن تطابق بين الدعوى والدليل؟!
ثم كيف جاز لك أن تملأ رسالتك من دعوى أن الوهابيين قاطبة يكفروننا ويزعمون أنا مشركون، وها نحن أولا نراهم في مساجدنا يصلون خلف أئمتنا مقتدين بهم، ولا تكاد تدخل مسجدا من المساجد
وقت الصلاة، إلا وتجد بعضهم يؤدي الصلاة فيه مؤتمأ بإمامه؟! فإذا كانوا يرموننا بالشرك كما زعمت، فكيف يقتدون بنا ويصلون معنا؟!
وهب أنه كان التطرف والرمي بالشرك والكفر من بعض جهالهم وغلاتهم؛ فهل يصح أن يؤخذ الكل بذنب البعض، ألم يقل تعالى: { ںwur?â'ج"s??×ou'خ-#ur?u'ّ-حr?3"tچ÷zé&? } (1) ؟! وهل يمكنك أن تبرئ جهالنا وغلاتنا من مثل هذا التطرف؟! ولم لا تنصح لعوامنا وتندد بهم وتزجرهم عن تكفير غيرهم كما فعلت بأولئك؟!
ثم ما معنى قوله: "كيف يروق للشرذمة المنتسبة إليهم الموجودة في دمشق المتصفة بالتمدن والحضارة أن تكون تابعة لسكان البوادي"؟! أي مدخل للتمدن والحضارة فيما نحن فيه؟! أليس الكلام في التوحيد وما دخله من البدع؟! أليست العقائد والعبادات من الدين الذي أكمله الله تعالى على يد رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟! أليس مبنى الدين على الاتباع المحض؟! هل يجوز فيه التغيير والتبديل والزيادة والنقصان؟! ما معنى التمدن والحضارة في هذا المقام؟!
__________
(1) سورة الأنعام آية : 164.(1/322)
ثم أي تمدن وحضارة تعني؟! إن كنت تعني مدنيتنا وحضارتنا في هذا الزمان؛ فالجواب أنا لا نرى أثرا لهذه المدنية بيننا، لا في اختراع، ولا في صناعة، ولا زراعة، ولا تجارة لِلَّهِ وإن كنت تريد مدنية أسلافنا؛ فلا يحق لنا أن نفتخر بها ونحن قد أضعناها.
ولقد تذكرت أن أحد الأوربيين كان يذكر لأحد أفاضل المسلمين ما انتهت إليه أوروبا من البسطة في العلم، والسعة في
الملك، والاختراع في الفن، ويباهي بذلك. فقال له المسلم: لنا الفخر، لأن هذا الرقي قد أخذتموه عن أساتذتكم العرب، وهم آباؤنا فأجابه الأوربي: لا حق لكم بهذا الفخر، ونحن أحق به منكم؛ لأنا أخذنا علوم سلفكم ونشرناها فكنا بعلمهم عاملين، أما أنتم؛ فقد أضعتموها، وكنتم لها عاقين".
قال أبو اليسار: " وإن كنت ترى المدنية في الافتتان باللباس والتفنن بالطعام والشراب والاستكثار من الوظائف والمرتبات من أجل ذلك؛ فهذا أقبح ما سرى إلى صنف العلماء من الأمور الذميمة، وصدهم عن تخريج الطلاب في العلوم والأدب، وتصنيف الكتب، وإحياء العلوم".
إلى أن قال: "وإن عند كثير من علمائنا الأغنياء من العلم والمال ما يستطيعون أن يخدموا به كثيرا من الطلاب، فلو كانت هممهم متوجهة لإحياء العلوم الشرعية والعربية، لقاموا بهذه الوظيفة المقدسة حق القيام، وإذًا لازدهرت هاتيك العلوم في هذه الديار أيما ازدهار، وأنك لتجد بعض الشبان والكهول من المشتغلين المجدين الذين قضوا شطرا كبيرا من حياتهم في الجمع بين المعقول والمنقول والتدقيق في الفروع والأصول يفتشون عن وظيفة علمية تسند إليهم، لينفعوا بعلمهم، ويستزيدوا منه، ويتمرنوا على العمل، وليستعينوا بالمرتب على أمر معيشتهم؛ فلا يجدون إلى ذلك سبيلا، ولا من أحد من أهل العلم مساعدة، ولو بالتخلي عن وظيفة ومرتب زائدين عن حاجتهم، فيضطرون هناك إلى الاشتغال بما يقيهم ذل السؤال، والأمر(1/323)
لله، وقد كان الواجب يتقاضى ممن يزعم الغيرة على الدين وأهله، ويدعي أنه من حماته ودعاته؛ أن يساعدهم بكل ما يمكن؛ رحمة بهم وبمئات الطلاب التي كان يمكن أن تحصل عندهم وتخرج على أيديهم.
من ذا الذي يخدم الدين للدين والعلم للعلم خدمة خالصة من كل شائبة، لا يتقاضى عليها أجرا وليس له في مقابلها شيء؟! ألا ليت أصحاب الوظائف الموكول إليهم أمرها يقومون بها ويوفونها حقها كيلا يأكلوا أجورها من دون عمل وهي لم توقف أو تخصص إلا لمن عمل".
تم يقارن أبو اليسار بين الفريقين، فيقول:
"حالنا وحال النجديين: إذا أردنا أن نقابل بيننا معشر أهل التمدن والحضارة وبين سكان البوادي النجديين الذين تزعم وتوازن بين سخائنا على نشر العلم وسخائهم وغيرتنا على الدين وغيرتهم، وكانت حالنا ما قدمنا، ورأينا كثيرا من كتب العلم الديني قد طبعها تجارهم، وجعلوها وقفا لله تعالى، ووزعوا الألوف منها على المسلمين في عامة الأقطار، سواء في ذلك أهل البوادي وسكان المدن والأمصار، ولا يزالون دائبين على طبع الكتب النفيسة، حريصين على نشرها مجانا، يخرجون بها الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة، ولم تكن تلك الكتب من تأليف أهل نجد فحسب، بل معها كتب أئمتنا وأجلائنا الدمشقيين وغيرهم، كابن تيمية وابن القيم وابن قدامة، وهم يطبعونها ويوزعونها على المسلمين، لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا، فأي المدنيتين قد عم خيرها وظهر أثرها وحق أن يفخر بها أهلها،
المدنية التي أفسدت عليها ديننا ومروءتنا وسلبتنا جل أوصافنا الحميدة وأكسبتنا أخلاقا ذميمة كالبخل والكذب والكبر والبذخ والرياء وتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، أم تلك المدنية الفطرية التي لم تشبها شائبة الفساد؟! بربك أنصف ثم احكم".
وهكذا حتى انتهى منها، فوقع الحق وبطل ما كانوا يأفكون.(1/324)
وقد نقلت ما نقلت من هاتين الرسالتين لأبين كيف يعاني أصحاب العقيدة السليمة؛ عقيدة السلف الصالح، وكيف يعاني من تأثر بالحق والتزمه؛ حيث لا سلطان له، وكيف يتكلمون بالحق وليس معهم سيف، ولكن الله يؤيدهم بلطفه، وييسر لهم من ينصرهم كما نصر الذين من قبلهم، ويستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم.
وقد كتب الإمام الملك عبد العزيز كما ذكرنا في الفصل الرابع لهما كتابا يحمد الله فيه إليهما على ما مَنَّ به عليهما من معرفة الحق والبصيرة فيه، ومعه هدية هي مجموعة "الهدية السنية"، التي جمعها الشيخ سليمان بن سحمان، ويوصيهما بلزوم الحق والاستمرار والصبر عليه، ويؤيدهما، ويدعو لهما، ويشكرهما على ذلك، وتقدم إيرادنا نص رسالته(1).
وفي مقدمة هذه المجموعة التي كتبها الشيخ سليمان بن سحمان يقول بعد البسملة والثناء على الله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) انظر: (2/ 312) من هذا البحث.(1/325)
"أما بعد؛ فقد وقفت على ما كتبه العالمان الجليلان التقيان المنصفان الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري نزيل دمشق، والشيخ أبو اليسار الدمشقي الميداني على ما افتراه... الإسكندراني، مما لفقه من الأكاذيب الشنيعة والمفتريات الواهية الوضيعة، أو تلقاه عن جميل أفندي البغدادي(1) وقد اعتمد هذا وغيره في كل ما افتروه على ما لفقه إمام ضلالتهم أو بدعتهم أحمد بن زيني دحلان(2) من الخرافات والخزعبلات التي لا تصغي إليها إلا القلوب المقفلات: { `yJsùr&?tûةiïم-?¼çms9?âن qك™?¾د&خ#uHxه?çn#uنtچsù?$YZ|،ym? ?¨bخ*sù?©!$#?'@إزمƒ?`tB?âن!$t±o"?"د‰ِku‰ur?`tB?âن!$t±o"? ?ںxsù?َ=ydُs??y7ف،ّےtR?ِNحkِژn=tم?BN؛uژy£ym? ?¨bخ)?©!$#?7Lىخ=tو?$yJخ/?tbqمèoYَءtƒ?ارب } (3).
وقوله تعالى: { #سxَِءtGد9ur?دmّٹs9خ)?نoy‰د"ّùr&?tûïد%©!$#?ںw?ڑcqمZدB÷sمƒ?حotچإzFy$$خ/?çnِq|ت÷ژzچد9ur?(#qèùخژtIّ)uد9ur?$tB?Nèd?ڑcqèùخژtIّ)oB?اتتجب } (4).
__________
(1) قال محمد رشيد رضا: "هو جميل الزهاوي المتفلسف الذي طعن في الشريعة بأشد مما طعن في المستمسكين بعروتها من أهل نجد، وقد نشر طعنه وإنكاره لتعدد الزوجات وقسمة الميراث في الإسلام في "جريدة المؤيد المصرية"، فكفره بها العلماء الكثيرون".
(2) قال محمد رشيد: "هو الذي كان مفتيا في مكة في زمن ظهور الدعوة، وكتب ما كلفه كتابته سادته وموظفوه من الأمراء والحكام من غير تبين ولا تثبت فيما جاء به أولئك الفساق الطغام".
(3) سورة فاطر آية : 8.
(4) سورة الأنعام آية : 113.(1/326)
فلما تصدر وانتصب هذا الرجل لعداوة أهل الإسلام أتباع الملة الحنيفية والطريقة المحمدية، وشرق بهذا الدين الذي منَّ الله به على إخواننا الدمشقيين، لما تبين لهم حقيقة ما عليه أهل الإسلام الموحدين من أهل نجد المشهورين بالوهابية، وأنهم كانوا على ما كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها من إخلاص العبادة لله رب العالمين، وترك عبادة ما سواه مما كان عليه أهل الكفر والشرك برب العالمين، وإنكار البدع المحدثة في الدين، وكتب ردا على الوهابية المستمسكين بالطريقة المحمدية والملة الحنيفية، ورماهم بما هم بريئون منه من هذه الأكاذيب والأوضاع، التي تمجها الطباع، وتستك عند سماعها الأسماع، وبئس ما انتحله من الأكاذيب والأوضاع الوبية، وقد تبع فيها أقوال قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل، رد عليه هذان العالمان الجليلان، وغارا لله وللمسلمين من تلفيق أهل الكذب والبهتان، فأزالا بما كتباه من الرد عن القلوب صداها، وأماطا به عن العيون قذاها، فجزاهما الله عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، فلما قرأناها وتأملناها، علمنا وتحققنا أن في الزوايا خبايا، وأنه قد بقي من فحول الرجال بقايا، فلله الحمد وله الشكر والمنة.
ثم اعلموا أيها الإخوان أنا على ما كان عليه أئمتنا أهل الإسلام، والعلماء الأئمة الأعلام، الذين ينفون عن كتاب الله وسنة رسوله تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين؛ كشيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن(1/327)
عبد السلام بن تيمية الحراني، وتلميذه شمس الدين محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية)، والحافظ الذهبي الشافعي، والعماد بن كثير الشافعي، ومحمد بن جرير الطبري، والحافظ الإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي(1) وغيرهم من علماء أهل الإسلام، الذين هم القدوة، وبهم الأسوة، وقد كان لهم قدم صدق في العالمين، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
وقد سلك شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على طريقهم، وسار على منهاجهم وأثرهم في الدعوة إلى الله وإقامة حججه وبيناته، وساعده على ذلك أئمة أهل الإسلام من آل سعود رحمهم الله، فنصروه، وآووه، وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى ظهر دين الله، وانتشر في البلاد والعباد، فله الحمد، وله الشكر.
ثم إنا لما تحققنا ما أنتما عليه من الحق والتحقيق وسلوك طريقة أهل الهداية والتوفيق؛ أحببنا أن نهدي إليكما، ونخبركما بما كنا عليه من المعتقد، وما ندين الله به، وما كان عليه أئمتنا من مشايخ أهل الإسلام، وما قالوه وما قلناه في ذلك نظما ونثرا، والله المسئول المرجو الإجابة أن يسلك بنا وبكما وإخواننا الموحدين طريق الإصابة، وأن يجزل لنا ولكما الأجر والإثابة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وإليكما وإلى جميع إخواننا المسلمين ما نهديه ونرفعه؛ ليعلم حقيقة ما كنا عليه
بعد علم اليقين عين اليقين"(2) انتهى.
فما من شك ولا ريب أن هذا النشر والبيان لعقيدة الشيخ وأنصاره له أثر كبير في نشر عقيدة السلف الصالح في الشام، وتمكين الله أنصارها في الأرض، ونصرهم لما نصروا دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) قال محمد رشيد رضا: "إنما خص هؤلاء بالذكر لما في كتبهم المتداولة من النصوص الواضحة".
(2) "الهدية السنية والتحفة النجدية لجميع إخواننا الموحدين من أهل الملة الحنيفية والطريقة المحمدية" جمع الشيخ سليمان بن سحمان (ص 6 - 8).(1/328)
ونجد من علماء الشام الشيخ محمد بهجة البيطار، الذي عينه الملك عبد العزيز رحمه الله مديرا لدار التوحيد بالطائف أول ما أنشئت، ومن مؤلفاته كتاب "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، محاضرات ومقالات ودراسات"، ونشره المكتب الإسلامي بدمشق عام 1380 هـ، ويرد في هذا الكتاب على ألفريد غيوم في كتابه "الإسلام" ترجمة محمد مصطفى هدارة والدكتور شوقي اليماني السكري، الطبعة الأولى سنة 1958 م بالقاهرة.
ومن رده عليه رده ما جاء في (ص 100) من كتابه، وهو قوله: (في المملكة الوهابية؛ حيث يسود المذهب الوهابي" قال محمد بهجة البيطار: "الجواب: ليس للوهابية ولا للإمام محمد بن عبد الوهاب مذهب خاص، ولكنه رحمه الله كان مجددا لدعوة الإسلام، ومتبعا لمذهب أحمد بن محمد بن حنبل"(1).
هذا وللمكتب الإسلامي في دمشق وبيروت نشاط ملموس في
طبع ونشر مؤلفات الشيخ وسائر مؤلفات السلف الصالح.
ومن تعليق للأمير شكيب أرسلان من أهل الشام على الوهابية - على حد تعبيره- نقتطف من قوله ما نصه: "ولكن المقرر أنها حركة إنابة إلى العقيدة الحق وهدي السلف الصالح، واقتفاء أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، ونبذ الخرافات والبدع، وحظر الاستغاثة بغير الله، ومنع التمسح بالقبور والتعبد عند مقامات الأولياء، ولذلك يسمونها عقيدة السلف، ويلقب الوهابيون أنفسهم سلفيين، وأكثر اعتمادهم في الاجتهاد على الإمام أحمد بن حنبل، والإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية(2). اهـ.
__________
(1) "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" بقلم محمد بهجة البيطار (ص 200).
(2) هامش "حاضر العالم الإسلامي" (ج 1، ص 264).(1/329)
وشكيب أرسلان عضو من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وكانت له صلة وثيقة بمحمد رشيد رضا، وقد قابل الملك عبد العزيز أثناء رحلته إلى الحجاز سنة 1354 هـ(1) وقال:
"لله در الملك ابن سعود؛ يقول: ما أخشى على المسلمين إلا من المسلمين، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين، وهو كلام أصاب كبد الصواب؛ فإنه ما من فتح فتحه الأجانب من بلاد المسلمين؛ إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي ناس من المسلمين، منهم من تجسس للأجانب على قومه، ومنهم من بث لهم الدعاية بين
قومه، ومنهم من سل لهم السيف في وجه قومه، وأسال في خدمتهم دم قومه".
وقال محمد رشيد رضا مضيفا إلى ما نقله شكيب أرسلان عن الملك عبد العزيز من كلام صائب؛ أنه في حفل حافل بحجاج الأقطار، وقد طالب مصري أزهري الملك عبد العزيز بمحاربة الإنكليز والفرنسيين المعتدين على المسلمين، ذاكرا عداوتهم لهم، فقال الملك عبد العزيز: "الإنكليز والفرنسيين معذورون إذا عادونا؛ لأنه لا يجمعنا بهم جنس ولا دين ولا لغة ولا مصلحة، ولكن المصيبة التي لا عذر لأحد فيها أن المسلمين أصبحوا أعداء أنفسهم، وأنا والله لا أخاف الأجانب، وإنما أخاف من المسلمين، فلو حاربت الإنكليز، لما حاربوني إلا بجيش من المسلمين(2).
وهذا محمد كرد علي من أهل الشام في كتابه "القديم والحديث" منتقيات من مقالاته، وهو عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق يقول:
__________
(1) انظر: "الأعلام" للزركلي (ج 3، ص 173 - 175)، وانظر كتابه: "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم" تأليف الأمير شكيب أرسلان (مقدمة، ص 25 - 27).
(2) انظر كتاب "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم" تأليف الأمير شكيب أرسلان (ص 63).(1/330)
"وما ابن عبد الوهاب إلا داعية، هداهم من الضلال، وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم؛ فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعبا من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين
طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوة، وما يتهمهم به أعداؤهم؛ فزور لا أصل له"(1).
أثرها في بلدان الخليج العربي
نجد في قطر أن حكامه آل ثاني كانوا يسهمون إسهاما كبيرا في طبع مؤلفات علماء السلف الصالح، ولا تنكر صلتهم الوثيقة بأنصار عقيدة الشيخ من قديم، وكان في قطر من العلماء الذين يحملون عقيدة سلفية سليمة ولهم دور لا ينكر في ذلك الأثر الحميد؛ كالشيخ محمد ابن عبد العزيز بن مانع، الذي كان مديرا عاما للمعارف في المملكة العربية السعودية، ثم طلبه أخيرا حكام قطر ليستفيدوا من علمه، ويشير عليهم بما كانوا متقبلين له من نصر لعقيدة السلف الصالح، ونشر لكتبهم؛ ك"مجموعة التوحيد النجدية" وكتب فقه الحنابلة وغيرهم.
وأخيرا، يخرج إلينا كتاب للشيخ أحمد بن حجر بن محمد آل بوطامي قاضي المحكمة الشرعية بقطر، قدم له وصححه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وأمر بطبعه الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1395 هـ، وهو عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه، وهو كتاب علمي جيد، من أجود ما كتب في هذا الموضوع، قال في مقدمته:
"إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي الداعي إلى توحيد
__________
(1) نقلا عن كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي (ص 96)، وانظر "الأعلام" للزركلي (ج 6، ص 202 - 203).(1/331)
الله تعالى من المجددين العدول والمصلحين المخلصين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - وقام بنبذ البدع والمعاصي وعبادة الأولياء والصلحاء والأشجار والغيران، ويأمر بإقامة شرائع الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة، ومع ذلك؛ فالناس لا زالوا من عصره إلى اليوم بين مادح وقادح".
ثم يبين أن السبب في القدح هو دعاية الأتراك وأشراف مكة في ما مضى ضد ما قام به الشيخ وأنصاره، والتي نالت رواجا وانتشارا في الأقطار الإسلامية، وتأثر بها الأكثرون، بالإضافة إلى كتب ألفها بعض أدعياء العلم؛ ينقدون عقيدة الشيخ وأنصاره بما لفق عليها من غير تثبت، وراجت الدعاية لدى الجمهور، وظنوا أنها صحيحة.
وقد جهل أولئك المؤلفون أو تجاهلوا أن الواجب على الشخص - ولا سيما من انتسب إلى العلم - أن لا يقبل كل ما يقال عن شخص أو مذهب أو طائفة حتى يثبت لديه بأنه يسمع من ذلك المنسوب إليه ما أذيع عنه، أو يقرأ كتابه ويتأكد من صحة نسبة الكتاب إليه، وهكذا القول فيما سمعه عن مذهب أو طائفة.
ثم يقول الشيخ أحمد بن حجر: "أما في هذا العصر؛ فقد خفت وطأة تلك الدعاية السيئة، وعرف كثير من العقلاء في سائر الأقطار والبلدان حقيقة دعوة الشيخ وصحتها، وذلك بفضل انتشار العلم والوعي في العالم، وبفضل ما اتصفت واشتهرت به الدولة السعودية من التوحيد، وتحكيم الشرع المبين، وإقامة شعائر الإسلام، وإقامة(1/332)
الحدود الشرعية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونشر العدل والأمان، وتمسكها بالسنة الصحيحة والقرآن ومحاربة أهل البدع، والاهتمام بالعلم والتعليم، ونشر المدارس والمعاهد والكليات في سائر أرجاء المملكة العربية السعودية، وفتح الأبواب للطلاب الوافدين من مختلف البلدان، وإعانتهم بالوسائل النافعة الكافية، كما اشتهرت بالكرم والبذل لجميع الوافدين إليها، من غير فرق بين مذهب وبلد وعنصر".
ثم قال الشيخ أحمد: " وبالرغم مما قلنا من انتشار الوعي واتصاف الدولة العربية السعودية بتلك الصفات الكريمة، لا زال كثير من المنتسبين إلى العلم- فضلا عن العوام- يزعمون أن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله لم يكن على الصواب، وأن الفئة الوهابية تكفر المسلمين، ولا ترى للأنبياء مقاما ولا احتراما ولا شفاعة، كما لا تحترم الأولياء والصالحين، ولا ترى زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره... إلى غير ذلك من الأقاويل الزائفة التي لا تعتمد على الوراثة والسماع عن الماضين الجاهلين والاغترار ببعض كتب المخرفين".
قال: "فمن أجل ذلك؛ رأيت أن أكتب في سيرة الشيخ المجدد لما اندرس من معالم الإيمان والإسلام وعقيدته ودعوته الإصلاحية مؤلفا وسطا، اعتمدت فيه على ما ذكر المؤرخون لنجد، كابن غنام، وابن بشر، والآلوسي، والريحاني، وغيرهم ممن ذكر الشيخ ودعوته في ثنايا كتبهم، كما اعتمدت على بعض رسائل إمام الدعوة وأبنائه وأحفاده، وسأختمه إن شاء الله بثناء العلماء الراسخين وبعض
المؤرخين المحققين من المسلمين والغربيين على ذلك الإمام الجليل، الذي شغل عصره وبعده بعلومه وآرائه وإصلاحه ودعوته المقيدة بالكتاب والسنة، والذي دوى صوته بعلومه ودعوته في نجد وفي الخارج، وجادل وناضل بقوة جنانه وفصاحة لسانه وواضح برهانه(1).
__________
(1) "الشيخ محمد بن عبد الوهاب ..." بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي (ص 10 - 13).(1/333)
وللشيخ محمد بن حسن المرزوقي القطري رد على النبهاني في تهجمه على شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد رشيد رضا وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب(1).
أما عن أثرها في البحرين
فننقل قصة طريفة جرت إبان نكبة الدرعية والتجاء بعض علماء الدعوة إلى البحرين وإلى عمان وغيرهما.
قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب" تأليف الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر في قصة تأليف الكتاب المذكور ما ملخصه: إن الإنكليز أرسلوا مندوبا إلى البحرين من القسس ليعمل على بث الدعاية النصرانية وشكوكها لفتنة الناس في البحرين عن دينهم؛ كما
هي سياسة أعداء الإسلام من الصليبيين في الشرق الإسلامي كله، فقام ذلك القسيس بتأليف كتاب ضمنه شبهاتهم حول الإسلام، ودفعه إلى أمير البحرين عبد الله بن خليفة، وطلب منه أن يعرضه على المشايخ ليقولوا رأيهم، فرد عليه الشيخ عبد العزيز بن حمد آل معمر بكتابه "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب"، ودفعه إلى أمير البحرين، ففرح به الأمير أشد الفرح، ودعا القنصل الإنكليزي القسيس، وأعطاه الرد؛ فاندهش جدا؛ لأنه كان يظن عجز علماء البحرين، ثم قال: "هذا الرد لا يكون من هنا، وإنما هو من البحر النجدي(2).
ولعل ما نقلناه فيما تقدم يبين لنا مدى أثر عقيدة الشيخ السلفية في نشر الحق والعمل به، واتباع السلف الصالح في منهجهم الإصلاحي، والحكم بعدل وإنصاف على عقيدة الشيخ السلفية في تلك الربوع الخليجية وغيرها.
أثرها في العراق
__________
(1) ترجمة الألوسي في أول كتابه "غاية الأماني في الرد على النبهاني" بقلم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل (ص 11).
(2) انظر: "كتاب منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب" (الطبعة الثالثة، منشورات دار ثقيف بالطائف، ص 3 - 5).(1/334)
وإذا جاوزنا الخليح إلى العراق، فإننا نجد مدرسة أهل السنة والجماعة يتصدرها آل الألوسي أمثال العلامة نعمان خير الدين الألوسي والعلامة محمود شكري الألوسي.
أما نعمان خير الدين الألوسي الشهير بابن الألوسي البغدادي:
ولد سنة 1252 هـ، وولي القضاء في أماكن متعددة في العراق، ثم ترك المناصب، وزار مصر في طريقه إلى الحج، ثم الآستانة، ومكث سنين هناك، ثم عاد يحمل لقب رئيس المدرسين، فعكف على التدريس والتصنف، إلى أن توفي ببغداد سنة 1317 هـ، وله مؤلفات كثيرة، ويعنينا منها مؤلفه "شقائق النعمان في رد شقاشق ابن سليمان"، ويعني: داود بن سليمان بن جرجيس، وسيأتي طرف من خبره، وكذلك مؤلفه الآخر المشهور "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية وأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي"، وهو دفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية مما اتهمه به وتهجم به عليه أحمد بن حجر، وقد أقذع ابن حجر في السباب والشتم والمهاترة تجاه شيخ الإسلام من غير دليل ولا حجة، ولكن عمى البغي وصمم الهوى يدفعان صاحبهما إلى مجاوزة حدود أدنى العقول(1).
أما صاحبنا نعمان الألوسي؛ فكما قال فيه بهجت الأثري في كتاب "أعلام العراق": "كان عقله أكبر من علمه، وعلمه أبلغ من إنشائه، وانشاؤه أمتن من نظمه، وكان جوادا، وفيا، زاهدا، حلو المفاكهة، سمح الخلق"(2).
وقد انتهج في انتصاره لشيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة السلف الصالح أسلوب المناقشة في هدوء، وإقامة الدليل، وتوضيح
الحجة، وسطوع البرهان؛ بروح العالم الراسخ، والعاقل الثابت، وهذا منهج يرتضيه علماء السلف الصالح من أهل السنة والجماعة(3).
__________
(1) انظر: "جلاء العينين" (ص 16 - 37، وص 119) وغيرها.
(2) انظر: "الأعلام" للزركلي (الطبعة الرابعة، ج 8، ص 42)، و "معجم المؤلفين العراقيين" كوركيس عواد (ج 3، ص 399).
(3) انظر: مقدمة "جلاء العينين" للمدني (ص 2 - 6).(1/335)
وأما العلامة محمود شكري الألوسي أبو المعالي فهو ابن أخي نعمان خير الدين الذي تقدم ذكره، ولد سنة ثلاث وسبعين ومئتين وألف من الهجرة، أبوه عالم أديب وكاتب بارع، اسمه عبد الله بهاء الدين، وأما جده، فهو الإمام محمود شهاب الدين صاحب التصانيف المشهورة، وأشهرها "روح المعاني" في التفسير، وقد أخذ محمود شكري العلم عن أبيه، وتأثر به في حسن السمت، وصفاء الطوية، وحب الأدب والعلم، ولما توفي أبوه عام 1291 هـ؛ كفله عمه العلامة نعمان خير الدين الألوسي الذي سبق ذكره آنفا، ثم أخذ العلم من مشايخ بغداد، وجد واجتهد في مواصلة الدرس ومتابعة البحث، وكلف بالتاريخ والسيرة واللغة وزاول الكتابة، له الاطلاع الواسع، والمادة الغزيرة، والتحقيق النادر، والرأي الصائب، وتصدر للتدريس في داره، وفي جامع عادل خاتون، وعين مدرسا رسميا في جامع الحيدرية، ثم في جامع السيد سلطان علي، ثم عين مدرسا في مدرسة مرجان، وجعل رئيس المدرسين، ونفع الله به، وتخرج منها خلق كثير(1).
وله نشاط في إحياء الكتب الدينية ونشر مذهب السلف، وله اليد الطولى في إذاعتها ونشرها، وكان يرى أن مذهب السلف هو الواسطة
__________
(1) ترجمة مؤلف كتاب "غاية الأماني" بقلم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل (ص 7 - 8).(1/336)
الوحيدة لتحرير العقول من رق التعصب الذميم، ولم يكن يحب الفخر والظهور، وإنما يرمي إلى حصول الغرض من أي طريق، مباشر أو غير مباشر، وكان يحمل على أهل البدع في درسه وفي داره وفي المسجد، ويرد عليهم برسائل، فعاداه كثير من الناس، وسعوا به لدى والي بغداد عبد الوهاب باشا، فكتب عبد الوهاب إلى مرجعه السلطان عبد الحميد الثاني العثماني، فصدر الأمر بنفيه إلى بلاد الأناضول، فلما وصل إلى الموصل في سنة 1325 هـ، قام أعيانها، فمنعوه من تجاوزها، وكتبوا للسلطان يحتجون، فسمح له بالعودة إلى بغداد، فعاد إليها، وقد اتصل بالملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في نجد عام 1333 هـ، وبحث مع الملك بعض الشئون، ثم عاد مكرماً محترما، ولما كان في سنة 1342 هـ، توفي في العراق رحمه الله(1).
ولأصالتهم في عقيدة السلف الصالح؛ فإننا نجد عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية لديهم يحكيها العلامة أبو المعالي محمود شكري الألوسي في مؤلفه "تاريخ نجد"؛ فقد قال رحمه الله:
"اعلم أن أهل نجد كلهم مسلمون مؤحدون، بل وجميع سكنة جزيرة العرب، وقد دخلوا في الإسلام في العصر الأول عند ظهور أنوار الشريعة الغراء، وهم على عقائد السلف الصالح".
ثم ذكر اعتقادهم في الله تعالى، وذكر اعتقادهم في الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتقادهم في الآل والأصحاب، إلى أن قال:
"والحاصل أن مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة الجماعة، وأن طريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل الأحكم".
ثم ذكر: "وأنهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل نضر الله وجهه، ولا ينكرون على من قلد أحدا من الأئمة الأربعة، دون غيرهم؛ لعدم ضبط مذهب الغير، كالشيعة، والزيدية، والكرامية، ونحوهم...." إلى آخر ما حكاه في هذا الموضوع.
إلى أن قال:
?
__________
(1) انظر: ترجمته في كتاب "غاية الأماني" بقلم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل (ص 10 - 11).(1/337)
وأما ما يكذب عليهم سترا للحق وتلبيسا على الخلق؛ بأنهم يفسرون القرآن برأيهم، ويأخذون من الحديث ما وافق فهمهم من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ، وأنهم يضعون من رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ?وأنه ليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنهم لا يعتمدون أقوال العلماء، وأنهم يتلفون مؤلفات أهل المذاهب؛ لكون الحق والباطل فيها، وأنهم مجسمة، وأنهم يكفرون الناس على الإطلاق من بعد الست مئة إلى هذا الزمان؛ إلا من كان على ما هم عليه، وأنهم لا يقبلون بيعة أحد؛ إلا إذا أقر عليه أنه كان مشركا، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله، وأنهم ينهون عن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم يحرمون زيارة القبور المشروعة مطلقا، وأنهم لا يرون حقا لأهل البيت، وأنهم يجبرونهم على تزويج غير الكفء لهم... إلى غير ذلك من الافتراءات؛ فكل ذلك زور عليهم وبهتان وكذب محض من خصومهم أهل البدع والضلال، بل أقوالهم وأفعالهم وكتبهم(1/338)
على خلاف ذلك كله، فمن روى عنهم شيئا من ذلك أو نسبه إليهم؛ فقد كذب عليهم وافترى، ومن شاهد حالهم وحضر مجالسهم وتحقق ما عندهم؛ علم قطعا أن جميع ذلك وضعه عليهم وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين؛ تنفيرا للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله على أنه لا يغفره، وأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء؛ فإنهم يعتقدون أن من فعل أنواعا من الكبائر، كالقتل للمسلم بغير حق، والزنى، والربا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك؛ لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد في دار الانتقام إذا مات موحدا لله تعالى في جميع أنواع العبادة... والذي اعتقدوه في رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رتبته أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة مستقرة، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل؛ إذ هو - صلى الله عليه وسلم - أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام من يسلم عليه، وأنه تسن زيارته؛ غير أن لا تشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة؛ فلا بأس، ومن أنفق أنفس أوقاته بالصلاة عليه الواردة عنه؛ فقد فاز بسعادة الدارين، وكفي همه وغمه؛ كما جاء في الحديث، وأنهم لا ينكرون كرامات الأولياء، ويعترفون لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية؛ غير أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادة؛ لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلبون من أحدهم الدعاء في حال الحياة، بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث: " دعاء المرء مستجاب لأخيه " ويثبتون الشفاعة(1/339)
للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة حيثما ورد، وكذا سائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حيثما ورد أيضا، ويسألونها من الله تعالى المالك لها والآذان فيها لمن شاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، فإنهم يقولون متضرعين إلى الله تعالى: اللهم شفع نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فينا يوم القيامة أو عبادك الصالحين أو ملائكتك ونحو ذلك، ولا يلزم أن يكونوا مجسمة، وإن قالوا بالجهة، كما ورد الحديث بها، ويقولون فيمن مات: تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون، ولا يقولون بكفر من صحت ديانته واشتهر صلاحه وعلمه وورعه وزهده وحسنت سيرته وبالغ في نصح الأمة، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي المكي رحمه الله، فإنهم يعلمون كلامه في "الدر المنظم"، ولا ينكرون سعة علمه، ولهذا يعتبرون ما بقي من كتبه ك"شرح الأربعين" و "الزواجر" وغيرها، ويعتمدون على نقله.
هذا ما هم عليه، وقد كتبوا في ذلك عدة رسائل، خاطبوا بها من له عقل وعلم، وهو متصف بالإنصاف، خال من الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر ما يقال لا إلى من قال.
وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقا أو غير حق، مقلدا، فهو ممن قال: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق، فلا يخاطب هذا وأمثاله، فجنود التوحيد بحمد الله منصورة، وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة.(1/340)
وما كتبناه في هذا الحاصل هو مضمون رسالة كتبها أحد فضلاء علماء نجد، وهو الشيخ عبد الله ابن العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليهم الرحمة، وقد قرئت عند دخول الأمير سعود بن عبد العزيز في الحرمين الشريفين بمحضر علماء المذاهب الأربعة، وبمسمع منهم، فمن الواجب على طالب معرفة الحق وإدراك الحقائق أن لا يبادر بالإنكار قبل التبصر، ولا يحكم على شيء قبل الوقوف على حقيقة الحال؛ فالخطأ في ذلك عظيم.
فأول طالع فجر كذوب ... فلا تحكم بأول ما تراه
والقصد بما ذكرناه التنبيه على خطإ من نسب إلى القوم ما هم بريئون منه مما يخل بالديانة، حتى أساء الظن بقسم عظيم من الأمة العربية، وانطوى على بغضهم الذي هو من أعظم أسباب النفاق.
وغالب من أشاع ذلك هم أهل البدع والأهواء، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وكذبوا بأقوالهم وأفعالهم على الدين المبين، الذي هو بعيد عنهم بمراحل، وهم الدجالون الجالبون على الإسلام كل عار، وإلا، فأهل الإيمان هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه".
ثم ذكر مناظرة جرت بين عراقي ونجدي تحريرا، فقال: "هذه مناظرة اتفقت بين عالم عراقي من سكنة بغداد وبين فاضل كامل وعالم عامل من علماء نجد، كتب بها العراقي إلى العالم النجدي، فأجاب عنها بما سيأتي، ولكونها تزيد الحق وضوحا، والواقع بيانا، أدرجناها على سبيل التلخيص والاختصار، ليتجلى بها الحق المستور، ويرد بها الباطل المشهور، رجاء الفوز بثواب ذلك إن شاء الله تعالى".(1/341)
ثم ذكرها، ويقصد بالعراقي داود بن سليمان بن جرجيس صاحب "التلبيس"، والذي زار عنيزة، واتصل بالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في اثني عشر ستين ومئتين وألف، وحصلت منه تشبيهات، لينصر دعواه أن وقوع الشرك في الأمة المحمدية مستحيل، ويزعم أن دعاء غير الله طلبا للزلفى عند الله ليس شركا، ثم رد عليها الشيخ عبد الله المذكور بكتاب طبع سنة 1344 هـ بمطبعة الحلبي بعنوان: "كتاب تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن جرجيس"، استوفى مئة وعشرين صفحة، ثم طبع ملخصا بعنوان "الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين"، عني بنشره الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ، وكان طبعه بالمطبعة السلفية بالقاهرة، واستوفى تسعا وثلاثين صفحة، وقد رد عليه أيضا شيخ المسلمين ومفتي ديار نجد الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ، وكذلك ابنه الشيخ عبد اللطيف رد على داود هذا بمؤلف اسمه: "منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس".
والألوسي يعني بالعالم النجدي الشيخ عبد اللطيف؛ فإن من مؤلفاته تتمة ل "منهاج التأسيس" الذي ألفه الشيخ عبد اللطيف، وقد لخصها الشيخ الألوسي على شكل مناظرة، فيقول: "قال السائل العراقي"، ثم يورد قوله، وبعد نهايته يقول: "قال العالم النجدي"، ثم يورد جوابه وبيانه، حتى أتى على شبهات الخصوم أعداء التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ثم ذكر الألوسي طرفا من معتقد المغالين في
القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين المخالف لدين المرسلين، ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن؛ لئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم: تشفعا وتوسلا واستظهارا، مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق، ثم أخذ يبين ذلك.(1/342)
ولما انتهى من البيان؛ أخذ يقص شيئا من سيرة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، ويذكر طرفا من أخباره وأحواله؛ ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره؛ فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغواه وبالغ في كفره واستهواه.
ثم مضى في ذلك يقرر الحق، ويبين الرشد، ويقارن أقوال الشيخ بأقوال من سلف من علماء المسلمين وأئمتهم المهديين، ونقل عبارة أبي الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" في نقله جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة إلى نهايتها، وهي قوله:
"فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل"، وانتهى الألوسي من بحثه هذه المسألة عند ذلك(1).
هذا وللآلوسي رحمه الله مؤلف جيد في نقض شبه المخالفين للرسل والسالكين غير منهج السلف الصالح من المسلمين والمؤمنين،
هذا المؤلف هو "غاية الأماني في الرد على النبهاني"، وكان قد ألفه ولم يصرح بذكر اسمه عليه، ولكنه كنى عنه بأبي المعالي الحسيني، وزاد عليها: السلامي الشافعي، لئلا يتضح اسمه، خوفا على نفسه.
ويقول محمد رشيد رضا في تقريظه: "غاية الأماني في الرد على النبهاني" كتاب مؤلف من سفرين كبيرين لأحد علماء العراق الأعلام، المكنى بأبي المعالي الحسيني السلامي الشافعي، رد فيها ما جاء به النبهاني في كتابه "شواهد الحق" من الجهالات والنقول الكاذبة والآراء السخيفة والدلائل المقلوبة في جواز الاستغاثة بغير الله تعالى، وما تعدى به طوره في سب أئمة العلم وأنصار السنة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية...".
__________
(1) انظر: "تاريخ نجد" للألوسي (ص 40 - 87).(1/343)
إلى أن قال: "وفي هذا الكتاب ما لا أحصيه من الفوائد العلمية، في التوحيد، والحديث، والتفسير، والفقه، والتاريخ، والأدب، وما انفرد به بعض المشاهير فأنكره العلماء عليه؛ كالإنكار على الغزالي وابن عربي الحاتمي وغيرهما... فعلى هذا الكتاب نحيل الذين يكتبون إلينا في الشرق والغرب، يسألوننا أن نرد على النبهاني، وكذا من اغتروا بقوله ونقوله، وظنوا أن قولنا في الاعتذار عن عدم قراءة كتبه والرد عليها: إنه لا يوثق بعمله ولا نقله: هو من قبيل السب، وحاشا لله، ما هو إلا ما نعتقده فيه وفي كتبه، بعد النظر في بعضها، وروية ما فيها من الأحاديث الموضوعة، والنقول المكذوبة، والاستنباطات الباطلة، ممن جعل نفسه بالاستنباط مجتهدا، وهو ينكر
الاجتهاد، ويعترف بأنه ليس أهلا له"(1) انتهى كلام صاحب "المنار".
ولتأليفه هذا الكتاب دون أن يصرح باسمه عليه قصة ذكرها الشيخ محمد السبيل في ترجمته للآلوسي، فقال:
__________
(1) المنار 12، ص 785) نقلا عن ترجمة مؤلف كتاب "غاية الأماني في الرد على النبهاني" بقلم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل في نفس الكتاب (ج 1، ص 9 - 10).(1/344)
"عندما عزمت على كتابة هذه الترجمة؛ اتصلت بالعالم السلفي الشيخ محمد نصيف بجدة، والذي كان له مساهمة فعالة في سبب تأليف الكتاب وطبعته الأولى؛ فأفاد بما ملخصه: أنه عندما ظهر كتاب النبهاني المسمى "شواهد الحق"، وقرأه الشيخ محمد نصيف، ورأى ما فيه من التلفيق والتحريف الواهية، وتهجمه على المحققين من علماء السلف، وتجويزه دعاء الأموات والاستغاثة بهم وغير ذلك مما يخالف صريح الكتاب وصحيح السنة، عندما قرأه كتب للعالم العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي، يطلب منه أن يقوم بالرد على النبهاني، ويدحض أباطيله، وينتصر للحق وأهله، فلم يمض سنة، إلا وقد جاء الرد المسمى "غاية الأماني في الرد على النبهاني" للشيخ محمود الألوسي، واتفق الشيخ محمد نصيف والشيخ عبد القادر التلمساني (من تجار جدة المحسنين والعلماء السلفيين) على أن يقوما بطبعه وتكاليف الطبع بينهما نصفين، وكان الشيخ التلسماني آنذاك في مصر، فاتفقا أن يقوم بطبعه فرج زكي الكردي بمطبعته في مصر، فقام بطبعته الأولى، وقد وضع المؤلف على طرة الكتاب: "تأليف أبي(1/345)
المعالي الحسيني"، إشارة إلى كنيته ونسبه الحسيني، وزاد عليها السلامي الشافعي؛ لئلا يتضح اسمه خوفا على نفسه، وذلك أن العلماء السلفيين في ذلك العصر يخافون على أنفسهم في معارضة أهل البدع والخرافيين كالنبهاني وغيره، والسبب في ذلك أن السلطان عبد الحميد سلطان الدولة العثمانية قد قرب المشايخ من أهل الطرق من الصوفية أنصار البدع، فلذاك خاف السيد محمود شكري الألوسي من إظهار اسمه على طرة الكتاب، وكذلك صاحب المطبعة فرج الله زكي خاف على نفسه، ولم يذكر اسمه إلا رمزا (ف ج ز) ولا اسم مطبعته، ولا البلد التي فيها المطبعة، وكذلك الشيخ عبد القادر التلمساني والشيخ نصيف خافا على أنفسهما من نفس العلة؛ لأن السلطان عبد الحميد في ذلك الوقت له النفوذ في بغداد ومصر والحجاز، وهي البلدان التي فيها المؤلف والطابع والمطبعة، ولهذه المضايقات والخوف عندما تم طبع الكتاب لم يتمكنوا من توزيعه إلا عندما أخذت حكومة إسطنبول بالقوانين الوضعية الأوروبية، وأعلنت الدستور، وكان الدستور يقضي بحرية العقائد والأديان، فعند ذلك أرسلت حصة الشيخ محمد نصيف من الكتاب إليه في الحجاز، ووزعها، ووضع على كل نسخة وزعها اسم المؤلف بخط يده، وكذلك الشيخ عبد القادر وزع نسخه في مصر وغيرها، ثم إن الشيخ محمد نصيف عندما لم يخف من جراء إظهار الكتاب، أعلن في جرائد بيروت في ذلك الحين أن لديه كتابا في الرد على النبهاني للشيخ الألوسي اسمه "غاية الأماني في الرد على النبهاني"، ثم انبرى بعض
تلامذة النبهاني، وأعلن عن الرد، وحاول أن يحط من قدر الكتاب، ولكن كما قيل:
سواك تراها في مغيب ومطلع(1) ... وقل للعيون الرمد للشمس أعين
وله مؤلفات كثيرة منها غير ما تقدم في خدمة السنة:
__________
(1) ترجمة مؤلف كتاب "غاية الأماني" في نفس الكتاب (ج 1، ص 8 - 9).(1/346)
1- "الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى"، ألفه ردا على النبهاني لما شن الغارة في سب شيخ الإسلام ابن تيمية ورشيد رضا وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
2-"فتح المنان تتمة منهاج التأسيس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ".
3- "فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب"، طبع بعنوان "مسائل الجاهلية"(1).
وهذا في بغداد أحمد بن سعيد البغدادي، قال في كتابه "نديم الأديب"، كما نقله الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فقال:
إليك أيها القارئ نص كلام أحمد سعيد منقولا بتمامه من كتاب "نديم الأديب" (ص 11): وأما حقيقة هذه الطائفة؛ فإنها حنبلية
المذهب، وجميع ما ذكر المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف، وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليه بتأمل؛ لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الإفرنجية، فإن كان المؤرخ المنقول عنه صاحب دراية وصادق الرواية، تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ، فيضيع مزية الأصل، وإن كان المؤرخ غير صادق الرواية، فمن باب أولى، ومنهم من يقول: إن هذه الطائفة تنهى عن وصف النبي عليه الصلاة والسلام بأوصاف المدح والتعظيم، ويقول: إنها تؤمن بقدم القرآن، وبهذا يظهر بداهية التناقض؛ لأن من يؤمن بقدم القرآن يؤمن بما فيه، وفي القرآن الشريف مدح النبي عليه الصلاة والسلام؛ قال تعالى: { y7¯Rخ)ur?4'n?yès9?@,è=نz?5Oٹدàtم?احب } (2).
وقال تعالى: { ¨bخ)?©!$#?¼çmtGx6ح´¯"n=tBur?tbq=|ءمƒ?'n?tم?ؤcسة<¨Z9$#? ?$pkڑ‰r'¯"tƒ?ڑْïد%©!$#?(#qمZtB#uن?(#q=|¹?دmّn=tم?(#qكJدk=y™ur?$¸Jٹخ=َ،n@?اخدب } (3).
__________
(1) انظر: ترجمة مؤلف كتاب "غاية الأماني في الرد على النبهاني" في أول الكتاب المذكور بقلم محمد بن عبد الله السبيل (ص 10 - 11)، و "معجم المؤلفين العراقيين" تأليف كوكيس عواد (ص 274 - 275).
(2) سورة القلم آية : 4.
(3) سورة الأحزاب آية : 56.(1/347)
وآيات غير هذه كثيرة.
أما ما نهى عنه محمد بن عبد الوهاب؛ إنما هو الوصف بأوصاف الألوهية؛ كالقدرة، والإرادة، وعلم الغيب؛ كما وصف النصارى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام؛ فقد قال عليه
الصلاة والسلام: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "(1).
ومن أراد أن يعرف جليا اعتقاد هذه الطائفة؛ فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فإنه مذهبهم.
وأما سبب حرب صاحب مصر لهذه الطائفة؛ فقد ذكره المؤرخ الشهير الموسيو سيديو الفرنساوي، وكلامه هذا محذوف من ترجمة كتابه التي أمر بها المرحوم علي باشا مبارك، وخلاصة معناه هي أن إنكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود وبانضمام جميع العرب إليهما؛ لأن قيامهما كان لإحياء كلمة الدين؛ خافتا أن ينتبه المسلمون، فينضموا إليهما، وتذهب عنهم غفلتهم، ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر - رضي الله عنه - فيترتب على ذلك حروب دينية وفتوحات إسلامية ترجع أوربا منها في خسران عظيم، فحرضتا الدولة العلية على حربهم، وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا، وحصل ما حصل (ولكل أجل كتاب).
وهذه الطائفة بريئة مما ينسب إليها الجاهلون، ومن سبها يأثم، والله أعلم بغيبه وأحكم.
انتهى ما كتبه المذكور في كتابه "نديم الأديب" بكماله(2).
أثرها في فارس والهند
وإذا تجاوزنا العراق وعرجنا على فارس في طريقنا إلى الهند؛
فإننا نجد في لنجة - بلد من البلدان الفارسية - الشيخ ملا عمران بن علي بن رضوان يرد على بعض قصائد الملحدين المعادين للشيخ، ويثني خلال ذلك على الشيخ بقصيدة هذا مطلعها:
في سب دين الهاشمي محمد ... جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي
إلى أن قال:
يدعون أصحاب القبور الهمد ... الشيخ شاهد بعض أهل جهالة
__________
(1) مسند أحمد (2/246) , وموطأ مالك : كتاب النداء للصلاة (416).
(2) انظر: حاشية كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي (رقم 1، ص 97).(1/348)
من قبة أو تربة أو مشهد ... تاجا وشمسانا ومن ضاهاهما
ويؤملون كذاك آخذا باليد ... يرجون منهم قربة وشفاعة
بالنذر والذبح الشنيع المفسد ... ورأى لعباد القبور تقربا
شهدوا من الفعل الذي لم يحمد ... ما أنكر القراء والأشياخ ما
من كان يذبح للقبور ويفتدي ... بل جوزوه وشاركوا في أكله
بالنصح المبين وبالكلام الجيد ... فأتاهم الشيخ المشار إليه
إلا المهيمن ذا الجلال السرمد ... يدعوهم لله أن لا يعبدوا
كلا ولا من صالح أو سيد ... لا يشركوا ملكا ولا من مرسل
إلا عجيب عندنا لم يعهد ... فتنافروا عنه وقالوا ليس ذا
أجدادنا أهل الحجى والسؤدد ... ما قاله آباؤنا أيضا ولا
هذا فنحن بما وجدنا نقتدي ... إنا وجدنا جملة الآبا على
أهل الزمان اشتد غير مقلد ... فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من
إلى أن قال:
إظهار ما قد ضيعوه من اليد ... لو أنصتوا لرأوا له فضلا على
ليكافئوه على وفاق المرشد ... ودعوا له بالخير بعد مماته
ومشوا على منهاج قوم حسد ... لكنهم قد عاندوا وتكبروا
هم يعملون به ومنهم يبتدي ... ورموه بالبهتان والإفك الذي
بدخول جنات وحور خرد ... كمقالهم هو للمتابع قاطع
بل إنه يرجو بها لموحد ... حاشا وكلا ليس هذا شأنه
إلى أن قال:
ما ضره قول العداة الحسد ... قالوا له يا كافرا يا فاجرا
ذا ساحر ذا كاهن ذا معتدي ... قالت قريش قبلهم للمصطفى
إلى أن قال:
وذروا عبادة ما سوى المتفرد ... هل قال إلا وحدوا رب السما
تتنطعوا بزيادة وتردد ... وتمسكوا بالسنة البيضا ولا
بعثت به الرسل الكرام لمن هدي ... هذا الذي جعلوه غشا وهو قد
تترى إلى عهد النبي محمد ... من عهد آدم ثم نوح هكذا
والتابعون وكل حبر مهتدي ... وكذلك الخلفاء بعد نبيهم
من كان مستنا بهم فليقتد ... منهاجهم هذا عليه تمسكوا(1/349)
إلى آخر القصيدة، وهي طويلة مفيدة(1).
وقد أوردت في أول هذا الباب للشيخ ملا عمران هذا أبياتا سبعة من قصيدة له أخرى مطلعها:
فأنا المقر بأنني وهابي(2) ... إن كان تابع أحمد متوهبا
ومن فارس إلى الهند، فنجد علماء السنة في الهند قد بلغهم ما يقوله دحلان وأمثاله في الشيخ، فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى، وكما هو منهج أهل السنة والجماعة من سلفنا الصالح، فظهر لهم أن الطاعنين في الشيخ مفترون لا أمانة لهم، فأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره، وعدوه من أئمة المصلحين المجددين للإسلام، ومن فقهاء الحديث؛ كما نراه في كتبهم، وكما قال محمد رشيد رضا(3).
ومن هذه الكتب كتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان"، تأليف العلامة الكبير المحدث الفقيه النحرير محمد بشير السهسواني الهندي.
يقول عنه مؤلف كتاب "الياقوت والمرجان في ذكر علماء سهسوان" ما ملخصه: "كان من المجددين، وأحد المحققين المتأخرين، ولد في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وتعلم في
لكنو، ثم ذهب إلى دهلي، فأخذ عن سيد نذير حسين كتب الصحاح والسنن الستة وغيرها سماعا وقراءة، واستجاز من الشيخ حسن بن محسن الأنصاري اليمني والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي نزيل مكة والشيخ محمد السهارنبوي المهاجر بمكة.
__________
(1) انظر: كتاب "كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام" تأليف الشيخ سليمان بن سحمان (ص 138 - 143) ، و "كتاب الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد" تأليف الشيخ سليمان بن سحمان (ص 58 - 62)، وانظر: "كتاب الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ" تأليف عبد الله بن سعد الرويشد (ج 2، ص 357 - 359)، وانظر: "كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب" تأليف أحمد ابن حجر آل بوطامي (ص 80 - 87).
(2) انظر: (2/ 118).
(3) مقدمة محمد رشيد رضا، الطبعة الثانية من "صيانة الإنسان..." (ص 14) من الطبعة الخامسة عام 1395 هـ.(1/350)
وبعد فراغه من الطلب اشتغل بالتدريس، وكان وحيد عصره في سعة المعلومات والاطلاع على مذاهب السلف، يصرف أكثر أوقاته في التدريس والتصنيف والوعظ والإرشاد، وله من المؤلفات "إتمام الحجة على من أوجب الزيارة كالحجة"، وكان الشيخ محمد بشير على جانب عظيم من الورع والتقوى والعبادة وقيام الليل، وكان يغلب عليه في وعظه رقة القلب والخشية حتى تدمع عيناه، وفي 5 المحرم سنة 1295 هـ استدعاه النواب صديق حسن خان بهادر من آكره إلى بهوبال، وفوض إليه رئاسة المدارس الدينية في إمارة بهوبال، وقد أقر له أهل الهند كافة بقوة الاجتهاد والفضيلة العلمية واعترفوا له بها.
تناظر الشيخ محمد بشير والشيخ أحمد دحلان مفتي مكة في مسألة التوحيد، فكتب الشيخ ردا عليه كتابه المسمى "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان"، واشتهر الكتاب، وطبعه علماء نجد، ولم يرد عليه أحد من المخالفين.
وناظر مرزا غلام أحمد القادياني في دلهي بأمر بيكم بهوبال زوجة صديق حسن خان، حتى انقطع القادياني عن المناظرة.
وتوفي رحمه الله سنة 1326 هـ عن عمر بلغ أربعا وسبعين
سنة(1).
وفي مقدمة كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان"، قال الشيخ محمد بشير بعد البسملة والحمد له والثناء على الله والشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
?
__________
(1) انظر: ترجمته في أول كتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" (ص 18 - 23).(1/351)
أما بعد؛ فإني وقفت على الرسالة التي جمعها الشيخ أحمد بن زيني دحلان، أنقذه الله من دحلان الخذلان، وسماها "الدرر السنية في الرد على الوهابية"، ورأيت مؤلفها يدعي في ديباجة رسالته الباطلة الساقطة الدنية الردية أنه جمع فيها ما تمسك به أهل السنة في زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ?والتوسل به من الدلائل والحجج القوية من الآيات والأحاديث النبوية؛ فتعجبت منه التعجب الصراح، كيف وليس في الباب حديث واحد حسن فضلا عن الصحاح؟! فتأملت فيها تأمل الناقد البصير، لكي أعلم أنه هل صدق في تلك الدعوى أم كَذَبَ كَذِب المجادل الضرير، فوجدت دعواها عارية عن لباس الصدق والحق المبين، محلاة بحلية الزور والكذب الباطل المهين؛ فإنه ليس فيها من الأحاديث إلا ما أورده التقي السبكي في "شفاء الأسقام"، وهي دائرة بين الاحتمالات الثلاثة السقام: إما موضوعة عملتها أيدي الوضاع اللئام، أو ضعاف واهية رواها من وسم بمثل كثرة الغلط والأوهام، أو شيء يسير من الصحيح والحسن في زعمه قاصر عن إفادة المرام؛ كما بين ذلك كله الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في
"الصارم المنكي"، وليس فيها من الآيات والأحاديث الصحاح والحسان ما يدل على المطلوب المحكي.
وكان حقا على المؤلف تعاطي واحد مما يذكر؛ لئلا يعد كلامه مما يهجر وينكر، إما إيراده لأحاديث صحيحة أو حسنة دالة على المطلوب غير ما أورد في "الشفاء"، أو الإجابة عما تكلم به عليها صاحب "الصارم" وغيره من الأئمة الأذكياء، وإن لم يفعل هذا ولا ذاك؛ فليس لها فائدة، ولا يئول هذا الطول إلى منفعة وعائدة.
ومن عجائب صنيعه أن المؤلف مع زعمه أنه من جملة المقلدين يستدل بالأدلة الشرعية، وهو منصب المجتهدين.(1/352)
فعنَّ لي أن أنبه على ما وقع فيه من مساوئ المفاهيم، وزخارف الأقوال، وأراجيف الاستدلال؛ لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا خبرة له بحقائق علم السنة من المتون والرجال"(1).
ثم صار يورد جملة من كلامه، وبعدها يقوم بردها وبيان زيفها، ولقد انتصر الشيخ المظلوم، وذب عن عرضه، ونصر التوحيد بحجته ومنطقه، وآزر الحق بدلائل القرآن والسنة، وكل ذلك بأسلوب العالم المنصف.
قال عنه محمد رشيد رضا: " ومن فضائل هذا الكتاب ومؤلفه: علو أدبه في عباراته، وتحاميه المبالغة في ذم المذموم ومدح الممدوح؛ فهو لا يطري الإمام المجدد الذي يدافع عنه، ولا يهجو المتجرم الذي
يرد عليه هجوا شعريا يدخل في مفهوم السباب المذموم، وإن كان جزاء وفاقا، ومقابلة للسيئة بمثلها؛ فتراه يقول في كل فرية من مفترياته على الشيخ نفسه أو نقوله غير المسندة: هذا قول لم تصح به رواية؛ فليأتنا بروايته، وما قيل في تعديل رواتها؛ لنجيب عنها. وجملة ما يقال في هذا الكتاب أنه ليس ردا على الشيخ دحلان وحده، ولا على من احتج بما نقله عنهم من الفقهاء مما لا حجة فيه، كالشيخ تقي الدين السبكي والشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي، بل رد على جميع القبوريين والمبتدعين، حتى الذين جاءوا بعده إلى زماننا هذا"(2).
وفيما يلي أسوق مثالا من كلامه الذي ينصر به الحق، وهو قوله حين يرد على دحلان في افترائه على الشيخ أنه يكفر الأمة إلا من وافقه.
__________
(1) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" (ص 25 - 26).
(2) مقدمة محمد رشيد رضا لكتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" (ص 16 - 17).(1/353)
قال الشيخ السهسواني: "وأما قوله: "فسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة؛ إلا من وافقه على قوله"؛ فهذه العبارة تدل على تهور في الكذب، ووقاحة تامة، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح؛ فاصنع ما شئت، وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع الأمة من المبعث النبوي(1) إلى قيام الساعة؛ إلا من وافقه على قوله الذي اختص به،
وهل يتصور هذا عاقل عرف حال الشيخ وما جاء به ودعا إليه؟! بل أهل البدع كالقدرية والجهمية والرافضة والخوارج لا يكفرون جميع من خالفهم، بل لهم أقوال وتفاصيل يعرفها أهل العلم.
__________
(1) قال محمد رشيد رضا في تعليقه: "وزعم غير هذا المعترض أنه كفر الأمة منذ مئات من السنين، لا من أولها كما اقتضاه إطلاقه، بل منذ فشا فيها تشييد القبور، وبناء المساجد عليها، والطواف بها، ودعاء الموتى، فإن هذا لم يكن في القرون الأولى، ولكن الحق الواقع أن الشيخ لم يكفر الأمة كلها في زمنه، فضلا عما قبله، وإنما كفر من أشرك بالله بغير عذر الجهل، وهو كما قال".(1/354)
والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة، ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب (أعني: ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العمل والعبادات) مجمع عليه عند المسلمين، لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم وعدل عن مناهجهم؛ كالجهمية، والمعتزلة، وغلاة عباد القبور، بل قوله مما اجتمعت عليه الرسل، واتفقت عليه الكتب؛ كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاءوا به وتصوره، ولا يكفر إلا على هذا الأصل، بعد قيام الحجة المعتبرة؛ فهو في ذلك على صراط مستقيم، متبع لا مبتدع، وهذا كتاب الله وسنة رسوله وكلام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من أهل العلم والفتوى معروف ومشهور، مقرر في محله في حكم من عدل بالله وأشرك به، وتقسيمهم الشرك إلى أكبر وأصغر، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة، لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم وما جاءت به الرسل.
وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم، وحكى الإجماع عليها، وأنها من ضروريات الإسلام، كما ذكره تقي الدين بن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن عقيل، وصاحب "الفتاوى البزازية"، وصنع الله الحلبي، والمقريزي، والشافعي، ومحمد بن حسين النعمي الزبيدي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن علي الشوكاني، وغيرهم من أهل العلم(1)(2).
__________
(1) قال محمد رشيد رضا: "يعني أن هؤلاء وأمثالهم صرحوا بأن ما عليه كثير من المسلمين الجاهلين من عبادة القبور ودعاء الموتى شرك جلي، وأما أصل المسألة، فقد أجمع عليها الفقهاء قبلهم".
(2) "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" (ص 426 - 427).(1/355)
ويظهر من مطالعة كتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" أن مؤلفه الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي قد وصلته رسائل كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واطلع على كثير من مؤلفاته ومؤلفات من بعده؛ فهو ينقل عن الشيخ نفسه من كتبه ورسائله، وينقل عن المؤرخ ابن غنام من تاريخه "روضة الأفهام"، وينقل عن ابن الشيخ عبد الله، ويناقل عن حفيد ابنه الشيخ عبد اللطيف(1).
ولا نغفل ذكر العلامة النواب أمير بهوبال صديق حسن خان، الذي أحيا بمصنفاته السنة، وانتشرت بسببه علومها، المولود سنة 1248 هـ، ولما شبَّ، تلقى العلم عن شيوخ جهابذة، كالشيخ أحمد ابن عبد الرحيم المدعو بشاه ولي الله المحدث الدهلوي، والشيخ
حسين بن محسن السبعي الأنصاري اليمني تلميذ الشريف محمد بن ناصر الحازمي تلميذ الإمام الشوكاني، والشيخ عبد الحق بن فضل الهندي تلميذ الإمام الشوكاني أيضا(2).
وهو الذي استدعى الشيخ بشير السهسواني صاحب كتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" سنة 1295 هـ من آكره إلى بهوبال، وفوض إليه رئاسة المدارس الدينية في إمارة بهوبال(3) وكان معجبا بالإمام الشوكاني، ومحصلا لمؤلفاته.
وله كتاب "الدين الخالص" في التوحيد والتحذير من ضده.
وجرت من بعض مشايخ الدعوة له مكاتبات؛ كالشيخ حمد بن عتيق، فقد أرسل إليه الشيخ حمد رسالة أولها بعد البسملة:
"من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم محمد الملقب صديق، زاده الله من التحقيق.... ".
__________
(1) انظر مثلا: "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" (408 - 422، وص 423 - 431، وص 464 - 487).
(2) ترجمة صديق حسن خان في أول مؤلفه: "الدين الخالص" (ج 1، ص ز - ح).
(3) "صيانة الإنسان...." (ص 20، الطبعة الخامسة عام 1395 هـ).(1/356)
وذكر الشيخ حمد أنه وصله تفسيره، وأثنى عليه، وبين له أمورا لاحظها، وهي بسيطة بجانب ما أحسن فيه من تفسيره(1) ورحل إليه الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، وأخذ عنه في الهند وعن غيره(2).
كما ارتحل الشيخ إسحاق ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن
الشيخ إلى بهوبال، وأخذ عن الشيخ محمد بشير السهسواني والشيخ حسين بن محسن الأنصاري شيخ صديق حسن خان(3) وغيرهما في مدرسة بهوبال السلفية تحت رعاية عالمها صديق حسن خان رحمه الله تعالى، وكذلك الشيخ سعد ابن الشيخ حمد عتيق، رحل إليهم لطلب العلم، ولما سألوه عن معتقد مشايخه من أهل بلده، أجابهم، سنة 1302 هـ، وكتب لهم في ذلك(4).
وممن ألف في سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته من كلية ندوة العلماء بالهند: الأستاذ مسعود الندوي، وهو من الأحناف في أول أمره، وتتلمذ على الدكتور محمد تقي الدين الهلالي من أول سنة 1349 هـ إلى سنة 1352 هـ في الهند، ثم في بغداد بعد ذلك التاريخ أقام عند الدكتور الهلالي مدة سنة وبصحبة الأستاذ عاصم الحداد، وكان أحد رؤساء الجماعة الإسلامية التي يرأسها الأستاذ المودودي، فسجن معه في الباكستان، وبقي سنين في السجن، فلم يجد سبيلا إلى التأليف، فعكف على "نيل الأوطار" للشوكاني، فتبين له أن التعصب للمذهب الحنفي من غير حجة لا يرضاه الله ولا يرضاه السلف الصالح، ومنهم الإمام أبو حنيفة نفسه، فرجع عن التعصب، والتزم أتباع الكتاب والسنة(5).
__________
(1) "الدرر السنية" (ج 10، ص 11).
(2) "الدرر السنية" (ج 12، ص 93).
(3) "الدرر السنية" (ج 12، ص 80).
(4) طبع تحت عنوان "عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية" انظر المقدمة (ص 3).
(5) انظر: مقدمة الدكتور تقي الدين الهلالي على كتاب "محمد بن عبد الوهاب" لمسعود الندوي (ص 7 - 8).(1/357)
وقد ألف هذا الأستاذ كتابا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما ذكرنا، وعنوانه: "محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه"، باللغة الأردية، وترجمه منها إلى اللغة العربية الأستاذ عبد العليم بن عبد العظيم البستوي، وقدم له الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، فقال فيه:
"وإذا كان الفضل في إخراج هذه الدرة الثمينة يرجع إلى تلميذي مسعود عالم الندوي؛ فإن الفضل في إخراجها من عالم العجمية إلى عالم العربية إلى تلميذي عبد العليم بن عبد العظيم البستوي المتخرج في الجامعة الإسلامية"(1).
ويقول المترجم - وهو زميلنا عبد العليم عبد العظيم البستوي - ما ملخصه: "إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المجددين المجاهدين، ولذا، درست سيرته وتعرفت طريقته في كتب كثيرة ألفت في ذلك، فرأيت كتاب الأستاذ مسعود عالم الندوي رحمه الله يمتاز بأنه ألف لنصرة الحق وأداء الواجب، والتزم الإنصاف فيما ناقشه من قضايا وبحوث، مع الاطلاع على كثير من الكتب حول الشيخ من عربية وأعجمية، وسيجد القارئ في هذا الكتاب سيرة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ودعوته، وأنها سيرة إسلامية ودعوة إسلامية خالصة، وأنها دعوة تحاول أن تعود بالمسلمين إلى الرقي والمجد والازدهار كما كانوا في القرون الأولى، إنها دعوة دعا إليها جميع الأنبياء والمرسلين،
وإن محمد بن عبد الوهاب لم يبتدع شيئا من عنده، ولا خرج عن عقيدة المسلمين التي اتفق عليها أئمة الإسلام كلهم"،(2).
وفي الهند جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة، يتحدث عنها زميلنا عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي في كتابه بهذا العنوان الذي نشرته إدارة البحوث الإسلامية والدعوة والإفتاء بالجامعة السلفية في بنارس بالهند.
__________
(1) مقدمة الدكتور تقي الدين الهلالي على كتاب "محمد بن عبد الوهاب" لمسعود الندوي (ص 8).
(2) انظر كتاب: "محمد بن عبد الوهاب" لمسعود الندوي، كلمة المترجم (ص 11 -12).(1/358)
وحركة الانطلاق الفكري بالهند وجهود الشاه ولي الله الدهلوي وغيرها من نشاطات إسلامية والجامعة السلفية في بنارس بالهند التي أنشئت في سنة 1383 هـ تحت إشراف جمعية أهل الحديث الهندية.
وهذه كلها، وإن لم تكن قد أخذت عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية مباشرة، فهي تلتقي معه في عقيدة السلف الصالح على الأغلب، وهذا ما تحرص على أن تؤكده كتاباتهم؛ ففي كتاب بعنوان "حركة الانطلاق الفكري بالهند وجهود الشاه ولي الدهلوي" تأليف محمد إسماعيل السلفي وتعريب مقتدي حسن الأعظمي؛ يقولون:
"إن تسمية ما هم عليه بالوهابية كذب محض وافتراء عظيم، فالمركز الرئيسي للوهابيين الحجاز ونجد"، ويقولون: "إنهم هم الذين أخذوا علم الحديث من الهند، أو استفادوا من العلامة حياة السندي
والحافظ الشوكاني في الحديث؛ فكأن الوهابيين أيضا قد أخذوا السلفية من الهند أو اليمن والحجاز"(1).
وكانت تطبع بعض مؤلفات الشيخ بالهند و "تاريخ ابن غنام"، وينتشر هناك ما ينتشر من ذلك، ولهذا أثر كبير في بث الوعي الإسلامي السليم والعقيدة السلفية في الهند.
أثرها في مصر
ونعود من الهند إلى مصر، وما أدراك ما مصر؟!
إذا تذكرنا الحملة المصرية وما أعقبها من ترحيل من قدروا عليه من آل سعود وآل الشيخ من الدرعية إلى مصر بحريمهم وذراريهم ومعهم علمهم وعقيدتهم السليمة التي لا تزول وإن زالت الدولة والرواسي، فالعقيدة أمر ثابت يبقى، ولا يزيله حتى الموت ومفارقة الروح الجسد، سيما إذا كانت عقيدة صحيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية" (صوت الجامعة، السنة السادسة، العدد الأول، شعبان عام 1394 هـ، ص 77 - 78).(1/359)
ومع هذه الحال لا بد وأن يظهر أثر العقيدة، ونلتمس مما كتبه المؤرخ المصري الشيخ عبد الرحمن الجبرتي ما يبين أثر هذه العقيدة، فنجده ينتقد محمد علي باشا وجميع من شاركه في محاربته، وينتقد احتفالهم الهائل بوصول من قدروا على أسره من أنصار العقيدة السلفية وحملتها، ويقول عن احتفالهم:
"وكان ذلك من أغرب الأعمال التي لم يقع نظيرها بأرض مصر وما يقرب من ذلك".
إلى أن قال: "وقد ذهب في هاتين الملعبتين من الأموال ما لا يدخل تحت الحصر، وأهل الاستحقاق يتلظون من الفشل والتفليس، مع ما هم فيه من غلاء الأسعار في كل شيء، وانعدام الأدهان".
إلى أن قال: "وأعوان المحتسب مرصدون لمن يرد من الفلاحين والمسافرين بالسمن، فيحجزونه لمطالب الدولة ومطابخهم ودورهم في هذه الولائم والجمعيات"(1).
وكان قد ذكر زينتهم، ووصف إسرافهم، وألمح إلى أن معظمها كان حيث مساكن الإفرنج والأرمن، فإنهم تقننوا في عمل التصاوير والتماثيل وأشكال السرج وغيرها، وذكر أنها ملاهي وأغاني وتسماعات وقيان وجنك رقاصات(2).
وتظهر العقيدة في مقابلة الباشا المزهو بغرور النصر المؤقت للإمام عبد الله المصاب الصابر، ويحدثنا عن ذلك الجبرتي، فيقول:
"وصل عبد الله الوهابي، فذهبوا به إلى بيت إسماعيل باشا ابن الباشا، فأقام يومه، وذهبوا به في صبحها عند الباشا بشبرا، فلما دخل عليه؛ قام له، وقابله بالبشاشة، وأجلسه بجانبه، وحادثه، وقال له: ما
__________
(1) نقلا عن كتاب "من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي" تلخيص محمد أديب غالب (ص 194).
(2) نقلا عن كتاب "من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي" تلخيص محمد أديب غالب (ص 194).(1/360)
هذه المطاولة؟ فقال: الحرب سجال. قال: وكيف رأيت إبراهيم باشا؟ قال: ما قصر وبذل همته، ونحن كذلك... حتى كان ما كان قدره المولى. فقال: أنا إن شاء الله تعالى أترجى فيك عند مولانا السلطان. فقال: المقدر يكون....."(1).
ثم لما قتل الإمام عبد الله شهيدا ومن معه، قال الجبرتي: "فذهبوا مع الشهداء"(2).
وهذا يعني تأثره بعقيدة السلف الصالح.
وذكر أن ابن الإمام عبد الله هو وخواصه ومن معهم نحو أربع مئة نسمة أسكنوا بدور بالقشلة، ولم يكن على ابن الإمام هو وخواصه حرج، يذهبون ويجيئون، ويترددون على المشايخ وغيرهم، ويمشون في الأسواق، ويشترون البضائع والاحتياجات.
ونجد الجبرتي ينكر بيعهم بعض الأسرى، ويقول: "هم مسلمون أحرار"(3).
وهذا قديم في أمثالهم؛ فقد باعوا يوسف عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام، ولعل هذا مما دس على الجبرتي؛ إذ الحوادث التي جرت أثناء تلك الحروب مشهورة، وهذا ليس منها في الشهرة.
وما من شك أن مثل هذه الأمور تبين همجية أعداء السلف
الصالح، وبعدهم عن الشريعة الإسلامية، وتبين صفاء العقيدة لدى أصحابها ونقاءها، حتى في الحالات التي قد ذهب عنهم كل شيء، وفسدت دنياهم عليهم، هم لا يزالون مشاعل خير وعلامات رشد تدعو إلى عقيدة السلف الصالح، إن لم يكن بلسان مقالهم وسلطانهم، فبلسان حالهم.
__________
(1) نقلا عن كتاب "من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي" تلخيص محمد أديب غالب (ص 194 - 195).
(2) نقلا عن كتاب "من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي" (ص 197 - 199).
(3) نقلا عن كتاب "من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي" تلخيص محمد أديب غالب (ص 194 - 195).(1/361)
وقد ذكرت قبل قليل كلام أحمد سعيد البغدادي في بحث أثر عقيدة الشيخ السلفية في العراق، ومن كلامه ذلك كلامه عن سبب حرب صاحب مصر لهذه الطائفة، وأنه كما ذكره سيديو الفرنسي، وخلاصته أن إنكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود وبانضمام جميع العرب إليهما لأن قيامهما كان لإحياء كلمة الدين؛ خافتا أن ينتبه المسلمون، فينضموا إليهما، وتذهب عنهم غفلتهم، ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر - رضي الله عنه - فيترتب على ذلك حروب دينية وفتوحات إسلامية ترجع أوروبا منها في خسران عظيم، فحرضتا الدولة العلية على حربهم، وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا، وحصل ما حصل، (ولكل أجل كتاب)(1).
ويؤيد ما أفاد به أحمد سعيد الكاتب الأمريكي لوثروب ستودارد؛ حيث يقول- وبدافع من ولائه للصليبية- عن محمد علي في حملته المشئومة على المسلمين ما نصه:
"وكان هذا المقدام الألباني سيد مصر وأميرها واقفا حق الوقوف
__________
(1) انظر: (2/ 431) من هذا البحث.(1/362)
على قدرة أوربة وشدة بأسها وتفوقها، فدعا إليه ضباطا من أهل الغرب، فنظموا له جيشا قويا، ودربوه تدريبا على الطراز الغربي، وجهز بمعدات الأسلحة الغربية، وكان غالب هذا الجيش مؤلفا من المقاتلة الألبانيين الأشداء، فسرعان ما أجاب محمد علي نداء السلطان، فأيقن حينئذ أن الوهابيين على شدة غيرتهم الدينية وحماستهم لن يستطيعوا بعد الوقوف في وجه البنادق والمدافع الأوربية، يطلق عيارها جنود مجربون"(1).
ويذكر الأستاذ مسعود الندوي أن الحكومة البريطانية هنأت إبراهيم باشا على تدميره الدرعية وقضائه على حضارتها(2) وهذا تأكيد على أن عدو عقيدة الشيخ وأنصارها هم أعداء الإسلام والمسلمين.
وها هو الشيخ الجبرتي المؤرخ المصري المشهور يصف إبراهيم باشا بما هو متصف به من صفات يتصف بها كل أضداد السلف الصالح ذوي الإسلام الخالص، فيقول:
__________
(1) "حاضر العالم الإسلامي" (ج 1/ 262)، وأحب أن أوضح بأنه ليس سبب هزيمة المسلمين أمام محمد علي هو قدرة أوربة الصليبية وشدة بأسها وتفوقها كما يقول الكاتب الأمريكي لوثروب وغيره، ولكنه كما ذكرنا في نهاية البحث في أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في الدور الأول لدولة أنصارها، وخلاصته أنه التغير الذي حصل في نفوس المسلمين عن الاستمساك التام بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية كما كان عليه الشيخ وأئمة آل سعود وعلماؤهم؛ فإنهم لما كانوا على حالة مستقيمة على عقيدة السلف الصالح، نصرهم الله، وأعزهم، وجعل لهم الغلبة والتمكين كما كان في عهدهم الأول، ثم لما حصل من التغير ما حصل، تغيرت الأحوال والدولة، قال الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 12] ، وانظر: آية 54 من الأنفال. انظر: (2/ 249 - 2/ 255) من هذا البحث.
(2) انظر: "محمد بن عبد الوهاب؛ مصلح مظلوم ومفترى عليه" تأليف الأستاذ مسعود الندوي (ص 150 - 154).(1/363)
"ورجع إبراهيم باشا من هذه الغيبة متعاظما في نفسه جدا، وداخله من الغرور ما لا مزيد عليه، حتى إن المشايخ لما ذهبوا للسلام عليه والتهنئة بالقدوم عليهم، فلما أقبلوا عليه وهو جالس في ديوانه، لم يقم لهم، ولم يرد عليه السلام، فجلسوا، وجعلوا يهنئونه بالسلام، فلم يجبهم، ولا بالإشارة، بل جعل يحادث شخصا سخرية عنده، وقاموا على مثل ذلك منصرفين ومنكسرين(1).
ولا شك أن مثل هذا يكون حافزا للمشايخ وغيرهم من أهل مصر أن يعيدوا النظر في عقيدة السلف الصالح التي يحملها من أوفدوا عليهم، ويعلموا أن إبراهيم باشا المتسلط إنما احتقرهم لأنه إنما كان قد انتصر على أمثالهم؛ فكيف يهنئونه على ذلك لولا هوانهم عند أنفسهم، وقد احتقرهم لأنهم كذلك، وهذا دليل لهم صارخ على أن من حاربهم الباشا من أهل نجد ما حاربهم إلا لأنهم مسلمون من أتباع السلف الصالح من المسلمين، وأن نظرته إلى جميع المنتسبين إلى الإسلام واحدة، هي نظرة ازدراء واحتقار لهم ولما تسموا به من الإسلام؛ فهو قد انتصر عليهم بزعمه وعلى دينهم، فلم يبق في نفسه لهم احترام، وإن كانوا من المشايخ العظام، وأصحاب العلوم
والفهوم، وهذا بلا شك يعطي ردود فعل متعاطفة مع أبناء الشيخ العلماء وسائر حملة عقيدة السلف الصالح، خصوصا الذين نقلهم الباشا إلى مصر، ويكون له دور كبير في التأثير، ومؤشره تأثر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي رحمه الله تعالى، والذي ألمحنا لطرف منه هنا.
__________
(1) انظر: كتاب "من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي" تأليف محمد أديب غالب (ص 200) بإشراف دار اليمامة، الطبعة الأولى عام 1395هـ.(1/364)
ونورد ما ذكره عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ في تعليقه على "عنوان المجد" من أسماء آل الشيخ الذين نقلهم الباشا إلى مصر، فيقول ما خلاصته: "إن ابن بشر لم يذكر في "تاريخه" أسماءهم، مع أنهم محدودو العدد، ومشهورو الأسماء، بل هم قادة الدعوة، وزعماء الإصلاح في ذلك الوقت، ولمزيد الفائدة نذكر أسماءهم؛ فهم: الشيخ عبد الله ابن الشيخ وصحبته حرمه وابنه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله، والشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد وصحبته حرمه وابنه الشيخ عبد اللطيف، وكان عمر الشيخ عبد اللطيف ذلك الوقت لا يزيد عن ثمان سنوات، والشيخ علي ابن الشيخ محمد، والشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد، هؤلاء هم الذين نقلهم الباشا إلى مصر، فأما الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فمكث بمصر ثمان سنوات، ثم رجع إلى الرياض بعد تولي الإمام تركي بن عبد الله الحكم بسنة؛ أي: سنة 1241 هـ، وأما ابنه الشيخ عبد اللطيف، فبقي بمصر واحدا وثلاثين عاما، ثم رجع إلى الرياض في ولاية الإمام فيصل بن تركي سنة 1264 هـ?(1)??وأما الشيخ عبد الله بن
الشيخ، فتوفي بمصر سنة 1242 هـ"(2).
__________
(1) هامش "عنوان المجد" لابن بشر، تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ (طبعة المعارف، سنة 1394 هـ، ص 286).
(2) "الدرر السنية" (12/ 45)، و "مشاهير علماء نجد" (ص 49).(1/365)
ويقول ابن بشر: "وكان لعبد الله المذكور ابن اسمه عبد الرحمن، جلي معه إلى مصر وهو صغير، وذكر لي أنه اليوم في رواق الحنابلة في الجامع الأزهر، وعنده طلبة علم، وله معرفة تامة ودراية عظيمة(1) ولعل ذلك من عوامل نشر عقيدة السلف الصالح وإقامة الحجة بها، وكذا الشيخ علي ابن الشيخ، فقد توفي بمصر في سنة 1245 هـ على أغلب الظن، كما يقول عبد الرحمن بن عبد اللطيف"(2).
وكذلك الشيخ إبراهيم ابن الشيخ، فإنه توفي بمصر، ولم يقف ابن قاسم على تاريخ وفاته، لكنه كان موجودا سنة 1251 هـ في مصر(3).
ووجود مثل هؤلاء المشايخ إلى هذا الزمن في مصر، واحتكاكهم بطلبة العلم والمشايخ والعلماء، سيكون له أثر في نشر عقيدة السلف الصالح، وهم أبناء الشيخ المشهود لهم بالعلم والتحقيق، كما قال الحفظي:
أولاده مشايخ التحقيق
??وسدرة في منتهى الطريق(4)
وعلى كل حال؛ فالأثر لم يبد بارزا حتى أعاد الله الكرة لعقيدة السلف الصالح بالإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، عندئذ، وجدنا مطبعة المنار بمصر، و "مجلة المنار" بمصر، وصاحبها محمد رشيد رضا، يقبل الخير، ويتجاوب مع الملك عبد العزيز في نشر مؤلفات وآثار علماء الدعوة، وعلى رأسهم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب.
__________
(1) "عنوان المجد في تاريخ نجد" (1/ 93، وطبعة المعارف سنة 1394 هـ، ص 118 - 119).
(2) "مشاهير علماء نجد وغيرهم" (ص 51)، وانظر: "الدرر السنية" (12/ 47).
(3) "الدرر السنية" (12/ 46).
(4) "الدرر السنية" (12/ 47).(1/366)
فهذه "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" أربعة مجلدات كبار، وغيرها، وكثير من كتب السلف الصالح في الفقه والتفسير والحديث، وغير ذلك، بلغ المجلدات الكبار، وبلغ قدرا كبيرا من ذلك، كان له أثر كبير في بث الوعي بين المسلمين، ونشر ضالتهم من الحق في تلك المؤلفات السلفية، ومحمد رشيد رضا يخدمها بالتعليق والإشراف على طبعها، وكانت له مواقف حميدة، وكتابات منصفة، وبيانات للحق ناصعة في مجلته الكبيرة "مجلة المنار" التي بلغت ما يربو على عشرين مجلدا، واستمر صدورها سنين عديدة، وكان ينشر دفاعا مجيدا عن دعوة السلف الصالح، وما يدفعه إلى ذلك إلا تأثره بعقيدة السلف الصالح، وتطلعه إلى نهضة المسلمين إذا استيقظوا من غفلتهم إلى دينهم بهذه العقيدة السليمة.
ومن كتاباته أجد بين يدي طائفة من المقالات نشرت في "مجلة(1/367)
المنار" و"جريدة الأهرام"، جمعت وأصدرت بعنوان "الوهابيون والحجاز"، وكانت طبعتها الأولى سنة 1344 هـ، وأصبحت كتابا بذلك العنوان، ويضم من الأبحاث أضواء على حقيقة العقيدة السلفية، مثل تسجيله شهادة التاريخ للوهابيين، وبيان عجز الشريف الحسين عن القيام بعقيدة السلف الصالح، وأنه والى الأجانب على العرب، وجعل الحجاز دولة حربية، ونفسه ملكا للعرب، وعزم على إخضاع نجد واليمن بالقوة، مع عداوته لابن سعود، وطعنه في عقيدته السلفية، مما جعلها الله أسبابا لزحف ابن سعود على الحجاز، وتمكينه من ولايته وتطهيره، ثم شخص السبب لعداوة أشراف مكة المستولين عليها لأهل نجد عن مؤرخ مصري، وأنه ليس السبب في غير العقيدة، فأهل نجد يعتقدون عقيدة السلف الصالح، وأولئك على خلافها، ثم ذكر أشهر وقائع تعدي أهل الحجاز على النجديين، ومنها منعهم من الحج، ودسائس الشريف في نجد، وإغراؤه جيرانها بها، وإحباطه مؤتمر الكويت(1) والوثائق الرسمية لنجد على أهل الحجاز، ثم يتحدث عن صبر سلطان نجد، وأنه صبر لم يعهد له نظير، من قوي يعتدى عليه دينيا ودنيويا، حتى علم هو وأمته بعد التروي واستفتاء العلماء أن إنقاذ الحرمين من الحسين واجب شرعا، ولو لم يكن لذلك موجب إلا منع
أهل نجد من الحج؛ لكفى.
__________
(1) انظر: "الملك عبد العزيز ومؤتمر الكويت" (1342 هـ: 1923 - 1924 م)، رسالة ماجستير من جامعة أم القرى بمكة المكرمة 1401 هـ، إعداد موضي بنت منصور بن عبد العزيز آل سعود، الطبعة الأولى، عام 1402 هـ، نشر مؤسسة تهامة - جدة.(1/368)
ويقول محمد رشيد رضا: "فكيف إذ أضيف إلى ذلك لسائر ما أشرنا إليه فيما أجملناه في "الأهرام" وفصلناه في "المنار" من إلحاده بالظلم لأهل الحرمين والحجاج، وإدخاله للنفوذ الأجنبي في البلاد، وخطره على الأمة العربية وما بقي لها من البقعة الصغيرة المستقلة في جزيرتها، وتكفيره للترك وللمصريين كالنجديين، ثم تنحله منصب الخلافة، أما السلطان عبد العزيز، ففي تصريحه نص قطعي باعترافه هو وعلماء بلاده بإسلام جميع الشعوب الإسلامية، والرغبة في التعارف والتواد معها، وبأن هؤلاء الأمراء الحجازيين ورثوا عن سلفهم تكفير النجديين والطعن فيهم والتنفير منهم".
وقال محمد رشيد: "وقد استفتينا واستفتي غيرنا في شأن هذا الباغي الشريف حسين في سنة 1341 هـ، فأفتى بعض علماء الأزهر بأنه من البغاة المتغلبين الذين يجب قتالهم على إمام المسلمين، وكتبنا فتوى مطولة نشرناها في "المنار" الذي صدر في ذي الحجة من تلك السنة (ج 8\ م 24\ ص 593 - 616)، ونشرناها في "جريدة الأهرام" أيضا، أجملنا فيها صفاته وجناياته، ولكننا استدركنا على من جعل حكمه حكم البغاة؛ متسائلين: أين إمام المسلمين الأعظم الذي يجب عليه قتاله؟ ثم بينا أن إنقاذ الحرمين من بغيه وظلمه يجب على كل من يقدر عليه من جماعات المسلمين وأمرائهم، وأن أقدرهم على ذلك سلطان نجد وإمام اليمن، وذكرنا ما يقال في المانع المشترك لهما من ذلك، وهو الخوف أن يفضي إلى تدخل الإنكليز في الحجاز؛ لأنه
جعله تحت حمايتهم"(1).
__________
(1) انظر: (ص 40 - 41) من الكتاب المذكور .(1/369)
وفي مقالة لمحمد رشيد رضا يبين نهضة الوهابيين - كما يسميهم - بالإصلاح وما آلوا إليه، وأن آل سعود أهل نهضة إصلاحية إسلامية، وخصوصا السلطان عبد العزيز، السلطان العامل الصامت، بخلاف ملوك الدعاية القوالين، ثم كتب ملخصا لسيرة السلطان ابن سعود، وملخصا لسيرة الشريف، ورد على الدعايات الكاذبة(1) إلى آخر ما كتب وبين، فكان لكتاباته أثر في تنبيه المصريين خصوصا والمسلمين عموما إلى رشد حملة عقيدة السلف من أهل نجد وصحة عقيدتهم، وإنه لأثر كبير لا شك فيه، سيما والشيخ محمد رشيد رضا عالم محقق، يأمر بالسنة، وينهى عن البدعة، خصوصا بدع القبوريين في العبادة، كما في مقالاته هذه، ويقصد نهضة المسلمين جميعا، ويهدف لمصلحتهم، ومحمد رشيد رضا حين يدعو للملك الإمام عبد العزيز وللعلماء الذين معه، يعلم أن عقيدتهم السلفية هي الأصلح للمسلمين عامة.
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا في رسالته التي بعنوان "السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة" : "ولما رأيت ما رأيت من سوء أمر مؤتمر النجف لشيعة العراق، ومن أمارات نشر الإلحاد في إيران والأفغان، ومن تجديد الشيخ العاملي في تواليفه والشيخ عارف الزين في مجلته الطعن في السنة وتنفير المسلمين من دولتها الوحيدة في إقامتها
ونصرها، ومن بث الرفض والخرافات بين المسلمين؛ رأيت من الواجب علي أن أظهر للمسلمين ما يخفى على جمهورهم من الحقائق التي لم يكن العاملي ولا الزين يعلمان بوقوفي عليها، لعلهما يفيئان إلى أمر الله، فكتبت الفصول الآتية بهذه النية".
__________
(1) انظر: "كتاب الوهابيون والحجاز" طبعة سنة 1344 هـ.(1/370)
وتشير الرسالة إلى أن العاملي المسمى محسن الأمين، وهو الرافضي المتعصب، ألف كتابا استغرق خمس مئة صفحة، جعل عنوانه "الرد على الوهابية"، ودس فيه ما يبغي من الخرافات القبورية والرفضية، والطعن في حكم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وعلى ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الهادي والشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ويرد الشيخ محمد رشيد رضا بقوله:
"أقول: أولا: إن الوهابية يدعون بحق أنهم موحدون وحامون لحمى التوحيد من تطرق الشرك، وكان يدعي هذه الدعوى بحق قبلهم شيخ الإسلام (يعني: ابن تيمية).
ثانيا: أن الوهابية لم يدعوا أنهم هم الموحدون وحدهم، وأن غيرهم من جميع المسلمين مشركون، كما افترى عليهم هذا الرافضي المتعصب وغيره، بل لم يدَّعوا أنهم فرقة أو أهل مذهب مستقل... وإنما يقولون كما يقول غيرهم من العلماء بتوحيد الله الذي دعت إليه جميع رسله"(1).
ويأتي من بعد "المنار" وصاحبه جماعة أنصار السنة المحمدية ورئيسها محمد حامد الفقي ومطبعتهم؛ فقد كان لهم دور في بث العقيدة السلفية، ونشر كتب عقيدة السلف الصالح، وبيان الحق، والرد على طوائف الصوفية المنحرفة عن السنة، وكان لرئيس جماعة أنصار السنة المحمدية الشيخ محمد حامد الفقي نشاط خاص في هذا المجال، وله كتاب سماه "أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها" كتبه وتحدث به في نادي جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر، وهذا النادي يحضره كثير من المصريين وغيرهم، وقد نفع الله به، وطبع عام 1354 هـ بمطبعة النهضة بشارع عبد العزيز بمصر.
__________
(1) نقلا عن كتاب "انتشار دعوة الشيخ ..." تأليف محمد كمال جمعة (ص 169).(1/371)
وقال الشيخ محمد حامد الفقي في مقدمته: "أما بعد، فهذه نبذة لطيفة في بيان حقيقة الدعوة الوهابية وإمامها وشيعتها وأنصارها، وقصة إزاحة الأوهام وإبطال الأكاذيب التي نسجت حولها، وذلك لتخبط الكثير من الناس في شأنها"(1) وغيرهما، ويتعاون معهم في نشر عقيدة السلف الصالح بدافع من إيمانه وإيمان جماعته بسلامة منهجهم.
ونذكر من أبرزهم شيخنا الدكتور محمد خليل هراس، فقد كتب عن منهج الشيخ وأنصاره، وسمى ما كتبه: "الحركة الوهابية" وهو رد على مقال للدكتور محمد البهي في نقده للوهابية، وطبعته الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1396 هـ، وقال في مقدمته ما
ملخصه:
"لأستاذنا الدكتور محمد البهي كتيب نشرته دار الفكر ببيروت، عالج فيه الفكر الإسلامي في أدواره، وعقد فيه فصلا عن الحركة الوهابية، وملأه بمزاعم لا تتفق مع الحق، ولا سند لها من الواقع، ونقدها نقدا جانب فيه الإنصاف، ولم يراع فيه موازين البحث العلمي"(2).
ثم إن الدكتور الهواس نقض نقده، ورد عليه ردا منصفا أجاد فيه وأفاد رحمه الله تعالى.
__________
(1) "أثر الدعوة الوهابية" لمحمد حامد الفقي (ص 1 - 2).
(2) "الحركة الوهابية" بقلم الدكتور محمد خليل هراس (ص 7).(1/372)
ولا ننسى محمد منير بن عبده آغا النقلي الدمشقي الأزهري، صاحب دار الطباعة المنيرية في القاهرة، تفقه في الأزهر سلفيا، وأصبح من علمائه، وأنشأ دار الطباعة المنيرية 1337 هـ، ونشر كثيرا من المصنفات القديمة والحديثة، وصنف كتاب "نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة المطبعة المنيرية"، مطبوع، أنجزه في شعبان 1358 هـ، وله "إرشاد الراغبين في الكشف عن آي القرآن المبين"، مطبوع، وتوفي بالقاهرة(1) وله "المجموعة المنيرية"، وهي مجموعة رسائل سلفية لشيخ الإسلام ابن تيمية والصنعاني والشوكاني والصابوني وأبو محمد الجويني وغيرهم، وسماها "المجموعة المنيرية"، وله عليها تعليقات، وقد خدم كثيرا من رسائل السلف خاصة ومؤلفاتهم، ومن ذلك مجموعة بعنوان "الأصول الثلاثة وأدلتها، ويليها شروط الصلاة
وواجباتها وأركانها، والقواعد الأربع، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، علق عليها وصحح أصولها وكساها حواشي مفيدة محمد منير الدمشقي، طبعت في القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية"؛ بلا تاريخ(2) ومنها: "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، نشر المكتبة القيمة بمباي والقاهرة دار الطباعة المنيرية سنة 1344 هـ"(3) ومنها: "كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب، علق عليه وصححه محمد منير الدمشقي"، وفي ذيله نبذة في الحث على اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما للمعلق، طبع القاهرة في إدارة الطباعة المنيرية سنة 1351 هـ"(4).
__________
(1) "الأعلام" للزركلي (الطبعة الرابعة، ج 7، ص 310).
(2) "آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (سجل ببليوجرافي، مادة رقم 18، ص 25 ومادة رقم 52، ص 30).
(3) "آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (سجل ببليوجرافي، مادة رقم 97، ص 36).
(4) "آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (سجل ببليوجرافي، مادة رقم 196، ص 49).(1/373)
وفي مقدمة "الأصول الثلاثة وأدلتها" يقول الشيخ محمد منير عبده آغا الدمشقي الأزهري بعد الثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم -
"أما بعد: سألني كثير من أهل العلم والمعرفة أن أطبع رسالة الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في "الأصول الثلاثة وأدلتها" و "شروط الصلاة وواجباتها وأركانها"، وأنشرها بين المسلمين؛ لا سيما العوام منهم؛ لينتفعوا بها ويعملوا بأحكامها، وهي سهلة موجزة صحيحة على مذاهب أهل السنة والجماعة، فأجبتهم
لذلك"(1).
كما نذكر المطبعة السلفية ومكتبتها وصاحبها محب الدين الخطيب، وقد طبعت كثيرا من كتب السلف الصالح، مع التحقيق والعناية، من ذلك طبعهم ل "مجموعة التوحيد النجدية" وعنايتهم بها، ولا زالت حتى بعد وفاة مؤسسها تحت إشراف ابنه قصي.
وكذلك مطبعة المدني المؤسسة السعودية في مصر وغيرها من المطابع التي تطبع آثار الشيخ ومؤلفاته وسائر مؤلفات السلف الصالح مما يكون له تأثير في نشر العقيدة السلفية.
وما يزال مدد تأثير عقيدة السلف الصالح في زيادة واستمرار، خصوصا لما نهضت المملكة بالتعليم، واستوفدت مدرسين من مصر لجامعة الإمام محمد بن سعود والجامعة الإسلامية وغيرهما من جامعات المملكة، فإن هؤلاء الأساتذة يعودون بانطباعات يحملونها ويبثونها في مجتمعاتهم، وهذا ليس خاصا بمصر، غير أنه في مصر أكثر ظهورا، ونذكر على سبيل المثال أستاذا زائرا بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية في العام الجامعي 1395 - 1396 هـ، وهو المستشار عبد الحليم الجندي، والرئيس السابق لإدارة قضايا الحكومة في جمهورية مصر العربية، ورئيس لجنة تجلية مبادئ الشريعة الإسلامية بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضو مجمع
__________
(1) ص 2) ضمن مجموعة تضم "الأصول الثلاثة" وأدلتها، و "كتاب التوحيد"، و "الأربعين النووية" وغيرها. مطابع الإشعاع - الرياض.(1/374)
البحوث الإسلامية بالأزهر، وعضو لجنة الشريعة بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، جاءنا زائرا، ثم عاد يخرج كتابا اسمه "الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي"؛ يقول في مقدمته:
"ومن أجل الاعتبار بما صنعه ابن عبد الوهاب، وحاجة العصر الحالي إلى التأسي بكل كلمة قالها، وكل صنيع صنعه، وضع هذا الكتاب، ليذكر كل ذي بصر أن صفحات هذا التاريخ العظيم تتكرر"، ويعني: تاريخ الإسلام.
إلى أن يقول:
?بهذا أصبحت المملكة العربية السعودية دولة رائدة في المجتمع العالمي، معلمة للمجتمع الإسلامي، بانتصار الشريعة على الجريمة والرذيلة والتواكل والجهل والفشل، بسيادة العدالة والطمأنينة، وانتشار الجامعات وازدهار الأخلاق الرغيبة والائتمار بالمعروف والتناهي عن المنكر، وبهذا قامت جماعة إسلامية حقا هي آدى للأمانة، وآكد في التعامل، وأبعد من التبذل، وأصون للحرمات، تتواصل فيها الطبقات، وتكدح وتجد وتجتهد، وتثبت لعالم تتخاذل دوله وتتسلل شعوبه أن العذاب يحل بالأمم من أنفسها، ولا يصيب الذين ظلموا خاصة، وأن الله صادق وعده، ناصر جنده، وإن غبي عن ذلك عبدة القوة أو المادة، أو عمي الآخرون عن رؤية الواقع"?(1)???
حول ما يقال من تأثر بعض الحركات والدعوات بعقيدة الشيخ السلفية
__________
(1) انظر تقديم كتاب: "الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي" (ص 8 - 9).(1/375)
وما قيل من تأثر بعض الحركات والدعوات في خارج سلطان أنصار عقيدة الشيخ، مثل: حركة السنوسي في ليبيا، وحركة أحمد بن عرفان في الهند، وحركة الفرائضيين في الهند، وحركة نزار علي في الهند أيضا، وحركات البدري الثلاث في إندونيسيا، وحركة الإخوان المسلمين، وبعض دعاة في البلدان قيل إنهم تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مثل: الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والجمعية الشرعية في مصر، وما قيل أيضا أن الثورات التي انطبعت بطابع ديني تأثرت بدعوة الشيخ، كالثورة المهدية في السودان، وثورة إيش محمد كول في التركستان، وما قيل من أن إصلاح سلطان المغرب المولى سليمان بن محمد في المغرب وعبد الحميد بن باديس في الجزائر قد تأثرا بدعوة الشيخ?(1)??؛
__________
(1) انظر: "دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي" رسالة دكتوراه على الآلة الكاتبة (ص 439 - 491)، و "كتاب انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية" تأليف محمد كمال جمعة، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، وطبع على نفقة وزارة التعليم العالي، (ص 97 - 105 ، وص 213 - 220، وص 223 - 225، الفصول: الثالث، والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن)، وكتابات الدكتور محمد عبد الله ماضي أستاذ التاريخ بكلية أصول الدين في حاضر العالم الإسلامي، "النهضات الحديثة في جزيرة العرب في المملكة العربية السعودية" (ص 62 - 70، الطبعة الثانية عام 1372 هـ) الحلبي..وانظر: بحث الدكتور محمد سلام مدكور من مصر (ص 16 - 21)، وبحث الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي من الشام (ص 21 - 41)، وبحث عبد الفتاح مقلد الغنيمي عن غرب أفريقيا (ص 3 - 19)، وبحث أنور الجندي عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة (ص 2، 4 - 9)، وبحث الدكتور عبد الحليم عويس (ص 14 - 19، 20 - 31)، وبحث الشيخ عطية محمد سالم (ص 14 - 16، 21 - 22، 35 - 36)، وبحث الدكتور مصطفى محمد سعد هرجس (8، 16 - 17، 18)، وبحث الدكتور محمد السعيد جمال الدين بعنوان "دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأصداؤها في فكر محمد إقبال" وكل هذه البحوث قدمت لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فكتبت على الآلة وجمعت في مجلد سمي: "تأثر الدعوات الإصلاحية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ثم وزع على المشتركين في المؤتمر وبعض الحضور والمدعويين، وهو المنعقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في 21/4/1400 هـ.(1/376)
كل ذلك يحتاج إلى دقة
وتحقيق ودليل يثبت أن هذه الدعوات والحركات تأثرت بعقيدة الشيخ وحركته ودعوته وقيام أنصاره.
وأغلب ما تعتمد عليه هذه الأقاويل على مصادر غربية بعيدة معادية لا دقة لديها ولا تحقيق، ولكن تعتمد على الظنون وما تريده من تشويه للصورة الصحيحة حتى لا يفهم الناس الحقيقة.
والحقيقة أن هذه الدعوات والحركات والثورات نابعة من أهلها، وهم بأنفسهم لا يذكرون أنهم من أتباع الشيخ، ولا أنهم تتلمذوا عليه أو قرأوا كتبه ومؤلفاته وأرادوا تطبيقها، ولا أحد يثبت ذلك فيذكره، بل إن هؤلاء لا يعترفون بهذه التبعية، ولا بالتأثر به، وربما أن أكثرهم لا يعرفه، إلا عن طريق أعدائه ودعاياتهم الكاذبة، وبصورة مشوهة غير حقيقية، أو يعرفه بعضهم ولكن لا يعترف بطريقته السلفية، وإن كان
ينتسب إلى السلف؛ كما هو شأن الأشعرية والصوفية وأهل الكلام وأهل السياسة الدنيوية التي تريد العلو في الأرض والرئاسة أو تريد الدنيا ولا تريد الآخرة.(1/377)
فكل هذه المذاهب وما كان على هذه الشاكلة لا تعترف بعقيدة السلف الصالح، وهي العقيدة التي يعتقدها الشيخ؛ فأصحابها يخالفونها في كثير أو قليل، والأمثلة على ذلك كثيرة: فهذا السنوسي قد سئل عنه أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمهما الله، فقال السائل: السنوسي المغربي مصنف "السنوسية" المعروفة ب "علم الصفات"، فهل تنقمون عليه شيئا من ذلك... إلخ؟ فكان جوابهم أن السنوسي ليس من أئمة السنة والجماعة؛ فإن أهل السنة والجماعة هم الذين نعتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"(1) والسنوسي المذكور صنف كتابه "أم البراهين" على مذهب الأشاعرة، وفيها أشياء كثيرة مخالفة ما عليه أهل السنة؛ فإن الأشاعرة خالفوا ما عليه السلف الصالح في مسائل؛ منها: مسألة العلو، ومسألة الصفات، ومسألة الحرف والصوت.... إلخ جوابهم(2).
وبعضهم الآخر في نصوص الصفات سلك مسلك من يفوض
__________
(1) سبق تخريجه في (1/ 255) من هذا البحث.
(2) "الدرر السنية" (ج 3، ص 191).(1/378)
المعنى والكيف ولا يقول بأن المعنى معلوم والكيف مجهول؛ إذ لا فرق عنده بين المعنى والكيف، ثم صحح مذهب الخلف أهل التأويل المذموم، وهو صرف اللفظ عن معناه الراجح من ظاهره إلى المعنى المرجوح، بحجة فرارهم من التشبيه والتمثيل، وهم قد وقعوا في شر مما توهموه وفروا عنه، ورجح مذهب أهل التفويض، وجعلهم هم السلف(1) ولم يذكر مذهب السلف الصحيح الذي عبر عنه الإمام مالك حيث قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول"، ففرق بين المعنى والكيف، وأن المعنى معلوم والكيف مجهول، وكذلك الإمام الطحاوي، قال: "العلم علمان: علم موجود، وعلم مفقود"(2) فالموجود علم المعنى والمفقود علم الكيف في باب صفات الله المقدسة.
وقد رد الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ قول من قال في وسيلة دعوته الله: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت. فقال الشيخ عبد الرحمن:
"اعلم أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة، وأما الصفة، فيعلمها أهل العلم بالله، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم منه معنى الصفة على ما يليق بالله، فيقال: استواء لا يشبه استواء المخلوق، ومعناه ثابت لله
كما وصف به نفسه، وأما الكيف، فلا يعلمه إلا الله، فتنبه لمثل هذا؛ فالإمام مالك تكلم بلسان السلف"(3).
__________
(1) انظر: "العقائد" للإمام الشيخ حسن البنا (ص 70 - 78).
(2) انظر: "العقيدة الطحاوية" شرح وتعليق محمد ناصر الدين الألباني (ص 34).
(3) "الدرر السنية" (ج 3، ص 299).(1/379)
ويدعي هذا البعض من أولئك الدعاة أن في نصوص الصفات ما يوهم التمثيل والتشبيه(1) بينما أنه ليس في نصوص الصفات ما يوهم ظاهره اللائق بالله تعالى تمثيلا أو تشبيها، ومن توهم شيئا من ذلك، فهو لأنه لم يعط النص حقه من التأمل والتدبر وإمعان النظر، ولو فعل ذلك، لم يجد في ظاهره اللائق بجلال الله تعالى ما يوهم تمثيلا أو تشبيها، وحاشا أن يكون ظاهر كلام الله وكلام رسوله يوهم ذلك، والسلف والأئمة لم يكونوا يتوهمون أن ظاهرها التمثيل، ولا يرضون بذلك، كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية(2) وعلى ذلك الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وسائر السلف الصالح.
وفي تعاليمهم أن أركان بيعتهم عشرة، أولها الفهم، ويريدون بالفهم أن يفهم الإسلام في حدود ما يسمونه بالأصول العشرين، وفي أكثرها نظر، ومن ذلك تأصيلهم أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة
وعبادة(3).
وهذه كلمات مجملة غامضة، يدخل فيها ما هو من الإسلام وما ليس منه، ولا يفهم منها تحديد للمقصود كما يفهم من تعريف السلف الصالح للإسلام، وعلى رأسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما سأله جبريل عن الإسلام، قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله الحرام إن استطعت إليه سبيلا"(4).
__________
(1) انظر: "العقائد" للإمام الشيخ حسن البنا (ص 74 - 75).
(2) انظر: "التدمرية" القاعدة الثالثة (ص 27) ضمن مجموعة نفائس.
(3) "رسالة التعاليم" للإمام الشيخ حسن البنا (ص 3).
(4) انظر: "صحيح البخاري" (كتاب الإيمان، باب 37، 34، وكتاب الشهادات، باب 26، وتفسير سورة 31، ومسلم الإيمان 5، 7، 8) وغيرهما.(1/380)
وقال - صلى الله عليه وسلم - " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم ومضان، وحج بيت الله الحرام "(1)(2).
ولما كان أصل هذه المباني هو شهادة أن لا إله إلا الله كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك حين بدأ بها وحين بعث معاذا إلى اليمن، أمره أن يبدأهم بها، وقد ذكر ذلك البخاري في أول كتاب التوحيد من "صحيحه" لذلك.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث
مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان؛ فأركان الإسلام خمسة...! إلخ(3).
ويرون الاستعاذة بالمقبورين ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر(4) بينما هي شرك ينقض الإسلام، وليست مجرد كبائر ومبتدعات على المصطلح في مفهوم الكبائر والمبتدعات التي لا تخرج من الملة...
__________
(1) صحيح مسلم : كتاب الإيمان (16) , وسنن النسائي : كتاب الإيمان وشرائعه (5001), ومسند أحمد (2/26 ,4/363 ,4/364).
(2) انظر: "صحيح البخاري" (كتاب الإيمان، باب 1، 2، تفسير سورة 2، 30)، و "صحيح مسلم الإيمان" (19 - 22) وغيرهما.
(3) انظر: "مؤلفات الشيخ" (القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول، ص 189)، وما بعدها.
(4) "رسالة التعاليم" للإمام الشيخ حسن البنا (ص 6).(1/381)
وهكذا، لا يركزون في دعوتهم على إبعاد الناس عن الشرك، مثل دعاء غير الله والنذر له، طلبا للنفع ودفع الضر، ليصححوا التوحيد، وهو أول شيء، ولكن يركزون على الحاكمية تركيزا جعل دعوتهم أشبه بدعوة سياسية تطلب الحكم، بينما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتركز على أنه لا يدعى إلا الله، ولا يذبح إلا له، ولا يصرف شيء من أنواع العبادة المشروعة لغيره؛ فهي دعوة توحيد الله بالعبادة التي شرعها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأتباعه، ثم طلب من الأمير الموهوب ملكات الإمارة أن ينصر ذلك، وبين له أن الدولة والملك ثواب لمن نصر ذلك، لا أن الإسلام هو الدولة، كما توهمه تعاليمهم بأن الإسلام دولة ووطن أو حكومة وأمة.
وضياع الحكومة والملك من المسلمين إنما يكون عقوبة
للتفريط منهم بدينهم، فإذا عادوا إلى حفظ دينهم وصححوا توحيدهم، عاد الله عليهم بالعز والتمكين، كما في حديث ابن عباس: "احفظ الله يحفظك"، فمشكلة المسلم ليست في نزع الملك من يده، وإنما مشكلة المسلم هي عدم تصحيحه شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا صححها وعمل بمقتضاها وصبر على ذلك، ملكه الله بها العرب، ودانت له بها العجم، والله أعلم.(1/382)
وهذا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في رسالة "التوحيد" التي ألفها لا يذكر تعريف التوحيد الذي هو حق الله على العبيد حين أراد أن يعرف علم التوحيد ويبين معناه، وقد استدرك عليه تلميذه محمد رشيد رضا، فقال: "فات الأستاذ أن يصرح بتوحيد العبادة، وهو أن يعبد الله وحده، ولا يعبد غيره بدعاء ولا بغير ذلك مما يتقرب به المشركون إلى ما عبدوا معه من الصالحين والأصنام المذكرة بهم، وغير ذلك كالنذور والقرابين التي تذبح بأسمائهم أو عند معابدهم، وهذا التوحيد هو الذي كان أول ما يدعو إليه كل رسول قومه، بقوله: { (#rك‰ç7ôم$#?©!$#?$tB?Nن3s9?ô`دiB?>m"s9خ)?ے¼çnçژِچxî } (1)(2) ".
وقال شيخنا محمد خليل هراس : " وقد غلط الشيخ عبده في اعتباره توحيد الربوبية والانفراد بالخلق هو الغاية العظمى من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن هذا النوع من التوحيد كانت تقر به
الأمم التي بعثت إليها الرسل، ولم يقع فيه نزاع بينهم وبين الرسل، وإنما كان النزاع في توحيد الإلهية والعبادة، ولهذا، لم يجئ على لسان الرسل عليهم السلام الدعوة إلى اعتقاد أن الله وحده هو الخالق، وإن كان مدار دعوتهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل منهم كان مفتتح دعوته لقومه: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".
إلى أن قال الشيخ الهراس: "ولعل فضيلة الشيخ عبده في هذا كان متأثرا بالأشعرية الذين جعلوا الانفراد بالخلق هو أخص خصائص الإلهية، واهتموا في كتبهم بإقامة البراهين على هذا النوع من التوحيد، دون أن يشيروا إلى توحيد الإلهية الذي هو أقصى الغايات ونهاية النهايات"(3).
__________
(1) سورة الأعراف آية : 59.
(2) "رسالة التوحيد" تأليف محمد عبده، تعليق محمد رشيد رضا (الطبعة 12 عام 1366هـ، ص 4).
(3) "دعوة التوحيد، أصولها، الأدوار التي مرت بها مشاهير دعاتها" تأليف محمد خليل هراس (ص 9 - 10).(1/383)
وغير ذلك من شطحاته في الملائكة والجن ونحو ذلك، كما في "تفسير المنار" نقلا عنه.
وذلك المهدي في السودان رضي أن يطلق عليه المهدي، بل أعلن أنه قد رأى رؤية للنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوه فيه إلى قيادة المؤمنين كمهدي مخلص أرشده الله، وتدافع عليه الآلاف يحلفون له على الطاعة(1).
وهذا يدل على أنه اغتر بنفسه أنه المهدي، بناء على إعلانه أنه رأى رؤية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إن هذه الرؤية لم يبين هل هي منام أو يقظة؛
كما يدعيه جهلة الصوفية أنهم أو أحدهم يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة، ويحضر المولد أو ما أشبه ذلك، وهذا أقبح الغلط، وغاية التلبيس، وأعظم الخطإ المخالف للكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا، ومن قال خلاف ذلك، فهو كاذب كذبا بينا، أو غالط ملبس عليه، لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح ودرج عليه أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان.
ولو تبين أن هذه الرؤية منام، فعلى كل الاحتمالين هي ليست بصحيحة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدعو إلى خلاف الحق، ولا يشير ولا يقول بخلاف الحق لا في حياته ولا بعد موته(2).
وقد تبين أن مهدي السودان ليس هو المهدي الذي يقود المؤمنين كمهدي مخلص أرشده الله، بل لم يخلص حتى أهل السودان من الخرافات ومخالفة التوحيد ومن الاستعمار النصراني، فقد استولى كتشنر الإنكليزي على السودان، وأمر بتدمير قبر المهدي، والتمثيل بجثته، وعرض رأسه في القاهرة(3) وكان أتباعه يعتقدون بمعجزة رجوعه(4).
__________
(1) "انتشار دعوة الشيخ .." تأليف محمد كمال جمعة (ص 224).
(2) انظر: "التحذير من البدع" للشيخ عبد العزيز بن باز (ص 18 - 19).
(3) انظر: "انتشار دعوة الشيخ .." تأليف محمد كمال جمعة (ص 224 - 225).
(4) انظر: "انتشار دعوة الشيخ .." تأليف محمد كمال جمعة (ص 224 - 225).(1/384)
وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن الرؤيا
السارة في المنام؟ فقال: "الرؤيا أرجو أنها من البشرى، ولكن الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره"(1).
وكل تلك الدعوات والحركات لا تخلو واحدة من سمة تدل على عدم ارتباطها بعقيدة الشيخ دلالة واضحة، فليس في عقيدة الشيخ شيء من هذه الطرق الصوفية ولا الأشعرية ولا القبورية ولا المذاهب السياسية التي تريد التسلط ولا النزعات الثورية، كل ذلك ليس من عقيدة الشيخ السلفية، كما هو ليس من عقيدة السلف الصالح جميعا في شيء، وما وافقوا فيه الإسلام من أمور، فهذه الموافقة ليست دليلا على أنهم تأثروا بالشيخ كما قررنا، وكون أحدهم حج مرة أو مرتين، وحتى لو قابل أحدا من حملة عقيدة السلف الصالح، ليس هذا اللقاء مقتضيا لتأثره ما لم يثبت دليل من أدلة التأثر أو صيغة من صيغ التحمل والاقتناع، هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء لا يقولون بأنهم من أتباع الشيخ كما قررنا، ولا الشيخ وأتباعه وأنصاره يحتضنون شيئا من هذه الدعوات بقصد احتوائهم وجعلهم تبعا لهم، ولا يطمئنون لبعض طرقهم المخالفة، كالنزعات الصوفية أو الكلامية أو البدع الأخرى، حتى في تعريف العبادة؛ فأكثر هؤلاء لا يعرف أن العبادة مبناها على الأمر الشرعي، ولا يعرف أن التوحيد من مقامين: مقام توحيد المعرفة والإثبات، ومقام توحيد القصد والطلب، ولا يعرف أن توحيد القصد والطلب الذي هو توحيد الألوهية والعبادة متضمن لتوحيد الربوبية ولا
__________
(1) "مؤلفات الشيخ" (القسم الثالث، الفتاوى رقم 11، ص 51)، وانظر: "روضة ابن غنام" (ج 1/ 198).(1/385)
عكس، لكن، توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وكثير منهم إذا عرف التوحيد، إنما يعرفه بأنه توحيد الربوبية، كما ذكرت عن الشيخ محمد عبده وسائر من تأثر بالأشاعرة الذين اشتهر عنهم هذا المنهج في تعريفهم التوحيد، ومعلوم أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي عن الإتيان بلازمه، وهو توحيد الألوهية، وكم من يقر بالربوبية وينكر توحيد الإلهية لِلَّهِ
ولعل في ذلك كفاية في بيان عدم صحة الرأي القائل بأن مثل هذه الدعوات والحركات متأثرة بالشيخ ودعوته وحركته وحركة أنصاره من أجل نصرة دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم.
وبهذا نأتي على ختام هذا الفصل، وبختامه أختم الباب الثاني في أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في العالم الإسلامي، ونأتي إلى خاتمة البحث كله، سائلين الله حسن الخاتمة.
الخاتمة
وتشتمل على خلاصة البحث ونتيجته
نحمد الله تبارك وتعالى ونشكره على ما يسر من هذا البحث، وقد أتيت فيه على مقدمة، بدأتها بالثناء على الله بما هو أهله، وثنيت بالصلاة والسلام على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأشرت إلى خير الحديث وخير الهدي، وحالة الناس حين أرسل الله خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - وظهور دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الدين كله، ثم حدوث ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفتن في الأمة الإسلامية، وبقاء طائفة منها على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة، لتقوم بهم الحجة الرسالية، ومن هذه الطائفة المجددون في الإسلام، ومن هؤلاء المجددين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن ناصره من آل سعود.
وإنني اخترت عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي موضوعا لرسالة الدكتوراه؛ لأهمية هذا الموضوع، ولأسباب ركزتها في ثلاثة، خلاصتها: أنها عقيدة نعتمدها في ديننا ودنيانا، وهي أساس وحدة المملكة العربية السعودية، فأردت(1/386)
تذكير ناشئة الجيل الجديد بها على هذا المستوى الجامعي؛ ليكون اعتقادنا السليم عن علم واتباع لا عن تقليد وابتداع، وفي ضمن ذلك أردت الرد بأسلوب علمي على أعدائها والمفترين عليها، وذلك عن طريق عرضها عرضا أصيلا وصحيحا من مصادرها الكثيرة الأصلية، وبينت فضائل من سبقني في ذلك، وشكرت من أسدى إلي معروفا، ودونت خطة البحث ومنهجه.
ثم أتيت إلى المدخل، واشتمل على مبحثين: أولهما: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلإمي، وثانيهما: في حياة الشيخ، خصوصا الناحية العلمية.
وقد ذكرت في مبحث البيئة وصفا لها من الناحية السياسية والدينية، وما يتبع ذلك من الناحية الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك من النواحي المتفرعة، وتوصلت إلى أنها بيئة يغلب عليها أمر الجاهلية، من عبادة غير الله تعالى، كالذبح للمقبورين، ودعائهم، والاستغاثة بهم، والنذر لهم من أجل أن يشفعوا لفاعل ذلك عند الله تعالى، ومن فوضى، واضطراب، وتفرق، وعداوة، ونهب، وسلب، وخيانة، ومعاملات كانت كلها سببا في دمار الاقتصاد وخرابه وفساد في الأخلاق وخوف وقلاقل وفتن، هذا في الغالب. فبينت أن البيئة بما غلب عليها من غربة لهذا الدين شديدة كانت بحاجة إلى مصلح يعيد للدين ظهوره وانتشاره وعهده بعد غربته، فقيض الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب أبرز هؤلاء المصلحين.
وأما مبحث حياة الشيخ، فقد تضمن ترجمته، ونشأته، ورحلاته(1/387)
العلمية، وشيوخه، وتلاميذه، ومؤلفاته، ووفاته، ورثاءه، وذكرت مصادر ترجمته، وما يعتمد عليه وما لا يعتمد عليه منها، ونسبه، وأسرته العلمية، ونشأته في هذه الأسرة نشأة علمية، ورحلاته من ناحية خط سيرها وزمانها والأمكنة التي رحل إليها، وشيوخه من أهل الحديث وغيرهم في الحرمين والبصرة والأحساء، وذكرت أن نتيجة هذه الرحلات زيادة معرفة الشيخ، وتسلحه بسلاح العلم النافع واليقين الراسخ، وحرر علم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد من الكتاب والسنة على علماء أهل السنة والجماعة في مهابط الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وامتلأ وطابه من الآثار وعلم السنة، وبرع في مذهب أحمد ابن حنبل - رضي الله عنه - ورجع من رحلاته وهو في مستوى علمي يفوق علماء زمانه.
وفي ذكري لمؤلفاته بينت عدم صحة نسبة بعض المؤلفات إليه، وحققت نسبة بعض منها إليه، وهي التي حصل تشكيك من البعض في نسبتها إليه.
هذا مع ذكر شيء عن كل مؤلف وأثر من مؤلفات الشيخ، من ذكر مكان وجوده وصفته وشيء من موضوعه بشكل موجز ومختصر.
ثم وصلت إلى الباب الأول، وهو ما يختص بعقيدة الشيخ السلفية، وقد تضمن أربعة فصول:
أما الفصل الأول؛ فهو في منهج الشيخ في عقيدته ودعوته، وتوصلت إلى أن منهجه هو منهج السلف الصالح في العلم والعمل.
وأما الفصل الثاني، فهو في مجمل عقيدة الشيخ السلفية، وتوصلت إلى أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره جملة وتفصيلا كما يؤمن بذلك سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، ويقول في الإيمان ما يقولونه، واكتفيت بذكر أدلته من الكتاب والسنة على كل مسألة من مسائل عقيدته؛ لبيان أصالة اعتقاده، وصلته بمذهب السلف الصالح، والتقائه معهم في المصير والمرجع، كما التقى معهم في المنهج والوسيلة.(1/388)
وأما الفصل الثالث، فهو في التوحيد من مقاميه: المقام العلمي والعملي، ويكمن فيه الأمر الذي واجه به الشيخ مجتمعه، واستنكره عليه عامة الناس، ثم أظهره الله به على من ناوأه وعاداه.
وأما بقية أركان العقيدة، فلم يحصل فيها من النزاع ما حصل في التوحيد، ولأنها في الحقيقة مبنية على التوحيد، فلذا؛ لم أجد من تفاصيلها ما وجدته في التوحيد، فاكتفيت بما ذكرته منها عن الشيخ في مجمل عقيدته.
وقد أتيت في هذا الفصل الثالث على ذكر عقيدة الشيخ في التوحيد من مقاميه: المقام العلمي الخبري، والمقام العملي الطلبي، فالمقام الأول هو توحيد المعرفة والإثبات، ويدخل فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والمقام الثاني: توحيد الطلب والقصد، ويدخل فيه توحيد الألوهية والعبادة.
وتوصلت إلى أن الشيخ يعتقد في كل ذلك عقيدة السلف
الصالح، وما خرج عنها في شيء من ذلك، يتبين هذا من أدلته وبراهينه من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة واتفاق أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك، ومذهب الشافعي، ومذهب أحمد ابن حنبل، إمام كل حنبلي في أصول العقيدة السلفية وفي مسائلها الأصلية ودلائلها.
والفصل الرابع تضمن التحذير من نواقض عقيدة السلف الصالح أو نواقض كمالها، وأتيت فيه على نواقض الإسلام وتفاصيل عن الشرك وأقسامه وأفراده وخطره، وإمكان وقوعه، وبيان وسائله وأسبابه، وطرق مقاومته، والحذر الشديد من ذلك، وحماية جناب التوحيد، وتصحيح الاعتقاد بترك الشرك كله وسد ذرائعه، والرد على شبهات المشركين وكشفها.
ثم وصلت إلى الباب الثاني، وهو ما يختص بأثر عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي، وقد تضمن خمسة فصول:
فالفصل الأول ذكرت فيه أسباب ومبادئ تأثير عقيدة الشيخ، وأول ظهورها في حريملاء لما رجع من رحلاته العلمية، ثم أثرها في العيينة، وما حصل عليه من آثار في البلدان الأخرى وأتباع في تلك المرحلة قبل قيام دولة العقيدة.(1/389)
ثم في الفصل الثاني بينت كيف تم لقاء الشيخ بالأمير محمد بن سعود، وكيف تأثر بما عرضه الشيخ محمد من عقيدة السلف الصالح، وحصلت البيعة المباركة، وبينت أن ذلك التأثر دليل على فضل الأمير
وطيب معدنه وخيرته ورجحان عقله وشجاعته، وبينت أنه المؤسس لمكاسب آل سعود من دولة إسلامية بسبب تلك العقيدة السلفية التي من شأنها أنها تأتي بالخلافة والملك الإسلامي، وأن من مكاسبهم صلاح دينهم ودنياهم، وظهورهم على الملوك والأمراء، ونصرهم على أعدائهم، واتساع مملكتهم حتى شملت غالب جزيرة العرب وما حولها، وارتفع ذكرهم في الخافقين، وبينت ظهور الدين وانتشاره، واندحار الشرك واختفاءه، وحصول الأمن والأمان.
وفي الفصل الثالث (وهو ما يخص الدور الثاني من أدوار دولة أنصارها) بينت ما تم من أثرها على يد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وابنه فيصل، وما تم من آثارها العلمية على يد الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وابنه عبد اللطيف وغيرهما من علماء الدعوة وأتباعها.
وفي الفصل الرابع بينت كيف عاد الله بعائدته على أهل هذه الجزيرة المرة بعد المرة، وهيأ لها الإمام الملك عبد العزيز يستعيد مكاسب عقيدة السلف الصالح التي حققها أجداده وآباؤه، ويعمل على نشر هذه العقيدة، والقيام بما تقتضيه، وهو الدور الثالث الحاضر، الذي لا يزال متصل الحلقات، يرتبط حاضره بماضيه، ويعمل لمستقبله منطلقا من حاضره، وبينت أبرز ما في هذا الدور من أثر العقيدة، وهو استعادة مكاسبها، وتوحيد البلاد تحت راية واحدة واسم واحد، والتقيد بأحكام الشرع، وتطبيقها، ومحاربة البدع والمنكرات ومظاهر الشرك، والقضاء على الأفكار الإلحادية المنافية للعقيدة،(1/390)
ودعوة العالم الإسلامي للتضامن، ونشر الدعوة إلى الإسلام، وبذل الجهود في التعليم وبناء المساجد وتعميرها، والاهتمام بخدمة الحرمين الشريفين، وذلك الأمن الوارف الذي لا يوجد في غير هذه المملكة العربية السعودية، كل ذلك من أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأما الفصل الخامس، وهو الأخير، فهو يختص بأثر عقيدة الشيخ في خارج سلطان أنصارها من بلدان العالم الإسلامي، بينت فيه كيف وصل أثرها إلى خارج سلطانها، وأثرها في اليمن، ثم في الشام، ثم في بلدان الخليج والعراق وفارس والهند ومصر، وبينت عدم ثبوت صلتها بالحركات السياسية والدعوات، وإن كانت منتمية إلى الإسلام، مثل حركة السنوسي في ليبيا، والفرائضيين في الهند، وأحمد بن عرفان الشهيد في الهند، والبدري في إندونسيا، ومثل دعوة محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والإخوان المسلمين، والجمعية الشرعية، وثورة المهدي في السودان، وأيش محمد كول في تركستان، وإصلاح سلطان المغرب، وابن باديس في الجزائر، كل ذلك لم يثبت شيء منه أنه تأثر بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته، فبينت ذلك.
والنتيجة العامة التي توصلت إليها من بحثي هي أن عقيدة السلف الصالح قطب رحى المسلمين، وأنها تعود على التمسك بها بالنصر والتمكين في العاقبة، ومن تخلى عن نصرتها، فقد تخلى عن نصرة الإسلام الخالص، وتكون عاقبته الهلاك والزوال، وكلما رجع
المسلمون إلى دينهم، وعادوا إلى عقيدتهم السليمة، كلما عاد الله عليهم بعائدته، ورد لهم الكرة بعد الكرة: { cخ)?©!$#?ںw?çژةiچtَمƒ?$tB?BQِqs)خ/?4س®Lym?(#rçژةiچtَمƒ?$tB?ِNحkإ¦àےRr'خ/? } (1).
__________
(1) سورة الرعد آية : 11.(1/391)
وأما النتيجة الخاصة، فإني وجدت أن نور الحق والإسلام الخالص قد أشرق بدعوة الشيخ واستجابة آل سعود إلى نصرة عقيدة السلف الصالح، وبسبب ذلك صار ورثة الشيخ من أبنائه وغيرهم الذين ورثوا علمه صاروا مشايخ الدعوة الإسلامية، وصار أنصارها من آل سعود هم الأئمة والملوك، وتحققت أن منهج الشيخ منهج السلف الصالح الذي يأتي بالخلافة والملك الإسلامي في الأرض، كما تحققت أن عقيدة الشيخ السلفية كما قامت عليها دولة سعودية فاقت أهل زمانها، فهي صالحة لأن تقوم عليها دولة سعودية معاصرة تفوق أهل هذا الزمان في الدين والدنيا والعلم والعمران في جميع أقطار المعمورة بحول الله وقوته، كيف لا وهي تحقيق (لا إله إلا الله) التي تميل كفتها بكل كفة؟! وإننا على الطريق إن شاء الله سائرون.
قال الله تعالى: { y‰tمur?ھ!$#?tûïد%©!$#?(#qمZtB#uن?َOن3ZدB?(#qè=دJtمur?دM"ysخ="¢ء9$#?َOكg¨Zxےخ=ّـtGَ،uٹs9?'خû?اعِ'F{$#?$yJں2?y#n=÷‚tGَ™$#?ڑْïد%©!$#?`دB?ِNخgخ=ِ6s%?£`uZإj3uKمs9ur?ِNçlm;?مNهks]ƒدٹ?"د%©!$#?4س|سs?ِ'$#?ِNçlm;?Nهk¨]s9دd‰t7مٹs9ur?.`دiB?د‰÷èt/?ِNخgدùِqyz?$YZّBr&? ?سح_tRrك‰ç6÷ètƒ?ںw?ڑcqن.خژô³ç"?'خ1?$\"ّx©? ?`tBur?tچxےں2?y‰÷èt/?y7د9؛sŒ?y7ح´¯"s9'ré'sù?مNèd?tbqà)إ،"xےّ9$#?اخخب } (1).
والحمد لله رب العالمين.
وَصَلِّ اللهم وَسَلِّمْ على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
قائمة المراجع
* القرآن الكريم.
* السنة الشريفة:
رتبت ما يلي من الكتب حسب حروف الهجاء من أسماء المؤلفين أو المحققين أو الجامعين.
( أ )
* إبراهيم بن صالح بن عيسى:
1- "تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد ووفيات بعض الأعيان وأنسابهم وبناء بعض البلدان من 700 هـ إلى 1340 هـ": أشرف على طبعه وقدم له وحققه ووضع له فهارس حديثة وعلق عليه الأستاذ حمد الجاسر، الطبعة الأولى عام 1386 هـ، منشورات دار اليمامة- الرياض.
__________
(1) سورة النور آية : 55.(1/392)
* إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الفرضي:
2- "العذب الفائض شرح عمدة الفارض": المقدمة، الطبعة الأولى 1372 هـ، الحلبي، على نفقة الشيخ عبد الرحمن الطبيشي.
* إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن:
3- "تذكرة أولي النهى والعرفان": الجزء الأول، مطابع النور، الرياض، الطبعة الأولى.
* إبراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري البغدادي (1235- 1300 هـ):
4- "عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد": ألفه سنة 1286 هـ، وصورة مخطوطته بقسم المخطوطات في المكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية، بخط عبد الرزاق الملا محمد الحاج فليح البغدادي في 2 جمادى الأولى عام 1350 هـ.
* الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي (ت 795 هـ):
5- "الاعتصام": وبه تعريف العلامة محمد رشيد رضا، مطبعة السعادة.
* أحمد أمين:
6- "زعماء الإصلاح في العصر الحديث": عام 1965 م، مكتبة النهضة المصرية.
* أحمد بن حجر بن محمد آل بوطامي آل بن علي قاضي الحكمة الشرعية بدولة قطر:
7- "الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ عقيدته السلفية، ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه": تقديم وتصحيح الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة 1395 هـ.
8- تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران": طبع بمطابع مؤسسة دار العلوم، الدوحة- قطر.
* الإمام أحمد بن حنبل (164- 241 هـ):
9- "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله"، ويليه "كتاب السنة": تصحيح إسماعيل الأنصاري، نشر رئاسة البحوث العلمية السعودية.
10- "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، وبهامشه "منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال": تصوير المكتب الإسلامي ودار صادر للطباعة والنشر- بيروت.
* أحمد السباعي:
11- "تاريخ مكة": دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران، الطبعة الثانية، مطابع دار قريش بمكة، 1382 هـ.(1/393)
* شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (661- 728هـ):
12- "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم": تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية عام 1369 هـ، مطبعة السنة المحمدية.
13- "التدمرية": ضمن مجموعة نفائس بتحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة الثالثة عام 1374 هـ، مطبعة السنة المحمدية.
14- "رسالة الفتوى الحموية الكبرى": وقف على تصحيحها بقدر الإمكان وتعليق حواشيها محمد عبد الرزاق حمزة، الطبعة السادسة، مطبعة المدني.
15- "نقض المنطق": حقق الأصل المخطوط وصححه الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة والشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، وصححه ووضع عنوانه محمد حامد الفقي بمشورة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكتب مقدمته الشيخ عبد الرحمن الوكيل، وعمل فهارسه رشاد سالم، الطبعة الأولى عام 1370 هـ بمطبعة أنصار السنة المحمدية، وهو جواب سؤال عن مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين؛ ما الصواب منهما؟
16- "العقيدة الواسطية": بشرح وتحقيق الشيخ محمد بن مانع، مطبعة الاقتصاد بالقاهرة وطبعة المطبعة السلفية بالقاهرة عام 1347 هـ.
17- "قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات ومنافعها ومضارها" ضمن مجموع الرسائل والمسائل للشيخ: وهي القسم الثالث من أقسام المجموعة، طبعة مطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى عام 1349 هـ.
* أحمد بن عبد الغفور عطاء:
18- "محمد بن عبد الوهاب ": الطبعة السادسة عام 1397 هـ.
* الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى عام (430 هـ):
19- "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء": الطبعة الثالثة عام 1400 هـ.
* أحمد بن عطية بن عبد الرحمن الزهراني:
20- "دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي": رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في العقيدة من جامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1402 هـ.(1/394)
* الحافظ المؤرخ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي (392- 463 هـ):
21- "تقييد العلم": تحقيق يوسف العش، الطبعة الثانية عام 1974م، نشرته دار إحياء السنة النبوية.
22- "كتاب اقتضاء العلم العمل": تحقيق محمد ناصر الدين الألباني ضمن رسائل أربع من كنوز السنة، نشر وتوزيع دار الأرقم- الكويت.
* الحافظ ابن حجر أحمد بن علي بن محمد بن الكناني العسقلاني (773- 852 هـ):
23- "فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري": تصحيح وتحقيق وإشراف ومقابلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، طبعة السلفية بمصر، بدون تاريخ الطبع ولا عدد الطبعة.
24- "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة": الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية في الهند عام 1348 هـ.
* الشيخ أحمد بن علي بن مشرف الأحسائي تلميذ المؤرخ حسين بن غنام:
25- "ديوان ابن مشرف": الطبعة الثالثة عام 1370 هـ، مطبعة السنة المحمدية.
* الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني (ت 287 هـ):
26- "كتاب السنة ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة": بقلم محمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى عام 1400 هـ، المكتب الإسلامي.
* أحمد محمد شاكر:
27- "تحقيق ترجمة الإمام أحمد من تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي، طبع دار المعارف للطباعة والنشر عام 1365 هـ.
* الدكتور أحمد محمد الضبيب:
28- "آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب": سجل ببليوجرافي لما نشر من مؤلفاته، الطبعة الأولى عام 1397 هـ، الرياض- المطابع الأهلية.
* أبو المنتهى أحمد بن محمد المغنيساوي الحنفي:
29- "كتاب شرح الفقه الأكبر": ضمن مجموعة بعنوان الرسائل السبعة (هكذا) في العقائد، الطبعة الثانية بمطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن عام 1367 هـ.(1/395)
* الحافظ ابن كثير، الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ):
30- "تفسير القرآن العظيم/ تفسير ابن كثير": الطبعة الثالثة، الاستقامة بالقاهرة، 1376 هـ.
31- "البداية والنهاية/ تاريخ ابن كثير": الجزء: 5- 6، المجلد الثالث، طبعة 1398، دار الفكر- بيروت.
32- "البداية والنهاية/ تاريخ ابن كثير" (ج1- 3): تحقيق ومراجعة وتعليق وتصحيح محمد عبد العزيز النجار، طبعة جديدة منقحة كاملة، يطلب من
مكتبة الفلاح بالرياض، مطبعة الفجالة الجديدة- مصر.
* المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني:
33- "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس": الطبعة الثالثة عام 1351 هـ، تصوير دار إحياء التراث العربي- بيروت.
* الشيخ إسماعيل الأنصاري:
34- بحث ضمن مجلد "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية": وهو عبارة عن بحوث مقدمة لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب المنعقد في الفترة من 21/ 4/ 1400 هـ إلى نهاية 27/ 4/1400 هـ.
* أمين الريحاني:
35- "نجد وملحقاته وسيرة عبد العزيز": الطبعة الثالثة، دار الريحاني للطباعة والنشر- بيروت، 1964 م.
* أمين سعيد:
36- "تاريخ الدولة السعودية": عهد سعود بن عبد العزيز، المجلد الثالث، الطبعة الأولى، توزيع دار الكتاب العربي- بيروت، 1385 هـ.
( ت )
* تركي بن محمد بن تركي بن ماضي أمير أبها سابقًا، توفي رحمه الله:
37- "تاريخ آل ماضي": طبع عام 1376 هـ، مطبعة الشبكشي بالأزهر بمصر.
( ح )
* حافظ وهبة (1307- 1387 هـ):
38- "جزيرة العرب في القرن العشرين": الطبعة الخامسة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1387 هـ.
* الإمام حسن البنا:
39- "العقائد": طبع ونشر دار الكتاب العربي بالقاهرة عام 1371 هـ.
40- "رسالة التعاليم": مطابع دار الثقافة للطباعة- مكة المكرمة.
* حسين خلف الشيخ خزعل:(1/396)
41- "تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب": حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب طبعة أولى 1968م، مطابع دار الكتب، نشر دار ومكتبة الهلال، بيروت- لبنان.
* الشيخ حسين بن غنام:
42- "تاريخ نجد" المسمى" روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام": جزءان، الطبعة الأولى عام 1368 هـ على نفقة الشيخ عبد المحسن بن عثمان أبا بطين، صاحب المكتبة الأهلية بالرياض، نجد، مطبعة الحلبي بمصر.
43- كتاب "العقد الثمين في شرح أصول الدين"، مخطوط.
* حسين بن مهدي النعمي (ت عام 1187 هـ):
43- "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب": حققه للمرة الأولى محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية عام 1393 هـ بمطابع الرياض.
* الشيخ حمد الجاسر:
44- "مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ": الطبعة الأولى عام 1386 هـ من منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر.
45- "المرأة في حياة إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب": بحث قدمه إلى أمانة أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
46- "جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد": جزءان، الطبعة الأولى عام 1401 هـ، منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر- الرياض.
47- مقدمة وتعليق على "تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد" لإبراهيم بن
صالح بن عيسى، الطبعة الأولى عام 1386 هـ، منشورات دار اليمامة- الرياض.
48- "مجلة العرب": الجزء التاسع، السنة الأولى، ربيع الأول سنة 387 1 هـ، ص 953-957.
49- والجزء التاسع والعاشر الربيعان سنة 1398 هـ، ص 129.
50- "مجلة العرب": الجزء العاشر، السنة الرابعة، ربيع الثاني، 1395 هـ، ص 941.
51- "مجلة العرب": الجزءان التاسع والعاشر، السنة الثانية عشرة (الربيعان سنة 1398 هـ)، و"السحب الوابلة ومؤلفها"، "النجديون المترجمون في السحب الوابلة"، ص 641- 736.
* الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق توفي سنة 1301 هـ:(1/397)
52- "إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد": الطبعة الثالثة عام 1388- 1389 هـ.
53- "مجموعة رسائل الشيخ حمد بن علي بن عتيق": تقديم محمود أحمد غضنفر السلفي، طبع عام 1396 هـ، بلاهور- باكستان.
* حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر (ت 1225) بمكة المكرمة:
54- "الفواكه العذاب في من لم يحكِّم السنة والكتاب": تحرير أجوبته على ثلاث مسائل من علماء مكة المكرمة، طبعت منفردة في مؤسسة النور بالرياض.
( خ )
* خير الدين الزركلي:
55- "الأعلام": قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، ط 4، عام 1979 م، دار العلم للملايين.
56- "شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز": ط 1، عام 1390 هـ، مطابع
دار القلم، بيروت.
57- "الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز": ط 2، على مطابع الشركة العامة للمطابع، بيروت سنة 1392 هـ.
( ر )
* الشيخ العالم راشد بن علي بن جريس الحنبلي النجدي من قرية نعام ومن أفاضل القرن الثالث عشر الهجري:
58- "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد": تقديم محب الدين الخطيب، ط بالمطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة 1379 هـ.
( س )
* ساطع الحصري:
59- "البلاد العربية والدولة العثمانية": دار العلم للملايين- بيروت، ط 2، 1960 م.
* سعد بن حمد بن عتيق (ت 1349 هـ):
60- "عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية": كتبها في الهند سنة 1302 هـ، طبع بالمطابع الأهلية للأوفست الرياض.
* الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260- 360 هـ):
61- "المعجم الكبير": حققه وخرج أحاديثه حمدي عبد المجيد السلفي، ط 1، الدار العربية للطباعة- بغداد.
* الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني:
62- "سنن أبي داود": تعليق أحمد سعد علي ط 1، سنة 1371 هـ، مطبعة الحلبي بمصر.
* الشيخ العلامة سليمان بن سحمان (1268- 1349 هـ):
63- "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية": 4 أجزاء، طبعة المنار في 1344 و1345 هـ.(1/398)
64- "الهدية السخية والتحفة الوهابية النجدية": مجموعة خمس رسائل لكبار أئمة نجد وعلمائها، ط 2، المنار سنة 1344 هـ، وط مطابع دار الثقافة بمكة المكرمة عام 1393 هـ.
65- "كتاب الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق": الطبعة الأولى، مطبعة المنار سنة 1344 هـ.
66- "الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد": ط 2 في سنة 1376 هـ، مطابع الرياض.
67- "كتاب تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين": ط 1 بمطبعة المنار بمصر سنة 1343 هـ.
68- "كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام": ط 2 عام 1376 هـ، مطابع الرياض.
69- "ديوان ابن سحمان": طبعة هندية قديمة.
* الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان:
70- "الدر النضيد على أبواب التوحيد": ط 1 عام 1396 هـ بالمطبعة السلفية بالقاهرة.
* الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1200-1233 هـ):
71- "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد": نشر مكتبة الرياض الحديثة.
* سليمان بن وائل التويجري:
72- "حصر مخطوطات مكتبات القصيم ومكتبات منطقة حائل": بحث نشر في مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي، ع 2 عام 1399 هـ، وع 3 عام 1400 هـ.
( ش )
* الأمير شكيب أرسلان عضو المجمع العلمي العربي بسورية:
73- فصول وتعليقات وحواش مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الإسلامية وتطورها الحديث على هامش كتاب "حاضر العالم الإسلامي" للمؤلف الأمريكي لوثروب ستودارد، طبعة سنة 1352 هـ، نشر وطبع مكتبة ومطبعة الحلبي بمصر.
74- "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم": منشورات دار مكتبة الحياة بيروت عام 1965 م.
( ص )
* صالح بن عبد الله العبود:
75- "فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام": رسالة ماجستير وطبعت بمطبعة المدني الطبعة الأولى، نشر دار طيبة- الرياض- السعودية.
* الأستاذ صالح محمد الحسن:
76- "تعقيب حول مقال الدكتور العثيمين": في مجلة الدارة، ع1 س5 ربيع الثاني 1399 هـ، ص 352- 358.(1/399)
* الشيخ صالح بن محمد العمري الشهير بالفلاني رحمه الله (1166- 1218 هـ):
77- "إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار وتحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار": دار نشر الكتب الإسلامية- باكستان، الطبعة الأولى سنة 1395 هـ.
* صلاح الدين مختار:
78- "تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها": منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت.
* المستشار عبد الحليم الجندي في جمهورية مصر العربية:
79- "الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي": نشر دار المعارف.
( ع )
* الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير بن محمد الحسني الإدريسي الكتاني الفاسي:
80- "فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات": طبع بالمطبعة الجديدة، ج1، 1346 هـ، ج2، 1347هـ، (جعله مؤلفه قاموسًا عامًا لتراجم المؤلفين في السنّة من القرن الثامن إلى أواسط القرن الرابع عشر الهجري).
* الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة الشافعي (596- 665):
81- "الباعث على إنكار البدع والحوادث": 89 ص وسط، مطابع دار الأصفهاني وشركاه بجدة بدون تاريخ وعدد للطبع.
* الشيخ عبد الرحمن الأنصاري المدني المولود سنة 1134 هـ، والمتوفى سنة 1197هـ:
82- "تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من الأنساب": طبعة تونس سنة 1390 هـ.
* عبد الرحمن بن حمد بن زيد المغيرى:
83- "الكتاب المنتخب في ذكر قبائل العرب": صححه وأشرف على طبعه الأستاذ إبراهيم محمد الأصيل مطبعة المدني بمصر سنة 1382 هـ.
* أبو الفرج الحافظ الإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي (736- 795 هـ):
84- "غربة الإسلام "، ويسمى: "كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة": تحقيق وتعليق وشرح أحمد الشرباصي من علماء الأزهر، مطابع دار الكتاب العربي بمصر، الطبعة الأولى سنة 1373 هـ.(1/400)
* عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي:
85- "جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة": عني بالطبع والنشر إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية بنارس- الهند، الطبعة الأولى عام 1400 هـ
* عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ:
86- تحقيق وتعليق على "عنوان المجد في تاريخ نجد" بأمر من وزارة المعارف، وطبع على نفقة وزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية سنة 1394 هـ، الطبعة الثالثة بدون ذكر لاسم المطبعة ولا مكان الطبع.
87- تحقيق وتعليق على كتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب": مطبوعات دارة الملك عبد العزيز رقم 2، المطابع الأهلية للأوفست الرياض.
88- "مشاهير علماء نجد وغيرهم": بإشراف دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر الطبعة الأولى عام 1392 هـ بالمملكة العربية السعودية.
89- دعوة الشيخ ومناصروها مطبعة المدني بمصر عام 1384 هـ.
90- "علماء الدعوة": مطبعة المدني بمصر عام 1386 هـ.
* الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1193- 1285 هـ):
91- "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد": تحقيق محمد حامد الفقي، الطبعة التاسعة، مطابع الحكومة بمكة المكرمة 1387 هـ، والطبعة الخامسة عام 1391 هـ، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة ومخطوطة له بعنوان: "كتاب التهذيب والتجريد لشرح كتاب التوحيد"، ناسخها عبد العزيز بن عبد الله العامر، فرغ من نسخها عام 1298 هـ.
* العلامة عبد الرحمن بن خلدون:
92- "مقدمة ابن خلدون": المكتبة التجارية بالقاهرة لصاحبها مصطفى محمد.
* الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (1319- 1392 هـ):
حقق ورتب وجمع "مجموعة الدرر السنية في الأجوبة النجدية ورسائلهم).
93- الجزء الأول: كتاب العقائد.
94- الجزء الثاني: كتاب التوحيد.
95- الجزء الثالث: كتاب الأسماء والصفات.
96- الجزء الرابع: كتاب العبادات.
97- الجزء الخامس: كتاب البيع.
98- الجزء السادس: كتاب النكاح.
99- الجزء السابع: كتاب الجهاد.(1/401)
100- الجزء الثامن: كتاب أحكام المرتد.
101- الجزء التاسع: كتاب مختصرات الردود.
102- الجزء العاشر: كتاب تفسير القرآن.
103- الجزء الحادي عشر: كتاب النصائح.
104- الجزء الثاني عشر: كتاب تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة. مجموعها 12 جزءًا، من مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية الطبعة الثانية عام 1385 هـ، الطبعة الثانية طبعت في مطابع المكتب الإسلامي بيروت ما عدا التاسع والحادي عشر فقد طبعا في مطابع شركة المدينة للطباعة والنشر، ط2 عام 1388 هـ بإشراف وتصحيح الأستاذ عبد العزيز بن سليمان الهيشة، والعاشر والثاني عشر؛ فقد طبعا بمؤسسة النور للطباعة والتجليد بالرياض.
105- "مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": جمع وترتيب، الطبعة الأولى 1381 مطابع الرياض.
* عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي (ت 1376 هـ):
106- "القول السديد في مقاصد التوحيد": مؤسسة مكة للطباعة والإعلام توزيع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
* العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني رحمه الله (1313- 1386 هـ):
107- "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل": قام على طبعه وتحقيقه والتعليق عليه محمد ناصر الدين الألباني، طبع على نفقة الشيخ محمد نصيف وشركاه 1386 هـ.
* الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم:
108- "الدولة السعودية الأولى 1158- 1233 هـ". الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة 1975 م، معهد البحوث والدراسات العربية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
* الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
109- محاضرة بعنوان: "محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته": الطبعة الثانية، الدار السعودية 1389 هـ.
110- مقدمة الطبعة الثانية وتعليقات على كتاب "الشيخ محمد... " بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي.(1/402)
111- "مقال في مجلة البحوث الإسلامية": المجلد الأول، العدد الثاني. 112- "التحذير من البدع": طبع في مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، توزيع الجامعة الإسلامية عام 1396 هـ.
* الحافظ أبو محمد المنذري عبد العظيم بن عبد القوي (851- 656 هـ):
113- "مختصر سنن أبي داود": تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي، مطبعة أنصار السنة المحمدية 1367 هـ.
* الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ (ت 1386 هـ) رحمه الله:
114- "مجلة راية الإسلام": العدد الأول.
* الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1225- 1292 هـ):
115- "مجموعه الرسائل والمسائل النجدية": الجزء الثالث، جمعها الشيخ سليمان بن سحمان، الطبعة الأولى، سنة 1345 هـ، مطبعة المنار بمصر.
116- "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام": تعليق محمد حامد الفقي، مطبعة أنصار السنة المحمدية- مصر.
* الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن عبد العزيز آل الشيخ:
117- "البيان الواضح لأسرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حتى سنة 1393 هـ ": طبع بدار بوسلام للنشر بتونس.
* أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى سنة 386:
118- "كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ": حققه وقدم له وعلق عليه محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، الطبعة الأولى عام 1402 هـ، نشر المكتبة العتيقة- تونس، ومؤسسة الرسالة- بيروت.
* عبد الله بن سعد الرويشد:
119- "الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ": نشر مكتبة عيسى البابي الحلبي بمصر عام 1392 هـ.
* الدكتور عبد الله الصالح العثيمين:
120- "الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ حياته وفكره": مطبوع، مطبعة المتوسط، بدون تاريخ نشر، دار العلوم- الرياض.(1/403)
121- مقال في "مجلة الدارة": العدد الثالث، س 4، شوال 1398 هـ بعنوان: "نجد منذ القرن العاشر الهجري حتى ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب"، الحالة الدينية ص- 32- ص 46.
122- "الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب": طبع على الآلة ضمن
مجلد حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية، وهو مجموعة بحوث في ذلك قدمت لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1400.
* الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين المتوفى سنة 1282 هـ:
123- "تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن جرجيس": طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر سنة 1344 هـ.
124- "الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين": المطبعة السلفية القاهرة 1378 هـ.
* الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام:
125- "علماء نجد خلال ستة قرون": مطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، الطبعة الأولى عام 1398 هـ.
* الإمام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي المتوفى سنة 255 هـ:
126- "سنن الدارمي": طبع بعناية محمد أحمد دهمان، وطبع بمطبعة الاعتدال بدمشق عام 1349 هـ.
* الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد:
127- مقال بعنوان: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته": طبع ضمن هداية الناسك ومعه مجموعة رسائل، الطبعة السابعة سنة 1398 هـ.
128- "المجموعة العلمية السعودية من درر علماء السلف الصالح": مطبعة النهضة بمكة عام 1391 هـ.
* الشيخ عبد الله بن محمد بن خميس:
129- "الشعر يواكب الدعوة": بحث قدمه لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب طبع على الآلة الكاتبة ضمن مجلد بعنوان: "تأثر الدعوات الإصلاحية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1400 هـ.
* عبد الله بن يوسف الشبل الأمين العام لجامعة الإمام محمد بن سعود:
130- "الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: حياته ودعوته": مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(1/404)
* الشيخ عبد القادر بن أحمد بن مصطفى المعروف بابن بدران (ت 1346 هـ):
131- "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل": قام بتصحيحه ونشره جماعة من العلماء بإشراف إدارة الطباعة المنيرية لصاحبها ومديرها محمد منير عبده أغا الدمشقي.
* عبد المتعال الصعيدي (1313- 1377 هـ):
132- "المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر 100- 1370 هـ": نشر مكتبة الآداب ومطبعتها بمصر دار الحمامي للطباعة.
* الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد:
133- "دارسة حديث: نضر الله امرأ سمع مقالتي... رواية ودراية". الطبعة الأولى عام 1401 هـ.
134- "عشرون حديثا من صحيح مسلم؛ دراسة أسانيدها وشروح متونها". الطبعة الأولى عام 1391 هـ، المطبعة السلفية بالقاهرة.
135- "عالم جهبذ وملك فذ": ترجمتان موجزتان للشيخ محمد بن إبراهيم والملك فيصل رحمهما الله، طبع في عام 1402 هـ، مطابع الرشيد بالمدينة المنورة.
* الشيخ عثمان بز عبد الله بن بشر المتوفى سنة 1288 هـ أو 1290 هـ، وكان قد أدرك عهد سعود بن عبد العزيز بن محمد (1218- 1229 هـ):
136- "عنوان المجد في تاريخ نجد": ويبتدىء هذا التاريخ من سنة 700- 1267هـ، طبع بالمطبعة السلفية بمكة المكرمة 1349 هـ.
137- "عنوان المجد في تاريخ نجد": حققه وعلق عليه عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ بأمر من وزارة المعارف بالمملكة العربية
السعودية سنة 1394 هـ، مطبوع عام 1394 هـ الطبعة الثالثة، لم يذكر مكان الطبع ولا اسم المطبعة.
* الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807:
138- "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد": بتحرير الحافظين الجليلين العراقي وابن حجر، الطبعة الثالثة 1402 هـ، منشورات دار الكتاب العربي- بيروت.
139- "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان": حققه ونشره محمد عبد الرزاق حمزة، تصوير دار الكتب العلمية- بيروت.
* علي بن سلطان القاري الحنفي المتوفى سنة 1014 هـ:(1/405)
140- "شرح ملا علي بن سلطان القاري الحنفي على الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي 80- 150 هـ": الطبعة الثانية 1375 هـ 1955م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
* علي بن سليمان بن يوسف:
141 - "أربح بضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة": طبع على نفقة علي آل ثاني بمشورة محمد بن عبد العزيز بن مانع الطبعة الثانية عام 1379 هـ.
* علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي (731-2 79):
142- "شرح العقيدة الطحاوية": حققها وراجعها جماعة من العلماء، وخرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الرابعة عام 1391هـ، المكتب الإسلامي- بيروت.
* العلامة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري المتوفى سنة 975 هـ:
143- "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال": نشر وتوزيع دار اللواء- الرياض، ومكتبة التراث الإسلامي- حلب.
( ك )
* كوركيس عواد:
144- "معجم المؤلفين العراقيين في القرنين التاسع عثر والعشرين الميلادي": مطبعة الإرشاد- بغداد 1969 م.
( ل )
* لوثروب ستودارد الأمريكي:
145- "حاضر العالم الإسلامي": نقله إلى العربية الأستاذ عجاج نويهض، وفيه فصول وتعليقات وحواش مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الإسلامية وتطورها الحديث بقلم الأمير شكيب أرسلان (أربعة أجزاء)، مطبوع عام 1352 هـ، نشر وطبع مكتبة ومطبعة الحلبي وشركاه بمصر.
* الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير 544- 606:
146- "النهاية في غريب الحديث والأثر": تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، طبع الحلبي، الطبعة الأولى عام 1383 هـ.
* الحافظ الذهبي محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (673- 748):
147- "التلخيص على المستدرك على الصحيحين للحاكم": وأقره على ما لا كلام فيه، وتعقب ما فيه الكلام، مطبوع بذيل "المستدرك" للحاكم، تصوير دار الكتاب العربي- بيروت.(1/406)
* الإمام المعروف بابن قيم الجوزية أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب:
148- "إعلام الموقعين عن رب العالمين": الطبعة الأولى عام 1374 هـ، مطبعة السعادة بمصر.
149- " القصيدة النونية": تصوير دار المعرفة- بيروت، عن طبعة مطبعة التقدم العلمية بمصر سنة 1345 هـ.
* محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت بعد 660 هـ):
150- "مختار الصحاح": طبعة 1361 هـ، مطبعة الحلبي.
* محمد أديب غالب:
151- "من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي": بإشراف دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الطبعة الأولى عام 1395 هـ.
* أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزيه البخاري الجعفي (194-256 هـ):
152- "صحيح البخاري": مطبوع، المكتبة الإسلامية باستانبول، محمد أوزدمير 1979 م.
* محمد إسماعيل إبراهيم وزملاؤه:
153- "تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط وفق المنهج الجديد": طبعة أولى عام 1394 هـ.
* الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الحسيني الصنعاني:
154- "ديوان الأمير الصنعاني": طبع على نفقة الشيخ علي بن ثاني عام 1384 هـ، مطبعة المدني، الطبعة الأولى.
* العلامة محمد إسماعيل السلفي (1900- 1968 م):
155- "حركة الانطلاق الفكري وجهود الشاه ولي الله في التجديد": تعريب الدكتور مقتدا حسن الأزهري، مطبوعات الجامعة السلفية (1)، ملتزم الطيع والنشر، إدارة البحوث الإسلامية والدعوة والإفتاء بالجامعة السلفية بنارس.
* العلامة المحدث الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي (1252- 1326 هـ):
156- "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان": الطبعة الخامسة عام 1395 هـ، مطابع نجد التجارية- الرياض.
* الشيخ محمد بهجت البيطار:
157- "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية": منشورات المكتب الإسلامي للطباعة والنشر 1380 هـ.
* أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224- 310 هـ):(1/407)
158- "جامع البيان عن تأويل آي القرآن": (تفسير ابن جرير الطبري)، الطبعة الثانية عام 1373 هـ، مطبعة الحلبي بمصر.
159- "تاريخ الطبري: تاريخ الرسل والملوك": تحقيق أبي الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، دار المعارف بمصر 1962 م.
* محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر، وقد توفي رحمه الله:
160- تقديم وتعليق على كتاب "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب": تأليف حسين بن مهدي النعمي، لأول مرة الطبعة الثانية عام 1393 هـ بمطابع الرياض.
161- "أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها": مطبوع، مطبعة النهضة بشارع عبد العزيز بمصر عام 1354 هـ.
* محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي (1291- 1376 هـ):
162- "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي": خرج أحاديثه وعلق عليه عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري، الطبعة الأولى عام 1396 هـ، دار مصر للطباعة، الناشر: المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
* محمد حسن الغماري:
163- "الإماء الشوكاني مفسرًا" رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى عام 1400 هـ.
* العالم السلفي الشيح محمد بن حسين نصيف من أعيان أهل الحجاز رحمه الله:
164- ترجمة للشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى المتوفى عام 1328 هـ في أول كتاب "الرد على شبهات المستعينين بغير الله" للشيخ أحمد المذكور،
مطبوع، دار مصر للطباعة.
* الشيخ العلامة محمد حياة السندي المتوفى (1163 هـ):
165- (تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه السلام"، و"الإيقاف على سبب الاختلاف" ضمن مجموعة تضم رسالة أخرى بعنوان "الاتباع" لابن أبي العز الحنفي تحت إشراف المكتبة السلفية بلاهور- باكستان، طبعة أولى عام 1401هـ.
* محمد خليل هراس (ت 1395هـ):
166- "دعوة التوحيد؛ أصولها، الأدوار التي مرت بها، مشاهير دعاتها": الطبعة الثانية، مطبعة عاطف بمصر.(1/408)
167-"الحركة الوهابية": رد على مقال للدكتور محمد البهي في نقد الوهابية من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1396 هـ (10).
* أبو الفضل محمد خليل المرادي:
168- "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر": يطلب من مكتبة المثنى ببغداد.
* محمد رشيد رضا (1282- 1354 هـ) منشىء "مجلة المنار بمصر":
169- (تاريخ الإمام محمد عبده): مطبوع عام 1350 هـ بمطبعة المنار.
170- " الوهابيون والحجاز": طائفة من مقالات نشرت في "المنار" و"الأهرام"، الطبعة الأولى عام 1344 هـ.
171- مقدمة "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان".
172- "تفسير المنار": الطبعة الرابعة عام 1373 هـ.
* محمد زهري النجار:
173- "ترجمة مؤلف الدين الخالص محمد صديق حسن" في مقدمته (صفحة ز - ل).
* الدكتور محمد بن سعد الشويعر:
174- بحث "من تراثنا: ابن ضويان وآثاره" (1275-1353 هـ): نشر في مجلة الدارة، العدد الثاني، السلسلة الرابعة، رجب عام 1398 هـ، ص 82-99.
* محمد سعيد العامودي وأحمد علي:
175- "المختصر من كتاب نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر": تأليف الشيخ عبد الله مرداد أبو الخير، مطبوعات نادي الطائف الأدبي، الطبعة الأولى، عام 1398 هـ، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام.
* العلامة الشيخ محمد السفاريني الحنبلي:
176- "نفثات صدر المكمد وقرة عين المسعد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد": الطبعة الأولى عام 1380 هـ، منشورات المكتب الإسلامي للطباعة والنشر بدمشق.
* محمد شفيق غربال بإشرافه تم تأليف:
177- "الموسوعة العربية الميسرة": صورة طبق الأصل من طبعة 1965م، حقوق طبعها محفوظة لمؤسسة فرانكلين للطباعة وللنشر، دار الشعب بالقاهرة.
* محمد صديق حسن القنوجي البخاري من علماء الهند (1248-1357 هـ):
178- "الدين الخالص": مطبعة المدني عام 1379 هـ، توزيع مكتبة دار العروبة- القاهرة.(1/409)
179- "التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول": تصحيح وتعليق الدكتور عبد الحكيم شرف الدين، طبع على نفقة علي بن ثاني، المطبعة الهندية العربية 1382 هـ.
180- "الحطة في ذكر الصحاح الستة": ألفه سنة 1282 هـ، الطبعة الأولى عام 1397 هـ، مطبعة المكتبة العلمية بلاهور.
* شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (831- 952 هـ):
181- "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع": الجزء السادس، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت- لبنان.
* الحافظ محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (1283-1353 هـ):
182- "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي": أشرف على مراجعة أصوله وتصحيحه عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة المدني بالقاهرة، الطبعة الثانية عام 1383 هـ.
* محمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي (1264- 1354 هـ):
183- "الفوائد البهية في تراجم الحنفية مع التعليقات السنية على الفوائد البهية": عني بتصحيحه وتعليق بعض الزوائد عليه محمد بدر الدين أبو فراس النعماني، دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت.
* محمد ابن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:
184- ترجمة للشيخ عبد العزيز بن حمد بن معمر في أول "منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب" للشيخ عبد العزيز بن معمر: الطبعة الثالثة عام 1400 هـ، منشورات دار ثقيف- الطائف.
* الشيخ محمد بن عبد الله السبيل:
185- ترجمة مؤلف "غاية الأماني في الرد على النبهاني" محمود شكري الآلوسي في أول الكتاب المذكور: ص 6- 12، طبع بمطابع نجد التجارية، الطبعة الثانية عام 1391 هـ.
* الشيخ محمد بن عبد الله بن عبد المحسن آل عبد القادر الأحسائي الأنصاري:
186- "تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء القديم والجديد": أشرف على طبع القسم الأول وعلق عليه بعض الحواشي حمد الجاسر، الطبعة الأولى عام 1379 هـ بدمشق، المكتب الإسلامي والقسم الثاني بإشراف محمد زهير الشاويش، الطبعة الأولى عام 1382 هـ.(1/410)
* الدكتور محمد عبد الله ماضي:
187- "حاضر العالم الإسلامي": النهضات الحديثة في جزيرة العرب في المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية عام 1372 هـ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
* الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحافظ النيسابوري المعروف بابن البيع والملقب بالحاكم (321- 405 هـ):
188- "المستدرك على الصحيحين" وبذيله "التلخيص" للحافظ الذهبي: تصوير دار الكتاب العربي- بيروت.
* محمد بن عبد الله بن عثيمين (1270-1363هـ):
189- "العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين": جمعه ورتبه وشرح ألفاظه سعد بن عبد العزيز بن رويشد؟ مطبوع، دار المعارف بمصر.
* الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206 هـ):
190- "الرسالة الثالثة: تفسير كلمة التوحيد" ضمن "مجموعة التوحيد النجدية"، الطبعة السلفية بمصر عام 1375 هـ، عني بتصحيحها وإخراجها محب الدين الخطيب.
191- "كشف الشبهات": قام بتفصيله وكتابة الترجمة والمقدمة والتعليق علي الحمد الصالحي، وذيله الشيخ عبد الرحمن المحمد الدوسري، الطبعة الثالثة في 1/ 12/ 1388 هـ، مؤسسة النور للطباعة والتجليد بالرياض.
مؤلفات الشيخ الإمام:
192- القسم الأول: العقيدة، مجلد.
193- والقسم الثاني: الفقه، في مجلدين.
194- والقسم الثالث: مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والفتاوى، مجلد.
195- والقسم الرابع: التفسير ومختصر زاد المعاد، مجلد.
196- القسم الخامس: الرسائل الشخصية، مجلد.
197- وقسم الحديث: خمسة مجلدات.
198- وملحق المصنفات: مجلد.
هذه اثنا عشر مجلدًا جمعتها لجنة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وصنفها وأعدها للتصحيح تمهيدًا لطبعها عبد العزيز بن زيد الرومي والدكتور محمد بلتاجي والدكتور سيد حجاب، وطبعت بمطابع الرياض.(1/411)
199- رسالة مخطوطة بعنوان "مسألة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة... ": وهي حول المقلد القاصر إذا تبين له أحاديث تخالف مذهبه، ويظهر أن الشيخ يخاطب عبد الله بن عيسى الملقب بالمويس في أول الأمر، وهذه الرسالة المخطوطة ضمن "مجموعة رسائل مخطوطة"، وفيها قليل من رسائل الشيخ غير هذه، وقد طبعت، وهذه المجموعة المخطوطة بالمكتبة العامة بتطوان في المغرب، أخذ عنها الشيخ حماد الأنصاري صورة، ومن صورته أخذت.
200- "آداب المشي إلى الصلاة": مقرر الفقه للسنة السادسة، القسم الأول والثاني، قرر دراسته وعلق عليه الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع مدير المعارف العام، مطابع دار الكتاب العربي بمصر، ونشر مكتبة محمد سعيد كمال بالطائف.
201- "مختصر تفسير المعوذتين" لابن القيم: صورة نقلت عن مخطوطة بالمتحف العراقي وقف إبراهيم فصيح الحيدري.
وانظر تفصيل الكلام عن مؤلفات الشيخ في مبحث حياة الشيخ العلمية من " المدخل" ص 150- 185.
202- "الرسائل المرقومة": مخطوطة الناسخ محمد بن حبيب الحلبي الحنفي، ساكن الأفلاج سنة 1317 هـ؛ صورة.
* أبو الحسن نور الدين محمد بن عبد الهادي السندي المتوفى عام 1138 هـ:
203- "حاشية السندي على صحيح البخاري": طبعة نور محمد، كراتشي، الطبعة الثانية عام 1381 هـ.
* الشيخ محمد عبده:
204- "رسالة التوحيد": طبعها وصححها وعلق عليها محمد رشيد رضا، الطبعة الثانية في سنة 1366 هـ، أصدرتها دار المنار.
* محمد بن عثمان بن صالح بن عثمان القاضي:
205- "روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين": الطبعة الأولى عام 1450 هـ، مطبعة الحلبي.
* محمد عطاء الله حنيف:
206- ترجمة للشيخ محمد حياة السندي في أول رسالة "تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه السلام" للشيخ العلامة محمد حياة السندي، ضمن مجموعة رسائل له: الطبعة الأولى، جمادى الأولى 1401 هـ، طبع بالمطبعة العربية بإشراف المكتبة السلفية- لاهور- باكستان.(1/412)
* محمد بن علي الشوكاني (ت 1250):
207- "البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع": الطبعة الأولى سنة 1348 هـ، مطبعة السعادة محافظة مصر القاهرة، جزءان، تصوير بنشر دار المعارف- ببيروت.
208- "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد": عني بنشره وطبعه محمد علي الكتبي الطبعة الأولى سنة 1350 هـ، ونشر صورتها ضمن مجموعة باسم الرسائل السلفية للشوكاني، دار الكتب العلمية- بيروت.
* محمد بن علي بن غريب (ت 1209 هـ):
209- "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق" و"تذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب": ونسبة تأليفه إلى سليمان بن عبد الله ابن الشيخ خطأ(1)، الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرقية سنة 1319 هـ.
* أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الترمذي الحافظ (ت عام 279 هـ):
210- "جامع الترمذي في أعلا صحائف تحفة الأحوذي": أشرف على مراجعة أصوله وتصحيحه عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة المدني بالقاهرة، الطبعة الثانية عام 1383هـ.
* محمد كمال جمعة الباحث بدارة الملك عبد العزيز (1397 هـ):
211- "انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية": مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، طبع على نفقة وزارة التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية مطابع نجد التجارية.
* محمد منير عبده أغا الدمشقي الأزهري المتوفى سنة 1367 هـ:
212- مجموعة الرسائل المنيرية: عنيت بنشرها وتصحيحها والتعليق عليها للمرة الأولى سنة 1346 هـ إدارة الطباعة المنيرية.
* الشيخ محمد بن الموصلي:
213- "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة": تأليف الإمام محمد بن أبي بكر عرف بابن قيم الجوزية الجزء الأول بتصحيح محمد حامد الفقي، والجزء الثاني بتصحيح محمد عبد الرزاق حمزة، طبع بنفقة المطبعة السلفية بمكة المكرمة عام 1348 هـ.
* محمد ناصر الدين الألباني:
__________
(1) انظر. (185/1) من هذا البحث.(1/413)
214- "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها": منشورات المكتب الإسلامي.
215- تخريج أحاديث "شرح الطحاوية".
216- تحقيق رسالة "اقتضاء العلم العمل" للبغدادي ضمن رسائل أربع.
217- "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل في مذهب الإمام أحمد": المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى عام 1399 هـ.
218- "ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم": الطبعة الأولى عام 1400 هـ، المكتب الإسلامي.
219- "مختصر العلو للعلي الغفار للذهبي": الطبعة الأولى عام 1401هـ، المكتب الإسلامي.
220- "تخريج أحاديث كتاب إصلاح المساجد من البدع والعوائد" لمحمد جمال الدين القاسمي: الطبعة الثانية عام 1390 هـ، المكتب الإسلامي- بيروت.
221- "التوسل: أنواعه وأحكامه": الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي، * الإمام محمد بن نصر المروزي (202- 294 هـ):
222- "السنة": مطبوع في مطابع دار الفكر بدمشق بدون تاريخ للطبع، نشر دار الثقافة الإسلامية بالرياض.
* محمد بن وضاح القرطبي (99 1- 287 هـ):
223- "البدع والنهي عنها": تحقيق محمد أحمد دهمان، الطبعة الثانية عام 1400 هـ، دار البصائر بدمشق.
* أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي المتوفى بمصر عام 520-525 هـ:
224- "كتاب الحوادث والبدع": تحقيق محمد الطالبي (231 ص صغير)، دار الأصفهاني وشركاه بجدة بدون تاريخ وعدد للطبع.
* الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه:
225- "سنن ابن ماجه": بعناية محمد فؤاد عبد الباقي، طبع بمطبعة الحلبي عام 1372 هـ.
* أبو المعالي محمود شكري الآلوسي (273 1- 1342 هـ):
226- "تاريخ نجد": عني بتحقيقه محمد بهجة الأثري، طبع السلفية بالقاهرة عام 1343 هـ.
227- "غاية الأماني في الرد على النبهاني": طبع بمطابع نجد التجارية، الطبعة الثانية عام 1391 هـ.
* اللواء الركن محمود شيث خطاب:(1/414)
228- بحث بعنوان "الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة الموصل": قدم لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1400 هـ، مطبوع على الآلة ضمن مجلد "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية".
* مسعود عالم الندوي رحمه الله:
229- "محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه": ترجمة وتعليق عبد العليم عبد العظيم البستوي، مراجعة وتقديم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، مطبعة زمزم، الطبعة الأولى ربيع الأول عام 1397 هـ.
* الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206- 261 هـ):
230- "صحيح مسلم": خدمة فؤاد عبد الباقي، طبع رئاسة البحوث العلمية السعودية عام 1400 هـ.
* الشيخ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (1005- 1051 هـ):
231- "كشاف القناع عن متن الإقناع": مطبعة الحكومة بمكة عام 1394 هـ.
* الدكتور منير العجلاني عضو المجمع العلمي العربي بدمشق أستاذ تاريخ الحقوق في الجامعة السورية سابقًا:
232- "تاريخ البلاد العربية السعودية": نشر دار الكتاب العربي، مطابع دار الغد - بيروت.
* المودودي أبو الأعلى:
233- "موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه أو واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم": الطبعة الأولى، دار الفكر بدمشق.
* أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي المتوفى سنة 968 هـ:
234- "الإقناع": تصحيح عبد اللطيف محمد موسى السبكي، المطبعة المصرية بالأزهر سنة 1351 هـ.
( ن )
* الدكتور ناصر الدين الأسد:
235- "تحرير وتحقيق تاريخ نجد للشيخ الإمام حسين بن غنام": وقابله على الأصل الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مطبعة المدني، الطبعة الأولى عام 1381 هـ.
* الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري:
236- "النفخة على النفحة والمنحة" وتليها "نظرة في النفحة" لأبي اليسار الدمشقي الميداني: مطبعة الترقي عام 1340 هـ.
( ي )
* أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي (ت 626 هـ):(1/415)
237- "معجم البلدان": تصوير دار صادر- بيروت.
* أبو اليسار الدمشقي الميداني:
238- "نظرة في النفحة... في الرد على الوهابية": مطبعة الترقي عام 1340 هـ، طبعت مع النفخة كما تقدم.
الفهرس
الفصل الرابع : التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها ... 7
نواقض الإسلام العشرة ... 10
إمكان وقوعها من المعينين ... 23
من أطلق الشارع كفره ... 29
بيان ما هو الشرك ؟ ... 30
الشرك أول المحرمات ... 39
تقسيمه وأفراده ... 40
تحديد أسباب الشرك ومباديه ... 52
ضرر الشرك وخطره ... 82
شبهات وكشفها ... 92
الباب الثاني
أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في العالم الإسلامي
الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها ... 117
توطئة ... 117
أسباب تأثير العقيدة ... 119
توفيق الله ... 119
سمو الغاية والعلم وسلامة المنهج ... 120
الثبات والصبر ... 127
كيف أثر الشيخ بعقيدة السلف دون غيره من معاصريه؟ ... 132
جهود الشيخ المؤثرة في نشر عقيدة السلف الصالح واستعداده: ... 135
في حريملاء ... 135
لماذا العيينة ... 140
أثر إقامة الشيخ في حريملاء ... 143
أثر عقيدة الشيخ في العيينة ... 144
نهاية علماء السوء ... 150
مواصلة الشيخ جهوده رغم خذلان ابن معمر له ... 157
الفصل الثاني: أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها آل سعود ... 161
الشيخ في الدرعية ... 161
اللقاء التاريخي بالأمير الراشد ... 162
البيعة المباركة ... 165
نشاط تأثير العقيدة في الدرعية ... 167
انطلاق الدعوة وبدء الجهاد ... 170
الإملام محمد بن سعود مؤسس دولة آل سعود ... 177
الإمام عبد العزيز بن محمد، والعلماء في زمنه، ونشرهم الدعوة وثمرة ذلك ... 181
الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد، والعلماء في زمنه، ونشرهم الدعوة وثمرة ذلك ... 214
الأثر العمراني والحضاري ... 223
الإمام عبد الله بن سعود ... 226
حاصل أثر عقيدة الشيخ في هذا الدور ... 227
إمامة الأئمة والملوك من آل سعود وتاريخهم ... 230
جملة إصلاحات الشيخ السلفية ... 243
أسباب زوال الدولة وتسليط العدو ... 249(1/416)
نتيجة التغير عن عقيدة السلف الصالح ... 252
الفصل الثالث: أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثاني (الإمام تركي وابنه الإمام فيصل) ... 257
جهود شيخ المسلمين في عهده الشيخ عبد الرحمن بن حسن ... 259
جهود الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ عبد الرحمن ... 270
جهود الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين ... 273
جهود الشيخ حمد بن علي بن عتيق ... 273
جهود الشيخ الشاعر أحمد بن مشرف الأحسائي ... 275
أسباب الخلل ونتيجة التغيير ... 280
استمرار أثر المشايخ رغم ضعف المناصر ... 283
الفصل الرابع أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثالث الحاضر (الإمام الملك عبد العزيز وأبناؤه الملوك) ... 295
جهود الملك عبد العزيز في نشر العقيدة ... 297
جهود الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ... 303
جهود الشيخ سليمان بن سحمان ... 314
جهود الشيخ سعد بن حمد بن عتيق ... 325
جهود الشيخ محمد بن إبراهيم ... 332
ما يختص بالبادية من الإصلاح ... 337
استمرار الأثر الصالح ... 348
الملك سعود ... 349
الملك فيصل ... 350
الملك خالد ... 355
الملك فهد ... 356
وضوح الشعور بمسؤلية حماية مكاسب العقيدة ... 359
الفصل الخامس: ثرها في خارج سلطانها ... 371
تمهيد ... 371
تطهير بيت الله من أسباب انتشار العقيدة في الخارج ... 375
الرسائل إلى عموم المسلمين ومواصلتهم من أسباب انتشار العقيدة في الخارج ... 376
أثرها في اليمن ... 382
ئرها لدي الأمير الصنعاني ... 383
أثرها لدى الشيخ حسين النعمي ... 386
أثرها لدى الإمام الشوكاني ... 390
أثرها في الشام ... 395
أثرها لدى الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري ، والشيخ أبي اليسار الدمشقي الميداني ... 395
أثرها لدى الشيخ محمد بهجت البيطار ... 409
أثرها لدى المكتب الإسلامي في دمشق وبيروت ... 409
أثرها لدى الأمير شكيب أرسلان ... 410
أثرها لدى محمد كرد علي ... 411
أثرها في بلدان الخليج ... 412
أثرها في العراق ... 416
أثرها لدى آل الألوسي ... 416
أثرها لدى أحمد بن سعيد البغدادي ... 429
أثرها في فارس والهند ... 431
أثرها كما يصوره الشيخ ملا عمران ... 432(1/417)
أثرها كما يصوره المحدث محمد بشير السهسواني ... 434
أثرها في بهوبال ... 435
أثرها كما يصوره مسعود عالم الندوي من ندوة العلماء ... 443
أثرها عموما في الهند ... 444
أثرها في مصر ... 445
أثرها كما يصوره الشيخ الجبرتي ... 445
أثرها كما يصوره محمد رشيد رضا ... 455
أثرها لدى جماعة أنصار السنة (الفقي والهراس) ... 458
أثرها لدى محمد منير ومطبعته ... 459
أثرها لدى المطبعة السلفية ومطبعة المدني ... 461
أثرها عن طريق انطباعات الأساتذة الزائرين ... 461
ما يقال من تأثر الحركات والدعوات الأخرى في العالم الإسلامي ... 461
الخاتمة، واشتملت على خلاصة البحث ونتيجته ... 475
المراجع ... 485(1/418)