عقيدة الأحباش الهررية
عرض ونقد
بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة
إعداد الطالب
محمد مصطفى الجدي
إشراف الدكتور
محمد حسن بخيت
العام الجامعي
1422هـ-2001م
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
الأنعام153
قال الله تعالى: }الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ
وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } الزمر18.
الإهداء
إلى كل من قال (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه،
إلى كل من عمل تحت راية (لا إله إلا الله) متفانياً لربه،
إلى كل من مات من أجل (لا إله إلا الله) إرضاء لربه.
أقدم هذا الجهد المتواضع
التزاماً بقوله تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) سورة النمل40، وعرفاناً بالفضل لأهله، أتقدم بالشكر الجزيل إلى كل من أسهم، أو ساعد في هذا البحث، أو أسدى إليَّ نصيحة، أو توجيهاً.
وأخص بالذكر أستاذي الكريم المشرف على هذه الرسالة الدكتور/ محمد حسن رباح بخيت، الذي منحني من جهده، ووقته الكثير، وجاد عليَّ بنصائحه، وتوجيهاته السديدة النافعة؛ فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجزيه خير الجزاء.
كما وأتقدم بالشكر والتقدير لأستاذيْ الكريمين الفاضلين عضويْ لجنة المناقشة: الدكتور/ صالح حسين الرقب، والدكتور/ نسيم شحدة ياسين، لتفضلهما بقبول مناقشة هذه الرسالة ليثرياها بتوجيهاتهما السديدة النافعة.(1/1)
وأتوجه بالشكر والعرفان للجامعة الإسلامية -بغزة- والقائمين عليها، وأخص بالذكر الأستاذ الدكتور/ محمد عيد شبير، رئيس الجامعة الإسلامية، والدكتور/ صالح حسين الرقب عميد الدراسات العليا، لما وجدنا منهم من رعاية وحسن معاملة واحترام.
ولا أنسى توجيه الشكر للدكتور/ عبد الرحمن يوسف الجمل -عميد كلية أصول الدين- وأساتذة قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية.
وشكري الخاص إلى العاملين في كل من المكتبة المركزية، وقاعة التخريج في الجامعة الإسلامية لما قدموه لنا من عظيم خدمة.
وجزيل الشكر لأستاذنا الفاضل/ محمد صالح طه، على ما بذله من جهد في مراجعة هذا البحث من الناحية اللغوية.
ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل للأخ/ تحسين محمد الجدي، الذي أشرف على طباعة هذه الرسالة.
وإلى كل من ساهم في إخراج هذا الجهد المتواضع …
فجزاهم الله خيرا.،،،
الباحث
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيراً.
أما بعد :
... فلقد أرسل الله عز وجل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بدين الهدى وكلمة التوحيد إلى الناس كافة، في فترة كان الشرك يهيمن على المجتمعات، فبدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته بثقة واطمئنان إلى نصر الله عز وجل ، حيث بدأ ينادي بتوحيد الله عز وجل وتعظيمه وإفراده بالعبادة …(1/2)
ولا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- واجه الكثير من العقبات، ولكن الله عز وجل كتب لهذا الدين البقاء وأيده بعصبة من الموحدين ، الذين فهموا حق الفهم روح هذا الدين وتفانوا في الدفاع عنه، وتوضيحه للناس ونشره بينهم، حتى شاء الله عز وجل أن ينتشر هذا الدين، وتدين الجزيرة العربية به، بل وتخطاها إلى غيرها من البلدان، فاتسعت مساحة الدولة الإسلامية، ودخل الكثير من الناس في هذا الدين … واتساع الدولة الإسلامية وزيادة الخيرات لدى المسلمين وشعورهم بالراحة والاطمئنان أدى كل هذا إلى الترف الفكري وانكباب بعض المسلمين على العلوم، وخاصة ما ترجم منها من أفكار لفلاسفة وثنيين تتعلق بالأمور الغيبية، وما احتوتها من ضلالات وتفاهات، فتأثر مجموعة من المسلمين بهذه الأفكار الغريبة الشاذة …. وبدأت الاحتكاكات في المجتمع الإسلامي بين من تأثر بالفكر الفلسفي الوثني وبين من تمسك بمنهج أهل السنة والجماعة، واعتمد الكتاب والسنة في تقرير العقيدة، بخلاف القسم الأول الذي قدم العقل على النقل، مما جعل بعضهم كالمعتزلة يؤولون آيات الصفات دون استثناء فراراً من التشبيه والتجسيم _ حسب زعمهم _ وتضعيف أو ردّ الكثير من الأحاديث بحجة أنها خبر آحاد وأنها لا تفيد علماً يقينياً كالعقل، وكالأشاعرة الذين اثبتوا بعضاً من الصفات وأوّلوا الباقي، وكذلك فعلوا بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث أولوا الكثير منها بحجة أنها أحاديث آحاد وأنها لا تفيد علماً يقيناً كالعقل، بالإضافة إلى وجود فرق أخرى كالخوارج والجهمية وغيرهم.(1/3)
ولم يقتصر الأمر على تأويل آيات الصفات بل تعداه إلى مسألة كسب العباد لأفعالهم، وهل هم مخيرون أم مسيرون ، ومسألة أفعال الله عز وجل وهل تقع لحكمة أم لا، إلى غير ذلك من أمور العقيدة، فظهرت الفرق والجماعات ولكل منهم أنصار يدافعون عن عقائدهم الفاسدة بشتى الطرق، وتقريرها شرعاً وعقلاً من خلال الاستدلال الفاسد بآيات القرآن وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من يقوم بوضع الأحاديث على الرسول - صلى الله عليه وسلم- لنصرة مذهبهم ….
وظهرت فرق ضالة جديدة تقوم أفكارها على أصول الفرق القديمة، ومن هذه الفرق الجديدة (الأحباش)، التي حادت عن منهج السلف الصالح من خلال اتباعها لعقائد الأشعرية والماتٌريدية، واتباعها لضلالات الصوفية الرفاعية والقادرية، ويأتي هذا البحث تحت عنوان (عقيدة الأحباش (الهررية) عرض ونقد).
وفيما يلي خطة البحث : -
أولاً :- أهمية البحث وبواعث اختياره :
تظهر أهمية البحث وبواعث اختياره في أنه يبحث في إحدى الفرق الإسلامية المعاصرة التي تدّعي بأن منهجها هو منهج أهل السنة والجماعة في إثبات العقائد، مع أنها اعتمدت منهج الأشاعرة والماتريدية في العقيدة، وسارت على ضلالات الصوفية الرفاعية.
ومن المعلوم أن هناك فروقاً كثيرة بين منهج السلف ومنهج الأشاعرة والماتريدية في إثبات العقائد منها على سبيل المثال - لا الحصر - أن الأشاعرة والماتريدية يثبتون بعضاً من الصفات، ويأولون معظم الصفات، فأين هذا من منهج السلف الصالح الذين يثبتون الصفات كلها دون تأويل، أو تشبيه، أو تحريف، أو تعطيل؟ مما جعلني أقدم على اختيار هذا الموضوع لأجلي الحقيقة عن اعتقاد هذه الفرقة التي لها أتباع في بعض البلدان الإسلامية والأوربية.
ثانياً :- أهداف البحث
التعريف بفرقة الأحباش من حيث النشأة، والتاريخ، وأشهر دعاتها، والانتشار، وبيان أشهر المؤسسات التي تعمل جماعة الأحباش تحت رايتها.(1/4)
تبيين مدى مطابقة ومخالفة اعتقاد فرقة الأحباش، لاعتقاد أهل السنة والجماعة، وذلك من خلال عرض عقائدهم على ما جاء في الكتاب والسنة واعتقادات أهل السنة والجماعة من الصحابة، والتابعين، وعلماء السلف، وتوضيح الغث منها.
دحض اتهاماتهم لبعض أئمة أهل السنة والجماعة كشيخ الإسلام ابن تيمية، ولكثير من أهل العلم أمثال محمد بن عبد الوهاب و الألباني والقرضاوي وغيرهم وبيان ضعفها ووهنها أمام الحجج الواضحة الجلية.
بيان لبعض الضلالات والبدع التي تقوم بممارستها هذه الفرقة باسم التدين كالاستغاثة والتوسل بالأموات والتبرك بالقبور وما شابهها من أمور.
إظهار أن عقيدة أهل السنة والجماعة هي العقيدة الصحيحة، لأنها مأخوذة من النبع الصافي الكتاب والسنة النبوية، وأن ما سواهما هي أوهام وضلالات مهما كان قائلها، لان العصمة فقط للرسول - صلى الله عليه وسلم- وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ولا عقيدة خلاف ما أتى بها.
ثالثاً:- منهج البحث وطبيعة العمل فيه:
من المعلوم وجود مناهج مختلفة في البحوث العلمية، وكل منهج له خاصية يتمتع بها، ففي هذه الدراسة استخدمت المنهج الوصفي الذي يقوم بدراسة الظاهرة وبيان خصائصها وحجمها، حيث إن هذا المنهج يقوم بجمع المعلومات، وتحليلها، واستنباط الاستنتاجات لتكون أساساً لتفسيرها وتوجيهها؛ ولا يغيب في هذه الدراسة أنني استخدمت المنهج التاريخي أيضاً، ولكن في نطاق أقل لأن فرقة الأحباش لها امتداد تاريخي من حيث الفكر والشخصيات المؤثرة فيها، ولهذا كان لا بد من استخدام منهج يناسب هذه الجزئية من الدراسة.
إن المنهج الذي اعتمده الباحث هو كالتالي:-
قام الباحث بأخذ النصوص الخاصة بالأحباش غالباً من مظانها، أي من كتبهم ومجلاتهم ودروسهم المطبوعة والمسموعة على أشرطة الكاسيت.
عرض الباحث آراء واعتقادات الأحباش المخالفة لمذهب السلف أولاً، ثم قام بالرد عليها مباشرة من القرآن، والسنة، ومذهب السلف.(1/5)
اكتفى الباحث بذكر المرجع أو المصدر مع اسم المؤلف مع ذكر الناشر وتاريخ الطبعة - إذا توفرت - عند وروده أول مرة ، وعند تكرار ذكر المرجع أو المصدر أذكر اسم الكتاب مع المؤلف مختصراً .
قام الباحث بعزو الآيات القرآنية إلى أسماء السور، مع ذكر أرقام الآيات.
إن كان الحديث في الصحيحين اكتفى الباحث بتخريجه منهما، وإن كان في غيرهما قام بتخريجه من كتب السنة الأخرى.
انتهج الباحث أثناء عزو الحديث، ذكر اسم الكتاب الذي أورد الحديث ثم ذكر ترجمة الباب - إن وجدت - فرقم الحديث فالجزء فالصفحة، وأجتهد في الحكم على الحديث من مظانه.
قام الباحث بالترجمة للأعلام الغريبة التي وردت في البحث، ما دامت مصادر الترجمة متوفرة، وخاصة في الأعلام المعاصرة، وذكر الترجمة عند ورود اسم العلم أول مرة، وأتت الترجمة مختصرة إلا لعلم يجب الإسهاب في ترجمته نوعاً ما.
بين الباحث معاني الكلمات الغريبة في الهامش.
حرص الباحث على استخدام طبعة واحدة لكل مرجع من مراجع البحث ، وإذا تعامل مع طبعتين ، أشار إلى الطبعة الأخرى في الهامش .
قام الباحث بالاعتماد على بعض المعلومات المنقولة من شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت ) لأنه تعامل مع فرقة إسلامية معاصرة وعند ورود معلومة مصدرها شبكة المعلومات العالمية أشار في الهامش إلى ذلك بلفظ ( شبكة المعلومات ).
قام الباحث بتقسيم موضوع البحث إلى أبواب، والأبواب إلى فصول، والفصول إلى مباحث، والمباحث إلى مطالب، ثم جعل خاتمة لذكر أهم النتائج التي توصل إليها من خلال البحث والدراسة.
عمل الباحث فهارس للآيات والأحاديث والأعلام والمراجع والموضوعات.
رابعاً :- الدراسات السابقة .(1/6)
... عند القيام بعملية البحث عمن كتب عن جماعة الأحباش، لم أجد أي رسالة علمية محكمة في ذلك، وإنما وجدت كتابات متفرقة كل منها عالج جانباً معيناً، وان كان أشملها ما كتبه الشيخ عبد الرحمن دمشقية (موسوعة أهل السنة في نقد أصول فرقة الأحباش ومن وافقهم في أصولهم)، ولكن تميزت هذه الموسوعة بأن معظمها تعطي ردوداً عامةً، وهذا يتضح من العنوان للموسوعة، بالإضافة إلى تميزها بالإنشائية في الكتابة، وأخيراً تبقى الكتابة غير محكمة وعلى الرغم من هذا فهي مهمة.
ومن الكتابات التي تحدثت عن فرقة الأحباش
الرد على الشيخ الحبشي …عثمان الصافي
استواء الله على العرش… أسامة القصاص
الاستواء بين التنزيه والتشويه … عوض منصور
إطلاق الأعنة في الكشف عن مخالفات الحبشي للكتاب والسنة… للهاشمي
الرد على عبدالله الحبشي … عبد الله الشامي
بين أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة … عبد الرحمن دمشقية
الحبشي أخطاؤه وشذوذه … عبد الرحمن دمشقية
ومعظم هذه الكتابات اقتصرت على جانب دون آخر وهذا يتضح من عناوينها ، أو تتحدث عن الجماعة بشكل عام …
وسأقوم في بحثي بتغطية كل الجوانب المتعلقة بمسائل الاعتقاد عند الأحباش .
خامساً :- خطة البحث
وجاءت في مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وثمانية فصول، وخاتمة، وهي كالتالي :-
التمهيد:- أولاً: نشأة الأحباش:
سبب تسميتهم بالأحباش.
الظروف التي نشأت فيها الأحباش.
... ثانياً: أبرز دعاة جماعة الأحباش:
عبد الله الهرري (الحبشي).
الشيخ نزار الحلبي.
الشيخ حسام قراقيرة.
الدكتور عدنان طرابلسي.
ثالثاً: أهم المؤسسات والأنشطة التابعة للأحباش.
الباب الأول
أسس العقيدة عند الأحباش عرض ونقد
... ويحتوي على أربعة فصول:
الفصل الأول : منهج الأحباش في تقرير العقيدة:
ويحتوي على خمسة مباحث:
المبحث الأول: التأويل.
المبحث الثاني: المحكم والمتشابه.
المبحث الثالث: خبر الآحاد.
المبحث الرابع: الاجتهاد والتقليد.
المبحث الخامس: علم الكلام.(1/7)
الفصل الثاني : موقف الأحباش من الألوهيات
... ... ويحتوي على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: موقفهم من وجود الله.
المبحث الثاني: موقفهم من وحدانية الله.
المبحث الثالث: موقفهم من الأسماء والصفات.
الفصل الثالث : عقيدة الأحباش في النبوات
... ... ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأول : النبوة والرسالة عند الأحباش.
ويحتوي على أربعة مطالب:
المطلب الأول : النبوة والرسالة لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثاني: النبوة والرسالة عند الأحباش.
المطلب الثالث: الحاجة إلى النبوة وصفات النبي.
المطلب الرابع: ما يجب للأنبياء وما يستحيل عليهم.
المبحث الثاني: دليل النبوة عند الأحباش (المعجزة).
ويحتوي على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف المعجزة.
أولاً: المعجزة لغةً واصطلاحاً.
... ثانياً: الرد على قول الأحباش إن (السبيل إلى معرفة النبي المعجزة).
المطلب الثاني: الأمور التي تخرج عن كونها معجزة.
المطلب الثالث: أقسام المعجزة.
الفصل الرابع: الغيبيات عند الأحباش
... ويحتوي على ثلاثة مباحث:
مدخل علم الغيب عند الأحباش.
معنى الغيب لغةً واصطلاحاً.
المبحث الأول : عذاب القبر ونعيمه عند الأحباش.
ويحتوي على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول:الإيمان بعذاب القبر ونعيمه.
المطلب الثاني: مستقر الأرواح في البرزخ.
المطلب الثالث: حكم منكر عذاب القبر.
المبحث الثاني: اليوم الآخر عند الأحباش.
ويحتوي على سبعة مطالب:
المطلب الأول: صفة حشر العباد.
المطلب الثاني: الشفاعة.
المطلب الثالث: الحساب.
المطلب الرابع: الميزان.
المطلب الخامس: الثواب و العقاب.
المطلب السادس: الصراط.
المطلب السابع: الجنة والنار.
المبحث الثالث: القضاء والقدر عند الأحباش.
ويحتوي على مطلبين:
المطلب الأول: معنى القضاء والقدر والإيمان بهما.
المطلب الثاني: مسألة الجبر.
أولاً: تعريف الجبر لغةً واصطلاحاً.
ثانيا: نصوص للحبشي توهم القول بالجبر والرد عليها.
الباب الثاني(1/8)
الإيمان والكفر والتصوف عند الأحباش عرض ونقد
ويحتوي على فصلين:
الفصل الأول : الإيمان والكفر عند الأحباش.
... ويحتوي على مبحثين:
المبحث الأول: الإيمان والإسلام.
ويحتوي على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الإيمان والإسلام.
أولاً: تعريف الإيمان لغةً واصطلاحاً.
ثانيا: تعريف الإسلام لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثاني: العلاقة بين الإيمان والإسلام.
المطلب الثالث: الإرجاء.
أولاً: تعريف الإرجاء.
ثانيا: نصوص للحبشي توهم القول بالإرجاء والرد عليها.
المبحث الثاني: الكفر والردة.
ويحتوي على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الكفر والردة.
أولاً: تعريف الكفر لغةً واصطلاحاً.
ثانيا: تعريف الردة لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثاني: العلاقة بين الكفر والردة.
المطلب الثالث: الكفر وأنواعه.
أولاً: أنواع الكفر.
ثانيا: الحالات التي تستثنى من الكفر اللفظي.
الفصل الثاني: التصوف عند الأحباش.
... ... ويحتوي على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مدخل إلى الصوفية.
ويحتوي على مطلبين:
المطلب الأول: التصوف لغةً واصطلاحاً.
المطلب الثاني: أنواع التصوف.
المبحث الثاني: الحبشي والطرق الصوفية.
ويحتوي على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الحبشي والطريقة الرفاعية.
المطلب الثاني: الحبشي والطريقة القادرية.
المطلب الثالث: الحبشي والطريقة النقشبندية.
المبحث الثالث: من بدع التصوف عند الأحباش.
ويحتوي على أربعة مطالب:
المطلب الأول: الاستغاثة والتوسل البدعي.
المطلب الثاني: التبرك بالقبور.
المطلب الثالث: خروج الولي من قبره.
- المطلب الرابع: استعمال الدف قربة لله.
الباب الثالث
موقف الأحباش من الصحابة والعلماء عرض ونقد
ويحتوي على فصلين:
الفصل الأول: موقف الأحباش من الصحابة.
... ... ويحتوي على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: موقفهم من الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-.
المبحث الثاني : موقفهم من معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-.(1/9)
المبحث الثالث: موقفهم من أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-.
الفصل الثاني: موقفهم من العلماء.
... ... ويحتوي على ستة مباحث:
المبحث الأول: موقفهم من شيخ الإسلام ابن تيمية.
المبحث الثاني: موقفهم من الإمام محمد بن عبد الوهاب.
المبحث الثالث: موقفهم من الأستاذ سيد قطب.
المبحث الرابع: موقفهم من الشيخ أبي الأعلى المودودي.
المبحث الخامس: موقفهم من الشيخ الألباني.
المبحث السادس: موقفهم من الدكتور يوسف القرضاوي.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج والتوصيات.
سادساً:- الفهارس:
وضعت فهارس للآيات، والأحاديث النبوية، والأعلام، والمراجع، والموضوعات.
وبعد فإن كنت قد وفقت في بحثي هذا فمن الله وحده، وفضل منه فله الحمد والشكر والثناء الحسن، وإن كنت قد أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله تعالى أن يغفر لي ذلك.
وأسأله تعالى أن يجعل هذا الجهد خالصاً لوجهه الكريم تعالى، ويتقبله مني، ويجعله في ميزان حسناتي.
التمهيد
أولاً:نشأة الأحباش
... ثانياً:أبرز دعاة جماعة الأحباش
ثالثاً: أهم المؤسسات والأنشطة التابعة للأحباش
تمهيد
أولاً: نشأة الأحباش:
سبب تسميتهم بالأحباش:
وترجع النسبة في التسمية بهذا المسمى إلى البلد التي قدم منها شيخ الجماعة عبدالله بن محمد الشيبي الهرري الحبشي، فالهرري نسبة إلى بلاد (هرر) في الحبشة، والحبشي نسبة إلى بلاد الحبشة، أي سُميّ تلاميذ الحبشي نسبة إلى بلد معلمهم عبدالله الحبشي، وهذا ما اشتهروا به(1).
ولهم مسميات أخرى مثل: الهرريون أو المشاريعيون، ولكن أشهرها الأحباش.
الظروف التي نشأت فيها الأحباش:
__________
(1) - انظر: الأحباش لابن عبدالله ص11، مجلة البيان ص110، عدد 62، شوال 1413هـ، مقال بعنوان (الأحباش دعوة أم فتنة)، مجلة البيان ص68، العدد 110، شوال 1417هـ، مقال بعنوان (جماعة الأحباش حقيقتهم وآراؤهم).(1/10)
إن الظروف التي نشأت فيها جماعة الأحباش ظروف غامضة، لأن تلك المرحلة كانت غير واضحة المعالم في تاريخ الوطن اللبناني، بسبب الفتن التي كانت تحياها تلك البلاد، حيث الاقتتال الطائفي الدامي بين أفراد الشعب اللبناني، والتي أدت إلى مقتل الآلاف منهم، وتدمير البنية الاقتصادية بأكملها في لبنان، وانعكس ذلك على الوضع الاجتماعي حيث دبت الفرقة والخلافات، بين أفراد المجتمع اللبناني، فانعكس ذلك على الوضع الديني، فازدادت النزاعات والخلافات بين الطوائف الدينية المختلفة، مما أدى ذلك كله إلى تقطيع أوصال المجتمع اللبناني، وهذا بدوره نتج عنه عدم وضوح الرؤى السياسية لدى اللبنانيين في تلك المرحلة العصيبة من تاريخهم، ووسط هذا الجو ظهرت جماعة الأحباش متمثلة بجمعيتهم (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية) التي يقول الأحباش إنها نشأت في بيروت سنة 1930م، وفي سنة 1983م، تسلم رياسة الجمعية الشيخ نزار حلبي -أحد تلاميذ الحبشي-(1)، وقبل تسلم رياسة الجمعية من قبل الشيخ الحلبي كان يرأسها الشيخ أحمد العجوز حيث تنازل عنها للشيخ الحبشي والحلبي(2)؛ وهناك من يقول أن الشيخ أحمد العجوز أجبر على التنازل عن الجمعية(3).
__________
(1) - انظر:مجلة منار الهدى ص58،عدد9، محرم1414هـ،مقال بعنوان(المشاريع رائدة في عالم المؤسسات).
(2) - انظر: المصدر السابق ص45، عدد 23، ربيع الثاني 1415هـ، مقال بعنوان (الهرري والمشاريع صفاء سيرة ووضوح مسيرة)، المصدر نفسه ص59، عدد 9، محرم 1414هـ.
(3) - انظر: المقالات السنية في كشف ضلالات الحبشية لأبي صهيب عبد العزيز بن صهيب المالكي ص29، بدون ناشر، استراليا، ط الثانية 1421هـ.(1/11)
وأما عن بداية ظهور الحبشي فكانت في بلاد الشام عندما جاء إليها سنة 1370هـ-1950م، حيث بدأ في نشر عقيدته المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة في سوريا، ووجد بعض القبول عند بعض مشايخ الطرق الصوفية، وفي الوقت نفسه تصدى لأفكاره بعض المشايخ؛ وعندما وجد الحبشي الخصومة له في سوريا، وبالتالي لم يجد الأرض الخصبة لترويج عقيدته، بحث عن مكان آخر لينشر فيه عقيدته، فانتقل إلى لبنان حيث اتخذ من بيروت مستقراً له في منطقة (برج أبي حيدر)، ثم أخذ يتردد على طرابلس، ويجلس للناس في المقاهي، ويجمعهم حوله، ويؤوّل لهم الرؤى والأحلام، ويروي لهم القصص، فاجتذبهم من هذا الباب، حيث إن عوام الناس بطبعهم يحبون القصص والقصاصين، والخرافة وتأويل الأحلام(1).
__________
(1) - انظر: الأحباش -رسالة تعريفية بهذه الفرقة الضالة- إعداد: عبد الرحمن بن عبدالله ص11-12، بدون ناشر، ط الأولى 1417هـ-1996م؛ مجلة البيان ص68، عدد 110، شوال 1417هـ، مقال بعنوان (جماعة الأحباش حقيقتهم وآراؤهم)؛ الرد على الشيخ الحبشي عثمان عبد القادر الصافي ص11، بدون ناشر أو رقم طبعة، بيروت، رجب 1397هـ-1977م.(1/12)
وأما عن مجيء الحبشي إلى لبنان، فيقول تلامذته: بأن شيخهم الحبشي "تعرف إلى الشيخ حسين خالد من لبنان، الذي كان ينتقل مع طلاب العلم الشرعي اللبنانيين إلي دمشق، وأخذت شهرته تتسع خصوصاً في علم الحديث النبوي بعد وفاة الشيخ المحدث بدر الدين الحسني في دمشق. وفي العام 1960م انتقل للإقامة نهائياً في لبنان. وتعرف إلى بعض المشايخ أمثال الشيخ القاضي محيي الدين العجوز، والشيخ عبد الوهاب البوتاري إمام جامع البسطة الفوقا، والشيخ أحمد اسكندراني إمام ومؤذن جامع برج أبي حيدر. ثم تعرف إلى الشيخ نزار حلبي، ومكنه من تنظيم أتباعه بكوادر قبل أن يتسلم جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، التي هي الإطار العام الذي يجمع كل هؤلاء الأحباش"(1).
واستمر الأحباش تحت هذا الإطار المنظم في العمل المستمر والدؤوب، حتى افتتحوا فروعاً متعددة لجمعيتهم في أماكن مختلفة من لبنان، بل عملوا على افتتاح فروع خارج لبنان وخاصة في الدول الأوربية.
وعمل الأحباش في ميادين متعددة في لبنان لجذب الناس إليهم، سواء في الميدان الاجتماعي من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية المختلفة لعوام الناس وخاصة الفقراء والمحتاجين، أو الميدان التعليمي من خلال افتتاح مؤسسات تعليمية مختلفة من روضات ومدارس، أو الميدان الرياضي حيث عملت الجمعية على استقطاب فئات الشباب المختلفة لهذا الجانب من خلال إنشائها الأندية الرياضية، بل دخلوا في الميدان السياسي والحياة النيابية، ففي الانتخابات النيابية في صيف 1992م، دخل الأحباش بمرشحين في الشمال، وفي بيروت، وفاز الدكتور عدنان طرابلسي (مرشحها في بيروت)(2).
ثانياً: أبرز دعاة جماعة الأحباش:
الشيخ عبدالله الهرري (الحبشي):
__________
(1) - مجلة منار الهدى ص59، عدد 9، محرم 1414هـ، مقال بعنوان (المشاريع رائدة في عالم المؤسسات).
(2) - انظر: مجلة منار الهدى ص59، عدد 9، محرم 1414هـ، مقال بعنوان (المشاريع رائدة في عالم المؤسسات).(1/13)
هو عبدالله بن محمد بن يوسف بن عبدالله بن جامع الهرري، الشيبي، العبدري، الشافعي، الرفاعي، القادري، النقشبندي (أبو عبد الرحمن)، ولد في مدينة هرر، حوالي سنة 1339هـ-1920م، ويتحدث تلاميذه عنه بأنه نشأ في بيت متواضع محباً للعلم ولأهله، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، ودرس الفقه الشافعي، ودرس علوم العربية، وعلم التفسير، وعلم الحديث، وشرع يلقي الدروس مبكراً على الطلاب الذين ربما كانوا أكبر منه سناً.
ذكر تلاميذ الحبشي -في ترجمته- أن شيخهم تلقى العلوم المختلفة على أيدي علماء كُثر، حيث تلقى الفقه الشافعي وأصوله عن الشيخ محمد عبد السلام الهرري، والشيخ محمد عمر جامع الهرري، والشيخ محمد رشاد الحبشي، والشيخ إبراهيم أبي الغيث الهرري… وغيرهم؛ وقرأ فقه المذاهب الثلاثة وأصولها على الشيخ محمد العربي الفاسي، والشيخ عبد الرحمن الفاسي؛ وأخذ علوم العربية عن الشيخ أحمد البصير، والشيخ أحمد بن محمد الحبشي وغيرهما؛ ودرس علم التفسير عن الشيخ شريف الحبشي؛ وأخذ الحديث وعلومه عن الشيخ أبو بكر محمد سراج الجبرتي -مفتي الحبشة-، والشيخ عبد الرحمن عبدالله الحبشي وغيرهما؛ وأخذ الإجازة بالطريقة الرفاعية من الشيخ عبد الرحمن السبسبي، والشيخ طاهر الكيالي الحمصي، والإجازة بالطريقة القادرية من الشيخ أحمد العربيني، والشيخ الطيب الدمشقي، والإجازة بالطريقة النقشبندية عن الشيخ عبد الغفور الأفغاني النقشبندي(1).
__________
(1) - انظر: الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم عبدالله الهرري (الحبشي) ص4-10، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الثانية 1420هـ-1990م، إظهار العقيدة السنية بشرح العقيدة الطحاوية عبدالله الهرري (الحبشي) ص7-13، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الثالثة 1417هـ-1997م.(1/14)
ثم بعد ذلك أمَّ مكة، وتعرف إلى علمائها، ورحل إلى المدينة المنورة، ثم إلى بيت المقدس في أواخر العقد الخامس من هذا القرن، ومنه توجه إلى دمشق، ثم استقر به الحال في بيروت.
ومن أهم تصانيفه:
الصراط المستقيم في التوحيد -مطبوع-.
الدليل القويم على الصراط المستقيم في التوحيد -مطبوع-.
مختصر عبدالله الهرري الكافل بعلم الدين الضروري -مطبوع-.
بغية الطالب لمعرفة علم الدين الواجب -مطبوع-.
المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية -مطبوع-.
إظهار العقيدة السنية بشرح العقيدة الطحاوية -مطبوع-.
شرح الصراط المستقيم -مطبوع-.
صريح البيان في الرد على من خالف القرآن -مطبوع-.
المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية -مطبوع-.
شرح الصفات الثلاث عشرة الواجبة لله -مطبوع-.
العقيدة المنجية -وهي رسالة صغيرة أملاها في مجلس واحد-(1) -مطبوع-.
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص8-10، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص12-13.(1/15)
وهناك من يقول أن الحبشي عندما خرج من بلده ترك فتنة، ويوضح هذا الأمر عبد الرحمن دمشقية بقوله: "قدم عبدالله الهرري الحبشي إلى لبنان، واغتر به الناس، وجهلوا أنه أتى من بلد يبغضه أهلها ويلقبونه (بشيخ الفتنة) حسب شهادة بعض أقارب الحبشي، وذلك لمساهمته في فتنة (كُلُب) من بلاد هرار بإيعاز من أهل (أديس أبابا) حيث تعاون مع أعداء المسلمين بالتحديد حاكم (أندراجي) صهر (هيلاسيلاسي) ضد الجمعيات الإسلامية، وتسبب في إغلاق مدارس الجمعية الوطنية الإسلامية لتحفيظ القرآن بمدينة هرر سنة 1367هـ-1940م، وصدر الحكم على مدير المدرسة (إبراهيم حسن) بالسجن ثلاثاً وعشرين سنة مع النفي، وبالفعل تم نفيه إلى مقاطعة (جوري) طريداً، سجيناً، وحيداً حتى قضى نحبه بعد سنوات قليلة، ثم انتهى الأمر بتسليم الدعاة والمشايخ إلى (هيلاسيلاسي) وإذلالهم ومنهم من فر إلى مصر والسعودية واستقر بها"(1)؛ ويعتبر الحبشي الأب الروحي لجماعة الأحباش(2)، ويسيطر على أتباعه وأنصاره على طريقة غلاة الصوفية، فتلاميذه يتعاملون معه على أنه معصوم(3).
الشيخ نزار حلبي:
يعتبر الشيخ نزار حلبي الرجل الثاني في جماعة الأحباش بعد الشيخ عبدالله الحبشي، والرجل الأول في إدارة شئون جماعة الأحباش.
__________
(1) - الحبشي شذوذه وأخطاؤه عبد الرحمن دمشقية ص7، بدون ناشر، ط الثالثة 1417هـ-1996م.
(2) - انظر: مجلة منار الهدى ص59، العدد 9 -محرم 1414هـ.
(3) - انظر: مجلة الأسرة، ص36، العدد 77، شعبان 1420هـ.(1/16)
وأما عن حياة هذا الرجل فلم يعرف عنها الكثير سوى أنه تسلم رياسة الجمعية (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية) عام 1983م، وقد تخرج في كلية الشريعة في جامعة الأزهر سنة 1975م، وكان إماماً لمسجد عبد الغني باشا بيضون في منطقة برج أبي حيدر في بيروت(1)، وعندما اشتد الصراع على الساحة اللبنانية بين الأحباش وغيرهم، تم اغتيال الشيخ حلبي في 31 آب (أغسطس) من العام 1996م؛ واتهم بهذه العملية مجموعة ناشطين من الجماعة الإسلامية، وأعدم بعض من اتهم بهذه العملية في أواسط 1997م، وبقي المتهم الرئيس في هذه القضية أحمد عبد الكريم السعدي (أبو محجن) يتوارى في مخيم عين الحلوة، ويتزعم مجموعة يطلق عليها (عصبة الأنصار) تضم حوالي خمسين عنصراً تُؤمّن له الحماية الأمنية(2).
__________
(1) - انظر: مجلة منار الهدى ص58، العدد 9 -محرم 1414هـ.
(2) - مجلة الوطن العربي ص39، العدد 1095، شهر فبراير 1998م، مقال بعنوان (المعركة الصامتة -الصراع العقائدي السياسي شدود إلى احتمالات الصراع).(1/17)
ومن كلمات العزاء التي قالها الأحباش في قائدهم نزار حلبي: "… ومما يعزينا ويبعث فينا الأمل ما تركه الشهيد القائد لأمته من عظيم ثمرات جهاده ونضاله، مؤسسات دينية، وتربوية، وثقافية، وكشفية، ورياضية، لسان حالها يشهد للقائد الشهيد بالعظمة والطهارة، والتاريخ الحافل بالكفاح والبطولات؛ … فكن قرير العين يا شهيد الاعتدال، والوطنية، والعروبة، يا شهيد لبنان وسوريا والأمة"(1)، ويلاحظ هنا اعتزاز الأحباش بالقومية العربية، ومحالفة ألد أعداء الإسلام والمسلمين من الفرق الباطنية كالنصيرية في سوريا، وهذا يظهر جلياً في مدح خَلَفِه في رئاسة الجمعية حسام قراقيرة فذكروا "انفتاحه وحرصه على العيش الحسن بين اللبنانيين، ومن ترسيخه للحلف الاستراتيجي مع سوريا حافظ الأسد، ومن سعيه ودعمه المتواصل لوحدة الجيشين والشعبين في لبنان وسوريا، وتربيته للأجيال الصاعدة على هذا المنهج الذي هو ضمان وصمام أمان للبنان وسوريا والأمة"(2).
الشيخ حسام قراقيرة:
تولى رياسة جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية بعد مقتل سلفه الشيخ حلبي، وقد تدرج الشيخ قراقيرة في العمل داخل مؤسسات الأحباش، حيث تولى في عام 1983م، رياسة مكتب شئون الدعوة، حيث أوفد من قبل الشيخ حلبي عدة مرات إلى بعض البلدان العربية، والأوربية ليتابع سير عمل الجمعية، وشئون الدعوة.
وأيضاً تولى منصب نائب رئيس الجمعية في 12 آذار 1989م، ثم تولى منصب المدير العام إضافة إلى نائب الرئيس، فعمل إلى جانب حلبي معيناً له في إدارة عمل الجمعية، وشئون الناس.
__________
(1) -الشيخ نزار حلبي-موقع الأحباش-على شبكة المعلومات www.aicp.de ، تحت عنوان (منهاج الجمعية).
(2) - المصدر السابق www.aicp.de (الشيخ نزار حلبي).(1/18)
وقد تلقى الشيخ حسام قراقيرة علومه الشرعية عند شيخه عبدالله الهرري الحبشي، حيث تلقى عنه عدداً من المتون، والكتب الشرعية منها: الصراط المستقيم، والدليل القويم على الصراط المستقيم، والعقيدة الطحاوية، والعقيدة النسفية، وذلك في العقيدة؛ ودروس وإملاءات في الأصول، والحديث وغيرها من العلوم، وقد أجازه شيخه الحبشي إجازة بما تجوز له روايته من الكتب الحديثية، والفقهية؛ وحمل الشيخ قراقيرة شهادة وإجازة في العلوم الشرعية(1).
الدكتور عدنان طرابلسي:
... ولد النائب الدكتور عدنان طرابلسي في بيروت المدينة عام 1954م، وفيها نشأ وترعرع، ويعتبر أحد أركان الجمعية المشاريعية، فقد تتلمذ على يد الشيخ الحبشي في شبابه، وعمل إلى جانب كل من الشيخ نزار حلبي، والشيخ حسام قراقيرة.
وقد فاز عن مدينة بيروت في الانتخابات البرلمانية، وذلك في عام 1992م، ويشغل الدكتور طرابلسي عدة مناصب منها: نائب رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، ورياسة الاتحاد الكشفي للبرلمانيين العرب، ورياسة نادي المشاريع الرياضي، ورياسة جمعية كشافة المشاريع، وهو حائز على شهادة الدكتوراه في التربية البدنية(2).
ثالثاً: أهم المؤسسات والأنشطة التابعة للأحباش:
للأحباش عدد كبير من المؤسسات والأنشطة، وذلك للاستفادة منها في بث أفكارهم ونشر معتقداتهم:
الجمعية:
__________
(1) - انظر: الشيخ نزار حلبي -موقع الأحباش- على شبكة المعلومات www.aicp.de ، تحت عنوان (منهاج الجمعية).
(2) - انظر: المصدر السابق (د. عدنان طرابلسي).(1/19)
للأحباش جمعية خاصة بهم تسمى (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية) استلموا رئاستها عام 1983م، ومركزها بيروت، ولها فروع في المحافظات اللبنانية كافة، وكذلك لها فروع في عدد من دول العالم: كالأردن تعمل تحت عنوان (جمعية الثقافة العربية الإسلامية)، واستراليا، والسويد، وفرنسا، وأمريكيا، وبريطانيا، وبلجيكا، وألمانيا، وروسيا، وتايوان، ولهم نشاط محدود في قطاع غزة في فلسطين، وغيرها من الدول.
ويبلغ عدد هذه الفروع ثلاثة وثلاثين فرعاً، وظاهر نشاط الجمعية المعلن التعليم الديني، وبناء المساجد، والمدارس، ومساعدة الفقراء، والأيتام، وغير ذلك من أعمال البر(1).
المدارس:
قام الأحباش ببناء مدارس خاصة لجميع المراحل الدراسية، ويقيمون في هذه المدارس دورات صيفية دينية، بالإضافة إلى التعليم الشتوي، وذلك لكي ينشروا عقيدتهم بين أبناء المسلمين.
ويوجد في هذه المدارس مئات الطلاب والطالبات في شتى المراحل، ومن أمثلة هذه المدارس (مدارس الثقافة) في كلٍ من: بيروت، وطرابلس، وبعلبك(2).
الإعلام:
__________
(1) - انظر: الأحباش لابن عبدالله ص38، مجلة المجتمع العدد 1447، بتاريخ 21/4/2001، شبكة المعلومات WWW.Almujtamaa-mag.com ؛ مجلة البيان ص93، العدد 111، ذو القعدة 1417هـ، مقال بعنوان (جماعة الأحباش حقيقتهم واتجاهاتهم -الجزء الثاني-).
(2) - انظر: الأحباش لابن عبدالله ص39، مجلة البيان ص93، العدد 111، ذو القعدة 1417هـ.(1/20)
للأحباش إذاعة محلية خاصة بهم تسمى (نداء الإيمان)، تبث من بيروت، وينشرون من خلالها أفكارهم؛ ولهم أيضاً مجلة شهرية باسم (منار الهدى) تقوم بنشر مذهبهم، والطعن في أئمة المسلمين وعلمائهم، كما تقوم بعض المجلات، والجرائد المحلية، والدولية بلقاءات ومقابلات، وتحقيقات مطولة مع أقطابهم، الهدف منها الدعاية لهم، والترويج لهم، والثناء عليهم، كما فعلت جرائد السفير، والنهار، والأنوار، والمسيرة الإيمانية، وكذلك مجلة الوطن العربي، ومجلة الأسبوع العربي وغيرها من المجلات والجرائد.
وأيضاً للأحباش نشاط كبير في التلفزيون اللبناني، وغيره من القنوات اللبنانية الخاصة، حيث تعرض اللقاءات والدروس؛ ويعمل الأحباش الآن على تشغيل محطة تلفزيونية خاصة بهم.
وللكتب والأشرطة والنشرات نشاط بارز في ترويج مبادئ هذا المذهب الذي يعتقدونه، وذلك من خلال مؤسستهم المسماة (مركز الأبحاث والخدمات الثقافية) بيروت، أو (قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية) عمان.
كما تصدر جمعيتهم تقويماً خاصاً بهم، يحوى كثيراً من السموم المختلفة في العقيدة والسلوك والفقه وغيرها، وهذا كله يتم طبعه في مطابعهم التي تعمل تحت اسم: (دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع) بيروت -لبنان(1).
الغناء والطرب والأندية:
لدى الأحباش عشرون فرقة للغناء والأناشيد الدينية في لبنان، وتقوم أناشيدهم الدينية على ترسيخ عقائدهم المخالفة لما عليه السلف، مثل: نفي العلو لله تعالى، حيث ينشدون (الله ليس في السماء، وليس له مكان).
__________
(1) - انظر: الأحباش لابن عبدالله ص39-40، مجلة البيان ص94، العدد 111، ذو القعدة 1417هـ، مجلة منار الهدى ص74، العدد 9، محرم 1414هـ.(1/21)
ويهتم الأحباش كثيراً بالأندية الرياضية المختلفة من كرة قدم وسلة، وألعاب قوى، وغير ذلك من الألعاب، لجذب الشباب والشابات، والتودد إليهم، وتعليمهم عقيدتهم، بل وتحذيرهم من معتقدات السلف وذلك من خلال وصمهم بمسميات منفرة: كتسميتهم بالمشبهة، والمجسمة، والحشوية، ومبتدعة إلى غير ذلك من الأسماء المنفرة من مذهب السلف.
وأشهر أنديتهم (نادي الفوز الرياضي) بطرابلس، وكذلك (مجمع ناجي الرياضي) بطرابلس.
ويركز الأحباش على النساء في دعوتهم، وذلك لأهمية النساء ومدى تأثيرهن في المجتمع، وهذا الأمر ظاهر للعيان من خلال نشاطاتهم المختلفة(1).
المبحث الأول:التأويل:
اعتمد الأحباش في تقرير العقيدة على مجموعة من القواعد هي: التأويل، والمحكم والمتشابه، وخبر الآحاد والاجتهاد والتقليد، وعلم الكلام، وفي هذا الفصل سيكون الحديث عن منهج الأحباش في تقرير العقيدة من خلال القواعد سابقة الذكر.
المبحث الأول: التأويل:
المطلب الأول: تعريف التأويل عند الأحباش:
__________
(1) - انظر: الأحباش لابن عبدالله ص40-41، مجلة البيان ص94-95، العدد 111، ذو القعدة 1417هـ.(1/22)
... الأحباش لم يختلفوا عن الخلف(1) في تعريفهم للتأويل، فعرّفوا التأويل بقولهم: "صرف النص عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله"(2).
أولاً: في تعريف التأويل:
__________
(1) - الخلف:هم الذين خالفوا منهج السلف، ورموا ببدعة أو شهروا بلقب غير مرض في إثبات العقيدة مثل: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، والأشاعرة، والماتريدية وغيرهم مما يأتي ذكرهم عند تعداد الفرق التي خالفت السلف في إثبات العقائد بطريقة شرعية.انظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأنوار الأثرية للشيخ محمد السفاريني الحنبلي 1/-21، الناشر:المكتب الإسلامي، بيروت، ودار الخاني، الرياض، ط الثالثة 1411هـ-1991م.
(2) - تفنيد مزاعم المدعى فيما نسبه إلى الشيخ عبد الله الهرري، إمداد قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية ص16، الناشر: جمعية الثقافة العربية الإسلامية، ط الأولى 1416هـ-1995م، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص160.(1/23)
إن الناظر لتعريف التأويل عند الأحباش، يجده التعريف نفسه الذي قال به الخلف أمثال: الرازي(1)، والجويني(2)، والغزالي(3)، والآمدي(4)، وابن فورك(5) وغيرهم؛ ولبيان بطلان معنى التأويل عند الأحباش، تتم مناقشتهم من خلال ما جاء في معنى التأويل في اللغة والقرآن وكلام السلف.
التأويل في اللغة:
من الملاحظ أن الأحباش عندما طرقوا باب التأويل تحدثوا عن المعنى الاصطلاحي الذي قال به الخلف فقط، أما التعريف اللغوي فلم يتطرقوا إليه ألبته.
يرجع المعنى اللغوي للتأويل إلى معنيين:
بمعنى العاقبة والمرجع والمآل:
__________
(1) - انظر: التفسير الكبير للرازي 7/169-170، الناشر: دار الكتب العلمية، طهران -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - انظر: كتاب الإرشاد -إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد- لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ص59-60، تحقيق: أسعد تميم، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط الأولى 1405 هـ-1985م.
(3) - انظر: المستصفى من الأصول لأبي حامد الغزالي 1/107، ص384، الناشر: دار الفكر، بيروت، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(4) - انظر: الإحكام في أصول الأحكام لأبي الحسن الآمدي 3/74-75، الناشر: دار الحديث، القاهرة، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(5) - انظر: كتاب مشكل الحديث وبيانه لأبي بكر بن فورك ص6، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، -بدون رقم طبعة- 1400هـ-1980م.(1/24)
... الأصل الاشتقاقي للتأويل هو الرجوع والعود -كما بينه الأزهري(1)-، وتأويلُ الشيء: عاقبتُهُ ومرجعُهُ، ويقال: آلَ الشيءُ يؤولُ أَوْلاً ومآلاً، أي رجع وعاد، ومنه يقال: طبختُ النبيذَ حتى آلتْ إلى الثلثِ أي رجعت؛ وتأويل الكلام هو عاقبته وما يؤول إليه، والتأويل: المرجع والمآل والمصير(2).
أو بمعنى التفسير والبيان والتدبر والتحري:
__________
(1) - الأزهري: محمد بن أحمد بن الأزهري… الهروي الشافعي (أبو منصور) أديب، لغوي، ولد في هراة نجراسان سنة 282هـ، توفي عام 370هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى لأبي نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي 6/190-194 تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، معجم الأدباء لياقوت الحموي 17/164-167، الناشر: دار الفكر، ط الثالثة 1400هـ-1980م، معجم المؤلفين تأليف: عمر رضا كحالة 8/230، الناشر: مكتبة المثني، بيروت، –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - انظر: تهذيب اللغة لأبى منصور محمد بن أحمد الأزهري 15/456-460، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الناشر: دار الكاتب العربي، ط 1967، معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا 1/159-162، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: مصطفى البابي الحلبي، ط الثانية 1389هـ-1969م، مجمل اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا 1/107، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية 1406هـ-1986م.(1/25)
التأول والتأويل: تفسير الكلام الذي تختلف معانيه، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه،وأوّل الكلام تَأَوّلَهُ: دَبّره وقَدّره، ويقال: تأولتُ في فلانٍ الأجرَ: إذا طلبتُهُ وتحريتُهُ؛ البيان والتدبر والتحري معاني يستخدمها المفسر في تفسيره، لأنه يطلب بيان المعاني من خلال التدبر والتحري في الآيات القرآنية(1).
__________
(1) - انظر: كتاب العين لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي 8/369، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود.إبراهيم السامرائي، الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط الأولى 1408هـ-1988م، لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري 11/33، الناشر: دار صادر، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، المحيط في اللغة لإسماعيل بن عباد 10/378، تحقيق: محمد حسن آل ياسين، الناشر: عالم الكتب، بيروت، ط الأولى 1414هـ-1994م.(1/26)
أما ما اصطلح عليه المتكلمون من معنى للتأويل: وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله(1)، فهذا اصطلاح مستحدث، لا يوجد له أثر في معاجم اللغة القديمة التي يعتد بها مثل كتاب العين للفراهيدي، وتهذيب اللغة للأزهري والمحيط في اللغة ومعجم مقاييس اللغة ومجمل اللغة وغيرها…، وإنما وجد في كتب متأخرة عن هذه الكتب اللغوية مثل لسان العرب(2) وتاج العروس(3)، وذلك يرجع إلى انتشار علم الكلام بين المسلمين.
التأويل في القرآن الكريم :
__________
(1) - انظر: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني عبد الملك الجويني ص59/60 تحقيق: أسعد تميم، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط الأولى 1405هـ-1985م؛ التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي 7/169-170، الناشر: دار الكتب العلمية، طهران -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-؛ الوصول إلى الأصول لأحمد بن علي بن برهان البغدادي 1/375، تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد، الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، -بدون رقم طبعة- 1403هـ-1983م؛ قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي2/100، الناشر: مكتبة الاستقامة، القاهرة، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-؛ مشكل الحديث وبيانه للإمام أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك ص6، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت -بدون رقم طبعة– 1400هـ-1980م.
(2) - أنظر: لسان العرب لابن منظور 11/33.
(3) - انظر: تاج العروس من جواهر القاموس محمد مرتضى الزبيدي 7/210، الناشر: دار مكتبة الحياة، بيروت، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/27)
وردت لفظة التأويل في عدة سور من القرآن الكريم؛ و اختلف المفسرون وغيرهم في المعنى المراد بلفظة التأويل الواردة في سورة آل عمران، فمنهم من ذهب إلى أن المراد بها المآل وعاقبة الشيء، ومنهم من قال: المراد بها التفسير؛ وأما معنى التأويل في السور الأخرى، اتفق المفسرون على أن المراد به المآل، والمرجع، والعاقبة.
وهنا أعرض أقوالاً لبعض المفسرين في بيان معنى (التأويل) في كتاب الله تعالى:
ما جاء في سورة آل عمران آية(7):
قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَاب } .(1/28)
أما معنى التأويل في قوله تعالى: { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } ، هو عاقبة الأمور التي لا يعلمها إلا الله، حيث روى الطبري(1) بسنده عن السدي(2): "وابتغاء تأويله أرادوا أن يعلموا تأويل القرآن وهى عواقبه "(3).
__________
(1) - الطبري: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الآملي الطبري أبو جعفر، ولد سنة 310هـ، إمام مجتهد، فقيه، محدث، مفسر، مؤرخ. انظر: طبقات الحفاظ للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ص310-311، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1403هـ-1983م، غاية النهاية في طبقات القراء لأبي الخير محمد بن محمد الجزري 2/106-108، عني بنشره ج. برجستراس، الناشر:دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثالثة 1402هـ-1982م.
(2) - السدي: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي أبو محمد أصله من الحجاز عاش في الكوفة، توفي سنة 127هـ، مفسر ومحدث، حسن الحديث، روى عن بعض الصحابة وعن كثير من قدامى التابعين، انظر: العبر في خبر من عبر للحافظ الذهبي1/127، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: دار الكتب العربية، بيروت، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي1/174، الناشر: دار الفكر، ط الأولى 1399هـ-1979م، سير أعلام النبلاء للإمام محمد بن أحمد الذهبي 5/264-265، تحقيق شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط السابعة 1410هـ-1990م، معجم المؤلفين لكحالة 2/276.
(3) -جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري3/121،الناشر:دار المعرفة،بيروت،ط1400هـ-1980م.(1/29)
... وذكر ابن عطية(1) في قوله تعالى: { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } "والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني وهو من آل يؤول، إذا رجع في المعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة"(2).
وذكر ابن كثير(3) في تفسيره عن مقاتل بن حيان(4) والسدي أنهما قالا: "يبتغون أن يعلموا ما
يكون "(5).
__________
(1) - ابن عطية: عبد الحق بن الحافظ أبي بكر غالب بن عطية المحاربي الغرناطي أبو محمد، ولد سنة 480هـ، توفي سنة 541هـ، وقيل 542هـ، كان إماماً في الفقه والتفسير وفي العربية. أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 19/587-588، طبقات المفسرين للداودي 1/265-267، طبقات المفسرين للسيوطي ص50.
(2) - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لآبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي 1/20، تحقيق: المجلس العلمي بفاس –بدون ناشر-، ط 1397هـ- 1977م. وانظر: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير محمد بن علي الشوكاني 1/315، الناشر: دار الفكر، لبنان، ط 1403هـ-1983م.
(3) - ابن كثير: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير الدمشقي أبو الفداء، ولد سنة 701هـ، و توفي سنة 774هـ، حافظ، فقيه، محدث، مفسر، محقق، مؤرخ، من مصنفاته: تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1508، وذيل تذكرة الحفاظ للذهبي لآبي المحاسن الحسيني الدمشقي ص57- 59، الناشر: دار الفكر العربي، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، طبقات الحفاظ للسيوطي ص533-534، معجم المؤلفين لكحالة 2/283-284.
(4) - مقاتل بن حيان: مقاتل بن حيان بن دوال دور، الإمام المحدث، أبو بسطام النبطي البلخى الخراز، توفي سنة 150هـ. انظر: طبقات المفسرين للداودي 2/329-330، سير أعلام النبلاء للذهبي 6/340-341، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/174.
(5) - تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي 1/345، الناشر: دار المعرفة، بيروت، ط1400هـ-1980م.(1/30)
... ومعنى التأويل في قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } فاختلف المفسرون في تفسير هذا المقطع من الآية السابعة من سورة آل عمران، فمنهم من ذهب إلى أن معنى التأويل حقيقة الشيء وما يؤول إليه وهذا لا يعلمه إلا الله، وهذا المعنى يفهم من خلال الوقف على قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } واعتبار قوله تعالى: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } مستأنف وليس معطوفاً على لفظ الجلالة؛ ومن المفسرين من ذهب إلى أن معناه: التفسير والبيان من خلال عطف قوله تعالى: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } على لفظ الجلالة، والوقف يكون على قوله تعالى: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ، والمعنى يكون: الراسخون في العلم يعلمون تفسيره؛ ويوضح هذا المعنى شارح العقيدة الطحاوية بقوله: "ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله"(1).
... وهذا ما يؤكده الإمام ابن كثير في تفسيره بقوله: ومن العلماء من فصل في هذا المقام، التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان أحدهما: بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه… فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على لفظ الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل… وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء… فإن أريد به المعنى؛ فالوقف على (والراسخون في العلم)(2).
__________
(1) - شرح العقيدة الطحاوية للإمام محمد بن علاء الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنقي ص213-214، الناشر: المكتب الإسلامي، ط الثامنة 1404هـ-1984م.
(2) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/347 بتصرف.(1/31)
وبعد هذا العرض نجد من المفسرين من قال ههنا في معنى التأويل: البيان،والتفسير،وبمعنى عواقب الأمور وما ترجع إليه،ومنهم من يرجع علمه إلى الله وكلا التفسيرين صحيح قال بهما السلف(1).
ما جاء في سورة النساء آية 59، والإسراء 35 قوله تعالى: { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } .
... أما في سورة النساء آية 59، قال فيها المفسرون { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } يعني وأحمد موئلاً ومغبة وأجمل عاقبة، أو أحسن عاقبة ومآلاً أو يقصد به التصديق، أو ردكم إياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم(2) أما ما جاء في سورة الإسراء35 { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } أي أحسن مردوداً عليكم، وخير ثواباً وأحسن عاقبةً(3).
__________
(1) - انظر: جامع البيان للطبري 1/122، تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل لعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي 1/321 الناشر: شركة الحلبي وأولاده، ط الثانية 1375هـ-1955م، المحرر الوجيز لابن عطية 1/20، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/12، فتح القدير للشوكاني 1/315.
(2) - انظر:جامع البيان للطبري4/96،تفسير القرآن العظيم لابن كثير1/517،المحرر الوجيز لابن عطية 4/160، زاد المسير في علم التفسير للإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي2/145،تحقيق:محمد بن عبد الرحمن عبد الله، الناشر: دار الفكر، لبنان، ط الأولى 1407هـ-1987م.
(3) - انظر: جامع البيان للطبري 15/61، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/40، المحرر الوجيز لابن عطية 10/292، زاد المسير لابن الجوزي 5/26.(1/32)
ما جاء في سورة الأعراف آية 53 قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } يقول الطبري في هذه الآية: "يقول تعالى ذكره { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ } ، هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه إلا تأويله، يقول إلا ما يؤول إليه أمرهم من ورودهم على عذاب الله وصليتّهم جحيمه وأشباه هذا مما أوعدهم الله به"(1). والتأويل في هذا الموضع بمعنى المآل والعاقبة، قاله قتادة(2) ومجاهد(3) وغيرهما.
وقال ابن عباس: "تصديق ما وعدوا في القرآن"(4).
__________
(1) - جامع البيان للطبري 8/145، وأنظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/221.
(2) - قتادة: قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ولد سنة 61هـ، توفي سنة 117هـ، تابعي ، محدث، مفسر. أنظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس أحمد بن محمد بن خلكان 4/85-86، تحقيق: د. إحسان عباس، الناشر: دار الثقافة، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، تهذيب التهذيب للإمام أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني 8/351-356، الناشر: مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، ط الأولى 1326هـ.
(3) - مجاهد: مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي تابعي إمام في القراءة والتفسير ولد سنة 21هـ،وتوفي سنة 104هـ،أخذ التفسير عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم.انظر:سير أعلام النبلاء للذهبي4/449-457شذرات= =الذهب لابن عماد الحنبلي 1/125،تذكرة الحفاظ للذهبي1/92-93،صفة الصفوة للإمام جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي2/208-211،الناشر:دار المعرفة،بيروت،تحقيق:محمود فاخوري،ط الثانية 1399هـ –1979م.
(4) -زاد المسير لابن الجوزي 3/142.(1/33)
ما جاء في سورة يونس آية 39 قوله تعالى: { ِبَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } قال الطبري في تفسيره: " { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن"(1). ويقول ابن كثير: "أي ولم يحصل ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم جهلاً وسفهاً"(2)، وفي تفسير المحرر الوجيز جاء: "وتأويله على هذا يراد به ما يأوي إليه أمره"(3)؛ أما في زاد المسير جاء في قوله تعالى: { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس:39]، قولان: "أحدهما: تصديق ما وعدوا به من الوعيد، والتأويل ما يؤوي إليه الأمر، الثاني: ولم يكن معهم علم في تأويله"(4).
هـ. ما جاء في سورة يوسف:
حيث جاءت لفظة التأويل في سورة يوسف ثمان مرات، ومعناها: ما يؤول إليه الأمر ويرجع، أو ما تؤول إليه الأحاديث والأحلام، وبيان عواقبها؛ وهي كالتالي:
قوله تعالى: { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف:6]، قال الطبري: "يقول ويعلمك ربك من علم ما يؤول إليه أحاديث الناس عما يرونه في منامهم وذلك تعبير الرؤيا"(5).
قوله تعالى: { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف:21]، "أي كي نعلم يوسف من عبارة الرؤيا، وقال مجاهد والسدي: هو تعبير الرؤيا"(6).
__________
(1) - جامع البيان للطبري 11/83 .
(2) -تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/419 .
(3) - المحرر الوجيز لابن عطية 9/47 .
(4) - زاد المسير لابن الجوزي 4/29 .
(5) -جامع البيان للطبري 12/92، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/471.
(6) - انظر: جامع البيان للطبري 12/105، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/474.(1/34)
قوله تعالى: { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف:36]، أي أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك إنا رأيناه في منامنا ويرجع إليك أي أنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره(1).
قوله تعالى: { قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } [يوسف:37]، ويعني بقوله (بتأويله) ما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه(2).
قوله تعالى: { قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ } [يوسف:44]، أي وما نحن بما تؤول إليه الأحلام الكافرية بعالمين أو لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها(3).
قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي } [يوسف:45]،
أي أخبركم بتأويله (فَأَرْسِلُونِي) فأطلقوني أمضي لأتيكم بتأويله من عند العلم به(4) أي أخبركم بتفسير هذه الرؤيا من عند يوسف عليه السلام .
قوله تعالى: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ } [يوسف:100]، يقول ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها(5).
__________
(1) - انظر: جامع البيان للطبري12/148، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/479، زاد المسير لابن الجوزي 4/171.
(2) - انظر: جامع البيان للطبري 12/134، تفسير القرآن العظيم لابن كثير2/492، زاد المسير لابن الجوزي 4/176.
(3) - انظر:جامع البيان للطبري12/134،تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/492، زاد المسير لابن الجوزي 4/176.
(4) - جامع البيان للطبري 12/135.
(5) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/492، انظر: المحرر الوجيز لابن عطية 9/379.(1/35)
قوله تعالى: { وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } [يوسف:101]، { تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } يعني من عبارة الرؤيا(1).
ما جاء في سورة الكهف : ... ...
قوله تعالى: { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف:78]، يقول الطبري فيها: سأخبرك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً يقول بما يؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها فلم تستطع على ترك المسألة عنها أي بتفسير(2).
قوله تعالى: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف:82] ، يقول هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها من { تَأْوِيلُ } ما تؤول إليه وترجع
الأفعال التي لم تستطع على ترك مسألتك إياك عنها(3).
التأويل عند السلف(4):
لقد تبين أن التأويل بمعناه المتعارف عليه عند الخلف غير معروف سواء في معاجم اللغة أو كتب التفسير، وتبقى أن نبحث عن معنى التأويل عند السلف.
ومن أمثلة النصوص التي وردت عن السلف تبين معنى التأويل :
__________
(1) - جامع البيان للطبري 13/47، انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/493.
(2) - انظر: جامع البيان للطبري15/188،تفسير القرآن العظيم لابن كثير3/99،المحرر الوجيز لابن عطية 10/434.
(3) - انظر: جامع البيان للطبري16/ 6-7، تفسير القرآن العظيم لابن كثير3/101، المحرر الوجيز لابن عطية 10/440.
(4) - السلف: هم الصحابة الكرام والتابعين وتابعي التابعين وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة وعرف عظم شأنه في الدين، ولم يخالفوا الشرع في إثبات العقيدة. انظر: لوامع الأنوار للسفاريني 1/20، التحف في مذاهب السلف لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ص16، الناشر: مطبعة الإمام، مصر –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، وانظر: كشاف اصطلاحات الفنون محمد علي الفاروقي 4/15، تحقيق: د. لطفي عبد البديع، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب –بدون رقم طبعة- 1972م.(1/36)
ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } [الأنعام:65]، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما أنها كائنة ولما يأتِ تأويلها"(1)، أي لم يأتِ تفسيرها حتى الآن.
عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن"(2).
ما يرويه الطبري بسنده عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال:"أنا ممن يعلم تأويله"(3)أي تفسيره.
__________
(1) - الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة ح 3066، 5/262، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، الناشر: الحلبي، ط الثانية 1395هـ –1975م، ومسند الإمام أحمد بن حنبل 1/171، قال الترمذي عن الحديث: هذا حديث حسن غريب.
(2) - صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن البخاري، كتاب الصلاة، باب التسبيح والدعاء في السجود 1/207، وأيضاً: كتاب التفسير، تفسير سورة (إذا جاء نصر الله) 2/702، الناشر: دار الحديث، القاهرة، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود ح484، 1/350، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، ط الأولى 1374هـ-1955م.
(3) - جامع البيان للطبري 3/122.(1/37)
عن الزهري(1) عن عروة(2) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت الصلاة، صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر، قال الزهري، فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم، قال تأولت كما تأول عثمان"(3).
قال سفيان بن عيينة: "السنة تأويل الأمر والنهي"(4)، أي تفسير الأحكام الشرعية من أوامر ونواهٍ.
__________
(1) - الزهري: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي أبو بكر، من كبار التابعين، ولد سنة 58هـ، توفي 124هـ، من أعلام الحديث وحفاظه. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 7/144، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/108-113، كتاب الطبقات للإمام أبي عمر خليفة بن خياط شباب العصفري ص261، تحقيق: د. أكرم ضياء العربي، الناشر: دار طيبة، الرياض، ط الثانية 1402هـ-1982م، معجم المؤلفين لكحالة 12/22.
(2) - عروة: عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، أمه أسماء بنت أبي بكر وخالته عائشة (رضي الله عنهم) ولد بالمدينة سنة 23هـ، وتوفي سنة 94هـ. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد5/178-182، الناشر: دار صادر، بيروت – بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، سير أعلام النبلاء للذهبي 4/421-437، شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 1/103-104.
(3) - صحيح البخاري كتاب الجمعة، باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر 1/275، صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافر وقصرها ح686، 1/4786.
(4) - درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لابن تيميه 1/207، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الناشر: دار الكنوز الأدبية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/38)
قول الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية(1): "وتأول القرآن على غير تأويله"، وقوله: "بيان ما تأولته الجهمية من قول الله …"(2)، فأبطل تلك التأويلات التي ذكرها وهو تفسيرها المراد بها(3).
ومنه قول الإمام ابن جرير الطبري، عند تفسيره لآيات القرآن: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا(4)، يقصد بذلك (تفسير قوله تعالى).
__________
(1) - الجهمية: أصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية الخالصة، وقتله سالم بن أحوز المازني في أخر ملك بني أمية، ووافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم بأشياء. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين فخر الدين الرازي ص69-70، تحقيق: محمد زينهم محمد عزب،الناشر:مكتبة مدبولي،القاهرة،ط الأولى 1413هـ-1993م،الملل والنحل للإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني 1/113-115، الناشر: دار السرور، بيروت،ط الأولى1368هـ-1948م،الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي ص211-212،تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد،الناشر:المكتبة العصرية،بيروت، –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل ص104،138،146، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: دار اللواء، الرياض –بدون رقم طبعة– 1397هـ-1997م.
(3) - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية 1/21، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(4) - انظر: أي موضع في تفسير جامع البيان للطبري.(1/39)
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية(1): "وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر هو الحقيقة نفسها التي أخبر عنها، وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة(2) وغيرهما (الاستواء معلوم و الكيف مجهول)"(3).
وبعد هذا العرض لمعنى التأويل من حيث معاجم اللغة،ومعناه في القرآن الكريم،وأقوال السلف،لا يبقى مجالٌ لقول قائل:أن للتأويل معنى آخر غير حقيقة ما يؤول إليه الأمر،أو التفسير والبيان.
__________
(1) - انظر: ترجمة ابن تيمية ـرحمه الله ـ ص331.
(2) - ربيعة: ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ المدني مولى آل المنكدر التميين –تيم قريش– تابعي، المعروف بربيعة الرأي، وكنيته أبو عثمان، ويقال أبو عبد الرحمن، فقيه من أهل المدينة، أدرك جماعة من الصحابة، وروى عن أنس بن مالك وغيره –لم يذكر تاريخ ولادة – توفي سنة 136هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 6/89-96، وفيات الأعيان 2/288-290، تاريخ بغداد أو مدينة السلام للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي 8/420-427، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، أو دار الفكر –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر–، الأعلام خير الدين الزركلي 3/17، دار العلم للملايين، بيروت، ط الخامسة 1980م.
(3) - درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/207.(1/40)
... وأما غير ذلك من معاني التأويل التي استحدثت مثل:صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله مردود بما سبق عرضه،حيث يقول ابن تيمية:"أما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح،كتأويل من تأول استوى بمعنى استولى ونحوه، فهذا عند السلف والأئمة باطلٌ لا حقيقة له،بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسمائه وآياته"(1).
المطلب الثاني: أقسام التأويل عند الأحباش :
قسم الأحباش التأويل إلى قسمين: حق وباطل.
التأويل الحق (غير المذموم): فهو الذي لا يتعارض مع آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي-صلى الله عليه وسلم- وكان موافقاً للغة العرب كتأويل الوجه واليد والعين والاستواء والنزول
وغيرها من المتشابه الذي ورد في القرآن الكريم والحديث(2).
ب- ... التأويل الباطل (المذموم): فهو التأويل المخالف للقرآن والحديث وكذلك ما كان على وجه مخالف للغة العرب(3).
وسلك الأحباش في التأويل الحق مسلكين:
المسلك الأول: التأويل الإجمالي: وكان مسلكاً لغالب السلف – حسب ادعاء الحبشي – حيث إن الغالب أنهم يؤولون آيات الصفات وأحاديثها تأويلاً إجمالياً، وذلك بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته، بلا تعيين ولا تكييف.
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 5/382، أنظر: مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ص20-21، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص212-215، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن محمد الأمين بن محمد الشنقيطي 1/233-234، الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة –بدون رقم طبعة- 1408هـ-1988م.
(2) - مجلة منار الهدى ص19، عمود2 العدد7 ذو الحجة 1419هـ-1999م آذار، انظر: تفنيد مزاعم المدعى قسم الأبحاث والدراسات ص 16.
(3) - انظر: المصدرين السابقين.(1/41)
المسلك الثاني: التأويل التفصيلي: فهو مذهب الخلف إذ الغالب عليهم أنهم يؤولون آيات الصفات وأحاديثها تأويلاً تفصيلياً بتعيين معانٍ لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها(1).
... أما التأويل الباطل فهو مرفوض لديهم، وبالتالي لا يلزم الرد عليهم لبطلانه لديهم .
وأما التأويل الحق لدى الأحباش، وهو التأويل المتعارف عليه عند المتكلمين من صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله، حيث يقولون بتأويل صفات الوجه واليد والعين والاستواء … وغيرها من الصفات التي وردت في القرآن والسنة. وهذا التأويل هو التأويل الباطل عند السلف الذي لا حقيقة له، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته(2)، حيث إنهم يقومون بصرف اللفظ عن معناه الحق إلى غيره بدون دليل يوجب ذلك، ويدَّعون أن في إثباته على ظاهره يحتمل من المحاذير ما يوجب التأويل(3).
وبالتالي ينطبق تعريف التأويل المذموم والباطل عند الأحباش الذي هو عبارة عن التأويل المخالف للقرآن، والسنة، وللغة العرب(4)، على التأويل الذي يعتبرونه حقاً وغير مذموم(5).
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص152-153،321، الصراط المستقيم الشيخ عبد الله الحبشي ص44-46، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع، ط التاسعة 1413هـ-1993م، تفنيد مزاعم المدعي قسم الأبحاث والدراسات ص17-19، مجلة منار الهدى ص26، عمود 2-3، العدد9، محرم 1414هـ-1993م.
(2) - انظر: درء التعارض لابن تيمية 5/382، مختصر الصواعق المرسلة ص20-21، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص212-215.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى لتقي الدين أحمد بن تيمية الحراني3/403، الناشر :دار الوفاء، مصر، ط الثانية 1419هـ-1998م.
(4) - مجلة منار الهدى ص19، عمود 2، العدد 7 ذو الحجة 1419هـ.
(5) - انظر: مناقشة الأحباش في تعريف التأويل ص12-22.(1/42)
ومن الأمور المستحدثة التي لا يعرف لها أصل، تقسيم الحبشي التأويل: للتأويل الحق –حسب زعمه– إلى تأويل تفصيلي وإجمالي؛ فينسب التأويل التفصيلي إلى الخلف والتأويل الإجمالي إلى السلف(1).
وهذا الأمر مردود على الحبشي، حيث إن السلف لم يقولوا بالتأويل الإجمالي الذي يعرفه الحبشي، بل السلف ردوا على من أول النصوص، ومن الأئمة الذين ردوا على مَن سلك هذا المسلك الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم(2)، وذكروا من النصوص ما يبطل هذا القول.
__________
(1) - انظر:إظهار العقيدة السنية للحبشي ص152-153، والصراط المستقيم للحبشي ص24-46، تفنيد مزاعم المدعي قسم الأبحاث والدراسات ص17-19.
(2) - انظر: الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل ص127-140، التمهيد لما في الموطئ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر 19/231-232، تحقيق: سعيد أحمد إعراب،–بدون رقم طبعة–، 1403هـ–1988م، درء التعارض لابن تيمية 5/382 ، مجموعة الفتاوى 3/43، 6/212–213، ص316–324، 5/59-60، مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ص28،46،47،75، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص212-217، وغيرها من الكتب التي ردت على المؤولين.(1/43)
أما ما يذكره الحبشي عن الخلف بأنهم أولوا تأويلاً تفصيلياً، فلا يعتبر هذا دليل يستند إليه بجواز القول بالتأويل وذلك أن السلف ردوا عليهم وأبطلوا القول بالتأويل الذي قالوا به(1)، وجاء في كتاب (إتحاف السادة) أن: "هناك مجموعة من رؤساء الأشاعرة(2) أنهم منعوا التأويل بحيث يذكر لأبي الحسن الأشعري أن له قولاً ثانياً وهو أن تمر أخبار
__________
(1) - سيأتي مزيد من التفصيل ( الرد على الأحباش في التأويل )، انظر: ص29.
(2) - الأشاعرة: أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، الذين قدموا العقل على النقل في إثبات التوحيد والنبوة وأحكام الوعد والوعيد، وأوّلوا العديد من الصفات الإلهية هروباً من التشبيه -حسب ظنهم-، انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/127، الفَرق بين الفِرق للبغدادي ص313.(1/44)
الصفات كما جاءت وإليه مال في الإبانة(1) وتبعه الباقلاني(2) وإمام الحرمين(3) والمصنف –أي الغزالي-(4)
__________
(1) - هو من آخر ما كتب الأشعري وأعلن فيه رجوعه لعقيدة السلف.انظر:لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/240.
(2) - الباقلاني:محمد بن الخطيب بن محمد الباقلاني البصري القاضي أبو بكر،يعرف بالباقلاني أو بابن الباقلاني، ولد سنة 338هـ،وتوفي سنة 403هـ،من كبار أئمة الأشاعرة المتقدمين.انظر:النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة،تأليف:أبي المحاسن يوسف بن تغري بردى الأتابكي 4/234،الناشر:دار الكتب العلمية،بيروت،ط الأولى1413هـ–1992م،تبين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري،تأليف:أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي ص217-226، الناشر: دار الفكر، دمشق، ط الثانية 1399هـ.
(3) - إمام الحرمين: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن يوسف بن حيوية الجويني، يعرف بإمام الحرمين، فقيه، متكلم، شافعي، ولد بنيسابور سنة 419هـ، توفي سنة 478هـ، من أئمة الأشاعرة الكبار. انظر: تبين كذب المفترى عليه لابن عساكر ص278-285، العبر في خبر من غبر للذهبي 2/339، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/167-170، طبقات الشافعية للسبكي 5/165-222.
(4) - الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي المعروف بالغزالي، ولد بالطابران إحدى قصبتي طوس بخراسان سنة 450هـ ، وتوفي سنة 505هـ، فقيه، متكلم، وأشعري، وصوفي، مال في آخر حياته إلى سماع الحديث. انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 4/10-13، طبقات الشافعية للسبكي 6/190-194، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/68، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي 17/124-127، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1412هـ–1992م.(1/45)
"(1)، ويتبين لنا أن رؤساء من الأشاعرة منعوا التأويل، ومن المعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه احتمال بطل الاستدلال به، فيعني هذا أن الأحباش لا يجوز لهم أن يستدلوا على القول بالتأويل من خلال تعميم القول بأن الخلف قالوا بالتأويل التفصيلي وهذا ما ظهر بطلانه.
إذاً القول بتقسيم التأويل إلى تفصيلي وإجمالي قول باطل، ويعتبر بدعة من صنع الحبشي(2)، ليس لها أصل في الدين.
وهذا لا يعني أن السلف ينفون معنى التأويل مطلقاً، حيث إن معنى التأويل يراد به التفسير المبيّن لمراد الله به، وهو لا يعاب بل يحمد، ويراد أيضاً بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها(3)، أما الذي يعاب كما تقدم تقسيم التأويل إلى إجمالي وتفصيلي، وإظهاره بالشكل المقبول كما فعل الحبشي.
المطلب الثالث: مسوغات استخدام التأويل عند الأحباش:
يعتبر الحبشي أن التأويل أصل من أصول العقيدة لدى المسلمين، وأنه لا يجوز تركه، وإلا أدى إلى الخروج عن العقيدة والهلاك فيقول في ذلك: "من ترك التأويل التفصيلي والإجمالي وتمسك بالظاهر هلك وخرج عن عقيدة المسلمين"(4).
__________
(1) - إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للعلامة محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير مرتضى 2/133 الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1418هـ–1989م.
(2) - انظر: موسوعة أهل السنة في نقد أصول فرقة الأحباش ومن وافقهم في أصولهم لعبد الرحمن بن محمد سعيد دمشقية 1/413، الناشر: دار المسلم، ط الأولى 1418هـ–1997م.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى –الرسالة التدمرية- 3/43.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص170.(1/46)
ويعلق الحبشي على بعض النصوص التي قام بتأويلها بقوله: "ولا يجوز ترك التأويل والحمل على الظاهر لأنه يلزم من ذلك ضرب القرآن بعضه ببعض…"(1)، حتى إن الحبشي يرى في الذين يمنعون التأويل ويقولون بعدم جوازه إنما هم جهلة ويتخبطون في أقوالهم فيقول: "فتبين أن قول من يقول إن التأويل غير جائز خبط وجهل"(2).
وأما عن ادعاء الأحباش أن هناك مسوغات ودواعي لاستخدام التأويل وذلك للفرار من التشبيه والتجسيم كلام مردود عليهم وباطل، وهذا يتضح من خلال التالي:
القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر: فيقال للذين يثبتون لله الحياة والعلم والقدرة والسمع… ثم ينازعون في محبة الله ورضاه وغضبه وكراهيته … فيقال لهؤلاء لا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه بل القول في إحداهما كالقول في الآخر(3).
القول في الصفات كالقول في الذات: فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متضمّنة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الذوات(4).
وجاء في متن شرح كتاب الفقه الأكبر: "إثبات الصفات لله كما في الكتاب والسنة لا يعني المماثلة بينها وبين صفات المخلوقين، فصفاته سبحانه كلها بخلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا ويرى لا كرؤيتنا… "(5).
__________
(1) - المصدر السابق ص160، وانظر: الصراط المستقيم للحبشي ص43-44.
(2) - صريح البيان في الرد على من خالف القرآن الشيخ عبد الله الهرري ص37، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع، ط الأولى 1415هـ-1995م، الشرح القويم للحبشي ص19.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/16.
(4) - المصدر السابق 3/21.
(5) - شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، شرح الملأ على القاري الحنفي ص49-50، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1404هـ-1984م.(1/47)
الاتفاق في الأسماء لا يقتضي التساوي في المسميات، فإن في الجنة كما أخبرنا الله من لبن وعسل ما يوافقها في الأسماء في الدنيا ولكن بينها من المباينة ما لا يعلمه إلا الله ، فهذا حال المخلوق، فالخالق أعظم مباينة للمخلوقات(1).
أن ما أخبر به الرسول-صلى الله عليه وسلم- عن ربه، فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأن الصادق المصدوق أخبر به، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه(2).
ولهذا قال ابن سحنون(3): "من العلم بالله الجهل بما لم يخبر به عن نفسه"(4).
المطلب الرابع: رد الأحباش على من أنكر التأويل:
... يعد الأحباش أن التأويل أصل من أصول الدين، فلهذا ينكرون بشدة على من يرفض التأويل، ويقومون بالرد عليه بالعديد من الوجوه وهي كالتالي:
أن من ينكر التأويل، ويبقي علمه لله فقط، يعتبر من أعظم القدح في النبوات، أي أن النبي ما عرف تأويل ما ورد من صفات الله تعالى، ودعا الخلق إلى علم ما لا يُعلم(5).
__________
(1) - انظر:العقيدة في الله د.عز سليمان الأشعر ص242، الناشر: دار النفائس، عمان، ط الثانية عشر 1419هـ-1999م.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/28،وانظر:المسودة في أصول الفقه آل تيمية(أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن الخضر،وأبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام، وأبو العباس أحمد بن عبد الحليم) ص147، تقديم: محمد محي الدين عبد الحميد،الناشر:مطبعة المدني،القاهرة–بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، صحيح مسلم شرح النووي للإمام النووي 6/36.
(3) - ابن سحنون: فقيه المغرب محمد أبو عبد الله ابن فقيه المغرب عبد السلام سحنون بن سعيد التنوخي القيرواني شيخ المالكية، توفي سنة 265هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 13/60-62.
(4) - التمهيد لابن عبد البر 7/146.
(5) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص42، الشرح القويم للحبشي ص164، صريح البيان للحبشي ص35.(1/48)
في هذا تكذيب لله، لأن الله قال في حق القرآن: { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء: 195]، والعرب إذا لم يعرفوا تأويل الآيات فكيف يكون أنزل بلسان مبين(1).
لا يعقل أن يدعو الرسول إلى الإيمان برب لا تعقل صفاته، وإلا لقال العرب للرسول: بين لنا أولاً من تدعونا إليه وما الذي تقول فإن الإيمان بما لا يُعلم أصل غير متأتٍ –أي لا يمكن-(2).
الذي يمنع التأويل مطلقاً يكون قد أبطل الشريعة، لأنه لا بُدَّ من التأويل كما في قوله تعالى: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف:25]،فهل تلك الريح دمرت السموات والأرض،وهل دمرت الجنة وجهنم،إنما دمرت الأشياء التي هي عادة يعيشون فيها، فمن هنا يعلم أن ثمة نصوصاً لا بُدَّ من تأويلها ولا يجوز حملها على الظاهر،فالذي يَدّعي التمسك بالشرع،وينفي التأويل يناقض نفسه لأن قوله بنفي التأويل ينقض قوله التمسك بالشريعة(3).
أن من يُجّوز التأويل على الجملة،إلا فيما يتعلق بالله وبصفاته فلا تأويل فيه،فهذا لا يرضى به مسلم،ويعلل الحبشي ذلك بأن "سر الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل يعتقدون حقيقة التشبيه،غير أنهم يدلسون ويقولون:له يد لا كالأيدي،وقدم لا كالأقدام،وفي الاعتقاد يعتقدون الجارحة"(4).
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص43، الشرح القويم للحبشي ص165، صريح البيان للحبشي ص35.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص43، الشرح القويم للحبشي ص165- 166، صريح البيان للحبشي ص35.
(3) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص43، الشرح القويم للحبشي ص167-168، صريح البيان للحبشي ص36.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص43، انظر: الشرح القويم للحبشي ص168.(1/49)
ويرى الحبشي أن من حمل الآية على ظاهرها مثل قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } [القلم: 42]، فقد اثبت لله هذا العضو الذي نعرفه من أنفسنا،والمخ وهو ما في داخل العظم(1). ويناقش الحبشي خصمه بأن كان لا يقول ذلك فأين الأخذ بالظاهر؟وإن قال الخصم:هذه الظواهر لا معنى لها أصلاً فهو حكم بأنها ملغاة، وما كان في إلغائها إلينا فائدة وهي هدر وهذا محال(2).
ويدعي الحبشي أن رفض التأويل التفصيلي من السلف مردود بما في صحيح البخاري في كتاب تفسير القرآن، وذلك في قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88]، إلا ملكه كما قال البخاري(3)، وأن الإمام أحمد ثبت عنه أنه قال في قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22]، جاءت قدرته(4)(5).
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص44، الشرح القويم للحبشي ص168، صريح البيان ص36.
(2) - انظر: الشرح القويم ص169، الصراط المستقيم للحبشي ص44، صريح البيان للحبشي ص37، تفنيد مزاعم المدعي، إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص20.
(3) - صحيح البخاري للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، كتاب تفسير القرآن (سورة القصص) 6/21. تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الناشر: دار الفكر، –بدون رقم طبعة-، 1414هـ-1994م.
(4) - انظر: الأسماء والصفات لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ص309، الناشر: دار إحياء التراث العربي –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، والبداية والنهاية لابن كثير الدمشقي 10/327، الناشر: مكتبة المعارف، بيروت، بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(5) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص173-176، الصراط المستقيم للحبشي ص44-46، صريح البيان للحبشي ص39-44، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص321-322، مجلة منار الهدى ص27، عمود1-2، العدد9 محرم 1414هـ، ص20 عمود 2، العدد74 ذو الحجة 1419.(1/50)
يعد الحبشي من ينكر التأويل، إنما هو في خبط وجهل ومحجوج بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس (اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب)(1). ويرى الحبشي أن هذا الحديث يكسر من ينكر التأويل وعلى هذا من يرى عدم جواز التأويل، يكون الرسول دعا بدعاء غير جائز(2).
من المعلوم أن الأشاعرة قالوا بالتأويل في كثير من النصوص الشرعية وذلك هروباً من التجسيم والتشبيه –حسب زعمهم– بل وضعوا العديد من الردود على من أنكر التأويل، وهذا المنهج اتبعه كل من سار على قول الأشاعرة في هذه المسألة، ومن ضمنهم أولئك الأحباش الذين قالوا بقول الأشاعرة وغيرهم في آيات وأحاديث الصفات.
__________
(1) - مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/314،328،325، الناشر: دار الفكر العربي-بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، وقال فيه أحمد شاكر: إسناده صحيح، انظر: المسند للإمام أحمد، ح2886، 4/315، شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر- بدون دار نشر أو رقم طبعة أو تاريخ نشر-. يلاحظ أن الحبشي عندما يورد هذا الحديث يذكر تخريجه في البخاري، وعند الرجوع لصحيح البخاري، نجد الحديث الوارد هو دعاء الرسول لابن عباس(اللهم فقهه في الدين)، والشاهد في الحديث الذي يستند عليه الحبشي لجواز التأويل غير موجود في النص وهو(وعلمه التأويل)، وهذا تمويه من الحبشي وذلك ليوجد شرعية للتأويل الباطل الذي يقول به. انظر: صحيح البخاري للإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، كتاب الوضوء باب وضع الماء عند الخلاء، ح143،1/51، تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز، الناشر: دار الفكر، -بدون رقم طبعة-، 1414 هـ-1994م.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص191، وانظر: الصراط المستقيم للحبشي ص50، صريح البيان للحبشي ص37، مجلة منار الهدى ص20، عمود2، عدد74 ذو الحجة 1419هـ.(1/51)
ولهذا قام علماء السلف قديماً وحديثاً بالرد على من قال بالتأويل في صفات الله تعالى، ومناقشة حججهم ودحضها، وتفنيد شبههم ومزاعمهم الواهية، التي لا ترقى أن تكون دليلاً يعتد به على جواز القول بالتأويل.
الرد على أدلة الأحبأش في التأويل:
وفيما يلي أذكر بعض الأدلة على نفي التأويل بالمعنى الكلامي، وعدم جوازه في النصوص الشرعية المتعلقة بالصفات:
قول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: "هلاك أمتي في الكتاب اللَّبن، فقيل يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ما الكتاب واللبن،قال:يتعلمون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزله الله عز وجل"(1).
وقول عمر-رضي الله عنه-: "إنما أخاف عليكم رجلين: رجل تأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه"(2)، وهذا تحذير من الرسول-صلى الله عليه وسلم- ومن انتهج نهجه من الصحابة أمثال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعدم الخوض في التأويل الذي يقصد به التفسير بغير علم، فكيف بالتأويل الفاسد الذي يعتمد على مجرد الظنون والاحتمالات في صفات الذات الإلهية.
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد البر، باب فيمن تأول القرآن وتدبره وهو حاصل بالسنة، ح2359، 2/1119، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الناشر: دار ابن الجوزي، ط الأولى 1414هـ-1994م، وقال المحقق فيه: إسناده حسن والحديث صحيح، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/146، 155، 156.
(2) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، باب فيمن تأول القرآن وتدبره وهو حاصل بالسنة، ح2364، 2/1202، قال المحقق فيه: رجال إسناده ثقات.(1/52)
للتأويل نتائج سيئة على من يقول به منها على سبيل المثال لا الحصر: أنه أدى إلى افتراق الأمة، ونشوب الفتن بين المسلمين مثل يوم الجمل وصفين وغيرها، ودخول أعداء الإسلام من متفلسفة وباطنية من باب التأويل، فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل(1) .
القول بالتأويل حسب ترجيحات العقل غير المعصوم من الزلل والخطأ إنما هو "معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال وتقديم ذلك عليها، هو من فعل المكذبين للرسل"(2).
لو كان التأويل منهج السلف من صحابة وتابعين ومن سار على آثرهم لاستفاض الخبر عنهم ولشهروا به كما شهر بالقرآن والروايات الحديثية، ولكن لم يرد أن أحداً من الصحابة والتابعين أنهم خاضوا في مثل هذه الأمور(3).
يقال للأحباش: لا بد أن تكون أمور الاعتقاد يقينية لا تحتمل الظن والاحتمالات، والتأويل عبارة عن احتمالات ظنية وهذا ما قاله الغزالي: "إن التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليلٌ يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر"(4)؛ بل إن الحبشي يقول بأن التأويلات التي يعتقدها إنما هي ظنية، ويعطيها مرتبة الظن الراجح أي دون اليقين(5).
__________
(1) - انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية 4/205-206، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الثالثة 1417هـ–1997م، وشرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص204.
(2) - درء التعارض لابن تيمية 5/204.
(3) - انظر: التمهيد لابن عبد البر 7/152.
(4) - المستصفى للغزالي 1/387.
(5) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص162-163.(1/53)
- ويُرد على الحبشي بقوله بالتأويل: بأن هناك مجموعة من رؤساء الأشاعرة منعوا التأويل مثل: أبي الحسن الأشعري، الذي له قولٌ ثانٍ وهو أن تمر أخبار الصفات كما جاءت وإليه مال في الإبانة، وتبعه الباقلاني، وإمام الحرمين حيث قال: "وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها… "(1) والغزالي(2).
بل إن البيهقي مال إلى عدم التأويل فقال : "وأسلمها بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، ومن الدليل على ذلك اتفاقهم أن التأويل المعين غير واجب …"(3).
لقد نهى علماء السلف عن الخوض في الصفات وتأويلها، ولقد وردت نصوصٌ كثيرةٌ جداً عن علماء أجلاء ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:
__________
(1) - العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك عبد الله بن يوسف الجويني ص105، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط الأولى 1399هـ-1979م.
(2) - إتحاف السادة المتقين للزبيدي 2/133 بتصرف.
(3) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 3/30، الناشر: المكتبة السلفية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/54)
ما رواه ابن عبد البر(1)بسنده عن الوليد بن مسلم(2)،قال:سألت الأوزاعي(3)وسفيان الثوري(4) ومالك بن أنس والليث بن سعد(5)عن الأحاديث التي فيها الصفات، فكلهم قالوا: "مروها كما جاءت بلا تفسير"(6).
__________
(1) - ابن عبد البر: يوسف بن عبد البر بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي المالكي، ولد سنة 368 هـ، وتوفي سنة 463 هـ، شيخ علماء الأندلس وكبير محدثيها في زمنه…. انظر: تذكرة الحفاظ للسيوطي 3/1128 – 1132، طبقات الحفاظ للسيوطي ص431–432، سير أعلام النبلاء للذهبي 18/153–163.
(2) - الوليد بن مسلم: الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي مولى بني أمية مولده 119هـ، وتوفي بذي المروة وهو قافل من الحج في شهر المحرم سنة 195هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 9/211-220، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/470-471، تهذيب التهذيب لابن حجر 11/151-155.
(3) - الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد أبو عمر الأوزاعي، عالم أهل الشام، كان مولده ببعلبك في حياة الصحابة سنة 88هـ، توفي سنة 157هـ، وقيل غير ذلك. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 7/488، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/127-128، شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 1/241-242.
(4) - سفيان الثوري: سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله.. أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع ولد سنة 97هـ، وتوفي سنة 126هـ. أنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 7/229-279، طبقات ابن سعد 6/371-374، طبقات القراء لابن الجزري 1/308،تهذيب التهذيب لابن حجر 4/111-115.
(5) - الليث بن سعد: الليث بن سعد بن عبد الرحمن عالم الديار المصرية أبو الحارث الفهمي مولى خالد بن ثابت بن ظاعن مولده بقرقشنده قرية من أسفل عمال مصر في سنة 94هـ، توفي سنة 175 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/136-163، طبقات ابن سعد 7/517، تاريخ بغداد للخطيب 13/3-14.
(6) - التمهيد لابن عبد البر 19/231.(1/55)
وقال الشافعي: "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها… فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]"(1).
وما روى عن الإمام أحمد بن حنبل بألفاظ مختلفة وطرق متعددة نفيه للتأويل مطلقاً منها قوله: "هذه الأحاديث نرويها كما جاءت"(2)، ويقصد بذلك أحاديث الصفات.
- ما قاله الإمام ابن عبد البر: "الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم- والتصديق بذلك وترك التحديد والكيفية في شيء منه"(3).
- قول القرطبي: "… ثم متى ثبت عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه كما هو طريق السلف، وما عداه لا يؤمن من صاحبه الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين، ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي"(4).
__________
(1) - فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر 13/407.
(2) - مناقب الإمام أحمد بن حنبل للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص204، تحقيق: د. عبد الله عبد المحسن التركي. الناشر: مكتبة الخانجي، مصر، ط الأولى 1399هـ–1979م، وانظر: إتحاف السادة المتقين للزبيدي 2/129، التمهيد لابن عبد البر 19/231، فضل علم السلف على الخلف لابن رجب البغدادي الحنبلي ص30، تحقيق: محمد القاضي، الناشر: دار الحديث، القاهرة،–دون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/241، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي 1/164، تحقيق: د. أحمد حمدان، الناشر: دار طيبة، الرياض،–دون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - التمهيد لابن عبد البر 7/148.
(4) - فتح الباري لابن حجر 13/350.(1/56)
وقال ابن حجر: "… واختلف في المراد (بالقدم) فطريق السلف في هذا وغيره مشهورٌ، وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله، بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله"(1).
وما جاء عن النووي قوله: "وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى… ولا يتكلم في تأويلها"(2). ما ورد في اعتقاد علي بن المديني(3): "… ثم تصديق الأحاديث والإيمان بها، لا يقال، ولا كيف، إنما هو التصديق بها والإيمان بها وإن لم
يعلم تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفى ذلك وأحكم عليه الإيمان به والتسليم"(4).
لقد انتهج الحبشي منهجاً غريباً في استدلاله على وجود التأويل، حيث كان يستدل بنصوص في غير موضعها أو نصوص ضعيفة ويدعي أنها صحيحة مثل:
__________
(1) - المصدر السابق 8/596.
(2) - صحيح مسلم بشرح النووي للإمام النووي 6/36، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط الأولى 1347هـ-1929م.
(3) - علي بن المديني: علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح بن بكر بن سعد السعدي مولاهم البصري أبو الحسن المعروف بابن المديني مولده سنة 161هـ، توفي سنة 234هـ،انظر:طبقات الشافعية للسبكي 2/145-150= =تاريخ بغداد للخطيب 11/458-473، سير أعلام النبلاء للذهبي 11/41-60، الفهرست للنديم لأبي الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحق المعروف بالوراق ص 286، تحقيق: رضا المازندراني، الناشر: دار المسيرة، ط الثالثة 1988م.
(4) - شرح الأصول لللالكائي 1/165 .(1/57)
أن يأتي بقوله تعالى: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف:25]، ويقول لابد من التأويل فيها، وإلا يعني أن الدمار واقع على كل شيء الجنة والنار والسماوات… وهذا الاستدلال مغلوط، حيث إن الله كتب الدمار على كل شيء أراد أن يدمره وليس على الإطلاق، حيث قال الإمام أحمد فيها: "فدمرت إلا ما أراد الله"(1)، وأيضاً ما قاله شارح العقيدة الطحاوية: "المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالرياح عادة وما يستحق التدمير"(2).
وأيضاً من النصوص التي يستدل بها في غير موضعها قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } [القلم:42]، فيرى في هذا النص دليلاً على وجوب التأويل حيث يتخيل في عقله أشياء توجب التجسيم والمماثلة مع المخلوقين، فيفر إلى التأويل، وهذا كله يعود إلى الفهم المغلوط لهذا النص وغيره، وعندما فسر ابن عباس هذا النص وبين أن المراد فيه الشدة حيث إن الله يكشف عن الشدة في الآخرة ، اعتبر الحبشي هذا التفسير إنما هو التأويل(3)، وأن الصحابي الجليل ابن عباس قد أوّل، فيرد ابن تيمية على مثل هذا الفهم المغلوط بقوله: "ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } [القلم:42]، نكرة في الإثبات، لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل…"(4).
__________
(1) - طبقات الشافعية للسبكي 2/47 .
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص185 .
(3) - انظر : صريح البيان للحبشي ص38.
(4) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/237.(1/58)
استدل الحبشي بأقوال لعلماء السلف، أمثال الإمام البخاري صاحب الصحيح، على جواز التأويل، ويرد على الحبشي أن البخاري منهجه منهج السلف، ولم يستخدم التأويل بمعناه الفاسد البتة، ولكنْ هناك فهمٌ مغلوطٌ لدى الأحباش، حيث لم يفرقوا بين التفسير الشرعي، بحيث يؤتى بالمعنى و لوازمه مع إثبات الصفة لله على الحقيقة، وبين التحريف والتأويل الباطل. وأحياناً يجعل الأحباش ومن شاكلهم، من يفسر الصفة بمعنى من المعاني مشبهاً وذلك إذا خالف أهواءهم، ويقول في ذلك ابن تيمية: "… ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسَّراً بمعنى من المعاني، ثم إن كل من أثبت ذلك المعنى قالوا: إنه مشبه…"(1) وهذا هو حال الأحباش مع مخالفيهم.
ولكي نرى بطلان قول الأحباش في ذلك، هذا مثال على إثبات الصفة وتفسيرها بذكر لوازمها مثل قوله تعالى: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } [القمر:13-14]، قال العلماء فيها: "أي بمرأى منا ونحن نراها، أو المراد بأعيننا بحفظنا وكلاءتنا"(2). والسلف عندما يثبتون صفة العين يأتوا بهذه الآية وأشباهها ثم يفسرونها بالتفسير السابق، ولا يسمى هذا تأويلاً بل إثباتاً.
__________
(1) - مجموعة الفتاوى –الرسالة التدمرية– لابن تيمية 3/45.
(2) - انظر: جامع البيان للطبري 27/56، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/264، تفسير الجلالين للإمامين محمد بن أحمد المحلي، والإمام عبد الرحمن السيوطي ص702، الناشر: دار المعرفة، بيروت، –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/240، شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية محمد خليل هراس ص48-49، الناشر: دار الاعتصام، القاهرة، ط الرابعة –بدون تاريخ نشر-.(1/59)
ويذكر الحبشي قولاً عن الإمام أحمد يثبت فيه التأويل من خلال قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22]، أي: جاءت قدرته(1)، ويستدل بهذا على جواز التأويل وأنه من نهج السلف، فيرد عليه:
ما نقل عن الإمام أحمد أنه سد باب التأويل على الإطلاق وهو المفهوم من ظاهر مذهبه كما نقل الثقات عنه(2).
ويذكر الحبشي هذه الرواية من طريق حنبل(3)، في كتابه صريح البيان(4)، وهذه الرواية من طريق حنبل لم ينقلها غيره، ممن نقل مناظرته في المحنة كعبد الله بن أحمد(5)، وصالح بن
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص45، الشرح القويم للحبشي ص175.
(2) - انظر: إتحاف السادة المتقين 2/129، إحياء علوم الدين للغزالي 1/87، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص204، لوامع الأنوار للسفاريني 1/241.
(3) - حنبل: حنبل بن اسحق بن حنبل بن هلال بن أسد أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه، ولد قبل المائتين، وتوفي 253هـ، قال فيه السيوطي: له مسائل كثيرة عن أحمد و يتفرد و يغرب . انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 13/51-53، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 8/286-287، النجوم الزاهرة للأتابكي 3/70.
(4) - انظر: صريح البيان للحبشي ص39-40.
(5) - عبد الله بن أحمد: عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال أبو عبد الرحمن ابن شيخ العصر أبي عبد الله الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي، ولد سنة 213هـ، وتوفي سنة 290هـ. انظر: شذرات الذهب لابن= =عماد الحنبلي 2/203-204، طبقات القراء لابن الجزري 1/408، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 9/375-376، سير أعلام النبلاء للذهبي 13/516-526.(1/60)
أحمد(1)، والمروزي(2) وغيره، ومن أصحاب أحمد قالوا: غلط حنبل، ليس أحمد هذا.
وقالوا: حنبل له غلطاتٌ معروفةٌ، وهذا منها، وهذه طريقة أبي اسحق بن شاقلا(3).(4)
وبالتالي نخرج بنتيجة أن هذه الرواية ضعيفة لا يجوز للحبشي أن يستند إليها في جواز التأويل عن الإمام أحمد .
__________
(1) - صالح بن أحمد: صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد أبو الفضل الشيباني البغدادي، ولد سنة 203هـ وهو أكبر أخوته، وتوفي سنة 266هـ وقيل 265هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 12/529-530، شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 2/149-150، تهذيب تاريخ دمشق الكبير للإمام أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الشافعي 6/364-365، ترتيب عبد القادر بدران، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط الثالثة 1407هـ-1987م.
(2) - المروزي: محمد بن جابر بن حماد أبو عبد الله المروزي، توفي بمرو لسبع بقين من شوال سنة 279هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 13/281-282، وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 2/175، تذكرة الحفاظ للذهبي 2/644-645.
(3) - أبو اسحق بن شاقلا: أبو اسحق إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا البغدادي البزار، توفي في رجب سنة 369هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 16/292، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 6/17، شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي 3/68، المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، تأليف: إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح 1/216-217، تحقيق: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، ط الأولى 1410هـ-1990م.
(4) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/238-240.(1/61)
ومن النصوص التي يرى الحبشي فيها التأويل هو دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب) فيقال للحبشي: إن التأويل في كلام الرسول-صلى الله عليه وسلم- لا يقصد به المعنى الفاسد الذي لم يعرفه الصحابة ولا التابعون إلا في وقت متأخر وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، وإنما قصد بالتأويل هنا، التفسير والبيان، وهو المعنى الشرعي المتعارف عند علماء السلف(1).
بالإضافة إلى ذلك لو قصد بالتأويل المعنى الذي عرفه الأحباش، لوجدنا ابن عباس يؤول الاستواء بالاستيلاء، واليد بالقدرة أو النعمة، والنزول بنزول الرحمة إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة، ولم يثبت عنه ذلك فتبين بطلان المعنى الذي ذهب إليه الأحباش(2).
المبحث الثاني: المحكم والمتشابه :
المطلب الأول: تعريف المحكم والمتشابه عند الأحباش:
... إن الأحباش خاضوا في باب المحكم والمتشابه، كما خاض من سبقهم من المتكلمين في هذا الباب، وقد جعلوا آيات الصفات من المتشابه التي لا بد من تأويلها وذلك للفرار من الوقوع في التجسيم والتشبيه –حسب اعتقادهم-.
وللتفريق بين المحكم والمتشابه استدل الأحباش بقول الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [آل عمران:7]، ثم عرفوا بعد ذلك المحكم والمتشابه مستندين إلى الآية السابقة.
أولاً: تعريف المحكم:
__________
(1) - انظر: البحث ص12ـ22.
(2) - انظر: موسوعة أهل السنة دمشقية 1/393-395.(1/62)
"هو ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجهاً واحداً؛ أو ما عرف بوضوح المعنى المراد منه، كقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، وقوله تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:4]، وقوله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم:65]"(1).
ثانياً: تعريف المتشابه:
... "هو ما لم تتضح دلالته، أو يحتمل أوجهاً عديدة، واحتاج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق، كقوله تعالى: { الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]"(2).
وللرد على الأحباش في هذه المسألة والتي تعتبر السبب الرئيس في خوضهم في المحكم والمتشابه، لا بد من تبيين التالي:
أولاً : تعريف المحكم: لغةً واصطلاحاً
- المحكم لغة: المحكم في اللغة له عدة إطلاقات، حيث جاء في لسان العرب
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص41، وأنظر: الشرح القويم الحبشي ص158، مجلة منار الهدى ص22 عمود1، العدد 6 شوال 1413هـ –1993م.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص41، وأنظر: الشرح القويم الحبشي ص158-159، مجلة منار الهدى ص25 عمود 1، العدد 6 شوال 1413 هـ –1993م.(1/63)
لابن منظور(1) "… والعرب تقول: حكمتُ وأحكمت وحكمت بمعنى منعت ورددت"(2) ولهذا سُمي الحُكْمُ بهذا لأن أصله المنع، وبذلك سميت حكمت الدابة ويقال حكمت الدابة أحكمتها (3)." وأحكمت الشيء فاستحكم أي صار محكماً" (4)، "وسورة محكمة غير منسوخة والآيات المحكمات… أو التي أُحكمت فلا يحتاج سامعها إلى تأويلها لبيانها كأقاصيص الأنبياء"(5) إلى غير ذلك من الإطلاقات التي ترجع بمعناها العام إلى المنع(6).
- المحكم في الاصطلاح: ... ... ... ... ... ... ...
__________
(1) - ابن منظور: محمد بن مكرم بن علي بن أحمد أبي القاسم بن حبقة بن منظور الأنصاري الرويفعي الأفريقي المصري، أبو الفضل، من علماء اللغة، ومشارك في علوم مختلفة، ولد سنة 630 هـ، وتوفي في شعبان 711 هـ، انظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين السيوطي 1/248، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: المكتبة العصرية، بيروت –بدون رقم طبعة و تاريخ-، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لأحمد بن علي الشهير بابن حجر العسقلاني 4/262–264، الناشر: دار الجيل، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
(2) - لسان العرب لابن منظور 1/952.
(3) - مجمل اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا 1/246، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية 1406ه-1986م.
(4) - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل بن حماد الجوهري 5/1902، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، ط الثانية 1399هـ-1979م.
(5) - القاموس المحيط مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي 4/100، الناشر: مؤسسة العربية، لبنان ودار الجيل، لبنان -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(6) - تفسير القرآن الحكيم المشهور تفسير المنار محمد رشيد رضا 3/163 بتصرف، الناشر: دار المعرفة، بيروت، ط الثانية –بدون تاريخ نشر-.(1/64)
... ... لقد جاء تعريف المحكم في قوله تعالى: { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } [آل عمران:7]، كما أورده الطبري: "أما المحكمات فإنهن اللواتي قد أُحكمن بالبيان والتفصيل وأثبت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه، من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك"(1).
ثانياً: تعريف المتشابه: لغة واصطلاحاً
المتشابه في اللغة: جاءت مادة التشابه في المعاجم بمعنى المماثلة :
فقد قال ابن منظور:"الشّبْهُ والشَّبَهُ والشَّبيهُ:المِثْلُ،والجمع أشباه،وأشبه الشيءُ الشيءَ:
ماثله"(2)،"والمشتبهات من الأمور المشكلات"(3) والتشبيه:التمثيل،فأشبهت فلاناً وشابهتُهُ واشتبه علي الشيء"(4).
- المتشابه في الاصطلاح : ...
__________
(1) - جامع البيان للطبري 3/113، وانظر: البرهان في علوم القرآن لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي 2/67–68، تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار التراث،القاهرة –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر.
(2) - لسان العرب لابن منظور 3/2190.
(3) - مجمل اللغة لابن فارس 2/520.
(4) - الصحاح للجوهري 6/2236، وانظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي 4/288.(1/65)
... وجاء المتشابه في الاصطلاح في قوله تعالى: { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران:7]، "متشابهات في التلاوة مختلفات في المعنى"(1)وفي مثل هذا المعنى قال ابن قتيبة(2): "وأصل التشابه أن يشبه اللفظ في الظاهر والمعنيان مختلفان"(3)؛ وقيل غير ذلك في تعريف المحكم والمتشابه.
المطلب الثاني: أقسام المتشابه والحكمة منه:
... أولاً: أقسام المتشابه:
... بعد أن خاض الأحباش في الآية 7 من آل عمران: { … فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } .
يعلق الأحباش على هذه الآية بقولهم: "فيحسن أن يقال قراءة الوقف على لفظ الجلالة تحمل على المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ، و قراءة الوصل تحمل على القسم الذي يطلع الله بعض عباده على تأويله { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } فلا تناقض بين القراءتين"(4)، وعلى هذا يقسم الأحباش المتشابه إلى قسمين فيقول شيخهم:
__________
(1) - جامع البيان للطبري 3/114، وانظر: البرهان للزركشي 2/ 69–70.
(2) - ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري أبو محمد الكاتب صاحب التصانيف العديدة منها: غريب القرآن، مشكل القرآن، عيون الأخبار، ولد 213هـ ، وتوفي 270 هـ. انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 10/170–171، شذرات الذهب لابن عماد 2/169–170، بغية الوعاة للسيوطي 2/63–64، سير أعلام النبلاء للذهبي 13/269–302.
(3) - تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ص101، الناشر: دار التراث، القاهرة، ط الثانية 1393هـ–1973م.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص163، وانظر: الصراط المستقيم للحبشي ص42.(1/66)
"المتشابه قسمان: أحدهما: ما لا يعلمه إلا الله كوجوب القيامة.
الثاني: يعلمه الراسخون في العلم كمعنى الاستواء المذكور في قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، فإن الراسخين فسروه بالقهر"(1).
من المعلوم أن الأحباش خاضوا في باب المتشابه، ليعطوا لأنفسهم الشرعية في تأويل آيات وأحاديث الصفات؛ ولكن من خلال تعريف المتشابه عند علماء السلف، لم نجد أحداً منهم عَدّ آيات وأحاديث الصفات من المتشابه، فالإمام الطبري ذكر أقوالاً عديدة في المتشابه ولم يذكر من بينها أن آيات الصفات من المتشابه(2)، وكذا الإمام السيوطي(3) (4)، بل إن الإمام أحمد بن حنبل في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة) رد على من تمسكوا بمتشابه القرآن، حتى أنه بيّن معناه وتفسيره مما يخالف قول الجهمية وتأويلاتهم
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص159، ص162، وانظر: الصراط المستقيم للحبشي ص42، ومجلة منار الهدى ص25 عمود 2–3 العدد 6.
(2) - انظر: جامع البيان للطبري 3/114–116.
(3) - السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن عثمان… الطولوني المصري الشافعي أبو الفضل السيوطي (الأسيوطي) عالم مشارك في أنواع من العلوم. له مؤلفات عديدة منها: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، المزهر في اللغة، الجامع الصغير في الحديث، ولد 849 هـ، وتوفي سنة 911 هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 8/51–55، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع شمس الدين عبد الرحمن السخاوي 4/65–70، الناشر: دار مكتبة الحياة، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-، الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للشيخ نجم الدين الغزي 1/226–231، الناشر: دار الفكر، بيروت، تحقيق: جبرائيل سليمان جبور –بدون رقم طبعة و تاريخ نشر-، معجم المؤلفين لكحالة 5/128–130.
(4) - انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي 2/4–5، الناشر: دار المعرفة، لبنان، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/67)
الفاسدة(1)، ولقد ورد عن الإمام أحمد أنه قال: "المحكم: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه: ما احتاج إلى بيان"(2). وهذا هو منهج السلف "من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها"(3).
__________
(1) - انظر: الرد على الجهمية لابن حنبل ص104، 130، 135، 140، 146.
(2) - مجموعة الفتاوى –تفسير سورة الإخلاص– لابن تيمية 17/225.
(3) - المصدر السابق –الإكليل في المتشابه والتأويل– 13/164.(1/68)
ومما يؤكد أن أسماء الله وصفاته ليست من المتشابه الذي يظنه الأحباش قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة… أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه"(1). وينكر ابن القيم(2) على من جعل آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه فقال: "وهؤلاء غلطوا في المتشابه وفي جعل هذه النصوص من المتشابه"(3).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى –رسالة الإكليل في المتشابه والتأويل– لابن تيمية 13/157.
(2) - ابن القيم: إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي، اشتغل في أنواع العلوم وأفتى ودرس وناظر، ولد سنة 719 هـ، وتوفي سنة 767 هـ، وله مصنفات كثيرة منها: شفاء العليل في القضاء والقدر، وطريق الهجرتين وباب السعادتين، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة. انظر:الدرر الكامنة لابن حجر 1/58، المقصد الأرشد لابن مفلح 1/235–236، شذرات الذهب لابن عماد 6/208، معجم المؤلفين لكحالة 1/88.
(3) - مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 1/69.(1/69)
وفي هذا المعنى نقل عن العديد من العلماء نفيهم أن تكون الصفات تندرج تحت موضوع المتشابه(1)؛ وبالتالي يبطل تقسيم الحبشي للمتشابه من حيث جعله قسمين: قسم يعلمه الله وحده، وقسم يعلمه الراسخون(2)، وهذا حتى يعطي لنفسه الشرعية لتأويل آيات الصفات.
ثانياً: الحكمة من الآيات المتشابهة:
الآيات المتشابهة لها حكمة عند الأحباش وهي ابتلاء للعباد من خلال حملها على غير ظواهرها، ليكون لهم أجرٌ عظيم، وبهذا يصرح الحبشي بقوله: "الحكمة من الآيات المتشابهة أن يبتلي عباده حتى يكون للذي يحملها على محملها أجرٌ عظيم"(3). وبالتالي يعد الحبشي آيات الصفات من المتشابه الذي يتوجب حمله على غير ظاهره، فلهذا يهاجم الأحباش كل من يخالف منهجهم في الآيات المتشابهة من حيث حملها على ظواهرها، فيصفون هذه الفئة من الناس بأنهم "أناس أهملوا العقل واتبعوا الوهم فشذوا عن معتقد أهل الحق، فعمدوا إلى الآيات والأحاديث المتشابهة فحملوها على ظواهرها فوقعوا في التجسيم والتشبيه ونسبوا إلى الخالق تعالى الجلوس والاستقرار على العرش والجهة والمكان والحركة ونحو ذلك من صفات المخلوقات الحادثات تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً"(4).
__________
(1) - انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص214، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/95–99، العقيدة في الله د. الأشقر ص248، موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبد الرحمن صالح المحمود 3/140–142، الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، ط الأولى 1415هـ–1995م.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص42، الشرح القويم للحبشي ص109.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص163.
(4) - مجلة منار الهدى ص24 عمود1 العدد6، انظر: الشرح القويم للحبشي ص159–162.(1/70)
وهذا الأمر مردود على الحبشي من خلال ما سبق توضيحه من عدم صحة القول بأن آيات الصفات من المتشابه، بالإضافة إلى ما سبق ذكره عن الإمام الطبري بسنده عن محمد بن جعفر بن الزبير(1) قال: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات فيهن حجة الرب، وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق" (2)؛ وأيضاً قول ابن قتيبة تحت العنوان التالي في كتابه مشكل القرآن "ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن –أي الله– من أراد بالقرآن لعباده الهدى والبيان: وأن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز والاختصار والإطالة والتوكيد ولو كان القرآن كله ظاهراً مكشوفاً حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس وسقطت المحنة وماتت الخواطر، ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة ومع الكفاية يقع العجز والبلادة"(3)
__________
(1) - محمد بن جعفر بن الزبير: محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام القرشي المدني، ثقة، مات بين عشر ومائة إلى عشرين ومائة –لم أجد له سنة ميلاد-، انظر: كتاب التاريخ الكبير لأبي عبد الله إسماعيل بن إبراهيم البخاري 1/54–56، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني 2/155، الناشر: دار المعرفة، بيروت، ط الثانية 1395هـ–1975م، تهذيب الكمال في أسماء الرجال لأبي الحجاج يوسف المزي 24/579–580، تحقيق: د. بشار عواد معروف، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1413هـ–1992م، تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 9/93.
(2) - جامع البيان للطبري 3/116.
(3) - تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص86، وانظر: الإتقان في علوم القرآن جلال الدين السيوطي 2/19، الناشر: دار المعرفة، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-، تفسير القرآن الجليل المسمى بمدارك التنزيل وحقائق التأويل لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي 1/198، الناشر: المطبعة الأميرية، مصر، ط 1936م.(1/71)
.
ويلاحظ على علماء السلف أنهم لم يعتمدوا القول بأن الحكمة من الآيات المتشابهة هو حملها على غير ظاهرها أو تأويلها وتحريفها باعتبار أن آيات الصفات من المتشابه وبذلك يُرد قول الحبشي ويدحض بالأقوال الصحيحة عن علماء السلف. ...
المبحث الثالث: خبر الآحاد
المطلب الأول: تعريف خبر الآحاد:
وقد عَرّف الحبشي خبر الآحاد بقوله:
"خبر الآحاد: أي الحديث الذي يرويه واحد"(1)، هذا ما ورد عن الحبشي في تعريف خبر الآحاد، ولم اعثر على تعريف غيره للأحباش.
... إن الأحباش في موقفهم من خبر الآحاد كأسلافهم من المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة والجهمية، حيث يرفضون الاحتجاج بخبر الآحاد في الاعتقاد، ويكتفون بالاحتجاج به في الأحكام الفقهية؛ ولكن هذا الرأي ضعيف لا يؤخذ به -وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله-.
وقد رد الكثير من علماء الإسلام على هذا الرأي الضعيف، وبينوا عدم صحته ولبيان فساد قول الأحباش في خبر الآحاد، لا بد من توضيح التالي:
المطلب الأول: تعريف خبر الآحاد
أولاً: خبر الآحاد في اللغة:
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص29.(1/72)
خبر: الخبر بمعنى النبأ(1) -قاله الفراهيدي(2)- و "الخَبرُ بالتحريك، والخبر ما أتاك من نبأ من تستخبر"(3)، ويقال: "أخبر خبوره: أنبأ ما عنده، والخِبْرُ والخِبرةُ بكسرهما ويضّمان، والمخَبَرةُ العلم بالشيء كالاختبار والتخبر"(4).
الآحاد: "الواحد أول العدد، والأحد مثل الواحد"(5)، وجاء في جمعها "آحاد وأحدان أو ليس له جمع… وواحد الآحاد وإحدى الأحد أي لا مِثل له"(6).
ثانياً: خبر الآحاد في الاصطلاح :
لقد عرف العلماء خبر الآحاد بقولهم :
"خبر الآحاد ما كان من الأخبار غير منتهٍ إلى حد التواتر"(7) أو "خبر الواحد ما نقله واحد عن واحد أو عن جماعة أو جماعة عن واحد"(8).
المطلب الثاني: موقف الأحباش من خبر الآحاد:
__________
(1) - كتاب العين للفراهيدي 4/258، وانظر: المحيط في اللغة لابن عباد 4/335.
(2) - الفراهيدي: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري، ولد سنة 100هـ، ومات في بضع وستين ومئة وقيل غير ذلك، كان رأساً في لسان العرب ديناً، ورعاً، قانعاً، متواضعاً. انظر: معجم الأدباء لياقوت الحموي 11/72-77 ، غاية النهاية في طبقات القراء لأبي الخير محمد بن محمد الجزري 1/275، عني بنشره ج.برجستراس،الناشر:دار الكتب العلمية – بيروت – ط الثالثة 1402هـ-1982م.
(3) - لسان العرب لابن منظور 2/1090.
(4) - القاموس المحيط للفيروز آبادي 2/17.
(5) - جمهرة اللغة لأبي بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري (ابن دريد) 2/127، الناشر: دار صادر، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(6) - القاموس المحيط للفيروز آبادي1/283،وانظر:لسان العرب لابن منظور1/35، تاج العروس للزبيدي 7/276.
(7) - الإحكام في أصول الأحكام لأبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الأمدي 2/49، الناشر: دار الحديث، القاهرة –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(8) - الغنية في الأصول لأبي صالح منصور بن اسحق بن أبي جعفر السجستاني ص112، تحقيق: محمد صدقي بن أحمد البورنو، -بدون ناشر-، ط 1400هـ–1989م.(1/73)
... يرى الأحباش أن الأخذ بالأخبار لا بد من اتصافها بالعلم اليقيني أو بالتواتر(1). ...
ولهذا لا بد من الصحة المعتبرة(2) –حسب إدعاء الحبشي– في أحاديث الصفات، لأن أمر الصفات يُحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره، ثم يقول: "إن في أحاديث الصفات مذهبين:
أحدهما: اشتراط أن يكون في درجة المشهور، وهو ما رواه ثلاثة عن ثلاثة فأكثر…،
والثاني:ما ذهب إليه أهل التنزيه من المحدثين، وهو اشتراط أن يكون الراوي متفقاً على ثقته.
فهذان المذهبان لا بأس بكليهما، وأما الثالث: وهو ما ترك عن ذلك فلا يحتج به لإثبات الصفات"(3).
ولهذا نجد الحبشي يرى أن الحديث المشهور يحتج به في أمور العقائد دون الآحاد(4).
وكما يحتج بالمشهور المتواتر في العقائد يحتج بهما في الأحكام، أما ما نزل عنهما فلا يحتج به في العقائد وإنما في الأحكام(5).
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص319، الصراط المستقيم للحبشي ص83–84، المطالب الوفية للحبشي ص23–25.
(2) - لهذا رد الحبشي أحاديث الصوت دون استثناء، وصرح أنه ليس فيها ما يحتج به في العقائد مع ورود بعضها في صحيح البخاري، وجاء فيه (فينادي بصوت فيسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد: باب قوله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) –ترجمة الباب– 8/245، ط دار الفكر، تحقيق: ابن باز، انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص131.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص113 بتصرف.
(4) - انظر: المعنى نفسه في كتاب إظهار العقيدة السنية للحبشي ص310.
(5) - انظر: المطالب الوفية للحبشي ص29.(1/74)
ويؤكد ما ذهب إليه من رد خبر الآحاد، ما ذكره الحبشي في الصفحة نفسها قوله: (أما خبر الآحاد أي الحديث الذي يرويه واحد فيجب العمل به إذا استوفى الشروط، أما من حيث تحقق مضمونه أو عدم تحققه فلا يفيد اليقين -ويُمثل الحبشي لما يقول– فالأحاديث التي وردت في الطهارة والصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك إذا صح إسنادها يجب العمل بها لكن من حيث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالها أو لم يقلها فليست قطعية، أما حديث المتواتر والمشهور فإنهما يفيدان العلم القطعي اليقيني)(1).
المطلب الثالث: حجية خبر الآحاد في الاعتقاد:
... كما سبق القول أن الأحباش لا يحتجون بخبر الآحاد في العقيدة وذلك ليتهربوا من أحاديث الصفات –بحجة التنزيه لله-، وأقصى ما يقولونه في هذه المسألة أنه يوجب العمل لا العلم؛ وهذا ما قاله أساتذتهم من الأشاعرة في كتاباتهم(2).
ولكن هذا القول مردود من ناحيتين:
أولاً: أقوال العلماء بإفادة خبر الآحاد العلم اليقيني إن كان صحيحاً:
أئمة المذاهب الفقهية المشهورة أمثال: الإمام مالك بن أنس والإمام الشافعي والإمام أحمد حيث نقل عنهم أن خبر الآحاد يفيد العلم.
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص29، وانظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص310–311، موسوعة أهل السنة لدمشقية 1/513.
(2) - انظر: كتاب أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي ص12، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثالثة 1401هـ–1981م، المستصفى للغزالي 1/145، أساس التقديس في علم الكلام لأبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي ص12. الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط الأولى 1415هـ–1995م، بلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي ص188، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1408هـ.(1/75)
فالإمام مالك بن أنس ذكر عنه الفقيه المالكي ابن خواز منداد(1)، أن خبر الواحد يفيد العلم بنفسه(2).
والإمام الشافعي صرح بأن خبر الواحد يفيد العلم(3).
الإمام أحمد بن حنبل: حيث ورد عنه أنه قال أن خبر الواحد يفيد العلم بنفسه(4).
أما الإمام أبو حنيفة، لم يرد عنه نصوص تبين رأيه في المسألة، ويوضح هذا الأمر الدكتور عمر الأشقر بقوله: "وفي الحقيقة ليس لدينا نصوص صريحة عن أبي حنيفة فيما علمت توضح موقفه تماماً من هذه المسألة، ولذلك فإن غالبية مَنْ بحث في هذه المسألة لم ينسب إلى أبي حنيفة فيها قولاً"(5)، ولكن أصحاب أبي حنيفة نصوا على أن خبر الواحد يفيد العلم(6).
__________
(1) - ابن خواز منداد: محمد بن علي بن اسحق بن خويز منداد، ويقال خواز منداد الفقيه المالكي البصري أبو عبد الله –لم أجد له ترجمة غير هذه في كتب التراجم المتوفرة. انظر: لسان الميزان لأبي الفضل أحمد بن حجر 5/329–330، الناشر: دار الفكر، ط الأولى 1407هـ–1987م.
(2) - انظر: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ص48، الناشر: دار المعرفة، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، الإحكام في الأحكام لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري 1/112، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1404هـ–1984م، مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 2/522.
(3) - انظر: الأم لمحمد بن إدريس الشافعي 7/278-285،الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، ط الأولى 1961م.
(4) - انظر: المسودة لآل تيمية ص216، 219، 220، مختصر الصواعق لابن القيم 2/527–528، إرشاد الفحول للشوكاني ص48، لوامع الأنوار للسفاريني 1/19.
(5) - أصل الاعتقاد د. عمر سليمان الأشقر ص23، الناشر: الدار السلفية، ط الثالثة 1405هـ–1985م.
(6) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/522 بتصرف.(1/76)
قول داود الظاهري(1) وابن حزم(2) بأن خبر الواحد يفيد العلم والعمل(3).
ما ورد عن الحسين بن علي الكرابيسي(4) والحارث بن أسد المحاسبي(5)، نصا على أن خبر الواحد يفيد العلم(6).
__________
(1) - داود الظاهري: محمد بن داود بن علي الظاهري أبو بكر، العلامة البارع ذو الفنون، له بصر تام الحديث وبأقوال الصحابة وكان يجتهد ولا يقلد أحداً، توفي سنة 297هـ، انظر: البداية والنهاية لابن كثير 11/110–111، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 5/256–263،سير أعلام النبلاء للذهبي 13/109–116.
(2) - ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم… الأندلسي القرطبي اليزيدي أبو محمد، الإمام الأوحد ذو الفنون والمعارف، ولد بقرطبة سنة 384هـ، توفي 456هـ، انظر: شذرات الذهب لابن عماد 3/299– 300، البداية والنهاية لابن كثير 12/91–92، سير أعلام النبلاء للذهبي 18/184–212، تذكرة الحفاظ للسيوطي 3/1146–1155.
(3) - انظر: الأحكام لابن حزم 1/ 100–112.
(4) - الحسين بن علي الكرابيسي: الحسين بن علي بن يزيد البغدادي أبو علي، فقيه بغداد، صاحب التصانيف، كان من بحور العلم ذكياً فطناً فصيحاً لسناً، توفي 245هـ، انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي8/64–67،الفهرست لابن النديم230–231،شذرات الذهب لابن عماد 2/117،سير أعلام النبلاء للذهبي 12/79–82.
(5) - الحارث بن أسد المحاسبي: الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي أبو عبد الله ، الزاهد، العارف، شيخ الصوفية، صاحب التصانيف الزهدية، توفي 243هـ، انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني 10/73–110، الناشر: المكتبة السلفية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/57–58،سير أعلام النبلاء للذهبي 12/110–112،شذرات الذهب لابن عماد1/103.
(6) - انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص48، الإحكام لابن حزم1/112، مختصر الصواعق لابن القيم2/ 522–534.(1/77)
وقول أحمد بن علي بن ثابت(1) في خبر الآحاد: "لو علم أنه كذب لم يخلُ من دليل على ذلك، وفي إخلائه من ذلك دليل على أنه صدق"(2).
حكى ابن عبد البر الإجماع بالعمل بخبر الآحاد في أصول الدين(3)؛ أي أن خبر الآحاد إذا كان صحيحاً يقيني العلم وذلك من خلال الإجماع بالعمل فيه.
قول ابن تيمية في حديث الآحاد: "فهذا يفيد العلم ويجزم بأنه صدق لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه"(4).
ما جاء عن ابن القيم في أن خبر الآحاد موجب للعلم فقال: "أخبار الآحاد الموجبة للعلم ولا تنحصر، بل يجد المخبر علماً لا يشك فيه بكثير منها…"(5).
__________
(1) - أحمد بن علي بن ثابت: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، أبو بكر، صاحب التصانيف وخاتمة الحفاظ من تصانيفه: تاريخ بغداد، مولده سنة 392هـ، وفاته سنة 463هـ، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/270–297، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/92–93، تذكرة الحفاظ للسيوطي 3/1135–1146.
(2) - الكفاية في علم الرواية لابن ثابت ص28.
(3) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/19 بتصرف.
(4) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 18/13، انظر: المصدر نفسه –رفع الملام عن الأئمة الأعلام– 20/142– 145، الرد على المنطقيين لابن تيمية ص37–38، الناشر: إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط الثانية 1396هـ–1976م.
(5) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/525.(1/78)
وأيضا ما ورد عن ابن حجر العسقلاني(1) أن في أخبار الآحاد ما يفيد العلم النظري على المختار(2).
وما تم ذكره من أقوال العلماء في حجية خبر الآحاد على سبيل المثال لا الحصر.
ثانياً : الأدلة على إفادة خبر الآحاد العلم اليقيني إن كان صحيحاً:
من المعلوم أن الخلف ومن انتهج نهجهم في الاستدلال بخبر الآحاد، اكتفوا بالعمل به في الأحكام دون الاعتقاد فيه بالعلم اليقيني، فوقف علماء السلف يبينوا خطأ هذا القول وضعفه ووهنه أمام الأدلة الصحيحة الصريحة، ومن هذه الردود ما يلي:
__________
(1) - ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي بن محمد بن علي بن أحمد الكناني، العسقلاني، المصري، الشافعي، يعرف بابن حجر (شهاب الدين، أبو الفضل) محدث، مؤرخ، أديب، شاعر، مولده 773هـ، وفاته 852هـ، من مصنفاته: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الإصابة في تمييز الصحابة، انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع لمحمد بن علي الشوكاني 1/87–92، الناشر: دار المعرفة، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي 1/363–366، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، ط الأولى 1387هـ–1967م.
(2) - انظر: قفو الأثر في صفو علوم الأثر لمحمد بن إبراهيم الحلبي الحنفي الشهير (بابن الحنبلي) ص47–48، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1408هـ.(1/79)
لقد أثبت العلماء خبر الآحاد بالعديد من الأدلة السمعية منها: قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات:6]، وفي قراءة أخرى(فتثبتوا)(1) وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد، وأنه لا يحتاج إلى التثبت إن كان ثقة وصادق(2).
وأيضاً قوله تعالى: { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } [التوبة:122] ، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه،والطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم، والإنذار الإعلام بما يفيد العلم(3).
__________
(1) - انظر: النشر في القراءات العشر لأبي الخير محمد الدمشقي (ابن الجرزي) 2/251، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2/544، إرشاد الفحول للشوكاني ص49.
(3) - انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2/545، إرشاد الفحول للشوكاني ص49.(1/80)
ومن السنة أن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم أهل قباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة(1)، تقبلوا خبره وتركوا الجهة التي كانوا عليها، وبلغ ذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليهم(2). وغير ذلك الكثير من الأحاديث النبوية المشهورة مثل حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (إنما الأعمال بالنيات)(3)، وحديث أبي هريرة (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)(4)، خبر ابن عمر -رضي الله عنه- (نهي عن بيع الولاء وهبته )(5).
__________
(1) - انظر: صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان ح40، 1/18 تحقيق: ابن باز، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ح525، 1/374.
(2) - انظر: المسودة لآل تيمية ص223، مختصر الصواعق لابن القيم2/544، إرشاد الفحول للشوكاني ص49.
(3) - صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ح1، 1/3، صحيح مسلم، كتاب الإمارة باب قوله -صلى الله عليه وسلم- ( إنما الأعمال بالنيات ) وإنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال ح1907؛ 3/1515.
(4) - صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها ح5108، 6/156، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب التحريم الجمع بين المرأة أو خالتها في النكاح ح1408، 2/1028، بنحوه.
(5) - صحيح البخاري، كتاب العتق، باب بيع الولاء وهبته، ح2535، 3/164، صحيح مسلم كتاب العتق، باب النهي عن بيع الولاء وهبته، ح1506، 2/1145.(1/81)
من تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين بأخبار الآحاد، وجد ذلك في غاية الكثرة، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم، لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول… ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم فإن الأمة تلقت ما فيهما بالقبول(1).
أن القول بتكذيب خبر الواحد يؤدي إلى القطع على كذب مدعي الرسالة من لم يكن معه علم دال على صدقه…، ويقال أيضاً: يجب القطع بتكذيب جميع آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين حتى انفردوا بالخبر ولم تكن معهم دلالة على صدقهم وهذا خروج عن الدين(2).
ويقال أيضاً: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل رسله آحاداً، وأرسل كتبه مع الآحاد، ولم يكن المرسَل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد، وقد قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [التوبة:33]، فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه، لئلا تبطل حججه وبيناته(3).
__________
(1) - إرشاد الفحول للشوكاني ص49–50 بتصرف، وانظر: كتاب قفو الأثر لابن الحنبلي ص48–49، المسودة آل تيمية ص217.
(2) - الكفاية في علم الرواية لابن ثابت ص19 بتصرف.
(3) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص355 بتصرف.(1/82)
أن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي-صلى الله عليه وسلم- العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم أنهم قالوا، ولو قيل: أنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك، وتعجبوا من جهل قائله، ومن المعلوم أن تلك المذاهب والأقوال لم يروها إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم لم يروها منهم عدد التواتر(1). فمن باب أولى التصديق بما هو وارد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن طريق صحبه الكرام العدول، ومن تابعهم من الثقات، والاعتقاد بإفادة تلك الأخبار العلم اليقيني.
أن الذين لا يحتجون بأحاديث الآحاد في العقيدة، أنكروا تلقائياً مجموعة من العقائد التي تعتبر من أصول هذا الدين، وإن لم يصرحوا بهذا الإنكار، وذلك لأن هذه العقائد رويت بطريق أخبار الآحاد، ومنها على سبيل المثال:
أفضلية نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على غيره من الأنبياء.
شفاعته -صلى الله عليه وسلم- العظمى في المحشر.
شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر من أمته.
معجزاته -صلى الله عليه وسلم- كلها ما عدا القرآن، ومنها معجزة انشقاق القمر فإنها مع ذكرها في القرآن تأولوها بما ينافي الأحاديث الصحيحة المصرحة بانشقاق القمر معجزة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
القطع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة.
الإيمان بسؤال منكر ونكير في القبر.
الإيمان بعذاب القبر.
الإيمان بضغطة القبر.
الإيمان بالصراط.
الإيمان بحوضه -صلى الله عليه وسلم-(2).
__________
(1) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/547 بتصرف.
(2) - انظر: رسالة –وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة– لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني ص36–39، الناشر: الدار السلفية، الكويت، ودار العلم مصر -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر–، أصل الاعتقاد د. الأشقر ص75–78، موسوعة أهل السنة لدمشقية 1/520–521.(1/83)
وغير ذلك من المعتقدات الواردة بطريق أخبار الآحاد؛ ويقال للأحباش: إن أنكرتم خبر الآحاد، فيلزمكم من ذلك إنكار الكثير من المعتقدات –والتي سبق تبين بعضها– وهذا يوقعكم في خلل اعتقادي جسيم، وإن قلتم: إننا نؤمن بهذه الأمور كلها، فيقال لكم: أنتم بذلك خالفتم منهجكم في رد خبر الآحاد وبالتالي كلامكم مردود عليكم، لوجود التناقض الواضح والظاهر ما بين الجانب الاعتقادي والجانب العملي.
وبعد هذا العرض لخبر الآحاد، يتبين مما لا يترك شكاً فيه أن الاعتقاد الصحيح فيه: أنه يفيد العلم اليقيني، إضافة إلى العمل به(1)، وأي قول خلاف هذا مردود على صاحبه، إلا أن يأتي بالأدلة الصحيحة الصريحة التي تنقض هذا القول؛ ويذهب سلف الأمة في خبر الآحاد أنه يوجب العلم والعمل جميعاً، وهو الحق وعليه أهل العلم وأئمة الإسلام(2).
المبحث الرابع: الاجتهاد والتقليد:
المطلب الأول: تعريف الاجتهاد والتقليد عند الأحباش:
أولاً: تعريف الاجتهاد:
... يعرف الحبشي الاجتهاد بقوله: "هو استخراج الأحكام التي لم يرد فيها نصٌ صريحٌ لا يحتمل إلا معنى واحداً"(3).
ثانياً: تعريف التقليد:
__________
(1) - لمزيد من الردود على من أنكر إفادة خبر الآحاد العلم اليقيني، انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2/ 517–579، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص355–356، لوامع الأنوار للسفاريني 1/1720، وجوب الأخذ بحديث الآحاد للألباني ص5–39، أصل الاعتقاد د. الأشقر ص42–74، موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبد الرحمن بن صالح المحمود 2/744–751.
(2) - انظر: الدين الخالص السيد محمد حسن بن حسن القنوجي البخاري 3/284، الناشر: مكتبة دار التراث، القاهرة –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص103،وانظر:الشرح القويم للحبشي ص404،صريح البيان للحبشي ص54.(1/84)
... عندما أراد الحبشي أن يُعرف التقليد، لم يوضح المعنى الاصطلاحي المتداول في كتب الأصول، وإنما اكتفى بقوله: "وأما المقلد لم يصل إلى هذه المرتبة"(1)، وفي موضع آخر زاد "بل يعمل بما قال المجتهدون"(2)، ويقصد أن المقلد لم يصل إلى درجة المجتهد.
... ولتوضيح المقصود بالاجتهاد والتقليد لا بد من الرجوع إلى معاجم اللغة وكتب الأصول التي عرفتهما.
تعريف الاجتهاد والتقليد في اللغة:
الاجتهاد: والاجتهاد مأخوذ من "الجُهْدَ..جهدت نفسي وأجهدتها، ويقولون: لأبلُغَنَّ جَهْدَايَ في الأمر وجُهيداي… والاجتهاد:الإشراف والظهور"(3)، وجاء في لسان العرب "الجهُدُ: الطاقة…والاجتهاد: بذل الوسع والمجهود"(4)، والمعنى نفسه قال به صاحب تاج العروس(5).
والجهد "ما جهد الإنسان من مرض أو أمر شاق فهو مجهود"(6)، ومما سبق يتبين لنا أن الاجتهاد يعود في معناه اللغوي إلى: بذل الطاقة، وغاية الوسع والمجهود لدى الإنسان.
التقليد في اللغة: التقليد من قلد و"قَلَدَ الماء في الحوض، واللبن في السِّقاء، … يقلده قلْداً: جمعه فيه"(7)، وقد قلده قلاداً وتقلْدَها، ومنه التقليد في الدين، وتقليد الولاة الأعمال وتقليد البُدْن، أن يجعل في عنقها شعارٌ يُعْلَم به أنها هدْىً"(8)، "وأقلد البحر على الناس: أي ضمر عليهم وأحصنهم في جوفه… وتقلْدت السيف والأمرَ إذا التزمته"(9).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص104، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص414، صريح البيان للحبشي ص 54-55.
(2) - صريح البيان للحبشي ص56.
(3) - المحيط في اللغة لابن عباد 3/369-370.
(4) - لسان العرب لابن منظور 1/709.
(5) - انظر: تاج العروس للزبيدي 7/539.
(6) - تهذيب اللغة للأزهري 6/37.
(7) - لسان العرب لابن منظور 4/3718.
(8) - لسان العرب لابن منظور 4/3718، وانظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي 1/341-342، الصحاح للجوهري 2/27.
(9) - المحيط في اللغة لابن عباد 5/348.(1/85)
والتقليد فيما سبق يرجع في معناه إلى: الحماية والحفظ والالتزام.
أما تعريف الاجتهاد والتقليد في اصطلاح الأصوليين:
الاجتهاد في الاصطلاح:
تعددت الأقوال في تعريف الاجتهاد اصطلاحاً، ولكنها في الحقيقة تتفق في القصد، ومما جاء في تعريف الاجتهاد هو: "استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه لوم مع استفراغ الوسع فيه"(1)، أو هو "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية"(2)، أو هو "عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد"(3).
التقليد في الاصطلاح:
ويقصد بالتقليد هو "عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل، معتقداً للحقيّة فيه من غير نظر وتأمل في الدليل"(4).
أو هو عبارة عن: قبول قول الغير بغير دليل وحجة(5).
__________
(1) - التحصيل في المحصول محمود بن أبي بكر الأرموي ص281، دراسة وتحقيق: د. عبد الحميد علي أبو زنيد، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1408هـ-1988م.
(2) - نهاية السُّول في شرح منهاج الأصول لناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، تأليف: جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الآسنوي الشافعي 4/524، الناشر: عالم الكتب -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - المستصفى للغزالي ص350.
(4) - التعريفات للجرجاني ص72.
(5) - انظر: المسودة لآل تيمية ص411، 414، الإحكام للآمدي 4/297، المستصفى للغزالي ص387.(1/86)
وفي التدقيق في تعريف الحبشي للاجتهاد، يظهر فيه القصور واضحاً، حيث جعل الاجتهاد قاصراً على استخراج الأحكام من النصوص غير الصريحة فقط، والفقهاء قالوا بخلاف ذلك، ويتضح هذا الأمر من خلال ما جاء عن الإمام محمد أبو زهرة، حيث يبين أن للاجتهاد ميادين أخرى وهى "تعرف المرامي والمقاصد من جملة النصوص الشرعية، بأن تتعرف الحكمة في كل نص شرعي جاء بحكم، ويستخرج الضابط الذي يصح أن يطلق بمقتضاه الحكم في كل موضع يشبهه، ثم تتعرف مقاصد الشريعة جملة من مجموع ما استنبط من ضوابط الأحكام المختلفة… وثانيهما: في الاستنباط مما وراء النصوص فيما لم يوجد فيه نص…"(1)، فيلاحظ أن الاجتهاد في عُرف الفقهاء قد تعدى استخراج الأحكام من النصوص، إلى التعرف على الحكمة من مرامي الشريعة، واستنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص.
ويؤخذ أيضاً على تعريف الحبشي قوله : "استخراج الأحكام التي لم يرد فيها نص صريح"(2)،حيث يترك الحبشي المجال أمامه وأمام أتباعه للخوض في النصوص الشرعية وفق أهوائهم، بحجة أنها غير صريحة، وهذا يتضح جلياً من خلال خوضهم في آيات وأحاديث الصفات(3)، مستندين على هذا القول ومحتجين به على صحة ما يقومون بالعبث في النصوص الشرعية وفق أهوائهم.
المطلب الثاني: شروط الاجتهاد عند الأحباش:
__________
(1) - تاريخ المذاهب الإسلامية (في تاريخ المذاهب الفقهية) محمد أبو زهرة ص5-6، الناشر: دار الفكر العربي، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص103.
(3) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص84،123،164، الصراط المستقيم للحبشي ص41-53، الشرح القويم للحبشي ص161-200.(1/87)
... يذكر الحبشي مجموعة من الشروط التي يجب أن تتوفر في المجتهد حتى يكون له أهلية على الاجتهاد،ويوضحها بقوله : "فالمجتهد من له أهلية ذلك، بأن يكون حافظاً لآيات الأحكام، وأحاديث الإسناد، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، ومع إتقان اللغة العربية، بحيث إنه يحفظ مدلولات ألفاظ النصوص على حسب اللغة التي نزل بها القرآن، ومعرفة ما أجمع عليه المجتهدون، وما اختلفوا فيه… ويشترط فوق ذلك شرط وهو ركن عظيم في الاجتهاد، وهو فقه النفس أي قوة الفهم والإدراك، ويشترط في المجتهد أيضاً العدالة، وهى السلامة من الكبائر -وعدم- المداومة على الصغائر…"(1)؛ ثم يخرج بنتيجة مفادها: أن المجتهدين من الصحابة أقل من عشرة فيقول: "… المفتين في الصحابة أقل من عشرة"(2)، وفي موضع آخر يتراجع الحبشي عن هذا الرقم في عدد المفتين من الصحابة، ويقدر بأنهم مئتان، فيقول في ذلك: "وقال بعض العلماء: نحو مائتين منهم بلغوا رتبة الاجتهاد"(3)، دون أن يذكر تراجعه عما قال به سابقاً.
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص103-104، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص404-413، صريح البيان للحبشي ص54-55.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص105، وانظر: صريح البيان للحبشي ص57.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص419.(1/88)
... فأما ما ذكر من شروط الاجتهاد عند الأحباش، فقد وافقوا فيها أهل الأصول إلا زيادات في بعضها(1)، مثل قوله: "أن يكون حافظاً لآيات الأحكام وأحاديث الإسناد"(2)، حيث شدد الحبشي هنا بالحفظ عن ظهر قلب، أما علماء الأصول اكتفوا بالعلم بآيات وبأحاديث الأحكام، كما قال الباجي(3) صاحب كتاب أحكام النصوص في حق المجتهد، بأن يكون "عالماً بأحكام الكتاب، وإن لم يكن من شرطه أن يكون تالياً لجميعه، عالماً بالسنة…"(4)، وفي هذا المعنى يذكر الزبيدي(5) في إتحاف السادة ما يجب أن يتوفر في
__________
(1) - انظر: شروط الاجتهاد عند علماء الأصول: كشف الأسرار شرح المصنف على المنار لأبي البركات عبدالله بن أحمد المعروف (حافظ الدين النسفي) 2/300، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1406هـ-1986م، إرشاد الفحول للشوكاني ص250.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص104 ، وانظر: صريح البيان للحبشي ص54-56.
(3) - الباجي: الإمام العلامة، الحافظ، ذو الفنون، القاضي، سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التُّجيبيُّ، الأندلسي، القرطبي، الباجي، الذهبي (أبو الوليد) صاحب التصانيف، نسبة إلى باجة بُليدة قرب اشبيلية، ولد سنة 403هـ، وتوفي سنة 474هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 18/535-545، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/408-409، معجم الأدباء لياقوت الحموي 11/246-251.
(4) - إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد سلميان بن خلف الباجي ص637، تحقيق: د. عبدالله محمد الجبوري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1409هـ-1988م.
(5) - الزبيدي: محمد بن محمد بن محمد عبد الرازق الحسيني، الزبيدي، الملقب بمرتضى (أبو الفيض) لغوي، نحوي، محدث، أصولي، أديب، ناظم، ناثر، مؤرخ، نسابة، مشارك في عدة علوم، أصله من واسط في العراق، ولد في بلجرام من الهند، ومنشأه زبيد باليمن، ولد سنة 1145هـ، توفي سنة 1205هـ. انظر: معجم المؤلفين لكحالة 11/282-283، الأعلام للزركلي 7/70.(1/89)
المجتهد فيقول: "…العلم بكتاب الله تعالى، ولا يشترط العلم بجميعه، بل بالأحكام ولا يشترط في حفظه عن ظهر قلب، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا جميعها،بل ما يتعلق منها بالأحكام…"(1)، وبالتالي يتبين أنه ليس شرطاً في الاجتهاد أن يكون المجتهد حافظاً لآيات الأحكام وأحاديث الإسناد بل يكتفي بالعلم .
وتعدد أقوال الحبشي في عدد المجتهدين من الصحابة إنما يدل على التردد في أراء الحبشي، وعدم الثبات على رأي واحد، ويستند لما يقول في هذه الجزئية على ما جاء في كتب علوم الحديث مثل: كتاب علوم الحديث لابن الصلاح(2)؛ وعند الرجوع لكتاب ابن الصلاح، يتضح أنه يتحدث عن أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويذكر روايات في ذلك، فمن هذه الروايات، ما رواه الإمام أحمد بن حنبل قوله: "ستة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثروا الرواية عنه وعمروا: أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وجابر بن عبدالله، وابن عباس، وأنس، وأبو هريرة أكثرهم حديثاً وحمل عنه الثقات(3)، ثم يذكر أكثر الصحابة فتياً تروى عن ابن عباس كما روى ذلك الإمام أحمد(4)، ويبين أن أكثر الصحابة دراية بالفقه ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، وأن لكل رجل منهم أصحاب يقولون بقوله، ويفتون الناس(5)
__________
(1) - إتحاف السادة للزبيدي 2/458.
(2) - ابن الصلاح: الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين عثمان ابن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي أبو عمرو، ولد سنة 577هـ، وتوفي سنة 643هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 23/140-144، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/243-245، تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1430-1433.
(3) - علوم الحديث لأبي عمر وعثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف (بابن الصلاح) ص296، تحقيق: نور الدين عتر، الناشر: دار الفكر، دمشق -بدون رقم طبعة- 1406هـ-1986م.
(4) - انظر: المصدر السابق ص296.
(5) - انظر: المصدر نفسه ص297.(1/90)
؛ والذي قال به ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث، قال به السيوطي في كتابه تدريب الراوي(1).
وعند تدقيق النظر في أقوال ابن الصلاح والسيوطي، يظهر خطأ قول الحبشي، بأن عدد المجتهدين أقل من عشرة أو بلغوا مائتين، حيث أن أقوال ابن الصلاح والسيوطي التي استند إليها الحبشي في هذه الجزئية، واضحة لا لبس فيها، وهى تبين أكثر الصحابة فتياً وأكثرهم دراية بالفقه(2)، ولم تحدد عددهم كما قال الحبشي، وإنما هذا القول من عنده .
ويقال للحبشي أن تحديد الاجتهاد بعدد معين من الصحابة لا يصح، حيث لم ترد رواية تحدد عدد المجتهدين من الصحابة تحديداً يقطع القول به، وإنما غاية ما ورد من الروايات تبين أكثرهم فتيا(3) هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى هناك من الصحابة مجتهدين لم يذكرهم العلماء إما لقلة فتواهم وإما بسبب موتهم قبل انتشار علم الحديث أمثال أبي بكر الصديق وهو علم من أعلام الصحابة وفي ذلك يقول السيوطي: "السبب في قلة ما روى عن أبي بكر-رضى الله عنه- مع تقديمه وسبقه وملازمته للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الحديث واعتناء الناس بسماعه وتحصيله وحفظه"(4)، وما قيل في أبي بكر يقال في كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.
__________
(1) - انظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النووي لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي 2/216-219، الناشر: دار التراث، القاهرة، ط الثانية 1392هـ-1972م.
(2) - انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص296-297، تدريب الراوي للسيوطي 2/218-219.
(3) - انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص296، تدريب الراوي للسيوطي 2/218.
(4) - تدريب الراوي للسيوطي 2/218.(1/91)
ويقال للحبشي أيضاً: إن المجتهدين في الدين بلغوا عشرات المئات إلى يومنا هذا، فكيف تجعل عدد المجتهدين من الصحابة على أحسن الأحوال أنهم بلغوا مئتين، مع أنهم أفضل منا علماً، واجتهاداً، وورعاً، وعقلاً، ولذلك يقول الشافعي في حق الصحابة: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر واستُدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا لأنفسنا"(1)، فذلك يرد على الحبشي الذي جعل عدد المجتهدين منهم في أحسن الأحوال مئتين.
__________
(1) - علوم الحديث لابن الصلاح ص297.(1/92)
... ومن ضمن الشروط التي يجب أن يتصف بها المجتهد -كما قال الحبشي- أن يتميز بفقه النفس أي قوة الفهم والإدراك(1)، ثم يبين أن الذين بلغوا درجة الاجتهاد من الصحابة أقل من عشرة، وفي موضع آخر يبين أن المجتهدين من الصحابة بلغوا المائتين(2)، وبالتالي يكون بقية الصحابة مقلدين، وفي المقابل يصف الأحباش زعيمهم الحبشي: بأنه مجتهد(3)، وقالوا فيه "شيخ الإسلام والمسلمين… مجدد القرن الرابع عشر… شيخنا وقدوتنا وسيدنا وسندنا المحدث الحافظ العلم النحرير المحقق المدقق اللغوي النحوي المتكلم المفسر النظار الأصولي الشيخ عبدالله الهرري المعروف بالحبشي"(4)، وفي مواضع أخرى وصفوه "… حاضر الذهن، قوي الحجة، ساطع الدليل، حكيم يضع الأمور في مواضعها…"(5)، أي اعتبر الأحباش زعيمهم الحبشي مجتهد فيقال لهم: "…فأخبرونا هل شيخكم فقيه النفس قوي القريحة كامل الذكاء أم لا؟ إن قلتم: نعم، جعلتموه خيراً من الصحابة، وإن قلتم:لا -فأنتم لم ولن تقولوا- طعنتم في سلطانكم ورميتموه بالغباوة…"(6)، وبالتالي "هل ترضون أن نضعه في قائمة الصحابة المقلدين، أم أنكم ترونه أعلى قدراً من أن يكون بين الصحابة المقلدين…"(7)، وهؤلاء الصحابة قد مدحهم الله في العديد من الآيات منها
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص104 بتصرف، وانظر: صريح البيان للحبشي ص55، المطالب الوفية للحبشي ص162.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص105، الشرح القويم للحبشي ص419.
(3) - المقالات السنية لابن صهيب المالكي ص120 بتصرف.
(4) - مقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري- تقديم: محمد الولي (أحد تلاميذ الحبشي) ص5، الناشر: دار المشاريع، ط الأولى 1415هـ-1995م.
(5) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص13، المطالب الوفية للحبشي ص16، الشرح القويم للحبشي ص10، وغيرها من كتب الحبشي في التعريف به.
(6) - المقالات السنية لعبد العزيز بن صهيب ص120.
(7) - موسوعة أهل السنة لدمشقية 2/976.(1/93)
قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [التوبة:100]، وقوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح:18]، أما من السنة ما جاء من مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحابته بقوله: "خير الناس قرني…"(1)، وهذه الشهادة من النبي بأفضلية صحابته على غيرهم من الناس، وكفى بها من شهادة.
المطلب الثالث: موقف الأحباش من التقليد والاجتهاد:
... يرى الحبشي أن من كان دون مرتبة الاجتهاد فعليه أن يتبع المجتهد يقول في ذلك: "العالِم الذي هو دون مرتبة الاجتهاد فعليه أن يتبع المجتهد ويستند إلى قوله"(2)، وأنه لا يصح الاجتهاد مع وجود النص القرآني أو نص حديثي ثابت، ومن قال بخلافهما فقوله مردود وفي ذلك يقول الحبشي: "ومن المهم معرفة أنه لا يصح القول بالاجتهاد لاستخراج حكم باسم الشرع مع نص قرآني أو نص حديثي ثابت، فمن اجتهد مع النص فقال بخلافه فقوله مردود لا يجوز لأحد اتباعه في ذلك"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم -، باب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، ح 3651، 4/229، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ح2533، 4/1962.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص317.
(3) - المصدر السابق ص317، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص417.(1/94)
يرى الحبشي أن من اجتهد ولم تتوفر فيه شروط الاجتهاد، فإن قال برأيه ولو صادف الصواب فهو عاصٍ فيقول: "… بل هذا إذا قال رأيه ولو صادف الصواب فهو عاصٍ"(1).(2)
... ويقرر الحبشي أن الاجتهاد إنما يكون في الفروع وليس في الأصول الاعتقادية فيقول: "ثم إن مما ينبغي بيانه أن الأئمة تكون اجتهاداتهم في الفروع وليس في أصول العقيدة…"(3).
ومع ما تم تقريره من قِبل الحبشي -كما سبق بيانه- نجده يخاطب الناس في كتاباته، ألاّ يكونوا أسرى للتقليد في غير معنى فيقول: "فلا تكن أسير التقليد في غير معنى"(4)، وهنا دعوى مفتوحة للاجتهاد من جهة الحبشي، وفي المقابل نجده يبين أن الاجتهاد ليس لكل فرد من أفراد المسلمين وإلا يؤدي ذلك إلى ضياع الدين فيقول: "فالاجتهاد مشروع لأهله، وليس لكل فرد من أفراد المسلمين وإلا لضاع الدين …"(5).
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص162.
(2) - وهذا يتفق مع منهج علماء السلف، حيث يقول شارح الطحاوية: "ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله، ولم يتلقِِ ذلك من الكتاب فهو مأثوم، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لكن إن أصاب يضاعف أجره" شرح الطحاوية لابن أبي العز ص196.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص417، وانظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص319.
(4) - بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب لعبدالله الهرري (الحبشي) ص32، الناشر: دار المشاريع الخيرية، لبنان، ط الثالثة 1416هـ-1996م.
(5) - صريح البيان للحبشي ص59.(1/95)
... والأحباش في منشوراتهم يدعون إلى نشر فكر التقليد، وفي المقابل يهاجمون كل من يحاول فتح باب الاجتهاد الذي أغلق، فعلى سبيل المثال: نجد أن كتاباتهم ممتلئة بالهجوم العنيف على الوهابيين(1)، ووصفهم بأشنع الصفات وأفظعها(2)، ويهاجمون أيضاً الشخصيات الإسلامية العاملة من العلماء أمثال الدكتور يوسف القرضاوي(3)، وغيره من العلماء المخلصين .
بل إن الأمر تعدى هذا الحد، وبلغ الأمر بالحبشي أن يرفض أن يقوم أي شخص بتفسير آية أو حديث بدون التلقي من أفواه العلماء(4).
ولا شك في أن هذه دعوى تؤدي إلى تنفير الناس من الدين، وجعله قاصراً على مجموعة من الناس، وبالتالي تؤدي إلى الجمود في فهم الدين والتعامل مع أحكامه.
__________
(1) - الوهابيون: هم جماعة انتهجت منهج السلف الصالح، وتميزوا بالدعوة السلفية، وحمل لواء هذه الدعوة محمد بن عبد الوهاب (1115هـ-1206هـ)، وسموا بالوهابيين نسبة له، ودعوتهم قائمة على أساس التوحيد الخالص وبنزع البدع وتحطيم ما علق بالإسلام من أوهام، انظر: موسوعة الفرق والجماعات للحفني ص424-427.
(2) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص161،183، صريح البيان للحبشي ص370،396،397، مجلة منار الهدى العدد6 آذار 1993م، ص40-41، والعدد 9 تموز 1993م، ص18-19، والعدد 74، آذار 1999م ص19-21، 29.
(3) - انظر: كتابهم (النقض الكاوي لدعوى يوسف القرضاوي) تأليف: خليل دريان، الناشر: دار المشاريع الخيرية، لبنان، ط الأولى 1420هـ-2000م، و(نصيحة لعامة المسلمين-القرضاوي في ميزان الشريعة) إعداد جمعية المشاريع الخيرية -فرع ألمانيا- نقلاً عن شبكة المعلومات العالمية www.aicp.de .
(4) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص106، الشرح القويم للحبشي ص421، صريح البيان للحبشي ص59.(1/96)
... وبعد هذا العرض لموقف الأحباش من التقليد والاجتهاد يظهر التناقض واضحاً وجلياً، وهذا التناقض يعتبر سمة واضحة ومميزة في فكر الحبشي، لأنه ابتعد عن المعين الصافي الكتاب والسنة، فتارة ينهل من معين المتكلمين وأخرى من الفلاسفة وثالثة من الصوفيين، ويقوم بالمزج بين أفكار أولئك القوم، فتكون النتيجة الحتمية التناقض والتضارب في المعتقد به، فهنا يرى الحبشي أن من دون مرتبة الاجتهاد فعليه اتباع المجتهد(1) وهذا كلام حق، ثم يعود ويناقض نفسه عندما يخاطب العوام بألاّ يكونوا أسرى للتقليد الأعمى(2)، ويتضح من أقوال الحبشي لكل ذي لُب، أنه يُجيّر هذه الأقوال لصالحه، بحيث يقصد بأن على الناس اتباع المجتهدين أمثاله، حتى لا يعارضوه فيما يقول، وعندما يجد خصومه مخالفين له، يدعو الناس بألا يكونوا أسرى للتقليد، وعليهم أن يعملوا عقولهم، وهذا واضح من خلال اجتهادات الحبشي التي خالف فيها سلف الأمة مثل: تأويله آيات وأحاديث الصفات(3)، حيث يعتبر نفسه مجتهداً، وعلى الناس إتباعه فيما يقوله أو ينقله عن الخلف، وأما إذا كان الأمر مع أنصار مخالفيه -كما سبق توضيح ذلك- سواء جماعات مثل: الوهابيين أو أفراداً مثل: ابن تيمية، وغيره من العلماء العاملين القدامى والمعاصرين، فيناقض الحبشي نفسه، ويطلب منهم ترك التقليد وإعمال عقولهم.
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص317.
(2) - انظر: بغية الطالب للحبشي ص32.
(3) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص41-53، الشرح القويم للحبشي ص161-200.(1/97)
ولم تقتصر تناقضات الحبشي على الأقوال، بل تعدتها للتناقض بين القول والاعتقاد حيث يصرح بأن الاجتهاد يكون في الفروع وليس في الأصول(1)، ومن المعلوم أن ما يتعلق بذات الله من الصفات بناه على أقوال الرجال ممن سبقوه من الخلف أو بناء على توهمات من عقله يطرحها، ومع هذا يعترف بأن تأويلاته مظنونة وغير مرجوجة فيعلق بهذا القول على تأويله لصفة الاستواء بالقهر ثم يعلق بقوله: "إنما يظن ظناً راجحاً"(2).
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص417.
(2) - المصدر السابق ص163.(1/98)
... ولكن مع هذا التناقض الموجود لدى الحبشي في فتح باب الاجتهاد والتقليد الحرفي، يظهر عليه الميل الشديد إلى التقليد، ولا يألو جهداً في نشر فكر التقليد، ومهاجمة كل من يخالفه القول(1)، ولمعرفة مدى حرصه على الالتزام بالتقليد، يرفض أن يقوم أي شخص بتفسير آية أو حديث دون تلقي العلم من أفواه العلماء(2)، ولا شك في أن ذلك يؤدي إلى الجمود في فهم الدين، بل يؤدي إلى تنفير الناس منه والابتعاد عنه، بسبب التشدد في التعامل مع النصوص الشرعية، وجعله قاصراً على فئة محدودة يمكن أن يطلق عليها -رجال الدين- كما حصل في الدين النصراني عندما جعلوا فهم نصوصه مقصوراً على رجال الكنيسة، مما أدى إلى نتائج سلبية في المجتمع النصراني، حيث تم تنفير الناس من الدين، وهروبهم منه، بل ومن كل شيء يتصل به. ويرد على الحبشي في دعوته للتقليد بالقول له: هل حذر الرسول صحابته ألاّ يبلغوا شيئاً إلا بعد أن يستمعوا إليه، ويأخذوا النصوص الشرعية منه شفهياً، أم أنه -صلى الله عليه وسلم- حذرهم من الكذب عليه؛ فإن قلت: بالقول الأول، فهذا مردود بفعل الصحابة، حيث إنهم كانوا يسمعون من بعضهم البعض، ويبلّغوا ما سمعوه، مادام الناقل ثقة لا يتهم بالكذب أو ما شابه ذلك، ومثال ذلك: ما جاء في قصة تحويل القبلة في مسجد قباء(3)، ولم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يرفضون الأخذ من بعضهم البعض، وخاصة في حياته -صلى الله عليه وسلم- وإنما كانوا يرجعون إليه إذا استشكل عليهم أمر من الأمور، ومثال ذلك: ما رواه ابن
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص161،183،185، صريح البيان للحبشي ص370،396،397، مجلة منار الهدى العدد6 آذار 1993م ص40-41، والعدد 9 تموز 1993م ص18-19، والعدد74 آذار 1999م ص19-21، 29، وغير ذلك من التهجمات الكثيرة منثورة في كتابات الأحباش.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص106، الشرح القويم للحبشي ص421،صريح البيان للحبشي ص59.
(3) - سبق تخريجه، انظر: ص47.(1/99)
مسعود قال: لما نزلت هذه الآية { الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام:82] ، شق ذلك على الناس، فقالوا:يا رسول الله، وآينا لا يظلم نفسه، قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قاله العبد الصالح { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13]، إنما هو الشرك(1)، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يشجع صحابته على نشر هذا الدين فيقول -صلى الله عليه وسلم- "بلغوا عني ولو آية"(2)، ولم يشترط الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تبليغ هذا الدين الرجوع إليه للتلقي شفهياً، وإنما الذي ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- تحذيره الشديد ممن يكذب عليه "من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار"(3).
الرد على الأحباش في ميلهم الشديد إلى التقليد من خلال التالي:
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى (ولقد آتينا لقمان الحكمة)، ح3429،4/165، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان والإخلاص ح124، 1/114-115.
(2) - صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ح3461، 4/175.
(3) - صحيح البخاري، كتاب العلم، باب أثم من كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح110، 1/141، وأيضاً كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، ح1291، 1/101، صحيح مسلم، المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ح3، 1/10.(1/100)
أولاً:- ما جاء في القرآن من ذم الأقوام السابقة لتقليدهم الأعمى لمن سبقوهم، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ } [الزخرف:23-24]، فمنعهم الإقتداء الأعمى بآبائهم، الاهتداء إلى الحق ودعوة الله، فقال القرآن على لسانهم { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ:34].
وأيضاً ما رواه ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم) في ذم التقليد من خلال ما قيل لعدي بن حاتم في قوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة:31]، "أكانوا يعبدونهم، قال: لا، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه"(1).
وما جاء في ذم التقليد الأعمى، مثل قوله تعالى: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } [الأنبياء:52-53]، وغير ذلك الكثير من الآيات التي تعيب على الكفار التقليد الأعمى بغير حجة وبرهان على صحة مثل عبادة الأصنام وطاعة الرؤساء في معصية الله { إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [الأحزاب:67].
ثانياً:-لقد ذم السلف الصالح التقليد بغير حجة وبرهان،وشنعوا في بيان قبحه،وقبح القائل به، ورفضوه بالكلية؛ ومن النصوص الواردة في هذا المعنى:
__________
(1) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/977.(1/101)
ما رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل يا رسول الله: كفارس والروم، قال: "ومن الناس إلا أولئك"(1) وفيه ينهى-صلى الله عليه وسلم- عن التقليد الأعمى من اتباع عادات الأقوام السابقة بغير حجة وبرهان.
ويقول أيضاً -صلى الله عليه وسلم-:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"(2)، والتقليد هو عبارة عن اتباع قول الآخرين، بدون برهان ولا دليل ، فهو من الظن المنهي عنه.
وما جاء عن الإمام علي -رضي الله عنه- أنه قال: "إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، وإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء"(3).
وأيضاً ما قاله ابن عباس -رضي الله عنه-: "ويل للاتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك، قال: يقول العالم شيئاً برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع"(4).
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "اغد عالماً، أو متعلماً، ولا تغدونُّ إمعة فيما بين ذلك"(5).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة،باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم - لتتبعن سنن من كان قبلكم، ح7319، 8/191.
(2) - صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه، ح5143، 6/166، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها، ح2563، 4/1985.
(3) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/987.
(4) - المصدر السابق 2/984.
(5) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/984.(1/102)
قال سفيان بن عيينة: "اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك، فقال: رياء ظاهر وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ما نهوهم عنه انتهوا وما أمروهم به ائتمروا"(1) وفيه ذم واضح للتقليد الأعمى للعلماء دون البحث عن البرهان والدليل، والاعتماد المطلق على أقوال علمائهم.
لقد نهى الأئمة الأربعة الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون دون الرجوع للكتاب والسنة، للتحقق من صحة أقوالهم.
فقال أبو حنيفة: "هذا رأي، وهذا أحسن ما رأيت،فمن جاء برأي خير منه قبلناه"(2) وفي هذا نهي عن التقليد الأعمى.
ومالك كان يقول: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة"(3) أي ما كان موافقاً للكتاب والسنة فليتبعه الناس فيه،وما كان خلاف ذلك لا بد من التأكد منه من خلال عرضه على الكتاب والسنة.
ما ورد عن الشافعي في ذمه للتقليد بغير علم، قوله: "كل ما قلتُه، فكان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف قولي مما صحَّ، فهو أولى ولا تقلدوني"(4) وقوله أيضاً: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا بها ودعوا ما قلته"(5) وفي هذا ترغيب فيما جاء في السنة مقابل التشنيع على التقليد بغير برهان.
قول الإمام أحمد بن حنبل: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا"(6).
__________
(1) - المصدر السابق 2/989.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 20/117.
(3) - المصدر السابق 20/117.
(4) - سير أعلام النبلاء للذهبي 10/33، وانظر: حلية الأولياء للأصفهاني 9/107.
(5) - سير أعلام النبلاء للذهبي 10/34.
(6) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 20/117-118.(1/103)
ويعلق ابن عبد البر على آيات في كتاب الله ذمت أهل الكفر لتقليدهم السابقين بغير دليل، فيقول: "وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد… فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهى الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك…"(1).
ولقد جاء عن السيوطي قوله: "التقليد باطل، لأن الله تعالى ذم الكفرة على التقليد فقال حاكياً عنهم: { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف:22]، فلا يجوز أن يشتغل الإنسان بما يستحق الذم عليه، ولأن فعله يحتمل الخطأ والصواب،والمحتمل لا يصلح حجة"(2).
وما قاله أبو عبدالله بن خواز منداد المالكي: "التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قولٍ بلا حجة لقائله عليه، وهذا ممنوع في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة"(3)؛ إلى غير ذلك من الأقوال التي ذكرها علماء السلف(4)، تبين قبح التقليد، وأنه منهي عنه، لأنه اتباع لقول الغير بلا دليل ولا برهان.
__________
(1) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/978.
(2) - الاجتهاد ـ الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ـ لجلال الدين السيوطي ص135، تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد، الناشر: مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية -بدون رقم طبعة- 1405هـ-1985م.
(3) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/993.
(4) - انظر: أقوال علماء السلف في ذم التقليد الأعمى: الاجتهاد للسيوطي ص99-145، جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/977-997.(1/104)
ولكن التقليد ليس منهياً عنه على الإطلاق، بل هناك حالات يجوز فيها التقليد، وهذا ما يوضحه ابن عبد البر بقوله: "… وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها، لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل -لعدم الفهم- إلى علم ذلك، لأن العلم درب لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة… ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل:43]، …وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا،وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم"(1)؛ فالتقليد لغير العامة منهي عنه، أما العامة من الناس الذين لا يستطيعون الوصول إلى الدليل والبرهان على صحة المعتقد والمحكم، فيجوز لهم تقليد غيرهم من العلماء .
... وخلاصة القول في هذه المسألة ما ذكره ابن تيمية حيث قال: "الذي عليه جماهير الأمة، أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة،لا يوجبون الاجتهاد على كل أحد ويحرمون التقليد، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد، فالاجتهاد جائز للقادر
على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد"(2).
__________
(1) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/989.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 20/112-113.(1/105)
- ومن مظاهر ميل الحبشي إلى التقليد، ما يستخدمه من مصطلحات للفلاسفة والمتكلمين، والصوفية،في تقرير معتقده، مثل استخدامه للمصطلحات التالية: الواجب والممكن، والعرض والجوهر، الجزء الذي لا يتجزأ، وتحيزه في حيّز، موجود في الأزل، كل متغير حادث العدم، الجهة، والتركيب(1)… وغير ذلك الكثير من المصطلحات التي لم ترد عن السلف، ولم يعرفوها في تقرير العقيدة؛ بل إن الحبشي لم يكتفِ باستخدام المصطلحات نفسها التي يستخدمها المتكلمون والفلاسفة وغيرهم، بل ينقل النصوص نقلاً حرفياً، وهذا ما يوضحه صاحب كتاب (الرد على عبدالله الحبشي)، فيخاطب الأحباش بقوله: "…ثم إن كتاب شيخكم (الدليل القويم) تفوح منه رائحة التقليد والتعصب المذهبي، وهذا واضح لمن يمعن النظر فيه، وهو منقول نقلاً حرفياً عن كثير من كتب المتكلمين، نذكر من تلك الكتب: الإرشاد والشامل، ومناهج الأدلة وغيرهم، مقتطفات من قواعد العقائد (للغزالي)، والحبشي مقلد حتى في الأمثلة التي يضربها، فإن من أمثلته منقولة نقلاً عن تراث المتكلمين، كمثل: …دليل التمانع الذي يذكره هو منقول عن الجويني في كتابه (الشامل)، فكيف يكون بعد ذلك بريئاً من التقليد والتبعية ؟"(2)، وهذا يؤكد ميل الحبشي إلى التقليد والتعصب الأعمى لمناهج المتكلمين، والمخالفة لمنهج السلف في إثبات العقائد من حيث عدم اعتمادهم على الكتاب والسنة.
المبحث الخامس: علم الكلام:
__________
(1) - انظر: شرح الصفات الثلاث عشرة لعبدالله الهرري (الحبشي) ص8، 12،18، 43، الناشر: دار المشاريع الخيرية، لبنان، ط الثانية 1416هـ-1996م، غاية البيان إعداد قسم الأبحاث ص15، 19، 53، 67، الصراط المستقيم للحبشي ص32، 34، 36، المطالب الوفية للحبشي ص31، 32، وغير ذلك من الكتب المليئة بمثل هذه المصطلحات من كتب الحبشي.
(2) - الرد على عبدالله الحبشي لعبد الله محمد الشامي ص398، الناشر: دار الطلاع -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/106)
المطلب الأول: تعريف علم الكلام: وموضوعه، وسبب التسمية.
أولاً: تعريف علم الكلام:
... عرف الحبشي علم الكلام بقوله: "إنه علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأحوال المخلوقين من الملائكة،والأنبياء، والأولياء،والأئمة، والمبدأ، والمعاد على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة"(1).
... ولمعرفة مدى مطابقة تعريف الحبشي لعلم الكلام، مع أقوال العلماء الذين عرفوا علم الكلام، لا بد من توضيح المعنى اللغوي لعلم الكلام:
علم: جاء في معاجم اللغة بأن: "العلم نقيض الجهل: عَلِمَ علماً وعَلُمَ هو نفسه، ورجل عالم وعليم من قومٍ علماء من لا يقول إلا عالماً… والعلَّام والعلّامة: النسابة وهو من العِلم"(2)، ويقال: "علمت الشيء اعلمه علماً: عرفته"(3)؛ أي العلم مأخوذ من المعرفة وهو نقيض الجهل.
الكلام: وجاء في معنى الكلام أن "الكلام القول…وقيل: الكلام ما كان مكتفياً بنفسه وهو الجملة، والقول ما لم يكن مكتفياً بنفسه وهو الجزء من الجملة"(4)، ويعتبر "الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير"(5)، ويقال: "كليمك الذي تكلمه ويكلمك…"(6)؛ أي أن الكلام ما يتلفظ به الإنسان، وهو يقع على القليل والكثير من الألفاظ.
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19، وانظر: صريح البيان للحبشي ص12، غاية البيان في تنزيه الله عن الجهة والمكان، إعداد قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية في جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية ص7، الناشر: دار المشاريع الخيرية، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م.
(2) - لسان العرب لابن منظور 4 / 3083 ،وانظر:تهذيب اللغة للأزهري 2 / 418 .
(3) - الصحاح للجوهري 5/1990.
(4) - لسان العرب لابن منظور 4/3922.
(5) - الصحاح للجوهري 5/2023.
(6) - تهذيب اللغة للأزهري 10/264.(1/107)
أما عن التعريف الاصطلاحي لعلم الكلام، فقد عرفه العلماء بعدة تعريفات، بألفاظ مختلفة، وترجع في مجموعها إلى مفهوم واحد مثل: "الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية؛ بإيراد الحجج، ودفع الشبه"(1).
وقيل: هو "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة"(2).
أو هو "علم يبحث في الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة الإسلام"(3).
ويلاحظ على تعريف الحبشي لعلم الكلام قوله: "علم يتكلم فيه عن أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله…"(4)، أنه يوجه دعوى مفتوحة لكل إنسان بأن يخوض في علم الكلام دون الحاجة الماسة لذلك، وهذا مخالف للمفهوم من التعريفات السابقة، حيث يستخدم هذا العلم للدفاع عن العقائد الإيمانية، أو لإثباتها أمام المخالفين وهذا وفق الكتاب والسنة دون الخوض في المقدمات الكلامية التي لا تصل إلى اليقين بل إلى الظن والشك.
__________
(1) - المواقف في علم الكلام لعبد الرحمن بن أحمد الآيجي ص7، الناشر: عالم الكتب، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون الحضري المغربي ص363، الناشر: دار العودة، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - كتاب التعريفات لعلي بن محمد السيد الشريف الجرجاني ص17، تحقيق: د. عبد المنعم الحفني، الناشر: دار الرشاد، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(4) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19.(1/108)
ولهذا لا غرابة عندما يجعل الحبشي تعلم علم الكلام على مرتبتين "مرتبة الوجوب العيني، ومرتبة الوجوب الكفائي"(1)، ولا شك أن هذا أمر فيه مغالاة، حيث يجعل تعلم علم الكلام على مرتبة الوجوب العيني أو الكفائي، وهذا ما بينه الغزالي في أَجلِّ كتبه (إحياء علوم الدين) وفيه يتكلم عن غلو الناس وإسرافهم في مسألة تعلم علم الكلام فيقول: "فاعلم أن الناس في هذا غلواً وإسرافاً… ومن قائل: إنه واجب وفرض إما على الكفاية أو على الأعيان، وأنه أفضل الأعمال، وأعلى القربات: فإنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال عن دين الله تعالى"(2).
وبالتالي فإن استخدام الحبشي لعلم الكلام لا لشيء إلا للكلام والتنطع في الدين، وخاصة أن علم الكلام ليس له فائدة تعود بعمل، وهذا ما يؤكده ابن خلدون في مقدمته حيث يقول: "هي كلام صرف، وليست براجعة إلى عمل"(3) وما كان حاله كذلك فتركه أولى.
... وعند النظر إلى تعريف الحبشي لعلم الكلام، يظهر أن الحبشي عَرّفه وفق أصوله الاعتقادية، وليس كما عَرّفه العلماء، حيث ركز الحبشي في تعريفه على أسماء الله وصفاته والأولياء والأئمة(4)، وهذه من أبرز القضايا التي خالف فيها الحبشي سلف الأمة(5).
ثانياً: موضوع علم الكلام:
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص19.
(2) - إحياء علوم الدين للغزالي 1/87.
(3) - المقدمة لابن خلدون ص368.
(4) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19، صريح البيان للحبشي ص12.
(5) - سيأتي الحديث عن هذه المسائل تفصيلاً في أثناء البحث.(1/109)
إن كل علم له موضوع، ومن هذا الباب حاول الحبشي أن يبين موضوع علم الكلام، الذي يحمل لواءه، ويدافع عنه بكل ما أوتى من حجج وبراهين ، حتى ولو كانت في غير موضعها -كما سيأتي-، وبين الحبشي موضوع علم الكلام بقوله: "موضوع علم الكلام، هو النظر أي الاستدلال بخلق الله تعالى، لإثبات وجوده وصفاته الكمالية، وبالنصوص الشرعية المستخرج معها البراهين، وهو على قانون الإسلام، لا على أصول الفلاسفة…"(1).
ومقصود كلام الحبشي أن موضوع علم الكلام هو إثبات وجود الله وصفاته من خلال مخلوقاته؛ ولكن السؤال المطروح: هل إثبات وجود الله وصفاته يكون من خلال علم الكلام؟ وللإجابة على هذا التساؤل لا بد من توضيح أن هذا أمر لم يرد عن السلف، وذلك بأنهم اثبتوا وجود الله، وما يتعلق بذاته من صفات ليس من خلال علم الكلام، ولكنهم اثبتوا هذه الأمور من خلال ما جاء في الكتاب والسنة، وهذا ما يؤكده صاحب كتاب (لوامع الأنوار البهية) بقوله: "واعلم أنا لا نأخذ الاعتقادات الإسلامية من القواعد الكلامية، بل إنما نأخذها من النصوص القرآنية والأخبار النبوية"(2).
إضافة إلى ما سبق لا بد من معرفة أنه "ليس القصد بالأوضاع الكلامية إلا دفع شبه الخصوم، والفرق الضالة عن الطرق الحقية، فإنهم طعنوا في بعض منها بأنه غير معقول فيبين لهم بالقواعد الكلامية معقولية ذلك البعض"(3)، وهذا ما يكون من خلال علم الكلام غير المذموم، الذي يعتمد في براهينه على الكتاب والسنة.
__________
(1) - صريح البيان للحبشي ص12، وانظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص15، ومقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام لأبي الحسن الأشعري- مراجعة وتقديم محمد الولي الأشعري -أحد تلاميذ الحبشي- ص22، الناشر: دار المشاريع، بيروت ط الأولى 1415هـ-1995م.
(2) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/5.
(3) - المصدر السابق 1/5.(1/110)
... ومما يؤكد أنه لا يجوز إثبات وجود الله وصفاته، وما يتعلق بذات الله من خلال علم الكلام، بأن هذا العلم احتمالي وهمي، كما ذكر ذلك الزبيدي "الكلام والجدل علم لفظي، وأكثره احتمال وهمي"(1).
ثالثاً: سبب التسمية بعلم الكلام:
... يبين الحبشي أن السبب من وراء تسمية علم الكلام بهذا المسمى يرجع إلى كثرة المخالفين فيه من المنتسبين إلى الإسلام، وطول الكلام من كل طائفة ليدافعوا عن اعتقاداتهم الفاسدة(2).
وفي موضع آخر يقول: "… وطول الكلام فيه من أهل السنة لتقرير الحق، وقيل: لأن أشهر الخلافات في مسألة كلام الله تعالى…"(3).
ويقول أيضاً : "… فلكون أكثر الخلافات بين أهل الحق وبين الطرفين المخالفين كان في الكلام؛ سمي هذا العلم علم الكلام"(4).
وعند النظر إلى الأسباب التي يوردها الحبشي في تسمية علم الكلام بهذا المسمى، يلاحظ التناقض والتضارب فيها، فمثلاً: يُرجع السبب لتسمية علم الكلام بهذا الاسم لكثرة المخالفين فيه من المنتسبين إلى الإسلام، وطول الكلام من قِبل كل طائفة، ليدافعوا عن اعتقاداتهم الفاسدة(5)، وفي موضع آخر: يجعل السبب من وراء هذه التسمية طول الكلام فيه من أهل السنة لتقرير الحق(6)، ومرة يجعل سبب التسمية لكثرة الخلافات بين أهل الحق وبين مخالفيهم(7).
__________
(1) - إتحاف السادة للزبيدي 2/65.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19 بتصرف.
(3) - صريح البيان للحبشي ص10-11 ، وانظر: مقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري- تحقيق: محمد الولي ص21.
(4) - المطالب الوفية للحبشي ص18.
(5) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19.
(6) - انظر: صريح البيان للحبشي ص10-11.
(7) - انظر: المطالب الوفية للحبشي ص18.(1/111)
... وقال (شارح العقيدة الطحاوية) في سبب تسمية من اشتغل بعلم الكلام بهذا المسمى: "لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معلوماً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع، ومع من ينكر الحس"(1)، وهذا أقرب الأقوال إلى الصحة في تسمية علم الكلام بهذا الاسم، حيث يأتي بزيادات لا طائل منها ولا فائدة فيها، مع وجود النص والبرهان من الكتاب والسنة.
__________
(1) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص207.(1/112)
... أما عن نشأة مصطلح (علم الكلام) فقد تحدث الإمام الشهرستاني(1) في كتابه (الملل والنحل)، مبينًا نشأة علم الكلام بقوله: "… ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة، حين فسرت أيام المأمون(2)، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فناً من الفنون وسمتها باسم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها، وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان"(3)؛ وبهذا الكلام يستدل أحد نظار الأشاعرة صفي الدين الهندي(4) في مناظرة مع ابن تيمية، حدثت في مصر، ويحتج به على نشأة (علم الكلام)، ولكن هذا القول يرفضه ابن تيمية، ويبين ضعفه بقوله: "الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون،
__________
(1) - الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، الشافعي (أبو الفتح) فقيه، حكيم، متكلم على مذهب الأشعري، ولد بشهرستان بين نيسابور وخوارزم، ولد سنة 467هـ، وتوفي سنة 548هـ، وقيل غير ذلك. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 4/273-275، معجم المؤلفين لكحالة 5/187.
(2) - المأمون: عبدالله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور. من أعلم الخلفاء العباسيين في الفقه والكلام . تمم ما بدأبه جده المنصور من ترجمة كتب العلم والفلسفة. ولد سنة 170هـ-218هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 10/272-290، الفهرست لابن النديم ص129، شذرات الذهب لابن العماد 2/39، معجم المؤلفين لكحالة 6/161.
(3) - الملل والنحل للشهرستاني 1/32-33.
(4) - صفي الدين الهندي: محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي (أبو عبدالله) صفي الدين الهندي، فقيه أصولي، ولد بالهند وخرج من دهلي سنة 667هـ، دخل مصر والروم ودمشق وتوفي فيها، ولد سنة 644هـ، وتوفي سنة 715هـ. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 14/74-75، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع لمحمد بن علي الشوكاني 2/187-188.(1/113)
وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير في زمن عمرو بن عبيد(1) بعد موت الحسن البصري(2) في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها. وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأحكام والأسماء والوعيد… فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين.فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل تنازعهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء(3): إنه متكلم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام"(4).
__________
(1) - عمرو بن عبيد: عمرو بن عبيد (أبو عثمان البصري) الزاهد، العابد، القدري، كبير المعتزلة، يقول فيه الذهبي: اغتر بزهده إخلاصه وأغفل بدعته، ولد سنة 80هـ، توفي سنة 144هـ. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 10/78-80، سير الأعلام للذهبي 6/104-106.
(2) - الحسن البصري: الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، وكان من الزهاد العباد، كان إمام أهل البصرة، ولد بالمدينة سنة 21هـ، وتوفي سنة 110هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 4/563-588، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/156-178، الفهرست لابن النديم ص202.
(3) - واصل بن عطاء: البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي، مولاهم البصري الغزَّالي، وهو رأس الاعتزال، مولده سنة 80هـ، توفي سنة 131هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 5/464-465، الفهرست لابن النديم ص202، وفيات الأعيان لابن خلكان 6/7، 11.
(4) - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لمحمد بن محمد بن عبد الهادي ص156، الناشر: مطبعة المدني، مصر -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/114)
وإذا كان الأمر هكذا ، فإن المقصود بعلم الكلام الذي ذمه السلف شامل لكل الانحرافات التي وجدت منذ عهد التابعين، وأبرز أولئك الجهمية،والمعتزلة(1)، والفرق الباطنية دون استثناء، التي اتخذت علم الكلام منهجاً لإثبات عقائدهم الفاسدة.
... أما عن سبب نشأة علم الكلام، فيرجع ذلك إلى الخلاف الذي دب بين الناس في آيات الصفات، مما أدى إلى انقسام الناس بين مثبت ومؤول،فبدأ المؤولون يستخدمون العقل لإثبات صحة ما ذهبوا إليه،فحدث بذلك علم الكلام،وفي هذا المعنى يقول ابن خلدون(2)في المقدمة عن سبب نشأة علم الكلام:"بسبب حصول الخلاف في تفاصيل الآيات المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام،والتناظر،والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل،فحدث بذلك علم الكلام…"(3).
المطلب الثاني: من مسميات علم الكلام وأقسامه عند الأحباش:
أولاً: من مسميات علم الكلام عند الأحباش:
__________
(1) - موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبد الرحمن صالح 2/775 بتصرف.
(2) - ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد بن محمد … ابن عبد الرحيم المصري،الأشبيلي الأصل التونسي، المالكي،المعروف بابن خلدون(ولي الدين،أبو زيد)عالم، أديب، مؤرخ، اجتماعي، حكيم. ولد سنة 732هـ، توفي سنة 808هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 7/76-77، البدر الطالع للشوكاني 1/337-339.
(3) - المقدمة لابن خلدون ص367.(1/115)
... يحاول الحبشي -كعادته- تجميل الصورة القبيحة لما يحمله من معتقدات بإطلاق مسميات لا تنفر منها العقول السليمة ولا تشمئز منها النفوس الطيبة؛ حيث قام بإطلاق مسميات وبدائل جديدة لعلم الكلام، ليرغب الناس في تعلم هذا العلم، فتراه يقدم في كتاباته بكلمات محببة للنفس مثل "أفضل العلوم علم العقيدة"(1)، ثم في طيات الكلام يطلق عليه اسم علم الكلام، فيقول: "فيا طلاب الحق: لا يهولنكم قدح المشبهة المجسمة في هذا العلم بقولهم: إنه علم الكلام المذموم لدى السلف"(2).
ويطلق أيضاً على علم الكلام مسميات أخرى مثل: علم الأصول، وعلم التوحيد(3).
يقول الحبشي: "إن العلم بالله تعالى وصفاته من أجل العلوم، وأعلاها، وأوجبها، وأولاها، ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة، …ويسمى هذا العلم أيضاً مع أدلته العقلية والنقلية، من الكتاب والسنة علم الكلام"(4).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص20.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص20، وانظر: المطالب الوفية للحبشي ص17، ومقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري- تحقيق: محمد الولي ص21.
(3) - أنظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص17، 18.
(4) - صريح البيان للحبشي ص11.(1/116)
... من الملاحظ أن الحبشي يحاول أن يضفي شرعية على علم الكلام، وذلك من خلال إطلاق مسميات محببة إلى النفس مثل: علم العقيدة وعلم التوحيد وعلم الأصول(1)، وهذه المسميات لا تعبر عن حقيقة علم الكلام المذموم الذي سلكه الحبشي؛ لأن الحبشي يؤول الصفات، ويقول بخلاف ما عليه السلف في هذه المسألة، وهذا يظهر بوضوح في طيات كتاباته(2)، فأين هذه المسميات بما تحتويها من معانٍ من علم الكلام المذموم؟!!.
وبالتالي يتبين خطأ إطلاق هذه المسميات من علم العقيدة والأصول والتوحيد على علم الكلام المذموم الذي يقول به الحبشي.
ثانياً: أقسام علم الكلام عند الأحباش:
... إن الحبشي قد قسم علم الكلام إلى قسمين:
القسم الأول: علم الكلام الممدوح.
القسم الثاني: علم الكلام المذموم.
ومعالم هذا التقسيم تتضح من خلال قول الحبشي مخاطباً طلابه: "فيا طلاب الحق، لا يهولنكم قدح المشبهة المجسمة في هذا العلم بقولهم: إنه علم الكلام المذموم لدى السلف؛ ولم يدروا أن علم الكلام المذموم هو ما ألفه المعتزلة على اختلاف فرقهم والمشبهة على اختلاف فرقهم…"(3).
ويقول في حق الإمام الشافعي إنه: "أتقن هذا العلم، علم الكلام الذي لأهل السنة، قبل أن يتقن علم الفقه"(4)، ويتضح هذا التقسيم أكثر في كتابه صريح البيان، عندما يعنون فيه بقوله: "الفائدة العشرون: ترجع إلى بيان علم الكلام المذموم، وعلم الكلام الممدوح"(5).
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص20، مقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري- محمد الولي ص21.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص41-53، الشرح القويم للحبشي ص178-200، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص164، 199.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص16.
(4) - المصدر السابق ص16.
(5) - صريح البيان للحبشي ص411.(1/117)
والذي يحدد صحة أو خطأ ما عليه الحبشي، ما يورده في كتاباته من اصطلاحات كلامية، ومن هذه المصطلحات الواردة لديه:الجوهر والعرض، والجائز والمحال، والقديم والحادث، وجواز القول بأن الله ليس متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه، واجب الوجود، والواجب العقلي في حق الله، والقول بأن الله تعالى كان قبل الزمان وقبل المكان، الأزلية لذات الله، الجسم مركب من أجزاء لا تتجزأ بالفعل ولا بالوهم وتسمى تلك الأجزاء جواهر مفردة، شاهد الوجود جسم هيولي …(1) إلى غير ذلك من الألفاظ الموجودة بكثرة في كتابات الحبشي التي يثبت صفات الكمال لله من خلالها -كما يزعم- نفياً أو إثباتاً.
والتساؤل المطروح: هل الألفاظ السالفة الذكر مدحها العلماء وأثنوا عليها أم ذموها من خلال ما جاء بالكتاب، والسنة، وأقوال أئمة السلف، وقبحوا من يعمل بها؟ فإن كان العلماء مدحوها وأثنوا عليها، كان كلام الحبشي حقاً، وصَدَقَ فيما قاله من أن علم الكلام الذي يقول به هو علم ممدوح، وأما إن كان العلماء يقدحون في مثل هذه الألفاظ ويذمونها، فلا شك أن هذا العلم علم مذموم، ويتبين خطأ قول الحبشي.
__________
(1) - انظر: صريح البيان للحبشي ص13، 405، الشرح القويم للحبشي ص93، 94، 146، إظهار العقيدة السنية ص26،28،52، المطالب الوفية للحبشي ص21،27،31،33،67. وغير ذلك الكثير في كتابات الحبشي.(1/118)
... من الأمور التي ذُم علم الكلام لأجلها، استخدام ألفاظ مبتدعة لم ترد في كتاب ولا في سنة، ومما يؤكد صحة هذا المنحى قول ابن تيمية -رحمه الله- في حق بعض الألفاظ المستخدمة من قبل المتكلمين: "… كما أن قوله: الرب جسم بدعة، وقوله: ليس بجسم بدعة"(1)، ويقول أيضاً: "ولفظ (الجسم) و(الجوهر) ونحوهما لم يأت في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة المسلمين يمنع التكلم بها في حق الله، لا بنفي ولا إثبات، ولهذا قال الإمام أحمد في رسالته إلى المتوكل: لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان، أما غير ذلك الكلام فيه غير محمود"(2).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/61.
(2) - المصدر السابق 17/172.(1/119)
وأيضاً ممن ذم أهل الكلام الإمام الشوكاني(1)، وذلك لاستخدامهم مثل هذه الألفاظ الموهمة، والمصطلحات الغريبة التي ليس لها أصل من كتاب أو سنة، فيقول: "يا هذا إن كنت ممن له إلمام بعلم الكلام الذي اصطلح عليه طوائف من أهل الإسلام، فإنه لا محالة قد رأيت ما يقوله كثير منهم ويذكرونه في مؤلفاتهم ويحكونه عن أكابرهم أن الله سبحانه وتعالى وتنزه وتقدس لا هو جسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا داخل العالم ولا خارجه، فأنشدك الله أي عبارة تبلغ مبلغ هذه العبارة في النفي وأي مبالغة في الدلالة على هذا النفي تقوم مقام هذه المبالغة، فكان هؤلاء في فرارهم من شبهة التشبيه إلى هذا التعطيل كما قال القائل: … كالمستجير من الرمضاء بالنار، والهارب من لسعة الزنبور إلى لدغة الحية، ومن قرصة النملة إلى قضمة الأسد؛ وقد يغني هؤلاء وأمثالهم من المتكلمين المتكلفين كلمتان من كتاب الله تعالى وصف بهما نفسه، وأنزلهما على رسوله وهما { وَلَا يُحِيطونَ بِهِ عِلْمًا } [طه:110]، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، فإن هاتين الكلمتين قد اشتملتا على فصل الخطاب، وتضمنتا بما يعين أولي الألباب السالكين في تلك الشعاب، فالكلمة منها دلالة بينة على أن كل ما تكلم به البشر في ذات الله وصفاته على وجه التدقيق ودعاوى التحقيق، فهو منسوب بشعبة من شعب الجهل مخلوط بخلوط هي منافية للعلم ومباينة له: فإن الله سبحانه قد أخبرنا أنهم لا يحيطون به علماً، فمن زعم أن ذاته كذا أو صفته كذا، فلا شك أن صحة ذلك متوقفة على الإحاطة وقد
__________
(1) - الشوكاني: محمد بن علي بن محمد بن عبدالله بن الحسن بن محمد بن صلاح بن علي بن عبدالله الشوكاني الخولاني ثم الصنعاني (أبو عبدالله) مفسر، محدث، فقيه، أصولي، مؤرخ، أديب، نحوي، منطقي، متكلم، حليم؛ ولد سنة 1173هـ، بهجرة شوكان في بلاد خولان، وتوفي سنة 1250هـ، انظر: البدر الطالع للشوكاني 2/214-225، معجم المؤلفين لكحالة 11/53.(1/120)
نفيت من كل فرد من الأفراد علماً، فكل قول من أقوال المتكلمين صادر عن جهل…"(1).
وقد نقل ابن حجر في فتح الباري، عن القرطبي قوله: "… وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعرض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالاً"(2)، وفي هذا بيان شافٍ أن استخدام هذه المصطلحات مذموم، لأن ليس لها أصل يُعتد به كالكتاب والسنة، وإنما هي من صُنع البشر، يَعرُض عليها الخطأ والزلل، وبالتالي فإن العلم الذي يحتوي على مثل هذه المصطلحات المذمومة فهو مذموم(3).
__________
(1) - التحف في مذاهب السلف للشوكاني ص12-13.
(2) - فتح الباري لابن حجر 13/350.
(3) - سيأتي مزيد من التفصيل عند الرد على الحبشي بعدم جواز الاشتغال بعلم الكلام، انظر: ص75-82.(1/121)
أيضاً ذُم هذا العلم لما يحتويه من مصطلحات توهم معاني لا تليق بحق الله سبحانه وتعالى "ومثال ذلك في التركيب. فقد صار له معانٍ: أحدهما: التركيب من متباينين فأكثر ويسمى: تركيب مزدوج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربعة والأعضاء ونحو ذلك، وهذه المعاني منفي عن الله سبحانه وتعالى… والثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب. الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، تسمى : الجواهر المفردة . الرابع: التركيب من الهيولي والصورة، كالخاتم مثلاً، هيولاه: الفضة وصورته معروفة؛ وأهل الكلام قالوا: إن يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه… الخامس: التركيب من الذات والصفات،هم سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى . وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة… السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها ؟ هذا محال، فترى أهل الكلام يقولون: من ذات الرب، وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير…"(1)، وهذا مثال على قبح المصطلحات التي يستخدمها المتكلمون في إثبات العقائد.
__________
(1) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص206-207.(1/122)
... ومما يؤكد أن تقسيم الحبشي لعلم الكلام تقسيم بدعي من عنده ليس له أصل، حيث ثبت رجوع مجموعة من نظار الأشاعرة المتقدمين عن علم الكلام(1)، أمثال: الجويني والرازي(2) والباقلاني والغزالي وغيرهم، وكانوا قبل رجوعهم عن علم الكلام على المذهب الأشعري، ولم يكونوا آنذاك معتزلة(3).
وأيضاً: يعد علم الكلام قاسماً مشتركاً بين الأشاعرة والمعتزلة -الذين ينتقدهم الحبشي إلى حد التكفير- مع وجود الاختلاف في بعض المسائل بينهم، إلا إنهم متفقون على تنصيب علم الكلام في مسائل العقيدة(4).
المطلب الثالث: أدلة الأحباش على جواز الاشتغال بعلم الكلام:
... يعلم الأحباش أن الاشتغال بعلم الكلام له معارضون كثر من السلف، ومن انتهج منهجهم، لهذا يأتي الأحباش بأدلة تبين أن الاشتغال بعلم الكلام لا شيء فيه، بل إن من أئمة السلف من اشتغل فيه….
ومن الأدلة التي ساقها الأحباش على جواز الاشتغال بعلم الكلام:
__________
(1) - سيأتي تفصيل هذا الأمر في أثناء هذا المبحث.
(2) - الرازي: محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي التيمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، الشافعي المعروف بالفخر الرازي، بابن خطيب الري (أبو عبد الله، فخر الدين، أبو المعالي) مفسر، متكلم، فقيه، أصولي، حكيم، أديب، شاعر، طبيب، مشارك في كثير من العلوم الشرعية والعربية والحكمية والرياضية، ولد 543 هـ بالري من أعمال فارس، و توفي بهراة 606 هـ. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 8/81–96، طبقات المفسرين للسيوطي ص100–101، شذرات الذهب لابن عماد 5/21–22، البداية والنهاية لأبي الفداء ابن كثير 13/55–56، الناشر: مكتبة المعارف، بيروت، ط الأولى 1966م.
(3) -انظر:الحبشي شذوذه وأخطاؤه لدمشقية ص97.
(4) - انظر المرجع السابق ص98.(1/123)
أن أصل هذا العلم كان موجوداً بين الصحابة متوفراً بينهم أكثر ممن جاء بعدهم؛ ثم يذكر الحبشي أسماء للصحابة والتابعين ممن خاضوا فيه -حسب زعمه- أمثال: ابن عباس، وابن عمر عندما ردوا على المعتزلة، وأيضاً الإمام علي -رضي الله عنه- عندما أقام الحجة على الخوارج وغيرهم، وكذلك عمر بن عبد العزيز، والحسن بن محمد بن الحنفية وغيرهما، وأيضاً ربيعة الرأي، والحسن البصري(1).
يدعي الحبشي أن الإمام الشافعي: "أتقن هذا العلم -علم الكلام- الذي لأهل السنة، قبل أن يتقن علم الفقه"(2)، أما ما يروى عن ذم علم الكلام عن الشافعي وغيره -كما يقول الحبشي- فالمراد به الكلام المذموم الذي يكون من أهل البدعة(3)، أو أن تكون تلك المقولة ضعيفة لا يُعتد بها(4).
ويدعي الحبشي أن الإمام مالك تكلم في علم الكلام(5)، ويزعم أن أبا حنيفة ألف في علم الكلام خمس رسائل، وأنه كان يذهب من بغداد إلى البصرة لمناظرة المعتزلة والمشبهة والملاحدة (6).
__________
(1) - انظر: صريح البيان للحبشي ص14-15.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص16، 105.
(3) -إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19 بتصرف، وانظر: المطالب الوفية للحبشي 18-116.
(4) - انظر: صريح البيان للحبشي ص15-17.
(5) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص20، المطالب الوفية للحبشي ص19.
(6) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص37، وانظر: صريح البيان للحبشي17-18، المطالب الوفية للحبشي18.(1/124)
يرى الحبشي أن علم الكلام يؤدي إلى الاستدلال على الصانع، وأن من لم يعرف قول ابن عباس (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق)(1)، لم يدر كيف يعمل بهذا الأثر(2).
يؤيد الحبشي الاشتغال بعلم الكلام، وإن لم ينقل عن أحد من الصحابة، أنه تلفظ بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال…، فيسلّم بهذا، ولكنه يستدل بأن هناك كثيراً من المصطلحات المستخدمة التي لم يتلفظ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته مثل: الناسخ والمنسوخ والمجمل والمتشابه…(3).
وكثيراً ما يستشهد الحبشي بهذه الأبيات من الشعر على صحة ما يذهب إليه من جواز الخوض في علم الكلام:
عاب الكلام أناس لا عقول لهم ... وما علمه إذا عابوه من ضرر
__________
(1) - صحيح الجامع الصغير وزياداته (الفتح الكبير) محمد ناصر الدين الألباني 1/572، قال عنه الألباني: حديث حسن، الناشر: المكتب الإسلامي، ط الثالثة 1408هـ-1988م، وبنحوه ح2974، 1/572، قال عنه الألباني: حديث صحيح، مسند الربيع: الربيع بن حبيب بن عمرو الأزدي البصري 1/311، تحقيق: محمد إدريس، عاشور بن يوسف، الناشر: دار الحكمة، مكتبة الاستقامة، بيروت، ط الأولى 1415هـ. البيان والتعريف إبراهيم بن محمد الحسيني 2/12، تحقيق: سيف الدين الكاتب، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت ط 1401 هـ.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19، انظر: صريح البيان للحبشي ص15، غاية البيان إعداد قسم الأبحاث ص6، مقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري- تقديم محمد الولي ص25.
(3) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص18-19، صريح البيان للحبشي ص13-14، المطالب الوفية للحبشي ص18، غاية البيان إعداد قسم الأبحاث ص5-6 ، مقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري- تقديم محمد الولي ص23-24.(1/125)
ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر(1)
عندما أراد الحبشي أن يستدل على جواز الاشتغال بعلم الكلام، جاء بأدلة -حسب ظنه- تفيد القطع بجواز الاشتغال بعلم الكلام، وعند التأمل في هذه الأدلة يُلاحظ أنها لا تقوى على الوقوف أمام الأدلة الصحيحة الصريحة، التي تمنع الاشتغال بعلم الكلام المذموم الذي سلكه الحبشي.
الرد على الأحباش فيما ساقوه من الأدلة الواهنة بالتالي:
ذكر الحبشي أن جمعاً من السلف من صحابة وتابعين اشتغلوا بعلم الكلام أمثال: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنهم- وغيرهم؛ ولا شك أن هذا أمر مبالغ فيه من قِبل (الحبشي)، حيث جعل الصحابة الكرام والتابعين يشتغلون بهذا العلم المذموم، بما يحتويه من أدلة توقع في الشك والظن والحيرة، وادعاء الحبشي هذا إنما هو من باب خلط الأمور بعضها ببعض والتلبيس على العامة، ليوجد لنفسه مخرجاً لما يقول.
وهناك تناقض وتضارب في أقوال الحبشي، حيث يدعي أن الصحابة اشتغلوا بهذا العلم أمثال: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر -رضي الله عنهم-، ثم يقول في موضع آخر: "وإن أريد به أنهم لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه الصناعة نحو الجوهر والعرض والجائز والمحال والحدث والقدم، فهذا مُسلّم"(2)، فيلاحظ عليه مرة يثبت الاشتغال بهذا العلم المذموم من قِبل الصحابة، وفي موضع آخر يعترف بأنهم لم يتحدثوا بهذا العلم، وإذا دخل الاحتمال إلى الدليل بطل الاستدلال به، فكيف إذا دخل التضارب والتناقض، والإمام السيوطي يقول في هذا "المحتمل لا يصلح حجة"(3).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص20، مقدمة -رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري- تقديم محمد الولي ص32.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص18.
(3) - الاجتهاد للسيوطي ص135.(1/126)
وأما إذا قصد الحبشي أن الصحابة، استخدموا الأدلة العقلية المستوحاة من الكتاب والسنة فهذا صحيح، ولا يعتبر هذا من علم الكلام المذموم الذي يدعو إليه الحبشي.
فمن المعلوم أنه لم يرد عن السلف الصالح أنهم تكلموا في ذلك(1)، حتى مع خصومهم في مناظراتهم -كما يدعي الحبشي- لأن الطرق الكلامية ما هي إلا تنطع وتشدد في غير موضعه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من ذلك بقوله: "هلك المتنطعون"(2)، أي: "المتعمقون في البحث والاستقصاء"(3).
__________
(1) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 7/172.
(2) - صحيح مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، ح2670، 4/2055، سنن أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، ح4608، 4/201، الناشر: دار إحياء الستة النبوية -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص205 .(1/127)
ويقال للحبشي: كيف اشتغل الصحابة بعلم الكلام، ولم يظهر هذا العلم إلا في عهد العباسيين، كما ينقل ذلك السيوطي عن الشيخ المقدسي(1) فيقول: "… فأول الحوادث التي أحدثوها -العباسيون- إخراج كتب اليونانية إلى أرض الإسلام فترجمت بالعربية، وشاعت بين أيدي المسلمين"(2)، ثم يبين -الشيخ المقدسي- بعد ذلك بداية المناظرات والجدل في الدين فيما لا ينبغي الكلام فيه، من خلال ما تم ترجمته من الكتب اليونانية، وتوفير الأجواء المناسبة لنشر هذا العلم(3).
وأيضاً يبطل زعم الحبشي، بجواز الاشتغال بعلم الكلام، نهي السلف عن الخوض في علم الكلام المذموم؛ ولقد صنف العلماء الكثير من الكتب في هذا الموضوع، يسردون أقوال السلف فيها من حيث النهي والنكير عن الخوض في علم الكلام، ومن هذه المؤلفات: كتاب ذم الكلام لشيخ الإسلام إسماعيل الهرري، وكتاب صون المنطوق الكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي، ونصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان لشيخ الإسلام ابن تيمية، كتاب الغنية عن الكلام وأهله لأبي سليمان الخطابي .
ومن أقوال السلف التي تنهى عن الخوض في علم الكلام، وتقبح من تكلم فيه:
__________
(1) - الشيخ المقدسي: الشيخ الإمام العلامة القدوة المحدث، مفيد الشام، شيخ الإسلام، أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود النابلسي المقدسي الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف والأمالي، ولد سنة 410هـ، توفي سنة 490هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 19/136-143، تبيين كذب المفترى عليه لابن عساكر ص286-287، شذرات الذهب لابن عماد 3/395-396.
(2) - صون المنطوق الكلام عن فن المنطق والكلام لجلال الدين السيوطي ص7، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - المصدر السابق ص8.(1/128)
قول الإمام مالك -رحمه الله- لأحد الرجال جاء يسأله في أحد المسائل الكلامية: "لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام"(1)، وقوله: "كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لجدله"(2)، وأيضاً قوله: "الكلام في الدين كله أكرهه… ولا أحب الكلام إلا فيما كان تحته عمل، فأما الكلام في الله فالسكوت عنه…"(3)، وهذه الأقوال للإمام مالك، تبين خطأ قول الحبشي بأن الإمام تكلم في علم الكلام(4)، إلا إذا قصد في ذم علم الكلام وأهله.
سُئل أبو حنيفة عما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام، فقال: "مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة، فإنه بدعة"(5)، وهذا يبين لنا ذم الإمام أبي حنيفة لعلم الكلام، ولا يعني أن أبا حنيفة ناظر المعتزلة وغيرهم، أنه مدح علم الكلام بل هذا يعني أنه ذم علم الكلام، لأن علم الكلام أصل من أصول المعتزلة، وإنما هو ناظرهم ليبطل أصولهم.
ويقال للحبشي: أين هذه الرسائل الخمس التي ألفها أبو حنيفة في علم الكلام؟ وما أسماؤها؟ ولماذا لم تنقل عنها في كتاباتك فتؤيد ما تقول وتبرهن على صحته؟ وخاصة أنك مشهور بكثرة النقول سواء الصحيح منها أو السقيم!! .
كان الشافعي -رحمه الله- ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء وذلك أن أحدهم إذا خالفه صاحبه، قال: كفرت، والعلم فيه إنما يقال: أخطأت(6).
__________
(1) - المصدر نفسه ص32-34.
(2) - شرح أصول الاعتقاد لللالكائي 1/ 144.
(3) - المصدر السابق 1/146.
(4) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص20، المطالب الوفية للحبشي ص20.
(5) - صون المنطق للسيوطي ص32.
(6) - شرح أصول الاعتقاد لللالكائي 1/145.(1/129)
ولقد تعددت النقول عن الإمام الشافعي، محذراً من علم الكلام مثل: "لأن يبتلي الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه، ما عدا الشرك خير له من الكلام"(1)، وقوله: "ولقد أطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول ذلك"(2)، وقوله: "ما تردى أحد في الكلام فأفلح"(3)، وقوله: "لو علم الناس ما في الكلام والأهواء، لفروا منه كما يفر من الأسد"(4)، وجاء في كتاب (تبيين كذب المفترى عليه) "وقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام، عيب المتكلمين، وذم الكلام، ولو لم يذمهم غير الشافعي -رحمه الله- لكفى؛ فإنه قد بالغ في ذمهم، وأوضح حالهم وشفى"(5).
وفيما سبق دليل على عدم صحة ادعاء الحبشي: بأن الشافعي تعلم علم الكلام قبل أن يتقن علم الفقه، ولا يوجد دليل على أن الشافعي تعلم علم الكلام المذموم الذي يقول به الحبشي، بل المتوفر من الأدلة أن الشافعي ذم علم الكلام ومن اشتغل به.
وأما تضعيف الحبشي لذم الشافعي لعلم الكلام(6) فهذا مردود عليه، بكثرة النقول عن الإمام الشافعي في ذمه لعلم الكلام في كتب السلف مثل: كتاب الغنية عن الكلام وأهله للخطابي، وكتاب ذم الكلام للهروي ، وكتاب نصيحة أهل الإيمان لابن تيمية، وكتاب صون المنطق للسيوطي…
__________
(1) - المصدر السابق 1/146.
(2) - تبيين كذب المفترى لابن عساكر ص335.
(3) - المصدر السابق ص335.
(4) - المصدر نفسه ص336.
(5) - المصدر نفسه ص333.
(6) - انظر: صريح البيان للحبشي ص15-17.(1/130)
وأما تأويل الحبشي لرواية الشافعي بذم الكلام يقصد بها أهل البدعة(1)، فهذا رأي صحيح، حيث إن أهل الكلام أهل بدعة،لأنهم يأتون بأشياء لم تعرف في الدين من قبل، وطريقتهم في استخدام علم الكلام في إثبات العقائد، طريقة موهمة تحتمل الخطأ، وبالتالي فإن أهل البدعة غير مقصورين على فترة معينة، بل هم كل من انتهج نهج المتكلمين الأوائل، فيعتبروا من أهل البدعة؛ وأما إذا أراد الحبشي بأهل الكلام هم (أهل البدعة) مقصورة على الخوارج والمعتزلة فقط، فهذا غير صحيح، لأن (أهل البدعة) مصطلح غير مقصور على فئة محددة .
لقد كره الإمام أحمد -رحمه الله- الكلام وأهله بشدة، وكان يقول: "لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود "(2)، وجاء عنه " لا يفلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة"(3).
قال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شراً، ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل"(4)، وعلم الكلام يقوم على الجدل، ولا خلاف في ذلك.
ما جاء عن أبي سليمان الخطابي في ذمه لأهل الكلام: "إن الشيطان استزلهم عن واضح الحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا عن حقائقها… ولما رأوا كتاب الله ينطق بخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض، وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم… ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولسنته المأثورة عنه…"(5).
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19، المطالب الوفية للحبشي ص18-19.
(2) - صون المنطق للسيوطي ص67.
(3) - تلبيس إبليس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص86، تحقيق: أيمن صالح، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1415هـ-1995م.
(4) - شرح أصول الاعتقاد لللالكائي 1/145.
(5) - درء التعارض لابن تيمية 7/281-282.(1/131)
ما نقله الإمام ابن حجر عن الإمام القرطبي في ذمه للكلام، قوله: "ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما: من مبادئه لكان حقيقاً بالذم، إحداهما: قول بعضهم أن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر… ثانيتهما: قول جماعة من أن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي رووها لم يصح إيمانه"(1).
قول تقي الدين السبكي(2) في نهيه عن الاشتغال بعلم الكلام: "لا تشتغل من العلوم إلا بما ينفع وهو القرآن والسنة والفقه وأصول الفقه والنحو، وبأخذها عن شيخ سالم العقيدة، وبتجنب علم الكلام، والحكمة اليونانية، والاجتماع بمن هو فاسد العقيدة أو النظر في كلامه، وليس على العقائد أضر من شيئين: علم الكلام والحكمة اليونانية، وهما في الحقيقة علم واحد، وهو العلم الإلهي، لكن اليونان طلبوه بمجرد عقولهم، والمتكلمون طلبوه بالعقل والنقل؛ وافترقوا ثلاث فرق: إحداها: غلب عليها جانب العقل، وهم المعتزلة؛ والثانية: غلب عليها جانب النقل، وهم الحشوية؛ والثالثة: استوى الأمران عندها، وهم الأشعرية . وجميع الفرق الثلاث في كلامها مخاطرة، إما خطأ في بعضه، وإما سقوط هيبة، والسالم من ذلك كله ما كان عليه الصحابة، والتابعون، وعموم الناس الباقون على الفطرة السليمة"(3).
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر 13/350.
(2) - تقي الدين السبكي: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى، تمام الأنصاري، الخزرجي، السبكي، الشافعي، (تقي الدين، أبو الحسن) عالم مشارك في الفقه والتفسير والقراءات والحديث والآداب والنحو واللغة والحكمة، ولد بسبك سنة 683هـ، وتوفي سنة 756هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/63-71، النجوم الزاهرة لابن تغري 10/318-319، معجم المؤلفين لكحالة 7/127.
(3) - إتحاف السادة المتقين للزبيدي 2/14.(1/132)
الإمام الزركشي(1) يرد على من قال بوجوب تعلم علم الكلام بقوله: "اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى، قد نطق به، لكن أورده الله تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين"(2).
وقد ذم ابن قتيبة علم الكلام بقوله: "وقد تدبرت رحمك الله مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون عن الله ما لا يعلمون، ويعيبون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل . ومعاني الكتاب والحديث، وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة، لا يدرك في الطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأبنية"(3).
يرى ابن خلدون في مقدمته، بأنه لا توجد ضرورة لعلم الكلام فيقول: "… وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام، غير ضروري لهذا العهد وعلى طالب العلم، إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا، وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته واطلاعه"(4).
__________
(1) - الزركشي: محمد بن بهادر بن عبدالله المصري الزركشي، الشافعي (بدر الدين، أبو عبدالله) فقيه، أصولي، محدث، أديب، تركي الأصل، مصري المولد، ولد سنة 745هـ، وتوفي سنة 794هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/397-398، معجم المؤلفين لكحالة 9/121-122.
(2) - البرهان للزركشي 2/14.
(3) - تأويل مختلف الحديث للإمام ابن قتيبة الدينوري ص35، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، ط الأولى 1408هـ-1988م.
(4) - المقدمة لابن خلدون ص370.(1/133)
وفيما سبق بيان شافٍ من علماء السلف الذين لم يشتغلوا بعلم الكلام، وعرفوا مساوئه ونهوا عنه، وقبحوا كل من اشتغل فيه(1).
ولكن هناك من العلماء من خاض فيه، ولكنه في نهاية أمره عندما أوشك على مفارقة الدنيا، أبدى ندمه وتراجعه عن الخوض في علم الكلام،ولم يكتفِ بالندم والرجوع، بل نصح تلاميذه بألا يخوضوا في هذا العلم، لما فيه من متاهات لا توصل إلى نتيجة مرضية للعقل، بل يبقى الإنسان المشتغل في هذا العلم في شك وحيرة واضطراب،ومن هؤلاء العلماء الذين صرحوا بذلك:
ما جاء عن الوليد بن أبان الكرابيسي(2) أحد المتكلمين، عندما حضرته الوفاة قال لبنيه: "تعلمون أحداً أعلم بالكلام مني ؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني، قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون، قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم" (3).
__________
(1) - لقد أورد الإمام السيوطي العشرات من الأقوال عن السلف في كتابه (صون المنطق) تذم هذا العلم وتحرمه، انظر(14 -200).
(2) - الوليد بن أبان الكرابيسي: الوليد بن أبان الكرابيسي المتكلم، أحد الأئمة، وهو أستاذ الحسين بن علي الكرابيسي، توفي سنة 214هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 10/548، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 13/471 ، معجم المؤلفين لكحالة 13/169-170، النجوم الزاهرة لابن تغري 2/210.
(3) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص88.(1/134)
وأبو المعالي الجويني من الذين تراجعوا عن علم الكلام، وأبدوا الندم عما سلف منهم، فيقول: "لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم، ركبت البحر الأعظم وغصت في الذين نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق، وهرباً من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل، بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني"(1)، وكان يقول لأصحابه: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به"(2).
وما جاء عن الوفاء ابن عقيل الظفري(3)، أنه قال لبعض أصحابه: "أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، وما عرفوا الجوهر، والعرض،فإن رضيت أن تكون مثلهم؛ فكن، وإن رأيت أن
طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر؛ فبئس ما رأيت"(4).
__________
(1) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص88، انظر: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للسيد نعمان خير الدين الآلوسي ص136، الناشر: دار الكتب العلمية -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، فتح الباري لابن حجر 13/350.
(2) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص88، انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص209، فتح الباري لابن حجر 13/350.
(3) - الوفاء ابن عقيل الظفري: الإمام العلامة، شيخ الحنابلة علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبدالله البغدادي الظَّفرَي، (أبو الوفاء) -وليس الوفاء كما ورد في المتن- الحنبلي المتكلم، ولد سنة 431هـ، وتوفي سنة 513هـ، أخذ علم العقليات عن شيخي الاعتزال أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان صاحبي أبي الحسين البصري، فانحرف عن السنة. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 4/35-40، النجوم الزاهرة لابن تغري 5/219، سير الأعلام للذهبي 19/ 443 -451.
(4) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص88.(1/135)
وكذلك ما جاء عن أبي عبدالله محمد بن عمر الرازي أنه قال في كتابه (أقسام اللذات): "… لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن…"(1)
وقال الشيخ الشهرستاني: " إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم"(2).
وأيضاً ما قاله الخوفجي(3) عند موته: "ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً"(4)،، وقال آخر: "أضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي وأقل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء"(5).
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص208، انظر: جلاء العينين للآلوسي ص136.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص209.
(3) - الخوفجي: القاضي المتكلم الباهر أفضل الدين أبو عبدالله محمد بن ناماور بن عبد الملك، الخونجي الشافعي -وليس الخوفجي كما ورد في المتن-، نزيل مصر، ولد سنة 590هـ، وتوفي سنة 646هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 5/236، البداية والنهاية لابن كثير 13/175، سير الأعلام للذهبي 23/228.
(4) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص209.
(5) - المصدر السابق ص209.(1/136)
ويضاف إلى ما سبق ما جاء في وصف حال الآمدي(1) بأنه وقف حائراً بسبب الاشتغال بهذا العلم(2)، وكذلك الغزالي، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق، وأقبل على أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فمات وصحيح الإمام البخاري على صدره(3)؛ ويبين الغزالي رأيه بعلم الكلام بقوله:"… أما مضرته: فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم، والتصميم فذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد الحق. وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة… وأما منفعته: فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف…"(4)
وفي الأقوال التي ذكرت فيما سبق دليل على وجوب الانتهاء عن الخوض في علم الكلام، لما يسببه من الحيرة والاضطراب وسوء المنقلب .
__________
(1) - الآمدي: العلامة المصنف فارس الكلام سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي الآمدي الحنبلي ثم الشافعي، ولد سنة نيف وخمسين وخمس مائة، وتوفي سنة إحدى وثلاثين وست مائة. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 3/293-294، البداية والنهاية لابن كثير 13/140-141، شذرات الذهب لابن عماد 5/ 142-144، سير الأعلام للذهبي 22/365-367.
(2) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص208.
(3) - المصدر السابق ص208.
(4) - إحياء علوم الدين للغزالي 1/89-90.(1/137)
... علم الكلام لا فائدة فيه في إثبات العقائد، بخلاف ما يدعيه الحبشي بأن علم الكلام يؤدي إلى الاستدلال على الصانع(1)، فهذا كلام يحتوي على مغالطات، لأن الحبشي يخوض في علم الكلام المذموم، وهذا العلم لا يؤدي إلى الاستدلال على الصانع، بل يؤدي إلى الحيرة والاضطراب والشك، بل قد يؤدي أحياناً إلى الإلحاد، وهذا ما يؤكده علماء السلف، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك، وإما متناقض يقول قولاً ما يناقضه فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما، لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام، أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة وعقائد غير مطابقة، وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية وأدلة يقينية، فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها، ويبينون أنها شبهات فاسدة، وحجج عن الحق حائدة"(2).
وقول القرطبي: "وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون في العبادات"(3)، إذاً: كيف يؤدي علم الكلام إلى الاستدلال على الصانع؟!!، وهو يؤدي إلى الاختلاف في الأصول وليس في الفروع، ويوضح ابن قتيبة هذا الأمر بقوله: "ولو كان اختلافهم في فروع السنن، لا تسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم،مع ما يدعون لأنفسهم … ولكن اختلافهم في التوحيد في صفات الله تعالى وقدرته…"(4).
وأما استدلال الحبشي بقول ابن عباس (تفكروا في الخلق، ولا تفكروا في الخالق)(5)، لا يوجد به أي دليل على جواز الاشتغال بعلم الكلام .
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19، صريح البيان للحبشي ص15.
(2) - درء التعارض لابن تيمية 7/283-284.
(3) - فتح الباري لابن حجر 13/350.
(4) - تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص35.
(5) - سبق تخريجه، انظر: ص74.(1/138)
وإن ظن الحبشي أن المنع من الاشتغال بعلم الكلام بسبب الألفاظ المحدثة، التي تستخدم في هذا العلم، كالجوهر والعرض والجائز والمحال، فهذا قول في غير موضعه، وإن كانت هذه الألفاظ تحمل في طياتها معاني موهمة، تؤدي أحياناً إلى الضلال، ولكن سلف الأمة كرهوا علم الكلام وذموه، لأجل ما فيه من المعاني الباطلة، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة، كلفظ: الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم، من الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ على معانٍ مجملة في النفي والإثبات…"(1)
ويستدل كثيراً الحبشي وتلاميذه بهذه الأبيات من الشعر، ليدللوا على جواز الاشتغال بعلم الكلام:
عاب الكلام أناس لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى في الأفق طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر(2)
وهذه الأبيات من الشعر ليست بدليل يستند عليه على جواز الاشتغال بعلم الكلام، إذ يوجد الكثير من أبيات الشعر تذم علم الكلام، ولإبطال حجة الحبشي، إليه هذه الأبيات المتفرقة التي أنشدها علماء الكلام ندماً وتوبة على خوضهم في هذا العلم:- قول الرازي في ذمه لعلم الكلام:
نهاية إقدام العقول عِقال ... ... و غاية سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... ... و حاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثتا طول عمرنا ... ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا(3)
وما أنشده الشهرستاني من شعر يبدي ندمه وحيرته:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... و سيرت طرفي بين تلك المعالم
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/191.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص20.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص208، انظر: جلاء العينين للآلوسي ص136.(1/139)
فلم أرى إلا واضعاً كف حائرٍ ... على ذقنٍ أو قارعاً من نادم(1)
وما جاء عن ابن أبي الحديد(2) الفاضل المشهور بالعراق:
فيك يا أغلوطة الفكر ... ... حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ... ... ربحت إلا أذى السفر
فلحى الله الأولى زعموا ... ... أنك المعروف بالنظر
كذبوا أن الذي ذكروا ... ... خارج عن قوة البشر(3)
وأيضاً ما جاء عن الشيخ الفتح القشيري(4) -رحمه الله-:
تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا ... وسافرت واستبقتهم في المفاوز
وخضت بحاراً ليس يدرك قعرها ... وسيرت نفسي في قسيم المفاوز
ولججت في الأفكار عم تراجع اختياري إلى استحسان دين العجائز(5)
وهذه الأبيات من الشعر تبطل استدلال الحبشي بالشعر في مدحه للكلام من خلال ذم من يقول بذمه.
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص209، انظر: جلاء العينين للآلوسي ص136.
(2) - ابن أبي الحديد: الشيخ، العدل، المرتضى، الرئيس أحمد بن عبد الواحد ابن المحدث أبي بكر محمد بن أحمد بن عثمان بن أبي الحديد، السُّلمي، الدمشقي (أبو الحسن)، توفي سنة 469 هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 3/332-333، سير الأعلام 18/418-419.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص209.
(4) - الفتح القشيري: هو أبو الفتح -وليس الفتح كما ورد في المتن- محمد بن علي بن وهب بن مطيع، الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين (أبو الفتح) ابن دقيق العيد، القشيري، المنفلوطي، المصري، المالكي، الشافعي، كان إماماً متقناً، محدثاً، مجوداً، فقيهاً، مدققاً، أصولياً، أديباً، شاعراً، نحوياً، ذكياً، غواصاً على المعاني مجتهداً، وافر العقل، ولد سنة 625هـ، وتوفي سنة 702هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 4/91-96، شذرات الذهب لابن عماد 6/5، الأعلام للزركلي 6/283.
(5) - جلاء العينين للآلوسي ص135.(1/140)
ويؤخذ على الحبشي،أنه في استدلاله بهذه الأبيات من الشعر، قدحه في أئمة السلف من الأئمة الأربعة وغيرهم، الذين ذموا علم الكلام، وذلك عندما وصف من يعيب علم الكلام بأنه لا عقل له.
وإضافة إلى ما سبق، يوجه الذم لعلم الكلام لما يأتي:
يسلك فيه أصحابه طرقاً غير مستقيمة، ويستدلون بقضايا متضمنة للكذب، وبالتالي خالف أهل الكلام الكتاب والسنة، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "اتفق سلف الأمة وأئمتها، على ذمه -علم الكلام- والنهي عنه وتجهيل أصحابه، وتضليلهم حيث سلكوا في الاستدلال طرقاً ليست مستقيمةً،واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة، وصرائح المعقول، فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم وأحكامهم ودلائلهم"(1).
ومن طرقهم غير المستقيمة في الاستدلال، إعراضهم عن النصوص الشرعية، ويستدلون على صحة أقوالهم بغير الكتاب والسنة، ويقول القرطبي: "وأفضى الكلام بكثيرٍ من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلبهم حقائق الأمور من غيره"(2).
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 7/144.
(2) - فتح الباري لابن حجر 13/350.(1/141)
ويذم علم الكلام لأن كثيراً من المتكلمين وخاصة المتأخرين منهم، يعتبرونه أصلاً من أصول الدين، وبالتالي من خالف هذا العلم ونقدهم، فيعتبرونه قد خالف الإسلام، أي اعتبروا هذا العلم يمثل الدين، وفي هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "والمقصود أن هذه الطريقة الكلامية، التي ابتدعها الجهمية والمعتزلة، وأنكرها سلف الأمة وأئمتها، صارت عند كثير من النظار المتأخرين هي دين الإسلام، بل يعتقدون أن من خالفها، فقد خالف دين الإسلام، مع أنه لم ينطق بما فيها من الحكم والدليل، والدليل لا آية في كتاب الله، ولا خبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من الصحابة والتابعين، فكيف يكون دين الإسلام، بل أصل أصول دين الإسلام، ما لم يدل عليه لا كتاب ولا سنة، ولا قول أحد من السلف"(1).
وذكر (د. عبد الرحمن عميرة) في مقدمته على كتاب (شرح المقاصد) الأدلة على عدم أهمية علم الكلام، وذمه، فقال: "يرى بعض العلماء أن العقائد ثابتة في القرآن، وأوضحتها السنة النبوية، فلا حاجة إذن إلى علم الكلام، هذا على اعتبار أن علم الكلام: هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير، بإيراد الحجج، ودفع الشبه…
ويقولون أيضاً: لو كان علم الكلام هدى ورشاداً، لتكلم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه وأصحابه، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت حتى تكلم في كل ما يحتاج إليه من أمور الدين، وبينه بياناً شافياً، ولم يترك بعده لأحد مقالاً، فيما للمسلمين إليه حاجة من أمور دينهم، وما يقربهم إلى الله عز وجل، ويباعدهم عن سخطه، فلما لم يرووا عنه الكلام في شيء مما علمنا صلى الله عليه وسلم أن الكلام فيه بدعة والبحث عنه ضلالة، لأنه لو كان خيراً لما فات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولتكلموا فيه.
__________
(1) - منهاج السنة لابن تيمية 1/315-316. تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط الثانية 1409هـ-1989م.(1/142)
وقالوا أيضاً: ولأنه ليس يخلو ذلك من وجهين: إما أن يكونوا علموه فسكتوا عنه، أو لم يعلموه بل جهلوه، فإن كانوا علموه ولم يتكلموا فيه، وسعنا نحن أيضاً السكوت عنه، كما وسعهم السكوت عنه، وسعنا ترك الخوض فيه، كما وسعهم ترك الخوض فيه، لأنه لو كان من الدين ما وسعهم السكوت عنه، وإن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله، كما وسع أولئك جهله،
لأنه لو كان من الدين لم يجهلوه، فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة والخوض فيه ضلالة"(1).
... وبعد هذا العرض يتبين لكل ذي بصيرة، أن علم الكلام مذموم،ومن ضمنه الذي خاض فيه الحبشي، وإن كان يطلق عليه ألقاب محببة للنفس، والذامون له لسببين:إما لأنه بدعة أو أنه مشتمل على مقامات باطلة، وهذا ما يوضحه شيخ الإسلام -ابن تيمية- بقوله: "وهذه الطريقة هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له… والذامون لها نوعان: منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام، فإننا نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع الناس بها، ولا الصحابة، لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، فصار السالك فيها، كراكب البحر عند هيجانه… ومنهم من ذمها لأنها مشتملة على مقامات باطلة، لا تُحصَّل لمقصود تناقضه…"(2).
المطلب الرابع: العقل أصل الشرع عند الأحباش:
__________
(1) - مقدمة كتاب -شرح المقاصد للإمام سعد الدين التفتازاني- تحقيق وتعليق مع مقدمة في علم الكلام: د. عبد الرحمن عميرة 1/32-33،الناشر:عالم الكتب،بيروت، ط الأولى 1409هـ-1989م. وانظر: الشريعة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري ص62-64، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1403هـ-1983م.
(2) - كتاب الصفدية لابن تيمية 1/275، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، -بدون ناشر أو رقم طبعة- 1406هـ.(1/143)
... إن الأحباش يعولون كثيراً على العقل في إثبات الشرع، وهذا يظهر واضحاً من خلال تعريف الحبشي لعلم الكلام، بأن العقل شاهد للدين(1).
ولا يقف عند هذا الحد، بل يقول في موضع آخر: "إن الشرع إنما ثبت بالعقل، فلا يتصور وروده بما يكذب العقل، فإنه شاهده، فلو أتى بذلك يبطل الشرع والعقل معاً"(2).
... وهذا الأمر واضح في معتقدات الأحباش، حيث يقدمون العقل على النقل في إثبات المعتقدات، بل أحياناً ينفون بعض النصوص الشرعية ويحكمون عليها بالضعف، وببطلان الاستدلال بها، أو يقومون بتأويلها بسبب عدم قبول العقل -حسب زعمهم- لما يرد في النصوص الشرعية، وخاصة آيات وأحاديث الصفات(3).
وهذا نفسه الذي قال به المتكلمون، ولكن السلف ردوا على ذلك بما يلي:
"إذا تعارض النقل والعقل، إما أن يريد به القطعيين، فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ، وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدم هو الراجح مطلقاً، وإما أن يريد أحدهما: قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقاً، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي، كان تقديمه لكونه قطعياً، لا لكونه عقلياً، فعلم أن تقديم العقل مطلقاً خطأ، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ"(4).
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص19.
(2) - غاية البيان إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص8.
(3) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص310-311، 131، المطالب الوفية للحبشي ص151، الشرح القويم للحبشي ص96، غاية البيان إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص53، 57، تفنيد مزاعم المدعى إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص71.
(4) - درء التعارض لابن تيمية 1/86-87.(1/144)
"كل ما عارض الشرع من العقليات، فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل، وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع، وهذه الجملة تفصيلها هو الكلام على حجج المخالفين للسنة من أهل البدع، بأن نبين بالعقل فساد تلك الحجج وتناقضها… ومن تأمل ذلك وجد في العقول ما يُعلم به فساد المعقول المخالف للشرع ما لا يعلمه إلا الله تعالى"(1).
"أن يقال: الأمور السمعية التي يقال (إن العقل عارضها) كإثبات الصفات والمعاد ونحو ذلك، هي مما عُلم بالاضطرار أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء بها، وما كان معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام، امتنع أن يكون باطلاً مع كون الرسول -رسول الله- حقاً، فمن قدح في ذلك، وادعى أن الرسول لم يجيء به، كان قوله معلوم الفساد بالضرورة من دين المسلمين"(2).
ويقال أيضاً أن العقل ميزان صحيح، لكن لا يمكن وزن كل الأمور فيه، وخاصة الآخروية والغيبية، لأنها فوق طاقته، وفي هذا يقول ابن خلدون: "… بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال…"(3).
"لو قد عارض العقل الشرع لوجب تقديم الشرع. لأن العقل قد صدق الشرع، ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدق الشرع، موقوف على كل ما يخبر به العقل"(4).
وبالتالي لا يمكن تقديم العقل على الشرع، لأنه لا يمكن أن يتناقض صحيح النقل مع صريح العقل(5).
__________
(1) - المصدر السابق 1/194.
(2) - المصدر نفسه 1/195.
(3) - المقدمة لابن خلدون ص364.
(4) - مختصر الصواعق لابن القيم 1/104.
(5) - لمزيد من الردود على من قدم العقل على النقل. انظر: درء التعارض لابن تيمية 1/87-320، مختصر الصواعق لابن القيم 1/91-142.(1/145)
... وبعد هذا العرض لعلم الكلام عند الأحباش، يتبين لنا بصورة لا شك فيها، أن علم الكلام الذي يتحدث عنه الحبشي ويدعو إلى الخوض فيه، إنما هو علم الكلام المذموم، الذي نهى عنه سلف الأمة.
ومن يستخدم هذا العلم في مناظراته حتى ولو مع الكفار وأهل الأهواء فقد ظلمهم به، وظلم به المؤمنين جميعاً، لأنه يأتي بخلاف ما عليه الشرع، وهذا ما صرح به ابن تيمية بقوله: "فهكذا أجاب أهل الكلام الذين تكلموا في مناظرة الكفار وأهل الأهواء في المذاهب والحجج بما ليس موافقاً الشريعة، وما يذكره العقل الصريح، فصاروا كمن جاهد الكفار جهاداً ظلمهم، وخرج فيه عن الشريعة، وظلم المؤمنين جميعاً، حتى كان مضرة ذلك الجهاد على المسلمين وعلى أنفسهم، وعلى عدوهم أكثر من منفعته"(1).
وبعد هذا العرض يمكن بيان منهج السلف في تقرير العقيدة، وهي كالتالي:
المصادر التي اعتمدوا عليها في تقرير العقيدة:
- كتاب الله- السنة النبوية- إجماع السلف- العقل- الفطرة السليمة.
الضوابط التي تضبط دراسة مسائل العقيدة وتبين منهجهم:
الاعتماد على الكتاب والسنة.
عدم رد شيء أو تأويله مما ورد في الكتاب والسنة.
الاعتماد على فهم السلف لنصوص الكتاب والسنة.
وحدة الاعتقاد.
عدم الاعتماد على الطرق الكلامية في إثبات وفهم مسائل الاعتقاد.
تحديث الناس بما يعرفون.
المبحث الأول: موقف الأحباش من وجود الله
__________
(1) - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية أو نقض تأسيس الجهمية لأحمد بن تيمية 1/122، الناشر: مؤسسة قرطبة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/146)
اهتم الأحباش بإثبات وجود الله ، وجعلوه أصلاً من أصول العقيدة، حيث يقول الحبشي: "الأصل الذي تبنى عليه العقيدة الإسلامية معرفة الله ،ومعرفة رسوله، فمعرفة الله هو العلم بأنه تعالى موجود"(1)، وهذه المعرفة يجعلها الأحباش أول ما يجب على المكلف، حيث يقول الحبشي: "إن أول ما يجب على الإنسان معرفة الله ومعرفة رسوله…"(2)، وبالتالي فإن المعرفة هي أول ما يجب على المكلف عند الأحباش(3).
ويعتبر الحبشي أن الله موجود أزلاً وأبداً ، فيقول: "أن الله تعالى موجود أزلاً وأبداً ، فليس وجوده تعالى بإيجاد موجد"(4)، ولهذا يصفه الأحباش بأنه أزلي أبدي، وهذا يتضح جلياً من خلال تقسيم الحبشي للموجود ثلاثة أقسام:" الأول: أزلي أبدي: وهو الله تعالى فقط، أي لا بداية ولا نهاية لوجوده، الثاني: أبديٌ لا أزلياً …، الثالث: لا أزلي ولا أبدي …"(5).
ويثبت الأحباش وجود الله من خلال طريقين هما: النقل والعقل، ولكن التركيز على الأدلة العقلية أكثر.
__________
(1) - شرح الصفات الثلاث عشرة للحبشي ص7، انظر: الشرح القويم للحبشي ص118.
(2) - بغية الطالب للحبشي ص8، انظر: صريح البيان ص85-87.
(3) - يسعى الأحباش جاهدين لنشر الفكر الأشعري بكل دقائقه من خلال نشرهم لكتب التراث الأشعري، مثل كتاب (منتخب حدائق الفصول) لمكي الحموي، وفيه جاء أن أول ما يجب على المكلف النظر، على شكل أبيات من الشعر قال فيها المؤلف: أول واجب على المكلَّفِ ... البالغ العاقل فافهم تكتفِ
... ... ... ... معرفة الله وقدس ذاته وكل ما يجوز من صفاته
انظر: منتخب حدائق الفصول وجواهر الأصول -في علم الكلام على أصول أبي الحسن الأشعري- لتاج الدين محمد بن هبة الله المكي الحموي ص29، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر، ط الأولى 1416هـ-1996م. ...
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص30، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص117-118.
(5) - الصراط المستقيم للحبشي ص23، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص90-91.(1/147)
أما الأدلة النقلية على وجود الله،فيوردها الحبشي كالتالي،حيث يقول:"فيجب اعتقاد أنه تعالى موجود في الأزل أي لا ابتداء لوجوده، قال تعالى: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } [إبراهيم:10]، وقال: { هُوَ الْأَوَّلُ } [الحديد:3]"(1)،ثم يبين المقصود بالآيتين السابقتين بقوله:"هو الذي لا ابتداء لوجوده"(2).
ومن الأدلة النقلية التي يوردها الحبشي لإثبات وجود الله، قوله تعالى: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [الذاريات:21]،ويعلق عليها الحبشي بقوله:"أي أن في أنفسكم دليلاً على وجود الله"(3).
__________
(1) - شرح الصفات الثلاث عشرة للحبشي ص7.
(2) - المصدر السابق ص8.
(3) - شرح الصفات الثلاث عشرة للحبشي ص13.(1/148)
ومن الأحاديث الواردة في السنة النبوية ما يرويه "البخاري في الصحيح والبيهقي، وأبو بكر ابن الجارود(1)، عن عمران بن الحصين (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءه قومٌ من أهل اليمن فقالوا:يا رسول الله : جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن بدء هذا الأمر ما كان، وفي لفظ (عن أول هذا الأمر)، قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه علي الماء وكتب في الذكر كل شيء)(2) كان سؤالهم عن أول العالم، ثم الرسول أجابهم بما هو أهم من ذلك وهو قوله: (كان الله ولم يكن شيء غيره) أي أن الله موجود في الأزل، لا ابتداء لوجوده، ولم يكن في الأزل معه شيء، أي: لا زمان ولا مكان، ولا أجرام"(3).
ويرى الحبشي أنه لا بد من الاستدلال بأدلة عقلية على وجود الله ، ويعتبر الاستدلال العقلي واجباً فيقول: "ولكنهم -أهل الحق كما يسميهم الحبشي-يرون الاستدلال على وجود الله تعالى بدليل عقلي،ولو كان إجمالياً واجباً"(4)
ومن الأدلة العقلية التي يسوقها الحبشي للاستدلال بها على وجود الله قوله: "كأن يقال: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، فلا بد له من محدثٍ، وهذا المحدث، هذا الموجد هو الذي يسمى الله ، فإن من نظر في عقله نظراً صحيحاً يدله على ذلك"(5)، وهذا ما يسمى عند المتكلمين بدليل الحدوث.
__________
(1) - أبو بكر بن الجارود : هو أبو محمد، عبدالله بن علي بن الجارود النيسابوري الحافظ، صاحب (المنتقى في السنن)، ولد سنة 230هـ، وتوفي سنة 307هـ، -وليس هو أبو بكر بن الجارود كما ذكر الحبشي-ولا يوجد أحد غيره اسمه أبو بكر بن الجارود، يروي الحديث بالسند، ومع ذلك لم أجد الحديث في المنتقى. انظر: سير الأعلام للذهبي 14/239 ، تذكرة الحفاظ للذهبي 3/794-795.
(2) - صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق ، باب قوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده)، ح3191 ، 4/86-87.
(3) - شرح الصفات الثلاث عشرة للحبشي ص8.
(4) - المصدر السابق ص9.
(5) - المصدر نفسه ص9.(1/149)
ويثبت الحبشي وجود الله من خلال توهمه لمناظرة مع عابد شمس يريد أن يثبت له وجود الله بالأدلة العقلية، فيقول لهذا الملحد -المتوهم-:"… معبودك هذا له حد وشكل، فيحتاج إلى من جعله على هذا الحد والشكل، والمعبود الحق، هو الموجود الذي ليس له حدٌ ولا شكل، فلا يحتاج إلى غيره، أما معبودك الذي هو الشمس فلا يصح في العقل، أن يكون هو أوجد نفسه على هذا الحد وهذا الشكل، إنما الذي يستحق أن يُعبد هو معبودنا الذي موجود لا كالموجودات، فهنا ينقطع عابد الشمس"(1).
ومن الأدلة العقلية التي يذكرها الحبشي للاستدلال على وجود الله ، نقلاً عن بعض علماء العقيدة -كما يقول- "أن يقال: أنا كنت بعد أن لم أكن، وما كان بعد أن لم يكن فلا بدَّ له من مكون، فأنا لا بُدَّ لي من مكون، يستنتج من هذا القول أن ذلك المكون، لا يكون شبيهاً لي ولا لشيءٍ ما من الحادثات التي هي مشاركةٌ لي في الحدوث، وهذا المكوّن هو المسمى الله"(2).
__________
(1) - شرح الصفات الثلاث عشرة للحبشي ص12.
(2) - المصدر السابق ص13.(1/150)
وأيضاً من الأدلة على وجود الله -كما يسوقه الحبشي- هذا العالم -أي حدوثه- فيقول:" الله موجود لا شك في وجوده، قال تعالى: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } [إبراهيم:10]، أي لا شك في وجوده، وهذا العالم دليل على وجود الله تبارك وتعالى، لأنه لا يصح في العقل وجود فعل ما من غير فاعل، كما لا يصح نسخ وكتابة من غير ناسخ وكاتب، فهذا العالم لا بد له من خالق من باب أولى وهو الله تعالى"(1)، ويرى الأحباش أن الله في وجوده لا يحتاج إلى شيء من المخلوقات، وبالتالي يطلقوا عليه واجب الوجود "الله تعالى هو الذات الواجب الوجود، الذي وجوده بذاته، ولا يحتاج إلى شيء أصلاً،لأنه لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم، فلا يصلح محدثاً للعالم"(2) أي سيكون حادثاً وبالتالي فلا يصلح أن يكون محدثاً للعالم وهذا باطل.
... بعد هذا العرض لموقف الأحباش من وجود الله، يؤخذ عليهم: أنهم جعلوا أول واجب على المكلف معرفة الله(3)، وهذا أمر رده السلف بأن أول واجب على المكلف الشهادتين المتضمنتين توحيد الألوهية والربوبية، وهذا ما قال به شيخ الإسلام ابن تيمية، ويستدل على صحة ما ذهب إليه بأدلة منها:
__________
(1) - بهجة النظر -في ما يزيد على أربعمائة سؤال في متن المختصر- إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص9-10، الناشر:دار المشاريع للطباعة والنشر، بيروت، ط الحادية عشرة 1418هـ-1997م.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص33.
(3) - انظر: بغية الطالب للحبشي ص8، صريح البيان للحبشي ص85-87.(1/151)
ما جاء في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-، "لما بعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)(1)، وكذلك سائر الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- موافقة لهذا "(2)، والشاهد في الحديث لفظة(أول) من قوله -صلى الله عليه وسلم- (فليكن أول ما تدعوهم إليه) فيظهر من قوله -صلى الله عليه وسلم- أن أول ما يجب على المكلف الشهادتين وليس المعرفة التي قال بها الأحباش وسلفهم من الأشاعرة المتكلمين حيث أن منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام - أنهم " يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرف ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع، وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات الأوائل، ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد في الفقراء حيث كانوا ح1496، 1/165، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام ح29، 1/50.
(2) - درء التعارض لابن تيمية 8/6-7.
(3) - المصدر السابق 8/21.(1/152)
وبعد أن يتحدث ابن تيمية -رحمه الله- عن قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56]، يعقب بقوله: "والمقصود هنا أنه من المعروف عن السلف والخلف أن جميع الجن والأنس معترفون بالخالق مقرّون له، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم وإن قدّر أنه حصل بسبب، كما اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم . وهذا الإقرار والشهادة المذكورة في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف:172]"(1)، وبهذا يتبين أن الإقرار بالخالق هو أمر فطري لدى الإنس والجن دون اللجوء إلى طريقة المتكلمين لمعرفة الله بالنظر، وقول الله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق:1]، حيث أن "هذه الآية مما يستدل به على ذلك، فإن أول ما أوجب الله على رسوله، وعلى المؤمنين هو ما أمر به في قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق:1]"(2).
وهذا شارح الطحاوية يبين أول ما يجب على المكلف بقوله:"أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر،ولا القصد إلى النظر،ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم"(3).
__________
(1) - المصدر نفسه 8/482.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 16 / 191 .
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص78.(1/153)
ويضاف إلى ما سبق إجماع سلف الأمة، على أن أول ما يدعى إليه غير المسلم إلى هذا الدين هو: الشهادتان، ويوضح هذا الأمر ابن تيمية بقوله: "وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما عُلم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين سواء كان معطلاً أو مشركاً أو كتابياً، وبذلك يصير الكافر مسلماً، ولا يصير مسلماً بدون ذلك"(1).
ومما يظهر فساد قول الحبشي بأن أول ما يجب على المكلف معرفة الله -بالإضافة إلى ما سبق- ما نقل عن حذاق الأشاعرة وأكابرهم مثل: الرازي حيث صرح في كتابه (نهاية العقول) بقوله: "وبهذا يتبين خطأ قول من زعم أن أول الواجبات القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم"(2)، ويعقب ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "هذا القول الذي خطّأه الرازي هو الذي ذكره أبو المعالي في أول (الإرشاد)(3) كما ذكره طوائف من أهل الكلام: المعتزلة وغيرهم، وهو قول من وافقه على هذا من المنتسبين إلى الأشعري"(4).
وما نقل أيضاً عن الآمدي في كتابه المسمى (إبكار الأفكار) في مسألة وجوب النظر في رده على من قال:"أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال"(5) فقال في جوابه على منازعه "قولهم:لا نسلم توقف المعرفة على النظر،قلنا:نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله بغير النظر،وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر،فالنظر في حقه غير واجب"(6)،وفي هذا بيان بأن طرق المعرفة كثيرة وحصرها في أول واجب للمكلف بالنظر المؤدي إلى المعرفة غير صحيح.
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 8/7.
(2) - المصدر السابق 5/290.
(3) - انظر: الإرشاد للجويني ص25.
(4) - درء التعارض لابن تيمية 5/290، وانظر: المصدر السابق 7/355.
(5) - المصدر نفسه 7/356.
(6) - المصدر نفسه 7/356.(1/154)
... ومما يؤخذ على الحبشي في إثباته لوجود الله، استخدامه للأدلة العقلية، التي استخدمها المتكلمون بحيث جعلوها ركيزة أساسية في إثبات وجوده سبحانه وتعالى،ومن هذه الأدلة العقلية: دليل الحدوث(1)، ودليل
__________
(1) - دليل الحدوث: "المراد بالحدوث حدوث الجواهر والأعراض، إن المتكلمين يرون أنه لا بد من إثبات حدوث العالم قبل إثبات وجود الله تعالى، ولهم في إثبات حدوث العالم أصول يقررونها، ومن ثم يثبت حدوث العالم، …يرتكز الدليل على إثبات أصول:1- ثبوت الأعراض. 2-حدوث الأعراض.3-عدم تعري الجواهر عن الأعراض، لأن العرض لا يقوم بنفسه، ولا يقوم بعرض مثله. 4-استحالة حوادث لا= =أول لها. 5-ما لا يخلو من الحادث فهو حادث. ويلاحظ أن المتكلمين بنوا طريقهم في إثبات وجود الله تعالى على حدوث العالم. وذلك أن الحدوث في رأيهم هو العلة المحوجة إلى المؤثر". مناهج الإسلاميين في إثبات وجود الله ووحدانيته دراسة ونقداً د. صالح حسين الرقب 1/338 (مخطوط)1412هـ.(1/155)
الإمكان(1)، ودليل السببية(2)؛ والدليلان الأخيران يعتبران جزءاً من دليل الحدوث.
والحبشي عندما جاء بأدلة عقلية ليثبت من خلالها وجود الله ، لم يقم بتصنيف هذه الأدلة، كما فعل المتكلمون وإنما سردها دون ذكر تسمية لها، ولهذا سيتم مناقشته وفق منهجه في سرد الأدلة دون ذكر التسمية للأدلة كما فعل المتكلمون، وخاصة أن الدليلين الثاني والثالث يرجعان في المعنى إلى الدليل الأول وهو دليل الحدوث.
والأدلة العقلية التي استخدمها الحبشي وجهت لها العديد من الانتقادات منها ما يلي :
__________
(1) - دليل الإمكان: "يتلخص هذا الدليل في أن إمكان الممكنات يدل على وجود مرجح لأحد طرفي الإمكان، وهذا المرجح هو واجب الوجود لذاته. ويلاحظ أن دليل الإمكان يعتمد على فكرة حدوث العالم التي جاءت في الدليل السابق (دليل الحدوث)، وإنه مبني على مقدمتين: المقدمة الأولى: أن العالم بجميع ما فيه جائز وجوده وعدمه، وجائز وقوعه على غير ما هو عليه، والثانية: أن الجائز حادث، وأن النتيجة التي يتوصل إليها وهي أن الجائز الممكن يفتقر إلى المخصص الذي خصه بالوقوع، وهذا المخصص هو الله الخالق المختار المريد ". مناهج الإسلاميين د. الرقب 1/349 (مخطوط).
(2) - دليل السببية: "ويسمى هذا الدليل بدليل العلية. ويقوم على مبدأ: أن لكل سبب مسبباً، وأن لكل معلول علة، وهناك علاقة وثيقة بين دليل الحدوث ودليل السببية. فالعالم إذا ثبت أنه حادث، وأنه لم يحدث نفسه أو يصلح ما فسد منه، فلا بد من علة هو معلول لها، أو لا بد له من موجد يكون وجوده به، وإذا كان العالم في حركة وتحول وتغير فلا بد لهذه الأمور من أسباب تنشأ عنها وهذه الأسباب لا بد لها من سبب أصيل نشأت عنه… فدل ذلك على وجود المحدث المختار عز وجل ". مناهج الإسلاميين د. الرقب 1/357-358 (مخطوط).(1/156)
أن ما قال به من أدلة تثبت وجود الله وهي من خصوصيات الرسالة التي جاء الرسل لتبليغها، لم ترد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالتالي تعتبر بدعة، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "أن يقال: كل من له أدنى معرفة بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم بالاضطرار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع الناس بهذه الطريق"(1) ثم يذكر ما ابتدعه المتكلمون في الشرع من ألفاظ ليس لها أصل مثل "…أن الحوادث يمتنع دوامها في الماضي والمستقبل، أو في الماضي لا نصاً ولا ظاهراً …"(2)، ويزيد ابن تيمية -رحمه الله- هذا المعنى وضوحاً بقوله:" قد عُلم بالاضطرار من دين الرسول والنقل المتواتر أنه دعا الخلق إلى الإيمان بالله ورسوله، ولم يدع الناس بهذه الطريق التي قلتم: أنكم أثبتم بها حدوث العالم ونفي كونه جسماً، وآمن بالرسول من آمن به من المهاجرين والأنصار، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولم يدع أحداً بهذه الطريق، ولا ذكرها أحد منهم، ولا ذُكرت في القرآن، ولا حديث الرسول، ولا دعا بها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان هم خير هذه الأمة وأفضلها علماً وإيماناً، وإنما ابتدعت هذه الطريق في الإسلام…"(3)
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 1/105.
(2) - المصدر السابق 1/105.
(3) - درء التعارض لابن تيمية 1/98.(1/157)
القرآن الكريم الذي هو مصدر التشريع لدى المسلمين، لم يرد فيه آية تدلل على المقدمات التي يذكرها الحبشي وأمثاله من المتكلمين في إثبات وجود الله، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "… فهب أن بعض هذه النصوص قد يفهم منها مقدمة واحدة من مقدمات دليلكم فتلك ليست كافية بالضرورة، عند العقلاء، بل لا بد من ضم مقدمة أو مقدمات أخر ليس في القرآن ما يدل عليها البتة… فمن أين في القرآن ما يدل دلالة ظاهرة، على أن كل متحرك محدث أو ممكن ؟ وأن الحركة لا تقوم إلا بحادث أو ممكن ؟ وأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها ؟ وأن من لا يخلو من الحوادث فهو حادث ؟ وأين في القرآن امتناع حوادث لا أول لها…"(1)
__________
(1) -المصدر السابق 1/118.(1/158)
اعتراف حذاق المتكلمين أن هذه الطريقة محرمة وهي باطلة، وشيخ الإسلام يبين ذلك بقوله: "فهذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لم يدع الناس بها إلى الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه. ولهذا قد اعترف حذّاق أهل الكلام -كالأشعري وغيره- بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون على أنها طريقة باطلة"(1) ويرجع السبب من وراء ذلك لأحد أمرين "إما أن يطلع على ضعفها، ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم، فتتكافأ عنده الأدلة، أو يرجح هذا تارة وهذا تارة، كما هو حال طوائف منهم، وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل… والتزم قوم لأجلها -كالأشعري وغيره- أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك ، والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض، كالطعم واللون وغيرهما -لا يجوز بقاؤهما بحال…"(2)، وهذا يرجع كله إلى الصعوبة من وراء المقدمات التي سيقت لإثبات وجود الله.
وطريقة إثبات الصانع من خلال دليل الحدوث للعالم، طريقة باطلة ويؤكد هذا المنحى، نقد الفلاسفة لهذه الطريقة حيث أن "هؤلاء المتفلسفة لما رأوا هذه عمدة هؤلاء المتكلمين في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع، وتفطنوا لموضع المنع فيها، وهو قولهم: يمتنع دوام الحوادث، قالوا: هذه الطريقة تستلزم كون الصانع كان معطلاً عن الكلام والفعل دائماً إلى أن أحدث كلاماً وفعلاً بلا سبب أصلاً . قالوا: وهذا مما يعلم بطلانه بصريح العقل…"(3).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/38، وانظر: شرح قصيدة الإمام ابن القيم -الموسومة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية- لأحمد بن إبراهيم بن عيسى 1 74، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثانية 1394هـ.
(2) - درء التعارض لابن تيمية 1/38-39.
(3) - الصفدية لابن تيمية ص275.(1/159)
ويقال للحبشي: إن دليل الحدوث الذي استندت إليه في إثبات الصانع أو إثبات وجود الله، يحتوي على مقدمتين:" إحداهما: أن الموصوفات لا تخلو عن أعراض حادثة من صفات وأفعال تعتقب عليها. والثانية: أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
فاحتاجوا في تقرير (المقدمة الأولى) إلى ثبوت الأعراض أو بعضها، وحدوثها أو حدوث بعضها، وأن الأجسام لا تخلو منها أو من بعضها. فتارة يستدلون بما شهدوه من الاجتماع والافتراق، وتارة يقولون: أنه لازم لها من الحركة والسكون -وهذه الأقسام الأربعة هي الأكوان عندهم- وهذه حجة الصفاتية، يحتجون بالأكوان، ويقولون: إن الله تعالى لا يوصف بها، وآخرون فيهم لا يحتجون إلا بجواز الاجتماع والافتراق دون الحركة والسكون، حتى يستقيم أن يصف الرب بذلك، ويقول إن هذا هو الذي لا تخلو الجواهر منه وهو مبني على الجوهر الفرد(1). وتارة يدعي بعضهم حدوث جميع الأعراض زعماً منه أن العرض لا يبقى زمانين، ويدعون مع ذلك بأن كل جسم خلق يخلو عما يمكن قبوله من الأعراض، أو عن ضد. ونشأ في هذا المقالات والنزاع ما يطول ذكره.
وأما المقدمة الثانية: فكانت في بادئ الرأي أظهر، ولهذا كثير منهم يأخذها مسلمة، فإن ما لا يخلو عن الحادث فهو مقارنه ومجامعه لا يتقدم عليه، وإذا قدر شيئان متقارنان لا يتقدم أحدهما الأخر، وأحدهما حادث، كان الآخر حادثاً"(2).
__________
(1) - الجوهر الفرد: هو الموجود الذي لا يقبل التجزئة، لا في الواقع ولا في التصور، وهو في الحوادث الجزء الذي لا يتجزأ. انظر: ضوابط المعرفة -وأصول الاستدلال والمناظرة- لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص339، الناشر: دار القلم، دمشق -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/141-142.(1/160)
ويزيد شيخ الإسلام المسألة تفصيلاً وبياناً لبطلان الاستدلال بهذا الدليل فيقول: "لكن في اللفظ إجمال، فإن هذا القائل: ما لا يخلو عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، أو ما تعتقب عليه الحوادث فهو حادث ونحو ذلك له معنيان:
أحدهما: ما لا يخلو عن حوادث معينة لها ابتداء . فلا ريب أن ما تقدم على ماله ابتداء فله ابتداء.
والثاني: أن ما لا يخلو عن حبس الحوادث -بحيث لم يزل قائماً به ما يكون فعلاً له كالحركة التي تحدث شيئاً بعد شيء- فهذا لا يعلم أنه حادث أو لم يعلم أن ذلك الحبس لا يكون قديماً، بل يمنع حوادث لا أول لها، وهذه مقدمة مشكلة "(1)، مما أدى بالمتكلمين والفلاسفة أن يستدلوا على ما يتناهى وما لا يتناهى بأدلة التزموا طردها فنشأ عن ذلك مذاهب وطوائف كجهم -الذي يقول بوجوب فناء العالم لوجوب تناهيه أولاً وأخراً، وقال: بفناء الجنة والنار إلى غير ذلك من الأقوال الفاسدة؛ وهذه الإشكاليات لا يتعرض لهما المتكلمون، ويكتفون بالعلم بحدوث ما التزمته الحوادث(2).
ويؤخذ على الحبشي في أدلته العقلية، أنه أراد إثبات وجود الله من خلال الاستدلال بافتقار الكتابة إلى كاتب والنسخ إلى ناسخ، وهذا أمر معلوم الفساد لأن من كتب لم يبدع جسماً، وإنما أحدث في الأجسام تأليفاً خاصاً، وهذا ما يوضحه شيخ الإسلام بقوله: "هؤلاء إنما قاسوا على افتقار الكتابة إلى كاتب، والبناء إلى بانٍ، ونحو ذلك، ومعلوم أن البناء والكاتب لم يبدع جسماً، وإنما أحدث في الأجسام تأليفاً خاصاً، وهو عرض من الأعراض. فكيف يجعل مثل هذا محدثاً للذوات، ويجعل الذي خلق الإنسان من نطفة والشجرة من نواةٍ، إنما أحدث الصفات"(3).
__________
(1) - تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/142.
(2) - انظر: المصدر السابق 1/142-143.
(3) - درء التعارض لابن تيمية 3/85.(1/161)
ويؤخذ على الحبشي تقصيره في إثبات وجود الله، من خلال عدم الإكثار من النصوص الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة، ولجوئه إلى أدلة المتكلمين التي لا تخلو من ممانعات في تقريرها، وصعوبة في فهمها، وبعدها عن الفطرة السليمة.
ويقال للحبشي: أتعبت نفسك في إثبات أمر فطري مغروز في نفوس البشر، وهو وجود الله، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله- : "إن الإقرار بالخالق وكماله، يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته"(1)، وأيضاً يقول شارح الطحاوية: "لا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري"(2)، وإذا كان الإقرار بالخالق أمراً فطرياً فهذا يعني أنه لا يحتاج إلى إقرار بوجوده من خلال أدلة عقلية فلسفية، وخاصة أنها تتميز بالصعوبة في الفهم والتعقيد في التركيب، وبالتالي يمكن الاستغناء عنها.
والحبشي خالف السلف في إثبات وجود الله، حيث جعل جُلّ اهتمامه على العقل من خلال مقدمات كلامية كثيرة الممانعات، بخلاف السلف الذين اثبتوا وجود الله من خلال النقل والفطرة والعقل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حُكي عن الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-: "أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث في تقرير توحيد الربوبية فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فتترضى(3) بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً، فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه و سفله ؟"(4)
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/45.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص245.
(3) - تترضى: تلتصق بالشاطئ وتنضم إلى رصيفه. انظر: لسان العرب لابن منظور 2/1654-1655.
(4) - شرح الفقه الأكبر للقاري ص14-15. وانظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص84-85.(1/162)
وأخيراً فإن الطريقة العقلية في إثبات وجود الله التي يقول بها الحبشي، ذمها السلف والأئمة لأمرين: لأنها بدعة في الإسلام، فإننا نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع الناس بها ولا الصحابة، وإما لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات، وإما لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تُحصّل المقصود بل تناقضه. وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف(1).
المبحث الثاني: موقف الأحباش من وحدانية الله
المطلب الأول: تعريف الوحدانية عند الأحباش:
... الحبشي لم يختلف في منهجه في تعريف الوحدانية عن منهج المتكلمين، فيعرف الوحدانية بقوله:" معني الوحدانية أن الله ليس له ثانٍ، وليس مركباً مؤلفاً من أجزاء، كالأجسام، فالعرش وما دونه من الأجرام(2) مؤلف من أجزاء فيستحيل أن يكون بينه ويبن الله مناسبة ومشابهة"(3).
__________
(1) - انظر: الصفدية لابن تيمية ص275.
(2) - الأجرام: الأجرام الفلكية هي الأجسام التي فوق العناصر والكواكب. انظر: التعريفات للجرجاني ص50.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص141، وانظر: شرح الصفات للحبشي ص18.(1/163)
وفي تعريف آخر يقول: "معنى الوحدانية أنه ليس ذاتاً مؤلفاً من أجزاء، فلا يوجد ذات مثل ذاته، وليس لغيره صفة كصفته أو فعل كفعله. وليس المراد بوحدانيته، وحدانية العدد إذ الواحد في العدد له نصف وأجزاء أيضاً، بل المراد أنه لا شريك له"(1)؛ وفي موضع آخر يبين الحبشي المقصود بالوحدانية من خلال شرح لفظ (الواحد) بقوله: "يعني أن صانع العالم واحد، فلا يمكن أن يصْدُق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحد"(2)، وكذلك ما جاء في تفسير (الواحد) قوله: "والواحد في حق الله، فُسر بأنه الذي لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله"(3)، وفي كتابه (إظهار العقيدة السنية) يبين المقصود بالوحدانية من خلال شرح لفظ (الأحد): "أما الأحد: فمعناه الذي لا ينقسم، لأنه ليس جسماً، ولا جوهراً،يتركب منه الجسم"(4).
وبعد هذا العرض لتعريف الوحدانية عند الأحباش، يُلاحظ أن الحبشي جعل الوحدانية والواحد والأحد بمعنى واحد.
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص36، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص140.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص36.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص26.
(4) - المصدر السابق ص26.(1/164)
... ومما يؤخذ على الحبشي في تعريفه للوحدانية، أنه استخدم ألفاظاً مبتدعة ليس لها أصل في الشرع مثل: التركيب والجسم والتأليف والجهة والتحيز وأشباه هذه الكلمات التي تحتمل معاني فاسدة، ولقد ناقش علماء السلف المتكلمين في استخدامهم أمثال هذه الألفاظ، فمثلاً لفظ الجسم لم يرد في الشرع ولم ينطق به الوحي إثباتاً أو نفياً(1)، ويبين هذا الأمر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "… بل أين في القرآن أن الجسم الاصطلاحي مركب من الجواهر الفردة التي لا تقبل الانقسام، أو من المادة والصورة، وأن كل جسم منقسم ليس بواحد؟ بل أين في القرآن، أو لغة العرب، أو أحد من الأمم أن كل ما يشار إليه أو كل ما له مقدار فهو جسم، وأن كل ما شاركه في ذلك فهو مثل في الحقيقة؛ ولفظ الجسم في القرآن مذكور في قوله تعالى: { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [البقرة:247]، وقد قال أهل اللغة: أن الجسم هو البدن… ومعلوم أن أهل الاصطلاح نقلوا لفظ (الجسم) من هذا المعنى الخاص إلى ما هو أعم منه، فسموا الهواء ولهيب النار وغير ذلك جسماً، وهذا لا تسميه العرب جسماً كما لا تسميه جسداً ولا بدناً، ثم قد يراد بالجسم الجسد نفسه القائم بنفسه، وقد يراد به غِلَظَهُ كما يقال لهذا الثوب جسم؛ وكذلك أهل العرف الاصطلاحي يريدون بالجسم تارة هذا، وتارة هذا، ويفرَقون بين الجسم التعليمي المجرد عن المحل الذي يسمى المادة والهيولي(2)، وبين الجسم الطبيعي الموجود "(3)، وبذلك يظهر الفساد المحتمل للفظة الجسم عندما تستخدم في حق الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) - انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 1/130-132.
(2) - الهيولي: لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة. وفي الاصطلاح: هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محل للصورتين الجسمية والنوعية. انظر: التعريفات للجرجاني ص287.
(3) - درء التعارض لابن تيمية 1/118-119.(1/165)
... وأيضاً منهج الحبشي في تقرير التوحيد مخالف لمنهج القرآن في إثبات التوحيد، من حيث التفصيل في نفي الصفات السلبية عن الله، وهذا يتضح من خلال أقوال الحبشي وعلى سبيل المثال قوله:" ليس مركباً مؤلفاً من أجزاء كالأجسام "(1)، أو قوله:" ليس المراد بوحدانيته وحدانية العدد، إذ الواحد في العدد له نصف وأجزاء أيضاً "(2)، ومن المعلوم أن " الإثبات والنفي في أسمائه وصفاته مجمل ومفصل، فالإثبات المجمل يكون بإثبات الثناء المطلق، والحمد المطلق، والمجد المطلق لله تعالى ونحو ذلك كما يشير إليه قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة:1]،… والنفي المجمل يكون بأن ينفى عن الله -عز وجل- كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص مثل قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]،… وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه عن كل واحد من هذه العيوب والنقائص بخصوصية، فينزه عن الوالد والولد والشريك… إلا أن منهج القرآن في النفي أن لا ينفي نفياً محضاً… إلا إذا كانت متضمنة صفة مدح وكمال، … ولم يصف الله نفسه بنفي محض لا يستلزم صفة ثبوتية، وبذلك يتضح أن الذين يتجهون إلى الإكثار من النفي (أو ما يسمونه السلوب) أخطئوا، لأن النفي ليس فيه مدح ولا كمال ما لم يتضمن إثباتاً، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء.
وقد أكثر المبتدعون من النفي المحض فقالوا:… وليس فوق العالم، وغلا بعضهم فقالوا: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مبايناً للعالم ولا مخالطاً له"(3) إلى غير ذلك من الألفاظ التي يجعلون الله سبحانه وتعالى عدما تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص141.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص36.
(3) - العقيدة في الله د. الأشقر ص244-446.(1/166)
... والسلف عندما أرادوا أن يعرفوا التوحيد، لم يعرفوه كما فعل الحبشي، وإن كان في تعريفه معانٍ صحيحةٌ، ولكن طريقته غريبة عن طريق السلف لأنه اتبع طريق المتكلمين لذلك عبر بألفاظ غريبة تحتمل اكثر من معنى، ذات مقدمات تحمل بين طياتها ممانعات عقلية، بخلاف منهج السلف حيث عرفوا التوحيد بألفاظ قريبة من الفهم لا تحتوي على ممانعات، غير منفرة للعقول قبل النفوس، فمثلاً الإمام أبو جعفر الطحاوي(1) يقول:" نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له "(2)، ويُعرّف صاحب (لوامع الأنوار) التوحيد بقوله:" التصديق بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخبر الدال على أن الله تعالى واحد في ألوهيته لا شريك له، والتصديق بذلك أن ينسبه إلى الصدق ومطابقة الواقع بالقلب واللسان معاً "(3) ويشرح هذا التعريف بقوله:" نعني بالتوحيد هنا الشرعي وهو إفراد المعبود بالعبادة مع اعتقاد وحدته ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً، فلا تقبل ذاته الانقسام بوجه ولا تشبه صفاته الصفات، ولا تنفك عن الذات ولا يدخل أفعاله الاشتراك "(4)، وهنا تتجلى حقيقة التوحيد من حيث إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة التي يُعبر عنها بتوحيد الألوهية، التي افتقدها تعريف الحبشي، ويضاف إلى ذلك أن أقسام التوحيد الثلاثة عند السلف قُصد بها تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل نقصٍ من خلال نفي ما
__________
(1) - الإمام أبو جعفر الطحاوي: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك، الأزدي، الحجري، المصري، الطحاوي، الحنفي، صاحب التصانيف من قرية طحا من أعمال مصر، مولده سنة 239هـ، توفي سنة 321هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 15/27-33، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/71-72، تذكرة الحفاظ للذهبي 3/808-811، البداية والنهاية لابن كثير 11/174، شذرات الذهب لابن عماد 2/288.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص77.
(3) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/57.
(4) - المصدر السابق 1/57.(1/167)
نفاه الله عن نفسه، وإثبات ما أثبته الله لنفسه كما قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]،وليس كما فعل الحبشي من تعطيل صفات الله وتأويلها بحجة التنزيه.
... ومما يؤخذ على الحبشي أنه جعل التوحيد والواحد والأحد بمعنى واحد، وهذا يظهر من خلال تعريفه للتوحيد، فتارة يأتي بلفظ الواحد ويعرف التوحيد، وأخرى بلفظ الأحد يُعرف به التوحيد(1)، وجعل الحبشي الواحد والأحد في حق الله هو الذي لا ينقسم، لأنه ليس جسماً ولا جوهراً يتركب منه، ولا يتجزأ لكونه غير مؤلف من أجزاء(2) وهذا مردود على الحبشي لكون لفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسميه الحبشي وأمثاله من المتكلمين جسماً منقسماً "ليس هو شيئاً يعقله الناس، ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه، بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه، فلو قدّر وجود هذا في الخارج أو إمكان وجوده، لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ الواحد في لغة العرب، يُعَبرّون بها عنه، إذ ليس كل ما وُجد أو أمكن وجوده، يجب أن تصوره أهل اللغة، ويكون داخلاً فيما عبرّوا عنه من لغتهم "(3)، بل ويقال للحبشي:" وإذا قدّر أن أهل اللغة عَبرّوا بلفظ (الواحد) و(الأحد) في لغتهم من هذا،لم يجز أن يقال:إن لفظ(الواحد) في لغتهم لا يقع عليه "(4) وإن الواحد وما يشتق منه عُرف في اللغة فيما هو جسم منقسم، وهذا لا يعتبر عند الحبشي واحد، بل "وإن قدّر وجوده لكان نادراً في اللغة"(5).
__________
(1) - انظر: المطالب الوفية للحبشي ص36، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص26.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص36، الشرح القويم للحبشي ص140.
(3) - درء التعارض لابن تيمية 7/116.
(4) - المصدر السابق 7/117.
(5) - المصدر نفسه 7/117.(1/168)
والمعلوم في اللغة : أن اسم الواحد يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاح المتكلمين قديماً، ويمثلهم حديثاً جماعة الأحباش، وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [البقرة:163]، وقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1]، ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، وأخبرنا فيه أنه أحد، وأنه إله واحد، على المراد مما سماه أهل الكلام في اصطلاحهم واحداً مما ليس معروفاً في اللغة، بل إن دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم، لأن القرآن نزل بلغة العرب، وإن العرب يُعرّفون الواحد بأنه ما كان قديماً قائماً بنفسه، متصفاً بالصفات، مبايناً لغيره، مشاراً إليه، ومن لم يكن كذلك لا تسميه العرب واحداً، وبالتالي فإن لفظ الواحد والأحد دل على نقيض مطلوب المتكلمين لا على مطلوبهم(1).
__________
(1) - انظر: المصدر نفسه 7/117.(1/169)
إذاً لا يجوز استخدام لفظ الواحد والأحد والوحيد بمعنى واحد إلا في الجسم المنقسم، وهذا ما يوضحه ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد والأحد والوحيد، إلا فيما يسمونه هم جسماً منقسماً، كقوله تعالى: ? { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } [المدثر:11]، وقوله تعالى: { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } [النساء:11]، …وقوله تعالى: { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف:49] "(1)، وفي موضع آخر يذكر ابن تيمية -رحمه الله- نصوصاً عديدة من الكتاب والسنة يبين فيها خطأ من وصف الجسم بالوحدة، وأنه لا يطلق عليه هذا اللفظ، فيقول في (نقض التأسيس) في قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء:1] "ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم، وحواء خلقت من ضلع آدم القصيراء من جسده خلقت، لم تخلق من روحه، حتى يقول القائل: الوحدة هي باعتبار النفس العاطفة التي لا تركيب فيها. وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام، وقد سماها الله نفساً واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة "(2)، ويُعلق الإمام أحمد بن حنبل على قوله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } [المدثر:11]، بقوله: "فإن الوحيد مبالغة في الواحد، فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد أزلي، ومع هذا فهو جسم من الأجسام "(3)، ويذكر ابن تيمية -رحمه الله- نصوص من السنة يبين فيها فساد استخدام لفظ الواحد والأحد والوحدانية بمعنى واحد، ومن هذه الأحاديث: أحاديث الصلاة في الثوب الواحد، كالذي ورد في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل:"أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال:
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 7/114-115.
(2) - نقض التأسيس لابن تيمية 1/488.
(3) - المصدر السابق 1/488.(1/170)
أو لكلكم ثوبان؟"(1)
وما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء(2)، وحديث مرور النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال:"إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"(3)، وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي يذكرها ابن تيمية لبيان فساد استخدام لفظ الواحد والأحد والوحيد بمعنى واحد(4)، ومن خلال ما سبق عرضه يتبين القصور الذي وقع فيه الحبشي، ومخالفته منهج السلف.
المطلب الثاني: أدلة الأحباش على وحدانية الله:
__________
(1) - صحيح البخاري، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به، ح358، 1/109.
(2) - انظر: صحيح مسلم، كتاب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه ح516، 1/368. سنن النسائي للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، كتاب القبلة، باب صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ح769، 2/71، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1406هـ-1986م.
(3) - صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله ح216، 1/69، وأيضاً: كتاب الوضوء، باب ما جاء في غسل البول ح218، 1/69، وصحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه ح292، 1/240-241.
(4) - انظر: نقض التأسيس لابن تيمية 1/489-492.(1/171)
دلل الأحباش على وحدانية الله تعالى بالأدلة العقلية، وأهم دليل ارتكزوا عليه في إثبات الوحدانية لله هو دليل التمانع المأخوذ من قوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22]، وعن تقرير هذا الدليل يقول الحبشي:" لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع، بأن من يريد أحدهما حركة زيد، والآخر سكونه لأن كلاً منهما في نفسه أمر ممكن، وكذا تعلق الإرادة بكل منهما إذ لا تضادّ بين الإرادتين بل بين المرادين، وحينئذٍ إما أن يحصل الأمران فيجتمع الضدان أو لا، فيلزم عجز أحدهما وهو أمارة الحدوث والإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج، فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون محالاً. وهذا تفصيل ما يقال: إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر لزم عجزه، وإن قَدَرَ لزم عجز الآخر، وبهذا يندفع ما يقال أنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع، أو أن تكون الممانعة أو المخالفة غير ممكن لاستلزامها المحال، أو أن يمتنع اجتماع الإرادتين كإرادة الواحد حركة زيد وسكونه معاً "(1).
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص36-37.(1/172)
ويقرر الحبشي دليل التمانع بطريقة أخرى حيث يقول:" أنه لا بد للصانع من أن يكون حياً، قادراً، عالماً، مريداً، مختاراً، فإذا ثبت وصف الصانع بما ذكرناه قلنا: لو كان للعالم صانعان، وجب أن يكون كل واحد منهما حياً، قادراً، عالماً، مريداً، مختاراً، والمختاران يجوز اختلافهما في الاختيار، لأن كل واحد منهما غير مجبرٍ على موافقة الآخر في اختياره، فإذا صح هذا فلو أراد أحدهما خلاف مراد الآخر في شيء لم يخل: من أن يتم مرادهما، أو لا يتم مرادهما، أو يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر. ومحال تمام مراديهما لتضادهما، وإن لم يتم مرادهما فهما عاجزان، وإن تم مراد أحدهما ولم يتم مراد الآخر فإن الذي لم يتم مرادُه عاجز ولا يكون العاجز إلهاً ولا قديماً، وهذه الدلالة معروفة عند الموحدين تسمى: بدلالة التمانع "(1)؛ وبعد تقرير الحبشي لوحدانية الله بالطريق العقلي، يبين أن هذا الطريق قطعي ومفحم، فيقول:" وهذه الحجة برهانية -أي قطعية- لا إقناعية بل مفحمة، ولقد عِيب على القائل بأنها إقناعية، وشُنع عليه تشنيعاً شديداً، ومعنى إقناعية أي قد لا ينقطع الخصم بها"(2).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص36، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص141.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص37.(1/173)
... إن دليل التمانع الذي استدل به الحبشي والمتكلمون من قبله، دليل عقلي صحيح في إثبات وحدانية الله وربوبيته، وهذا ما يقرره ابن تيمية -رحمه الله- في رده على من رفض الدليل بالكلية وأبطله مثل: ابن رشد(1) والآمدي بقوله: "وليس الأمر كما ظنه هؤلاء، بل هو برهان صحيح عقلي كما قدره فحول النظار"(2)، ويقول في موضع آخر: "فهذه الطرق وأمثالها مما يبين بها أئمة النظار توحيد الربوبية وهي طرق صحيحة عقلية، لم يهتد هؤلاء المتأخرون إلى معرفة توجيهها وتقريرها"(3). ولكن الخطأ الذي وقع فيه الحبشي -كما سبقه في ذلك المتكلمون- هو أن جعل آية الأنبياء { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22]، في إثبات دليل التمانع، وتقرير توحيد الربوبية، وهذا بخلاف ما جاءت إليه آية الأنبياء من تقرير توحيد الألوهية والعبادة.
__________
(1) - ابن رشد: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد ابن رشد القرطبي، ويعرف بابن رشد الحفيد (أبو الوليد)، عالم، حكيم، مشارك في الفقه والطب والمنطق والعلوم الرياضية والإلهية، ولد سنة 520هـ، وتوفي سنة595 هـ. انظر: النجوم الزاهرة لابن تغري 6/154، شذرات الذهب لابن عماد 4/320، سير الأعلام للذهبي 21/307-310.
(2) - درء التعارض لابن تيمية 9/354-355.
(3) - منهاج السنة لابن تيمية 3/312.(1/174)
ويظهر الخطأ في فهم الحبشي للآية حيث استدل بها على نفي الشرك في الربوبية، وفي هذا المعنى يتحدث ابن تيمية -رحمه الله- في مَعرض رده على المتكلمين الذين انتهجوا المنهج نفسه في إثبات الوحدانية من خلال آية الأنبياء فيقول: "والمقصود هنا أن هؤلاء اعتقدوا أن قوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22]، إنما يدل على نفي الشرك في الربوبية، وهو أنه ليس للعالم خالقان "(1)، وإنما المقصود بالتوحيد في الآية توحيد الألوهية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:" ومقصود القرآن توحيد الآلهية، وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس"(2) أي أن توحيد الآلهية يشمل توحيد الربوبية بخلاف توحيد الربوبية لا يشمل توحيد الآلهية، "ولهذا قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22]، فلم يقل لو كان فيهما إلهان، بل المقدّر آلهة غير الإله المعلوم أنه إله فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق، وإنما نازعوا هل يتخذ غيره إلهاً مع كونه مملوكاً له"(3).
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 9/348.
(2) - المصدر السابق 9/369، انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص88.
(3) - درء التعارض لابن تيمية 9/369-370.(1/175)
ويؤكد هذا المنحى ابن رشد في كتابه (مناهج الأدلة) في أن الاستدلال بآية الأنبياء كان في غير موضعه، ويبين ذلك بقوله: "وقد يدلل على الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية، ليس هو الدليل الذي تضمنت الآية أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم غير المحال الذي أفضى إلي الدليل المذكور في الآية"(1)، ومما يدلل أن آية الأنبياء جاءت لإثبات الألوهية لله، وليس وحدانية الله وربوبيته -وإن كانت الألوهية تشمل الربوبية- وذلك أن مقصود الآية عدم وجود الفساد لعدم وجود أكثر من إله يعبد، بخلاف التمانع الذي أثبته الحبشي في آية الأنبياء الذي يراد منه إثبات صانع واحد لهذا العالم، لأنه لو فرض أكثر من صانع لما وجدت المخلوقات البتة، لأن أحدهما يريد أن يخلق والآخر لا يريد، ومما يؤكد المعنى السابق ما جاء في (منهاج السنة) أن: "بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشئ عن عبادة ما سوى الله تعالى، لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته، من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم، وما سوى الله لا يصلح، فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة، فإنه سبحانه هو المعبود المحبوب لذاته، كما أنه هو الرب الخالق بمشيئة. وهذا معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"(2)، ولهذا قال الله في فاتحة الكتاب: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:4]، وقدم اسم الله على اسم الرب في أولها حيث قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
__________
(1) - مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد ص35، تحقيق د. محمود قاسم، الناشر: مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة -بدون رقم طبعة- 1955م، وانظر: درء التعارض لابن تيمية 9/370.
(2) - صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب أيام الجاهلية ح3841 ، وأيضاً: كتاب الآداب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه ح6147 ، صحيح مسلم، كتاب الشعر ح2256، 4/1768.(1/176)
الْعَالَمِينَ } [الفاتحة:1]، فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته وهو الغاية، والمعين، وهو البارئ المبدع في الخلق،ومنه ابتداء كل شيء…"(1) وفي موضع آخر يقول شيخ الإسلام:" وبينا أن هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكلام من ذكر دليل التمانع، الدال على وحدانية الرب تعالى، فإن التمانع يمنع وجود المفعول لا يوجب فساده بعد وجوده، وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعلات، والثاني: يذكر في الحِكمَ والنهايات التي تذكر في العلل التي هي الغايات كما في قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:4]، فقدم الغاية المقصودة على الوسيلة الموصلة"(2)
ويؤكد شارح الطحاوية المعنى السابق، عندما تحدث عن آية الأنبياء22 في معرض رده على من استدلوا بها على إثبات وحدانية الله ، فقال:" وقد ظن أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان..الخ وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ولم يقل أرباب، وأيضاً: فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وإنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا. وأيضاً: فإنه قال: (لفسدتا) وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا "(3)، وبالتالي يتبين أن الآية جاءت لتوحيد الألوهية من حيث عدم تعدد الآلهة، وإنما هو إله واحد يعبد، وإلا أدى ذلك إلى اختلاف نظام الكون وفساده، ولم تأتِ الآية كما فهم الحبشي لإثبات وحدانية الله .
__________
(1) - منهاج السنة لابن تيمية 3/334-335.
(2) - اقتضاء الصراط المستقيم -في مخالفة أصحاب الجحيم- لابن تيمية ص461، الناشر: مطابع المجد التجارية -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص87-88.(1/177)
وعلى المنهج نفسه سار الإمام المقبلي اليمني(1)، موضحاً عدم صحة الاستدلال بآية الأنبياء بقوله: "وليست الآية الكريمة هي دليل التمانع كما يزعمون.. لأنه لم يدع أحد إلهاً حكيماً مماثلاً للباري تعالى. والآية رد على المدعين لوقوع الآلهة، وإنما ادعوا أصناماً حجارة ونحوها.."(2) وبالتالي فإن الاستدلال بهذه الآية في دليل التمانع في غير موضعه.
المطلب الثالث: أقسام التوحيد عند الأحباش:
... قسم الأشاعرة التوحيد إلى ثلاثة أقسام(3):
واحد في ذاته لا قسيم له (توحيد الذات).
واحد في صفاته لا شبيه له (توحيد الصفات).
واحد في أفعاله لا شريك له (توحيد الأفعال).
وهذه الأقسام الثلاثة للتوحيد التي قال بها الأشاعرة،هي نفسها التي قال بها الحبشي عند تقسيمه للتوحيد مع اختلاف في الألفاظ،حيث جاء في كتاب(الدليل القويم)ص33 للحبشي تقسيمه للتوحيد كالتالي: أولاً: نفي الكثرة المصححة للقسمة عن ذات الله .
ثانياً: نفي النظير عنه في صفاته.
__________
(1) - الإمام المقبلي:صالح بن المهدي بن علي بن عبدالله بن سليمان بن محمد بن عبدالله بن سليمان بن أسعد المقبلي، اليمني،الزيدي،عالم مشارك في التفسير،وعلوم القرآن والحديث،وعلوم اللغة العربية،والتصوف،والفقه؛ولد سنة 1040هـ،وتوفي سنة1108هـ.انظر:البدر الطالع للشوكاني1/288-292،الأعلام للزركلي3/197،معجم المؤلفين لكحالة 5/14.
(2) - العلم الشامخ -في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ- لصالح بن المهدي المقبلي اليمني ص2-3، الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - انظر: الإرشاد للجويني ص69، التفسير الكبير للرازي 4/172، إحياء علوم الدين للغزالي 1/83، الملل والنحل للشهرستاني 1/55، كتاب أصول الدين للبغدادي ص123،124، شرح جوهر التوحيد للشيخ إبراهيم اللقاني ص 59-60، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1403هـ-1983م.(1/178)
ثالثاً: أنه منفرد في الخلق والإيجاد والتدبير، فلا مساهم له في اختراع المصوغات،وتدبير المخترعات(1).
والأقسام الثلاثة للتوحيد تظهر جلياً في تفسير الحبشي لسورة الإخلاص، فيقول في تفسير قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1] : "أي الذي لا يقبل التعدد والكثرة، وليس له شريك في الذات أو الصفات أو الأفعال…"(2)، ويقول في قوله تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:4] : "أي لا نظير له بوجه من الوجوه"(3).
__________
(1) - الرد على عبدالله الحبشي للشامي ص175 بتصرف، وانظر:موسوعة أهل السنة لدمشقية 1/140-141.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص40، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص155، مختصر عبدالله الهرري -الكافل بعلم الدين الضروري- لعبد الله الهرري (الحبشي) ص12، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الثانية عشرة 1420هـ-1999م.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص41، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص158.(1/179)
ويلاحظ أن الحبشي أطال في تقرير التوحيد بأقسامه الثلاثة في كتاباته، فأما القسم الأول:الذي هو عبارة عن توحيد الذات يوضحه بأن: "الله تعالى هو الذات الواجب الوجود الذي وجوده بذاته، ولا يحتاج إلى شيء أصلاً"(1)، وأنه: "ليس عَرَضاً لأن الله تعالى قائم بذاته أي: وجوده ليس قائماً بغيره"(2) وأنه تعالى ليس بجسم، لأن الجسم ما تركب من جوهرين(3)، و"يستحيل على الله تعالى أن يكون جوهراً وهو في عُرف المتكلمين وأهل السنة: الجزء الذي لا يتجزأ من القلة مع تحيزه ويكون جزءاً للجسم فالله منزه عن ذلك"(4)، و"يستحيل أن يكون -الله- مصوراً أي:ذا صورة وشكل.. وأن يكون ذا حد ونهاية كسائر الأجسام"(5)، وأن الله "ليس ذا عدد وكثرة "(6)، وأنه تعالى "ليس ذا أبعاض ولا أجزاء…وأنه تبارك وتعالى منزه عن أن يكون متركباً من أجزاء لأن هذا يوجب الاحتياج المنافي للقدم"(7)، وأن الله تعالى لا يوصف بالتناهي "لأن التناهي من صفات المقادير والأعداد… ـ وـ لا يوصف بالمجانسة للأشياء... ـ وـ أن الله تعالى منزه عن الكيفية"(8)، وأنه تعالى "منزه عن التمكن في مكان"(9)،ولا يجري على الله تعالى زمان الذي هو عبارة "عن متجدد يقدّر به متجدد آخر"(10) ، ثم يخلص الحبشي بنتيجة مفادها أن الله تعالى "لا يماثله شيء"(11).
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص33.
(2) - المصدر السابق ص38.
(3) - انظر: المصدر نفسه ص39.
(4) - المطالب الوفية للحبشي ص41.
(5) - المصدر السابق ص42.
(6) - المصدر نفسه ص44.
(7) - المصدر نفسه ص44.
(8) - المصدر نفسه ص45.
(9) - المصدر نفسه ص47.
(10) - المطالب الوفية للحبشي ص64.
(11) - المصدر السابق ص64.(1/180)
أما القسم الثاني: من أقسام التوحيد عند الحبشي وهو توحيد الصفات فيوضحه بقوله: "أن الله تعالى له صفات أزلية قائمة بذاته"(1)، وصفات الله صفات كمال تليق به، فيعبر الحبشي عن ذلك بقوله: "والله تعالى موصوف بكل كمال يليق به… فكما أنه تعالى متصف بكل كمالٍ في حقه فهو منزه عن كل نقصٍ"(2)، وصفات الله غير مشابهة لصفات المخلوقين، وفي هذا المعنى يقول الحبشي: "الحق سبحانه وتعالى غير مماثل لشيء من مخلوقاته، وأما اتفاق اللفظ فلا يعني اتفاق المعنى، إذ لما نقول فلان عالم فعلم الإنسان حادث يقبل الزيادة والنقصان، أما علم الله أزلي أبدي كسائر صفاته"(3)، ويقول أيضاً: "توحيد الله في صفاته معناه أن يعتقد أن صفات الله لا تشبه صفات غيره"(4).
وأما القسم الثالث: فهو توحيد الأفعال، ويوضحه بقوله: "وأما توحيده في الأفعال فهو أن يعتقد المرء أن الله تعالى يفعل فعلاً بقدرته الأزلية بتكوينه الأزلي بلا مباشرة ولا مماسةٍ لشيء"(5).
__________
(1) - المصدر نفسه ص66، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص37، الشرح القويم للحبشي ص146، بغية الطالب للحبشي ص21.
(2) - بغية الطالب للحبشي ص15.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص33، انظر: المصدر نفسه ص161.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص253.
(5) - المصدر السابق ص253.(1/181)
وأهمية توحيد الله في الأفعال عند الأحباش ترجع إلى معنى الإلهية حيث تقتصر على قدرة الله على الخلق، ومما يؤكد هذا المنحى عند الحبشي قوله: "فعلم قطعاً أن العالم بكونه مخلوقاً دليل على ألوهية الخالق تعالى، وبذلك احتج الخالق تعالى على كونه خالق العالم، ونفى الألوهية عمن سواه لعدم التخليق فقال تعالى: { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [المؤمنون:91]، وقال تعالى: { أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ } [الرعد:16]، وقال سبحانه وتعالى:? { قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد:16]، فمحال أن لا يقدر الله على شيء يقدر عليه كل ما دبّ ودرج…"(1)، ولهذا يفسر الحبشي (لا إله إلا الله) بأنه: "لا رب إلا الله أو لا خالق إلا الله"(2)، وبذلك يتبين أن الأحباش فسروا توحيد الألوهية بقدرة الله على الخلق، وأنه رب هذا الكون ولم يفسروها بأنه تعالى المستحق للعبودية بجميع أشكالها، وبعبارة أخرى: جعل الأحباش توحيد الألوهية هو نفسه توحيد الربوبية.
والتقسيم السابق للحبشي للتوحيد يظهر بوضوح في شرحه لمعنى الواحد، فيقول: "والواحد في حق الله تعالى فسر بأنه الذي لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله"(3).
... بعد العرض السابق لأقسام التوحيد عند الأحباش، هناك تساؤل لا بد من الإجابة عليه: هل تقسيم الأحباش للتوحيد -بالصورة السالفة الذكر- هو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعا الناس إليه؟ وللإجابة على هذا التساؤل، لا بد من توضيح أن كلام الحبشي يحمل من التقصير والتحريف الباطل ما يحتاج للرد عليه:
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص196-197.
(2) - بغية الطالب للحبشي ص9.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص26.(1/182)
أولاً: فيقال للحبشي: "أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً بل ولا مؤمناً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق، فإذا فسرّ المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية -والأحباش من ضمنهم- وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين"(1).
ثانياً: ويرد على الحبشي: بأنك إذا أردت بأن الله لا قسيم له، ولا جزء له ولا شبيه له، فهده الأمور صحيحة، حيث إن الله ليس كمثله شيء، وهو سبحانه لا يجوز عليه التفرق، ولا الفساد، ولا الاستحالة، أما إذا أردت من هذا التقسيم-كما فعل حذاق المتكلمين- نفي علوه على خلقه،ومباينته لمصنوعاته،ونفي ما ينفونه من صفاته،والادعاء أن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركباً منقسماً،وأن يكون له شبيه فهذا أمر مردود وغير مقبول لظهور فساده وعدم صحته(2).
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 1/226.
(2) - انظر: المصدر السابق 1/228، تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/474-475.(1/183)
ثالثاً: ويقال أيضاً: إن توحيد الله في صفاته، لا يكون بنفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه، ثم الادعاء بأن هذا هو التوحيد كما فعل الحبشي بتأويله للصفات وتحريفها عن مواضعها، وعن استدلال المتكلمين ومن ضمنهم الأحباش بنفي الصفات، وتسميتها توحيداً يتحدث ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا الاستدلال هو معروف قديماً من استدلال الجهمية النافية، فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد، ويزعمون أنهم هم الموحدون، فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد -حسب زعم المتكلمين- وأنه يثبت تعدد القدماء، لا يجعل القديم واحداً فقط، فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا، وقد يسمون أنفسهم الموحدين، ويجعلون نفي الصفات داخلاً في مسمى التوحيد، ومبنى ذلك على أصل واحد، وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم، وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم، فألحدوا في أسماء الله وآياته، وحرفوا الكلم عن مواضعه"(1)، وفي موضع آخر يبين ابن تيمية -رحمه الله- مقصود التوحيد بأقسامه الثلاثة عند المتكلمين فيقول: "إن القديم الواحد ليس معه في القدم غيره، ولو قامت به الصفات لكان معه غيره، وأنه ليس بجسم، إذ الجسم مركب مؤلف منقسم وهذا تعدد ينافي التوحيد، أو يقولون أيضاً: إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وعدداً في ذاته وذلك خلاف التوحيد"(2).
__________
(1) - تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/463، وانظر: الصواعق المرسلة لابن القيم 1/127.
(2) - تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/465.(1/184)
رابعاً: يظهر تأثر الأحباش بعلم الكلام ظهوراً واضحاً، بحيث انعكس هذا التأثر على تقريرهم لمسائل العقيدة، ومن ضمنها تقسيم الأحباش للتوحيد، واستخدام الألفاظ المبتدعة الموهمة لغير مقصودها حيث إنهم: "يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يُشبهون عليهم، وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس، هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس، لكن بمعانٍ غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أخر، فيحصل الاشتباه والإجمال…-مثل- لفظ: الجوهر، والعرض، والجسم، والتحيز، والجهة، والتركيب، والجزء، والافتقار، والعلة، والمعلول… بل ولفظ (الواحد) في التوحيد، بل ولفظ الحدوث، والقدم، بل ولفظ الواجب والممكن، بل ولفظ الوجود والذات، وغير ذلك من الألفاظ"(1)، ويستخدم الحبشي هذه الألفاظ الموهمة ليظن عوام الناس أنه يمجد الله ويعظمه، ولكنها في الحقيقة إنما هي تكذيب للرسل وتعطيل الرب سبحانه وتعالى عن صفات الكمال التي وصف بها ذاته المقدسة، ومقصود الحبشي وأمثاله من المتكلمين بتنزيه الله "عن الأعراض هو من أحد صفاته كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكماله وإرادته… وأما الأبعاض فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس له وجه، ولا يدان، ولا ممسك السماوات على إصبع والأرض على إصبع(2)، ذلك كله أبعاض، والله منزه عن الأبعاض. وأما الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها: أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله، …إذ لو كان كذلك لزم إثبات الحدود والجهات له وهو منزه عن ذلك. وأما حلول الحوادث فيريدون به: أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ولا
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 1/222.
(2) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى (لما خلقت بيدي) ح7414، 8/219، ح7415، 8/220، صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، ح2786، 4/2147.(1/185)
ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا(1)… ولا يقوم به فعل البتة، ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن، ولا يريد شيئاً بعد أن لم يكن مريداً له… ولا يقول للمصلي: "إذا قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة:1]، حمدني عبدي، فإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة:2]، قال: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال:? { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة:3]، قال: مجدني عبدي"(2) فإن قال هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث"(3)، وبهذا يظهر تعطيل الحبشي وأمثاله من المتكلمين لله من صفاته الحسنى وأسمائه العُلى، وبذلك يظهر زيف التنزيه الذي ادعوه، ويبطل القول به.
__________
(1) - لقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فاستجيب، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". انظر: صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة آخر الليل ح1145، 2/59، وأيضاً: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله)، ح7494، 8/248، وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة ح758، 1/521.
(2) - صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن ح395، 1/295.
(3) - مختصر الصواعق لابن القيم 1/139.(1/186)
ولكن المتكلمين لا يسلمون بخطأ أقوالهم وينافحون عنها بكل ما أوتوا من قوة جدل، فإن هؤلاء المتكلمين يعترضون على خصومهم من السلف بأن ألفاظهم مفهومة لهم كأهل صنعة يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يتفاهمون بها على مرادهم، فيناقشهم بذلك ابن تيمية -رحمه الله-، ويرد عليهم بقوله: "إن هؤلاء المعارضين إذا لم يخاطبوا بلغتهم، واصطلاحهم، فقد يقولون: إنا لا نفهم ما قيل لنا، أو أن المخاطب لنا والراد علينا لم يفهم قولنا، ويلبسون على الناس بأن الذي عنيناه بكلامنا، حق معلوم بالعقل أو بالذوق، ويقولون أيضاً:إنه موافق للشرع، إذا لم يظهروا مخالفة الشرع… وإذا خوطبوا بلغتهم واصطلاحهم -مع كونه ليس اللغة المعروفة التي نزل بها القرآن- فقد يفضي إلى مخالفة ألفاظ القرآن في الظاهر.
فإن هؤلاء عبروا عن المعاني التي أثبتها القرآن بعبارات أخرى ليست في القرآن، وربما جاءت في القرآن بمعنى آخر، فليست تلك العبارات مما أثبته القرآن، بل قد يكون معناها المعروف في لغة العرب التي نزل بها القرآن منتفياً باطلاً، نفاه الشرع والعقل، وهم اصطلحوا بتلك العبارات على معانٍ غير معانيها في لغة العرب فتبقى إذا أطلقوا نفيها لم تدل في لغة العرب على باطل، ولكن تدل في اصطلاحهم الخاص على باطل، لمن خاطبهم بلغة العرب قالوا: إنه لم يفهم مرادنا، ومن خاطبهم باصطلاحهم أخذوا يظهرون عنه أنه قال: ما يخالف القرآن، وكان هذا من جهة كون تلك الألفاظ مجملة مشتبهة"(1)، وهذه الألفاظ التي وردت بكثرة في كتابات الحبشي.
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 1/223.(1/187)
... ويتبين مما سبق من ردود شيخ الإسلام -ابن تيمية- بطلان تقسيم الحبشي للتوحيد، لأنه يحتمل معاني باطلة غير مرادة، ولم يأتِ بها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-، وهذا المعنى يؤكده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عندما يتحدث عن مقصود التوحيد عند المتكلمين بقوله: "… فهم يريدون بلفظ التوحيد والواحد في اصطلاحهم، ما لا صفة له ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يُرى، والتوحيد الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يتضمن شيئاً من هذا النفي، وإنما تضمن إثبات الإلهية لله وحده، بأن يُشهد أن لا إله إلا هو، ولا يعادي إلا فيه ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات،… وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة:4]، …وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد"(1).
المطلب الرابع: بيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل:
__________
(1) - المصدر السابق 1/224-225.(1/188)
... لا بد من العلم "أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون، وإن فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهم مع زعمهم أنهم الموحدون، ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله، بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة "(1).
__________
(1) - بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/973.(1/189)
وحقيقة هذا التوحيد الذي جاءت به رسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم- ودعت إليه المؤمنين هو:"عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئاً فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئاً من الأشياء فهو مشرك به، ليس بموحد مخلص له الدين،وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد، حتى لو أقر أن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال"(1)، وهذا ما بينه القرآن الكريم في وصف مشركي العرب، بأنهم كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين في عبادته -سبحانه وتعالى- قال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف:106]، وجاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تبين المعنى السابق، منها قوله تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [المؤمنون:84-89]، وقوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [العنكبوت:61]، فهذه الآيات تبين ما كان المشركون عليه من توحيد الربوبية، حيث أقروا بأن الله رب كل شيء وخالقه، ومع ذلك فهذا التوحيد لا يشفع لهم عند الله -سبحانه وتعالى-، ولا ينقذهم من عذابه لأنهم كانوا يصرفون عبادتهم لغيره -سبحانه وتعالى-، فجاءت رسل رب العالمين تبين حقيقة التوحيد، من خلال صرف العبادة لله -سبحانه وتعالى- دون غيره من الشركاء، والأنداد كما فعل المشركون.
__________
(1) - بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية1/973.(1/190)
والغلط الذي وقع فيه الحبشي وأمثاله من المتكلمين، ظن أن المقصود بـ (لا إله إلا الله) القدرة على الخلق، وجاء في المعنى السابق في كتاب (درء التعارض): "أن أهل الكلام الذين ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية وهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء"(1)، فهذا الكلام من قِبل المتكلمين جانب الصواب الذي عليه سلف الأمة من أن الإله هو الذي يستحق العبودية التامة، وهو الذي تألهه القلوب بالحب، والتعظيم، والإجلال، والإكرام، والخوف، والرجاء(2)، وبذا يظهر الفرق بين التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وبين التوحيد الذي دعا إليه المتكلمون.
المبحث الثالث: موقف الأحباش من الأسماء والصفات:
المطلب الأول: موقف الأحباش من أسماء الله الحسنى:
... إن الأحباش لم يعطوا أسماء الله الحسنى جُلَّ اهتمامهم كما فعلوا في صفاته تعالى، وإذا تحدثوا عنها كان ذلك بحديث عابر، ولهذا قلما يخوضون في أسمائه الحسنى.
... وقد جاء في أحد رسائلهم (مرشد الحائر) "أن الله له الأسماء الحسنى، أي الدالة على الكمال، فكل أسماء الله حسنى، ليس شيء منها إلا دالاً على الحسن، أي ليس فيها ما يدل على نقص في حقه تعالى، فالقادر يدل على القدرة، والعلاّم يدل على العلم، والرحمن الرحيم يدلان على إثبات الرحمة له تعالى، والعزيز يدل على إثبات العزة له، والسميع يدل على إثبات السمع له، والواحد يدل على الوحدة ، والخالق يدل على إثبات الخلق له، والبصير يدل على إثبات البصر له، وهكذا كل أسمائه تدل على الكمال، فيستحيل عليه الاسم الذي يدل على النقص، فلا يصح أن يسمىَّ (باه) كما يتصور بعض الناس"(3).
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 9/377.
(2) - انظر: المصدر السابق 9/377.
(3) - مرشد الحائر-في حل ألفاظ رسالة ابن عساكر- للشيخ سمير القاضي ص21-22، الناشر:دار المشاريع، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م؛ انظر: الشرح القويم للحبشي ص147.(1/191)
... ويرفض الأحباش أن يسمى الله بأسماء لم ترد في الشرع فقالوا: "وكذلك لا يجوز تسميته بالمقيم، كما يلهج بذلك بعض الناس، يقولون: سبحان المقيم، كما أنه لا يجوز أن يسمى الله روحاً ولا عقلاً…"(1).
... ويرى الأحباش أن لله أكثر من تسعةٍ وتسعين اسماً الوارد ذكرها في الحديث الشريف، أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله تسعةٍ وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة"(2) فقالوا في ذلك: "أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون من حفظها وفهم معناها مضمون له الجنة، ويوجد غيرها أسماء لله ، ولكن ليس لها هذه الفضيلة التي هي للأسماء التسعة والتسعين"(3). أسماء الله وصفاته عند الأحباش، يطلق عليها نفس المسمى إلا لفظ الجلالة (الله)، فيعبر الحبشي عن ذلك بقوله: "وأسماء الله الحسنى يطلق عليها صفات، ويطلق عليها أسماء الله إلا لفظ الجلالة لا يطلق عليه الصفة…"(4).
__________
(1) - مرشد الحائر للقاضي ص23، انظر: الشرح القويم للحبشي ص148.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنايا في الإقرار والشروط ح2736، 3/243، وأيضاً: كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحد، ح7392، 8/213، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، ح2677، 4/2062.
(3) - مرشد الحائر للقاضي ص25، انظر: الشرح القويم للحبشي ص148.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص148.(1/192)
... من الواضح أن الأحباش لم يكثروا من الخوض في أسماء الله سبحانه وتعالى كما فعلوا في الصفات، ومنهج الأحباش إثبات أسماء الله الحسنى، وأنها تدل على الكمال له سبحانه، وهذا موافق لما عليه سلف الأمة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "أن يعلم أن الكمال ثابت لله ، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب -تعالى- يستحقه بنفسه المقدسة"(1)، وينسحب هذا الحكم على أسماء الله الحسنى، ويتضح المقال من خلال ما جاء عن صاحب (لوامع الأنوار) في حق أسماء الله الحسنى "أسماؤه كلها حسن ليس فيها اسم إلا وهو حسن"(2)، وفي المعنى نفسه يقول ابن القيم -رحمه الله-: "أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء"(3)، ويقول أيضاً: "ومن استقرأ الأسماء الحسنى وجدها مدائح وثناء، تقصر بلاغات الواصفين عن بلوغ كنهها وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها"(4).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/44.
(2) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/127.
(3) - طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزيه ص133، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(4) - المصدر السابق ص104.(1/193)
... لقد وافق قول الحبشي منهج السلف في أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعة وتسعين اسماً لا يفيد الحصر في هذا العدد لأنه ليس فيه ما يفيد نفي غيرها عن الله تعالى حيث يقول الإمام الخطابي: "في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد وليس فيه منع ما عداها من الزيادة، وإنما التخصيص لكونها أكثر الأسماء وأبينها معاني"(1)، ويؤكد هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماضٍ في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي…"(2). ...
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر العسقلاني 11/220.
(2) - مسند الإمام أحمد 1/452، قال ابن حجر في (الفتح 11/220): صححه ابن حبان، وكذلك صححه ابن القيم في شفاء العليل ص484، الناشر: دار إحياء الكتب العربية -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/194)
وأما ما ورد عن الأحباش من حفظ أسماء الله التسعة والتسعين وفهم معناها يؤدي ذلك إلى ضمان دخول الجنة(1)، هذا كلام فيه مبالغة، لأن الحفظ والفهم لا يكفي لضمان دخول الجنة، بل لا بد من العمل وفق ما شرع الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [الأنفال:2-4]، حيث إن الآيات جاءت تبين نوعية الإيمان المؤدي إلى دخول جنة الله ألا هو المقرون بالعمل المتمثل في الآيات بإقامة الصلاة، ويعلق الإمام الطبري في تفسيره على قوله تعالى: { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الأنفال:3]، بقوله: "(أولئك) هؤلاء الذين يفعلون من هذه الأفعال (هم المؤمنون) لا الذين بألسنتهم يقولون قد آمنا وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقاً…"(2) ويقول ابن كثير في تفسيره للآية: "ينبه الله تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها"(3)، وبهذا يظهر أهمية العمل وعدم الاكتفاء بالاعتقاد والفهم فقط.
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص148، مرشد الحائر للقاضي ص25.
(2) - جامع البيان للطبري 9/121.
(3) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/286.(1/195)
... ومع ما تم ذكره من أهمية العمل في دخول الجنة، إلا أن الجنة لا تكون إلا تفضلاً من الله على عباده، وليس جزاء على العمل، لأن الإنسان مهما عمل يبقى مقصراً في شكر نعم الله سبحانه وتعالى، وهذا ما عليه سلف الأمة يقول الإمام الطحاوي: "فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه"(1)، فكيف يقول الأحباش أن الجنة مضمون دخولها لمجرد حفظ الأسماء الحسنى التسعة والتسعين وفهم معناها، مع الإشارة إلى العمل لدخول الجنة.
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص420 -المتن-.(1/196)
... أما عن قول الحبشي أن: "أسماء الله الحسنى يطلق عليها صفات ويطلق عليها أسماء إلا لفظ الجلالة لا يطلق عليه الصفة"(1)، فهذا قول يحتاج إلى النظر فيه، لأن أسماء الله سبحانه وتعالى "تنقسم على ثلاثة أقسام: أسماء تدل على الذات المقدسة، وأسماء تدل على الصفات، وأسماء تدل على الأفعال"(2) وبالتالي فإن هنا علاقة عموم وخصوص حيث إن الاسم أعم من الصفة، وهذا يظهر من خلال أن "كل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة"(3)، ويقول ابن تيمية -رحمه الله- أيضاً: "فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى بل هي داخلة في المسمى ولكنها زائدة على الذات المجردة التي تثبتها نفاة الصفات"(4)، وبهذا يظهر أن الاسم غير الصفة، بحيث إن الاسم في حق الله سبحانه وتعالى يضم الذات والصفة فمثلاً: الرحيم اسم يدل على ذات الله وعلى صفته الرحمة، ويقول في ذلك شارح (لمعة الاعتقاد): "كل اسم من أسماء الله فإنه يدل على ذات الله وعلى الصفة التي تضمنها وعلى الأثر المترتب عليه إن كان متعدياً، ولا يتم الإيمان بالاسم إلا بإثبات ذلك كله"(5)، وبهذا
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص148.
(2) - المقصد الأسني -في شرح أسماء الله الحسنى- للإمام عبد العزيز أحمد الديريني ص12، تحقيق د. مصطفى محمد حسين الذهبي، الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة، ط الأولى 1409هـ-1998م.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 13/178.
(4) - الجواب الصحيح -لمن بدل دين المسيح- لابن تيمية 2/154، الناشر: مكتبة المدني، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(5) - شرح لمعة الاعتقاد -الهادي إلى سبيل الرشاد- لمحمد بن صالح العثيمين ص23، تحقيق: أشرف بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، الناشر: مكتبة الإمام البخاري، ط الأولى 1412هـ-1992م.(1/197)
العرض يظهر عدم صحة ما ذهب إليه الحبشي من جعل الاسم والصفة بمعنى واحد، ويزيد هذا الأمر وضوحاً وبياناً صاحب (لوامع الأنوار) بقوله: "أسماؤه الحسنى أعلام وأوصاف، فالوصف فيها لا ينافي العلمية، وهذا بخلاف أوصاف العباد، ثم إن الاسم من أسمائه له دلالات، دلالة على الذات والصفة بالمطابقة، ودلالة على أحدهما بالتضمن، ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم لأسمائه الحسنى اعتباران: (أحدهما) من حيث الذات و(الثاني) من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول مترادفة، وبالاعتبار الثاني متباينة"(1)، وهذا يؤكد على عدم صحة ما ذهب إليه الحبشي.
... وأيضاً لو كان الاسم يطلق على الصفة أو العكس، لما أتعب علماء السلف أنفسهم ورددوا في كتاباتهم (أسماء الله الحسنى وصفاته العلى)(2)، ولاكتفوا بذكر الاسم أو الصفة، وبذلك يجمعوا بين الاثنين، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فتبين عدم صحة القول الذي قال به الحبشي.
... ولقد أصاب الأحباش عندما منعوا تسمية الله بأسماء لم ترد في الشرع مثل: المقيم والروح والعقل(3)، وهذا موافق لما عليه أئمة السنة من أن أسماء الله الحسنى توقيفية ثابتة بالشرع، يقول صاحب (لوامع الأنوار): "الأسماء الحسنى في القول الحق المعتمد عند أهل الحق توقيفية بنص الشرع وورود السمع بها"(4)، ويقول شارح (لمعة الاعتقاد): "أسماء الله لا تثبت بالعقل وإنما تثبت بالشرع، فهي توقيفية يتوقف إثباتها على ما جاء في الشرع فلا يزاد فيها ولا ينقص"(5).
__________
(1) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/124.
(2) - انظر: الفوائد لابن قيم الجوزية ص183، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/20، 6/84، لوامع الأنوار للسفاريني 1/124.
(3) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص148، مرشد الحائر للقاضي ص23.
(4) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/124.
(5) - شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين ص23.(1/198)
... ولكن الأحباش لم يسيروا على منهج واحد في هذه المسألة، لأنهم استخدموا أسماء في حق الله لم ترد في الشرع مثل: واجب الوجود، الصانع، المحدث، القديم(1) وهذا مردود على الأحباش بما سبق بيانه.
والحبشي يقع في التناقض والاضطراب في أقواله لأنه منع تسمية الله بأسماء لم ترد في الشرع فمثلاً: يمنع تسميته بالناسي والماكر والمستهزئ ويقول: "من قال يجوز تسمية الله ناسياً وماكراً ومستهزئاً كفر"(2)، ثم يظهر التناقض واضحاً عندما يقول: "أما إذا قلنا يا طاهر على الله فيجوز لأن معناه المنزه عن النقائص"(3) وهنا يطرح التساؤل التالي: ما المعيار أو المنهج الذي استخدمه الحبشي في إطلاق ما يريد من الأسماء في حق الله ونفي ما لا يريد؟ أم أن منهجه تابع للأهواء، بحيث إذا أراد تكفير أحد من مخالفيه في التفكير مثل: سيد قطب -رحمه الله- لأنه استخدم في حق الله (العقل المدبر) فيقوم الحبشي بتكفير من يستخدم مثل هذه الألفاظ لأنها لم ترد في الشرع، ويستدل على ما يقول بنصوص للأشعري ولأبي منصور البغدادي كما في كتابه الشرح القويم، وأما إذا استخدم الحبشي لفظاً أعجبه، أو قال به أحد من الأشاعرة وإن لم يجمعوا عليه، قال بجوازه(4)، وبهذا يظهر أنه لا منهج ثابت لدى الحبشي يستخدمه في إطلاق أسماء الله في حقه، وإنما هو التردد والاضطراب في التفكير.
المطلب الثاني: موقف الأحباش من الصفات:
... خاض الأحباش كثيراً في موضوع الصفات، ويعتبر هذا الباب من أهم أبواب العقيدة لديهم، والناظر لما كتبوه في موضوع الصفات لا يجد فيه اختلافاً كثيراً عن الأشاعرة.
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص21، الشرح القويم للحبشي ص118، شرح الصفات للحبشي ص14-16، بغية الطلب للحبشي ص20، المطالب الوفية للحبشي ص33، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص57،211،212،مختصر الهرري للحبشي ص11.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص149.
(3) - المصدر السابق ص150.
(4) - انظر: المصدر نفسه ص150-151.(1/199)
ولذلك يطرح الأحباش في موضوع الصفات مجموعةً من القضايا أهمها ما يلي:
أولاً: علاقة الصفات بالذات عند الأحباش:
صفات الله ليست عين الذات ولا غير الذات:
يرى الحبشي أن: "صفات الله ليست عين الذات ولا غير الذات"(1)، ويعلل ذلك بأن: "ذات الله واحد، متصف بصفات لا هي عينه ولا هي غيره، أي لا يصح انفكاكها عنه كالغَيْرَين ولا هي عينه بل لها مفهوم غير مفهوم الذات"(2)،ويُمثل لذلك بقوله: "إذا قلت: (علم الله) يفهم من هذه الكلمة غير مفهوم الذات المقدس، وإذا قلت: (الله) يفهم من الذات، فلا يلزم من قولنا: الله له علم قديم، وقدرة قديمة، وإرادة قديمة، وسمع قديم، وبصر قديم، وحياة قديمة، وكلام قديم قائمات بذاته، إثبات آلهة بل أثبتنا إلهاً واحداً متصفاً بصفات أزلية بأزلية الذات"(3)، وبالتالي يَخْلصُ الحبشي بأن صفات الله تعالى "ليست عين الذات، ولا غير الذات،فلا يلزم قدم الغير ولا تَكَثُّرُ ذوات قدماء"(4).
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص67، انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص38-39، ص215-216.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص68.
(3) - المصدر السابق ص68.
(4) - المصدر نفسه ص68، وانظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص36-38.(1/200)
إن ما ذهب إليه الحبشي من جعل الصفات ليست عين الذات ولا غير الذات هو ما ذهب إليه أئمة السلف وذلك "أن الذات إن أريد بها الذات الموجودة في الخارج فتلك مستلزمة لصفاتها، يمتنع وجودها بدون تلك الصفات، وإذا قدّر عدم اللازم لزم عدم الملزوم، فلا يمكن فرض الذات الموجودة في الخارج منفكة عن لوازمها، حتى يقال: هي زائدة أو ليست زائدة، لكن يقدر ذلك تقديراً في الذهن وهو القسم الثاني، فإذا أريد بالذات ما يقدّر في النفس مجرداً عن الصفات، فلا ريب أن الصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في النفس، ومن قال من متكلمة أهل السنة: (أن الصفات زائدة على الذات) فتحقيق قوله: أنها زائدة على ما أثبته المنازعون من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات، ونحن نثبت صفاتها، زائدة على ما أثبتوه هم، لا أنّا نجعل في الخارج ذاتاً قائمة بنفسها، ونجعل الصفات زائدة عليها، فإن الحي الذي يمتنع أن لا يكون إلا حياً، كيف تكون له ذات مجردة عن الحياة، وكذلك ما لا يكون إلا عليماً قديراً، كيف تكون ذاته مجردة عن العلم والقدرة ؟ "(1).
__________
(1) - درء التعارض لابن تيمية 3/20-21، انظر: الصفدية لابن تيمية ص109.(1/201)
... ومما يؤكد ما ذهب إليه الحبشي بأن صفات الله لا تعتبر عين الذات ولا غير الذات "أن الحالف بصفاته ليس حالفاً بغيره، ولو كانت الصفة يطلق عليها القول بأنها غيره، لكان الحلف بها حلفاً بغيره، وإذا قال القائل: الحالف بصفته حالف به، لأن الصفة تستلزم الموصوف وهو المقصود باليمين. قيل لهم: فلهذا لم يدخل في إطلاق القول بأنها غير الله، فعلمه لازم له وملزوم له، وكلامه لازم له وملزوم له، والصفة داخلة في مسمى الموصوف، فإذا قال القائل: عبدت الله، وذكرت الله ونحو ذلك فاسم الله متضمن لصفاته اللازمة لذاته، فإذا قيل: أنها غير الله فقد يفهم منه أنها خارجة عن مسمى اسمه وهذا باطل، ولهذا قد يقال: أنها غير الذات، ولا يقال أنها غير الله، لأن لفظ (الذات) يشعر بمغايرته للصفة، بخلاف اسم الله تعالى فإنه متضمن لصفات كماله، وقولنا:أنه مغاير للذات لا يتضمن جواز وجوده دون الذات، فإنه ليس في الخارج ذات منفكة عن صفات، ولا صفات منفكة عن ذات بل ذلك ممتنع لنفسه"(1).
__________
(1) - الصفدية لابن تيمية ص108-109، انظر: درء التعارض لابن تيمية 3/23، منهاج السنة لابن تيمية 2/569-570.(1/202)
وأيضاً لا بد من معرفة أنه لا يوجد ذات في خارج الذهن منفكة عن صفاتها حتى يقال: أن الصفات غير الذات أو زائدة على الذات ولمعرفة هذا المعنى، لا بد من معرفة حقيقة الذات، حيث إن: "لفظ الذات في الأصل تأنيث (ذو) كقوله تعالى: { وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الأنفال:1]، وقوله تعالى: { عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران:119]، وهي تستلزم الإضافة، ولكن المتكلمين قطعوه عن الإضافة وعرّفوه فقالوا (الذات)، وحقيقته التي لها صفات، فحيث قيل لفظ (الذات) كان مستلزماً للصفات، ويستحيل وجود ذات منفكة عن الصفات في الخارج وفي العقل وفي اللغة، ومن قدّر ذاتاً بلا صفات فهو تقدير محال كما يقدّر سواد ليس بلون وعلم بلا عالم، عالم بلا علم ونحو ذلك من الأمور الممتنعة"(1).
__________
(1) - الصفدية لابن تيمية ص109.(1/203)
... ولكن الذي يؤخذ على الحبشي استخدامه لفظ (الغير) في اعتبار صفات الله غير الذات، لأن "لفظ (الغير) قد يراد به المباين للشيء، وقد يعني به ما يُعلم الشيء بدونه"(1) لهذا امتنع "السلف والأئمة أن يطلقوا على صفات الله: كلامه وعلمه ونحو ذلك أنه غير له أو أنه ليس غيره"(2) وهذا الأمر يوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بأمثلة يذكرها في الصفدية فمثلاً: "لما سألوا الإمام أحمد في مناظراتهم له في المحنة، وأمر المعتصم قاضيه عبد الرحمن بن اسحق(3) أن يناظره، سأله فقال: ما تقول في القرآن: أهو الله أم غير الله؟ عارضه الإمام أحمد بالعلم فقال: ما تقول في علم الله؟ أهو الله أم غير الله؟ فسكت"(4)، ويؤكد هذا المعنى شارح الطحاوية بقوله: "وكذلك لفظ الغير فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له. ولهذا كان أئمة السنة -رحمهم الله تعالى- لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره، لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو…"(5) ولهذا لا بد من التفصيل والبيان عند إطلاق لفظ الغير مع صفات الله، والأولى تركها لأنها لم ترد عن
__________
(1) - المصدر السابق ص107.
(2) - المصدر نفسه ص107.
(3) - عبد الرحمن بن اسحق: عبد الرحمن بن اسحق بن إبراهيم بن سلمة، الضبي، كان يتولى القضاء على الرقة ثم ولي القضاء بمدينة المنصور، وبالشرقية، وكان من أصحاب أبي حنيفة، تقلد الحكم في أيام المأمون وما زال إلى آخر أيام المعتصم، توفي سنة 232هـ. انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 10/260-261، أخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان المعروف بوكيع 3/282-283، الناشر: عالم الكتب، بيروت -بدون تاريخ نشر ورقم طبعة-.
(4) - الصفدية لابن تيمية ص107، انظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص399-400، طبقات الشافعية للسبكي 2/46-47.
(5) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص125، وانظر: لوامع الأنوار للسفاريني 1/29.(1/204)
السلف رضوان الله عليهم.
صفات الله أزليةٌ قائمةٌ بذاته:
يرى الحبشي "أن الله تعالى له صفات أزلية قائمة بذاته"(1)، ويبين المقصود بأن الصفات قائمة بذاته بقوله: "أي أنها ثابتة له، لا تنفك عنه كما ينفك الغير عن الغير، وليس معنى قولنا: قائمة بذاته متصلة بذاته"(2)، وهناك ألفاظ يحذر الحبشي من استخدامها في هذه المسألة فيقول: "فيجب اجتناب التعبير بأن صفات متصلة بذاته أو حالة في ذاته أو أن يقال هي بعض ذاته"(3)، ويمثل الحبشي لصفات الأزلية القائمة بذاته بقوله: "فنقول علمه تعالى صفة أزلية أبدية قائمة بذاته وقدرته صفة أزلية قائمة بذاته يتأتى بها الإيجاد والعدم"(4)، وفي موضع آخر يبين أن صفات الله قائمة بذاته "أن صفات الله تعالى باقية ببقاء قائم بذاته عز وجل"(5)، ويقول أيضاً في صفات الله: "… وهي أزلية أبدية باتفاق أهل الحق أي ليست حادثة في ذات الله بل هي قائمة بذات الله أزلاً وأبداً، فلا تتغير ولا تزيد ولا تنقص كصفات الخلق"(6).
... وقول الحبشي بأن صفات الله أزلية قائمة بذاته هذا موافق لما عليه أئمة السلف، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: ".. فلا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة، ولا عالم إلا من يقوم به العلم…"(7)، وهنا إثبات لشيخ الإسلام بأن صفات الله قائمة بذاته سبحانه وتعالى. ...
وهذا ما ذهب إليه الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة "ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه. لم يزدد بكونهم شيئاً، لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً"(8).
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص66.
(2) - المصدر السابق ص67.
(3) - المصدر نفسه ص67.
(4) - المصدر نفسه ص67.
(5) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص40.
(6) - الشرح القويم للحبشي ص116.
(7) - منهاج السنة لابن تيمية 2/374.
(8) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص124 -المتن-.(1/205)
ويقول الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرحه للطحاوية "أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال، صفات الذات وصفات الفعل. ولا يجوز أن يعتقد أن الله وُصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها، لأن صفاته سبحانه صفات كمال وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده"(1).
ثانياً: الصفات الواجب معرفتها عند الأحباش:
... يرى الأحباش أن هناك صفات ثلاث عشرة يجب معرفتها من قِبل كل مكلف، وإن لم يجب حفظ ألفاظها يقول في ذلك الحبشي: "وهذه الصفات الثلاث عشرة الواجبة لله تجب معرفتها على المكلف ولا يجب حفظ ألفاظها على كل مكلف"(2)، وبالتالي إن الأحباش عدوا ثلاث عشرة صفة يجب معرفتها، وهذه الصفات وردت في القرآن إما لفظاً أو معنى، ويعبر الحبشي عن هذا بقوله: "إنه يتلخص من معنى ما مضى إثبات ثلاث عشرة صفة لله تعالى، تكرر ذكرها في القرآن إما باللفظ وإما بالمعنى"(3).
والصفات الثلاث عشرة الواجبة التي ذكرها الأحباش هي كالتالي:
الوجود: أي "إن الله تعالى موجود أزلاً وأبدأً فليس وجوده تعالى بإيجاد موجد"(4)، "ولم يكن في الأزل معه شيء أي لا زمان ولا مكان ولا أجرام"(5).
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص124، انظر: لوامع الأنوار للسفاريني 1/218-219.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص116، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص30، المطالب الوفية للحبشي ص69، شرح الصفات للحبشي ص34، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص21.
(3) - بغية الطالب للحبشي ص20، مختصر الهرري للحبشي ص12، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص21-22.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص30.
(5) - شرح الصفات للحبشي ص8، انظر: بغية الطالب للحبشي ص20، الشرح القويم للحبشي ص117-118، مختصر الهرري للحبشي ص12، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص22.(1/206)
القدم: ويعرفه الحبشي بأنه: بمعنى الأزلية، لا بمعنى تقادم العهد والزمن، لأن لفظ القديم والأزلي إذا أطلقا على الله كان المعنى أنه لا بداية لوجوده، فيقال: الله أزلي، الله قديم، وإذا أطلقا على المخلوق كانا بمعنى تقادم العهد والزمن، قال الله تعالى في القمر: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يس:39].(1)
البقاء: أي "يجب البقاء لله تعالى بمعنى أنه لا يلحقه فناء"(2)، أي لا نهاية لوجوده تعالى.
السمع: "وهو صفة قديمة قائمة بذات الله، أي ثابتة له تتعلق بالمسموعات… ولا يجوز أن يكون سمعه تعالى حادثاً كسمع خلقه، ولا يجوز أن يكون بآلةٍ كسمعنا فهو يسمع بلا أذن ولا صماخ"(3).
البصر: "معناه الرؤية، البصر صفةٌ أزلية أبدية متعلقة بالمبصرات، فهو تبارك وتعالى يرى ذاته الأزليّ، ويرى الحادثات برؤيته الأزلية، وليس بصره كبصر خلقه، لأن بصر خلقه بآلة ويكون بالعين"(4)، ويتحدث الحبشي عن صفة البصر في موضع آخر فيقول: "فهو يرى برؤية أزلية أبديةٍ المرئيات جميعها ويرى ذاته بغير حدقةٍ وجارحةٍ، لأن الحواس من صفات المخلوقين"(5).
__________
(1) - انظر:الصراط المستقيم للحبشي ص31، الشرح القويم للحبشي ص118، شرح الصفات للحبشي ص14-16، بغية الطالب للحبشي ص20، مختصر الهرري للحبشي ص12، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص22.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص31، وانظر: الشرح القويم للحبشي ص120-121، بغية الطالب للحبشي ص20، مختصر الهرري للحبشي ص12، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص22.
(3) - شرح الصفات للحبشي ص28، انظر: الشرح القويم للحبشي ص121-122، الصراط المستقيم للحبشي ص31، بغية الطالب للحبشي ص21، مختصر الهرري للحبشي ص12.
(4) - شرح الصفات للحبشي ص30، انظر: الشرح القويم للحبشي ص122-123، بغية الطالب للحبشي ص21، مختصر الهرري للحبشي ص12، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص22.
(5) - الصراط المستقيم للحبشي ص32.(1/207)
الإرادة: "الإرادة وهي المشيئة واجبة لله تعالى، وهي صفة أزلية أبدية يخصص الله بها الجائز العقلي بالوجود بدل العدم، وبصفة دون أخرى وبوقت دون آخر"(1)، وفي موضع آخر يقول الحبشي: "الإرادة صفة قديمة قائمة بذات الله أي ثابتة لذاته يخصص بها الممكن العقلي بصفةٍ دون صفة"(2).
القدرة: "وهي صفة أزلية ثابتة لذات الله تعالى، ويصح أن يقال: قائمة بذات الله تعالى، لأن المعنى واحد… والقدرة يتأتى بها الإيجاد والإعدام أي يوجد بها المعدوم من العدم ويعدم بها الموجود"(3).
العلم: "علم الله قديم أزلي كما أن ذاته أزلي، فلم يزل عالماً بذاته وصفاته وما يحدثه من مخلوقاته فلا يتصف بعلم حادثٍ لأنه لو جاز اتصافه بالحوادث لانتفى عنه القِدم لأن ما كان محلاً للحوادث لا بد أن يكون حادثاً"(4).
الحياة: "الحياة في حق الله تعالى صفةٌ أزلية أبدية ليست كحياة غيره بروحٍ ولحمٍ ودمٍ"(5)، ويقول الحبشي عن صفة الحياة في موضع آخر: "يجب لله تعالى الحياة، فهو حي لا كالأحياء، إذ حياته أزلية أبدية ليست بروح ودم"(6).
__________
(1) -المصدر السابق ص33، انظر: الشرح القويم للحبشي ص130-131، بغية الطالب للحبشي ص20، مختصر الهرري للحبشي ص12.
(2) - شرح الصفات للحبشي ص24.
(3) - المصدر السابق ص22، انظر: الشرح القويم للحبشي ص133-134، الصراط المستقيم للحبشي ص34، بغية الطالب للحبشي ص20،مختصر الهرري للحبشي ص12،بهجة النظر لقسم الأبحاث ص22.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص35، انظر:الشرح القويم للحبشي ص136، شرح الصفات للحبشي ص25-28، بغية الطالب للحبشي ص21، مختصر الهرري للحبشي ص12، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص22.
(5) - شرح الصفات للحبشي ص21، انظر:الشرح القويم للحبشي ص140، بغية الطالب للحبشي ص21.
(6) - الصراط المستقيم للحبشي ص35.(1/208)
الوحدانية: "معنى الوحدانية أنه ليس ذاتاً مؤلفاً من أجزاء فلا يوجد ذات مثل ذاته وليس لغيره صفة كصفته، وفعل كفعله وليس المراد بوحدانيته وحدانية العدد إذ الواحد في العدد له نصف وأجزاءٌ أيضاً، بل المراد أنه لا شريك له"(1).
القيام بالنفس: يبين الحبشي معنى صفة القيام بالنفس فيقول: "اعلم أن معنى قيامه بنفسه هو استغناؤه عن كل ما سواه فلا يحتاج إلى مخصَّص له بالوجود، لأن الاحتياج إلى الغير ينافي قدمه، وقد ثبت وجوب قدمه وبقائه"(2).
المخالفة للحوادث: "يجب لله تعالى أن يكون مخالفاً للحوادث بمعنى أنه لا يشبه شيئاً من خلقه، فليس بجوهرٍ يشغل حيزاً ولا عرضٍ، والجوهر ما له تحيز وقيام بذاته كالأجسام، والعرض ما لا يقوم بنفسه، وإنما يقوم بغيره كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق والألوان والطعوم والروائح"(3).
__________
(1) - المصدر السابق ص36، انظر:الشرح القويم للحبشي ص140-141، شرح الصفات للحبشي ص18-19، بغية الطالب للحبشي ص20.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص36، انظر:الشرح القويم للحبشي ص142-143، شرح الصفات للحبشي ص19، بغية الطالب للحبشي ص20.
(3) -شرح الصفات للحبشي ص19،انظر:الشرح القويم للحبشي ص143-144،الصراط المستقيم للحبشي ص37.(1/209)
الكلام: "هو صفة أزلية أبدية، هو متكلم بها آمرٌ، ناهٍ، واعدٌ، متوعد ليس ككلام غيره، بل أزلي بأزليةِ الذات، لا يشبه كلام الخلق وليس بصوت يحدث من انسلال الهواء أو اصطكاك الأجرام، ولا بحرفٍ ينقطع بإطباق شفةٍ أو تحريك لسانٍ… وكلامه تعالى الذاتي ليس حروفاً متعاقبة ككلامنا. وإذ قرأ القارئ منا كلام الله فقراءته حرف وصوت ليست أزلية"(1)؛ ثم يتحدث الحبشي عن مسألة لها صلة وثيقة بكلام الله، وهي إطلاقات القرآن فيقول في ذلك: "القرآن له إطلاقان: يطلق على اللفظ المنزل، وعلى الكلام الذاتي الأزلي الذي ليس هو بحرفٍ وصوت، ولا لغة عربية ولا غيرها. والحاصل أنه إن قصد بكلام الله اللفظ المنزل الذي بعضه بلغة العرب، وبعضه بالعبرانية، وبعضه بالسريانية فهو حادث مخلوق، فالأول شهر بالقرآن والثاني بالتوراة والثالث بالإنجيل"(2)، وفي المعنى نفسه يتحدث الحبشي عن كلام الله فيقول: "ويُعبر عنه بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة. وليست هذه الكتب المنزلة عين الكلام الذاتي، بل هي عبارات عنه… فالقرآن يراد به الكلام الذي هو معنى أي صفة قائمة بذات الله، ويطلق على اللفظ المنزل على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء:193-194]، وليس الكلام الذي هو معنى قائم بالله، المسمى الكلام النفسي لكونه قائماً بذات الله أي بنفسه أي ذاته. فالقرآن بمعنى اللفظ المنزل هو الذي يكتب بأشكال الحروف، ويسمع بالآذان، ويحفظ في الأذهان بالألفاظ المتخيلة،ويقرأ باللفظ، أما الكلام الذاتي فلا يحل في المصاحف، لكنه يطلق على كلا الأمرين أنه كلام الله فهو باعتبار إطلاقه على الكلام النفسي حقيقة عقلية شرعية. أما باعتبار إطلاقه على اللفظ
__________
(1) -الصراط المستقيم للحبشي ص32،انظر:الشرح القويم للحبشي ص123-124،بغية الطالب للحبشي ص21
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص32-33.(1/210)
المنزل فهو حقيقة شرعية"(1). ويبين الحبشي أن نزول كلام الله إلى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- باعتبار اللفظ المنزل غير عين كلام الله الذاتي من خلال قوله: "إن جبريل وجده مكتوباً في اللوح المحفوظ فأنزله بأمر الله له على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قراءة عليه لا مكتوباً في صحفٍ، ويدل لذلك قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [التكوير:19]، أي مقروء جبريل، فلو كان هذا اللفظ المنزل عين كلام الله الذاتي لم يقل الله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [التكوير:19]، أي جبريل، لأن جبريل هو المراد بالرسول الكريم"(2). ويوضح الحبشي بيان إنزال القرآن على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "والله تعالى أسمع جبريل -عليه السلام- قبل أن ينزل بالقرآن على سيدنا محمد كلاماً غير كلامه الأزلي الذي ليس حرفاً، ولا صوتاً، أسمعه كلاماً مخلوقاً بصوتٍ وحروفٍ متقطعة على ترتيب اللفظ المنزل، وفهم منه جبريل هذا اللفظ المنزل، الله تعالى خلق صوتاً بحروف القرآن فأسمع جبريل ذلك الصوت، وجبريل تلقاه ونَزلَ به على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وكذلك وَجَدَ جبريل هذا الصوت الذي سمعه مكتوباً في اللوح المحفوظ. فيفهم من هذا أن جبريل لم يسمع القرآن من كلام الله الأزلي الذي ليس حرفاً ولا صوتاً"(3).
__________
(1) - شرح الصفات للحبشي ص31-32.
(2) - المصدر السابق ص33.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص125.(1/211)
... مما سبق ذكره يتبين أن الأحباش أثبتوا ثلاث عشرة صفة لله من صفاته العُلى، وأوّلوا بقية الصفات، وهذا المنهج مخالف لما عليه أئمة السنة لأنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه، ونفوا ما نفاه الله عن نفسه مما جاء في الكتاب والسنة، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه…"(1).
... وسيتم مناقشة الأحباش -بمشيئة الله بطريقتين: الأولى: مناقشة منهجهم بشكل عام، والثانية: مناقشتهم في الصفات التي أثبتوها بخلاف السلف.
الطريقة الأولى: مناقشة منهج الأحباش في إثبات الصفات الثلاث عشرة:
الأحباش اخطأوا بانتهاجهم هذا المنهج من حيث إثبات صفات محددة -وهي الصفات الثلاث عشرة- وتأويل بقية الصفات، وهذا مما لا ريب فيه مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة، ولهذا يرد عليهم بالردود التالية:
القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر(2).
فيقال للأحباش كما أثبتم الكلام والسمع والبصر والإرادة لله وغيرها من الصفات الثلاث عشرة، أثبتوا الصفات الأخرى التي أولتموها مثل الاستواء والمجيء والنزول، فلا فرق بين ما أثبتموه وبين ما نفيتموه بتأويله، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر.
القول في الصفات كالقول في الذات(3).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/87، وانظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص218.
(2) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/16-20، العقيدة في الله د. الأشقر ص242-243.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/21-22، شرح الفقه الأكبر للقاري ص49-50، العقيدة في الله د. الأشقر ص243.(1/212)
ويقال للأحباش أنكم أثبتم لله ذاتاً حقيقيةً لا تماثل ذوات المخلوقين، فكذلك فلله صفات حقيقية لا تماثل صفات المخلوقين التي نفيتموها خوف التشبيه والتجسيم.
الاتفاق في الألفاظ لا يعني الاتفاق في المعنى، وهذا ما يوضحه صاحب كتاب (العقيدة في الله) بقوله: "الاتفاق في الأسماء لا يقتضي التساوي في المسميات"(1) فمثلاً ذكر القرآن أنواعاً من فاكهة الجنة، وهذه الفاكهة تتشابه مع فاكهة الدنيا في الاسم، ولكن في الطعم واللون والشكل هناك اختلاف كبير، وهذا ما يؤكده -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ"(2)، وهذا الاختلاف بين المخلوقين، فكيف بين الخالق والمخلوق، بل ويرد على الحبشي من كلامه حيث يقول: "وأما اتفاق اللفظ فلا يعني اتفاق المعنى"(3)، ولكن مع تصريحه هذا إلا أنه يثبت بعض الأمور وينفي الآخر بحجة خوفه من الوقوع في التشبيه والتجسيم، وهذا تناقض واضح فيما يقول الحبشي ويعتقد.
__________
(1) - العقيدة في الله د. الأشقر ص244.
(2) - صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، ح2824، 4/2174-2175.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص33.(1/213)
إن ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ربه، يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف، لأن الصادق المصدوق أخبر به، فما جاء في الكتاب والسنة يجب الإيمان به من كل مؤمن وإن لم يفهم معناه(1)، أو يتصور كيفيته، لأننا غير مطالبين بمعرفة الكيفية، وينسحب هذا الكلام على صفات الله سبحانه وتعالى، وأيضاً يقال للحبشي كما أنك تدعو إلى الإيمان بسؤال الملكين في القبر للميت دون معرفة الكيفية، حيث قلت: "يجب الإيمان بسؤالهما للميت تصديقاً، ولا يجب معرفة كيفية السؤال"(2) وهذا في حق المخلوق سواء الملكين أو الميت، فأنت تطالب بالإيمان بذلك دون تصور الكيفية لأن مثل هذه الأمور لا تعرف إلا عن طريق السمع وكذلك فإن صفات الله لا تعرف إلا عن طريق السمع لأنه هو سبحانه أخبر بها فلذا يجب الإيمان بها دون السؤال عن الكيفية أو تصورها أو توهم التجسيم وما شابهه في حق الله إذا تم إثبات صفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه العزيز وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-. ...
__________
(1) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/28، المسودة لابن تيمية ص147.
(2) - إظهار العقيدة السنية ص252.(1/214)
أن يوصف الله بما وصف به نفسه في الكتاب والسنة دون توهم وجود الشبه بينه سبحانه وتعالى وبين المخلوقين، وهذا ما يقوله الحبشي: "والأصل أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في كتابه العزيز وبما صحّ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفه به من غير أن يكون لأحدٍ شركةٌ مع الله تعالى في ذاته ولا في صفاته"(1)، ولا شك أن الحبشي أجاد في هذا القول، ولكنه خالف نفسه وناقضها عندما أثبت بعض الصفات، وقام بتأويل القسم الآخر، وهذا مردود عليه بما قاله سابقاً وبما قاله سلف الأمة حيث إن "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك،ولا يجدون فيه صفة محصورة،وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة،ويزعمون أن من أقر بها مشبه،وهم عند من أثبتها نافون للمعبود والحق ما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله"(2).
الطريقة الثانية: مناقشة الأحباش في الصفات التي أثبتوها بخلاف السلف:
... الملاحظ أن الأحباش أثبتوا لله ثلاث عشرة صفةً فقط، من هذه الصفات التي أثبتوها خالفوا السلف فيها، ومن تلك المخالفات ما يلي:
أن الأحباش أخذوا من صفة القدم المتصف بها الله سبحانه وتعالى اسماً أطلقوه على الله وهو القديم، وهذا الاسم لم يرد من ضمن أسماء الله سبحانه وتعالى وهذا ما عليه أئمة السلف يقول شارح الطحاوية: "وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم وليس هو من الأسماء الحسنى"(3).
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص154.
(2) - التمهيد لابن عبد البر 7/145.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص112.(1/215)
ولا بد من معرفة أن اسم القديم الذي أطلقه المتكلمون ومنهم الحبشي، ليس بمعنى القديم الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتضح هذا من خلال قول ابن تيمية -رحمه الله-: "والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلفظ القديم بأنه في لغة الرسول التي جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقاً بغيره، كقوله تعالى: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يس:39]، وقال تعالى عن أخوة يوسف: { تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } [يوسف:95]، …وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقاً بعدم نفسه ويجعلونه -إذا أريد به هذا- من باب المجاز، ولفظ المحدث في لغة القرآن يقابل لفظ (القديم) في القرآن"(1)؛ وفي المعنى نفسه يقول شارح الطحاوية: "فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد. ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم كما قال تعالى: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يس:39]، والعرجون القديم الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، وإذا وجد الجديد قيل للأول قديم"(2).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/176.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص112.(1/216)
... مع العلم أن صفة القدم التي يدل عليها في القرآن لفظة (الأول) مثل قوله تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ } [الحديد:3]، وهو ما مدح الله به نفسه ولم يمدح نفسه بلفظة القديم، ويقول شارح الطحاوية موضحاً هذا المعنى: "لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى. وجاء الشرع باسمه الأول وهو أحسن من القديم، لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له بخلاف القديم"(1)، ولذلك فإن اعتبار القديم اسم من أسماء الله الحسنى فيه نظر من وجهين: "الأول: أن أسماء الله تعالى عند أهل السنة توقيفية، والتوقيفي هو الذي لا يثبت إلا بنص، وهذا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكلام السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ليس في شيء منها تسمية الله بالقديم… وأما الوجه الثاني: فلأن أسماء الله كلها حسنى أي بالغة في الحسن منتهاه، فهي مشتملة من كل معنى كمال على أحسنه وأتمه وأعمه فلا نقص فيها بوجه من الوجوه، فلم يكن من أسمائه المريد ولا المتكلم ولا الصانع لانقسام مثل هذه الأسماء إلى صيغتي مدح وذم باعتبارين، وأما الأخبار منه أوسع من باب الإنشاء، وحيث تقرر ذلك فإن القديم ليس من الأسماء الحسنى…"(2).
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص113.
(2) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/38 -الهامش.(1/217)
... وأيضاً فإن الأحباش يستدلون على صفتي القدم والبقاء لله تعالى من قوله تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ } [الحديد:3]، ويزعمون أن الله وصف نفسه بهما من خلال الآية الكريمة السالفة الذكر؛ ومن المعلوم أن الله لم يصف نفسه بالقدم -كما تقدم ذكره- وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى لم يصف نفسه بالبقاء، بل هذا الوصف من استنتاجات المتكلمين التي لم يرد الشرع بها، وفي هذا يقول صاحب (العقيدة في الله): "وصف الله بالقدم والبقاء لم يرد في الكتاب والسنة"(1).
... والحبشي عندما استدل على صفة البقاء لله، استند إلى قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، وهنا الاستدلال في غير موضعه للتالي:
أن الآية الكريمة جاءت تثبت صفة الوجه لله سبحانه وتعالى.
__________
(1) - العقيدة في الله د. الأشقر ص229.(1/218)
أن الحبشي اخذ مفهوم صفة البقاء من لفظة (يبقى) وهذا لا يجوز عند السلف، لأن صفات الله لا تؤخذ من الأفعال وإلا لجاز أن نسمي الله بأنه ماكر ونأخذه من قوله تعالى: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال:30]، ولقد جاء عن الشيخ عبدالله بن بابطين(1) أنه لا يوجد "ما يدل صراحةً على أن الباقي من أسماء الله الحسنى… وإن كان في القرآن قد أضيف البقاء إلى الله في قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، لكن التعبير عن الصفة بالفعل لا يعني أن يشتق له اسم منها، ولذلك لم يشتق لله اسم من نحو قوله: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [البقرة:15]، .. وأمثال ذلك"(2).
إن أسماء الله وصفاته توقيفية، بحيث يتوقف إثباتها على ما جاء من نصوص شرعية لا من استنتاجات عقلية ظنية(3).
أما الذي ورد في الشرع بدل صفة البقاء التي جاء بها الأحباش وأمثالهم من المتكلمين صفة الآخرية المأخوذة من قوله تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ } [الحديد:3].(4)
__________
(1) - عبدالله بن بابطين: هو عبدالله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن بابطين، فقيه الديار النجدية في عصره، ولد في بلدة روضة سُدير سنة 1194هـ، وتوفي سنة 1282هـ/1865م. كتب كتباً كثيرة منها: مختصر إغاثة اللهفان ومختصر بدائع الفوائد كلاهما لابن القيم وحاشية على شرح المنتهى، وله تعليقات على لوامع الأنوار البهية للسفاريني، انظر: موسوعة الزاد للعلوم والتكنولوجيا، المؤلف: مجموعة من العلماء، 12/3481-3482، الناشر: مطابع ديداكو، إسبانيا، ط 1995م،لوامع الأنوار للسفاريني 1/38 -الهامش.
(2) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/39 -الهامش-، وانظر: المصدر نفسه 1/125-126.
(3) - انظر: شرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص23.
(4) - انظر: العقيدة في الله د. الأشقر ص229.(1/219)
... ومن الصفات التي أثبتها الحبشي ولم ترد في الكتاب ولا في السنة صفتا المخالفة للحوادث والقيام بالنفس، وهذا ما يذهب إليه صاحب كتاب (الرد على عبدالله الحبشي) عندما يتحدث عن الصفات التي أثبتها الحبشي فيقول: "منها صفات لم تثبت لا في كتاب ولا في سنة كصفة المخالفة للحوادث، والقيام بالنفس.."(1)، وهاتان الصفتان يقال فيهما ما قيل في صفتي القدم والبقاء، لأن منهج الحبشي فيهما واحد لم يختلف عن سابقتيهم.
ومما يؤخذ على الحبشي في منهجه في الصفات، أنه استخدم طريقة النفي المفصل في الصفات، وبذلك خالف منهج القرآن كما في قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، حيث إن القرآن أجمل القول في نفي المثلية عنه سبحانه في صفاته وأسمائه وذاته، وفصَّل القول في إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وهذا المنهج المخالف لمنهج القرآن يظهر جلياً من خلال أقوال الحبشي التالية:"ولا يجوز أن يكون بآلة كسمعنا فهو يسمع بلا أذن ولا صماخ"(2)، وقوله: "فهو يرى برؤية أزلية أبدية بالمرئيات جميعها، ويرى ذاته بغير حدقةٍ أو جارحةٍ"(3)، وقوله:"وليس بصوت يحدث من انسلال الهواء أو اصطكاك الأجرام، ولا بحرفٍ ينقطع بإطباق شفةٍ أو تحريك لسانٍ"(4)، وقوله: "فهو حي لا كالأحياء، إذ حياته أزلية أبدية ليست بروحٍ ودمٍ"(5)، وقول الحبشي في تنزيه الله عن المشابهة في قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } [القلم:42]: "هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر"(6).
__________
(1) - الرد على الحبشي للشامي ص187.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص28.
(3) - المصدر السابق ص32.
(4) - المصدر نفسه ص32.
(5) - المصدر نفسه ص35.
(6) - الصراط المستقيم للحبشي ص44.(1/220)
إن الحبشي أثبت صفة الكلام، ولكنه مع ذلك خالف السلف في أن جعل كلام الله ليس بحرفٍ وصوت(1)، ويقول الحبشي: "أن الله تعالى متكلم من غير أن يكون كلامه أصواتاً وحروفاً"(2)، والحبشي يعتبر كلام الله معنى قائماً بذات الله فيقول: "كلام الله الذي هو صفة أزلية أبدية قائمة بذات الله ليست مقترنة بالزمن"(3)، ويقول الحبشي أيضاً: "الكلام الذي هو معنى قائم بالله المسمى الكلام النفسي لكونه قائماً بذات الله أي بنفسه أي ذاته"(4)، وبالتالي فإن الحبشي جعل كلام الله ليس بحرفٍ وصوتٍ، وأنه نفساني قائم بذاته.
وهذا الكلام مردود على الحبشي بما جاء في الكتاب والسنة، ومن الأدلة على ذلك ما يلي:
قوله تعالى: { يَامُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } [طه:11-12]، فهذه الكلمات عبارة عن مجموعة من الحروف وهي كلام الله(5).
وقوله تعالى: { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [مريم:52]، وفي هذه الآية دليل على أنه تعالى تكلم بصوت، وذلك أن النداء لا يكون إلا صوتاً مسموعاً، فلا يعقل في لغة العرب لفظ النداء لغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازاً(6).
أما ما جاء في السنة ما يدلل على كلام الله بحرف وصوت ما يلي:
__________
(1) - انظر: المصدر السابق ص32، الشرح القويم للحبشي ص124.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص74.
(3) - المصدر السابق ص71.
(4) - شرح الصفات للحبشي ص31-32.
(5) - انظر: شرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص73.
(6) - انظر: لوامع الأنوار للسفاريني 1/169، شرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص73.(1/221)
ما جاء عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت أن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار"(1).
وما رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير"(2)، وقد فسرَّ الصحابة قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ:23]، مما يوافق الحديث السابق، فقد جاء عن ابن عباس أنه قال في الآية السابقة: لما أوحى الجبار جل جلاله إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم فسألوه عما قال الله: قالوا الحق، علموا أن الله تعالى لا يقول إلا حقاً، وأنه تعالى منجز ما وعد، -قال ابن عباس- وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوه خروا سجداً، فلما رفعوا رؤوسهم قالوا: ماذا قال ربكم،
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) ح7483، 8/246، وأيضاً: كتاب تفسير القرآن، باب (وترى الناس سكارى) ح4741، 6/287.
(2) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) ح7481، 8/245، وأيضاً: كتاب تفسير القرآن، باب (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) ح4701، 5/263-264، سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب (ومن سورة سبأ) ح3223، 5/362، وقال أبو عيسى: حديث حسن صحيح، سنن ابن ماجة لأبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني، المقدمة، ح194، 1/69-70، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.(1/222)
قالوا: الحق وهو العلي الكبير(1).
والحديث الذي يرويه جابر بن عبدالله عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يحشر الله الخلائق فيناديهم بصوتٍ يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان"(2)، وهذا الحديث حسنه ابن القيم وأخرجه من باب الضعف، وينقل عن أئمة السلف مثل ذلك فيقول: "هذا حديث حسن جليل.. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد.. بإسناده بطوله محتجاً به على من رده، وروى البخاري أوله في الصحيح مستشهداً به تعليقاً، ورواه في كتابه الأدب بطوله. ورواه الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه في الأحاديث المختارة، -يقول ابن القيم-وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول:هي أصح من صحيح الحاكم"(3)،ويقول ابن القيم:"ويكفي رواية البخاري في صحيحه مستشهداً به،واحتج به في أفعال العباد ورواه أئمة الإسلام في كتب السنة،وما زال السلف يرويه ولم يسمع عن أحد من أعمدة السنة أنه أنكره حتى جاءت الجهمية فأنكروه،ومضى على آثارهم من اتبعهم بذلك"(4).
وقد جاء عن عبدالله بن أحمد في كتاب السنة أنه قال: "سألت أبي -رحمه الله- عن قوم يقولون: لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بلى إن ربك تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت"(5).
__________
(1) - انظر: جامع البيان للطبري 22/63، كتاب السنة لعبدالله بن الإمام أحمد ح537، 1/281-282، ح538،1/282.
(2) - صحيح البخاري، كتاب (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) 8/245.
(3) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/461-462.
(4) - المصدر السابق 2/462.
(5) - كتاب السُّنة للإمام عبدالله بن أحمد بن حنبل 1/280، تحقيق: د. محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، الناشر: دار ابن القيم، السعودية، ط الأولى 1406هـ-1986م.(1/223)
وقال البخاري في كتابه (خلق أفعال العباد): "ويُذكر عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت،ويكره أن يكون رفيع الصوت(وأن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)(1) فليس هذا لغير الله عز وجل...وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق،لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب،وأن الملائكة يصعقون من صوته"(2)،وفي هذه النصوص رد على الحبشي بعدم الأخذ بأحاديث الصوت في العقائد حيث يقول:"أحاديث الصوت فليس فيها ما يحتج به في العقائد"(3).
... ... ومن الردود التي رد بها سلف الأمة على من جعل كلام الله قائماً بذاته -بالإضافة إلى ما سبق- ما يلي:
يقال للحبشي: أن المسلمين أجمعوا "على أن القرآن انزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- المستمرة الذي تحدى الله الخلق بالإتيان بمثله فعجزوا، وأجمعوا على أنه يقرأ ويسمع ويحفظ ويكتب، وكل هذه الصفات لا تعلق لها بالكلام النفسي"(4).
وأيضاً يقال في الآيات التالية: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنْزِيلًا } [الإنسان:23]، وقوله تعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا } [المزمل:4]، وقوله تعالى: { حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة:6]، وقوله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } [الأعراف:204]، "فإن هذه الآيات كلها من صفات الموجود لا من صفات ما في النفس الذي لا يظهر لحسن ولا يدرك كنهه أو ما هو"(5).
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص134.
(2) - خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ص98، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: دار المعارف، الرياض، سنة النشر 1398هـ-1978م.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص119.
(4) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/163.
(5) - المصدر السابق 1/162.(1/224)
ويقال للحبشي أن الإمام الأشعري الذي تنتسب إليه أثبت وغيره من الأشاعرة أن الصفة النفسية مسموعة وفي هذا يقول صاحب (العلم الشامخ): "لكن ذهب الأشعري في أحد قوليه والسبكي وغيرهما، إلى أن الصفة النفسية مسموعة"(1).
يلزم من كلام الحبشي من أن كلام الله واحد قام بذاته وهو الذي يسمى الكلام النفساني، أن يكون الأخرس متكلماً، بل ويلزم ألا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله، وذلك مثاله كأن يشير أخرس إلى شخص بإشارة فيفهم ذلك الشخص مقصوده، فيكتب عبارته عن المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى، وبالتالي هذا ينطبق على الملك الذي فهم من الله المعنى القائم بنفسه لأنه لم يسمع من الله حرفاً ولا صوتاً بل فهم معنىً مجرداً ثم عبر عنه(2)؛ وهذا بالضرورة كلام باطل ومردود على الحبشي وغيره من المتكلمين.
ويقال للحبشي: إثبات الكلام النفسي لله يحمل مجموعة من التناقضات فمثلاً: أن الكلام الذي أثبته، لم تثبت ما هو؟ بل ولا تصوره؟ ومن المعلوم أن إثبات الشيء فرع تصوره؟ فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته؟(3).
إن القول بالكلام ذات المعنى القائم بالنفس لله، "خلاف الأدلة لأنها تدل على أن كلام الله يسمع ولا يسمع إلا الصوت، لا يسمع المعنى القائم بالنفس"(4)، وأيضاً يعتبر الكلام النفسي لله "خلاف المعهود لأن الكلام المعهود هو ما ينطق به المتكلم لا ما يضمره في نفسه"(5).
ويرد على الحبشي "بقوله -صلى الله عليه وسلم- إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من
__________
(1) - العلم الشامخ للمقبلي اليمني ص172-173.
(2) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص183.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/178-179.
(4) - شرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص73.
(5) - المصدر السابق ص73، انظر: العلم الشامخ للمقبلي ص429، موسوعة أهل السنة لدمشقية 1/599.(1/225)
كلام الناس"(1)، وقال: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإنما أحدث ألا تكلَّموا في الصلاة"(2). واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب -لا يبطل الصلاة وإنما يبطلها التكلم بذلك فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام. وأيضاً ففي (الصحيحين) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به"(3). فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء. فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب"(4) وبذلك يتبين بطلان القول بأن المعنى القائم بالنفس يسمى كلاماً.
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، ح537، 1/381، سنن النسائي، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة، ح1218، 3/14-18.
(2) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى (كل يوم هو في شأن) 8/261، سنن النسائي، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة 3/18-19.
(3) - صحيح البخاري، كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاقة ونحوه ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى، ح2528، 3/163، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، ح127، 1/116، سنن الترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء فيمن يحدّث نفسه بطلاق امرأته، ح1183، 3/480.
(4) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص184-185.(1/226)
وأيضاً إن "إثبات الكلام النفسي لا يثبت لله صفة الكلام وإنما ينفيها، فإنه يجوز حينئذ وصف الأبكم بأنه متكلم لأنه قادر على الكلام النفسي مع عجزه عن الكلام الحقيقي. فإن من لم يكن قادراً على الكلام فهو الأخرس. وإذا كان قادراً ولم يتكلم فهو الساكت"(1).
الاعتقاد بان كلام الله كلام نفساني مناقض لما جاء في القرآن حيث إن الله "فرق بين مراتب تكليمه لرسله. فكلامه لموسى يختلف عن إيحائه لغيره من الأنبياء. فإن الله كلمه من غير واسطة"(2) ولذلك سُمى موسى -عليه السلام- (كليم الله) وهذا من باب المدح، وإلا فكيف يمدح موسى بشيء لا حقيقة له؟!.
ويقال للحبشي: أنت منعت إطلاق ألفاظ في حق الله لم ترد في الشرع، على أن يوصف الله بها أو يسمى بها، لأن صفاته أمر توقيفي من الشارع وهذا موافق لما عليه السلف، فكيف تسمى كلام الله بشيء لم يرد في الشرع كأن تسمى كلامه قائماً بذاته أو كلاماً نفسانياً(3).
إن الحبشي جعل كلام الله معنىً واحداً، فإن عُبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عُبر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل(4)، وبالتالي اختلفت العبارات لا الكلام، وهذا معلوم الفساد لأنه يعني أن آيات القرآن ذات معنى واحد فمثلاً: معنى قوله تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } [الإسراء:32]، هو معنى قوله تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } [البقرة:43]، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى سور المسد(5).
ويقال أيضاً: "فإنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معناهما معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا"(6).
__________
(1) - موسوعة أهل السنة لدمشقية 1/600.
(2) - المرجع السابق 1/600.
(3) - المرجع نفسه 1/600.
(4) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص32-33، الشرح القويم للحبشي ص127-128، شرح الصفات للحبشي ص31-32.
(5) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص178.
(6) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/166.(1/227)
ويقال للأحباش: "إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً، فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة"(1) وبالتالي هذا كلام لن توافقوا عليه، فتبين فساد قولكم.
وفي كيفية تلقي القرآن، وإنزاله على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- تحدث الحبشي عن ذلك في كتاباته، فتارة يذكر أن جبريل -عليه السلام- وجد القرآن مكتوباً في اللوح المحفوظ وأنزله على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بأمر الله سبحانه وتعالى(2) وأخرى يذكر أن الله أسمع جبريل "قبل أن ينزل بالقرآن على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- كلاماً غير كلامه الأزلي الذي ليس حرفاً ولا صوتاً، أسمعه كلاماً مخلوقاً بصوت وحروف متقطعة على ترتيب اللفظ المنزل وفهم منه جبريل هذا اللفظ المنزل.."(3)، ثم يلحق بعد ذلك القول الأول بهذا القول:"وكذلك وجد جبريل هذا الصوت الذي سمعه مكتوباً في اللوح المحفوظ"(4)، فيلاحظ التردد والاضطراب الواقع فيه الحبشي من خلال تعدد الأقوال في كيفية تلقي جبريل-عليه السلام-القرآن من الله، بل في كلامه اتهام لله سبحانه وتعالى بأنه لم يفهم جبريل-عليه السلام-ما أسمعه إياه بحيث رجع جبريل-عليه السلام-مرة أخرى إلى اللوح المحفوظ بعد سماعه للقرآن من الله بالكيفية التي يوردها الحبشي.
__________
(1) - المصدر السابق 1/166.
(2) - انظر: شرح الصفات للحبشي ص33.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص125.
(4) - المصدر السابق ص125.(1/228)
وادعاء الحبشي بأن جبريل عليه السلام، أخذ القرآن من اللوح المحفوظ مردود عليه، وهذا الفساد يبينه النص القرآني في قوله تعالى: { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } [النحل:102]، "يقتضي نزول القرآن من رب العالمين، والقرآن اسم لهذا الكتاب العربي لفظه ومعناه بدليل قوله: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ } [النحل:98]، فإنه إنما يقرأ القرآن العربي لمعانيه المجردة، وأيضاً: فضمير المفعول في قوله (نزله) عائد إلى ما في قوله تعالى: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } [النحل:101]، فالذي أنزله الله هو الذي أنزله روح القدس،فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي، لزم أن يكون نزله من الله فلا يكون شيء نزله من عين من الأعيان المخلوقة"(1) ويقصد بذلك اللوح المحفوظ، وإذا كان جبريل -عليه السلام- نزل بالقرآن من الله، فلا بد أن يكون سمعه من الله تبارك وتعالى "وهذا بيان من الله تعالى أن القرآن الذي هو باللسان العربي المبين سمعه روح القدس من الله سبحانه وتعالى ونزل به منه، وقد قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [الأنعام:114]"(2).
__________
(1) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/166.
(2) - المصدر السابق 1/166-167.(1/229)
ويرد أيضاً على الحبشي بزعمه أن جبريل -عليه السلام- أخذ القرآن مكتوباً من اللوح المحفوظ لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله تعالى وسمعه منه سبحانه وتعالى وذلك بأن "الله تعالى كتب التوراة لموسى -عليه السلام- بيده(1)، فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه الله سبحانه فيه، فإن كان محمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن الكتاب، كان بنو إسرائيل أعلى من محمد -صلى الله عليه وسلم- بدرجة"(2) وهذا باطل لأن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخلق عند الله سبحانه وتعالى، حيث جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة"(3).
وأيضاً فإن "الآيات القرآنية تدل دلالة صريحة على أن القرآن منزل من الله لا من غيره كقوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الزمر:1]، { حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [غافر:1-2]، وكذا قوله تعالى: { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [المائدة:67]"(4).
__________
(1) - انظر: صحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، ح2652، 4/2042-2043.
(2) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/168.
(3) - صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً)، ح4712، 5/269، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة، ح194، 1/184، سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة، ح2434، 4/622-624، سنن الدارمي لعبدالله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، ح52، 1/4241، تحقيق: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، الناشر: دار الريان للتراث -القاهرة-، ودار الكتاب العربي-بيروت- ط الأولى 1407هـ-1987م.
(4) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/169.(1/230)
وأما القول الثاني: أن الله أسمع جبريل كلامه ليس بحرف وصوت فقد تم مناقشته فيما سبق، وبذلك يتبين خطأ ما ذهب إليه الحبشي، والصحيح ما عليه السلف أن الله أسمع جبريل القرآن بصوت وحرف.
أن الحبشي يحاول أن يفرق بين الكلام المنزل مع جبريل وبين كلام الله الذاتي(1)، ويدعي الحبشي: "إن القراءة غير المقروء والتلاوة غير المتلو"(2)، ولهذا يرى الحبشي: "أن القرآن بمعنى اللفظ المنزل المقروء هو مقروء جبريل وليس مقروء الله تعالى"(3)، ويبين الحبشي هذا بقوله: "أن القرآن يقال فيه: أنه مكتوب في مصاحفنا أي بأشكال الكتابة وصور الحروف الدالة عليه، محفوظ في قلوبنا أي بالألفاظ المتخيلة مقروء بألسنتنا أي بالحروف الملفوظة المسموعة، مسموع بآذاننا غير حال فيها، أي أن الكلام الذاتي ليس حالاً في المصاحف ولا في القلوب، ولا هو المسموع بآذاننا، إنما المكتوب بأشكال الحروف والمحفوظ في القلوب والمقروء بالألسن والمسموع بالآذان هو اللفظ المنزل لا عين الصفة القديمة فإنها معنى قائم بذات الله"(4)، ويرجع هذا التخبط لدى الحبشي لاعتبار كلام الله معنىً ذاتياً قائماً بنفسه، ولكن الذي عليه سلف الأمة خلاف ما قاله الحبشي فإنه: "تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً"(5).
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص32-33، شرح الصفات للحبشي ص31-33.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص99.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص129.
(4) - المطالب الوفية للحبشي ص81.
(5) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص169.(1/231)
ويرد على الحبشي في ادعائه بأن "حقيقة كلام الله تعالى: الخارجية: هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه. فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم. وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه. والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا: ما قرأ القارئ كلام الله، وقد قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة:6]، وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله. والآية تدل على فساد قول من قال: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، فإنه تعالى قال: { حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة:6]،ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام.والأصل الحقيقة.ومن قال:إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله، أو حكاية كلام الله، وليس فيها كلام الله، فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً"(1)،والمعنى السابق نفسه يذكره ابن القيم على لسان السلف بقوله: "قالوا: التلاوة هي قراءتنا وتلفظنا بالقرآن. والمتلو هو القرآن العزيز والمسموع بالآذان بالأداء من فيّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي { المص } [الأعراف:1]،و { كهيعص } [مريم:1]،و { حم } [الدخان:1]،و { الم } [البقرة:1]، حروف وكلمات وسور وآيات تلاه عليه جبرائيل،كذلك وتلاه هو على الأمة كما تلاه عليه جبرائيل،وبلغة جبرائيل عن الله تعالى كما سمعه،وهذا قول السلف وأئمة السنة والحديث، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب، والقرآن عندهم جميعه كلام الله حروفه ومعانيه، وأصوات العباد وحركاتهم وأداؤهم وتلفظهم كل ذلك مخلوق بائن عن الله"(2)،وبالتالي فإن منهج السلف واضح حيث إن:القرآن الكريم في
__________
(1) - المصدر السابق ص180-181.
(2) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/480.(1/232)
اللوح المحفوظ، وهو في صدور الذين أوتوا العلم، قال تعالى: { بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت:49]، وهو متلو بالألسنة،قال تعالى: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [القيامة:16]،فالقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة،محفوظ في صدورنا في الحقيقة متلو بألسنتنا في الحقيقة،مسموع لنا في الحقيقة كما قال تعالى: { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة:6].(1)
ثالثاً: موقف الأحباش من الصفات غير الثلاث عشرة التي أثبتوها:
لم يختلف منهج الأحباش عن منهج المتكلمين في الصفات الأخرى -غير الصفات الثلاث عشرة التي أثبتوها على طريقتهم- حيث أوّلوا جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ويرجع السبب في ذلك حسب ظن الحبشي في أن "الآيات والأحاديث الموهم ظاهرها تشبيه الله بخلقه لا بدّ من تأويلها على معنى لائق بالله عز وجل أو الامتناع عن التأويل واعتقاد تنزيهه عن صفات الحدوث والمخلوقين"(2)، ومن أهم الصفات التي أوّلها الأحباش ما يلي:
صفة الاستواء:
__________
(1) - كتاب الأربعين في دلائل التوحيد لأبي إسماعيل الهروي ص93 بتصرف، تحقيق: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي -بدون ناشر-، ط الأولى 1404هـ-1984م.
(2) - صريح البيان للحبشي ص53.(1/233)
اهتم الأحباش كثيراً بصفة الاستواء في كتاباتهم، وجعلوها مضرب المثل في التأويل، ومما قالوه في تأويل هذه الصفة في قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، قول الحبشي: "فلا تكون آية { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، حجة لإثبات الاستقرار لله على العرش، بل الترجيح لمعنى الاستيلاء… كما في قول الشاعر في بشر بن مروان(1):
قد استوى بشر على العراق ... ... ... من غير سيفٍ ولا دمٍ مهراق
__________
(1) - بشر بن مروان: بشر بن مروان بن الحكم بن أبي العاص القرشي الأموي، أميراً، كان سمحاً جواداً. ولي آمرة العراقين (البصرة والكوفة)، لأخيه عبد الملك سنة 74هـ، توفي سنة 75هـ.انظر:البداية والنهاية لابن كثير 9/7، النجوم الزاهرة لابن تغري 1/191.(1/234)
فليس مدح بشر بن مروان في هذا البيت من حيث إنه جالس في هذا البلد، إنما المدح له لأنه استولى أي قهر وهيمن وسيطر على العراق، لأن الجلوس في العراق يشترك فيه الإنسان الشريف، والإنسان القوي، والإنسان الدنيء، والإنسان الضعيف، فالمدح إنما يكون بصفة يمتاز به الممدوح عما لا يكاد يدانيه ولا يساويه ولا يكافئه غيره، فلا بد أن يفهم من الاستواء القهر والاستيلاء، إذ هو أشرف معاني الاستواء ومما يليق بالله تعالى لأنه وصف نفسه بأنه قهار، فلا يجوز أن يترك ما هو لائق بالله تعالى إلى ما هو غير لائق بالله تعالى وهو الجلوس والاتصال والاستقرار"(1)، ويقول الحبشي أيضاً في الاستواء في قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]: "فهذه الآية، السلف لم يشتغلوا بتأويلها بتعيين معنى خاص، إنما قالوا: استوى استواء يليق به مع تنزيهه عن صفات الحوادث، ونفوا الكيفية عن الله تعالى"(2)، ويقول أيضاً في الاستواء: "فتحمل لفظة الاستواء على القهر"(3)، وأحياناً يجعل الحبشي الاستواء بمعنى الاستيلاء والقهر فيقول: "… استوى أي قهر، ومن قال استولى فالمعنى واحد أي قهر"(4)، ومرة أخرى يجمع بين الأقوال السابقة فيقول: "آية الاستواء تحمل على القهر أو يقال استوى استواءً يليق به، أو يقال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، بلا كيف، أما من أراد التأويل التفصيلي فيقول: قَهَرَ ويجوز أن يقول استولى"(5)، وبالإضافة إلى الأقوال السابقة يقول الحبشي بمعنى جديد للاستواء وهو العلو فيقول: "والاستواء قد يراد به أيضاً العلو، والعلو على وجهين: علو مكان، وعلو معنى أي علو قدر، والذي يليق
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص199-200.
(2) - صريح البيان للحبشي ص45، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص47.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص47، انظر: الشرح القويم للحبشي ص159.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص176.
(5) - المصدر السابق ص181.(1/235)
بالله هو علو القدر، لا علو المكان لأنه لا شأن في علو المكان، إنما شأن في علو القدر…"(1).
إن الأحباش خالفوا السلف في تفسيرهم لصفة الاستواء بحيث أوّلوها مرة بمعنى الاستيلاء أو بمعنى القهر، وأحياناً يجمعون بينهما ويجعلونها بمعنى واحد، أو أوّلوا الاستواء بمعنى علو القدر، أو جعلوا الاستواء بمعنى يليق به مع نفي الكيفية عن الله أي تفويض المعنى لله، وبالتالي فإن التردد والاضطراب هي السمة المميزة للحبشي في تأويله لصفة الاستواء، وهي مردودة عليه بالتالي:
تأويل الاستواء بهذه المعاني باطل، بحيث لم يفسره أحد من السلف من صحابة وتابعين بهذه المعاني، ولم يرد تفسيره في أحد الكتب الصحيحة عنهم مما سبق(2)، بل إن الإمام أبا الحسن الأشعري في كتابه الإبانة(3)، يقرر أن من فسر الاستواء بالاستيلاء أو القهر أو الملك، إنما هو من أقوال المعتزلة والجهمية، وليس مما ذهب إليه أهل الحق(4).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص165.
(2) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/92، وانظر: لوامع الأنوار للسفاريني 1/190.
(3) - الأحباش لا يعترفون بكتاب الإبانة للإمام الأشعري، الذي يعلن فيه رجوعه لمذهب أهل السنة والجماعة وخاصة في الصفات، ويعتبرون هذه النسخة مدسوسة على الإمام الأشعري. انظر: مقدمة -منتخب حدائق الفصول للحموي- ص10 -تحقيق تلاميذ الحبشي-.
(4) - انظر: الإبانة للإمام الأشعري ص32.(1/236)
تبطل المعاني السابقة التي ذهب إليها الحبشي في حق الله من خلال ما جاء في لغة العرب حيث إن "لفظ الاستواء في كلام العرب الذين خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه (نوعان) مطلق ومقيد، فالمطلق: ما لم يوصف معناه بحرف مثل قوله: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } [القصص:14]، وهذا معناه كمل وتّم، ويقال: استوى النبات واستوى الطعام. وأما مقيد فثلاثة أضراب (أحدهما) مقيد بـ (إلى)، كقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } [البقرة:29]، …وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } [البقرة:29]، والثاني: مقيد بعلى كقوله تعالى: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } [الزخرف:13]، …وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة (الثالث) المقرون بواو (مع) التي تعدى الفعل إلى الفصول معه نحو: استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها، وهذه معاني الاستواء المنقولة في كلامهم"(1).
ويقال أيضاً: "أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى، إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور: ثم استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا: أنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاحتاج إلى -بيان- صحته، فكيف بيتٍ من الشعر لا يعرف إسناده؟!"(2).
__________
(1) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/353، انظر: شرح العقيدة الواسطية لهراس ص61.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/93، انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2/360.(1/237)
وهذا البيت الذي استدل به الحبشي وجعل الاستواء بمعنى الاستيلاء بناء عليه، قول مرفوض لأن من "تعقب بأن الاستيلاء معناه: حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضاً يقال: استولى فلان على كذا: إذا كان له منازع ينازعه، وهو في حقه تعالى محال أيضاً. وأيضاً: إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجوداً من قبل، والعرش إنما حدث بتخليته تعالى وتكوينه سبحانه، وأيضاً: الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات، فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة"(1)، ثم "أين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه على العرش، فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه"(2).
__________
(1) - جلاء العينين لابن الآلوسي ص364، انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/94.
(2) - جلاء العينين لابن الآلوسي ص369.(1/238)
ويقال أيضاً: أنه لو صح هذا البيت، وصح أنه غير محرف لم يكن فيه حجة بل هو حجة عليهم، وهو على حقيقة الاستواء، فإن بشراً هذا كان أخاً عبد الملك بن مروان وكان أميراً على العراق فاستوى على سريرها كما هي عادة الملوك ونوابها أن يجلسوا فوق سرير الملك مستوين عليه، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة كقوله تعالى: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } [الزخرف:13]، …وفي الصحيح (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ملبياً)(1) وقال علي: (أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدابة يركبها، فلما وضع رجله في الغرز قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله)(2)، فهل نجد في هذه المواضع موضعاً واحداً أنه بمعنى الاستيلاء والقهر؟"(3).
وأيضاً: "إنه لو كان المراد بالبيت استيلاء القهر والملك، لكان المستوي على العراق عبد الملك بن مروان لا أخوه بشر، فإن بشراً لم يكن ينازع أخاه الملك ولم يكن ملكاً مثله،وإنما كان نائباً له عليها ووالياً من جهته، فالمستولي عليها هو عبد الملك لا بشر بخلاف الاستواء الحقيقي،وهو الاستواء فيها والجلوس على سريرها،فإن نواب الملوك تفعل هذا بإذن الملوك"(4).
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الحج، باب ما إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، ح1342، 2/978.
(2) - سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجل إذا سافر، ح2599، 3/33، سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا ركب الناقة، ح3446، 5/501، وقال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.
(3) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/360.
(4) - المصدر السابق 2/361.(1/239)
"إنه لا يقال لمن استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها، بل بينه وبينها بعد كثير، إنه قد استوى عليها،فلا يقال:استوى أبو بكر على الشام،ولا استوى عمر على مصر والعراق…ولم يزل الشعراء يمدحون الملوك والخلفاء بالفتوحات ويتوسعون في نظمهم واستعارتهم فلم يسمع عن قديم منهم: جاهلي ولا إسلامي ولا محدث أنه مدح أحداً قط أنه استوى على البلد الفلاني الذي فتحه واستولى عليه فهذه دواوينهم وأشعارهم موجودة "(1).
ويرد على الحبشي الذي جعل من معاني الاستواء معنى يليق به مع نفي الاستواء عن الله، بما أجاب به الإمام ربيعة الرأي والإمام مالك وغيرهم عن قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، "قالا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ولا يريد أن الاستواء معلوم في اللغة دون الآية، لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوي الناس"(2) حيث "أنه إذا كان معلوماً في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلوماً في القرآن"(3) وبالتالي "لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلوماً لم يحتج أن يقول: الكيف مجهول، لأن نفي العلم بالكيف لا ينفي إلا ما قد علم أصله، كما تقول: إن نكفر بالله، ونؤمن به ولا نعلم كيف هو"(4) وهنا يتبين خطأ ما ذهب إليه الحبشي.
__________
(1) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/361.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/92.
(3) - المصدر السابق 5/93.
(4) - المصدر نفسه 5/93.(1/240)
وأيضاً: "إذا فسر الاستواء بالغلبة والقهر عاد معنى هذه الآيات كلها -الآيات التي ورد فيها ذكر الاستواء- إلى أن الله تعالى أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض ثم غلب العرش بعد ذلك وقهره، وحكم عليه أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله بكلامه أن ينسب ذلك إليه، وأنه أراده بقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، أي اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السموات والأرض، غلبت عرشي وقهرته واستوليت عليه"(1) وهذا المعنى فاسد معلوم الفساد لا خلاف في ذلك.
__________
(1) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/363.(1/241)
كما أن لفظة (استوى) مهما تعددت الصلات المقرونة بها سواء بأداة أم إلى المقترن بواو المصاحبة، أم المقترن بإلى، أم إلى المقترن بعلى، أم إلى كل واحد من ذلك، أم كانت مجرد لفظة (استوى) مجردة فإنها ترجع إلى معنى واحد، ويقول في ذلك ابن القيم: "والذي استوى على العرش لا يحتمل هذا اللفظ معنيين البتة. … فإن الأصل في الكلام الإفراد والحقيقة دون الاشتراك والمجاز"(1)، ثم يقول: "إن نمنع الاحتمال في نفس لفظ الاستواء مع قطع النظر عن صلاته المقرونة لها، وأنه ليس له إلا معنى واحد وإن تنوع بتنوع صلاته كنظائره من الأفعال التي تنوع معانيها بتنوع صلاتها كملت عنه، وصلت إليه ورغبت عنه، ورغبت فيه، وعدلت عنه، وعدلت إليه، فررت منه، وفررت إليه، فهذا لا يقال له مشترك ولا مجاز، والحقيقة واحدة تنوعت دلالتها بتنوع صلاتها، وهكذا لفظ الاستواء هو بمعنى الاعتدال حيث استعمل مجرداً أو مقروناً، تقول: سويته فاستوى كما يقال: استعماله في اللغة ومنه استوى إلى السطح، أي ارتفع في اعتدال، ومنه استوى على ظهر الدابة أي اعتدل عليها، قال تعالى: { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } [الزخرف:13]، (وأَهلَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما استوى على راحلته )(2)، فهو يتضمن اعتدالاً واستقراراً عند تجرده، ويتضمن المقرون مع ذلك معنى العلو والارتفاع وهذا حقيقة واحدة تتنوع بتنوع قيودها كما تتنوع دلالة الفعل بحسب مفعولاته وصلاته، وما يصاحبه من أداة نفي، أو استفهام، أو نهي، أو إغراء فيكون له عند كل أمر من هذه الأمور دلالة خاصة والحقيقة واحدةٌ "(3).
__________
(1) - المصدر السابق 2/368.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من أهلَّ حين استوت به راحلته قائمة، ح1552، 2/181.
(3) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/369.(1/242)
ويرد على الحبشي بتأويله للاستواء بعلو القدر بما أورده الإمام أبو الحسن الأشعري في الإبانة من حيث إثباته للعلو الذاتي لله سبحانه وتعالى حيث قال: "إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه، كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، وقد قال الله عز وجل: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [فاطر:10]،وقال تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [النساء:158]، …وقال سبحانه وتعالى: { ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } [الملك:16]، فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماء… ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا إلى الأرض وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية.. أن قول الله عز وجل: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]،أنه استولى وملك وقهر…وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض فالله سبحانه قادر عليها الحشوش(1)وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستو على الأشياء،كلها لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها،ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول أن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية(2)
__________
(1) - الحشوش: الحشوش في الأصل جمع الحَشّ وهو البستان من النخل، ويُكنى بها عن مواضع الغائط. انظر: تهذيب اللغة للأزهري 3/394.
(2) - الأخلية: هي أماكن بروك النواق وهي كناية عن المكان المستقذر. انظر: تهذيب اللغة للأزهري 7/576-577.(1/243)
،لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو في الأشياء كلها ووجب أن يكون صفة استواء يخص العرش دون الأشياء كلها"(1).
وهذه الأدلة تدلك بطريقة قطعية لا تحتمل التأويل أن الاستواء في حق الله يقصد به العلو والارتفاع(2)، وليس كما أوّله الحبشي من أن المقصود بالاستواء الاستيلاء والقهر والغلبة وعلو القدر أو عدم معرفة المقصود بالاستواء.
صفة الوجه:
لقد أوّل الحبشي صفة الوجه الثابتة لله بالكتاب والسنة، وذلك من خلال قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة:115]، حيث أوّل الوجه في الآية الكريمة بالقِبلة، فقال في معنى الآية: "فأينما توجهوا وجوهكم في صلاة النفل في السفر فَثمَّ قِبلة الله أي: فتلك الوجهة التي توجهتم إليها هي قِبلةٌ لكم، ولا يراد الوجه الجارحة… وقد يراد بالوجهِ الجهة التي يراد بها التقرب إلى الله تعالى، كأن يقول أحدهم (فعلت كذا وكذا لوجه الله) ومعنى ذلك (فعلت كذا وكذا امتثالاً لأمر الله)"(3).
__________
(1) - الإبانة للأشعري ص31-32، وانظر: رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب لأبي الحسن الأشعري ص130-131، تحقيق: عبدالله شاكر محمد الجنيدي، الناشر: مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط 1413هـ، لوامع الأنوار للسفاريني 1/197.
(2) - انظر: جلاء العينين لابن الآلوسي ص371.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص52-53، انظر: الشرح القويم للحبشي ص198-200.(1/244)
والحبشي لا يألو جهداً في الاستدلال بكل نص شرعي يوافق فكرته -حسب ظنه- وإن كان الاستدلال به في الحقيقة في غير موضعه، فمثلاً يذكر ما قاله الإمام البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن في قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88]، "إلا ملكه"(1) ويستدل الحبشي بهذا النص على تأويل صفة الوجه(2)، ويعلق الحبشي على قول الإمام البخاري بقوله: "أي إلا سلطانه، ملك الله أزلي أبدي لا يفنى، أما ملك غيره يفنى.. وقيل : { إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88]، أي كل أمور الدنيا فتهلك إلا ما قصد به وجه الله من صلاةٍ وصيامٍ وحجٍ وزكاة وتهليل وتكبير.."(3).
ويتضح تأويل الحبشي لصفة الوجه بجلاء من خلال قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، فيقول: "أي ذاته"(4).
خالف الأحباش السلف في إثبات صفة الوجه، حيث قاموا بتأويلها، فتارة يؤولون صفة الوجه بالذات أو القِبلة والجهة والسلطان،وهذه التأويلات رد عليها السلف بعدة وجوه منها:
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص28.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص45، الشرح القويم للحبشي ص173.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص173-174.
(4) - بغية الطالب للحبشي ص20.(1/245)
تأويل الحبشي صفة الوجه بالقِبلة أو الجهة في قوله تعالى: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة:115]، مردود عليه بما قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن تفسير وجه الله بقِبلة الله وإن قاله بعض السلف(1) كمجاهد وتبعه الشافعي، فإنما قالوه في موضع واحد لا غير وهو قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة:115]، … على أن الصحيح في قوله تعالى: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة:115]، إنه كقوله في سائر الآيات التي ذكر فيها الوجه، فإنه قد اطرد مجيئه في القرآن والسنة مضافاً إلى الرب تعالى على طريقة واحدة ومعنى واحد، فليس فيه معنيان مختلفان في جميع المواضع غير الموضع الذي ذكره في سورة البقرة، وهو في قوله تعالى: { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة:115]، وهذا لا يتعين حمله على القِبلة والجهة، ولا يمتنع أن يراد به وجه الرب حقيقة فحمله على غير القِبلة كنظائره"(2).
ويقال أيضاً: "انه لا يعرف إطلاق وجه الله على القِبلة لا لغة ولا شرعاً ولا عرفاً، بل القبلة لها اسم يخصها، والوجه له اسم يخصه، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا يستعار اسمه له"(3)، وإن الجهة التي أصلها وجهة لأن الرجل يقابلها ويواجهها بوجهه، وأما تسميتها وجهاً فلا عهد به، فكيف إذا أضيف إلى الله مع العلم أن القبلة لا تعرف (بوجهة الله) في شيء من الكلام.
بالإضافة إلى ما سبق فإن قبلة الله واحدة وهي التي أمر الله عباده أن يتوجهوا إليها، فكيف يُسمى كل وجهة يولي الرجل وجهه إليها قبلة(4).
__________
(1) - وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية -رحمه الله- في آية البقرة115، انظر: مجموعة الفتاوى 2/12-14.
(2) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/391.
(3) - المصدر السابق 2/391-392.
(4) - انظر: المصدر نفسه 2/393.(1/246)
ومما يبطل القول بأن المقصود بالوجه القِبلة أن الآية: "ذكرت مع ما بعدها لبيان عظمة الرب والرد على من جعل لله عدلاً من خلقه أشركه معه في العبادة، ولهذا ذكر بعدها الرد على من جعل له ولداً، فقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } [البقرة:116]، إلى قوله تعالى: { كُنْ فَيَكُونُ } [البقرة:117]، فهذا السياق لا تعرض فيه للقِبلة، ولا سيق الكلام لأجلها، وإنما سيق لذكر عظمة الرب وبيان سعة علمه وملكه وعلمه"(1).
ويقال أيضاً: "إن تفسير القرآن بعضه في بعض أولى التفاسير ما وجد إليه السبيل، ولهذا كان يعتمده الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم، والله تعالى ذكر في القرآن القِبلة باسم القِبلة والوجهة، وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف إليه، فتفسيره في هذه الآية بنظائره هو المتعين"(2)، أي تفسيره بصفة الوجه على الحقيقة اللائقة به سبحانه وتعالى.
__________
(1) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/393.
(2) - المصدر السابق 2/395.(1/247)
أما استدلال الحبشي بنصوص موهمة، تخدم منهجه وفكرته مثل ما قاله البخاري على قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88]، فقال: "ملكه"(1)، فهذا مردود عليه، لأن الحبشي يؤول صفة الوجه بالكلية إلى غير حقيقتها -وهذا واضح من النصوص التي ذكرت فيما سبق-، والسلف استدلوا بهذه الآية على إثبات صفة الوجه لله تعالى(2)، بالإضافة إلى أن الصفة يثبتها السلف على الحقيقة، مع بيان لوازمها كما فعل الإمام البخاري بحيث أثبت صفة الوجه وبينَّ أن من لوازم الصفة إثبات الملك لله مثل قوله تعالى: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } [القمر:14]، أي بمرأى منا وبرعايتنا كما فسرها السلف(3)، مع إثبات صفة العين لله سبحانه وتعالى.
ويبطل قول الحبشي في أن الوجه يقصد به الذات من خلال قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، حيث إنه أضاف الوجه إلى الذات، وأضاف النعت إلى الوجه فقال: { ذُو الْجَلَالِ } [الرحمن:27]، ولو كان من ذكر الوجه صلة ولم يكن صفة للذات لقال: ذي الجلال، فلما قال: { ذُو الْجَلَالِ } [الرحمن:27]، علمنا أنه نعت للوجه وأن الوجه صفة للذات(4).
وتأويل الوجه بالذات أو الوجهة أو السلطان أو غيرها من هذه التأويلات الفاسدة، يعد هذا تكذيباً صريحاً لما أخبر الله به عن نفسه وأخبر به عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(5).
... ... ويقال أيضاً: "أنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه"(6).
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص28.
(2) - انظر: الإبانة للأشعري ص35، مجموعة الفتاوى لابن تيمية 2/258، لوامع الأنوار للسفاريني 1/226، شرح الواسطية لهراس ص47-48.
(3) - انظر: جامع البيان للطبري 27/55-56، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/264.
(4) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/226، انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2/378.
(5) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/387.
(6) - المصدر السابق 1/388.(1/248)
إن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين وجميع أهل السنة والحديث وأتباعهم، متفقون على أن المؤمنين يرون وجه ربهم في الجنة، وهي الزيادة التي فسر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس:26]، وجاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "النظر إلى وجه الله تعالى(1)، فمن أنكر حقيقة الوجه لم يكن النظر عنده حقيقة(2)، وبالتالي يقع في المحظور وهو إنكار نصوص متواترة معروفة في الدين.
__________
(1) - انظر: صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب سورة يونس، قال ابن عباس (فاختلط فنبت بالماء من كل لون) 5/251-252 (بنحوه)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، ح180،181، 1/163 (بنحوه).
(2) - انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2/390.(1/249)
ويقال أيضاً: "إن الوجه حيث ورد فإنما ورد مضافاً إلى الذات في جميع موارده، والمضاف إلى الرب تعالى نوعان: أعيان قائمة بنفسها كبيت الله وناقة الله… فهذه إضافة تشريفٍ وتخصيصٍ، وهي إضافة مملوكٍ إلى مالكه، (والثاني): صفات لا تقوم بنفسها كعلم الله وحياته وقدرته.. فهذه إذا وردت مضافةً إليه فهي إضافة صفةٍ الموصوف بها، إذا عرف ذلك بوجهه الكريم وسمعه وبصره، وإذا أضيف إليه وجب أن تكون إضافة وصف لا إضافة خلق، وهذه الإضافة تنفي أن تكون مخلوقاً، وأن يكون حشراً في الكلام، وفي سنن أبي داود عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا دخل المسجد قال: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم"(1)، فتأمل كيف قرن في الاستعاذة بين استعاذته بالذات وبين استعاذته بالوجه الكريم، وهذا صريح في إبطال قول من قال أنه الذات نفسها وقول من قال أنه مخلوق"(2).
صفة اليد:
جاء عن الحبشي في تفسيره لصفة اليد في قوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]، "فيجوز أن يقال المراد باليدين العناية والحفظ"(3)، ويقول أيضاً: "نقول كما قال بعض الخلف أي خلقته بعنايتي وبحفظي معناه على وجه الإكرام والتعظيم له"(4)، ويظهر بوضوح تأويل الحبشي لصفة اليد من خلال قوله: "والغرض أن يستبين من معه مُسْكَةٌ من العقل أن قول من يقول: (…واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها…) تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل"(5).
__________
(1) - سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، ح466، 1/127.
(2) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/391، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص168-176.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص177، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص46.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص177.
(5) - صريح البيان للحبشي ص35.(1/250)
ومن تأويلات الحبشي لصفة اليد قوله: "وتأتي -اليد- بمعنى العهد كما في قوله تعالى: { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10]، أي عهد الله فوق عهودهم أن ثبت عليهم عهد الله لأن معاهدتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة الرضوان في الحديبية على ألا يفروا معاهدة لله تبارك وتعالى لأن الله تعالى هو الذي أمر نبيه بهذه المبايعة. وأما قوله تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [المائدة:64]، فمعناه غني واسع الكرم"(1).
يلاحظ أن الحبشي قام بتأويل صفة اليد بالحفظ والعناية، أو العهد، وبهذا يكون الحبشي قد نفى صفة اليد عن الله سبحانه وتعالى من خلال تأويلها وبذلك يكون خالف السلف في صفة، وهذه التأويلات مردودة عليه من وجوه:
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص154.(1/251)
النصوص الشرعية الوارد فيها ذكر اليد سواء من الكتاب مثل قوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [المائدة:64]، وقوله تعالى لإبليس -عليه اللعنة-: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]، وقوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك:1]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة؛ أو من السنة المطهرة ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تكون الأرض يوم القيامة خبزةً واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم بيده خبزته في السفر"(1)، وحديث احتجاج آدم وموسى -عليهما السلام- الذي روي بصيغ متعددة منها: ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "احتج آدم وموسى، فقال: أنت الذي خلقك الله عز وجل بيده…"(2)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تثبت صفة اليد لله عز وجل، وبالتالي فإن "المفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له، كما يليق بجلاله.. وأن { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها، وتركه يكون ضماً لليد إلى العنق، صار من الحقائق العرفية إذا قيل: هو مبسوط اليد، فُهم منه يد حقيقة وكان ظاهره الجود واليُمن كما قال تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض، ح6520، 7/248، صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب نزل أهل الجنة، ح2792، 4/2151.
(2) - صحيح البخاري، كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله عز وجل، ح6614، 7/272، صحيح مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، ح2652، 4/2042-2043.(1/252)
الْبَسْطِ } [الإسراء:29] "(1) إن صفة اليد أينما وردت فهي على الحقيقة، ولكنها تفسر حسب موضعها في الآية، دون تعطيلها عن حقيقتها.
وأيضاً لم يأتِ في كتاب الله أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم قالوا: المراد باليد خلاف ظاهره، أو الظاهر غير مراد، أو أن في كتاب الله آية تدل على انتفاء وصفه باليد دلالة ظاهرة، بل ولا يوجد دلالة خفية على ما ذهب إليه الحبشي وغيره من نفاة الصفات، فإن أقصى ما يستند إليه نفاة الصفات من المتكلمين قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1]، وقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، وقوله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم:65]، وهذه الآيات إنما تدلل على انتفاء التمثيل والتشبيه، أما انتفاء يد تليق بجلاله سبحانه وتعالى فليس في الكلام ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه. بل ولا يوجد في العقل ما يدل على انتفاء اليد للباري سواء دلالة ظاهرة أو خفية، وبذلك يتبين أن هذه التأويلات فاسدة ليس لها أصل سوى التوهمات الظنية(2).
ويقال للحبشي: كيف يمكن حمل اليد على القدرة أو النعمة مع ما ورد من إثبات الكف والأصابع واليمين والقبض والبسط، وغير ذلك من الصفات التي لا يوصف بها إلا من يتصف باليد الحقيقية(3).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/218.
(2) - انظر: الإبانة للأشعري ص36-37، مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/220-221.
(3) - انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 2/375، شرح العقيدة الواسطية لهراس ص48.(1/253)
لو صح التعبير أن معنى اليد النعمة كما ادعت المؤولة من الأحباش وغيرهم، لقرأت (بل يداه مبسوطة) أو (منبسطة) لأن نعم الله أكثر من أن تحصى ومحال أن تكون نعم الله نعمتين لا أكثر، ولما قال الله عز وجل: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، كان العلم محيطاً أنه أثبت لنفسه يدين لا أكثر منهما، وأعلم أنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء(1).
إن لفظ (اليدين) بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة، لأن من لغة العرب استعمال الواحد في الجمع كقوله تعالى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } [العصر:2]، ولفظ الجمع في الواحد كقوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ } [آل عمران:173]، ولفظ الجمع في الاثنين كقوله تعالى: { صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم:4]، أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد فلا أصل له لأن هذه الألفاظ عدد وهي نصوص في معناها لا يتجوز بها… فقوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]، لا يجوز أن يراد به القدرة، لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة، لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية(2).
__________
(1) - انظر: التوحيد -وإثبات صفات الرب عز وجل لمحمد بن اسحق بن خزيمة ص86-87، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 6/219بتصرف.(1/254)
لا يوجد "في كلام العرب ولا العجم -إن شاء الله تعالى- أن فصيحاً يقول: فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل هذا بيديه إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها"(1)، بالتالي إن دعوى المجاز في لفظة (اليد) الواردة في الكتاب أو السنة دعوى باطلة، وذلك لأنه يلزم القرائن الدالة على المجاز الذي عينه المتكلمون، وهذا مما لا دليل عليه، ويبقى الكلام على أصله حتى يوجد الدليل الصارف عن الحقيقة(2).
ويقال أيضاً: "ليس يخلو قول الله عز وجل: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]،أن يكون يعني بذلك إثبات يدين نعمتين،أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين،أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين،أو يكون معناه إثبات يدين ليسا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين،ولا يوصفان إلا كما وصف الله،ولا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين،لأنه لا يجوز أن يقول القائل:عملت بيدي،وهو يعني نعمتي، ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا جارحتين، أن يعني قدرتين…وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله عز وجل (بيدي)إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين ولا يوصفان إلا أن يقال : إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجاً عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت"(3).
__________
(1) - المصدر السابق 6/22.
(2) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/371 بتصرف.
(3) - تلبيس الجهمية لابن تيمية 2/24.(1/255)
... ... ويقال للحبشي: أنت أشعري المعتقد قد خالفت إمامك الإمام الأشعري في إثبات صفة اليدين، حيث ورد عن الإمام الأشعري إثبات صفة اليدين حيث يقول: "فإن سئلنا أتقولون إن لله يدين؟قيل:نقول ذلك وقد دل عليه قوله عز وجل: { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10]، وقوله عز وجل: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]،…وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويعني به النعمة،وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها،وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل:فعلت بيدي،ويعني النعمة بطل أن يكون معنى قوله عز وجل بيدي النعمة.."(1).
... ... وجاء عنه أيضاً: "وأجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى، وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوارح، وأن يديه تعالى غير نعمته"(2).
... ... وبالتالي يتبين خطأ ما ذهب إليه الحبشي من تأويل اليد وصرفها عن حقيقتها في حق الله إلى معانٍ أخرى كالقدرة والنعمة والعناية والعهد.
صفة المجيء:
يؤول الحبشي صفة المجيء في قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر:22]، بمجيء أثر من آثار قدرته سبحانه، يقول: "ومعنى قوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر:22]، ليس مجيء الحركة والانتقال والزوال وإفراغ مكان وملء آخر، ومن اعتقد ذلك يكفر، لأن الله تعالى خلق الحركة والسكون، وكل ما كان من صفات الحوادث، فلا يوصف الله تعالى بالحركة ولا بالسكون، بل المعنى بقوله: { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22]، جاء أمر ربك أي آثر من آثار قدرته"(3).
__________
(1) - الإبانة للأشعري ص36.
(2) - رسالة إلى أهل الثغر للأشعري ص127.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص50، انظر: الشرح القويم للحبشي ص192.(1/256)
يتضح مما سبق أن الحبشي قام بتأويل صفة المجيء بمجيء أمر الله تعالى وهذا التأويل رده السلف لفساده من وجوه:
"إن صحة التركيب واستقامة اللفظ لا تتوقف على هذا المحذوف، بل الكلام مستقيم تام قائم المعنى بدون إضمار، فإضماره مجرد خلاف الأصل فلا يجوز"(1).
وأيضاً: "إن هذا الذي ادعوا حذفه وإضماره يلزمهم فيه، كما لزمهم فيما أنكروه، فإنهم إذا قدروا (وجاء أمر ربك) و(يأتي أمره) و(يجيء أمره) و(ينزل أمره) فأمره هو كلامه، وهو حقيقة فكيف تجيء الصفة وتأتي دون موصوفها، وكيف الأمر ممن ليس هو فوق سمواته على عرشه"(2).
يقال للحبشي: إن ثبوت المجيء لله تعالى يجب إثباته له سبحانه من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهي مجيء حقيقي يليق بالله سبحانه وتعالى، ومن قال بخلافه إنما قال بخلاف ظاهر النصوص، وخلاف طريقة السلف وليس على ما يدعيه دليل صحيح، بل هو من توهمات العقول(3).
استخدم الحبشي ألفاظاً لم ترد في الكتاب أو السنة لتأويل صفة المجيء، مثل: اعتقاده: أن صفة المجيء يلزم منها الحركة والانتقال والزوال وإفراغ مكان، وملء آخر… وهذه ألفاظ من توهمات الحبشي التي ليس لها أصل في الشرع، وإنما هي من صنع المتكلمين سلف الحبشي، وخالفوا بذلك ما عليه السلف الذين هم أسعد بالصواب والاتباع حيث قالوا: "لا نقول يتحرك وينتقل، ولا ننفي ذلك عنه"(4)، لأن منهج السلف هو استخدام الألفاظ التي جاءت في الشرع، والسكوت والتوقف فيما لم يذكره الشرع إلا بعد معرفة المقصود به، لاحتمال هذه الألفاظ معاني باطلة.
__________
(1) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/339-340.
(2) - المصدر السابق 2/341.
(3) - انظر: شرح الواسطية لهراس ص45-46، شرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص27،52.
(4) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/445.(1/257)
ويرد على الحبشي بأن: "الصفة يلزمها لوازم لنفسها وذاتها، فلا يجوز نفي هذه اللوازم عنها لا في حق الرب ولا في حق العبد، ويلزمها لوازم من جهة بالعبد، فلا يجوز إثبات تلك اللوازم للرب، ويلزمها لوازم من حيث اختصاصها بالرب، فلا يجوز سلبها عنه ولا إثباتها للعبد"(1)، وبالتالي فإن قصد بالانتقال انتقال الجسم والعرض من مكان إلى مكان آخر يحتاج إليه، فهذا لا يجوز إثباته للرب، وأما إن أريد بالحركة والانتقال حركة الفاعل من كونه فاعلاً وانتقاله أيضاً من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلاً، فهذا معنى حق في نفسه، لأنه لا يعقل كون الفاعل إلا به، ونفيه عن الفاعل نفي لحقيقة الفاعل وتعطيل له، وقد يراد به ما هو أعم من ذلك: حيث هو فعل يقوم بذات الفاعل يتعلق بالمكان الذي قصد له، وأرادوا إيقاع الفعل بنفسه فيه، وقد دل القرآن والسنة والإجماع على إثبات صفة المجيء لله سبحانه وتعالى(2).
صفة النزول:
__________
(1) - المصدر السابق 2/445.
(2) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/445 بتصرف.(1/258)
يظهر تأويل الحبشي لصفة النزول بوضوح، من خلال أقواله تعقيباً على الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"(1)، فيعلق الحبشي على حديث النزول بقوله: "فلا يجوز أن يحمل على ظاهره لإثبات النزول من علو إلى سفل في حق الله تعالى"(2)، ثم يؤول صفة النزول بنزول المَلَك بقوله: "ويبطل ما ذهبت إليه المشبهة من اعتقاد نزول الله بذاته إلى السماء الدنيا، أن بعض رواة البخاري ضبطوا كلمة (ينزل) بضم الياء وكسر الزين، فيكون المعنى نزول المَلَك بأمر الله الذي صرح به في حديث أبي هريرة وأبي سعيد من أن الله يأمر ملكاً بأن ينزل فينادي(3)، فتبين أن المشبهة ليس لها حجة في هذا الحديث"(4).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة مع آخر الليل، ح1145، 2/59، وأيضاً: كتاب الدعوات، باب الدعاء نصف الليل، ح6321، 7/193، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، ح758، 1/521، سنن الترمذي، كتاب الدعوات، ح3498، 5/526.
(2) - صريح البيان للحبشي ص51.
(3) -انظر: كتاب السنن الكبرى لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، كتاب عمل اليوم والليلة، باب الوقت الذي يستجيب فيه الاستغفار، ح10316، 6/124، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1411هـ-1991م، عمل اليوم والليلة للإمام أحمد بن شعيب النسائي، الوقت الذي يستحب فيه الاستغفار، ح482، ص340. دراسة وتحقيق: د. فاروق حمادة، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية 1406هـ-1985م.
(4) - صريح البيان للحبشي ص51-52.(1/259)
يتضح مما سبق تأويل الحبشي لنزول الله تعالى بنزول الملَكَ، ويرد عليه بالتالي:
ما ذهب إليه الحبشي من تأويل صفة النزول، فراراً من التشبيه والتجسيم -حسب دعواه- أمرٌ مخالفٌ لما عليه السلف لأن "مذهب السلف والأئمة وإثبات الصفات ونفي مما ثلتها لصفات المخلوقات"(1)، وبالتالي لا ضير بإثبات صفة النزول لله عز وجل، بدون السؤال عن الكيف ولهذا كان السلف يقولون في صفة النزول بأن "الإيمان به واجب بلا كيف"(2)، ولقد أثبت الإمام الأشعري صفة النزول حيث قال: "وأنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-"(3).
ب- يقال للحبشي: "إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواه عنه نحو ثمانية وعشرين نفساً من الصحابة، وهذا يدل على أنه كان يبلغه في كل موطن ومجمع، فكيف تكون حقيقة محالاً وباطلاً"(4)، وفي هذا المعنى يقول الإمام الآجري(5) بأن "الأخبار قد صحت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة"(6)، ويبين الإمام الآجري حكم من يرد هذه الأحاديث بتأويلها من خلال نقله لقول السلف "من ردها فهو ضال خبيث، يَحذرونه ويُحذرونه منه"(7).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/199.
(2) - الشريعة للآجري ص306، انظر: لوامع الأنوار 1/243-247.
(3) - رسالة أهل الثغر للأشعري ص129.
(4) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/420.
(5) - الآجري: محمد بن الحسين بن عبدالله البغدادي الآجري (أبو بكر)، إمام، محدث، قدوة، شيخ الحرم الشريف، توفي سنة 360هـ بمكة المكرمة. انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 2/243، وفيات الأعيان لابن خلكان 4/292-293، سير الأعلام للذهبي 16/133-136.
(6) - الشريعة للآجري ص306.
(7) - المصدر السابق ص306.(1/260)
ج- ويرد على الحبشي بتأويله الفاسد بأن "الخبر وقع عن نفس ذات الله تعالى لا غيره، فإنه قال: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)(1)، فهذا أخبر عن معنى لا عن لفظ… فإن الخبر عن مسمى ذاته، وهذا حقيقة الكلام، ولا ينصرف إلى غير ذلك إلا بقرينة ظاهرة، تزيل اللبس وتعين المراد"(2).
د- ويقال للحبشي: "إن أعلم الخلق بالله وأنصحهم للأمة وأقدرهم على العبادة التي لا توقع لبساً قد صرح بالنزول مضافاً إلى الرب في جميع الأحاديث، ولم يذكر في موضع واحد ما ينفي الحقيقة بل يؤكدها، فلو كانت إرادة الحقيقة باطلة وهي منفية لزم القدح في علمه أو نصوصه أو بيانه"(3).
أما قول الحبشي بأن بعض رواة البخاري ضبطوا كلمة (ينزل) بضم الياء وكسر الراء فيكون المعنى نزول المَلَك بأمر الله(4)، هذا أمرٌ فيه مغالطات للتالي:
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر ص156 (بنحوه).
(2) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/421.
(3) - المصدر السابق 2/421.
(4) - انظر: صريح البيان للحبشي ص51-52.(1/261)
لأن الحبشي نقل عن ابن فورك عن بعض المشايخ(1)،وليس كما ادعى الحبشي عن بعض رواة البخاري، ويؤكد هذا المنحى أن ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري، يذكر عن ابن فورك أنه نقل عن بعض المشايخ(2)، وصاحب (عمدة القاري) ينقل عن ابن فورك أنه نقل عن بعض أهل النقل(3)، ولم يقل الرواة، وإذا كان الأمر كذلك، فهذا لا يمكن اعتماده كدليل لأنه لم يتم التصريح بمن قال هذا القول من المشايخ أو أهل النقل، ويبقى المصدر الحاكي لهذه الرواية مبهم، وبالتالي يحكم عليها بالضعف، وتبقى احتمالية و"المحتمل لا يصلح حجة"(4) كما قال الإمام السيوطي. وكلمة (المشايخ) أو (أهل النقل) إن صحت الرواية عنهم تؤكد أنهم ليسوا برواة للبخاري كما ادعى الحبشي، لأن ابن فورك لو علم أنهم من رواة البخاري لبين هذا الأمر وصرح به، لأنه بدون شك يخدم ما ذهب إليه ويقويه، ولكن ابن فورك اكتفى كما نقل عنه أنه ذكر هذه الرواية عن (بعض المشايخ) أو (بعض أهل النقل)، وهذا يظهر أن هذا الأمر اجتهادي من أولئك المشايخ أو أهل النقل. بل إن الإمام البخاري في صحيحه ضبط كلمة (ينزل) بفتح الياء(5)، وهذا ما ذهب إليه أيضاً ابن حجر في الفتح(6)، وصاحب (عمدة القاري)(7)، ولم يعتمدوا الضبط بالرواية التي ذكرها ابن فورك، بل إن ابن فورك في الكتب المتوفرة له التي يتطرق فيها إلى مسألة النزول مثل كتابه (مشكل الحديث) لم يذكر تلك الرواية البتة، وإنما اكتفى بتوجيه النزول حسب ما يرتضيه(8)
__________
(1) - انظر: لوامع الأنوار للسفاريني 1/249.
(2) - انظر: فتح الباري لابن حجر 3/30.
(3) - انظر: عمدة القاري -شرح صحيح البخاري- لأبي محمد محمود بن أحمد العيني 7/199، الناشر: دار الفكر، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(4) - الاجتهاد للسيوطي ص135.
(5) - انظر: صحيح البخاري، ح1145، 2/59.
(6) - انظر: فتح الباري لابن حجر 3/29.
(7) - انظر: شرح القاري للعيني 7/196.
(8) - انظر: مشكل الحديث وبيانه لابن فورك ص249-252.(1/262)
.
هناك من العلماء أمثال: الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي عبدالله ابن منده(1)، ضعف الحديث الذي فيه أن الله يأمر ملكاً أن ينزل فينادي منادياً.. إلخ وجعله في رتبة
الموضوع(2)، وهذا الحديث الذي به الحبشي يستدل على أن الذي ينزل الملك وليس الله.
__________
(1) - أبو القاسم عبد الرحمن ابن منده: عبد الرحمن بن أبي عبدالله محمد بن اسحق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي، الأصبهاني أبو القاسم، ولد سنة 381هـ، وتوفي سنة 407هـ، إمام، محدث، مصنف. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1165-1170، البداية والنهاية لابن كثير 12/118.
(2) - انظر: لوامع الأنوار للسفاريني 1/249 -الهامش-.(1/263)
إن أحاديث النزول قد استفاضت بها السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- واتفق سلف الأمة وأئمتها، وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول، حيث إن الصحابة والتابعين يذكرون تلك الأحاديث في المجالس العامة والخاصة كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، وأمثال ذلك من كتب المسلمين(1)؛ ويقول الإمام الدارمي: "فما يُعتبر به من كتاب الله عز وجل في النزول ويُحتج به على من أنكره قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } [البقرة:210]، وقوله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر:22]، وهذا يوم القيامة إذا نزل الله ليحكم بين العباد وهو قوله تعالى: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان:25-26]، فالذي يقدر على النزول يوم القيامة من السموات كلها ليفصل بين عباده قادر أن ينزل كل ليلة من سماء إلى سماء فإن ردوا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النزول فماذا يصنعون في قول الله عز وجل تبارك وتعالى؟"(2).
__________
(1) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/195-196.
(2) - الرد على الجهمية للإمام عثمان بن سعيد الدارمي ص31-32، بدون دار نشر، ط 1960م.(1/264)
وأيضاً عبارة الحديث التي فيها "من يسألني فأعطيه، من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له"(1)، هذه العبارة لا يجوز أن يقولها ملك عن الله، بل الذي يقول الملك، ما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل أني أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"(2)، فالملك إذا نادى عن الله لا يتكلم بصيغة المخاطب بل يقول: "إن الله أمر بكذا أو قال كذا، وهكذا إذا أمر السلطان منادياً ينادي فإنه يقول: يا معشر الناس، أمر السلطان بكذا، ونهى عن كذا… لا يقول: أمرت بكذا، ونهيت عن كذا"(3)، ولو قال ذلك لعوقب أشد العقاب.
وإن كان هذا الحديث ثابتاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الرب يقول ذلك، ويأمر منادياً بذلك، لا أن المنادي يقول: "من يدعوني فأستجيب له"(4)، وبهذا يتبين بطلان ما ذهب إليه بتأويله صفة النزول بنزول الملك.
وجاء عن ابن تيمية-رحمه الله-قوله:"ومن روى عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-،فإنه مع خلاف اللفظ المستفيض المتواتر الذي نقلته خلفاً عن سلف فاسد في المعقول، فعلم أنه من كذب بعض المبتدعين كما روى بعضهم(ينزل) بالضم…ونحو ذلك من تحريفهم اللفظ والمعنى"(5).
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص156.
(2) - صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، ح3209، 4/94، صحيح مسلم، كتاب الرب والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده، ح2637، 4/2030.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/222.
(4) - سبق تخريجه، انظر: ص156.
(5) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/223، انظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري لعبدالله بن محمد الغنيمان، الناشر: مكتبة لينة، دمنهور، ط الثانية 11413هـ-1993م.(1/265)
ولم أجد الحديث الذي يستدل به الحبشي في أن الذي ينادي هو الملك إلا عند النسائي(1) -كما سبق تخريجه- حيث إن الإمام النسائي روى ثلاثة عشر حديثاً ومن ضمنها هذا الحديث، ولكن الملاحظ أن جميع الأحاديث -ما عدا هذا الحديث- تبين أن الله ينزل إلى السماء الدنيا وفي بعضها بأن الله يهبط(2)، فلماذا لم يستدل الحبشي بالأحاديث الأخرى المتعددة، واستدل بهذا الحديث الوحيد المتفرد بهذا اللفظ.
__________
(1) - وقد جاء في سند الحديث: إبراهيم بن يعقوب بن اسحق الجوزجاني، وهو ثقة ولكنه رُميَ بالنّصبْ. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني ص118، تحقيق: أبو الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، الناشر: دار العاصمة، الرياض، ط الأولى 1416هـ. وجاء في معنى (النَّصب): هو بغض عليّ -رضي الله عنه- وتقديم غيره عليه. انظر: فتح الباري لابن حجر المقدمة ص459. وجاء أيضاً: عمر بن حفص ابن غياث وهو ثقة ربما وهم. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر ص716، وأيضاً: حفص بن غياث وقيل فيه: ثقة فقيه تغير حَفظه قليلاً في الآخر. انظر: تقريب التهذيب ص260.
(2) - انظر: السنن الكبرى للنسائي 6/121-125، عمل اليوم والليلة للنسائي ص337-342.(1/266)
ومن ثُمَّ لو ثبت هذا الحديث بأن الله يأمر ملكاً فينادي، لا يمنع ذلك من نزول الله سبحانه وتعالى بالكيفية التي تليق به كباقي الصفات التي اتصف بها سبحانه وتعالى؛ بل يقال لمن أنكر صفة النزول ومنهم الأحباش بأننا "نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب جلا وعلا من غير أن نصف الكيفية، لأن نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لم يصف كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه -صلى الله عليه وسلم- بيان ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول كما يشاء ربنا وعلى ما يليق بجلاله وعظمته عز وجل غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصف لنا كيفية النزول، فنسير بسير النصوص حيث صارت ونقف معها حيث وقفت لا نعدوها إن شاء الله تعالى ولا نقصر عنها"(1)، وبهذا نكون على نهج السلف لم نخالفه ولم نتزحزح عنه.
صفة الفوقية والعلو:
__________
(1) - معارج القبول -بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد- للشيخ حافظ بن أحمد حكمي 1/236، تحقيق: سيد عمران، علي محمد علي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط 1420هـ-1999م.(1/267)
يقوم الحبشي بتأويل صفة الفوقية بفوقية القهر دون المكان والجهة، وهذا يظهر جلياً في تأويله لقوله تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل:50]، فيقول: "فوقية القهر دون المكان والجهة"(1)؛ ولا يتورع الحبشي عن تأويل كل نص يثبت الفوقية لله وأنه في السماء فيقول: "وأما الآيات والأحاديث التي يوهم ظاهرها أن الله في السماء، أو هو فوق السماء بالمسافة فلا بد من تأويلها وإخراجها عن ظواهرها أيضاً: كآية: { ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16]، فيقال: المراد بمن في السماء الملائكة"(2)، ويعلل صحة ما ذهب إليه من التأويل بأن "الملائكة قادرون على أن يخسفوا بأولئك المشركين الأرض، فلو أمروا لفعلوا، وقادرون على ما ذكر في الآية التالية لها وهو إرسال الحاصب أي الريح الشديدة بأمر الله تعالى"(3)، وأيضاً أوّل ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم: "والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يرضى عنها"(4)، فيؤول الحبشي الحديث بقوله: "فيحمل أيضاً على الملائكة"(5).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص50، انظر: الشرح القويم للحبشي ص191.
(2) - صريح البيان للحبشي ص48.
(3) - المصدر السابق ص48-49.
(4) - صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، ح1436، 2/1059-1060.
(5) - صريح البيان للحبشي ص49.(1/268)
ويذكر الحبشي حديث الجارية الذي رواه مسلم والذي فيه: "أن رجلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن جارية له، قال: قلت: يا رسول الله: أفلا أعتقها؟ قال: (ائتني بها) فأتيته بها، فقال لها: (أين الله) قالت: في السماء، قال: (من أنا) قالت: أنت رسول الله، قال: (أعتقها فإنها مؤمنة)(1)، فيؤول الحبشي الشاهد في الحديث بأن الله عالي القدر وليس في السماء، فيقول: "فليس معناه أن الله يسكن السماء كما توهم بعض الجهلة، بل معناه أن الله عالي القدر جداً"(2).
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، ح537، 1/381-382، سنن النسائي، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة، ح1218، 3/14-18.
(2) - صريح البيان للحبشي ص49.(1/269)
وأيضاً لم يدخر الحبشي جهداً في نفي الجهة والمكان عن الله سبحانه وتعالى وذلك من خلال نفي الحركة والسكون والاتصال بالعالم والانفصال عنه ومحاذاة شيء من الخلق حيث يقول: "الاستدلال على نفي الحركة والسكون والاتصال بالعالم والانفصال عنه ومحاذاة شيء من الخلق عن الله"(1)، وهذا لنفي علو الله وأنه موجود بذاته فوق عرشه بالكيفية التي تليق به سبحانه وتعالى، ومما استدل به الحبشي ليثبت صحة ما ذهب إليه قوله: "والله تعالى غني عن العالمين، أي مستغن عن كل ما سواه أزلاً وأبداً، فلا يحتاج إلى مكان يقوم به، أو شيء يحلّ به أو إلى جهة"(2)، ويأتي الحبشي بالنصوص الشرعية ليدلل على صحة قوله من خلال نفي الجهة والمكان عن الله من خلال تأويل هذه النصوص، وتضعيف بعضها، وأحياناً رفضها بالكلية(3)، ومن الأدلة التي يستند إليها لنفي الجهة والمكان عنه سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، فيعلق على الآية الكريمة بقوله: "فلو كان له مكان لكان له أمثال، وأبعادٌ: طول وعرض وعمق، ومن كان كذلك كان مُحَدثاً محتاجاً لمن حدَه بهذا الطول، وبهذا العرض، وبهذا العمق"(4)، وأيضاً ما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء غيره)(5)، معناه أن الله لم يزل موجوداً في الأزل ليس معه غيره… ولا زمان ولا مكان،
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية ص166، وانظر: المطالب الوفية ص49.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص25، انظر: الشرح القويم للحبشي ص96.
(3) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص26-29، تفنيد مزاعم المدعى إعداد قسم الأبحاث ص65-71، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص163-167، شرح الصفات للحبشي ص38-41، المطالب الوفية للحبشي ص47، غاية البيان إعداد قسم الأبحاث ص11-173، مجلة منار الهدى ص26-27، عدد 74 ذو الحجة 1419هـ.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص25، انظر: الشرح القويم للحبشي ص97.
(5) - سبق تخريجه، انظر: ص91.(1/270)
فهو تعالى موجودٌ قبل المكان بلا مكان، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه"(1)، ويرى الحبشي أنه كما "صح وجود الله بلا مكان ولا جهة قبل خلق الأماكن والجهات، فكذلك يصح وجوده بعد خلق الأماكن بلا مكان و لاجهةٍ، وهذا لا يكون نفياً لوجوده تعالى"(2).
ويرد الحبشي على من يرفع يديه إلى السماء بالدعاء أنه ليس دليلاً على وجود الله بذاته في السماء، فيقول: "ونرفع الأيدي في الدعاء للسماء لأنها مهبط الرحمات والبركات وليس لأن الله موجود بذاته في السماء كما أننا نستقبل الكعبة الشريفة في الصلاة، لأن الله تعالى أمرنا بذلك، وليس لأنها لها ميزة وخصوصية بسكنى الله فيها"(3).
أولاً: الرد على الحبشي لتأويله صفة الفوقية:
... يتبين أن الحبشي قام بتأويل صفة الفوقية بفوقية القهر دون المكان والجهة، أو تأويل النصوص بأنها تدل على الملائكة، وهذا تأويل فاسد ومردود على الحبشي بالتالي:
الله سبحانه وتعالى أخبر أنه الأعلى فقال: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [الأعلى:1]، فإن لفظ العلو في الآية يقتضي علو ذاته فوق العرش(4).
وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى "أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، فإن لم يكن استواؤه على العرش يتضمن أنه فوق العرش، لم يكن الاستواء معلوماً، وجاز حينئذ ألا يكون فوق العرش شيء"(5)، وهذا باطل ومخالف لاعتقاد السلف، فثبت عند ذلك الفوقية لله، ويضاف إلى ما سبق أن السلف علموا معنى الاستواء ولكنهم جهلوا كيفيته في حق الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص25، انظر: الشرح القويم للحبشي ص97.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص26، انظر: الشرح القويم للحبشي ص99-100.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص26، انظر: الشرح القويم للحبشي ص101.
(4) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/343.
(5) - المصدر السابق 5/343.(1/271)
يقال للحبشي: أي ميزة في تفسير الفوقية بالقهر في قوله تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل:50]، لأن "الرجل إذا تكلم بمثل هذا الكلام في حق المخلوق لكان مستهجناً جداً، فلو قال الشمس أضوأ من السراج، والسماء أكبر من الرغيف وأعلى من سقف الدار ونحو ذلك لكان مستقبحاً مع قرب النسبة بين المخلوق والمخلوق، فكيف إذا قيل ذلك بين الخالق تعالى والمخلوق مع تفاوت الذي بين الله وخلقه"(1).
وهناك من النصوص التي لا تقبل التأويل التي تثبت صفة الفوقية لذات الله سبحانه وتعالى فوق عرشه منها: قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام:18،61]، وما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي"(2)؛ وما روي عن زينب -رضي الله عنها- أنها كانت تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: "زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات"(3).
ويقال للحبشي: إن الفوقية المطلقة تحمل في معناها فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت بعض ذلك ونفى بعضه فقد تنقص(4)، فلهذا لا بد من إثبات الفوقية المطلقة لله دون تأويل أو تحديد معنى جزئي.
__________
(1) - مختصر الصواعق لابن القيم 2/364-365.
(2) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب (وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم) ح7422، 8/222، صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، ح2751، 4/2107.
(3) - صحيح البخاري،كتاب التوحيد،باب قول النبي-صلى الله عليه وسلم-(لا شخص أغير من الله)، ح7420، 8/221-222. سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب (ومن سورة الأحزاب) ح3213، 5/354-355.
(4) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص289.(1/272)
ويرد على الحبشي في إثبات صفة الفوقية: "أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق لأنه مستقر إبليس وجنوده"(1).
إن صفة الفوقية هي صفة كمال لا نقص فيها، وإثباتها على الحقيقة لا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، لأن ذلك الإثبات لا يخالف الكتاب والسنة ولا الإجماع، فنفي حقيقة الفوقية يكون عين الباطل والمحال لا تأتي به الشريعة(2).
أما تأويل النصوص الشرعية من قِبل الحبشي لنفي صفة الفوقية فهذا أمر مردود عليه فمثلاً: تأويله لقوله الله تعالى: { ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16]، بالملائكة، فهذا تفسير مغلوط حيث جاء في تفسير هذه الآية { ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16]، (وهو الله تعالى، العالي على خلقه)(3)، وبالتالي فإن الآية لا تحتمل تأويل الحبشي الفاسد.
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص284.
(2) - انظر: المصدر السابق ص285.
(3) - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي ص812، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م.(1/273)
وأيضاً حمل الحديث الذي رواه مسلم على الملائكة، تأويل فاسد لأن الذي يسخط ويغضب هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يثيب ويعاقب لأنه المتصرف بأحوال العباد، ثم إن نص الحديث (إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها)(1)، فهذا يدلل قطعاً أن المقصود الذي في السماء هو الله وإن كانت الملائكة موجودة أيضاً، فلا ينفي وجودها إثبات وجود الله بذاته فوق عرشه بدون علم الكيفية، لأن صيغة اللفظ المروي فيه الحديث تدلل على الإفراد وليس الجمع، ولا يوجد هناك قرينة في النص تحمل معنى الحديث على الملائكة، بالإضافة إلى ذلك ليس هناك ميزة على تعيين الملائكة في هذا الموضع، لأن هناك ملائكة لله في الأرض، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر..)(2)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول..)(3)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- (إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة النهار..)(4).
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص161.
(2) - صحيح مسلم، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، ح6408، 7/216.
(3) - صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة يوم الجمعة، ح929، 1/252، صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب فضل التهجير يوم الجمعة، ح850، 2/587.
(4) - صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ح555، 1/157، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليها، ح632، 1/439، سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، ح485، 1/240-241.(1/274)
ويبطل تأويل الحبشي بأن المقصود في النصوص الشرعية الذي في السماء هم الملائكة بما جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بأن الله هو الذي في السماء، مثل: ما جاء في حديث الخوارج "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"(1)، وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود "ربنا الله الذي في السماء"(2)، وقصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه(3).
وأيضاً تأويل الحبشي لحديث الجارية الذي رواه مسلم بأن المقصود بقول الجارية عن الله: أنه في السماء أي عالي القدر، تأويل فاسد، لأن التصريح بلفظ (الأين) من قِبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو أعلم الخلق وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه (أين الله)(4) يبين أن السؤال موجه إلى المكان، بالإضافة إلى ذلك إن (أين) تستخدم للسؤال عن المكان، والأمكنة عبارة عن أشياء مادية، فكيف يؤول الحبشي الحديث إلى شيء معنوي بقوله "عالي القدر جداً"(5).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما- إلى اليمن قبل حجة الوداع، ح4351، 5/129-130، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخارج وصفاتهم، ح1406، 2/742.
(2) - سنن أبي داود، كتاب الطب، باب كيف الرقي، ح3892، 4/12.
(3) - صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، ح349، 1/106-107، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله إلى السموات وفرض الصلوات، ح162، 1/145-147.
(4) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص287.
(5) - صريح البيان للحبشي ص49.(1/275)
... ويبين ابن تيمية -رحمه الله- المقصود بحديث الجارية من أن الله في السماء بقوله: "لكن ليس معنى ذلك أن الله في حوض السماء، وأن السموات تحصره وتحويه، فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته"(1)، بالتالي فإنه "لا يمكن لمسلم يفقه عقيدته حق الفقه، أن يظن أن الله في السماء بمعنى أن السماء تحويه، وأنه في جرم السماء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، كيف والسموات ليس بشيء بالنسبة إليه سبحانه وتعالى: { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67]، { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء:104] "(2).
ثانياً: الرد على الحبشي لتأويله صفة العلو:
ومن الردود التي ردّ بها سلف الأمة على من أنكر صفة العلو لله:
أن الروح تتصف بمجموعة من الصفات فهي موجودة حية، عالمة، قادرة، سميعة، بصيرة، تصعد، وتنزل، وتذهب، وتجيء إلى غير ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها لأنهم لم يشاهدوها ولم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما يُدرك حقيقة بمشاهدته أو مشاهدة نظيره، وإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها للمخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسماء وصفات ومن ضمنها صفة العلو(3).
لقد اتفق الفلاسفة مع السلف على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت على ذلك الشرائع، حيث بيّن الفلاسفة صفة العلو والفوقية له سبحانه لا يوجب الجسمية بل ولا إثبات المكان(4).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/159.
(2) - العقيدة في الله د. الأشقر ص190.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/25.
(4) - انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 1/193-194.(1/276)
إن الأحباش اعترفوا بوصف الله سبحانه وتعالى بعلو القهر، وعلو القدر، واعتبروا ذلك كمالاً لا نقصاً وأنه من لوازم ذاته، فيقال لهم: أن ما أثبتم به هذين النوعين من العلو والفوقية هو بعينه حجة عليكم في إثبات علو الذات له سبحانه، وما نفيتم به علو الذات يلزمكم أن تنفوا به ذينك الوجهين من العلو،فإذا أحد الأمرين لازم لكم ولا بد إما أن تثبتوا له سبحانه العلو المطلق من كل وجه ذاتاً وقدراً، وإما أن تنفوا ذلك كله، فإنكم إنما نفيتم علو ذاته سبحانه بناء على لوازم التجسيم، وهو لازم فيما أثبتموه من وجهي العلو القهر والقدر(1).
لقد رد الإمام أحمد على الجهمية الذين قالوا بأن الله في كل مكان فقال لهم: "قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها عظمة الرب شيء. فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أجسامكم وأجوافكم، وأجواف الخنازير والحشوش، والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء"(2)، ثم يذكر العديد من النصوص القرآنية التي تثبت علوه سبحانه وتعالى، ويعلق عليها بقوله: "فهذا خبر الله أخبرنا أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل منه"(3).
وكذلك لما خلق الله العالم: فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول: باطل للاتفاق على ذلك، ولأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات، تعالى الله، فثبت كونه خارجاً عن ذاته فيكون منفصلاً فتعينت المباينة، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه، غير معقول(4).
__________
(1) - انظر: مختصر الصواعق لابن القيم 1/196-197، وانظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص289.
(2) - الرد على الجهمية لابن حنبل ص135.
(3) - المصدر السابق ص136.
(4) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص290.(1/277)
ويقال للحبشي الأشعري، إن الإمام أبا الحسن الأشعري أثبت العلو الذاتي لله سبحانه وتعالى في كتابه الإبانة، حيث قال بعد ذكر النصوص التي تبين علوه سبحانه وتعالى: "فكذب فرعون نبي الله موسى -عليه السلام- في قوله أن الله عز وجل فوق السموات وقال عز وجل: { ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } [الملك:16]، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال: { ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16]، لأنه مستوٍ على العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماءٌ… ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض"(1). فماذا يقول الحبشي بعد هذا الكلام للإمام الأشعري -رحمه الله-؟!!!
"كل من أقر بوجود ربٍ للعالم مدبرٍ له، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم، وكل من أنكر مباينته وعلوه لزمه إنكاره وتعطيله"(2).
وأيضاً "كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية، لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل فتعين الثاني، فلزمت المباينة"(3) وبالتالي يثبت له العلو الذاتي.
ومن الحجج العقلية القطعية لإثبات علوه سبحانه وتعالى، هو أن "الاحتجاج بكون الرب قائماً بنفسه على كونه مبايناً للعالم، وذلك ملزوم لكونه فوقه عالياً عليه بالذات"(4)، وهذه حجة صحيحة لا يمكن مدافعتها.
__________
(1) - الإبانة للأشعري ص32.
(2) - مختصر الصواعق لابن القيم 1/199.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص290-291.
(4) - مختصر الصواعق لابن القيم 1/198.(1/278)
ومما يؤكد علوه سبحانه وتعالى، أن العلم البديهي القاطع يوضح بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر، والوجه الثاني في حق الله جائز(1).
الرد على مقولات الحبشي في تأويله صفة العلو:
والحبشي عندما أراد نفي صفة العلو الذاتي عن الله من خلال التأويل المذموم وخلط كلاماً صحيحاً بآخر غير صحيح، حيث إنه وصف الله بأنه غني عن العالمين، وهذا كلام لا شيء فيه، ولكنه أخطأ عندما تصور أن إثبات العلو لله يلزم منه أن الله يحتاج إلى مكان يقوم به، أو إلى جهة، وإنما هذه التوهمات الظنية من عقل الحبشي وصنعه وخاصة عندما يعتقد أن الله لو كان في مكان لأصبح له أمثال وأبعادٌ من طول وعرض وعمق..(2)، فهذا كلام مبتدع لم يرد عن السلف ويحتمل في معناه الكثير من المغالطات لأن الله سبحانه وتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، فكيف يعتقد الحبشي مثل هذه المغالطات الشنيعة في حق الله لإثبات عدم علوه سبحانه وتعالى.
ولفظ الجهة والتحيز إطلاقها على الله نفياً بدعة لم ترد في كلام السلف(3)، يقول الإمام القرطبي في تفسيره: "كان السلف الأول -رضي الله عنهم- لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله"(4).
__________
(1) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص290.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص25، الشرح القويم للحبشي ص97.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/162-163.
(4) - الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 7/219، الناشر: دار الكاتب العربي، القاهرة، بدون رقم طبعة 1387هـ-1967م.(1/279)
وكذلك لم يرد لفظ الانفصال والاتصال عن العالم في حق الله، يقول ابن تيمية -رحمه الله: "ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من سلف الأمة -لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف -حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً؛ ولم يقل أحد منهم قط: أن الله ليس في السماء، ولا أنه بذاته في كل مكان… ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه متصل ولا منفصل"(1).
وأما استدلال الحبشي بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كان الله ولم يكن شيء غيره)(2)، على نفي العلو الذاتي لله، وذلك من خلال تعليله: بأن الله صح وجوده بلا مكان وجهة قبل خلق الأماكن والجهات، فكذلك يصح وجوده بلا مكان ولا جهة(3)، فهذا استدلال فاسد مردود على الحبشي لأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وهو مستغنٍ عنهم وليس بحاجة لهم، وعند وصف ذاته بالعلو لا يعني هذا أن الله بحاجة لما خلقه، بل المخلوقات بحاجة إلى الله سبحانه وتعالى يقول الإمام الطحاوي عن الله: "خالق بلا حاجة"(4).
وأيضاً: فإن الله سبحانه وتعالى متصف بالعلو الذاتي قبل خلق المخلوقات، وبعد خلقه للمخلوقات (ما زال بصفاته قديماً قبل، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً، وكذلك لا يزال عليها أبدياً)(5).
والحديث الذي استدل به الحبشي لم يصرح بنفي العلو الذاتي لله سبحانه وتعالى، وإنما ما صرح به الحبشي نتيجة اجتهاد شخصي منه على ظنون يعتقد بها.
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 5/14.
(2) - سبق تخريجه، انظر: ص91.
(3) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص26، الشرح القويم للحبشي ص99-100.
(4) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص122 -المتن-.
(5) - المصدر السابق ص124 -المتن-.(1/280)
أما اعتبار رفع الأيدي في الدعاء للسماء لا تعتبر دليلاً على وجود الله بذاته في السماء، واستدل الحبشي على ما يقول باتجاه المصلين للكعبة في الصلاة وأن الله مع ذلك ليس بذلك فيها، وإنما لأمره سبحانه وتعالى بذلك(1)، وهذا الاعتراض مردود على الحبشي لأن الإنسان إذا أراد أن يدعو الله توجه بقلبه إلى السماء ولم يلتفت يمنةً ولا يسرةً ، وهذا أمرٌ فطري مفطور عليه العباد(2).
أيضاً: فإن الإنسان يعلم أن الله لا يسكن الكعبة فلا يجوز المقارنة بين التوجه بالدعاء إلى الله، وبين التوجه بالصلاة إلى الكعبة فلا يوجد قاسم مشترك بينهما.
ولم يرد في نص شرعي أن الله يسكن في الكعبة، ولكن ورد العديد من النصوص الصحيحة التي تبين أن الله سبحانه وتعالى موجود في السماء بذاته فوق عرشه.
وأما بقية النصوص التي ذكرها الحبشي ليدلل بها على نفي علو الله سبحانه وتعالى لا تقوى أمام الأدلة الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة، أو أنه يقوم بتأويلها بناءً على توهمات يظنها في حق الله دون الاستناد إلى صحيح المنقول وصريح المعقول، وبالتالي فإن نفي العلو الذاتي لله غير صحيحٍ مخالفٌ لما عليه السلف الصالح.
أما الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات العلو الذاتي لله سبحانه وتعالى كثيرة جداً، يقول صاحب (لوامع الأنوار): "وقد أكثر العلماء من التصنيف، وأجلبوا بخيلهم، ورجلهم من التأليف في ثبوت العلو والاستواء، ونبهوا على ذلك بالآيات والحديث وما حوى، فمنهم الراوي للأخبار بالأسانيد، ومنهم الحاذف لها، وأتى بكل لفظ مفيد، ومنهم المطول المسهب، ومنهم المختصر والمتوسط والمهذب"(3)، ومن النصوص الشرعية التي سيقت في إثبات علو الله الذاتي ما يلي:
قوله تعالى: { ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16، 17].
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص16، الشرح القويم للحبشي ص101.
(2) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص291.
(3) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/195.(1/281)
قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [فاطر:10].
قوله تعالى: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55].
قوله تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [النساء:158].
قوله تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل:50].
قوله تعالى: { ذِي الْمَعَارِجِ } [المعارج:3].
قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام:18].
قوله تعالى: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة:255].
قوله تعالى: { يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [غافر:36-37].
وغير ذلك الكثير من الآيات في القرآن الكريم التي تدلل على علو الله الذاتي.
أما الأدلة من السنة على إثبات علو الله الذاتي ما يلي:
- قصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه(1).
نزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الملائكة الذين يتعاقبون في بني آدم بالليل والنهار (ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم)(2).
__________
(1) - انظر: صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، ح349، 1/106-107، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السموات وفرض الصلوات، ح162، 1/145-147.
(2) - صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، ح555، 1/157، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليها، ح632، 1/439.(1/282)
وحديث الجارية التي أراد أن يعتقها صاحبها عندما قال لها الرسول-صلى الله عليه وسلم:(أين الله؟،قالت:في السماء،قال:من أنا؟قالت:أنت رسول الله.قال:اعتقها فإنها مؤمنة)(1).
وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لما خلق الخلق، كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)(2).
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً)(3).
- وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الرجل الذي يطيل السفر، المستجاب الدعاء: (يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب)(4)، إلى غير ذلك من الأحاديث التي بلغت حد التواتر التي تثبت العلو الذاتي لله.
الفصل الثالث
عقيدة الأحباش في النبوات
ويحتوي على مبحثين :
المبحث الأول ... : النبوة والرسالة عند الأحباش .
... ... المبحث الثاني ... : دليل النبوة عند الأحباش ( المعجزة ).
المبحث الأول: النبوة والرسالة عند الأحباش:
المطلب الأول: النبوة والرسالة لغةً واصطلاحاً:
أولاً: تعريف النبوة:
النبوة لغة: النبوة مأخوذة من مادة (نبا) غير مهموزة، أو من مادة (نبأ) مهموز وهما أصلان صحيحان في اللغة.
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، ح537، 1/381-382، سنن النسائي، كتاب السهو، باب الكلام في الصلاة، ح1218، 3/14-18.
(2) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا شخص أغير من الله)، ح7420، 8/221-222 (بنحوه). سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأحزاب ح3213،5/354-355.
(3) - سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب105، ح3556، 5/556-557، وقال أبو عيسى: حديث حسن غريب. سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، ح1488، 2/78، سنن ابن ماجة، كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، ح3865، 2/1271.
(4) - صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، ح1015، 2/703.(1/283)
فإذا أخذت النبوة من (نبا) بغير همز كانت بمعنى ارتفع فجاء في التهذيب: "نبا: ارتفع، ونبا السيف عن الضريبة، إذا لم يَحِكْ فيها"(1)، ولهذا "النَبْوَةُ والنَبَاوَةُ: ما ارتفع من الأرض"(2)، فإن جعل النبي مأخوذاً منها فيصير المعنى "أنه شُرَّف على سائر الخلق"(3).
أما إذا أخذت النبوة من (نبأ) بهمزٍ، حيث جاء في معنى "النبأ: الخبر، وإن لفلان نبأ، أي خبراً والفِعل: نبأته، وأنبأته، واستنبأته"(4) ويقال: "تنبأ الرجل، ادعى النبوة… ونَبَأْتُ على القوم أنبأ نبئاً إذا طلعت عليهم، ويقال: نبأتُ على القوم أنبأ نبئاً إذا أطلعت عليهم، ويقال: نبأتُ من الأرض إلى أرضٍ أخرى إذا خرجت منها إليها؛ ونبأ من بلد كذا ينبأ نبئاً ونبوءاً: طرأ"(5).
وبذلك يكون إطلاق لفظ النبوة على النبي بسبب خروج خبر السماء ووصوله إليه.
النبوة (اصطلاحاً): انقسم العلماء في تعريف النبوة إلى قسمين:
القسم الأول: من جعلها بمعنى وحي الله إلى إنسان بخبر السماء ولم يؤمر بالتبليغ وجاء في هذا المعنى التعريفات التالية:
قال ابن أبي العز الحنفي: "أن من نبأه الله بخبر السماء.. وإن لم يأمره أن يبلغ غيره"(6)
قال السفاريني: "هو إنسان أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه"(7)
قال الشيخ الحكمي: "من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ فهو نبي فقط"(8)
القسم الثاني: وهناك من جعل النبوة بمعنى:وحي الله إلى إنسان لينبئ الآخرين، وزاد بعضهم: على أن يكون الإنباء من خلال تقرير شرع ما قبله؛ ومما جاء في المعنى السابق ما يلي:
__________
(1) - تهذيب اللغة للأزهري 15/485.
(2) - الصحاح للجوهري 6/2500، انظر: تهذيب اللغة للأزهري 15/486.
(3) - المصدرين السابقين.
(4) - تهذيب اللغة للأزهري 15/487.
(5) -لسان العرب لابن منظور 15/4316.
(6) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص158.
(7) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/49.
(8) - معارج القبول للحكمي 2/81.(1/284)
وقال ابن تيمية: أن "النبي هو المنبئ عن الله"(1)، أو "هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به… وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي"(2) أي أن النبي يوحي إليه بشيء معين، ويخبره شرعة من قبله، كأنبياء بني إسرائيل يخبرون أقوامهم بأشياء من الله، ولكن على شريعة موسى، ولا يرسلون إلى قوم كافرين يدعونهم إلى التوحيد ويلاقون التكذيب والتعنت من قبلهم وعند ذلك يسمون رسلاً(3).
وجاء عن الآلوسي أن النبي هو: "من بعث لتقرير شرع من قبله"(4)
ثانياً: تعريف الرسالة:
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 10/170.
(2) - النبوات لابن تيمية ص281، تحقيق: محمد عبد الرحمن عوض، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط الأولى 1405هـ-1985م.
(3) - وهذا المعنى يوضحه ابن تيمية -رحمه الله- بنقله عن ابن عباس -رضي الله عنه- قوله: "كان بين آدم ونوح، عشرة قرون كلهم على الإسلام فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول، وكذلك أنبياء ببني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحي إلى أحدهم وحي خاص في قصة معينة… فالأنبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره، وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله به من الخبر، والأمر والنهي، فإن أرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، ولا بد أن يكذب الرسل قومٌ، قال تعالى: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات: 52]"، النبوات لابن تيمية ص281-282.
(4) - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم -للعلامة الآلوسي البغدادي 17/173، الناشر: مكتبة دار التراث، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/285)
الرسالة (لغة): جاء في معنى الرسالة عند الأزهري قوله: "والرسول معناه في اللغة الذي يتابع أخبار الذي بعثه، أُخذ من قولهم: جاءت الإبل رسلاً أي متتابعة، يقال جاءت الإبل أرسالاً: إذا جاءت منها رَسل بعد رَسل… الرَّسل -بفتح الراء- الذي فيه لين واسترخاء… الرَّسْل -بسكون السين الطويل المسترسل، وقد رَسل رَسَلاً ورَسَالة… والتَّرسل من الرَّسْل في الأمور والمنطق: كالتمهل والتوفر والتثبت"(1)، "والاسترسال إلى الشيء: كالطمأنينة إليه… والرسالة معروفة وجمعها رسائل، والرسول جمعه رسل"(2).
الرسالة (اصطلاحاً): انقسم العلماء في تعريف الرسالة إلى قسمين:
القسم الأول: من جعل الرسالة بمعنى وحي الله إلى إنسان وأمره بالتبليغ، وجاء في هذا المعنى من أقوال أهل العلم ما يلي:
يقول ابن أبي العز: إن الرسول هو من نبأه الله بخبر السماء وأمره أن يبلغ غيره(3).
ويقول السفاريني إن الرسول: هو إنسان أوحي إليه بشرع الله وأمر بتبليغه(4).
وذكر الشيخ الحكمي أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو: "كل من أوحي إليه وأمر بالتبليغ"(5).
- أو هو من أوحى الله إليه بخبر السماء، وأمره أن يبلغ إلى من خالف أمره، حيث قال بهذا التعريف ابن تيمية -رحمه الله- فبعد أن يعرف النبوة بقوله: "فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله به"(6) ثم يضيف عليها التالي: "فإن من أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول"(7).
__________
(1) - تهذيب اللغة للأزهري 12/391-393، انظر: مجمل اللغة لابن فارس 1/376.
(2) - المحيط في اللغة لابن عباد 8/303-304.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص158 بتصرف.
(4) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/49 بتصرف.
(5) - معارج القبول للحكمي 2/81.
(6) - النبوات لابن تيمية ص281.
(7) - المصدر السابق ص281.(1/286)
القسم الثاني: وهناك من عَرّف الرسالة بأن من أوحى الله إليه وأمره بتبليغ شرعة جديدة حيث جاء عن صاحب (روح المعاني) قوله: "يراد بالرسول من بعث بشرع جديد"(1).
ولا خلاف بين العلماء بأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً(2).
وهناك بعض الملاحظات على التعريفات السابقة:
أما تعريف النبي بأنه من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ، والرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه(3)، تعريف فيه نقص كما وضح ذلك د. الأشقر في كتابه الرسل والرسالات من عدة وجوه حيث قال: "وهذا الذي ذكروه هنا بعيد لأمور: الأول: أن الله نصَّ على أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } [الحج: 52]، فإذا كان الفارق بينهما هو الأمر بالبلاغ فالإرسال يقتضي من النبي البلاغ؛ الثاني: أن ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحد من الناس، ثم يموت هذا العلم بموته؛ الثالث: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد"(4)، فدل هذا على أن الأنبياء مأمورون بالبلاغ وأنهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم"(5).
__________
(1) - روح المعاني للآلوسي 17/173.
(2) - انظر: النبوات لابن تيمية ص281، شرح الطحاوية لابن أبي العز ص158، لوامع الأنوار للسفاريني 1/49، روح المعاني للآلوسي 17/173، معارج القبول للحكمي 2/81.
(3) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص158، لوامع الأنوار للسفاريني 1/49، معارج القبول للحكمي 2/81.
(4) - صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من لم يرق، ح5752، 7/34، صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، ح220، 1/199.
(5) - الرسل والرسالات د. الأشقر ص14-15، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط الثامنة 1419هـ-1999م.(1/287)
أما التعريف الذي قال به شيخ الإسلام -ابن تيمية- في التفريق بين النبي والرسول وهو: "فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو ينبئ بما أنبأ الله، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي"(1)، والملاحظ أن هذا التعريف يظهر النبي بأنه يرسل إلى قوم غير مخالفين لأمر الله من خلال قوله: "فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول"(2) ومن المعلوم أن أنبياء بني إسرائيل لاقوا ما لاقوه من قومهم بني إسرائيل تكذيباً وتعنتاً بل وقتلاً وما حصل لأنبياء الله يحيى وزكريا وغيرهم عليهم السلام ليس بمجهول، فتبين أن الأنبياء يرسلوا إلى أقوام مخالفين ومتعنتين ومتشددين كما حصل لأنبياء بني إسرائيل مع قومهم.
ثم قوله -رحمه الله-: "وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة، فهو نبي وليس برسول"(3)، ومن المعلوم أن النبي ينبئ عن الله ويأمره بالتبليغ كما قال نفسه -ابن تيمية- في الفقرة ذاتها.
__________
(1) - النبوات لابن تيمية ص281.
(2) - المصدر السابق ص281.
(3) - المصدر نفسه ص281.(1/288)
أما التعريف الأخير في التفريق بين النبي والرسول الذي فيه: أن النبي من يوحي إليه ويأتي لتبليغ رسالة الله على شرع من قبله، أما الرسول من يأتي لتبليغ شريعة الله على شرع جديد(1)، يحتاج إلى ضبط أكثر من ذلك لأنه "ليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة، فإن يوسف كان رسولاً وكان على ملة إبراهيم، وداود وسليمان كانا رسولين، وكانا على شريعة التوراة، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } [غافر:34]، وقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:163-164] "(2).
ومما سبق عرضه يتبين لنا أن التعريف المختار للنبوة والرسالة هو: النبي من بُعث لتقرير شريعة من قبله، أما الرسول من بعثه الله لتقرير شرع من قبله، أو بعضه، وعلى الأغلب أن يأتي بشرع جديد.
المطلب الثاني: الحاجة إلى النبوة وصفات النبي:
__________
(1) - انظر: روح المعاني للآلوسي 17/173، الرسل والرسالات د. الأشقر ص25.
(2) - النبوات لابن تيمية ص282.(1/289)
... يرى الحبشي أن "الله تعالى بعث الأنبياء رحمة للعباد إذ ليس في العقل ما يستغني به عنهم، لأن العقل لا يستقل بمعرفة الأشياء المنجية في الآخرة، ففي بعثة الأنبياء مصلحة لحاجتهم لذلك، فالله متفضل بها على عباده فهي سفارة بين الحق تعالى وبين الخلق"(1).
... يبين الحبشي بأن العقل وحده لا يكفي للنجاة من النار بدون إرسال الأنبياء من الله فيقول: "العقل وحده لا يكفي للنجاة، الكفار فيهم عقل طبيعي لكن مع ذلك هم من أهل النار، لذلك لا بد من شرائع الأنبياء، الأنبياء هم الذين يعلّمون الناس ما ينجي في الآخرة وما يهلك في الآخرة "(2).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص75، انظر: الشرح القويم للحبشي ص288، إظهار العقيدة السنية ص66.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص288-289.(1/290)
... يعتبر الحبشي أن الذكورة والبشرية من الصفات اللازمة للنبي فيقول: "وليعلم أن النبوة خاصة بالذكور من البشر فلا نبية في النساء كما يرى جمهور العلماء، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ } [النحل:43]، فهذه الآية فيها دليل اختصاص الرسالة بالذكور وهم من الأنس فقط"(1)؛ ومن اعتقاد الحبشي في الأنبياء: "أنهم بلّغوا ما أمروا بتبليغه ولم يكتموا شيئاً من ذلك، ويجب اعتقاد أنهم صادقون فيما جاءوا ، وأنهم ناصحون، فلا يكذبون، ولا يخونون"(2)؛ ويرى الحبشي بأنه يجب الإيمان بإنزال كتب سماوية من عند الله على أنبيائه، يقول: "يجب الإيمان بأن الله أنزل كتباً سماوية على أنبيائه، وليس معنى هذا أن كل فرد من أفراد الأنبياء أنزل عليه كتاب خاص بل كان يُنزل على بعضهم ثم يوحي إلى بعض آخرين منهم العمل بهذا الكتاب كأكثر أنبياء بني إسرائيل فإنهم أمروا بالتوراة"(3)؛ وما تم عرضه من عقيدة الأحباش في النبوات كان بشكل عام. أما بالنسبة لموقف الأحباش من سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد بيّن الحبشي أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين(4)، وأنه رسول الله إلى جميع الخلق،وأنه صادق في جميع ما أخبر به عن الله وبلّغه(5)، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء وحبيب الله، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث للجن كما هو مبعوث إلى الإنس(6).
...
__________
(1) - المصدر السابق ص289.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص136.
(3) - المصدر السابق ص140.
(4) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص77-78، المطالب الوفية للحبشي ص136.
(5) - انظر: مختصر الهرري للحبشي ص12، بهجة النظر لقسم الأبحاث ص22-23.
(6) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص98-99.(1/291)
اعتقاد الأحباش في النبوات موافق لما عليه السلف حيث ورد عن ابن تيمية -رحمه الله- أن الله "أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"(1) وذلك لمصلحة العباد، حيث إن الرسل "مبشرين لمن أطاعهم بغاية المراد من كل ما تحبه النفوس وتراه نعيماً، ومنذرين لمن عصاهم باللعن والإبعاد وأن يعذبوا عذاباً أليماً"(2)، ويزيد الأمر وضوحاً صاحب (لوامع الأنوار) بقوله: "اعلم أن حاجة الخلق إلى إرسال الرسل وبعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ضرورية، لا ينتظم لهم حال، ولا يصلح لهم دين ولا بال إلا بذلك فهم أشد احتياجاً إلى ذلك من إرسال المطر والهواء بل ومن النفس والذي لا بد لهم منه"(3)؛ ويقول أيضاً: "أن الرسالة ضرورية للعباد ولا غنى لهم عنها وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، فإن الرسالة روح العلم، ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح، والحياة، والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة كلها إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة…"(4).
... وأن إرسال الرسل للبشر إنما هو فضل من الله سبحانه وتعالى لا واجب عليه وإنما هو على سبيل اللطف بالخلق والفضل عليهم(5).
...
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/5.
(2) - المصدر السابق 1/5.
(3) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/256.
(4) - المصدر السابق 2/259.
(5) - انظر: المصدر نفسه 2/258.(1/292)
وأيضاً وافق الحبشي السلف في الصفات التي يجب أن تتوفر في الرسول: كالذكورة والبشرية، يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ } [الأنبياء:7]: "أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة"(1)، وأيضاً يقول الطبري في تفسيره: "يقول تعالى ذكره لنبيه: وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولاً إلى أمة من الأمم التي خلت قبل أمتك إلا رجالاً مثلهم نوحي إليهم ما نريد أن نوحيه إليهم من أمرنا ونهينا لا ملائكة؛ فلماذا أنكروا من إرسالنا لك إليهم وأنت رجل كسائر الرسل الذين من قبلك"(2).
وأيضاً أكد القرآن على صفة البشرية للرسول، يقول تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } [الكهف:110]، وجاء في تفسير هذه الآية "يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين يا محمد إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم"(3)، وبهذا يكون الحبشي وافق منهج القرآن الذي هو منهج السلف في إثبات البشرية للأنبياء.
__________
(1) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/174.
(2) - جامع البيان للطبري 17/12، وانظر: الرسل والرسالات د. الأشقر ص69،84.
(3) - جامع البيان للطبري 16/31.(1/293)
... ولقد وافق الحبشي السلف في اعتقاده في سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث جاء عن الإمام الطحاوي قوله في حق سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- "وأنه خاتم الأنبياء"(1)، مصداقاً لقوله تعالى: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب:40]، وأنه -صلى الله عليه وسلم- "إمام لأتقياء وسيد المرسلين"(2)، وأنه -صلى الله عليه وسلم- "حبيب رب العالمين"(3)، وأنه -صلى الله عليه وسلم- "هو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء"(4)، وبالتالي لم يخالف الحبشي السلف في اعتقاده بسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
المطلب الثالث: الفرق بين النبوة والرسالة عند الأحباش:
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص158 -المتن-.
(2) - المصدر السابق ص159 -المتن-.
(3) - المصدر نفسه ص164 -المتن-.
(4) - المصدر نفسه ص166 -المتن-.(1/294)
... يفرق الأحباش بين الأنبياء والرسل، فالرسول يأتي بنسخ بعض شرع من قبله، أو يأتي بشرع جديد، والنبي يوحي إليه ليتبع شرع رسول قبله ليقوم بتبليغه يقول الحبشي: "اعلم أن النبي والرسول يشتركان في الوحي، فكل قد أوحى الله إليه بشرع يعمل به لتبليغه للناس، غير أن الرسول يأتي بنسخ بعض شرع من قبله أو بشرع جديد. والنبي غير الرسول يوحي إليه ليتبع شرع رسولٍ قبله ليبلغه، فلذلك قال العلماء: كل رسولٍ نبي وليس كل نبي رسول. ثم أيضاً: يفترقان في أن الرسالة يوصف بها الملك والبشر، والنبوة لا تكون إلا في البشر"(1)، ويزيد الحبشي الأمر وضوحاً بقوله: "الرسول ينزلُ عليه الوحي بشرع يعمل به، ويوحي إليه بنسخ بعض شرع من قبلَهُ، أي بنسخ بعض الأحكام التي كانت في زمن الرسول الذي قبله أو ينزل عليه حكمٌ جديدٌ لم ينزل على من قبلهُ من الأنبياء هذا يقال له رسولٌ، أما الذي لم ينزل عليه شيء جديد إلا أن يعمل بشريعة الرسول الذي قبله كأن أمر فقيل له: بلّغ شريعة موسى مثلاً فهذا يقال له نبي ولا يقال له رسول"(2).
... وبعد هذا العرض للتفريق بين النبوة والرسالة عند الأحباش، يلاحظ على الحبشي أنه قال بالتعريف الصحيح الذي عليه السلف، وهذا ما سبق بيانه في تعريف النبوة والرسالة(3).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص75، انظر: الشرح القويم للحبشي ص189.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص289-290،انظر:إظهار العقيدة السنية للحبشي ص65،المطالب الوفيةص138.
(3) - انظر: البحث ص173-175.(1/295)
وأيضاً وافق الحبشي السلف في تفريقه بين النبوة والرسالة حيث إن الرسالة يوصف بها الملك والبشر، ولكن هذا التفريق ليس دقيقاً لأن إرسال الملائكة لا يكون لتبليغ رسالة بل لتفعل فعلاً معيناً ويقول ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك: "والإرسال اسم عام يتناول إرسال الملائكة، وإرسال الرياح،وإرسال الشياطين،وإرسال النار… لكن الرسول المضاف إلى الله إذا قيل رسول الله،فهم من يأتي برسالة من الله من الملائكة والبشر،كما قال تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج:75]،وقالت الملائكة: { يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } [هود:81]،وأما عموم الملائكة والرياح والجن،فإن إرسالها لتفعل فعلاً لا لتبلغ رسالة"(1).
المطلب الرابع: ما يجب للأنبياء وما يستحيل عليهم:
__________
(1) - النبوات لابن تيمية ص283.(1/296)
... هناك أمور يجب أن يتصف بها الأنبياء، وأخرى يستحيل أن يوصفوا بها لئلا تنفر الناس من دعوتهم، تحدث الحبشي في هذا فقال: "يجب للأنبياء الصدق ويستحيل عليهم الكذب"(1)، ويمثل الحبشي لذلك بقوله:"وقد كان سيدنا محمد-صلى الله عليه وسلم- معروفاً بين أهل مكة بالأمين لما عُرف به من الصدق والأمانة والنزاهة، لم تجرّب عليه كذبة قط كل المدة التي قضاها قبل أن ينزل عليه الوحي، فالكذب نقص ينافي منصب النبوة"(2)، ويجب للأنبياء "الفطانة ويستحيل عليهم البلادة والغباوة"(3)أي يجب لهم "الذكاء فكلهم كانوا أذكياء فطناء أصحابُ عقولٍ كاملةٍ قويةِ الفهم،ويستحيل عليهم البلادة والغباوة فليس فيهم بليدٌ أي من هو ضعيف الفهم لا يفهم الكلام بسرعة إلا بعد أن يكررّ عليه عدّة مرّات وليس فيهم من هو غبي أي فهمه ضعيف،لأنهم لو كانوا أغبياء لنفر الناس منهم لغباوتهم والله حكيم لا يفعل ذلك، فإنهم أرسلوا ليبلّغوا الناس مصالح آخرتهم ودنياهم، والبلادة تنافي هذا المطلوب منهم"(4)، "وتجب لهم الأمانة"(5) أي يستحيل "عليهم الخيانة في الأقوال، والأفعال، والأحوال، فإذا استنصحهم شخص لا يكذبون عليه فيوهمونه خلاف الحقيقة وإذا وضع عندهم شخص شيئاً لا يضيعونه"(6)، وأيضاً الأنبياء "سالمون من الكفر والكبائر وصغائر الخسة "(7)
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص75،انظر:الشرح القويم للحبشي ص291،مختصر الهرري للحبشي ص12.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص291، انظر: بغية الطالب للحبشي ص33.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص75،انظر:الشرح القويم للحبشي ص291،مختصر الهرري للحبشي ص12.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص291، انظر: بغية الطالب للحبشي ص33.
(5) - الصراط المستقيم للحبشي ص75،انظر:الشرح القويم للحبشي ص291،مختصر الهرري للحبشي ص12.
(6) - الشرح القويم للحبشي ص292.
(7) - الصراط المستقيم للحبشي ص75، انظر: الشرح القويم للحبشي ص291، مختصر الهرري للحبشي ص12، المطالب الوفية للحبشي ص136-137.(1/297)
، ويقصد الحبشي بصغائر الخسة "التي تدل على دناءة النفس كسرقة حبة عنب قبل النبوة وبعدَها"(1)، ويبين الحبشي أن "هذه هي العصمة الواجبة لهم، ويجوز عليهم ما سوى ذلك من المعاصي لكن ينبهون فوراً للتوبة قبل أن يقتدي بهم فيها غيرهم"(2)، ويجب للأنبياء "الصيانة فيستحيل عليهم الرذالة والسفاهة والجبن"(3) أي "مما يجب للأنبياء الصيانة فيستحيل عليهم الرذالة كاختلاس النظر إلى الأجنبية بشهوةٍ، وكسرقة حبة عنب، وكذلك يستحيل عليهم السفاهة كالذي يقول ألفاظاً شنيعة، وكذلك يستحيل عليهم الجبن فالأنبياء هم أشجع خلق الله"(4).
ويرى الحبشي أن كل الأنبياء فصحاء، ويستحيل عليهم سبق اللسان في الشرعيات والعادّيات، ويستحيل عليهم الجنون وكذلك يستحيل عليهم السحر فلا يؤثر في عقولهم، ولا يجوز أن يعتقد أن الرسول أثرّ السحر في عقله وإن كان قاله ما قاله(5)، وأيضاً "يستحيل عليهم كل مرض منفر"(6).
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص292.
(2) - المصدر السابق ص292، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص75.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص75،انظر:الشرح القويم للحبشي ص291،مختصر الهرري للحبشي ص12.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص292.
(5) - انظر: المصدر السابق ص294-295.
(6) - الصراط المستقيم للحبشي ص76.(1/298)
إن الحبشي فيما ذكر مما يجب للأنبياء وما يستحيل عليهم، وافق في كثير منها أهل السنة والجماعة، حيث ورد في عصمة الأنبياء في المسائل الإعتقادية أنه "اجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة "(1)، إلا من شذ باعتقاده مثل الفضيلية من الخوارج(2)
وأيضاً الروافض(3)ما اعتقدوه في الأنبياء وادعائهم أن ذلك على سبيل التقية(4).
__________
(1) - عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي ص26، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1401هـ-1981م.
(2) - الفضيلية: أو الفضلية وهي فرقة من الخوارج الصفرية أتباع فضل بن عبدالله، قالوا لا يكفر عندنا ولا يعصي من قال بضرب من الحق الذي يكون من المسلمين وأراد به غير الله أو وجهة على غير ما يوجهه المسلمون عليه،نحو قول (لا إله إلا الله) يريد بها قول النصارى.انظر:موسوعة الفرق د. الحفني ص310.
(3) - الروافض: هم الشيعة الرافضون لإمامة أبي بكر وعمر، أو أن ابتداءهم كان عندما خرج زيد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك، فأراد أنصاره الطعن في أبي بكر فمنعهم فتركوه وانصرفوا عنه، فقال لهم: رفضتموني، فبقى اسم الرافضة عليهم وقيل غير ذلك. انظر: اعتقادات فرق المشركين والمسلمين للرازي ص35، موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب الإسلامية د. عبد المنعم الحفني ص228-230، الناشر: دار الرشاد، ط الأولى 1413هـ –1993م.
(4) - انظر: عصمة الأنبياء للرازي ص26.(1/299)
وفيما يتعلق بالشرائع والأحكام من الله تعالى فإن سلف الأمة "أجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف، والخيانة، في هذا الباب، لا بالعمد ولا بالسهو، وإلا لم يبق الاعتماد على شيء من الشرائع"(1)، وفي المعنى نفسه جاء عن ابن تيمية -رحمه الله- قوله: "العصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين"(2) أي لا يجوز الخطأ في التبليغ من قِبل الأنبياء، وأما في غيرها فإن "الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف: إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقاً، والرد على من يقول: إنه يجوز إقرارهم عليها"(3)، وفي موضع آخر يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "قد اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله، فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه، وبهذا يحصل المقصود من البعثة، وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبياً لا يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا"(4).
وهذا الأمر يبين جواز وقوع الذنوب الصغار من الأنبياء، ولكن سرعان ما ينبهون إليها فيتوبون منها، ولهذا رد السلف على من نفى وقوع الذنوب بالكلية عن الأنبياء بأن "ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه"(5).
__________
(1) - المصدر السابق ص26.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 10/170، 173.
(3) - المصدر السابق 10/171.
(4) - منهاج السنة لابن تيمية 2/396.
(5) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 10/172،180،181.(1/300)
... ويفصل القول الإمام الرازي في عصمة الأنبياء عن الكبائر والصغائر بقوله: "إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد، أما على سبيل السهو فهو جائز"(1) ولكن سرعان ما يتوبون منها، وجاء في (المقاصد النووية): "أرسل -الله- بفضله الرسل وتولاهم بعصمته إياهم عمّا لا يليق بهم، فهم معصومون من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها، منزهون عن كل منفرٍ طبعاً كالجذام والعمى"(2).
__________
(1) - عصمة الأنبياء للرازي ص28.
(2) - المقاصد النووية لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي ص15-16، الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط الأولى 1413هـ-1992م، انظر: التمهيد لابن عبد البر 3/266.(1/301)
... ويتحدث الشيخ السفاريني(1) صاحب (لوامع الأنوار) فيما يجب ويستحيل للأنبياء بأنه يجب على كل مسلم أن يعرف بأن الأنبياء الكرام والرسل العظام منزهون عن كل نقصٍ يؤدي إلى إزالة الحشمة وإسقاط المروءة وألحقت بفاعلها الإزراء والخسة كسرقة لقمة، وتطفيف بحبة، لقيام الإجماع على عصمتهم من كل ما يؤدي إلى الإزراء والدناءة لأن الله تعالى يقول: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:21]، وقوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران:31]، ومن المعلوم عموم ذلك وليس في شيء من فعل ما يزري ما يوجب حب الله ولا حسن التأسي والاقتداء في ذلك فوجب تنزيههم عنه وعن كل عيب، وسلامتهم من كل ما يوجب الريب، وأن كل واحد من الأنبياء معصوم قبل النبوة وبعدها"(2)، وأيضاً: أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكذب والخيانة ومتصفون بالصدق والأمانة، والأنبياء معصومون من الأخبار عن شيء بخلاف الواقع لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً(3).
__________
(1) - السفاريني: محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني، النابلسي، الحنبلي، ولد بقرية سفارين من قرى نابلس سنة 1114هـ، وتوفي سنة 1188هـ بنابلس. انظر: مقدمة -لوامع الأنوار للسفاريني (بدون ترقيم للصفحة)، معجم المؤلفين لكحالة 10/262.
(2) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/303-304 بتصرف.
(3) - المصدر السابق ص307 بتصرف.(1/302)
ويتحدث ابن تيمية -رحمه الله- عمن يتهم أنبياء الله بالكذب والجهل ويبين سوء عاقبتهم بقوله: "… فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه. فإن كان قد قدح فيهم ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل، ابتلي في عقله وعلمه وظهر من جهله ما عوقب به، ومن قال عنهم: إنهم تعمدوا الكذب، أظهر الله كذبه، ومن قال انهم جهال أظهر الله جهله"(1)، "وأيضاً فجمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى متصفاً بصفات الكمال، ووجود بعض الذنوب أحياناً مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك"(2).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 13/93.
(2) - منهاج السنة لابن تيمية 2/397.(1/303)
مما سبق بيانه يتبين أن الحبشي وافق السلف في كثير مما ذكره فيما يجب للأنبياء ويستحيل عليهم، ولكن مما يؤخذ عليه نفي السحر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وظنه أن إثبات ذلك يقدح في نبوة الرسول(1) -صلى الله عليه وسلم- بسبب الفهم الخاطئ لديه، مع العلم أن سحر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثبت بالصحيحين وفيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله(2)، ولقد ثبت عن علماء أهل السنة والجماعة إثبات السحر، فقد جاء عن الإمام المازري(3) -رحمه الله- "مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة، خلافاً لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى في كتابه، وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجته، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته، وأنه أشياء دفنت وأخرجها، وهذا كله يبطل ما قالوه، فإحالة كونه من الحقائق محال، ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر.."(4)
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص294-295.
(2) - انظر: صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ح3268، 4/108-109، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب السحر، ح2189، 4/1719-1721.
(3) - الإمام المازري: محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي، المازري، المالكي (أبو عبدالله)، مولده بمدينة المهدية من أفريقية ولد سنة 453هـ، وتوفي سنة 536هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 4/114، وفيات الأعيان لابن خلكان 4/285، سير الأعلام للذهبي 20/104-107.
(4) - المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج -المسمى اختصاراً: صحيح مسلم بشرح النووي -لمحي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي 15/345، الناشر: دار الخير، بيروت، ط الأولى 1414هـ-1994م.(1/304)
، وقال أيضاً الإمام المقريزي(1): "… وهو حين سحر النبي -صلى الله عليه وسلم- وخيل إليه أنه يفعل الشيء -صلى الله عليه وسلم- وما فعله وأقام على ذلك أربعين يوماً كما في الصحيح"(2)، ويقال للحبشي أن نفي السحر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا ينقص من قدر نبوته لأن "تأثيره ذلك إنما هو بما قدره القدير سبحانه وتعالى أي بما قضاه الله وقدره وخلقه"(3)، وأيضاً يرد الإمام المازري -رحمه الله- على مثل هذا الادعاء بقوله: "وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر، فزعم أنه يحط منصب النبوة، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة القطعية، قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل. فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلاً من أجلها وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قيل: إنه إنما كان يتخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بوطء، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة، ولا حقيقة له. وقيل: إنه يخيل إليه أنه فعل وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله، فتكون اعتقاداته على السداد"(4)، قال القاضي عياض(5)
__________
(1) - الإمام المقريزي: أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، مؤرخ الديار المصرية، أصله من بعلبك من حارة المقارزة، ولد ونشأ ومات في القاهرة، ولد سنة 766هـ، وتوفي سنة 845هـ. انظر: الضوء اللامع للسخاوي 2/21-25، الأعلام للزركلي 1/177-178، البدر الطالع للشوكاني 1/79-81.
(2) - تجريد التوحيد المفيد للإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ص8، الناشر: مركز شئون الدعوة -الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة ط 1412هـ.
(3) - تجريد التوحيد للمقريزي 1/339.
(4) - شرح صحيح مسلم للنووي 15/345-346.
(5) - القاضي عياض: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي، الأندلسي، ثم السبتي، المالكي (أبو الفضل)، ولد سنة 476هـ، وتوفي سنة 544هـ. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 12/225، وفيات الأعيان لابن خلكان 3/483-485، تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1304-1307.(1/305)
: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر: إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث: حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن؛ ويروي: يخيل إليه أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور؛ وكل ما جاء في الروايات أنه يخيل إليه فعل الشيء ولم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس في ذلك ما يدخل لبساً على الرسالة،ولا طعناً لأهل الضلالة"(1)، وينقل ابن القيم عن المتكلمين نفيهم لسحر الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قبل ذلك اليهودي، ويرد عليهم بعد ذلك حيث يقول على لسان المتكلمين قولهم: "فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين؛ وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم… وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عن أهل التفسير، والسنن، والحديث، والتاريخ، والفقهاء. وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين"(2) أمثال الحبشي.
__________
(1) - شرح صحيح مسلم للنووي 15/346.
(2) - التفسير القيم للإمام ابن القيم جمع: محمد أويس الندوي ص566، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1398هـ-1978م.(1/306)
ومما يؤخذ على الحبشي أنه فصّل القول في بعض الأمور التي لا تحتاج إلى ذلك في حق الأنبياء مثل قوله: "يستحيل عليهم البلادة والغباوة، فليس فيهم بليد أي من هو ضعيف الفهم لا يفهم الكلام بسرعة إلا بعد أن يكرر عليه عدة مرات وليس فيهم من هو غبي أي فهمه ضعيف، لأنهم لو كانوا أغبياء لنفر الناس منهم لغباوتهم.."(1)، وكان الأولى بالحبشي أن يكتفي بقوله بأن يجب أن يتصف الأنبياء بالذكاء والفطنة -كما فعل- دون تفصيل من باب التأدب مع أنبياء الله ورسله، فمثلاً منع علماء السلف -من باب التأدب- القول في حق لأنبياء والرسل لفظة (يجهل) لقبح لفظه وشناعته بل يقال: هل يجوز أن لا يعلم إلا ما علم؟ وهل يمكن عنده علم من بعض الأشياء حتى يوحي إليه وهذا في الأقوال؛ أما إذا تُكلم في بعض الأفعال يقال: هل يجوز منه المخالفة في بعض الأوامر والنواهي ومواقعه بعض الصغائر فهو أدب وأولى من القول: هل يجوز أن (يعصي) أو (يذنب) أو أن يفعل كذا من أنواع المعاصي(2).
المبحث الثاني: دليل النبوة عند الأحباش (المعجزة):
المطلب الأول: أولاً: تعريف المعجزة لغةً واصطلاحاً:
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص291، انظر: بغية الطالب ص33.
(2) - انظر: لوامع الأنوار للسفاريني ص308-309.(1/307)
المعجزة لغةً: وأصل المعجزة من (العَجْز) "والعَجْزُ الضعف، تقول: عَجَزتُ عن كذا، أعْجِزُ بالكسر عَجْزَاً ومَعْجِزَةً ومَعْجِزاً بالفتح"(1) والعَجْزُ "نقِض الحزم"(2)، "والأرض لا تنبت شيئاً"(3)، "والعَجْزُ: أصله التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر أي مؤخره… وصار في العرف اسماً للقصور عن فعل الشيء وهو ضد القدرة، وأعجزته وعجزّته وعاجزته: جعلته عاجزاً"(4)، وجاء في معنى الأعجاز "الفوت والسبق، يقال أعجزت فلان، أي فاتني… إذا عجزت عن طلبه وإدراكه"(5) و"المعجزة: واحد معجزات الأنبياء"(6)، وبالتالي فإن المعاني الواردة في المعجزة تدل على ضعف الخصم وتأخره وعدم قدرته على المواجهة بالشيء المتحدى به.
المعجزة اصطلاحاً: إطلاق لفظ (المعجزة) على ما يأتي به النبي لإظهار صدقه في دعواه للنبوة لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا على ألسنة الأئمة المتقدمين وإنما الذي ورد لفظ الآية، والبينة، والبرهان(7).
وبهذا يتبين أن لفظ (المعجزة) لفظ متأخر قُرن بما يدعيه صاحب النبوة من دلائل تظهر صدقه، ولهذا عَرّف العلماء (المعجزة) بتعريفات مختلفة ترجع في معناها إلى مفهوم واحد، ومن هذه التعريفات ما يلي:
__________
(1) - الصحاح للجوهري 3/883-884.
(2) - المحيط في اللغة لابن عباد 1/241.
(3) - المصدر السابق 1/242.
(4) - بصائر ذوي التمييز -في لطائف الكتاب العزيز- لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي 4/22، تحقيق: محمد علي النجار، الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية -لجنة إحياء التراث الإسلامي- القاهرة ط 1389هـ-1969م.
(5) - تهذيب اللغة للأزهري 1/340.
(6) - الصحاح للجوهري 3/884.
(7) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 11/172، الجواب الصحيح لابن تيمية 4/67-71،النبوات لابن تيمية ص313، لوامع الأنوار للسفاريني 1/290، الرسل والرسالات د. الأشقر ص122.(1/308)
قال الجرجاني في تعريف المعجزة أنها: "أمر خارق للعادة، داعية إلى الخير والسعادة، مقرونة بدعوى النبوة، قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله"(1).
قال السيوطي في تعريفه للمعجزة هي: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة"(2).
أو كما قال البيهقي: "إن كل رسول أرسله الله تعالى إلى قومٍ، فلم يُخَلَّه من آية أيدَّه بها، وحجةٍ آتاها إياه، وجعل تلك الآية مخالفة للعادات، إذ كان ما يريد الرسول إثباته بها رسالة الله عز وجل أمراً خارجاً عن العادات ليستدل باقتران تلك الآية بدعواه أنه رسول الله"(3).
وقال اللقاني في المعجزة هي: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي الذي هو دعوى الرسالة أو النبوة مع عدم المعارضة"(4).
ثانياً: الرد على قول الأحباش (السبيل إلى معرفة النبي المعجزة)
__________
(1) - التعريفات للجرجاني ص249.
(2) - الإتقان للسيوطي 4/3.
(3) - شعب الإيمان لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي 1/152، تحقيق: أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1410هـ-1990م.
(4) - شرح جوهرة التوحيد للقاني ص133.(1/309)
... يستدل الحبشي على نبوة النبي بالمعجزة، ويجعلها الشاهد والدلالة على صدقه في دعواه، يقول الحبشي: "اعلم أن السبيل إلى معرفة النبي المعجزة"(1)، وفي موضع آخر يقول: "بالمعجزة يعرف النبي، فما من نبي إلا وكانت له معجزة، ومعنى المعجزة العلامة الشاهدة التي تشهد أن هذا الإنسان الذي يقول عن نفسه إنه نبي الله أنه نبي وأنه صادق"(2)، ويقول أيضاً: "ثم إذا ادعى واحد رسالة في زمان جوازها وهو قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجب قبوله بدون معجزة "(3)، ويقول الحبشي إن "الله خصّ الأنبياء بالمعجزات التي هي خارقات للعادات وتفسيرها أنها أمر يظهر بخلاف العادة على يد من ادعى النبوة عند تحدي المفكرين على وجه يعجز المنكرين عن الإتيان بمثله، وذلك لأنه لولا التأييد بالمعجزة لما بان الصادق في دعوى الرسالة عن الكاذب أي أنه بالمعجزة يتبين النبي من المتنبي"(4).
... مما سبق بيانه يظهر اتباع الحبشي لطريقة المتكلمين في تقرير نبوة الأنبياء من خلال المعجزات، وجعلها السبيل الوحيد لمعرفة صدق النبي، ويؤكد هذا المنحى عند الحبشي عندما تحدث عن نبوة الأنبياء لم يذكر دليل سوى المعجزة، والذي يشار إليه في هذا الجانب "أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات"(5)، وبالتالي فإن دلائل النبوة غير محصورة في المعجزة فقط مع صحتها، ولكن هناك دلائل أخر لا تقل أهمية عن المعجزة، ولبيان هذا الأمر وتوضيحه أمثل على دلائل نبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بأشياء غير معجزاته الباهرة -صلى الله عليه وسلم- مثل:
أولاً: تبشير الأمم السابقة بنبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-:
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص76، انظر: الشرح القويم للحبشي ص299.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص299.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص66.
(4) - المطالب الوفية للحبشي ص135.
(5) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص150.(1/310)
... بشارات الأمم السابقة بسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- كثيرة ومتعددة حيث إن القرآن الكريم ذكر أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- مذكور في الكتب السماوية السابقة، ومعلوم لدى الأمم السابقة من خلال إخبار أنبيائهم بمقدم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ونبوته، يقول تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران:81]، وجاء عن الإمام الطبري في تفسيره للآية قوله: "وكان تأويل الكلام:وإذ اخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي أتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول، يعني: ثم إن جاءكم رسول يعني ذكر محمد في التوراة لتؤمنن به، أي ليكون إيمانكم به للذي عندكم في التوراة من ذكره"(1)، ومن بشارات الأنبياء السابقين بنبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الواردة في القرآن قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } البقرة127-129، وجاء في تفسير قوله تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ } [البقرة:129]، (وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد -صلى
__________
(1) - جامع البيان للطبري 3/235-236.(1/311)
الله عليه وسلم- خاصة وهي الدعوة التي كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى"(1))(2)، ويقول ابن كثير في تفسير الآية السابقة: "يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم أي من ذرية إبراهيم وقد وافقت هذه الدعوى المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد -صلوات الله وسلامه عليه- رسولاً في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الأنس والجن"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقول الله عز وجل (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار) الفتح29، وقوله (من بعدي اسمه أحمد) الصف6، ح3532، 4/196، مسند الإمام أحمد 4/128، 5/262.
(2) - جامع البيان للطبري 1/435.
(3) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/184.(1/312)
وأيضاً من البشارات الواضحة بشارة عيسى -عليه السلام- في سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } [الصف:6]، وجاء في تفسير هذه الآية: (التوراة قد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد، فعيسى -عليه السلام- وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد قام في ملأ بني إسرائيل مبشراً بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة، وما أحسن ما أورده البخاري… عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد"(1))(2).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن -باب قوله تعالى (من بعدي اسمه أحمد) ح4896، 6/74، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب في أسمائه -صلى الله عليه وسلم- ح2354، 4/1828، سنن الترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في أسماء النبي، ح2840، 5/135، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(2) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/359-360.(1/313)
ومن البشارات التي جاءت تبشر بنبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- من غير المعجزات ما جاء في الكتب السابقة مثاله: ما جاء في سفر التكوين، الإصحاح السابع عشر، فقرة (20) "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه: ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً اثني عشر رئيساً يلد واجعله أمة كبيرة "(1)، وجاء في ترجمة التوراة السامرية "وفي إسماعيل استجبت منك هو ذا باركته وأثمره وأكثره جداً جداً اثنا عشر رئيساً يولد وسأجعله شعباً عظيماً"(2).
وأيضاً من البشارات الواضحة في سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ما جاء في سفر التثنية الإصحاح الثالث والثلاثون فقرة (1): (جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران)(3) ويفسر هذا النص بالتالي: أن "أن سيناء هي الموضع الذي كلم الله فيه موسى، وسعير الموضع الذي أوحى الله فيه لعيسى، وفاران جبال مكة، حيث أوحى الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وكون جبال فاران هي مكة دلت عليه نصوص من التوراة، وقد جمع الله هذه الأماكن المقدسة في قوله تعالى: { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } [التين:1-3]"(4).
__________
(1) - الكتاب المقدس -أسفار العهد القديم- ص25، الناشر: دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ط 1996م.
(2) - ترجمة التوراة السامرية لأبي الحسن الصوري، إعداد الكاهن: عبد المعين صدقه السامري ص20، الناشر: مطبعة النصر -نابلس- ط 1978م -مخطوط-.
(3) - الكتاب المقدس -أسفار العهد القديم- ص334.
(4) - الرسل والرسالات د. الأشقر ص169، وانظر: الجواب الصحيح لابن تيمية 3/299-300.(1/314)
ومن البشارات الواردة في العهد الجديد ما جاء في إنجيل متى الإصحاح الحادي عشر فقرة (14): (وأن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي من له أذنان للسمع فليسمع)(1)، ومن المعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا "أنه ليس بينه وبين عيسى نبي، فيكون إيليا الذي بشر به عيسى هو محمداً -صلى الله عليه وسلم- وإيلياء بحساب الجمل الذي أغرقت به اليهود يساوي محمداً"(2).
ثانياً: النظر في أحوال الأنبياء:
__________
(1) - الكتاب المقدس -أسفار العهد الجديد- ص19.
(2) - الرسل والرسالات د. الأشقر ص176.(1/315)
... وهنا التركيز على صدق النبي وأمانته من خلال اعتراف خصومه -صلى الله عليه وسلم- بهذا، وقد شهر عنه -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته لقريش عندما جمعها وسألهم بقوله: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذاباً"(1)، وأيضاً: ما حصل بين هرقل وأبي سفيان عندما كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً لهرقل لكي يسلم، فعندما وصل كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهرقل، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، فبعث هرقل إلى أبي سفيان ومن معه ليسألهم عن أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وعندما جاءوا إليه طلب هرقل أقرب القوم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان أبو سفيان، ثم طلب من الآخرين عندما يسأله إن كذب أن يكذبوه، وحصل هناك حوار طويل بينهما، ثم قال هرقل في خاتمة حديثه مع أبي سفيان: "فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم،فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه،ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه"(2).
ثالثاً: النظر في دعوة الرسل:
... وعند النظر إلى دعوة الرسل نجدها دعوة تقوم على توحيد الله سبحانه وتعالى { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النساء:36]، وجميع دعوات الأنبياء دون استثناء جاءت لتهذيب النفوس، وتطويعها، وإصلاحها لتكون عنصراً فاعلاً في المجتمع.
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب سورة (تبت يدا أبي لهب وتب)، ح4971، 6/114، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) ح208، 1/193-194.
(2) - صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب، ح7،1/6-7، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ح2941، 4/3-6.(1/316)
وجاءت هذه الدعوات لنشر الفضائل والقيم بين أفراد المجتمع ليكون مجتمعاً متضامناً متكافلاً كالجسد الواحد والبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً؛ ومن جاء لنشر مثل هذه القيم والفضائل يحتاج إلى منهج رباني يسير عليه ويطبقه، وبالتالي لا بد أن يكون أوحي إليه هذا المنهج من عند الله، وبهذا تثبت نبوة النبي بخلاف المعجزات(1).
رابعاً: تأييد الله لرسله ونصره لهم:
__________
(1) - انظر: الرسل والرسالات د. الأشقر ص202-203، الجواب الصحيح لابن تيمية 4/33.(1/317)
... ومما يدلل على صدق الأنبياء فيما يقولونه عن الله، نصرة الله سبحانه وتعالى لهم، بحيث لو كانوا كاذبين لبين الله سبحانه وتعالى عدم صدقهم أمام أقوامهم، ولكن الحاصل خلاف ذلك حيث أن الله سبحانه وتعالى يؤيدهم بكل موطن وفي كل مكان تأييداً وتأكيداً على صدقهم. وما سبق بيانه يجمله شارح الطحاوية بقوله: "ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم. ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم، عُرف صدق الرسل، ومنها: أن من عَرف ما جاءت به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من المصلحة والرحمة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم، ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برّ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق"(1)، وهذا يبين دون أدنى شك نبوة الأنبياء، وأن هذه النبوة لم تقتصر على المعجزات بل تعدتها لأمور أخر، وبذلك يظهر حَجْر الحبشي وتضيقه على واسع، بحيث جعل دلائل النبوة تقتصر على المعجزة، وهذا مخالف لمنهج السلف الذين عدّوا مجموعة من الدلائل على نبوة الأنبياء والرسل ولم يقتصروها على المعجزة، وهذا ما يؤكده شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "والمقصود هنا أن دلائل نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- كثيرة ومتنوعة… وبينا أن من يخصص دلائل نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بنوع فقد غلط بل هي أنواع كثيرة "(2) وهذا هو منهج السلف أهل السنة والجماعة.
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص156-157.
(2) - التفسير الكبير لابن تيمية 2/148، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1408هـ-1988م.(1/318)
المطلب الثاني: الأمور التي تخرج عن كونها معجزة: ...
بعد أن وافق الحبشي أهل السنة والجماعة في تعريفه للمعجزة بأنها: "أمر خارق للعادة يأتي على وفق دعوى من ادعوا النبوة، سالم عن المعارضة بالمثل"(1)، يذكر الأمور التي تخرج عن كونها معجزة، ومن هذه الاستثناءات التي يذكرها الحبشي ما يلي:
"ما كان من الأمور عجيباً، ولم يكن خارقاً للعادة، فليس بمعجز"(2).
"وكذلك ما كان خارقاً لكنه لم يقترن بدعوى النبوة كالخوارق التي تظهر على أيدي الأولياء أتباع الأنبياء، فإنه ليس بمعجزة بل يسمى كرامة"(3).
وأيضاً: "ليس من المعجزة ما يستطاع معارضته بالمثل كالسحر فإنه يعارض بسحرٍ مثله"(4) ويوضح هذا الأمر بقوله: "السحر لا يسمى معجزة لأن السحر يستطيع أن يعمل ساحرٌ آخر مثله، أما المعجزة لا يستطيع المعارضون أن يفعلوا مثلها"(5).
أن تكون المعجزة قد قيدت "بدار التكليف وهي الدنيا، ليخرج الخارق للعادة في العُقبى"(6) أي عند قيام الساعة.
ألّا يكون المستدل به مكذباً لمدعي النبوة مثلاً: "بأن قال دليل صحة نبوتي شهادة هذا الحجر لي بذلك فأنطق الله الحجر بتكذيبه، لا يكون معجزة بل يكون دليل كذبه في دعواه النبوة "(7).
إن ما ذكره الحبشي من أمور تخرج عن كونها معجزة، ليس فيها ما يخالف علماء أهل السنة والجماعة، حيث ذكروا أشياء مشابهة لما ذكره الحبشي، ومما ذكره العلماء في الأمور التي تخرج عن كونها معجزة ما يلي:
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص76.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص76، انظر: الشرح القويم للحبشي ص300.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص76، انظر: الشرح القويم للحبشي ص301.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص76، انظر: الشرح القويم للحبشي ص301.
(5) - الشرح القويم للحبشي ص301.
(6) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص66.
(7) - المصدر السابق ص66-67.(1/319)
أن تكون المعجزة مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، وإنما وجب حصول هذه الشروط للمعجزة حيث لو كان زمان فيه يصح مجيء الرسل، وادعى أحدهم الرسالة وجعل معجزته مثلاً القيام والقعود والمجيء والحركة وما شابهها من أمور يستطيع فعلها جميع الخلق لا تعد معجزة دالة على صدقه(1).
أن تكون المعجزة خارقة للعادة على يد مدعي النبوة، حيث لو قال مدعي النبوة: آيتي مجيء الليل بعد النهار وطلوع الشمس من مشرقها لم تكن معجزة، لأنها أمور حاصلة قبل ادعائه النبوة، ولم تحصل هذه الأمور من أجله(2).
أن يستشهد بها مدعي النبوة على الله عز وجل فيقول مثلاً: آيتي أن يحرك الله الأرض عند قولي لها: تزلزلي، فإذا تحقق ما أراد حصل مراده(3).
أن تقع المعجزة وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له، حيث لو ادّعى المدعي أن آية نبوته أن ينطق الحجر بصدقه، فنطق الحجر بتكذيبه، فلا يكون معجزة له مع أنه أمر خارق للعادة، لكنه جاء على غير مراد المدعي بل مكذباً له، وكذلك يروى أن مسيلمة الكذاب -لعنه الله- تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وفُقد الماء بالكلية من البئر(4).
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/70 بتصرف، انظر: إتقان البرهان لعباس 1/108، المقدمة لابن خلدون ص74.
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/70 بتصرف، انظر: شرح جوهرة التوحيد للقاني ص133، إتقان البرهان لعباس 1/108، فتح الباري لابن حجر 6/582، شرح كتاب الفقه الأكبر للقاري ص113.
(3) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/71 بتصرف.
(4) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/71 بتصرف، انظر: شرح جوهرة التوحيد للقاني ص133، إتقان البرهان لعباس 1/108، شرح كتاب الفقه الأكبر للقاري ص113، لوامع الأنوار للسفاريني 2/290.(1/320)
ألا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدّي على وجه المعارضة، فإن أقام الله من يعارضه حتى يأتي بمثل ما أتى به ويعمل مثل ما عمل بطل كونه نبياً وخرج عن كونه معجز(1).
ألا تكون المعجزة في زمن نقض العادة كزمن طلوع الشمس من مغربها، أو ما يحصل على يد الدجال -بحول الله وقوته- في آخر الزمان كأمره للسماء أن تمطر فتمطر(2).
أن تكون المعجزة مقرونة بدعوى النبوة بحيث لا تكون متأخرة عنها ولو بزمن يسير كالإرهاصات التي سبقت دعوة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من إظلال الغمام له قبل البعثة(3).
المطلب الثالث: أقسام المعجزة:
يقسم الحبشي المعجزة إلى قسمين: قسم يقع بعد اقتراح من الناس على النبي، وقسم يقع من غير اقتراح، وفي ذلك يقول الحبشي: "والمعجزة قسمان: قسم يقع بعد اقتراح من الناس على الذي ادَّعى النبوة، وقسم يقع من غير اقتراح"(4) ويبين الحبشي المقصود بهذا أن "بعض الأنبياء معجزاتهم تظهر لما يطلب منهم الناس الذين أرسلوا إليهم، وبعض من دون اقتراح يظهر على أيديهم من دون أن يطلب منهم أحد"(5) ويمثل الحبشي للقسم الأول الذي يقع بعد اقتراح الناس بناقة صالح التي خرجت من الصخرة(6)، أما القسم الثاني من أقسام المعجزة لم يمثل لها الحبشي.
لقد نالت المعجزة عدة تقسيمات بحسب اعتبارات معينة فمثلاً:
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/71 بتصرف.
(2) - شرح جوهرة التوحيد للقاني ص133، انظر: أصول الدين للبغدادي ص171.
(3) - شرح جوهرة التوحيد للقاني ص134، لوامع الأنوار للسفاريني 2/290، أصول الدين للبغدادي ص171.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص76، انظر: الشرح القويم للحبشي ص301.
(5) - الشرح القويم للحبشي ص301.
(6) -انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص76، الشرح القويم للحبشي ص301-302.(1/321)
الإمام القرطبي قسمها على حسب انقراضها وبقائها فيقول: "فاعلم أن المعجزات على ضربين: الأولى: ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي -صلى الله عليه وسلم- والثاني: ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله، واستفاضت بثبوته ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة "(1)، وبالمعنى نفسه نقل عن ابن تيمية قوله: "لكن الآيات نوعان: منها: ما مضى وصار معلوماً بالخبر كمعجزات موسى وعيسى، ومنها: ما هو باقٍ إلى اليوم كالقرآن الذي هو من أعلام نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-"(2).
ومنهم من قسمها من حيث القول أو الفعل أو الترك، فجاء في (شرح جوهرة التوحيد): "أن تكون قولاً أو فعلاً أو تركاً، فالأول كالقرآن، والثاني: كنبع الماء من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم-، والثالث: كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم"(3).
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/72.
(2) - التفسير الكبير لابن تيمية 2/148.
(3) - شرح جوهرة التوحيد للقاني ص133.(1/322)
ومنهم من قسمها من حيث اعتياد الإنسان فعل مثلها وعدم اعتياده، يقول الإمام عبد القاهر البغدادي: "وبناء على تعريف المعجزة وشروطها فإن المعجزات نوعان: أحدهما: وجود فعلٍ غير معتادٍ فعله، والثاني: تعجيز الفاعل عن فعل شيء معتاد فعله، كمنع زكريا -عليه السلام- عن الكلام ثلاث ليالٍ بعد أن كان معتاداً له للدلالة على صحة ما بُشَّر به من الولد. وأما النوع الأول: وهو وجود فعلٍ غير معتادٍ فعله فنوعان أيضاً: أحدهما: لا يدخل تحت قدرة من هو معجز له وفيه، ولا تحت قدرة غيره من الخلق، ولا يقدر عليه غير الله عز وجل، وذلك مثل: اختراع الألوان والحواس، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص، وقلب العصا حية. والثاني: يدخل تحت قدرة من هو معجزة فيه وله، لا على هذا الوجه الذي أظهره الله عليه، وإن دخل مثل أبعاضه وجنسه تحت قدرة العباد بأن يكتسبوه في أنفسهم، وهذا مثل الكلام المنظوم نظم القرآن في فصاحته وبلاغته المفارقة لبلاغات البلغاء، وإن كان جنس العبارات ومفردات الألفاظ وبعض أنواع التركيب منها مقدوراً للعباد"(1).
ومنهم من قسم المعجزة إلى حسية ومعنوية وجعلوها تنقسم قسمين: فالقسم الأول: المعجزات المادية المرئية أو الملموسة كانشقاق القمر وما شابهها. وأما القسم الثاني: المعجزات المعنوية: وهي المعجزات التي لا تقع تحت بصر الإنسان أو حسه، ولكن يتم إخبار الرسول بها كمعجزة القرآن وهو أعظمها(2).
__________
(1) - أصول الدين للبغدادي ص171-172 بتصرف.
(2) - انظر: الإعجاز العلمي في القرآن د. عبد السلام اللوح ص17 بتصرف (نقلاً عن: كتاب العقيدة الإسلامية في مواجهة المذاهب الهدامة لمحمد أبو الغيط ومحمد دوّاس)، الناشر: آفاق -غزة، ط الأولى 1419هـ-1999م.(1/323)
ومنهم من قسم المعجزة باعتبار الاقتراح بوقوعها من المرسل أو من المرسل إليهم، وهذا الذي ذكره ابن حجر في قوله عن المعجزة: "لأنه يشترط فيها أن يتحدى النبي من يكذبه بأن يقول إن فعلتُ كذلك أتصدق بأني صادق؟ أو يقول من يتحداه: لا أصدقك حتى تفعل كذا… وقد وقع النوعان للنبي -صلى الله عليه وسلم- في عدة مواطن(1)، وهذا القسم الأخير شابه إلى حد كبير تقسيم الحبشي للمعجزة؛ وبالتالي إذا كان الأمر اجتهادياً من قبل العلماء في تقسيم المعجزة فلا يوجد في تقسيم الحبشي للمعجزة أي مخالفة.
ومن العلماء من قسمها بحسب الإتيان بما ليس بمعتاد، أو المنع من المعتاد، فجاء عن الإمام الشافعي قوله: "واعلموا أن المعجزة على نوعين: أحدهما: الإتيان بما ليس بمعتاد كقلب العصا حية، واليد بيضاء، وإحياء الموتى، وانفجار الماء من بين الأصابع، والثاني: المنع من المعتاد مع التحدي والدعاء له إلى الانقياد والتغيير لهم بالمخالفة والانقطاع عن المعارضة لجواب"(2).
الفصل الرابع
الغيبيات عند الأحباش
ويحتوي على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول ... : عذاب القبر ونعيمه عند الأحباش.
... المبحث الثاني ... : اليوم الآخر عند الأحباش.
المبحث الثالث ... : القضاء والقدر عند الأحباش.
مدخل: لعلم الغيب
أولاً: تعريف الغيب لغةً واصطلاحاً:
الغيب لغةً:
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر 6/581.
(2) - الفقه الأكبر للإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، ص47، إعداد: محمد محمود محمد فرغلي، الناشر: مجلة الأزهر، -بدون رقم طبعة- ط جمادى الأولى 1406هـ.(1/324)
ومما جاء في معاجم اللغة في تعريف الغيب أن "كل مكان لا يُدْرَى ما فيه فهو غيب، وكذلك الموضِعُ الذي لا يُدْرَى ما وراءه وجمعه غيوب"(1) والغيبُ هو "كل ما غاب عنك"(2) ويقال: "وقعنا في غَيْبَةٍ وغَيابةٍ أي: في هبطةٍ من الأرض"(3) وفي المعنى يتحدث صاحب (جمهرة اللغة) بقوله: "والغيب من الأرض كل ما غيبك، والجمع غُيوب وكل ما غيبك فهو غيب وغيابه كل شيء سترك ومنه قوله تعالى: { فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } [يوسف:10،15]، وغاب القمر وغيره غُيُوباً وغاب الإنسان غَيْبَةً ومغْيباً، وغيبّت الشيء إذا سترته"(4)، وبالتالي يرجع معنى الغيب في اللغة للستر والخفاء الذي لا يرى ولا يعرف إلا بعد ظهوره أو الإخبار عنه.
الغيب اصطلاحاً:
هو "الأمر الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل"(5)، أو ما جاء عن الإمام الآلوسي قوله: "ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل، فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه كعلم القدر مثلاً، ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى وصفاته العلا"(6).
ثانياً: علم الغيب عند الأحباش:
__________
(1) - تهذيب اللغة للأزهري 8/214.
(2) - مجمل اللغة لابن فارس ص688، وانظر: المحيط في اللغة لابن عباد 5/144.
(3) - مجمل اللغة لابن فارس ص688-689.
(4) - جمهرة اللغة لابن دريد 3/209.
(5) - التعريفات للجرجاني ص185.
(6) - روح المعاني للآلوسي 1/124.(1/325)
يرى الأحباش وجوب الإيمان بعلم الغيب سواء ما أتى منها كالإخبار عن الأمم السابقة وبدء الخلق، أو الإخبار عما يأتي في المستقبل في الدنيا وفي الآخرة، يقول الحبشي في ذلك: "إنه يجب الإيمان بهذه المذكورات لثبوتها خبراً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم"(1)، ويظهر موقف الحبشي من علم الغيب من خلال عدم إجازته الذهاب إلى الكهان الذين يدعون علم الغيب، فيقول: "الكاهن هو الذي يتعاطى الإخبار عن الحوادث في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، ومطالعة علم الغيب سواء اعتمد على أخبار الجن، أو النظر في النجوم ويسمى هذا منجماً، أو اعتمد على أسباب ومقدمات هم يدعونها فيما بينهم كل هؤلاء تصديقهم حرام، والذهاب إليهم لسؤالهم حرام، وإعطاء المال لهم أجرة على إخبارهم حرام"(2)، وبهذا يظهر منهج الحبشي في عدم جواز إدعاء علم الغيب ومعرفته.
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص161.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص152.(1/326)
... ومما سبق بيانه يتبين أن الحبشي لم يخالف السلف في الإيمان بالغيب، حيث جاء في معنى الغيب في قوله تعالى: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [البقرة:3]، عن السلف مثل ابن عباس قوله: "بما جاء منه يعني من الله جل ثناؤه"(1)، ويوضح قول ابن عباس ما جاء عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن"(2)، ويذكر ابن كثير في تفسيره أقوالاً للسلف عن المقصود بالغيب من أمور غائبة عن العباد من الجنة والنار، وما ذكر في القرآن والقدر إلى غير ذلك من الأمور ثم يعلق عليها بقوله: "فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به"(3)، ويقول السعدي صاحب تفسير (تيسير الكريم) في الغيب قوله: "ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك"(4).
__________
(1) - جامع البيان للطبري 1/78.
(2) - المصدر السابق 1/78.
(3) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/41.
(4) - تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص24.(1/327)
وعندما منع الحبشي الذهاب إلى الكهان لعدم علمهم بالغيب وافق السلف بهذا، حيث جاء عن الإمام الطحاوي قوله: "ولا نصدق كاهناً ولا عَرَّافاً، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة"(1)، وأيضاً جاء عن شارح الطحاوية قوله: "والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والقالات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك"(2)،وهذا مصداق لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:"من أتى عرّافاً فسأله عن شيء، لم يقبل له صلاة أربعين ليلة"(3) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في المعنى نفسه.
المبحث الأول: عذاب القبر ونعيمه عند الأحباش:
المطلب الأول: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه عند الأحباش:
... يؤمن الأحباش بعذاب القبر ونعيمه في الحياة البرزخية، حيث يثبت الحبشي عذاب القبر بأدلة متعددة من الكتاب والسنة وأشهرها عذاب آل فرعون مستدلاً بقوله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر:46]، فيعلق الحبشي على الآية بقوله:"يخبر الله تبارك وتعالى أن آل فرعون أي أتباعه الذين اتبعوه على الكفر والشرك يعرضون على النار عرضاً من غير أن يدخلوها حتى يمتلئوا رعباً"(4).
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص502 -المتن-.
(2) - المصدر السابق ص504.
(3) - صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، ح2230، 4/1751.
(4) - الشرح القويم للحبشي ص320، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص84.(1/328)
... ويبين الحبشي بعض أنواع العذاب في القبر كضغطة القبر على الميت فيقول: "ومن جملة عذاب القبر ضغطة القبر حتى تختلف الأضلاع، وهذا للكفار وبعض أهل الكبائر من المسلمين كمن لا يتجنب البولَ وليس لكل صغير وكبير كما قال به بعض العلماء"(1).
... عن وقوع العذاب فيرى الحبشي أن عذاب القبر يقع على الكفار، وأما على عصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة، فيصنفهم الحبشي إلى صنفين: "صنف يعفيهم الله من عذاب القبر، وصنف يعذبهم ثم ينقطع العذاب ويؤخر لهم بقية عذابهم إلى الآخرة "(2).
أما عن نعيم القبر فيرى الحبشي أنه لا بُدّ من"الإيمان بنعيم القبر فإنه-صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك أيضاً"(3)،وبالتالي فإن الحبشي يثبت نعيم القبر للمؤمن التقي الذي أطاع الله سبحانه وتعالى.
... منهج الأحباش في إثبات عذاب القبر ونعيمه موافق لما عليه سلف الأمة، حيث إن السلف أثبتوا ذلك، يقول الإمام الشافعي: "واعلموا أن عذاب القبر لمن يكون أهل العذاب، والدليل عليه قوله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } [غافر:46]، ومعلوم أنهم لا يعرضون على النار قبل الموت وهم على ظهر الأرض وفي القيامة لا غدو ولا عشي، ولأنه تعالى بين حكم القيامة { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر:46]، قلت: إنهم يعرضون على النار في قبورهم،وقد روي ذلك في الأخبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص321، انظر: بغية الطالب للحبشي ص23.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص84،انظر:الشرح القويم للحبشي ص321،المطالب الوفية للحبشي ص118.
(3) - بغية الطالب للحبشي ص23، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص86، الشرح القويم للحبشي ص323، ص329، المطالب الوفية للحبشي ص118-119.(1/329)
في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ومن عذاب القبر لا إله إلا أنت)(1)"(2).
ومن الأحاديث التي جاءت في إثبات عذاب القبر، ما جاء عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه الأمة ستبتلى في قبورها فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا من عذاب النار تعوذوا من عذاب القبر"(3)، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر"(4).
وجاء عن الإمام أحمد "الإيمان بعذاب القبر وأن هذه الأمة تفتن في قبورها وتسأل عن الإيمان والإسلام ومن ربه؟ ومن نبيه؟ ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله عز وجل وكيف أراد. والإيمان به والتصديق به"(5)، ويقول الإمام ابن عبد البر: "الإقرار بعذاب القبر، ولا خلاف بين أهل السنة في جواز تصحيحه، واعتقاد ذلك والإيمان به"(6)، وفي موضع آخر يقول عن عذاب القبر: "والآثار في هذا متواترة، وأهل السنة والجماعة كلهم على الإيمان بذلك، ولا ينكره إلا أهل البدع"(7).
__________
(1) - سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، ح5090، 4/324، صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، ح1377، 2/225، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، ح588، 1/412.
(2) - الفقه الأكبر للإمام الشافعي ص64-65.
(3) - كتاب السنة لأبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، باب عذاب القبر، ح868 ص407، قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، ط الثالثة 1413هـ-1993م.
(4) - كتاب السنة لأبي عاصم الشيباني، باب في عذاب القبر، ح870، ص408، قال الألباني: إسناده صحيح.
(5) - شرح الأصول لللالكائي 1/158.
(6) - التمهيد لابن عبد البر 12/186.
(7) - المصدر السابق 22/247.(1/330)
أما عن النعيم في القبر فهذا يظهر جلياً من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حق المؤمن: "فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مَدُّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسنُ الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: ابشر بالذي يسرُّك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا ربّ، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي"(1)، وجاء عن الإمام الطحاوي قوله: "والقبر روضة من رياض الجنة"(2).
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 4/287-288، يقول الحافظ في الفتح (3/282): وهو أعم الأحاديث سياقاً، ويقول شارح لمعة الاعتقاد ص113: حديث صحيح، صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ح1374، 2/125 (بنحوه)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، ح2870، 4/2200-2201 (بنحوه).
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص396.(1/331)
أما عن قول الحبشي أن آل فرعون "يعرضون على النار عرضاً من غير أن يدخلوها حتى يمتلئوا رعباً"(1)، فقد خالف جمهور علماء السلف من المفسرين فمثلاً الإمام الطبري يقول في قوله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } [غافر:46]،حيث يذكر في ذلك قولين: أحدهما: قوله: "يقول تعالى ذكره مبيناً سوء العذاب الذي حل بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب الله النار يعرضون عليها، أنهم لما اهلكوا وأغرّقهم الله جعلت أرواحهم في أجواف طير سود فهي تعرض على النار كل يوم مرتين غدواً وعشياً إلى أن تقوم الساعة"(2) ثم يذكر الطبري الآثار المروية في ذلك، وأما القول الثاني يذكره بصيغة التضعيف قوله: "وقيل عني بذلك أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيباً لهم غدواً وعشياً"(3)، ويذكر آثراً واحداً في ذلك عن قتادة -رحمه الله-، ثم يرجح الإمام الطبري القول الأول فيقول: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال أن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً"(4)، ويعلق على الأثر المروي عن قتادة بقوله: "ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك المعنى به فليس في ذلك إلا ما دل عليه ظاهر القرآن وهو أنهم يعرضون على النار غدواً وعشياً"(5)، ويقول أيضاً: ابن كثير في قوله تعالى: { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } [غافر:45]، "وهو الغرق في اليم، ثم النقلة إلى الجحيم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساءً إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار"(6).
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص320.
(2) - جامع البيان للطبري 24/46.
(3) - المصدر السابق 24/47.
(4) - المصدر نفسه 24/47.
(5) - المصدر نفسه 24/47.
(6) - تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/81.(1/332)
ومن كتب التفسير المعاصرة مثل (التفسير المنير) يقول صاحبه في قوله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [غافر:46]، "أي يحرقون بها، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها، مأخوذ من قولهم: عرض الحاكم الأسارى على السيف إذا قتلهم به { غُدُوًّا وَعَشِيًّا } صباحاً ومساءً، وذكر هذين الوقتين يفيد التأبيد والدوام، مادامت الدنيا… والمعنى: أن أرواح الكفار وهم في القبور تعرض على النار صباح مساء أي تحرق بها، مما يدل على بقاء النفس وثبوت عذاب القبر"(1).
__________
(1) - التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج د. وهبة الزحيلي 24/127، الناشر: دار الفكر، دمشق، ط 1418هـ-1998م -بدون رقم طبعة-.(1/333)
وأما عن قول الحبشي "ومن جملة عذاب القبر ضغطة القبر حتى تختلف الأضلاع، وهذا للكفار وبعض أهل الكبائر من المسلمين"(1)، وهذا الذي ذهب إليه الحبشي مخالف لما عليه جمهور أهل السنة والجماعة، فمثلاً جاء عن شارح الفقه الأكبر قوله: "وضغطة القبر أي تضيقه حق حتى للمؤمن الكامل"(2)، ومن العلماء الذين فسروا القول في هذه المسألة الإمام السيوطي، حيث ورد في كتابه (شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور) قوله: "باب ضمة القبر لكل أحد"(3)، والإمام ابن حجر العسقلاني أثبت ضمة القبر لكل ميت عندما سُئل في ذلك فقال: "نعم صح أن القبر يضم كل ميت"(4)، ومن الأدلة على ذلك ما جاء في السنة، حيث جاء في الأحاديث أن القبر ضم سعد بن معاذ، وهو الذي تحرك لموته عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، فقد ورد في سنن النسائي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حق سعد بن معاذ عند موته: "هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضمّ ضمة، ثم فرج عنه"(5)، وجاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- أن الرسول -صلى الله عليه
__________
(1) - الشرح القويم لحبشي ص320.
(2) - شرح الفقه الأكبر للقاري ص149.
(3) - شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي ص107، الناشر: دار المدني، جدة -بدون رقم طبعة- ط 1985م.
(4) - فتاوى الحافظ ابن حجر العسقلاني (قسم العقيدة)، تحقيق ودراسة: محمد تامر ص77، الناشر: دار الصحابة للتراث بطنطا، ط الأولى 1410هـ-1989م.
(5) - سنن النسائي، كتاب الجنائز، باب ضمة القبر وضغطته، ح2055، 4/100-101 (تحقيق: أبو غدة)، وقال الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح -لمحمد بن عبدالله الخطيب التبريزي- 1/49، وسنده صحح على شرط مسلم، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثالثة 1405هـ-1985م.(1/334)
وسلم- قال: "إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ"(1)، بل مما يدل على ما سبق أن الضغطة في القبر لازمة لكل إنسان حتى الصبيان، ما جاء في المعجم الكبير للطبراني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي"(2). ومما جاء عن السلف في إثبات ضمة القبر، ما نقله الإمام السيوطي عن أبي القاسم السعدي في كتاب (الروح) له: "لا ينجو من ضغطة القبر صالح ولا طالح، غير أن الفرق بين المسلم والكافر دوام الضغطة للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره، ثم يعود إلى الأنفساح له فيه. قال: والمراد بضغطة القبر التقاء جانبيه على جسد الميت"(3)، وجاء عن الحكيم الترمذي(4) في كتابه (نوادر الأصول): "سبب هذه الضغطة أنه ما من أحد إلا وقد ألَمّ بخطيئة ما، وإن كان صالحاً، فجعلت هذه الضغطة جزاء له ثم تدركه الرحمة، ولذلك ضغط سعد بن معاذ في التقصير من البول"(5)
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 6/98، قال الألباني في صحيح الجامع (1/435): صحيح.
(2) - المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني،ح3858،4/121،تحقيق:حمدي عبد المجيد السلفي، الناشر:مكتبة ابن تيمية،القاهرة-بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-،قال الألباني في صحيح الجامع (2/929): صحيح، انظر: كتاب السنة لعبدالله بن الإمام أحمد، ح1434، 2/602، قال المحقق: إسناده حسن.
(3) - شرح الصدور للسيوطي ص108، انظر: شرح سنن النسائي للسيوطي 4/100.
(4) - الحكيم الترمذي: محمد بن علي بن الحسن بن بشير الحكيم الترمذي (أبو عبدالله) محدث، حافظ، صوفي. سمع الكثير بخراسان والعراق، وقدم نيسابور وحدث بها، من تصانيفه: الأكياس والمغتربين، نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كان حياً سنة 318هـ-930م،لم يذكر سنة الميلاد والوفاة. انظر: طبقات الشافعية للسبكي 2/245-246، معجم المؤلفين لكحالة 10/315.
(5) - شرح الصدور للسيوطي ص110، انظر: شرح سنن النسائي للسيوطي 4/101.(1/335)
، وحكى الإمام النسفي(1) في كتابه (بحر الكلام): "المؤمن المطيع لا يكون له عذاب القبر، ويكون له ضغطة القبر، فيجد هول ذلك وخوفه لما أنه تنعم بنعمة الله، ولم يشكر النعمة"(2)
__________
(1) - الإمام النسفي: ميمون بن محمد بن محمد بن مكحول النسفي، الحنفي (أبو المعين) متكلم، فقيه، أصولي. كان بسمرقند وسكن بخارا، من تصانيفه: التمهيد لقواعد التوحيد، بحر الكلام، ولد سنة 418هـ، وتوفي سنة 508هـ. انظر: الأعلام للزركلي 7/341، معجم المؤلفين لكحالة 14/66.
(2) قد ورد عن الإمام السيوطي أثناء نقله لمقولة عن كتاب (بحر الكلام)، أنه أسند المقولة إلى الإمام السبكي في (شرح الصدور) ص110، ومرة أخرى نسب الكتاب إلى الإمام النسفي في (شرح السنن للنسائي) 4/103، والصحيح أن هذه المقولة منسوبة للإمام أبي المعين ميمون بن محمد النسفي المتوفى (580هـ) في كتابه (بحر الكلام). انظر: كشف الظنون -عن أسامى الكتب والفنون- لمصطفى بن عبدالله القسطنطي الرومي الحنفي، المعروف -بحاجي خليفة- 1/225، الناشر: دار الفكر، بيروت، ط 1402هـ-1982م.
- شرح سنن النسائي للسيوطي 4/103، شرح الصدور للسيوطي ص110.(1/336)
، وهذا ما ذهب إليه الإمام القرطبي(1) في تذكرته فقد عنون بقوله: "باب ما جاء في ضغط القبر على صاحبه وإن كان صالحاً"(2)، ثم يذكر العديد من الأحاديث التي تؤكد ما ذهب إليه من ضغط القبر لصاحبه وإن كان صالحاً.
__________
(1) - الإمام القرطبي: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي، القرطبي، المالكي (أبو عبدالله)، مفسر. توفي سنة 671هـ، من تصانيفه: الجامع لأحكام القرآن، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة وغيرها. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 5/335، طبقات المفسرين للسيوطي ص79.
(2) - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للإمام شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن نوح الأنصاري القرطبي ص110، الناشر: المكتبة التوفيقية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/337)
... وأما وقوع عذاب القبر عند الحبشي على الكفار فقد أثبته وهذا لا خلاف فيه، وأما على عصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا قبل التوبة فيصنفهم الحبشي إلى صنفين: "صنف يعفيهم الله من عذاب القبر، وصنف يعذبهم ثم ينقطع عنهم العذاب ويؤخر لهم بقية العذاب إلى الآخرة "(1)، ويلاحظ على الحبشي أنه يذكر هذا التقسيم على التأكيد دون تعليق الأمر بمشيئة الله دون تعليق الأمر بصيغة الجزم بل تعليقه بعفو الله كما ورد عن ابن حجر العسقلاني، بخلاف بعض علماء أهل السنة والجماعة أمثال الإمام ابن حجر عندما سُئل: هل يُعذب العاصي في قبره إلى يوم القيامة؟ فأجاب "أن ذلك يختلف باختلاف كبر المعصية وصغرها، وحصول العفو عن بعض الموتى دون بعض، فقد لا يُعذب بعض العصاة، وقد لا يستمر التعذيب على بعض العصاة وقد يرفع عن بعض"(2)، وهذا امتنان من الله على عبيده لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48]، وخاصة أن هناك نصوصاً تبين أن مرتكب الكبيرة من الذين يعذبون، قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [النساء:31]، وقوله تعالى: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } [النجم:32]، وجاء في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"(3)، ولهذا كان الأولى بالحبشي
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص84.
(2) - فتاوى الحافظ لابن حجر العسقلاني (قسم العقيدة)، تحقيق ودراسة: محمد تامر ص44-45.
(3) - صحيح مسلم،كتاب الطهارة،باب فضل الوضوء والصلاة عقبه،ح233، 1/209،سنن الترمذي،كتاب أبواب الصلاة،باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس،ح214،1/418 (بنحوه)، قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.(1/338)
تعليق أمر العذاب بمشيئة الله وعفوه، لا أن يذكر على سبيل التأكيد لأن هذا الأمر خارج عن معرفة المخلوقين، بل هو خاص بالخالق سبحانه وتعالى.
... ويمثل رأي السلف في هذه المسألة ابن القيم -رحمه الله- بقوله: "هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟ فجوابها أنه نوعان: نوع دائم سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا؛ ويدل على دوامه قوله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } [غافر:46]؛ … النوع الثاني:إلى مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة، ثم يزول عنه العذاب وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم…والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه،فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له"(1).
المطلب الثاني: مستقر الأرواح في البرزخ عند الأحباش:
... عند الحديث عن مستقر الأرواح في الحياة البرزخية لدى الأحباش يبينها شيخهم الحبشي من خلال قوله: "ثم إذا بلي الجسد كله ولم يبق إلا عَجْب الذنب يكون روح المؤمن التقي في الجنة،وتكون أرواح عصاة المسلمين أهل الكبائر الذين ماتوا بلا توبة بعد بِلي الجسد فيما بين السماء والأرض، وبعضهم في السماء الأولى، وتكون أرواح الكفار بعد بِلي الجسد في سجين، وهو مكان في الأرض السفلى، وأما أرواح الشهداء فتصعد أرواحهم فوراً إلى الجنة"(2)، ومما سبق بيانه يمكن القول في مستقر الأرواح في البرزخ عند الأحباش كالتالي:
__________
(1) - الروح لابن القيم الجوزية ص119-120، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، وانظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص401.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص86، انظر: الشرح القويم للحبشي ص332.(1/339)
روح المؤمن التقي في الجنة.
أرواح عصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا من غير توبة ما بين السماء والأرض، وبعضهم في السماء الأولى.
أرواح الكفار في سجين في الأرض السفلى.
أرواح الشهداء تصعد فوراً إلى الجنة.
ويلاحظ أن الحبشي لم يختلف عن السلف كثيراً فيما أورده في مستقر الأرواح، وممن يبين منهج السلف في هذه المسألة الإمام ابن القيم في كتابه (الروح)، ومن الأقوال التي ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه في هذه المسألة ما يلي:
أن هناك أرواحا في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة الإسراء(1).
__________
(1) - الروح لابن القيم ص154 بتصرف، انظر: التمهيد لابن عبد البر 11/64.(1/340)
أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره، كما في المسند عن محمد بن عبدالله بن جحش: (أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً)(1)، وفي هذا المعنى جاء عن صاحب (تسلية أهل المصائب) قوله: "فمن العلماء من ذهب إلى أن أرواح المؤمنين والشهداء في الجنة بشرط أن لا يحبسهم عنها ذنب عظيم، كمظالم العباد ونحوها، فإذا كانوا خالين من ذلك تلقاهم ربهم بالعفو والرحمة"(2)، وهذا الذي ذكره علماء السلف، خالفهم الحبشي فيه عندما ذكر أن أرواح الشهداء تصعد فوراً إلى الجنة(3)، وهذا الذي ذكره الحبشي مخالف لما عليه السلف كما سبق بيانه.
وهناك فرق يذكره السيوطي بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين: "أحدهما: أن أرواح الشهداء تخلق لها أجساد وهي الطير التي تكون في حواصلها ليكمل بذلك نعيمها ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد، فإن الشهداء بدلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ؛ والثاني: أنهم يرزقون من الجنة، وغيرهم لم يثبت في حقه مثل ذلك"(4).
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 4/139، 350، قال الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية ص403: حديث صحيح، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه، إلا الدين،ح1885، 3/1501 (بنحوه).
(2) - تسلية أهل المصائب لأبي عبدالله محمد بن محمد المنجي الحنبلي ص279-280، تحقيق: بشير محمد عيون، الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق، ط الثالثة 1413هـ-1992م.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص86.
(4) - شرح الصدور للسيوطي ص255.(1/341)
"ومنهم من يكون محبوساً على باب الجنة كما في الحديث الآخر: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة)(1)"(2).
"ومنهم من يكون محبوساً في قبره، كحديث صاحب الشملة(3) التي غلها، ثم استشهد، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه ناراً في قبره)(4)"(5).
"ومنهم من يكون محبوساً في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحاً سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية"(6)، وفي موضع آخر يبين ابن القيم: أن أرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة وينسب هذا القول إلى جماعة من السلف والخلف(7).
__________
(1) -مسند الإمام أحمد 5/11(بنحوه)،قال الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية ص403 عن الحديث:صحيح.
(2) - الروح لابن القيم ص154، انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص403، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/55.
(3) - الشملة: كساء يُشتمل به، وجمعها شِمال، انظر: تهذيب اللغة للأزهري 11/371.
(4) - صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ح4234، 5/95-96 (بنحوه)، وأيضاً: كتاب الإيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، ح6707، 7/298 (بنحوه)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب غلط تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون 1/107 (بنحوه).
(5) - الروح لابن القيم ص154، انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص403، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/55.
(6) - الروح لابن القيم ص154-155، انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص403، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/55.
(7) - انظر: الروح لابن القيم ص144.(1/342)
أما ما ذكره الحبشي في مستقر أرواح عصاة المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا من غير توبة أنهم ما بين السماء والأرض وبعضهم في السماء الأولى(1)، لم أجد في كتب السلف التي تحدثت عن هذه المسألة أي رأي يشبهه(2).
المطلب الثالث: حكم منكر عذاب القبر عند الأحباش:
أطلق الأحباش حكم الكفر على من ينكر عذاب القبر، حيث جاء على لسان شيخهم -الحبشي- في صراطه المستقيم قوله: "ويكفر منكر عذاب القبر لقول الله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر:46]"(3)، وبالتالي يكون الحبشي قد خالف أهل السنة والجماعة في حكم منكر عذاب القبر.
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص86.
(2) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/135-137، الروح لابن القيم ص121-155، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص401-404، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/46-56، القيامة الصغرى د. عمر سليمان الأشقر ص102-104، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط التاسعة 1419هـ-1999م.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص87، انظر: الشرح القويم للحبشي ص336-337.(1/343)
... ويمثل منهج السلف في الحكم على منكر عذاب القبر ما جاء عن الإمام الآجري في كتابه (الشريعة) عقب ذكره الأحاديث التي توجب الإيمان والتصديق بعذاب القبر، فقال: "ما أسوأ حال من كذب بهذه الأحاديث، لقد ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً"(1)، ولقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية من أنكر مجموعة من الغيبيات ومن ضمنها الثواب والعقاب في البرزخ بأنه "من أهل البدع"(2)، ولقد ورد عن الإمام أحمد قوله: "عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل"(3)، وهذا ابن القيم عندما يذكر أقوال من ينكر عذاب القبر يصفهم بقوله: "أهل البدع والضلال"(4) وقوله أيضاً: "أهل الحيرة والضلالة"(5).
... والملاحظ أن منهج السلف لا يظهر عليه الميل إلى تكفير منكر عذاب القبر، وإنما اكتفى علماء السلف بإطلاق عبارات التضليل والتبديع وبيان سوء المنقلب وخسران من ينكر عذاب القبر، بل إن هناك من العلماء اعتبر من ينكر عذاب القبر من خلال الاجتهاد لا يكفر، حيث قال صاحب (حاشية إعانة الطالبين): "الاجتهاد فيما لم يقم الدليل القاطع على خلافه كاعتقاد المعتزلة عدم رؤية الباري في الآخرة أو عدم عذاب القبر أو نعيمه فلا يكفرون لأنه اقترن باجتهاد"(6)، وبالتالي إطلاق عبارات التكفير دون بيان مخالف لنهج السلف.
المبحث الثاني: اليوم الآخر عند الأحباش:
المطلب الأول: صفة حشر العباد:
__________
(1) - الشريعة للآجري ص364.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/161.
(3) - الروح لابن القيم ص76، انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل -في العقيدة- جمع وتحقيق ودراسة: عبد الإله بن سلمان الأحمدي 2/177، الناشر: دار طيبة، الرياض، ط الأولى 1412هـ.
(4) - الروح لابن القيم ص77.
(5) - المصدر السابق ص77.
(6) - حاشية إعانة الطالبين للسيد أبي بكر -المشهور بالسيد البكري بن السيد محمد شطا الدمياطي المصري- 4/133-134، الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط الثانية 1356هـ-1938م.(1/344)
... يعتبر الأحباش أن حشر العباد عند قيام الساعة حق، فيقول الحبشي: "والحشر حق"(1)، ويصف الحبشي كيفية حشر العباد بقوله: "وهو أن يجمعوا بعد البعث إلى مكان ويكون على الأرض المبدّلة، وهي أرض مستوية كالجلد المشدود لا جبال فيها ولا وديان، أكبر وأوسع من أرضنا هذه، بيضاء كالفضة، ويكون الحشر على ثلاثة أحوال:
قسم طاعمون كاسون راكبون على نوق رحائلها من ذهب وهم الأتقياء.
وقسم حفاة عراة، وهم المسلمون من أهل الكبائر.
وقسم يحشرون ويجرون على وجوههم وهم الكفار"(2)
وافق الأحباش السلف في إثبات الحشر يوم القيامة للعباد وذلك "أن قدرة الله محيطة بعباده تأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم، فلا ينسى منهم أحداً، ولا يضلُّ منهم أحداً، ولا يشذُّ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم تبارك وتعالى وعدَّهم عداً: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم:93-95]، { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف:47]، وهذه النصوص بعمومها تدل على حشر الخلق جميعاً الإنس والجن والملائكة "(3).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص87.
(2) - المصدر السابق ص87-88، انظر: الشرح القويم للحبشي ص345-346.
(3) - القيامة الكبرى د. عمر الأشقر ص56-57، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط الثامنة 1419هـ-1999م.(1/345)
أما عن الأرض التي يحشر عليها العباد يوم القيامة، فهي أرض غير هذه الأرض لقوله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم:48]، ومن الأحاديث التي تبين تبديل الأرض بأخرى يوم القيامة ما رواه مسلم عن ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كنت قائماً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء حَبْر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد -وذكر الحديث وفيه: فقال اليهودي أين يكون الناس : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم:48]؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هم في الظلمة دون الجسر)(1)، وأيضاً ما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم:48]، فأين يكون الناس يومئذٍ؟ قال: (على الصراط)(2)، ويعلق الإمام القرطبي في تذكرته على هذه الأحاديث بقوله: "هذه الأحاديث نص في أن الأرض والسموت تبدْل وتزال ويخلق الله أرضاً أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر وهو الصراط"(3).
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق مائهما، ح315، 1/252-253.
(2) - صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، ح2790، 4/2150.
(3) - التذكرة للقرطبي ص216.(1/346)
وأما عن صفة هذه الأرض التي يحشر عليها العباد يوم القيامة فقد جاء عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي)(1)، وجاء في فتح الباري في بيان معنى (عفراء):من العفر أي بياض ليس بناصع أو يميل إلى الحمرة قليلاً أو خالصة البياض؛ أما المقصود (بالنقي) بفتح النون وكسر القاف، أي الدقيق النقي من النسق والنخال(2)، ولقد ذكر ابن مسعود قوله في وصف أرض المحشر: "تبدل الأرض أرضاً كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض، ح6521، 7/248، صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب في البعث والنشور، وصفة الأرض يوم القيامة، ح2790، 4/2150.
(2) - فتح الباري لابن حجر 11/375.
(3) - المصدر السابق 11/375، قال ابن حجر: رجاله رجال الصحيح وهو موقوف، انظر: جامع البيان للطبري 130/164.(1/347)
أما عن صفة حشر العباد يوم القيامة جاء أحاديث كثيرة تبينها فمن هذه الأحاديث الواردة في هذا الشأن ما رواه ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غُرْلاً ثم قرأ: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء:104]"(1)، وما رواه أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنف مشاة، وصنف ركباناً، وصنف على وجوههم، قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم، قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم"(2)، وما جاء أيضاً عن أبي ذر قال: "إن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- حدثني أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج، فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم النار، وفوج يمشون ويَسعوْن"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [النساء:125]، وقوله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ } [النحل:120]، ح3349، 3/132، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة، ح2860، 4/2194-2195.
(2) - سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب (ومن سورة بني إسرائيل) ح3140، 5/3142، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.
(3) - سنن النسائي، كتاب الجنائز، باب البعث، ح258،4/116(تحقيق: أبو غدة)، مسند الإمام أحمد 5/164-165، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، انظر: المستدرك على الصحيحين لأبي عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري، ح3389، 2/398-399، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1411هـ-1990م.(1/348)
ويلاحظ أن الحبشي وافق علماء السلف إلى حدٍ ما في بيان صفة حشر العباد، حيث وافقهم في القسم الطاعمون الكاسون -كما ورد في الحديث السابق- وإنهم يركبون على نوق رحائلها من ذهب، ذكر الإمام علي -رضي الله عنه- في تفسيره لقوله تعالى: { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْدًا } [مريم:85]، قوله:"لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن على نوق لم ترى الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة"(1)، وأما الذين يحشرون على وجوههم وهم الكفار فقد ورد ذكره في الحديث، وأما ما جاء عن الحبشي أن قوماً يحشرون حفاة عراة وهم المسلمون من أهل الكبائر، لم أجد له أثر في الكتب التي تحدثت عن الحشر يوم القيامة والتي بحثت فيها وإنما هذا اجتهاد من الحبشي، والذي يدلل على هذا ما جاء عن الإمام القرطبي في حديثه عن أهل الموقف بعد خروجهم من القبور قوله: "لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف، وأما إذا خرجوا من القبور فمشاة حفاة عراة غرلاً إلى الموقف بدليل حديث ابن عباس قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بموعظة فقال: (يأيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً)(2)"(3).
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 1/155، قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن اسحق الواسطي وهو ضعيف، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لعلي بن أبي بكر الهيثمي 7/55، الناشر: دار الرياض للتراث، القاهرة، -بدون رقم طبعة- سنة النشر 1407هـ.
(2) - سبق تخريجه، انظر: ص211.
(3) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/152.(1/349)
ومما سبق بيانه يتبين أن الناس في يوم المحشر يكونون على ثلاثة أقسام -كما جاءت في الأحاديث السالفة الذكر- قسم راكبين طاعمين كاسين وهم في حال ذهابهم إلى الجنة وهم الأتقياء، وقسم مشاة وهؤلاء يكونون قد خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وقسم يسحبون على وجوههم إلى النار وهم الكفار، وهذا ما ذهب إليه الإمام السيوطي عندما عنون أحد أبواب كتابه (البدور السافرة) بقوله: "حشر المتقي راكباً، والعاصي ماشياً، والكافر مسحوباً"(1)، أما حشر الناس حفاة عراة غرلاً يكون في بداية خروجهم من القبور قبل أن يقضي الله بينهم ويذهب كل إنسان إلى مكانه من جنة أو نار -كما ذكره القرطبي سابقاً-.
المطلب الثاني: الشفاعة:
__________
(1) - البدور السافرة في أمور الآخرة لجلال الدين السيوطي ص58، تحقيق: مصطفى عاشور، الناشر: مكتبة القرآن، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/350)
... يثبت الأحباش الشفاعة، ويعتبرونها حقاً حيث يقول الحبشي: "والشفاعة حق"(1)، ويعرف الحبشي الشفاعة بقوله: "وهي سؤال الخير من الغير للغير"(2)، ثم يحدد الحبشي شفاعة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر من أمته فيقول: "ويشفع نبينا -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر من أمته، فقد جاء في الحديث الصحيح: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)(3) رواه ابن حبان، أي غير أهل الكبائر ليسوا بحاجة للشفاعة، وتكون لبعضهم قبل دخولهم النار، ولبعض بعد دخولهم النار، وقبل أن تمضي المدة التي يستحقون بمعاصيهم، ولا تكون للكفار، قال الله تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى } [الأنبياء:28]"(4)، وفي المعنى نفسه يقول: إن "الشفاعة في الآخرة لأهل الكبائر يجب الإيمان بها لثبوتها بنص القرآن وبالأحاديث المستفيضة أي المشهورة "(5)، ويقول أيضاً: "وقوله -صلى الله عليه وسلم- (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)(6)… ومعناه أن المحتاجين إلى شفاعته -صلى الله عليه وسلم- أهل الكبائر دون غيرهم فإنهم ناجون فليس بهم حاجة إلى الشفاعة "(7)، ويُفصّل الحبشي القول في هذه الجزئية فيقول: "ثم المحتاجون للشفاعة هم أهل الكبائر من المؤمنين أما غير أهل الكبائر فليسوا محتاجين للشفاعة لا في القيامة ولا بعد دخول بعض العباد النار، لأن الأتقياء لا يحصل لهم في الموقف مشقة من حر الشمس، ولا يحصل لهم ألم
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص91، انظر: الشرح القويم للحبشي 359،إظهار العقيدة السنية للحبشي 184.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص91، انظر: الشرح القويم للحبشي ص359.
(3) - سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب (منه)، ح2435، 4/625، قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص91-92، انظر: الشرح القويم للحبشي ص361-362.
(5) - المطالب الوفية للحبشي ص127.
(6) - سبق تخريجه، انظر نفس الصفحة.
(7) - المطالب الوفية للحبشي ص127-128.(1/351)
من جوع وعطش، ولا يحصل لهم تعب من طول الموقف، ولكن يخفف الله عليهم ذلك الوقت الطويل الذي هو قدر خمسين ألف سنة، ويجعلها عليهم أخف من صلاة الفريضة، أما النار فلا يدخلونها فلا حاجة بهم إلى الشفاعة "(1)، ولكن يلاحظ على الحبشي الحيرة، والاضطراب، والتردد في أقواله حيث يثبت شفاعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي تخليص أمتة من حر الشمس يوم القيامة فيقول: "يجب الإيمان بالشفاعة التي أدخرها النبي لأمته ومعناها سؤال الخير… والشفاعة في الآخرة تكون لتخليص الناس من حر الشمس يوم القيامة وهذه لسيدنا محمد"(2).
... وبعد أن يتحدث الحبشي عن شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر يقول: "ومع هذا يقول بعض العلماء أن للرسول شفاعات أخرى"(3).
... تعريف الحبشي للشفاعة تعريف صحيح ولكن هناك ما هو أصح منه حيث يذكر السفاريني ذلك في كتابه (لوامع الأنوار) بقوله هي: "سؤال الخير للغير كذا عرفها بعضهم، والحق أنها مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر فكان الشافع ضم سؤاله إلى سؤال المشفوع له"(4) وكذا قال شارح العقيدة الواسطية(5)، وهناك من العلماء من عرفها بقوله: "التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة "(6).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي 184.
(2) - الشرح القويم للحبشي ص360.
(3) - المصدر السابق ص362.
(4) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/204.
(5) - شرح العقيدة الواسطية لهراس ص105.
(6) - شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين ص128.(1/352)
... وأما جعل الحبشي أن شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- خاصة لأهل الكبائر من أمته(1)، وأحياناً يتعدى ذلك ويثبت شفاعة أخرى للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي تخليص الناس من حر الشمس يوم القيامة(2)، فإن كان الحبشي يثبت هاتين الشفاعتين من ضمن بقية الشفاعات الأخرى التي أثبتها السلف فهذا شيء صحيح، ولكن إن قصر شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هاتين الشفاعتين أو على إحداهما فهذا غير صحيح وذلك لثبوت الشفاعات الأخرى عنه -صلى الله عليه وسلم-، والذي عليه الحبشي في إثبات الشفاعة الأمر الثاني وهو تحديد شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر وأحياناً يتعداها بإثبات شفاعته لتخليص الناس من حر الشمس؛ والدليل على اعتقاد الحبشي فيما يثبت من الشفاعة قوله: "إن المحتاجين إلى شفاعته -صلى الله عليه وسلم- أهل الكبائر دون غيرهم فإنهم ناجون فليس بهم حاجة إلى الشفاعة "(3)، وقوله أيضاً: "أما غير أهل الكبائر فليسوا محتاجين للشفاعة، لا في القيامة ولا بعد دخول بعض العباد النار…"(4)، أما الذي عليه السلف في إثبات شفاعاته -صلى الله عليه وسلم- ما ذكره شارح الطحاوية بقوله: "الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع:
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص91-92.
(2) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص360.
(3) - المطالب الوفية للحبشي ص127-128.
(4) - إظهار العقيدة السنية ص360.(1/353)
النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى، الخاصة بنبينا -صلى الله عليه وسلم- من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين -صلوات الله عليهم أجمعين"(1)، ومن الأحاديث التي تدل على هذه الشفاعة، ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ ويبدأ الناس بالذهاب إلى الأنبياء فيبتدئون بآدم -عليه السلام- فيعتذر عن ذلك، ثم يأتون نوحاً -عليه السلام-، ثم يأتون إبراهيم -عليه السلام- فيعتذر عن ذلك، ثم يأتون موسى -عليه السلام- وأيضاً يعتذر، فيأتون عيسى -عليه السلام- فيعتذر ويرشدهم إلى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فيأتون إلى سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- "فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك، ما تقدم منه، وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليَّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيقول أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، والذي نفسي بيده لما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبُصرة "(2)، ويعلق الإمام القرطبي على هذا الحديث بقوله: "هذه الشفاعة العامة التي خُص بها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من بين سائر الأنبياء هي المراد بقوله -عليه السلام- (لكل نبي دعوة
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص229، وانظر: مجموعة الفتاوى 3/98.
(2) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، ح194، 1/184-186.(1/354)
مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي)(1)، الشفاعة لتعجيل الحساب والإراحة من هول الموقف، وهذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي ليعجل حسابهم، ويراحوا من هول الموقف، وهي الخاصة به -صلى الله عليه وسلم-، وقوله أقوال: (يا رب أمتي، …أمتي) اهتمام بأمر أمته، وإظهار محبته فيهم، وشفقته عليهم، وقوله: فيقال: يا محمد (أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه) يدل على أنه شُفَّع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم"(2).
النوع الثاني: "شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة "(3).
النوع الثالث: شفاعته -صلى الله عليه وسلم- "في أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار، أن لا يدخلونها"(4).
النوع الرابع: "شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات، مع تواتر الأحاديث فيها"(5).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة، ح6305، 7/187، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب اختباء النبي -عليه السلام- دعوة الشفاعة لأمته، ح199، 1/189.
(2) - يوم الفزع الأكبر -مشاهد يوم القيامة وأهوالها- للإمام القرطبي ص107، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، الناشر: مكتبة القرآن، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص232.
(4) - المصدر السابق ص232، انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/98،222.
(5) - المصدر السابق ص232.(1/355)
النوع الخامس: "الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن، حين دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجعله من السبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب(1)"(2).
النوع السادس: "الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه"(3)، فقد ذكر عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمه فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضحاح من نار، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه"(4)، "فإن قيل: فقد قال الله تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [المدثر:48]، قيل له: لا تنفع في الخروج من النار، كعصاة الموحدين الذين يخرجون منها، ويدخلون الجنة "(5).
النوع السابع: "شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة، …عن أنس -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أنا أول شفيع في الجنة)(6)"(7).
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، ح216، 1/197، سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب (16)، ح2446، 4/631.
(2) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص232-233.
(3) - المصدر السابق ص233.
(4) - صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، ح3883، 4/3883، صحيح مسلم، كتاب الإيمان،باب شفاعة النبي-صلى الله عليه وسلم-لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، ح209، 1/194-195.
(5) - يوم الفزع الأكبر للقرطبي ص113.
(6) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنا أول الناس يشفع في الجنة) وأنا أكثر الأنبياء تبعاً، ح196، 1/188.
(7) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص233، انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/98.(1/356)
النوع الثامن: "شفاعته في أهل الكبائر من أمته، ممن دخل النار فيخرجون منها وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث… وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً؛ ومن أحاديث هذا النوع، حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)(1)"(2).
وبهذا يتبين مخالفة الحبشي للسلف في إثبات بعض الشفاعات للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأيضاً يؤخذ على الحبشي ترديده لقوله: "فليس بهم حاجة إلى الشفاعة(3) في حق غير أهل الكبائر يوم القيامة، وهذا كلام معلوم الفساد بما تقدم بيانه من إثبات الشفاعات المختلفة له -صلى الله عليه وسلم- وحاجة الناس الماسة لهذه الشفاعات كما ذكرها علماء أهل السنة والجماعة(4) وأثبتوها للنبي -صلى الله عليه وسلم- وحاجة الخلق لها.
المطلب الثالث: الحساب:
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص 211.
(2) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص233، انظر: شرح الأصول لللالكائي 1/159، مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/98.
(3) - المطالب الوفية للحبشي ص128، انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص184.
(4) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/113،116؛ الشريعة للآجري ص331-352، التذكرة للقرطبي ص280-288، يوم الفزع الأكبر للقرطبي ص105-113، البدور السافرة للسيوطي ص116-131، 260-265، لوامع الأنوار للسفاريني 2/204-218، شرح العقيدة الواسطية لهراس ص104-106، شرح لمعة الاعتقاد لابن عثيمين ص128-130، القيامة الكبرى د. الأشقر ص173-191.(1/357)
... يؤمن الأحباش بمحاسبة الله سبحانه وتعالى للعباد، يقول الحبشي: "الحساب حق"(1)، ويبين الحبشي المقصود بالحساب بقوله: "وهو عرض أعمال العباد عليهم، ويكون بتكليم الله للعباد جميعهم فيفهمون من كلام الله السؤال عما فعلوا بالنعم التي أعطاهم الله إياها فيسر المؤمن التقي، ولا يسر الكافر بل يكاد يغشاه الموت، فقد ورد في الحديث الصحيح:(ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه يوم القيامة،ليس بينه وبينه
ترجمان)(2)"(3)، وفي موضع آخر يقول الحبشي: "والإيمان بالحساب وهو عرض أعمال العباد عليهم، والثواب والعذاب. أما الثواب فهو الجزاء الذي يجازاه المؤمن في الآخرة مما يسره، وأما العذاب فهو ما يسوء العبد ذلك اليوم من دخول النار وما دون ذلك"(4).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص88، انظر: الشرح القويم للحبشي ص347.
(2) - صحيح البخاري،كتاب الرقاق،باب من نوقش الحساب عُذّب، ح6539،7/253،صحيح مسلم، كتاب الزكاة،باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة،وإنها حجاب من النار،ح1016،2/703-704
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص88، انظر: الشرح القويم للحبشي ص347.
(4) - بغية الطالب للحبشي ص24، انظر: إظهار العقيدة السنية ص253-254.(1/358)
... ومن الملاحظ أن الأحباش وافقوا السلف في مسألة الحساب ولم يخالفوهم فيه، والحساب ثابت "بالسنة والكتاب وإجماع أهل الحق بلا ارتياب، قال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر:92-93]، وقال في حق أدائه: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ } [النمل:5]، { وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف:49]، { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [الزلزلة:7-8] …"(1)، والمقصود بالحساب "أن الباري سبحانه وتعالى يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة، يعدد عليهم نعمه، ثم يقابل البعض بالبعض فما يشف(2) منها على الآخر حكم للمشفوف بحكمه الذي عينه للخير بالخير، وللشر بالشر"(3)، ويبين الدكتور الأشقر المراد بالحساب والجزاء بقوله: "يراد بالحساب والجزاء: أن يُوقف الحقُّ تبارك وتعالى عباده بين يديه، ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها، وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في حياتهم الدنيا من إيمان وكفر، واستقامة وانحراف، وطاعة وعصيان، وما يستحقونه على ما قدموه من إثابة وعقوبة، وإيتاء العباد كتبهم بأيمانهم إن كانوا صالحين وبشمالهم إن كانوا طالحين. ويشمل الحساب ما يقوله الله لعباده، وما يقولونه له، وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين، وشهادة الشهود ووزن الأعمال. والحساب منه العسير، ومنه اليسير، ومنه التكريم، ومنه التوبيخ، ومنه الفضل والصفح، ومتولي ذلك أكرم الأكرمين"(4)، وعندما يأتي "وقت الحساب الذي
__________
(1) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/171.
(2) - يشف: يزيد، انظر: لسان العرب لابن منظور 3/2291.
(3) - يوم الفزع الأكبر للقرطبي ص77.
(4) - القيامة الكبرى د. الأشقر ص193.(1/359)
يريد الله أن يحاسبهم فيه أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأوتوها، فمنهم من يؤتَ كتابه بيمينه فأولئك هم السعداء، ومنهم من يؤتَ كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهم الأشقياء"(1).
والذي عليه سلف الأمة أن الله سبحانه وتعالى يكلم المسلمين عند الحساب من غير ترجمان كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان"(2)، وفي ذلك يقول الإمام السيوطي: "يكلم الله المؤمن بلا حجاب ولا ترجمان"(3).
المطلب الرابع: الميزان:
... يعتقد الأحباش بوجود الميزان يوم القيامة، ومما جاء على لسان شيخهم الحبشي في وصف الميزان قوله: "الميزان حق، وهو كميزان الدنيا له قصبةٌ، وعامود، وكفتان: كفة للحسنات، وكفة للسيئات توزن به الأعمال يوم القيامة، والذي يتولى وزنها جبريل وميكائيل، وما يوزن إنما هو الصحائف التي كتب عليها الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من أهل النجاة ومن تساوت حسناته وسيئاته فهو من أهل النجاة أيضاً، ولكنه أقل رتبة من الطبقة الأولى وأرفع من الثالثة، ومن رجحت سيئاته على حسناته فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.وأما الكافر فترجح كفة سيئاته لا غير لأنه لا حسنات له في الآخرة لأنه أُطعم بحسناته في الدنيا"(4)، وفي موضع آخر يتحدث الحبشي عن الميزان بقوله: "والإيمان بالميزان أي ما يوزن عليه الأعمال، فالكافر ليس له حسنات يوم القيامة، إنما توضع سيئاته في كفة من الكفتين، وأما المؤمن فتوضع حسناته في كفة وسيئاته في الكفة الأخرى"(5).
__________
(1) - التذكرة للقرطبي ص294.
(2) - سبق تخريجه، انظر: ص218.
(3) - البدور السافرة للسيوطي ص213، انظر: التذكرة للقرطبي ص305-307، لوامع الأنوار للسفاريني 2/177.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص88، انظر: الشرح القويم للحبشي ص347-348.
(5) - بغية الطالب للحبشي ص24-25.(1/360)
... يرى الحبشي أنه لا مجال للعقل في تصور كيفية الميزان ووزن الأعمال به، فيقول: "فالميزان هو عبارة عما يعرف به مقادير الأعمال، والعقل قاصر عن إدراك كيفيته، وهل توزن الأشخاص أو الكتب أو الأعمال ورد بكل ذلك نص فلا مانع من القول بكل ذلك، ومعنى ذلك أنه يمكن أن توزن أحياناً الأشخاص أو أعمالهم وأحياناً الكتب. فإن قيل: كيف توزن الأعمال وهي حركات ونوايا فعلها العبد؟ قلنا: لا مانع عقلاً من ذلك، قالوا: الحسنات تصور بصور حسنة، والسيئات بصور قبيحة، وتوزن هذه، وتوزن هذه، وتوضع هذه في كفة وتلك توضع في كفة "(1) ويقول: "وأما الإيمان بالميزان والوزن فلقوله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأنبياء:47]، وللأخبار الواردة في ذلك، ولم يتعرض العلماء لبيان كيفية الوزن، ومنهم من تعرض لذلك بأن الموزون العمل، ومنهم من قال الموزون الصحائف. ويكفي للإيمان بذلك الاعتقاد بحقية المراد به بدون معرفة التفاصيل"(2)، والملاحظ على الحبشي ميله إلى إثبات هذه الأشياء والإيمان بها دون الخوض في تفاصيلها.
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص120.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص255.(1/361)
... لقد وافق الحبشي في الإيمان بالميزان، حيث ورد عن الإمام الشافعي قوله: "واعلموا أن الميزان… حق"(1)، وعن الإمام أحمد قوله: "والميزان حق"(2) وقوله أيضاً: "والميزان حق توزن به الحسنات والسيئات كما شاء أن توزن"(3)، وأيضاً: "والإيمان بالميزان… والتصديق به والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته"(4)، ومن الأدلة التي استدل بها السلف على وجود الميزان قوله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء:47]، وقوله تعالى: { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون:102-103].
__________
(1) - الثقة الأكبر للشافعي ص65.
(2) - المسائل والرسائل للأحمدي 2/203.
(3) - المرجع السابق 2/203.
(4) - المرجع نفسه 2/203، انظر: شرح الأصول لللالكائي 1/158.(1/362)
... أما عن وصف الميزان فقد جاء عن شارح الطحاوية قوله: "أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان"(1)، ويقول صاحب (الاعتقاد) في الميزان: "والميزان له كفتان ولسان يوزن به أعمال العباد"(2)، ويقول شارح (لمعة الاعتقاد) في وصف الميزان: "هو ميزان حقيقي له كفتان"(3)، والذي يدل على ذلك من السنة ما رواه عبدالله بن عمرو، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله سيخلَّصُ رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مدُّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً واحدةً لا ظلم اليوم عليك، فتُخرج له بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم"(4)، ويبين الإمام القرطبي أن هذا الميزان حقيقي "ووصفه بكفتين ولسان وإن كل كفاً منهما طباق السموات والأرض؛ وقد جاء أن كفة الحسنات من نور، والأخرى من ظلام، والكفة النيرة للحسنات، والكفة المظلمة للسيئات"(5)
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص417.
(2) - الاعتقاد للإمام ابن قداحة المقدسي ص55، تحقيق: عادل عبد المنعم أبو العباس، الناشر: مكتبة القرآن، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - شرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص120، انظر: القيامة الكبرى للأشقر ص247.
(4) - سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، ح2639،5/24-25، قال أبو عيسى: حديث حسن غريب، وقال الألباني في تعليقه على الطحاوية ص418: صحيح، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(5) - التذكرة للقرطبي ص364، وانظر: يوم الفزع الأكبر للقرطبي ص196-197.(1/363)
.
... ويبين الإمام القرطبي أقسام الناس يوم القيامة، وكيفية وزن أعمال كل قسم فيقول:" قال: علماؤنا -رحمهم الله-: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم، ومخلطون وهم الذين يوافقون بالفواحش والكبائر، والثالث الكفار.
... فأما المتقون: فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة وصغائرهم إن كانت لهم الكفة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزناً وتثقل الكفة النيرة حتى لا تبرح، وترتفع المظلمة ارتفاع الفارغ الخالي.
... وأما المخلطون: فحسناتهم توضع في الكفة النيرة وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل، فإن كانت الحسنات أثقل ولو بصؤابة(1) دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل ولو بصؤابة دخل النار إلا أن يغفر الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف على ما يأتي هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كانت عليه تبعات وكانت له حسنات كثيرة فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات لكثرة ما عليه من التبعات فيحمل عليه من أوزار من ظلمه، ثم يعذب على جميع ذنوبه.
... وأما الكافر: فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة، ولا يوجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى فارغة لفراغها وخلوها عن الخير، فيأمر الله بهم إلى النار ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره وآثامه"(2)، وما ذكره القرطبي في حق الكافر يوافقه فيه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها"(3).
__________
(1) - صؤابة: بيضة القمل والبرغوت أو ما يتحبَّبُ من الجليد كاللؤلؤ الصغار، والمراد بذلك لو كان مصدر الثقل شيئاً متناهياً في الصغر فإنه يغير من الموقف.انظر: تهذيب اللغة للأزهري 12/254.
(2) - التذكرة للقرطبي ص365-366، انظر: يوم الفزع الأكبر للقرطبي ص197-198.
(3) - مجموعة فتاوى ابن تيمية 3/97.(1/364)
أما الذي يوزن في الميزان يوم القيامة، فقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال:
-الأول: أن الذي يوزن يوم القيامة هي الأعمال نفسها، وهذا الذي يدل عليه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"(1).
-الثاني: أن الذي يوزن يوم القيامة في الميزان هو العامل نفسه، حيث دلت النصوص على أن الذي يوزن هم العباد، فيثقلون في الميزان أو يخفون وذلك حسب أعمالهم لا بحسب ضخامة أجسامهم واكتسائهم باللحم والشحم، فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [الكهف:105] "(2).
وفي المقابل يؤتى بالرجل النحيف الضعيف فإذا به يزن الجبال، فقد رُوي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- "أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ممّ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)،ح7563،8/274.
(2) - صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم)، ح4729، 5/280، صحيح مسلم، كتاب صفة يوم القيامة والجنة والنار، ح2785، 4/2147.
(3) - مسند الإمام أحمد 1/420-421، قال الألباني في تعليقه على الحديث في شرح الطحاوية ص(418): حديث حسن.(1/365)
-الثالث: أن الذي يوزن يوم القيامة صحائف الأعمال، والذي يدل عليه حديث عبدالله بن عمرو -الذي سبق ذكره- والذي يسمى حديث البطاقة، حيث يقول الله لذلك الرجل الذي يحاسبه على رؤوس الخلائق بعد أن يقرره بذنوبه ومعاصيه "فيقول الله تعالى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء"(1).
... ولعل الصحيح هو الجمع بين الأقوال الثلاثة في أن الذي يوزن العامل وعمله وصحف أعماله، فقد دلت النصوص السالفة الذكر "أن كل واحد من هذه الثلاثة يوزن، ولم تنف النصوص المثبتة لوزن الواحد منها أن غيره لا يوزن، فيكون مقتضى الجمع بين النصوص إثبات الوزن للثلاثة المذكورة جميعها"(2)، وهذا الذي مال إليه صاحب (معارج القبول) بقوله: "والذي استظهر من النصوص -والله أعلم- أن العامل، وعمله، وصحيفة عمله كل ذلك يوزن لأن الأحاديث التي في بيان القرآن قد وردت بكل من ذلك ولا منافاة بينها"(3) وأيضاً يقول شارح الطحاوية: "فثبت وزن الأعمال، والعامل، وصحائف الأعمال"(4).
المطلب الخامس: الثواب والعقاب:
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص221.
(2) - القيامة الكبرى للأشقر ص254.
(3) - معارج القبول للحكمي 2/216.
(4) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص417.(1/366)
يرى الأحباش أن الإيمان بالثواب والعقاب في الآخرة حق، ويبين الحبشي هذه المسألة بقوله: "الثواب عند أهل الحق ليس بحق للطائعين واجبٍ على الله، وإنما هو فضلٌ منه وهو الجزاء الذي يجازاه المؤمن مما يسره في الآخرة، والعقاب لا يجب على الله أيضاً إيقاعه للعصاة، وإنما هو عدل منه وهو ما يسوء العبد يوم القيامة، وهو على قسمين: أكبر وأصغر، فالعقاب الأكبر هو دخول النار، والعقاب الأصغر ما سوى ذلك كأذى حرّ الشمس يوم القيامة فإنها تسلط على الكفار فيغرقون حتى يصل العرق أحدهم إلى فيه، ولا يتجاوز عرق هذا الشخص إلى شخصٍ آخر، بل يقتصر عليه حتى يقول الكافر من شدة ما يقاسي منها: رب أرحني ولو إلى النار، ويكون المؤمنون الأتقياء تلك الساعة تحت ظل العرش، وهذا معنى حديث (سبعة يظلهم الله في ظله)(1)"(2)، ويبين الحبشي المقصود بكلٍ من الثواب والعقاب بقوله: "أما الثواب فهو الجزاء الذي يجازاه المؤمن في الآخرة مما يسره. وأما العذاب فهو ما يسوء العبد ذلك اليوم من دخول النار، وما دون ذلك"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الآذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد، ح660، 1/181-182، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، ح1031، 2/715.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص89، انظر: الشرح القويم للحبشي ص348.
(3) - بغية الطالب للحبشي ص24.(1/367)
وافق الأحباش السلف في موقفهم من الثواب والعقاب بحق العبيد، يقول الإمام الطحاوي: "فإن الله خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه"(1)، وجاء عن ابن القيم -رحمه الله- قوله: "أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى، وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها، وإن كان سبباً"(2)، وينقل ابن القيم عن بعض علماء السلف قولهم: "النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، واقتسام المنازل والدرجات بالمنازل"(3)، ويبين شارح الطحاوية المقصود بتفضل الله على عبيده بدخول الجنة، وبعدله في عبيده في إدخالهم النار فيقول: "أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه، وهو العمل الصالح فإنه { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [طه:112]، وكذلك لا يعاقب أحداً إلا بعد حصول سبب العقاب، فإن الله تعالى يقول: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30]، وهو سبحانه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، لكن إذا مَنَّ على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح فلا يمنعه موجب ذلك أصلاً، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وحيث منعه ذلك فلانتفاء سببه، وهو العمل الصالح. ولا ريب أنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لكن ذلك كله حكمةٌ منه وعدل، فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله. وأما المسببات بعد وجود أسبابها، فلا يمنعها بحال، إذا لم تكن أسباباً غير صالحة، إما لفساد في العمل، وإما لسبب يعارض
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص420 -المتن.
(2) - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن قيم الجوزية ص88، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - المصدر السابق ص88.(1/368)
موجبه ومقتضاه، فيكون ذلك لعدم المقتضي، أو لوجود المانع. وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح، وهو لم يعط ذلك ابتلاءً وابتداءً إلا حكمة منه وعدلاً؛ فله الحمد في الحالين، وهو المحمود على كل حال كل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل"(1).
المطلب السادس: الصراط:
... يؤمن الأحباش بالصراط، ويتحدث الحبشي عن الصراط، وعن ماهيته، ووظيفته يوم القيامة بقوله: "والصراط حق، وهو جسر عريض ممدود على جهنم تَرِدُ عليه الخلائق، فمنهم من يرده ورود دخول وهم الكفار، وبعض عصاة المسلمين أي يَزلُّون منه إلى جهنم، ومنهم من يرده ورود مرور فهو في هوائه. فمن هؤلاء من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كطرفة عين. وهو محمول على ظاهره بغير تأويل، وأحد طرفيه في الأرض المبدَّلة والآخر فيما يلي الجنة… ومما ورد أنه أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعرة كما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري: "بلغني أنه أدقُّ من الشعرة، وأحدُّ من السيف"(2)، وليس المراد ظاهره وإنما المراد بذلك أن خطره عظيم، فإن يُسْرَ الجواز عليه وعْسَرهُ على قدر الطاعات والمعاصي ولا يعلم حدود ذلك إلا الله"(3).
... وافق الأحباش السلف في الإيمان بالصراط، فقد جاء عن الإمام أحمد قوله: "إن الصراط حق"(4) ويقول أيضاً: "والصراط حق يوضع على شفير جهنم ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك"(5)، وبذلك قال الإمام السفاريني: "أجزم بثبوت الصراط، فإنه حق ثابت بلا شطاط"(6)، ويقول شارح الطحاوية: "ونؤمن بالصراط"(7).
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص431-432.
(2) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، ح183، 1/167-171.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص89-90، انظر: الشرح القويم للحبشي ص349، المطالب الوفية للحبشي ص121-122.
(4) - المسائل والرسائل للأحمدي 2/208.
(5) - المرجع السابق 2/208.
(6) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/189.
(7) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص415.(1/369)
... وعن وصف الصراط جاء عن الإمام الشافعي قوله: "وأما الصراط فقنطرة ممدودة على جهنم، وروي في الخبر المشهور: أنها أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف، فمن كان من أهل السعادة عبر عليها كعبور الريح، ويعبر كل واحد من المؤمنين على حسب مراتبه، والكافر لا يمكّن من العبور عليها"(1)، وأيضاً تحدث ابن تيمية -رحمه الله- عن الصراط وعن كيفية مرور الناس عليه فقال: "والصراط منصوب على متن جهنم -وهو الجسر الذي بين الجنة والنار- يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة "(2)، وجاء عن ابن القيم في وصف الصراط بقوله: "وهو أدق من الشعرة، وأحَدُّ من الحسام. وهو دحض مزلة، مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر مواطئ الأقدام"(3).
... ويصف شارح الطحاوية الصراط بقوله: "وهو جسر على جهنم، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أين الناسُ يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ فقال: (هم في الظلمة دون الجسر)(4)"(5).
__________
(1) - الفقه الأكبر للشافعي ص66.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/97-98.
(3) - مدارج السالكين -بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين- لابن قيم الجوزية 1/357، الناشر: دار الفكر -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(4) - صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب بيان صفة الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما، ح315، 1/252-253.
(5) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص415.(1/370)
... والذي يؤخذ على الحبشي عند حديثه عن الصراط أنه وصف الصراط بأنه "جسر عريض"(1) وهذا خلاف النصوص الصحيحة كالحديث الوارد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "بلغني أنه أدق من الشَّعر وأحدُّ من السيف"(2)، وأيضاً ما قاله -صلى الله عليه وسلم- في الصراط: "والصراط كحد السيف، دحض مزلة(3)"(4)، ولهذا يؤول الحبشي حديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ويدعي أن ظاهره ليس المقصود، بل المقصود الخطر العظيم الذي يتعرض له المار على الصراط حيث يقول: "وليس المراد ظاهره، وإنما المراد بذلك أن خطره عظيم، فإن يُسْرَه الجواز عليه، وعُسْرَه على قدر الطاعات والمعاصي ولا يعلم حدود ذلك إلا الله"(5)، وهذا الكلام مردود لدى علماء أهل السنة والجماعة، ويبين هذا الأمر الإمام القرطبي عندما يتحدث عمن يؤول الصراط بأن المقصود به اليسر والعسر الذي يلاقيه المار عليه حسب الطاعات والمعاصي، فيعلق بقوله: "ما ذكره القائل مردود بما ذكرنا من الأخبار، وأن الإيمان يجب بذلك. وأن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن فيجريه أو يمشيه ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة، ولا استحالة في ذلك، للآثار الواردة في
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص89.
(2) - سبق تخريجه، انظر: ص225.
(3) - دحض مزلة: أي تزلق عنه الأقدام ولا تثبت. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري 2/105، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
(4) - المستدرك للحاكم ح3424، 2/408، ويعلق الحاكم بقوله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ،صحيح البخاري،كتاب التوحيد،باب قول الله (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)،ح7440، 8/231-232 (بنحوه)،صحيح مسلم،كتاب الإيمان،باب معرفة طريق الرؤية، ح183، 1/167-171 (بنحوه).
(5) - الصراط المستقيم للحبشي ص89-90.(1/371)
ذلك وثباتها بنقل الأئمة العدول { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور:40] "(1)، ويرد الإمام السفاريني أيضاً على من يؤول الصراط بقوله: "اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسراً ممدوداً على متن جهنم أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار(2) المعتزلي وكثير من أتباعه زعماً منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة وإنما المراد طريق الجنة إليه بقوله تعالى: { سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد:5]، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [الصافات:23]؛ ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحثات والأعمال الرديئة ليسأل عنها ويؤاخذ بها. وكل هذا باطل وخرافات لوجوب رد النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء أو الوقوف فيه. وقد أجاب -صلى الله عليه وسلم- عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك. وأنكر العلامة القرافي(3) كون الصراط أدق من الشعر وأحدُّ من السيف وسبقه إلى ذلك شيخه العز بن عبد
__________
(1) - التذكرة للقرطبي ص386، انظر: يوم الفزع الأكبر للقرطبي ص221.
(2) - القاضي عبد الجبار: القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل، العلامة المتكلم، شيخ المعتزلة أبو الحسن الهمذاني صاحب التصانيف من كبار فقهاء الشافعية، توفي سنة 415هـ. انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 11/113-115، سير الأعلام للذهبي 17/244-245.
(3) - القرافي: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن بن عبدالله الصنهاجي الأصل، البهنسي، المشهور بالقرافي (شهاب الدين، أبو العباس) فقيه، أصولي، مفسر، ومشارك في علوم أخرى، ولد بمصر سنة 626هـ، وتوفي سنة 684هـ. انظر: معجم المؤلفين لكحالة 1/158.(1/372)
السلام(1)، والحق أن الصراط وردت به الأخبار الصحيحة وهو محمول على ظاهره بغير تأويل كما ثبت في الصحيحين والمسانيد والسنن والصحاح مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم يمر عليه جميع الخلائق وهم في جوازه متفاوتون"(2)، وبهذا يتبين عدم صحة ما ذهب إليه الحبشي، وتأويله للصراط، ووصفه بأوصاف من عنده لم تثبت بالشرع.
المطلب السابع: الجنة والنار:
... ويرى الحبشي أن "الجنة حق، فيجب الإيمان بها وأنها مخلوقة الآن كما يفهم ذلك من القرآن والحديث، وهي فوق السماء السابعة ليست متصلة بها وسقفها عرش الرحمن"(3)، وفي موضع آخر يقول عن الجنة أن: "وجودها ثابت وهي مخلوقة الآن… والجنة فوق السماء السابعة منفصلة عنها بمسافة بعيدة ولها أرضها المستقلة وسقفها عرش الرحمن كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري: (إذا سألتم الله -الجنة- فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن)(4)"(5).
__________
(1) - العز بن عبد السلام: عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن محمد بن المهذب السلمي، الدمشقي، الشافعي، المعروف بابن عبد السلام (عز الدين أبو محمد) فقيه، مشارك في الأصول والعربية، ولد سنة 577هـ، وتوفي سنة 660هـ. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 13/302، شذرات الذهب لابن عماد 5/301-302، معجم المؤلفين لكحالة 5/249.
(2) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/192-193.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص90، انظر: الشرح القويم للحبشي ص350.
(4) - صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، ح2790، 3/266، وأيضاً: كتاب التوحيد، باب (وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم)، ح7423، 8/222.
(5) - الشرح القويم للحبشي ص351.(1/373)
أما بالنسبة للنار فيعتقد الحبشي أن "النار حق، فيجب الإيمان بها وبأنها مخلوقة الآن كما يفهم ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة وهي مكان أعده الله لعذاب الكفار الذي لا ينتهي أبداً، وبعض عصاة المسلمين؛ ومكانها تحت الأرض السابعة من غير أن تكون متصلة بها"(1)،و بالمعنى نفسه يقول في (بغية الطالب): "والإيمان بالنار أي جهنم، أي بأنها مخلوقة الآن ولا تزال باقية إلى ما لا نهاية له"(2).
... ويتحدث الحبشي عن الجنة والنار بقوله: "يجب الإيمان بالجنة ودوامها، ونعيمها، والنار ودوامها، ودوام عقابها، فالجنة أعدت للمتقين لإيمانهم على التأبيد، والنار أعدت للكافرين جزاءً لكفرهم على التأبيد، قال تعالى: { جَزَاءً وِفَاقًا } [النبأ:26]"(3).
وافق الحبشي علماء السلف في إثبات الجنة والنار، جاء عن الإمام أحمد قوله: "وإن الله خلق الجنة قبل الخلق، وخلق لها أهلاً، ونعيمها دائم، ومن زعم أنه يبيد من الجنة شيء فهو كافر، وخلق النار قبل خلق الخلق، وخلق لها أهلاً، وعذابها دائم"(4)، ويقول أيضاً: "والجنة والنار مخلوقتان…، فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار"(5)، ويقول الإمام ابن عبد البر: "وأما الإقرار بالجنة والنار فواجب مجتمع عليه، ألا ترى أن ذلك مما يكتب في صدور الوصايا مع الشهادة بالتوحيد وبالنبي -صلى الله عليه وسلم-"(6).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص191، انظر: الشرح القويم للحبشي ص357.
(2) - بغية الطالب للحبشي ص25.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص255، انظر: المطالب الوفية للحبشي ص122-123.
(4) - المسائل والرسائل للأحمدي 2/225.
(5) - المرجع السابق 2/225.
(6) - التمهيد لابن عبد البر 12/190.(1/374)
ويقول ابن قدامة المقدسي: "والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان"(1)، ثم يبين سبب خلق الجنة والنار فيقول:"فالجنة مأوى أوليائه، والنار عقاب لأعدائه"(2)، وفي المعنى نفسه يتحدث الإمام الآجري من أعلام السلف-رحمهم الله-عن الجنة والنار بقوله: "اعلموا -رحمنا الله وإياكم- أن القرآن شاهد: أن الله عز وجل خلق الجنة والنار،قبل أن يخلق آدم-عليه السلام- وخلق للجنة أهلاً،وللنار أهلاً، قبل أن يخرجهم إلى الدنيا، لا يختلف في هذا من شمله الإسلام، وذاق حلاوة طعم الإيمان، دل على ذلك القرآن والسنة، نتعوذ بالله ممن كذب بهذا"(3).
__________
(1) - الاعتقاد لابن قدامة المقدسي ص57.
(2) - المصدر السابق ص58، انظر معارج القبول للحكمي 2/222.
(3) - الشريعة للآجري ص387.(1/375)
... أما عن مكان الجنة والنار، فإن "الجنة في أعلى عليين لقوله تعالى: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [المطففون:18]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث البراء بن عازب المشهور في قصة فتنة القبر: "فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض"(1)؛ والنار في أسفل سافلين لقوله تعالى: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [المطففون:7]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث البراء بن عازب السابق: "فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى"(2)"(3)، وينقل ابن القيم أقوالاً تحدد مكان الجنة والنار بدقة، فينقل عن ابن عباس أنه قال: "الجنة فوق السماء السابعة ويجعلها الله حيث شاء يوم القيامة، وجهنم في الأرض السابعة "(4)، وأيضاً ينقل عن مجاهد قوله: "قلت لابن عباس: أين الجنة؟ قال: فوق سبع سموات، قلت: فأين النار؟ قال: تحت سبعة أبحر مطبقة "(5)، وهذه النقول التي يقوم بنقلها ابن القيم، لا يعلق عليها بتضعيفها ولا ينقضها أو يقول بخلافها، بل يسردها دون ذكر أي شيء، وهذا يدل على موافقته لما في هذه النقول.
... وهذا ما ذهب إليه الإمام السفاريني في لوامع الأنوار بعد ذكره للأحاديث التي تدلل على ذلك ويعلق عليها بقوله: "والحاصل أن الجنة فوق السماء السابعة وسقفها العرش، وأن النار في الأرض السابعة على الصحيح المعتمد"(6)، وبهذا يكون الحبشي وافق علماء السلف في مكان وجود الجنة والنار.
المبحث الثالث: القضاء والقدر عند الأحباش:
المطلب الأول: معنى القضاء والقدر والإيمان به:
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص202 ـ جزء من حديث طويل ـ.
(2) - سبق تخريجه، انظر: ص202.
(3) - شرح لمعة الاعتقاد للعثيمين ص132-133.
(4) - حادي الأرواح لابن القيم ص69.
(5) - المصدر السابق ص69.
(6) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/239.(1/376)
... يبين الحبشي المقصود بالقدر من خلال قوله: "قال بعض العلماء: القدر هو تدبير الأشياء على وجهٍ مطابق لعلم الله الأزلي، ومشيئته الأزلية، فيوجدها في الوقت الذي علم أنها تكون فيه فيدخل في ذلك عمل العبد الخير والشر باختياره ويدل عليه ما جاء في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل حين سأله عن الإيمان: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(1) رواه مسلم، ومعناه: أن المخلوقات التي قدّرها الله تعالى وفيها الخير والشر وجدت بتقدير الله الأزلي، وأما تقدير الله الذي هو صفة ذاته فهو لا يوصف بالشر، فإرادة الله تعالى نافذةٌ في جميع مراداته على حسب علمه بها فما عَلِمَ كونه أراد كونه في الوقت الذي يكون فيه، وما علم أنه لا يكون لم يرد أن يكون.
فلا يحدث في العالم شيء إلا بمشيئته، ولا يصيب العبد شيء من الخير أو الشرَّ أو الصحة أو المرض أو الفقر أو الغنى أو غير ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يخطئ العبدَ شيء قدّر الله وشاء أن يصيبه"(2).
ويرى الحبشي أنه لا بد من الإيمان بالقدر فيقول الحبشي: "والإيمان بالقدر خيره وشره"(3) ثم يبين المقصود بذلك فيقول: "ومعنى ذلك أن كل ما دخل في الوجود من خيرٍ وشرٍ هو بتقدير الله الأزلي، فالخير من أعمال العباد بتقدير الله ومحبته ورضاه، والشر من أعمال العباد بتقدير الله لا بمحبته ورضاه، قال تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال:24]"(4).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة وبيان النبي -صلى الله عليه وسلم- له، ح50، 1/22.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص53-54.
(3) - بغية الطالب للحبشي ص27.
(4) - المصدر السابق ص27.(1/377)
... ويعتقد الحبشي أن العباد "منساقون إلى فعل ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر"(1)؛ يقول الحبشي في تعذيب العصاة وإثابة المطيعين من قِبل الله: "إن الله تعالى إذا عذب العاصي فبعدله من غير ظلمٍ، وإذا أثاب المطيع فبفضله من غير وجوب، لأن الظلم إنما يتصور ممن له آمر وناهٍ، ولا آمر ولا ناهي له، فهو يتصرف في ملكه كما يشاء لأنه خالق الأشياء ومالكها"(2).
... وافق الحبشي السلف في تعريفه للقضاء والقدر وإن كان اقتصر في تعريفه على القدر؛ ومما ورد عن علماء أهل السنة والجماعة في تعريف القدر ما يلي:
عرفه الإمام السفاريني بقوله: "ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها"(3).
وقال الإمام ابن حجر في تعريفه للقدر: "المراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته"(4).
ويقول الأمير الصنعاني في تعريفه للقدر: "فاعلم أن القدر يراد به تقدير الله سبحانه ما سيفعله هو، وما سيفعله المخلوقون على مقتضى علمه تعالى بتلك الواقعات عند حضور وقتها، فلها وقت تقدير وكتاب سابق ووقت وقوع لاصق، سابق لذلك"(5).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص57.
(2) - المصدر السابق ص58.
(3) - لوامع الأنوار للسفاريني 1/248.
(4) - فتح الباري لابن حجر 1/118.
(5) - كتاب إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ص353، تحقيق: محمد صبحي بن حسن حلّان، الناشر: دار ابن حزم، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م.(1/378)
ويُعرّف الإمام الأزهري القضاء والقدر بقوله: "هو علم الله السابق في خلقه، وقد كتبه عليهم، فهم صائر إلى علمه وكل ميسر لما خلق له"(1).
والملاحظ أن هذه تعريفات متقاربة المعنى فيما بينها، وتشتمل على أمرين:
"الأول: علم الله الأزلي الذي حكم فيه بوجود ما شاء أن يوجده….
والثاني: إيجاد ما قدر الله إيجاده على النحو الذي سبق علمه وجرى به قلمه، فيأتي الواقع المشهود مطابقاً للعلم السابق المكتوب"(2).
أما بالنسبة للقضاء، فقد ذكر الدكتور الأشقر في أن للعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر قولين:
"الأول: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق؛… والثاني: عكس القول السابق، فالقدر هو الحكم السابق، والقضاء هو الخلق"(3).
وكذلك وافق الحبشي السلف في اعتقاده بالقدر خيره وشره، حيث جاء عن الإمام أحمد قوله: "ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها، ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان لا يقال لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها؛ ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله، فقد كفى ذلك وأحكم له فعليه الإيمان به والتسليم له مثل حديث الصادق المصدوق وما كان مثله في القدر"(4) وأيضاً يقول: "فمن لم يؤمن بالقدر ورده فقد ضاد الله عز وجل في أمره، ورد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جاء به وجحد القرآن وما أنزل الله عز وجل"(5)، وأيضاً قوله: "ونؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، وحلوه ومره"(6).
__________
(1) - تهذيب اللغة للأزهري 11/59.
(2) - القضاء والقدر د. عمر الأشقر ص26، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط الثانية 1410هـ-1990م.
(3) - المصدر السابق ص27.
(4) - شرح الأصول لللالكائي 1/157.
(5) - المسائل والرسائل للأحمدي 1/139.
(6) - المصدر السابق 1/139.(1/379)
والإمام ابن عبد البر يدعو إلى الإيمان بالقدر وهذا يظهر من خلال قوله: "قال الله عز وجل: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر:49]، وقال: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير:29]، فليس لأحد مشيئة تنفذ، إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى، وإنما يجزى الخلق فيما سبق من علم الله. والقدر سر الله لا يدرك بجدال، ولا يشفى منه مقال، والحجاج فيه مرتجة، لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار، الطيبين الأبرار، بالاستسلام والانقياد والإقرار، بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت:46]"(1)، وهذا الذي ذكره الإمام ابن عبد البر يوافقه الحبشي عندما يقول: "فلا يحدث في العالم شيء إلا بمشيئته، ولا يصيب العبد شيء من الخير أو الشر أو الصحة أو المرض أو الفقر أو الغنى أو غير ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يخطئ العبدُ شيء قدّر الله وشاء أن يصيبه"(2)، وفي المعنى ذاته يقول أيضاً ابن عبد البر في (الاستذكار) في تعليقه على حديث تحاج آدم وموسى -عليهما السلام-: "وفي هذا الحديث دليل على أن الله عز وجل قد سبق في علمه ما يكون، وأنه في كتاب مسطور، جرى القلم فيه بما يكون إلى آخر الأبد، وأن العباد لا يعلمون إلا فيما قد علمه الله عز وجل وقضى به وقدّره"(3).
__________
(1) - التمهيد لابن عبد البر 2/13-14.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص54.
(3) - الاستذكار -الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار- لابن عبد البر 26/85، مراجعة وتدقيق وترقيم د. عبد المعطي أمين قلعجي، الناشر: مؤسسة الرسالة، دمشق، ط الأولى 1414هـ-1993م.(1/380)
... وما ذكره الحبشي من أن الخير والشر وجد بتقدير الله أي خلقه الله، ولكن التقدير الذي هو صفة ذاته لا يوصف بالشر، ومن أن إرادة الله نافذة في جميع مخلوقاته(1)، وأن الخير من أفعال العباد بمحبة الله ورضاه، ومن أن الشر من أفعال العباد لا بمحبته ورضاه(2)، وأيضاً فإن الله إذا عذب العصاة فبعدله من غير ظلم، وإن أثاب المطيعين فبفضله من غير وجوب(3)، وهذا الذي سبق يبينه ابن تيمية -رحمه الله- عندما سئل في جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره، وخيره وشره، فمنهم من يرى أن الخير من الله تعالى والشر من النفس فأجاب -رحمه الله- بقوله: "مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى خالق كل شيء، وربه ومليكه لا رب غيره، ولا خالق سواه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله، وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله، ومعصية رسوله، فإن أطاع كان ذلك نعمة، وإن عصى كان مستحقاً للذم والعقاب، وكان الله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله تعالى وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، لكن يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب أهلها ويهينهم، وما يصيب العبد من النعم، فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعاصيه، كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى:30]، وقال تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [النساء:79]، أي ما أصابك من خِصْب(4) ونصر وهدى فالله أنعم به عليك، وما أصابك من حزن وذل وشر
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص54.
(2) - انظر: بغية الطالب للحبشي ص27.
(3) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص58.
(4) - خصب: نقيض الجَدْب، وهو كثرة العُشب، ورفَاغَةُ العين. انظر: لسان العرب لابن منظور 2/1170.(1/381)
بذنوبك وخطاياك، وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه"(1).
... ويعلق الإمام النووي -رحمه الله- على أحاديث القدر في صحيح مسلم بقوله: "وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها"(2)، وفي المعنى ذاته يقول الإمام البخاري -رحمه الله- : "وأن الخير والشر بقدر لقوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [الفلق:1]، ولقوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات:96]، ولقوله تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر:49]"(3)، وبالتالي فإن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومن ضمنها الخير والشر فهما من ضمن مخلوقاته، لكن لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى لتنزه عنه سبحانه، وهذا ما وضحه ابن القيم -رحمه الله- عندما تحدث عن امتناع إطلاق الشر على الله تعالى نفياً وإثباتاً فقال: "وإن الصواب في هذا الباب ما دل عليه القرآن والسنة من أن الشر لا يضاف إلى الرب تعالى لا وصفاً ولا فعلاً، ولا يتسمى باسمه بوجه من الوجوه، وإنما يدخل في مفعولاته بطرق العموم كقوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } [الفلق:1-2]، … أي من شر الذي خلقه أو من شر مخلوقه"(4)، ويقول في موضع آخر: "وهو سبحانه خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه خير كله"(5).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 8/40.
(2) - شرح النووي على صحيح مسلم 16/149-150.
(3) - شرح الأصول لللالكائي 1/175.
(4) - شفاء العليل -في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل- لابن قيم الجوزية ص477-478، تعليق: إبراهيم أحمد عبد الحميد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
(5) - المصدر السابق ص327.(1/382)
... وأخطأ الحبشي عندما فسر قوله تعالى: { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } [آل عمران:26]، بمعنى بيدك الخير والشر، فإن الله نسب إلى نفسه الخير في الآية ولم ينسب الشر،فقال في (الشرح القويم): "فإن قيل: أليس الله تبارك وتعالى قال: { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } [آل عمران:26]، اقتصر على ذكر الخير ولم يقل والشَّرُ فكيف يجوز أن يقال إنه خالق الخير والشر، فالجواب: في مواضع أخرى من القرآن ما يفيد أن الله تعالى خالق كل شيءٍ، والشيء يشمل الخير والشر"(1).
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص207.(1/383)
... ورد ابن القيم -رحمه الله - مثل هذا القول وخطأه فقال: "وأخطأ من قال: المعني بيدك الخير والشر، لثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس في اللفظ ما يدل على إرادة هذا المحذوف بل ترك ذكره قصداً أو بياناً أنه ليس بمراد، الثاني: أن الذي بيد الله نوعان: فضل وعدل، كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "يمين الله ملأى لا يغيضها(1) نفقة سحَّاء(2) الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع"(3)، فالفضل لإحدى اليدين والعدل للأخرى، وكلاهما خير لا شر فيه بوجه. الثالث: أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك"(4) كالتفسير للآية، ففرق بين الخير والشر وجعل أحدهما في يدي الرب سبحانه وقطع إضافة الأخرى إليه من إثبات عموم خلقه لكل شيء"(5)، وفي هذا الكلام لابن القيم لفتة بأن عقاب العصاة يكون بعدل الله من غير ظلم، وإثابة المطيعين بفضل الله من غير وجوب، وهذا موافق لما قاله الحبشي(6)، وهذا القول موافق لما عليه السلف فقد جاء عن الإمام الطحاوي قوله: "فإن الله تعالى خلق الجنة والنار، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرع له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر
__________
(1) - يغيضها: ينقص. انظر: لسان العرب لابن منظور 4/3326.
(2) - سَّحاء: أي دائمة الصَّبَّ والهطل بالعطاء. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الجزري 2/345.
(3) - صحيح البخاري،كتاب التوحيد،باب (وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم)،ح7419،8/221.
(4) - صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، ح771،1 /534-536، سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب (32)، ح3422، 5/486-487، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(5) - شفاء العليل لابن القيم ص478-479.
(6) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص58.(1/384)
مقدّران على العباد"(1).
... ولقد وافق الحبشي السلف عندما قرر أن الخير من أفعال العباد وهي بمحبة الله ورضاه وأن الشر من أفعال العباد بغير محبته ورضاه ونصه "فالخير من أعمال العباد بتقدير الله ومحبته ورضاه، والشرّ من أعمال العباد بتقدير الله لا بمحبته ورضاه"(2)، حيث قال الإمام ابن القيم في بيان قوله تعالى: { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [الإسراء:38]، "فأخبر أنه يكره ويبغض ويمقت ويسخط ويعادي ويذم ويلعن ومحال أنه يحب ذلك ويرضى به، فهو سبحانه يكرهه ويتقدس عن محبة ذلك وعن الرضى به، بل لا يليق ذلك بعبده فإنه نقص وعيب في المخلوق أن يحب الفساد والشر والظلم والبغي والكفر ويرضاه، فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله"(3)؛ ويبين الإمام أبو حنيفة أن الطاعات كلها ما كانت واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضاه وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره، والمعاصي كلها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته لا بمحبته ولا برضاه ولا بأمره(4).
واتفق السلف أن كل كائن في هذا الوجود هو بمشيئة الله تعالى وإرادته رضيه أم لم يرضه، أمر به أم لم يأمر به، فالشرور والقبائح وإن كان لا يحبها ويبغضها وينهى عنها ويغضب من مرتكبها، إلا أنها بمشيئة الله تعالى وكونها بمشيئته لا يستلزم ذلك محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره(5).
المطلب الثاني: مسألة الجبر:
أولاً: تعريف الجبر لغةً واصطلاحاً:
لغة: يرجع الجبر في اللغة إلى ثلاثة أصول(6):
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص420 -المتن.
(2) - بغية الطالب للحبشي ص27.
(3) - شفاء العليل لابن القيم ص493-494.
(4) - شرح الفقه الأكبر للقاري ص83 -المتن- بتصرف.
(5) - انظر: طريق الهجرتين لابن القيم ص155، مدارج السالكين لابن القيم 1/253-255.
(6) - شفاء العليل لابن القيم ص232.(1/385)
- الأصل الأول: من الإصلاح فالجَبْرُ: "أن تغني الرجل من فقر أو تُصلح عظمهُ من كسر"(1) وجاء في المحيط في اللغة: "والجَبْرُ: أن تجبر كسراً، جَبَرْتُه مَجبُرَ وجَبَرَ"(2).
الأصل الثاني: من الإكراه والقهر: فيقال: "أجبرته على الأمر: أكرهته عليه"(3)، ومأخوذة من "الإجبار: أن تجبر الإنسان على ما لا يريد وتكرهه، وجَبَرْتُه بمعنى أجبرته"(4)، ويقول الأزهري: "جعل جباراً في صفة العباد من الإجبار وهو القهر والإكراه لا من (جَبَرَ)"(5).
الأصل الثالث: من العز والامتناع: "قال الله عز وجل: { إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ } [المائدة:22]، …أراد الطول والقوة والعِظم، والله أعلم بذلك -يقول الأزهري- قلت: كأنه ذهب به إلى الجبار من النخيل، وهو الطويل الذي فاتَ يد المتناول"(6).
ومما سبق بيانه يظهر أن الجبر يعود إلى عدة معانٍ وهي مأخوذة من الإصلاح أو من الإكراه والقهر، أو من العز والامتناع.
ب- اصطلاحاً: ويقصد بالجبر: "هو إسناد فعل العبد إلى الله تعالى"(7).
ولهذا فإن الجبر "إفراط في تفويض الأمر إلى الله تعالى بحيث يصير العبد بمنزلة الجماد، لا إرادة له ولا اختيار"(8).
... وهناك من العلماء من قسم الجبرية إلى قسمين: جبرية "متوسطة تثبت للعبد كسباً في الفعل كالأشعرية، وخالصة لا تثبت كالجهمية"(9).
ثانياً: نصوص للحبشي توهم القول بالجبر، والرد عليها:
__________
(1) - الصحاح للجوهري 2/607.
(2) - المحيط في اللغة لابن عماد 7/97.
(3) - الصحاح للجوهري 2/608.
(4) - المحيط في اللغة لابن عماد 7/97.
(5) - تهذيب اللغة للأزهري 11/59.
(6) - المصدر السابق 11/57.
(7) - التعريفات للجرجاني ص84، انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 1/282.
(8) - المصدر السابق 1/282-283.
(9) - التعريفات للجرجاني ص84.(1/386)
... من المعلوم أن الحبشي أشعري المذهب، لهذا يدافع عن مذهب الأشعري وينافح عنه بكل ما أوتي من حجة؛ ومن جملة المعتقدات الأشعرية التي التزم في منهجه أن يقوم بنشره مسألة الكسب التي قال بها الإمام الأشعري، ومع هذا فإن الحبشي لا يصرح بألفاظ الأشعري بشكل حرفي لما يعلم من نقد العلماء الذي وجه لكسب الأشعري، ولكن الحبشي يقرر كسب الأشعري بصورة أخرى في مسألة أفعال العباد، والتي يكثر من ذكرها في كتاباته، والذي يؤكد صحة هذا القول، أن الحبشي يكثر من النقول عن أعيان الأشاعرة في مسألة الكسب دون أن يعلق عليها، وهذا يدلل على موافقته لما يقولونه(1).
__________
(1) - انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص272-278، المطالب الوفية للحبشي ص93-100، 103-107، الشرح القويم للحبشي ص250-258.(1/387)
... ومن النصوص الواردة عن الحبشي في أفعال العباد قوله: "أن أعمال العباد كلها خلق لله تعالى وكسب للعباد، أي نحن نوجه إليها القصد والإرادة والقدرة التي هي حادثة أما حصول ذلك الشيء فهو بخلق الله"(1)، والملاحظ أن الحبشي اقتصر في إثبات أعمال العباد على مجرد توجيه القصد والإرادة التي هي حادثة، ولم يبين وقوع الفعل من العبد، إنما أسنده إلى الله تعالى من خلال خلق الله لهذا الشيء؛ ولهذا يفسر الحبشي الكسب بقوله: "الكسب أمر دون الخلق، وهو العزم المصمم على فعل الشيء، لما يوجه ويعلق العبد قصده وإرادته بشيء يخلق الله ذلك الشيء"(2)، ويقول في موضع آخر في الكسب: "صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق، فالمقدور الواحد داخل تحت قدرتين، لكن بجهتين مختلفتين، فالفعل مقدور الله تعالى من جهة الإيجاد، ومقدور العبد من جهة الكسب"(3)؛ ويذكر الحبشي في كتابه الدليل القويم أنه "لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب"(4) أي أن العبد تقتصر مشيئته على نيل الفعل فقط.
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص225.
(2) - المصدر السابق ص257.
(3) - المطالب الوفية للحبشي ص105.
(4) - انظر: موسوعة أهل السنة لدمشقية 2/871، الحبشي أخطاؤه وشذوذه لدمشقية ص68 نقلاً عن الدليل القويم للحبشي ص94.(1/388)
ومما سبق ذكره يتبين أن الحبشي يقول بمقالة الأشاعرة في الكسب، ولقد نقل ابن القيم -رحمه الله- ما لخصه متأخرو الأشاعرة في الكسب بأن "الكسب عبارة عن الاقتران العادي بين القدرة المحدثة والفعل، فإن الله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بهما فهذا الاقتران هو الكسب"(1)، ثم يذكر ابن القيم -رحمه الله- ما استقر عليه الإمام الأشعري في الكسب "إن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها، ولم يقع بها المقدور ولا صفة من صفاته، بل المقدور بجميع صفاته واقع بالقدرة القديمة، ولا تأثير للقدرة الحادثة فيه"(2)، ويقول أيضاً: "وتابعه على ذلك عامة أصحابه"(3).
ومما ذكره الحبشي في الكسب يتبين أنه جعل أفعال العباد هي كسب العبد لا فعله، ومرة جعلها بين فاعلين أو قدرتين -وهذه حيرة وقع فيها الحبشي كما وقع فيها من سبقه من متكلمي الأشاعرة- وهذا ما بينه ابن تيمية بقوله: "ولكن طائفة من أهل الكلام -المثبتين للقدر- ظنوا أن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله، قالوا: فهي فعله. فقيل لهم مع ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا فمنهم من قال: هي كسبه لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق، ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين. ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل، والعبد فعل صفاته"(4).
__________
(1) - شفاء العليل لابن القيم ص234.
(2) - المصدر السابق ص235.
(3) - المصدر نفسه ص235.
(4) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 2/78.(1/389)
ويرد على الحبشي بما عليه سلف الأمة وجمهورها والذي يوضحه ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "والتحقيق ما عليه أئمة السنة، وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة، مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة، مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله، ولا يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد وهي مفعول للرب"(1).
أيضاً: حقيقة الكسب عند السلف يختلف عنه عند المتكلمين من أشاعرة وغيرهم، وهذا ما يوضحه ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "إن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو خيرٍ، كما قال تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة:286]، فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، والناس يقولون: فلان كسب مالاً أو حمداً أو شرفاً، كما أنه ينتفع بذلك، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذا كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين صح إثبات السبب إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم"(2)، وفي المقابل يبين ابن تيمية -رحمه الله- الخطأ الذي وقع فيه القدرية على اختلاف أزمانهم وأماكنهم: "ومن هنا ضلت القدرية حيث شبهوا أفعاله -سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً- بأفعال العباد، وكانوا هم المشبهة في الأفعال"(3). ...
ولا بد من التذكير أن العلماء بينوا أن كسب الأشعري من محالات العقول التي تتيه في فهمه، ولا تصل إلى نتيجة فيه بعد طول عناء وجهد تفكير(4).
__________
(1) - المصدر السابق 2/78.
(2) - المصدر نفسه 8/230.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 8/231.
(4) - انظر: شفاء العليل لابن القيم ص332.(1/390)
وقول الحبشي أن العبد لا دخل لمشيئته إلا في جانب الكسب(1)،فقولٌ مردودٌ عليه لأنه يثبت للعبد الفعل فقط وينفي المشيئة والقدرة للعبد في الفعل،وهذا مخالف لما عليه جمهور السلف حيث أن"مذهب سلف الأمة-مع قولهم:الله خالق كل شيء وربه،ومليكه،وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن،وأنه على كل شيء قدير،وأنه هو الذي خلق العبد هلوعاً،إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً ونحو ذلك- إن العبد فاعل حقيقة، وله مشيئة وقدرة، قال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير:28-29]"(2)، وغيرها من الآيات الكثيرة المنتشرة بين ثنايا المصحف التي تثبت مشيئة العبد وقدرته على الفعل، وهذا ما عليه السلف، وأيضاً: كيف يتوافق هذا القول مع قول الحبشي:"إن العبد له اختيار ممزوجٍ بجبرٍ"(3)وأيضاً قوله:"نجد العباد مختارين ظاهراً، مجبورين باطناً؛ العباد مختارون اختياراً ممزوجاً بجبرٍ"(4)،وهذا الذي قاله الحبشي مردود عليه، لأنه يجعل العبد مجبوراً ولو في بعض أفعاله بالإضافة لابتداعه هذا المصطلح الذي لم يرد عن السلف،وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية-رحمه الله-معبراً عن منهج السلف في تبديع مثل هذه المصطلحات"إن إطلاق الجبر مما أنكره أئمة السنة…وما علمت أحداً من الأئمة أطلقه بل ما علمت أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أطلقوه في مسائل القدر والجبر"(5).
وبالإضافة إلى ما سبق من ردود على قول الحبشي بالكسب، فإنه يرد بالتالي:
__________
(1) - انظر: موسوعة أهل السنة لدمشقية 2/871.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 8/73-74.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص232، وانظر: المصدر السابق ص274.
(4) - المصدر نفسه ص258.
(5) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 8/283.(1/391)
لا يوجد فرقٌ بين الكسب والفعل الذي قال به الأحباش ومن سايرهم بهذا القول من المتكلمين لأنهما مقدوران بالقدرة الحادثة وهما قائمان في محل القدرة الحادثة، وبذلك يقول السلف بأنه "لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وأحدث وصنع وعمل ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة"(1).
ويقال أيضاً:"من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل فهو عادل،ومن فعل الظلم فهو ظالم،ومن فعل الكذب فهو كاذب،فإذا لم يكن العبد فاعلاً لكذبه وظلمه وعدله،بل الله فاعل ذلك،لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم"(2)-تعالى الله عن ذلك-،وهذا أمر معلوم الفساد.
ج- أيضاً: القرآن مملوء بالآيات التي تضيف أفعال العباد إلى ذواتهم، ومن ذلك قوله تعالى: { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة:17]، وقوله تعالى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت:40]، وقوله تعالى: { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } [التوبة:105]، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [البقرة:277]،وغيره هذه الآيات الكثير(3).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 8/74.
(2) - المصدر السابق 8/75.
(3) - المصدر نفسه 8/75.(1/392)
د- الحبشي يثبت قدرة لا تأثير لها في الكسب من خلال قوله: "وبالضرورة أن لقدرة العبد وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال كحركة البطش دون البعض كحركة الإرعاش احتجنا في التقصي عن هذا المضيق إلى القول بأن الله تعالى خالق العبد كاسب"(1)، وهذا هو الجبر الذي قالت به القدرية حيث شبه الحبشي حركة البطش بإيجاد الله للفعل، وحركة الارتعاش التي ظهرت من غير تأثير من العبد هي الكسب، وهذا يرد عليه بأن "حركة المختار حاصلة بإرادته دون حركة المرتعش، وهي حاصلة بقدرته أيضاً، فإن جعلتم الفرق مجرد الإرادة فالإنسان قد يريد فعل غيره ولا يكون فاعلاً له، وأن أردتم أنه قادر عليه فقد عاد الأمر إلى معنى القدرة، والمعقول من القدرة معني به يفعل الفاعل، ولا تثبت قدره لغير فاعله، ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى الفاعل سواء"(2)؛ وأما الذي عليه جمهور السلف في أفعال العباد أنهم يقولون "أنها مخلوقة لله مفعولة له، وهي فعل للعبد قائمة به، وليست فعلاً لله قائماً به، بل مفعوله غير فعله، والرب تعالى لا يوصف بما هو مخلوق له، وإنما يوصف بما هو قائم به"(3).
وبالتالي يتبين أن من قال بالك سب هو من أتباع الجبرية المتوسطة(4)، وهو بذلك مخالف لما عليه جمهور أهل السنة والجماعة.
الفصل الثاني
التصوف عند الأحباش
ويحتوي على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول ... : مدخل إلى الصوفية .
... ... المبحث الثاني ... : الحبشي والطرق الصوفية .
... ... المبحث الثالث ... : من بدع التصوف عند الأحباش .
المبحث الأول: مدخل إلى الصوفية:
المطلب الأول: الإسلام والتصوف:
__________
(1) - المطالب الوفية للحبشي ص105.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 7/277.
(3) - المصدر السابق 7/277.
(4) - انظر: التعريفات للجرجاني ص84.(1/393)
إن الدين الإسلامي هو دين الفطرة، حيث إن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على الإقرار بوحدانيته، وهذا الإقرار من خلال ما شرعه الله سبحانه وتعالى من شرائع بعيدة عن التعقيد، والصعوبة في تطبيقها، وهذا الأمر ظاهر من خلال أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي وردت عنه، فقد ورد أن أعرابياً جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنقص منه، فلما وَلّى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سَرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"(1).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، ح1397، 2/134.(1/394)
والأمر الذي سهل على المسلمين تَفَّهم هذا الدين والشعور بحيويته وتدفقه في شرايين الحياة، أنه مأخوذ من الكتاب السنة، ولهذا وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحابته للتمسك بهما فقال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله"(1)، والرسول -صلى الله عليه وسلم- "ربّى أصحابه وتلامذته في ظلهما وضوئهما تربية نموذجية لكي يكونوا قدوة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، ومثلاً عليا لمن أراد أن يهتدي بهدى الله جل وعلا وهدى رسوله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا صورة حية لتعاليم الرب تبارك وتعالى، وإرشادات رسوله -صلى الله عليه وسلم- متبعين مقتدين، غير مبتدعين محدثين، متقدمين بين يدي الله ورسوله، متبعين مرضاة الله، ومقتفين آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهتدين بهداه، سالكين بمسلكه، منتهجين منهجه، غير باغين ولا عادين، ولا مفرّطين في أمور دينهم ودنياهم { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } [الأنعام:90] "(2)، وبالتالي فإن كل ما خالف الكتاب والسنة من اعتقاد لا يجوز الأخذ به، بل لا بد من تركه وعدم الالتفات إليه في أي حالٍ من الأحوال، وهذا الذي تم بيانه يذكره الإمام الشاطبي(3)
__________
(1) - الموطأ لمالك بن أنس، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، ح3، ص899، تصحيح وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر- وصححه الألباني من حديث أبي هريرة، انظر: صحيح الجامع ح2937، 2/566، انظر: صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-ح1218،2/886-892،حديث مطول وفيه ذكر القرآن دون السنة.
(2) - التصوف المنشأ والمصادر إحسان إلهي ظهير ص13، الناشر: إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، ط الأولى 1406هـ-1986م.
(3) - الشاطبي: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الغرناطي، المالكي الشهير بالشاطبي (أبو إسحاق)، محدث، فقيه أصولي، لغوي، مفسر، توفي في شهر شعبان سنة 790هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 11/176، معجم المؤلفين لكحالة 1/118-119.(1/395)
في (الاعتصام) ،و يفصل القول فيه حيث ورد عنه:
إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لأن الله تعالى قال فيها: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة:3]، وفي حديث العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي(1)، وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت حتى بيّن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في أمر دينهم ودنياهم، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة، فإذا كان الأمر كذلك، فالمبتدع يكون لسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقى منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم، قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة، لأن الله يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً(2).
__________
(1) - سنن ابن ماجة، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء المهديين، ح42، 1/15-16، سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، ح2676، 5/44، قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.
(2) - الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي، 1/48-49، بتصرف، الناشر: دار المعرفة، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/396)
إن المبتدع معاند للشرع ومخالف له، لأن الشارع قد عين لمطلب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وأمر الخلق بها، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعدَّيها إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول رحمة للعالمين، فالمبتدع راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثمّ طرقاً أُخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم، ونحن أيضاً نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم ما لم يعلمه الشارع. وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين(1).
3- أيضاً : إن المبتدع قد أنزل نفسه منزلة المضاهي للشارع، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق بها، وصار هو المنفرد بذلك، وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيراً ومضاهياً لله -سبحانه وتعالى- ، حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف باباً، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك قبحاً ومذمةً للمبتدع(2).
المطلب الثاني: أنواع التصوف:
قبل الخوض في بيان أنواع التصوف، لا بد من إيجاد ميزان يقاس عليه التصوف لمعرفة مدى قربه أو بعده من الشريعة الإسلامية، وهذا الميزان بينه (الدكتور غلوش) حيث وضح مصادر التصوف الصحيحة وهي:
القرآن الكريم.
السنة النبوية المطهرة.
الأثر الوارد عن السلف الصالح، والدائر في دائرة القرآن الكريم والسنة النبوية.
ما أثر من سلوك وعبادة الصحابة -رضوان الله عليهم-.
ما أثر عن سلوك وعبادة رجال السلف(3).
__________
(1) - الاعتصام للشاطبي 1/49، بتصرف.
(2) - انظر: المصدر السابق 1/50-51.
(3) - انظر: التصوف في الميزان د. مصطفى غلوش ص115، الناشر: دار النهضة، مصر، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/397)
ويبين الدكتور غلوش أن المصدر الأساسي فيما سبق ذكره هو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فيقول: "وننبه إلى أن المصدر الأساسي لينبوع التصوف هو (القرآن الكريم- السنة النبوية)، وبقية هذه المصادر إنما هي (موضحة) لطريق العمل والسلوك لهذا المنبع الأصلي نزل بطريق (الوحي)"(1).
وبعد هذا العرض يتبين أن التصوف ينقسم إلى قسمين:
الأول: التصوف الإسلامي الصحيح.
الثاني: التصوف البدعي الدخيل.
أما القسم الأول: التصوف الإسلامي الصحيح، وفيه تكون "منابع التصوف هو القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، كما أوردها السلف وشرحوها، بلا باطن لنص أو ظاهر غير مراد"(2)، ولهذا يعرّف الدكتور غلوش التصوف الإسلامي بقوله هو : "الإحسان وهو الذي جاء به الوحي، فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(3)، وهذا التعريف هو روح الإسلام الذي يسعى الدين لتحقيقه في فكر المسلمين، لذلك فإن غاية التصوف الإسلامي أن يبلغ بالإنسان درجة روحية تقررها العقيدة الإسلامية الصحيحة وتعضدها. فلا معنى للتصوف الذي يتناقض مع القرآن الكريم أو السنة النبوية أو ما اجتمعت عليه الصحابة الكرام في الصدر الأول من الدعوة الإسلامية، ولا معنى للتصوف الذي تتعارض مبادئ معتقده مع مبادئ الإسلام، وما عُلم من الدين بالضرورة. أو التصوف الذي يشتمل على عبارات وكلمات أو عقائد لم ترد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الصحابة الكرام أو التابعين الأبرار، بل وأحياناً تكون مخالفة للمعتقدات الإسلامية الصحيحة، وبالتالي تفتح باباً للفتن و الشبهات، ودعاوى الظن والشك وتبتعد عن صفاء الإسلام وبهائه ونصاعة الحق فيه(4).
__________
(1) - المرجع السابق ص116.
(2) - التصوف في الميزان د. غلوش ص26.
(3) - المرجع السابق ص46.
(4) - المرجع نفسه ص26 بتصرف.(1/398)
وأما القسم الثاني: التصوف البدعي الدخيل، والذي يتضح من هذا العنوان أن التصوف يستمد جذوره من غير النبع الصافي القرآن الكريم والسنة، وهذا التصوف البدعي "لا يعتبر أي نوع آخر من أنواع المعارف الأخرى ولا يلتفت إلى (نبع) لمعرفته سوى (نبع) صادر من (وجدانه) وملهم من (ذاته) هو شخصاً فحسب… فالإشراف الصوفي كما يوضحه مؤيده: لا يخضع لقرآن أو سنة أو منهج إسلامي، وإنما هو تلقين بين العديد من التيارات والعقائد بصورة تدعو إلى الدهشة والانزعاج من دخوله إلى المحيط الإسلامي. فهو لذلك دخيل على العقيدة الإسلامية لم ينبت حول النصوص الإسلامية، أو منهج الوحي"(1)، وبهذا تتبين ماهية التصوف البدعي الذي ليس له أصل ومنبع سوى الأهواء والنزعات الخاصة لدى معتقديه.
المبحث الثاني: الحبشي والتصوف
المطلب الأول: الحبشي والطريقة الرفاعية:
يعتبر الحبشي من المتصوفة المعاصرين، ومن أتباع الطريقة الرفاعية، ويبين ذلك أحد تلاميذه (فادي علم الدين) بقوله: "فهو عالم عامل، صوفي المشرب، ورفاعي الطريقة والمسلك"(2)، بل إن الحبشي متعمق في الفكر الصوفي حيث حصل على الإجازة في الطريقة الرفاعية، ومما جاء في ترجمته أنه: "أخذ الإجازة بالطريقة الرفاعية من الشيخ عبد الرحمن السبسبي الحموي، والشيخ طاهر الكيالي الحمصي"(3)، ولهذا يدافع الأحباش وينافحون عن الطرق الصوفية كالرفاعية، والجيلانية، والنقشبندية وغيرها ويعتبرونها من البدع الحسنة(4).
__________
(1) - المرجع نفسه ص81.
(2) - المراقب اليفاعية في المناقب الرفاعية تهذيب فادي علم الدين ص6، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الأولى 1414هـ-1994م.
(3) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص11، انظر: الشرح القويم للحبشي ص8، صريح البيان للحبشي ص364، المطالب الوفية للحبشي ص14.
(4) - المراقب اليفاعية لفادي علم الدين ص5.(1/399)
في البداية لا بد من بيان المقصود بالطريقة الصوفية:و "هي ما يصنعه شيخ من مشايخ الصوفية لمجموعة من المريدين من أوضاع يلتزمونها، ويختصون بها دون غيرهم"(1)، وبالتالي فإن الطريقة الصوفية تعني أولاً النسبة إلى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التصوف والوصول إلى رتبة الشيخ المربي، ويدعي هذا الشيخ لنفسه رتبة من رتب الصوفية كالقطب، والغوث، والوتد، والبدل، وبالتالي لا بد أن يكون هذا الشيخ من أهل الكرامات والمكاشفات ولا بد أن يكون له ذكر خاص، ويزعم كل واحد من هؤلاء المشايخ أنه تلقاه من الغيب إما من الله رأساً، أو نزل منه سبحانه مكتوباً، أو من الرسول -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة أو في المنام، وهذا الذكر لا بد أن يكون له ميزة خاصة بحيث يكون أفضل من الموجود في القرآن والسنة، وأفضل مما عند الطرق الأخرى والملاحظ أن عامة الذين يؤسسون الطرق الصوفية إن لم يكن جميعهم يصلون نسبهم بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ويجعلون أنفسهم من آل البيت، أو يقوم بهذا الأمر أتباعهم ليعطوا الطريقة أهمية خاصة(2).
__________
(1) - الفلاسفة الإسلاميون والصوفية -وموقف أهل السنة منهم- د. عبد الفتاح فؤاد ص94، الناشر: دار الدعوة، القاهرة، ط الأولى 1418هـ-1997م.
(2) - الفكر الصوفي -في ضوء الكتاب والسنة- لعبد الرحمن عبد الخالق ص540-541 بتصرف، الناشر: دار الحرمين، القاهرة، ط الرابعة 1413هـ-1993م.(1/400)
وعن تاريخ نشأة الطرق الصوفية يبدوا أن أول من وضع هذا النظام الصوفي الإيراني محمد أحمد الميهمي المتوفى 430هـ، والمعروف باسم أبي السعيد حيث أقام في بلدته نظاماً للدراويش، وبنى خاناً بجوار منزله للصوفية، وجعل نظام تسلسل الطريق عن طريق الوراثة، وانتشرت بعد ذلك الطرق الصوفية في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وانتقلت من إيران إلى المشرق العربي فظهرت الرفاعية والقادرية في العراق وكذلك بقية الطرق(1).
وأما عن الطريقة الرفاعية فهي تنسب إلى الإمام أحمد الرفاعي(2)، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً شافعي المذهب كما وصفه ابن خلكان(3)؛ ويطلق على الرفاعية أيضاً البطائحية نسبة إلى البطائح "وهي عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط والبصرة ولها شهرة بالعراق"(4)، والطريقة الرفاعية أو البطائحية يُتوارث المشيخة فيها، والشيخ أحمد ليس له عقب أي ورثة، وإنما النسل لأخيه وذريته يتوارثون المشيخة(5).
__________
(1) - الفكر الصوفي لعبد الرحمن عبد الخالق ص539-540 بتصرف.
(2) - أحمد الرفاعي: الإمام القدوة، العابد، الزاهد، شيخ العارفين أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة الرفاعي المغربي، ثم البطائحي، مولده في أول سنة 500هـ، توفي سنة 578هـ، انظر: البداية والنهاية لابن كثير 12/312، شذرات الذهب لابن عماد 4/259.
(3) - انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 1/177.
(4) - المصدر السابق 1/172، انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 11/244.
(5) - انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 1/172.(1/401)
وتعتبر هذه الطريقة الثانية من الطرق الصوفية في الإسلام(1)، والرفاعية أو البطائحية واسعة الانتشار اليوم في تركيا، وبلاد الشام ومصر وغيرها(2).
هناك شعائر خاصة للطريقة الرفاعية تميزها عن غيرها من الطرق الصوفية ومن ذلك ما يلي:
التتلمذ لكل داخل في الطريقة الرفاعية على يد شيخ الطريقة(3).
تبنت الطريقة مذهب التفويض في باب الأسماء والصفات مدعية أنه مذهب السلف، ولكن الرفاعيين مع ذلك يخالفون ويؤولون تأويل الأشاعرة ولا يثبتون ما أثبته الله لنفسه(4).
يجعل الرفاعيون السماع والمواجيد من الصراخ وغيره مما درج عليه أهل التصوف ديناً، ويكفرون من يقول ببدعة ذلك أو يعيبه(5).
ومن الشعائر الخاصة بالطريقة الرفاعية الخلوة الأسبوعية السنوية، وتبدأ في اليوم الحادي عشر من المحرم كل عام، ولها طقوس خاصة من أوراد وأذكار وأفعال لم ترد عن السلف الصالح(6).
ومن الشعائر الخاصة للطريقة الرفاعية جواز المحاضرة، وهي ربط الروح بأرواح من شاء استحضار روحه من كافر ومسلم، وأيضاً ما يسمى بالاستفاضة وهي ربط قلب المريد بقلب الشيخ طلباً لإفاضة العلم الباطني إليه(7).
__________
(1) - انظر: الصلة بين التصوف والتشيع د. كامل مصطفى الشيبي ص444، الناشر: دار المعارف، مصر، ط الثانية -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - انظر: الفلاسفة الإسلاميون د. فؤاد ص100، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، إعداد: الندوة العالمية للشباب الإسلامي ص348، الناشر: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - انظر: الفكر الصوفي لعبد الرحمن عبد الخالق ص574.
(4) - المرجع السابق ص574 بتصرف.
(5) - الفكر الصوفي لعبد الرحمن عبد الخالق ص574 بتصرف.
(6) - انظر: المرجع السابق ص577.
(7) - المرجع نفسه ص578 بتصرف.(1/402)
والمتأمل في هذه الشعائر يجدها طقوساً وأوراداً مبتدعةً ليس لها أصل في الشريعة الإسلامية، ولم ترد عن السلف الصالح بل إن كثيراً من هذه الطقوس مخالفاً لمنهج السلف الصالح كالتأويل للأسماء والصفات، والاستماع البدعي لأوراد مبتدعة، وما يلحقها من آثام يقع فيها فاعلها، وأيضاً ما يعتقدون فيه من ربط الأرواح والاستفاضة؛ وهذه الأمور بمجموعها من المآخذ على الطريقة الرفاعية، بل إن الأمر تعدى ذلك، حيث يلاحظ الصلة الوثيقة بين الطريقة الرفاعية والتشيع الرافضي في أمور متعددة منها:
حال أحمد الرفاعي في المنزلة بعد الأئمة الاثني عشرة مباشرة(1).
إسناد الطريقة الرفاعية عن الإمام الغائب مهدي الشيعة المنتظر(2).
وحدة الشعار بين الرفاعية والشيعة وهو السواد ولبس العمامة السوداء أيضاً(3).
الخلوة الأسبوعية لدى الرفاعيين وهي مرة في كل عام؛ ابتداء دخولها في اليوم الثاني من عاشوراء، يعني الحادي عشر من المحرم، وقد جعلوها شرطاً لكل من انتسب إلى هذه الطريقة وطعامها خال من كل ذي روح(4).
__________
(1) - انظر: المرجع نفسه ص589-592.
(2) - انظر: المرجع نفسه ص592-593.
(3) - انظر: المرجع نفسه ص593.
(4) - انظر: المرجع نفسه ص594.(1/403)
بل إن أتباع الطريقة الرفاعية غلوا في شخصية شيخ الطريقة الرفاعية أحمد الرفاعي وجعلوا منه شخصية أسطورية من قبل مولده وحتى وفاته، فقد جاء في كتاب (قلادة الجواهر) لأحد الرفاعية وهو محمد الصيادي الرفاعي أن الشيخ أحمد الرفاعي قال: "وحق العزيز سبحانه وتعالى: قبض العزيز جل جلاله من نور وجهه فخلق منها سيدنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فرشحت فخلقني منها"(1)، وجاء في كتاب (الروض النضير) أن الله أمر كل نبي أن يعطي شيئاً من روحه إلى الشيخ الرفاعي، فتكونت روحه من أرواحهم ومن روح جده المصطفى(2)، وجاء في هذا الكتاب أيضاً أن الرفاعي كان يخاطب أمه وهو في بطنها فيقول: "يا أماه: السلام عليكم، فتقول، وعليك السلام يا ولدي، ما اسمك؟ فيقول: اسمي أحمد… ولئن كانت معجزة عيسى-عليه السلام- الكلام في المهد صبياً، فإن الرفاعي -كما يصوره أتباعه- كان يتكلم قبل المهد وهو جنين في بطن أمه(3).
__________
(1) - الفلاسفة الإسلاميون د. فؤاد ص101.
(2) - المرجع السابق ص101 بتصرف.
(3) - المرجع نفسه ص101 بتصرف.(1/404)
ويعقب الدكتور عبد الفتاح فؤاد على ما سبق بقوله: "نكتفي بما قاله الشيخ الآلوسي عن أحمد الرفاعي: إن حسن الظن بأحمد -رحمه الله- يقتضي عدم مخالفته للسنة النبوية والشريعة المحمدية -على ما يروي الثقات- على خلاف المنتمين إليه من المبتدعة"(1)، وهؤلاء المبتدعة من الرفاعيين لهم أحوال عجيبة وغريبة، ويوضح ذلك ابن خلكان بقوله: "ولأتباعه -أحمد الرفاعي- أحوال عجيبة: من أكل الحيات وهي حية، والنزول في التنانير وهي تضرم بالنار فيطفئونها، ويقال: إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه"(2)، ويبين فيليب حتى في كتابه (تاريخ العرب) أن الطريقة الرفاعية: "أعضاؤها يقومون بأعمال غريبة كابتلاع الجمر والأفاعي الحية والزجاج أو خرق أجسادهم بالمسلات والسكاكين"(3).
__________
(1) - المرجع نفسه ص102.
(2) - وفيات الأعيان لابن خلكان 10/172، انظر: دائرة المعارف الحديثة أحمد عطية الله 2/901، الناشر: مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط الثانية 1979م، دائرة المعارف الإسلامية يصدرها أحمد الشنتناوي وآخرون 10/148-149، الناشر: دار المعرفة، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، الموسوعة العربية الميسرة، إشراف: محمد شفيق غربال 1/873، الناشر: دار نهضة لبنان للطبع والنشر، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - الصلة بين التصوف والتشيع د. الشيبي، نقلاً عن: تاريخ العرب لحتى 2/525.(1/405)
ومما سبق بيانه يتبين أن الإمام أحمد الرفاعي كما روى العلماء الثقات في كتب التراجم أنه رجلٌ، زاهدٌ، عابدٌ غير مبتدع في دين الله، وإنما جاءت طائفة من الناس وانتسبت إليه وخالفوا ما عليه المسلمون وخرجوا عن حقائق الدين من خلال طقوس وأوراد مبتدعة ومعتقدات باطلة في الإمام الرفاعي من حيث وصفه بالإلهية وتشبهوا بمعتقدات الروافض، بل تعدوا هذا الأمر حيث تعاملوا بالسحر والشعوذة والخداع، ولَبسّوا على الناس أمور دينهم، وهذا معلوم من حالهم وأفعالهم، وبهذا تظهر حقيقة المتصوفة من الرفاعية.
المطلب الثاني: الحبشي والطريقة القادرية:
أخذ الحبشي الإجازة في الطريقة القادرية بالإضافة إلى إجازته في الطريقة الرفاعية، حيث جاء في ذكر ترجمته الموجودة في مقدمة كتاباته في أنه أخذ "الإجازة بالطريقة القادرية من الشيخ العربيني، والشيخ الدمشقي وغيرهما"(1).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص11، انظر:الشرح القويم للحبشي ص8، صريح البيان للحبشي ص364، المطالب الوفية للحبشي ص14.(1/406)
ولا شك أن هذه الطريقة تعتبر من أول الطرق الصوفية التي تم تأسيسها(1)، وقد أُنشئت على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني(2)؛ والشيخ الجيلاني (الجيلي) كان رجلاً زاهداً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر؛ ومن الملاحظ أن المتصوفة يغالون في أشياخ طرقهم، وهذا ما بينه الإمام ابن كثير في بيان حال الشيخ عبد القادر وأتباعه فيقول: "فكان يتكلم على الناس بها -في المدرسة التي كان يشرف عليها- ويعظهم، وانتفع به الناس انتفاعاً كثيراً، وكان له سمت حسن وصمت، غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً، وأفعالاً، ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً"(3)، ومن مظاهر هذا الغلو نقل الشعراني(4) له نسباً علوياً للإمام علي -رضي الله عنه-، ولكن الواسطي(5)
__________
(1) - انظر: الصلة بين التصوف والتشيع د. الشيبي ص443.
(2) - عبد القادر الجيلاني: الشيخ الإمام، الزاهد، العارف القدوة، شيخ الإسلام، علم الأولياء، محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح عبدالله بن جنكي دوست الجيلي، الحنبلي، (أبو محمد) شيخ بغداد، مولده 471هـ، وفاته سنة 561هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 20/439-451، البداية والنهاية لابن كثير 12/252، شذرات الذهب لابن عماد 4/198-202.
(3) - البداية والنهاية لابن كثير 12/252، انظر: الموسوعة الميسرة للندوة العالمية ص347.
(4) - الشعراني: عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمد بن موسى الشعراني، الأنصاري، الشافعي، الشاذلي، المصري (أبو المواهب، أبو عبد الرحمن) فقيه، أصولي، محدث، صوفي، مشارك في أنواع من العلوم، ولد سنة 898هـ، وتوفي سنة 973هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 8/372-374، معجم المؤلفين لكحالة 6/218.
(5) - الواسطي: عبد الرحمن بن عبد المحسن بن عمر بن عبد المنعم الواسطي، الرفاعي، الشافعي (تقي الدين أبو الفرج) من الحفاظ المكثرين والأثبات المصنفين، ولد سنة 568هـ، وتوفي سنة 655هـ. انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة 1/402، معجم المؤلفين لكحالة 5/152.(1/407)
ينكره عليه، ويرى أن الشيخ عبد القادر وأولاده ما ادعوا هذه النسبة(1)، وأيضاً يبين ابن تيمية -رحمه الله- بعض مظاهر الغلو في الشيخ الجيلاني، فيقول: "وأما قول القائل: من قرأ آية الكرسي، واستقبل جهة عبد القادر الجيلاني -رضي الله عنه- وسلم عليه، وخطا سبع خطوات، يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته أو كان في سماع فإنه يطيب ويكثر تواجده"(2)،ويرد ابن تيمية -رحمه الله- على هذه الفرية بقوله: "فهذا أمر القربة فيه شرك برب العالمين، ولا ريب أن الشيخ عبد القادر لم يقل هذا، ولا أمر به، ومن يقل مثل ذلك عنه فقد كذب عليه، وإنما يحدث مثل هذه البدع أهل الغلو والشرك"(3).
وأما عن امتداد هذه الطريقة فقد وجدت في العراق، واليمن، والهند، وتركيا، ومصر(4).
والمتأمل للطريقة القادرية أو الجيلانية والتي نسبت إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، يتبين -كما مر في كتب تراجم الرجال- أنه شيخ زاهد بعيد عن البدع المنسوبة إليه، ولكن الذين وقعوا في هذه البدع أتباع الطريقة القادرية، وغلوا في شيخهم الجيلاني ونسبوا إليه الكثير من الأقوال والأفعال التي لم ترد عنه.
المطلب الثالث: الحبشي والطريقة النقشبندية:
__________
(1) - انظر: الصلة بين التصوف والتشيع د. الشيبي ص443-444.
(2) - الجامع الفريد -كتب ورسائل لأئمة الدعوة الإسلامية- كتاب الزيارة لابن تيمية ص407، الناشر: مطبعة المدينة، الرياض -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(3) - المصدر السابق ص407.
(4) - انظر:المذاهب الصوفية ومدارسها عبد الحكيم عبد الغني قاسم ص199،الناشر:مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 1989م.(1/408)
... يلاحظ على الحبشي أنه دائم الدأب في التعمق في الطرق الصوفية، فلم يكتفِ بأخذ إجازتين في كبرى الطرق الصوفية: الرفاعية والقادرية، بل اتجه إلى الطريقة النقشبندية وأخذ إجازة فيها بسند متصل، فجاء في ترجمته أنه أخذ الإجازة عن الشيخ عبد الغفور الأفغاني النقشبندي(1)، لهذا لا غرابة أن يدافع الأحباش عن الطريقة النقشبندية كبقية الطرق الصوفية الأخرى، ويعتبروا أتباعها من أولياء الله(2).
أنشئت الطريقة النقشبندية على يد الشيخ خالد النقشبندي(3)، وكان يلقب بـ (بهاء الدين)؛
ولهذه الطريقة امتداد في بلاد الشام(4).
وإن النقشبندية لا تختلف عن مثيلاتها من الطرق الصوفية من حيث مخالفتها للسنة النبوية المطهرة، ومن عقائد النقشبنديين: يدّعون أن المؤسس الأول للطريقة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، وبأنه كان يستعمل طريقة الذكر النقشبندية -بحبس النفس ولا يتنفس إلا في الصباح-، فيُشم رائحة لحم مشوي، فيتساءل الناس عنها، فيخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها رائحة احتراق كبد أبي بكر من كثرة ذكر الله(5).
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص6، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص9، المطالب الوفية للحبشي ص12.
(2) - انظر: المراقب اليفاعية لفادي علم الدين ص5.
(3) - خالد النقشبندي: خالد بن أحمد بن حسين الشهرزوري، الكردي، الشافعي، الصوفي (بهاء الدين)، شيخ الطريقة النقشبندية، ولد في قصبة قره طاغ من بلاد شهرزور سنة 1193هـ، ثم رحل إلى دمشق ومات= =بها 1242هـ، من مؤلفاته: العقد الجوهري في الفرق بين كسبي الماتريدي والأشعري، الرسالة الخالدية في آداب الطريقة النقشبندية، انظر: معجم المؤلفين لكحالة 4/95، الأعلام للزركلي 2/294.
(4) - انظر: موسوعة أهل السنة لدمشقية 2/1263، الصلة بين التصوف والتشيع د. الشيبي ص441.
(5) - انظر: موسوعة أهل السنة لدمشقية 2/1263.(1/409)
ويعامل النقشبنديون مشايخ الطريقة الأموات معاملة الأحياء في الاستغاثة، بحيث يتلقون فيوضات النور والهدى منهم، وتتم مباعيتهم، وأخذ العلم عنهم وهم في قبورهم، ويعتقدون أن تقوية الصلة بالله تكون بوضع صورة الشيخ في مخيلة المريد، وبين عينيه عند ذكر الله، بل إن النقشبنديين غالوا في حق شيخ الطريقة حيث أوصلوه لمرتبة الألوهية، وذلك من خلال زعمهم أن شيخهم (بهاء الدين النقشبندي) كان يقول للرجل مت فيموت، ثم يقول له قم حياً فيحيا مرة أخرى، ووصل الأمر بهم أنهم جعلوا من الحيوانات شيوخاً للطريقة: كالفرس، والهرة، والفهد وغيرها(1).
وبالتالي يظهر شذوذ الاعتقاد عند النقشبنديين ومخالفتهم لشرع الله، لما يتضمنه من خرافات وأساطير لا يعتقدها إلا الجهال من الناس.
وبعد العرض السابق لكل من الطريقة الرفاعية والقادرية والنقشبندية، لا بد من الإشارة إلى أن الطرق الصوفية بمجموعها تشترك في مجموعة من الأمور:
الاحتفال بدخول المريد في الطريق بطقوس دقيقة مرسومة، وقد يتطلب بعض الطرق من المريد قبل الدخول في الطريق أن يمضي وقتاً شاقاً في الاستعداد للدخول.
التزيي بزي خاص، وغالباً ما يرمز إلى الزهد.
اجتياز المريد مرحلة شاقة من الخلوة، والصلاة، والصوم وغير ذلك من الرياضات.
الإكثار من الذكر مع الاستعانة بالموسيقى والحركات البدنية المختلفة التي تساعد على الوجد والجذب.
الاعتقاد في القوى الروحية الخارقة للعادة التي يمنحها الله المريدين وأصحاب الوجد وهي القوى التي تمكنهم من أكل جمرات النار، والتأثير في الثعابين والإخبار بالمغيبات…إلخ.
__________
(1) - انظر: المرجع السابق 2/1263-1264.(1/410)
احترام المرشد أو شيخ الطريقة إلى درجة تقرب من التقديس(1)، والمتأمل في هذه الأمور المشتركة بين الطرق الصوفية يجدها أموراً مبتدعةً في دين الله ليس لها دليل تستند إليه، ولهذا تكثر البدع عند جماعة الطرق الصوفية عموماً كالذكر الجماعي في صفوف أو حلقات بصوت واحد، وذكرهم الله بالاسم المفرد بصوت واحد مثل الله الله، حي حي، قيوم قيوم… وذكرهم بضمير الغائب مثل هو، هو… وذكره بكلمة: آه، وفي نشيدهم شر كثير، مثل الاستعانة بغير الله وطلب المدد من الأموات مثل: البدوي، والشاذلي، والجيلاني، والرفاعي وغيرهم، وفي كتبهم بدع كثيرة وخاصة النقشبندية وذكرهم الله بلفظ الجلالة في الورد اليومي بحركات قلبية مع نفس تشبه حركة اللسان بالكلام دون تحريك للسان، واستحضار المريد شيخه بورده اليومي، مع اعتقاد وساطته في نجاته يوم القيامة، وهذه الأمور كلها من البدع المنكرة، لأن تلك الأمور لم يرد منها شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فيما أوحي إليه من الكتاب والسنة(2)، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(3)، ولهذا فإن الانتساب إلى الطرق الصوفية مثل: القادرية، والرفاعية، والنقشبندية وغيرها من الطرق يعتبر أمراً مبتدعاً ومحدثاً في دين الله، حيث ورد في حديث العرباض بن سارية قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين والراشدين تمسكوا بها وعضوا
__________
(1) -الصلة بين التصوف والتشيع د.الشيبي ص443 -بتصرف-، نقلاً عن كتاب (في التصوف الإسلامي) لنيكلسون ص65.
(2) - فتاوى اللجنة الدائمة جمع الدويش 2/224-225 بتصرف.
(3) - صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب النجش ومن قال: لا يجوز ذلك البيع 3/33، صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور ح1718، 3/1343.(1/411)
عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(1)، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيقع في أمته اختلاف كثير وتتشعب بهم الطرق والمناهج وتكثر فيهم البدع والمحدثات وأمر المسلمين أن يعتصموا بكتاب الله، وأن يتمسكوا بسنته ويعضوا عليها بالنواجذ وحذرهم من التفرق والاختلاف، واتباع البدع والمحدثات لأنها مضلة ومتاهات تتفرق بمن سلكها عن سبيل الله فوصاهم بما وصى به عباده في قوله سبحانه وتعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران:103]، وقوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام:153]،ولا شك أن منهج أهل السنة والجماعة مصدره الكتاب والسنة، وأما طقوس وأوراد المتصوفة فهي مبتدعة وهي غير مشروعة، بل وإن من الأدعية فيها شرك بالله، أو ما هو ذريعة إليه: كالاستغاثة بغير الله، وذكره بالأسماء المفردة، وذكره بكلمة (آه) وليست من أسمائه سبحانه وتوسلهم بالمشايخ في الدعاء، واعتقاد أنهم جواسيس القلوب يعلمون ما تكنه،وذكرهم الله ذكراً جماعياً بصوت واحد في حلقات مع ترنحات وأناشيد إلى غير ذلك مما لا يعرف في كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-(2).
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص276.
(2) - فتاوى اللجنة الدائمة جمع الدويش 2/200-201 بتصرف.(1/412)
وأما من يدعي أن الصوفية دعوة أخلاقية مثالية أو يستشهد لذلك بما يلمحه في كتبهم من دعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وبما يفتنه من روعة الجمال في البيان الأدبي عن تلك الدعوة، فيرد الشيخ عبد الرحمن الوكيل على مثل هذه الدعوى بقوله: "فإني أقول: إن الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة كمٌ مشترك بين الأديان جميعها سواء ما نزل به وحي من الله، أو ما افترته الأهواء، وأفكته الأساطير، فتش في كتب البوذية(1)، والبرهمية(2)، والزرادشتية(3)، والمانوية(4)، والغنوصية(5)
__________
(1) - البوذية:هي ديانة ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية في القرن الخامس الميلادي،وتنسب إلى سدهارتا جوناما الملقب ببوذا،وقد غالى أتباعه فيه حتى ألهوه.انظر:الموسوعة الميسرة إعداد الندوة العالمية ص107-111.
(2) - البرهمية: هم جماعة موجودة في الهند، وينسبون إلى رجل يقال له: برهام قد ادعى نفي النبوات، وقرر استحالة ذلك في العقول إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة.انظر:الملل والنحل للشهرستاني3/339-346.
(3) - الزرادشتية: وهم أتباع الزرادشت، وهو رجل من أهل أذربيجان ظهر في أيام بشتاسف بن لهراسف، وادعى النبوة، وهم إحدى فرق المجوس. انظر: اعتقادات فرق المشركين والمسلمين للرازي ص102-103، الملل والنحل للشهرستاني 2/65-72.
(4) - المانوية: ترجع في أصلها إلى الثنوية وتنسب إلى ماني بن فتق حيث ظهر قبل الإسلام، وادعى أن للعالم أصلين: نوراً وظلمةً، لاحقة ملك البلاد بهرام وقتله وهرب أتباعه إلى الصين ونشروا مذهبه هناك. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص104-105، انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/54-61، الفرق بين الفرق للبغدادي ص271-272.
(5) - الغنوصية: حركة فلسفية ظهرت في أوربا والشرق الأوسط، وازدهرت بين القرنين الثاني والثامن الميلاديين، حيث تكونت لها فرق من النصارى وغيرهم، ممن كانوا يعتقدون معرفة أسرار الطبيعة والكون. انظر: الموسوعة العربية العالمية إعداد مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع17/123-124.(1/413)
، وإخوان الصفا(1)، بل فتش حتى في كتب اليهود الوضعية وفي كتب أي نِحلة ضالة، تجد دعوة تلتهب حماسة إلى التسامي بالخلق، وإلى تحقيق مثله العليا، فليست الصوفية -إن صدقنا زعمها- بِدْعاً في زعومها، وإنما هي كغيرها من الدعوات الباطلة… فليست الدعوة الخلقية هي الفَيْصَل بين دين ودين، أو دعوة ودعوة، فإنها في كل دعوة وفي كل دين، وإنما هي الفيصل بين الأديان والدعوات، وكونها حقاً أو باطلاً خيراً أو شراً هو العقيدة التي تنبعث عنها هذه الدعوة الخُلقية، أو الباعث الذي يكمن وراء السلوك والغاية التي توجهه إلى هدفه، وترْجى منه"(2)، وبالتالي فإن الدعوة الصوفية التي ترتكز على الأخلاق ليس معيار على صحة الاعتقاد الصوفي، لأن الأخلاق ما هي إلا نتيجة، لهذا يقول الشيخ الوكيل:"ليس المهم ما تتخلقّ به، أو تقوله،أو تعمله، بل الأهم قبل كل شيء ما تعتقده"(3).
__________
(1) - إخوان الصفا: عبارة عن جماعة ذات نزعة فلسفية شيعية متطرفة، عاشت في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وتعتبر هذه الجماعة سرية، حيث كانوا يصدرون نشرات= =وكتابات مذيلة (بإخوان الصفا). انظر: القاموس الإسلامي لعطية الله 1/49، دائرة المعارف الإسلامية يصدرها الشنتناوي 1/527-529.
(2) - هذه هي الصوفية عبد الرحمن الوكيل ص163، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثالثة 1399هـ-1979م.
(3) - المرجع السابق ص166.(1/414)
وفي خاتمة هذا المبحث لا بد من التذكير والحث على الإخلاص واتباع السنة ومخالفة البدعة، فقد جاء عن الإمام الفضيل بن عياض، في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [هود:7]، قال: أخلصه، وأصوبه. قيل له: يا أبا علي: ما أخلصه؟ وما أصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ولهذا كان يقول ابن عياض -رحمه الله-: من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً(1)، ويعلق ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشائخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال"(2).
المبحث الثالث: من بدع التصوف عند الأحباش
المطلب الأول: الاستغاثة والتوسل البدعي:
يعتقد الحبشي أن التوسل بالأنبياء والأولياء جائز ولا يعتبر شركاً حيث يقول: "اعلم أنه لا دليل حقيقياً يدل على عدم جواز التوسل بالأنبياء والأولياء في حال الغيبة، أو بعد وفاتهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير الله، لأنه ليس عبادة لغير الله مجرد النداء لحيّ أو ميت، ولا مجرد التعظيم، ولا مجرد الاستغاثة بغير الله … ولا مجرد صيغة الاستغاثة بغير الله تعالى، أي ليس ذلك شركاً"(3).
__________
(1) - الجامع الفريد -كتاب الزيارة لابن تيمية ص677- بتصرف.
(2) - المصدر السابق ص677.
(3) -الصراط المستقيم للحبشي ص96،انظر:الشرح القويم للحبشي ص377،379،صريح البيان للحبشي 135.(1/415)
ويبين الحبشي المقصود بالتوسل بقوله: "التوسل: هو طلب حصول منفعة أو اندفاع مضرة من الله، بذكر اسم نبي أو ولي إكراماً للمتوسَّل به"(1)، وبالتالي فإن الحبشي يعتقد أن التوسل بالأنبياء والأولياء من الأسباب المعينة في تحقيق المطالب، ويعبر عن ذلك بقوله: "وقد جعل الله سبحانه وتعالى من الأسباب المعينة لنا لتحقيق مطالب لنا التوسل بالأنبياء والأولياء في حال حياتهم وبعد مماتهم، فنقول: اللهم إني أسألك بجاه رسول الله، أو بحرمة رسول الله أن تقضي حاجتي، وتفرج كربي، أو نقول: اللهم بجاه عبد القادر الجيلاني ونحو ذلك، فإن ذلك جائز"(2)، ويرى أيضاً أنه لا مانع من القول: نسألك بحق فلان عليك؛ ويعلق على هذا بقوله: "هو القول الصحيح الراجح"(3).
ولا يألو الحبشي جهداً في إثبات جواز التوسل والاستغاثة بالغائب، ويأتي بمجموعة من النصوص الشرعية أشهرها ما يلي:
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص378.
(2) - المصدر السابق ص379.
(3) - المصدر نفسه ص194.(1/416)
أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عَلَّم الأعمى أن يتوسل به فذهب فتوسَّل به في حالة غيبته وعاد إلى مجلس النبي وقد أبصر، وكان مما علمه رسول الله أن يقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي (ويسمي حاجته) لتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ"(1)، فبهذا الحديث بطل زعمهم أنه لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، لأن هذا الأعمى لم يكن حاضراً في المجلس حين توسَّلَ برسول الله بدليل أن راوي الحديث عثمان بن حنيف قال لما روى حديث الأعمى: "فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل وقد أبَصَرَ"(2)، فمن قوله: "حتى دخل علينا"، علمنا أن هذا الرجل لم يكن حاضراً في المجلس حين توسَّل برسول الله"(3) -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) - سنن الترمذي، كتاب الدعوات، ح3578، 5/569، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ المستدرك للحاكم، ح1180، 1/458، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
(2) - جزء من الحديث السابق، انظر: ص289.
(3) - الشرح القويم للحبشي ص379-380، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص98-99، صريح البيان للحبشي ص370.(1/417)
وأيضاً من أدلة الحبشي في جواز التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توسل بالعباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم-(1)، ويرى الحبشي أن "توسل عمر بالعباس بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس لأن الرسول قد مات، بل كان لأجل رعاية حق قرابته من النبي -صلى الله عليه وسلم-"(2)، وهذا رد من الحبشي على من ينكر التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته(3)، ويرى الحبشي "أن ترك الشيء لا يدل على منعه كما هو مقرر في كتب الأصول، فترك عمر للتوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا دلالة فيه أصلاً على منع التوسل إلا بالحي الحاضر، وقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً من المباحات، فهل دل تركه لها على حرمتها؟"(4).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، ح1010، 2/20.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص99.
(3) - انظر: صريح البيان للحبشي ص160.
(4) - المصدر السابق ص161، انظر: الشرح القويم للحبشي ص394.(1/418)
ومما سبق بيانه يتبين أن من مرتكزات الاعتقاد عند الأحباش جواز الاستغاثة والتوسل بالأموات؛ وهذا هو التوسل الممنوع والمذموم عند السلف، وفيه يتقرب العبد بعمل مخالف لكتاب الله، مجانفٍ لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-(1)، والذي يقابله التوسل المشروع وهو: كل توسل ندبنا الله إليه في كتابه، وحثنا عليه، وبينه لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو ما كان موافقاً لما شرعه الله من التقرب إليه من الطاعات والأعمال الصالحة التي يحبها سبحانه ويرضاها(2)، ولذلك يجيز الحبشي سؤال الله (بجاه رسوله) أو (بجاه عبد القادر الجيلاني) أو (بحق فلان) ونحو ذلك من الأمور(3)، وهذا الذي يعتقده الأحباش من جواز الاستغاثة والتوسل بالأموات سواء أكانوا أنبياء أو أولياء مخالف لمنهج السلف الصالح، وذلك للتالي:
__________
(1) - انظر: التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع لمحمد نسيب الرفاعي ص176 -بدون ناشر- ط الأولى، 1394هـ-1974م.
(2) - التوصل إلى حقيقة التوسل للرفاعي ص14 بتصرف.
(3) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص194،379.(1/419)
أن هذا التوسل والاستغاثة مبتدع في دين الله وليس له أصل، حيث لم يثبت عن صحابته -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يفعلونه؛ ويقول ابن أبي العز عند نفيه لهذا التوسل المبتدع وبيان عدم صحته: "فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لفعلوه بعد موته"(1)، وبالتالي فإنه لم يثبت فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- لهذا الأمر فتبين بدعيته، ويصرح بذلك ابن أبي العز بقوله: "وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أحد من الأئمة -رضي الله عنهم"(2)، وهذا ما يؤكده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تعليقه على مثل قول القائل: اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان، بقوله: "لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، وسلف الأمة، أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء"(3).
__________
(1) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص237.
(2) - المصدر السابق ص237.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/50.(1/420)
هذه الأقوال في التوسل والاستغاثة إنما هي من جنس الشرك لأن المتوسِل يعتقد أن المتوسَّل به ينفعه، ويرفع عنه الضر -وإن كان بعض المتصوفة يصرحون أن هذا التوسل للتبرك بالمتوسَّل به-، وفي هذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما قول القائل إذا عثر (يا جاه محمد)، (يا للست نفيسة)، أو (يا سيدي الشيخ فلان) أو نحو ذلك مما فيه استغاثته وسؤاله فهو من المحرمات وهو من جنس الشرك، فإن الميت سواء كان نبياً، أو غير نبي لا يُدعى ولا يسأل، ولا يستغاث به عند قبره، ولا مع البعد من قبره، بل هذا من جنس دين النصارى"(1)، ويقول أيضاً: "وأما الرجل إذا أصابته نائبة، أو خاف شيئاً فاستغاث بشيخه، يطلب تثبت قلبه من ذلك الواقع فهذا من الشرك"(2)، وهذا ما ذهب إليه الصنعاني في حديثه عمن يستغيث بالجيلاني والرفاعي وغيرهم فيقول: "وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادونهم، ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر؛ وهذا هو بعينه فعل المشركين في الأصنام"(3).
استخدام مثل هذه الألفاظ في الدعاء إنما هو من باب الأعتداء فيه، فمثلاً: أن يقول الداعي (بحق فلان) وكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي، وهذا هو الأعتداء بعينه، وقد قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف:55] (4).
__________
(1) - الجامع الفريد -كتاب الزيارة- لابن تيمية ص420.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/52.
(3) - تطهير الاعتقاد -عن أدران الألحاد- لمحمد بن إسماعيل الصنعاني ص20، الناشر: مؤسسة النور، الرياض، ط الثانية 1389هـ.
(4) - انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص237.(1/421)
وأيضاً دعاء الله والتوسل إليه بمثل هذه الألفاظ محذور، لأن الداعي يقسم على الله بأحد مخلوقاته، وهذا محذور من وجهين: "أحدهما: أنه أقسم بغير الله. والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً. ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم:47]"(1).
طلب المعونة من الأموات سواء كانوا أنبياء أو أولياء فيه تجاوز للشرع، وذلك أن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ويعبر عن هذا المعنى الأمير الصنعاني بقوله: "والكلام في طلب القبوريين من الأموات، أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم، وينفسوا عن حبلاهم، وأن يسقوا زرعهم…، ونحو ذلك عن المطالب التي لا يقدر عليها أحد إلا الله، هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } [الأعراف:197]، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأعراف:194]"(2).
__________
(1) - المصدر السابق ص236.
(2) - تطهير الاعتقاد للصنعاني ص25.(1/422)
ويشنع في هذه الأقوال لأنها تدخل في باب العبادة والاستعانة بغير الله، حيث إن "العبادة والاستعانة لله وحده لا شريك له، كما قال: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النساء:36]، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة:4]، …والدعاء لله وحده، سواء كان دعاء العبادة، أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } [الجن:18-20]"(1).
ويوضح الأمير الصنعاني المقصود بالعبادة من خلال رده على من يظن أن معنى العبادة يقتصر على الصلاة والصيام والحج، ويبين أن هؤلاء يجهلون معنى العبادة، لأنها ليست منحصرة في تلك الشعائر، بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوب أولئك القوم معتقدات لا يستغنون عنها في طقوسهم، حيث يظهر ذلك جلياً في دعائهم، وندائهم، والتوسل بالأموات والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك(2).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/54.
(2) - انظر: تطهير الاعتقاد للصنعاني ص29.(1/423)
يظهر بوضوح لدى الحبشي أن التوسل لديه إنما يكون بالذوات، فيقول في تعليقه على حديث الضرير: "فبهذا الحديث بطل زعمهم أنه لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر، لأن هذا الأعمى لم يكن حاضراً في المجلس حين توسل برسول الله"(1)، وهذا فهم خاطئ لأن توسل الصحابة إنما كان بالدعاء وليس بالذوات، وهذا ما يوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته -مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء، أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم- فليس هذا مشهوراً عند الصحابة والتابعين"(2) ولا يعرفه أحد من السلف الصالح وبهذا يتبين فساد ما ذهب إليه الحبشي.
وقبل مناقشة الأدلة التي استند إليها الحبشي في إجازة التوسل والاستغاثة بالأموات، لا بد من بيان أنواع التوسل المشروع وهي:
أولاً: التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا، ودليل مشروعية هذا التوسل قوله عز وجل: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف:180]، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك …"(3)، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبين إجازة التوسل بأسماء الله وصفاته(4).
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص380.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/222.
(3) - سبق تخريجه، انظر: ص117.
(4) - انظر: التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني ص32-35، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الرابعة 1403هـ-1983م.(1/424)
ثانياً: التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي، وهذا التوسل قد شرعه الله تعالى وارتضاه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:16]، وقوله: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران:53]، وأيضاً ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- في قصة أصحاب الغار، والذي فيه أن ثلاثة آووا إلى غار للمبيت فيه، فإذا بصخرة قد انطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول بعد ذكره لعمله الصالح: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة"(1)، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون، ويعلق على ذلك شارح الطحاوية بقوله: "فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه إليه ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله"(2).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الإجازة، باب من استأجر أجيراً فترك أجره…، ح2272، 3/69-70، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، ح2743، 4/2099-2100.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص238، انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/217، التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص35-41.(1/425)
ثالثاً: التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح، وذلك أن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله، فيذهب إلى رجل يتميز بالصلاح والتقوى ليدعو له الله، وهذا من التوسل المشروع، ومن الأدلة على مشروعيته الحديث الذي رواه أنس بن مالك حيث قال: "أصاب الناس سَنة على عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-، فبينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في يوم جمعة،قام أعرابي فقال:يا رسول الله:هلك المال وجاع العيال،فادعُ الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته-صلى الله عليه وسلم- …"(1)، وأيضاً الحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا -صلى الله عليه وسلم- وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" قال: فيسقون(2). أي: كنا نقصد نبينا -صلى الله عليه وسلم- ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه والآن قد انتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس، ونطلب منه أن يدعو لنا(3).
وأما أدلة الحبشي التي استند إليها ليؤكد ما ذهب إليه من صحة الاستعانة والاستغاثة بالأموات، فتحتاج إلى مناقشة، فمثلاً:
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، ح933، 1/252-253، صحيح مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، ح897، 2/612-613.
(2) - سبق تخريجه، انظر: ص290.
(3) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/217، شرح الطحاوية لابن أبي العز ص237-282، التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص41-46.(1/426)
حديث الضرير الوارد عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخرّت ذاك فهو خير"، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفّعه فيَّ". قال: ففعل الرجل فبرئ(1). وهذا الحديث ليس بحجة لمن يقول بالتوسل بالذات كالأحباش، بل يعتبر حجة عليهم، لأن هذا التوسل إنما كان بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس بذاته، ومن الأدلة على ذلك:
أن الأعمى إنما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليدعو له، وهذا ظاهر من قوله: (ادع الله أن يعافيني)، أي: أراد هذا الرجل الأعمى أن يتوسل إلى الله بدعاء الرسول ولو أراد أن يتوسل إلى الله بذات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما جاء إليه، بل مكث في بيته ودعا الله بجاه النبي ومنزلته وعلو قدره -صلى الله عليه وسلم- عند الله أن يشفيه، ولكنه لم يفعل ذلك، فتأكد إنما قصد التوسل بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-(2).
الظاهر من نص الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذلك فهو خير)، واختار الرجل الدعاء(3).
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص290 .
(2) - انظر: التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص76-77.
(3) - انظر: المصدر السابق ص77.(1/427)
إصرار الأعمى على دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له حيث قال: (فادع)، وهذا يبين أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعا له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- خير من وفى بوعده، وأيضاً: وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل الأعمى إلى أحد أنوع التوسل المشروع وهو التوسل بالعمل الصالح، وذلك ليحوز هذا الرجل الخير بأشكاله المختلفة(1).
إن في الدعاء الذي علمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- للرجل الأعمى أن يقول: (اللهم فشفعه فيّ)، وهذا يستحيل حمله على ذاته، أو جاهه، أو حقه، وإن المعنى: اقبل دعاءه فيّ أن ترد عليّ بصري، وبهذا يبطل ادعاء الحبشي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم الأعمى أن يتوسل بذاته(2). ومن المعلوم أن الشفاعة ثابتة له -صلى الله عليه وسلم- ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، ولهذا يمكن أن يفهم من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير الدعاء(3).
هذا الحديث صنفه العلماء ضمن معجزاته -صلى الله عليه وسلم- ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولهذا رواه البيهقي (في دلائل النبوة) ضمن هذا الباب(4)، وهذا ما يؤكد أن التوسل كان بدعائه وليس بذاته -صلى الله عليه وسلم-(5).
__________
(1) - انظر: المصدر نفسه ص77-78.
(2) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص379-380.
(3) - انظر: التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص79-80.
(4) - انظر: دلائل النبوة -ومعرفة أحوال صاحب الشريعة- لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي 6/166-168 تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1408هـ-1988م.
(5) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/191-192، التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص81.(1/428)
ويرى الألباني أنه: "لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته -صلى الله عليه وسلم- فيكون حكماً خاصاً به -صلى الله عليه وسلم- لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح، لأنه -صلى الله عليه وسلم- سيدهم وأفضلهم جميعاً، فيمكن أن يكون هذا مما خصَّه الله به عليهم ككثير مما صح به الخير، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه"(1).
__________
(1) - التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص83.(1/429)
يرى الحبشي أن هذا الحديث دليل على جواز التوسل بالأموات من خلال أن الرجل الأعمى توسل بالرسول -صلى الله عليه وسلم- في حالة غيبته عن مجلس الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حيث إنه عاد إلى المجلس وقد أبصر(1)، وهذا أمر مردود لأن الرجل توسل بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سبق بيانه، وفعل هذا الأمر من خلال توجيهات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهر الصحابة حياً يرزق، بخلاف معتقد الأحباش جواز دعاء الأموات في قبورهم والتوسل والاستغاثة بهم، وهذا مما لا فائدة منه ولا طائل وخاصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ ينتفع به، أو صالح يدعو له"(2)، وهذه إشارة إلى أن الميت يكون بحاجة لمن يزيد له في حسناته، بسبب انقطاع العمل، فكيف يكون الميت عوناً لغيره من الأحياء؟؟!، وينفي ابن تيمية -رحمه الله- مشروعية هذا الفعل بقوله: "ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم، ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم… ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب… ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيد فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضرة أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم؛ ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك"(3).
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص379.
(2) - صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ح1631، 3/1255.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 27/49.(1/430)
وفي الحديث أن الأعمى سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو له، وأنه -صلى الله عليه وسلم- علم الأعمى أن يدعو وأمره في الدعاء أن يقول: (اللهم فشفعه فيّ)، وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- داعياً شافعاً له، بخلاف من لم يكن كذلك، فهذا يناسب شفاعته ودعاءه في حياته ويوم القيامة إذا شفع للناس، أما بعد موته فغير جائز(1).
حديث استسقاء عمر بالعباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا من الأحاديث التي استند عليها مجيزو التوسل بالذات -ومنهم الأحباش- وفي الحديث: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون"(2)، وهذا الحديث الذي استند إليه الأحباش حجة عليهم لا لهم وذلك للتالي:
التوسل الوارد في الحديث هو التوسل المشروع أي التوسل بدعاء الرجل الصالح، ويعلق ابن الآلوسي على من يستدل بهذا الحديث من مجيزي التوسل بقوله: "وأما ما ذكروه من الاستدلال بتوسل عمر بن الخطاب بالعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنهما- فالمراد بذلك أن يدعو لهم يدل على ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا"(3).
لو فهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والصحابة الكرام ما فهمه مجيزو التوسل اليوم، لما عدل عن أكرم الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- وتوسل بغيره -عمه العباس-(4).
__________
(1) - انظر: المصدر السابق 1/196.
(2) - سبق تخريجه، انظر: ص290.
(3) - جلاء العينين لابن الآلوسي ص456-457.
(4) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 1/227، التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص60-62.(1/431)
ومما يؤكد عدم جواز الاستغاثة بالأموات، أن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت أن أحداً من صحابته ذهب إلى قبره، وشاوره في ذلك، وسأله عن الصواب منها، لأن الصحابة الكرام يعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها(1).
وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح دعاء العباس -رضي الله عنه- استجابة لطلب عمر -رضي الله عنه- حيث قال: "قد بين الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث) قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس"(2)، وهذه الرواية الصحيحة -كما وصفها الألباني-(3) تبين أن توسل عمر بالعباس إنما كان بدعائه.
__________
(1) - التوسل أحكامه وأنواعه للألباني ص65 بتصرف.
(2) - فتح الباري لابن حجر 2/497.
(3) - انظر: التوسل أحكامه وأنواعه للألباني ص68.(1/432)
وأما تلبيس الحبشي على السامع بأن ترك عمر للتوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا دلالة فيه على منع التوسل إلا بالحاضر، وأيضاً: يستدل الحبشي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك كثيراً من المباحات ليس دليلاً على حرمتها(1)، ولا شك أن هذا الادعاء من قبل الحبشي مردود، لأن عمر بن الخطاب الغيور على دين الله، المقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليترك التوسل بالنبي بعد موته إن كان جائزاً وخاصة أن المسلمين في أمس الحاجة لما ينفس عنهم كرباتهم، ولو كان جائزاً ولم يفعله عمر بن الخطاب لوقف الصحابة وعارضوا عمر -رضي الله عنه- في ذلك، ولم يثبت أن الصحابة عارضوا عمر في ذلك فيتبين ضعف ما ذهب إليه الحبشي.
وأما ادعاء الحبشي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الكثير من المباحات، ليدلل على جواز الاستغاثة والتوسل بالأموات فمردود على الحبشي، لأن هذا الترك كان في أمور الدنيا ودليلاً على زهده -صلى الله عليه وسلم- وورعه، وليس هذا الترك في أمور العبادة لأنها توقيفية من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو صحابته، أو أصحاب القرون الثلاثة الأولى أنهم توسلوا بالأموات أو بذواتهم، وإنما الذي ثبت التوسل بدعاء الأحياء فقط.
وأيضاً لا بد من تذكير الحبشي بأن هناك فرقاً بين ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- لبعض الأمور، وترك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتلقى الوحي من الله أما عمر بن الخطاب فإنما هو مقتدٍ بالرسول -صلى الله عليه وسلم، والشاهد الذي ذكره الحبشي وهي قصة استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس، ليس له صلة بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو من باب الاستدلال في غير موضعه.
__________
(1) - انظر: صريح البيان للحبشي ص161، الشرح القويم للحبشي ص394.(1/433)
وهذه الأدلة التي سبق ذكرها تعتبر من أقوى الأدلة لدى المجيزين، وقد تبين خطأ الاستدلال بها، وأما غير ذلك من الأدلة، فيكون الاستدلال فيها في غير موضعها، أو أحاديث لا تخلو عن ضعف، أو كذب راوٍ، أو غير ذلك مما يمنع العمل بموجبه، وإن نُظر إليها وجد آثار الوضع لائحة عليها، وأحوال الصحابة تدل على أنهم غير معترضين بما فيها(1).
المطلب الثاني: التبرك بالقبور:
ومن بدع التصوف التي ظهر أثرها في تفكير الأحباش، دعوتهم لزيارة قبور الرسل والأولياء للتبرك بها(2)، ويستدل الحبشي على ذلك بما رواه مالك الدار، وكان خازن عمر -رضي الله عنه- فقال: أصاب الناس قحط في زمان عمر -رضي الله عنه- فجاء رجل إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتى الرجل في المنام فقيل له: أقرئ عمر السلام وأخبره أنهم يسقون، وقل له عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عمر، فأخبره فبكى عمر وقال: يا رب ما آلو إلا ما عَجِزْت(3).
"وقد جاء في تفسير هذا الرجل أنه بلال بن الحارث المزني الصحابي فهذا الصحابي قد قصد قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- للتبرك فلم ينكر عليه عمر ولا غيره فبطل دعوى ابن تيمية أن هذه الزيارة شركية"(4).
وللرد على الحبشي في إجازته زيارة قبور الرسل والأولياء للتبرك بها، لا بد من معرفة أن الزيارة تنقسم إلى قسمين:
__________
(1) - انظر: جلاء العينين لابن الآلوسي ص458.
(2) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص96-97.
(3) - فتح الباري 2/495، يقول ابن حجر: روى ابن شيبة بإسناد صحيح -الحديث-.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص97،انظر: تفنيد مزاعم المدعى إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص40-41.(1/434)
القسم الأول: الزيارة الشرعية: وهي الزيارة التي لم يرد في منعها نص شرعي سواء من الكتاب أو السنة كالسلام على الميت والدعاء له سواء كان نبياً أو غير نبي؛ لهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلمون عليه، ويدعون له ثم ينصرفون، ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه من باب التبرك(1).
القسم الثاني: الزيارة البدعية: وهي الزيارة التي يقوم فاعلها بأمور منهي عنها، كأن يقوم الزائر بالتمسح بالقبر، والصلاة عنده، أو الدعاء عند القبر أو بصاحب القبر حتى يستجاب دعاؤه، أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه العون، أو يقسم به على الله في طلب حاجاته وتفريج كرباته(2).
والحاصل أن الزيارة التي يدعو لها الحبشي الزيارة البدعية التي ليس لها أصل في شرع الله، لهذا يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين الزيارة البدعية التي لم يشرعها بل نهى عنها، مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر، واتخاذه وثناً"(3).
وخلاصة القول في زيارة القبور فإنها على وجهين:
الوجه الأول: وجه نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واتفق العلماء على عدم مشروعيتها، وذلك للبدع الحاصل فيها من اتخاذ القبور مساجد وأوثاناً تعبد من دون الله من خلال التوسل والاستغاثة بالأموات، وجعل الاجتماع إليها عيداً حيث يجتمع الناس إليها في وقت معين(4).
الوجه الثاني: وجه مستحب لدى أكثر علماء المسلمين وهي الزيارة الشرعية من السلام على الميت والدعاء له، ثم الانصراف وعدم الإتيان بأي بدعة من البدع المحرمة(5).
__________
(1) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 27/21.
(2) - انظر: المصدر السابق 27/22.
(3) - انظر: المصدر نفسه 27/177.
(4) - انظر: المصدر نفسه 27/202.
(5) - انظر: المصدر نفسه 27/202.(1/435)
ولا بد من التنبيه من أن "السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين لم يكن موجوداً في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة، قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم. فأما هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكن هذا ظاهراً فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك"(1)، وفي المعنى نفسه يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله، فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة"(2).
وبالتالي يمكن الخروج بمقصود الزيارة للقبور من قبل الناس، حيث تنقسم إلى قسمين: زيارة موحدين، وزيارة مشركين.
أما زيارة الموحدين: فمقصودها ثلاثة أشياء:
تذكر الآخرة والعبرة والعظة.
الإحسان إلى الميت وذلك من خلال عدم هجرانه ونسيانه، لأن الحي إذا ترك زيارته مدة من قِبل صاحبه تناساه، فإذا زاره فرح بذلك وسر، والميت أولى بذلك؛ لأن الحي إذا زار الميت أهدى إليه هدية: من دعاء، أو صدقة، أو أهدى قربة، ازداد بذلك سروره وفرحه كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي إليه. ولهذا شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية فقط، ولم يشرع للأحياء أن يدعوا الأموات، ولا أن يدعوا بهم، ولا يصلي عندهم.
إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيحسن إلى نفسه وإلى المزور(3).
وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام.
__________
(1) - المصدر نفسه 27/204.
(2) - الجامع الفريد -كتاب الزيارة- لابن تيمية ص395.
(3) - انظر: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية ج1/246، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/436)
حيث تعتقد تلك الفئة من الناس أن الميت المعظم لديهم يكون لروحه قرب، ومنزلة، ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات -كالرفاعي والجيلاني وغيرهم من أعلام الصوفية-، فإذا علق الزائر روحه به، وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها(1). وبالتالي فإنه يشفع له، ويعطيه ما يريد ولا شك أن هذا من خبط المتصوفة وبدعهم السيئة التي لا يُعرف لها أصل في الشرع، بحيث لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه ولو كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة:255].
ويعلق ابن باز -رحمه الله- على هذا الأمر في حاشية الفتح بقوله: "هذا الأثر -على فرض صحته كما قال الشارح-ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي-صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، لأن السائل مجهول، ولأن عمل الصحابة -رضي الله عنهم- على خلافه وهم أعلم الناس بالشرع، ولم يأتِ أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها…، وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك. وأما تسمية السائل في رواية سيف المذكورة(بلال بن الحارث)ففي صحة ذلك نظر، ولم يذكر سند سيف في ذلك،وعلى تقدير صحته عنه لا حجة فيه،لأن عمل كبار الصحابة يخالفه،وهم أعلم بالرسول-صلى الله عليه وسلم-وشريعته من غيرهم"(2)، وبهذا يتبين فساد ما ذهب إليه الحبشي من جواز زيارة قبور الأنبياء والأولياء للتبرك بها،وخاصة ما هو معلوم من حال القوم الذي ينادون بمثل هذه الزيارات لقبور الأولياء وما يحدث فيها من فتن ومعاصٍ من قِبل أولئك الزائرين،فكيف تكون هذه الأفعال قربى إلى الله،وهي من المعاصي التي لا تخفى على أحد.
المطلب الثالث: خروج الولي من قبره:
__________
(1) - انظر: المصدر السابق 1/246.
(2) - فتح الباري لابن حجر 2/495 -الحاشية-.(1/437)
يعتقد الأحباش بأن الإمام أحمد الرفاعي عندما زار قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده للرفاعي، وقد قام الآخر بتقبيلها، ويقول (فادي علم الدين) أحد تلاميذ الحبشي في ذلك: "وإثبات مديد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- له (للرفاعي) وتقبيلها أمام خلق عظيم"(1)، وجاء في أحد كتب الأحباش المسمى (تفنيد مزاعم المفترى) في تأكيد ما ذهب إليه (فادي علم الدين) حيث ذُكر فيه التالي: "ما المانع شرعاً أو عقلاً على أن يخرج الأولياء من قبورهم"(2).
__________
(1) - المراقب اليفاعية لفادي علم الدين ص4، وانظر: المصدر نفسه ص16.
(2) - تفنيد مزاعم المدعى إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص45.(1/438)
وهذا الذي عليه الأحباش من أن الولي الصالح قد يخرج من قبره كرامةً له ومثلوا لذلك -حسب زعمهم- بأن الإمام الرفاعي زار قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده وصافح الإمام الرفاعي على مشهد عظيم من الناس(1)، وهذا من أشنع الاعتقادات وأبشعها؛ فمن المعلوم أن علماء السلف في أمور أكثر واقعية في الشرع من ذلك، مالوا إلى المنع فيها فمثلاً: اختلف العلماء اختلافاً كثيراً في رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته يقظة أهي ممكنة أم لا؟ أوقعت لأحدٍ أم لا؟ -ولم يكن الخلاف في مصافحة يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أحد الصالحين بعد موته كما يعتقد الأحباش-، فقد ألف الحافظ السيوطي تأليفاً في ذلك سماه (تنوير الحلك في رؤية النبي والملك) ولم يرد في ذلك المؤلَف حديثاً صحيحاً، ولا ضعيفاً، ولا موقوفاً، ولا مرسلاً ولا غير ذلك، مع سعة حفظه وطول باعه في الحديث وشدة انتصاره لذلك، وهذا يُؤيس من أن يكون في رؤيته -صلى الله عليه وسلم- بعد موته يقظة حديث، لأن السيوطي له من الإطلاع والحفظ ما لو كان في رؤيته -صلى الله عليه وسلم- حديث لأورده مستدلاً به، أو لو وقعت لأحد من الصحابة والتابعين أو تابعيهم لذكره(2)، وهذا الاختلاف في رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم-يقظة لا في ملامسته ومصافحة يده، ومن المعلوم أن الإمام الرفاعي توفي سنة 570هـ والإمام السيوطي توفي سنة 911هـ، والفرق بين وفاة الإمامين فترة ليست بالقليلة، فلو صح ما يرويه الأحباش في هذه المسألة، لأورده العلماء وخاصة الإمام السيوطي لما له من سعة حفظ واطلاع، وهذه
__________
(1) - انظر: المراقب اليفاعية في المناقب الرفاعية لفادي علم الدين ص4، 14-20، تفنيد مزاعم المدعى لقسم الأبحاث والدراسات ص45.
(2) - منتهى الخارف الجاني -في رد زلقات التجاني الجاني- للشيخ محمد الخضر الجكني الشنقيطي ص91 بتصرف، الناشر: دار البشير، الأردن، ط الأولى 1405هـ-1985م.(1/439)
القصة تعتبر من الأهمية بمكان، فلم يرد في كتب العلماء الموثوقة التي تتحدث عن كرامات الأولياء قديماً وحديثاً لها أثر، وكذلك كتب تراجم الرجال المشهورة لم تذكر مثل هذه القصة في حق الإمام الرفاعي، مع ذكرهم كرامات أخرى للإمام الرفاعي، بخلاف كتب المتصوفة وخاصة أتباع الطريقة الرفاعية.
والملاحظ أن أكثر ما اعتمد عليه الأحباش في هذه المسألة روايات عن المتصوفة في إثبات هذه القصة، ولا يعتبر هذا دليل لكثرة الأقوال المنسوبة من قِبل المتصوفة إلى أئمة الطرق الصوفية، وكثيراً ما يتقول أتباع الطرق على أئمتهم أقوالاً لم ترد عنهم نهائياً، وينسبون إليهم كرامات وخوارق لم تثبت عنهم، وهذا معلوم من حال القوم.(1/440)
ويرد على من يدعي جواز خروج الولي من قبره كرامة لأحد الصالحين بأن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند موته اشتد حزنها حتى ماتت حزناً عليه -صلى الله عليه وسلم-، فلم يُنقل أنه -صلى الله عليه وسلم- ظهر لفاطمة وخفف عنها ما تحمله من حزن على فراقه -صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا المعنى يقول الإمام السخاوي: "لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم، وقد اشتد حزن فاطمة عليه -صلى الله عليه وسلم- حتى ماتت كمداً بعده بستة أشهر على الصحيح، وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه"(1)، فضلاً على ملامسة يده ومصافحتها كما يعتقد بذلك الأحباش الرفاعيون؛ ويعقب الشيخ الشنقيطي على ذلك بقوله: "بل الظاهر أن عدم وقوع ذلك لفاطمة -رضي الله عنها- دليل قطعي، لأنه لو كان يُرى لرأته، إذ لا أحد أولى منها بذلك، ولو وقع لها ولغيرها لنقل متواتراً لما له من الدواعي التي توجب نقله متواتراً، كما وقع في حديث رؤيته مناماً، وهذا أولى منه بذلك"(2)، فمن باب أولى عدم ملامسة يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد موته ومصافحتها. وأيضاً الإمام الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) يعقب على قوله تعالى: { وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب:40]، بعد أن يذكر حكايات عن الصالحين يرى: "أن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة بعد موته وسؤاله والأخذ عنه، لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة -رضي الله عنهم- من حين توفي عليه الصلاة والسلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية، وفيهم أبو بكر وعلي -رضي الله عنهما- وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم
__________
(1) - منتهى الخارف الجاني للشنقيطي ص91، نقلاً عن: المواهب اللدنية للسيوطي.
(2) - منتهى الخارف الجاني للشنقيطي ص92.(1/441)
رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة وأخذ عنه ما أخذ، وكذلك لم يبلغنا أنه -صلى الله عليه وسلم- ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال حيرته، …وقد بلغك ما عرى فاطمة البتول -رضي الله تعالى عنها- من الحزن العظيم بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- وما جرى في أمر فدك، فهل بلغك أنه -صلى الله عليه وسلم- ظهر لها كما ظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين لها الحال، وقد سمعت بذهاب عائشة -رضي الله عنها- إلى البصرة، وما كان من وقعة الجمل، فهل سمعت تعرضه -صلى الله عليه وسلم- لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم مع احتياجهم الشديد لذلك، وظهوره عند باب قُباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت، وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام"(1)، وبهذا يظهر فساد قول من يدعي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخرج يده من قبره ليصافح الإمام الرفاعي.
المطلب الرابع: استعمال الدف قربةً لله:
__________
(1) - روح المعاني للآلوسي 22/38-39.(1/442)
إن الأحباش أجازوا استعمال الدف في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، لذلك أنكروا على من أنكر عليهم استخدام الدف بحجة القربى إلى الله، وجاءوا بالأحاديث الكثيرة لدعم ما ذهبوا إليه، ومن هذه الأحاديث الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: "يا عائشة، ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو"(1)، وفي جامع الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف"(2)، وفي سنن أبي داود عن امرأةٍ أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال: "أوفي بنذرك"(3)، وعلى هذه الأحاديث يستند الأحباش في إباحة استخدام الدف بحجة التقرب إلى الله(4).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب النسوة اللاتي يُهدين المرأة إلى زوجها، ح5162، 6/171.
(2) - سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في إعلان النكاح، ح1089، 3/389-390، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب حسن.
(3) - سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ح3312، 3/337-338.
(4) - انظر: تفنيد مزاعم المدعى لقسم الأبحاث والدراسات ص31-32.(1/443)
من المعلوم أن إباحة استعمال الدف في القربى إلى الله من البدع الصوفية التي تميز بها الأحباش، ومعلوم ما في هذا الفعل من المفسدة والتعدي على شرع الله بأن يتقرب إليه بما لم يشرعه، ولم يأمر به، لذلك نهى العلماء عن استخدام الدف بهذه الحجة الواهية لعدم وجود سند شرعي يستند عليه في ذلك، وأما الأحاديث التي يستند إليها الأحباش لإجازة استخدام الدف في طقوسهم الصوفية، فقد استدل بها في غير موضعها، حيث إن الإباحة والرخصة فيها للنساء في مناسبات خاصة كالزواج، وهذا ما يؤكده ابن حجر بقوله: "والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن"(1)، وأما الاستدلال بهذه الأحاديث فإنما هو خطأ في التأويل في إجازة استخدام الدف، فيقول أبو عبيد القاسم بن سلام: "من ذهب به إلى الصوفية فهو خطأ في التأويل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما معناه عندنا إعلان النكاح واضطراب الصوت والذكر في الناس"(2)،أو في حالات خاصة كتلك المرأة التي نذرت بأن تضرب بالدف عند رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك تعبيراً عن فرحتها لعود الرسول الأحمد إلى المدينة، ولم تقصد المرأة بذلك التقرب إلى الله كعبادة كما هو واضح من الحديث بل تعبيراً عن سرورها وفرحتها، وهذا لا يقاس عليه لأنها حادثة خاصة، وفي هذا المعنى يقول الخطابي: "ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح لسلامة مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم من بعض غزواته، وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب"(3)،
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر 9/226.
(2) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص248.
(3) - عون المعبود -شرح سنن أبي داود- لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي المجلد 5، 9/100، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1410هـ-1990م.(1/444)
ومن جهة أخرى هناك من العلماء من ضعف هذا الحديث كابن القطان بسبب علي بن حسين بن رائد، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال العقيلي: كان مرجياً (مرجئاً)(1)، ومن جهة أخرى لم يكن يعرف عن الصحابة ولا التابعين فضلاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يتقربون إلى الله باستخدام الدف، بل كانوا يتقربون إلى الله بما شرع من العبادة، ويبين ابن الجوزي -رحمه الله - أنه كانت "جماعة من التابعين يكسرون الدفوف وما كانت هكذا -فكيف لو رأوا هذه- وكان الحسن البصري يقول: ليس الدف من سنة المرسلين في شيء"(2). ويعلق ابن تيمية -رحمه الله- على من يدعي مثل ذلك بقوله: "وبالجملة قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة، مع ضرب بالأكف أو ضرب بالقضيب أو الدف، كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة، لا في باطن الأمر ولا في ظاهره لا لعامٍ ولا لخاصٍ، ولكن رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في أنواع من اللهو في العرس ونحوه، كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكفٍ، …ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثاً، ويسمون الرجال المغنين مخانيث"(3)، ويرد ابن تيمية على من يستخدم الدف: بأن عبادة المسلمين الركوع والسجود، والدف والرقص لم يأمر الله به، ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة والسكينة(4)
__________
(1) - انظر: عون المعبود للآبادي م5، 9/100.
(2) - تلبيس إبليس لابن الجوزي ص248.
(3) - مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/31، بدون ناشر أو رقم طبعة أو تاريخ نشر.
(4) - انظر: الجامع الفريد -كتاب الزيارة- لابن تيمية ص676.(1/445)
، ثم يبين ابن تيمية أن من يفعل ذلك مبتدع فيقول: "فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقاً فهو مبتدع، ضال، من جنس خضراء العدو، وأعوان الظلمة، من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عبّاد النصارى، والمشركين، والصابئين"(1)، ولا غرابة في هذا التشنيع لمن يستخدم الدف بحجة التقرب إلى الله، لأن الصوفية تمادوا في استخدام أدوات اللهو في طقوسهم حتى صار ألهى من الجواري وهذا ما يبينه الإمام المقبلي بقوله: "ونحن في وقتنا هذا لما اضمحلت العلوم في كل فن وصار الناس عكوفاً على رسوم مخصوصة، من لم يقف عندها كان مدعياً، صار الواجب في الصوفية العكوف في الرباطات والبناءات التي وضعوها على المنابر المسماة بالشاهد، على السماع المقرون بكلمات يقرن بها اللهو الذي اقر أهله أنه ألهى من الجواري والسوقة"(2)، وهذا من جنس ما يقوم به الأحباش في بعض المواسم والأعياد لدى المسلمين بحيث تذهب فرقة الإنشاد لديهم إلى المقابر وتبدأ بالنشيد والغناء هناك(3)، ومعلوم ما في هذا الأمر من المفسدة والمضيعة لحدود الله.
وبهذا يظهر فساد هذا المسلك الذي يسير عليه الأحباش وسوء المعتقد، لأنه أمر مبتدع في دين الله، لا يعرف له أصل عند علماء المسلمين من السلف الصالح، وإنما ابتدع على يد المتصوفة.
المبحث الأول: موقفهم من الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-:
__________
(1) - المصدر السابق ص677.
(2) - العلم الشامخ للمقبلي ص466.
(3) - انظر: مجلة منار الهدى العدد 9- محرم 1414هـ، ص69، حيث تأتي المجلة بخبر مصور مفاده: فريق الإنشاد يواسي زوار المدافن في أقربائهم وذلك في عيد الأضحى.(1/446)
يرى الحبشي وجوب الإيمان بأحقية خلافة الخلفاء الراشدين حسب ترتيبهم، فيقول: "يجب الإيمان بأحقية خلافة الأربعة على حسب ترتيبهم في الخلافة، لأن الصحابة بمن فيهم علي -رضي الله عنه- رضوا بذلك"(1)، ولا مانع عند الحبشي من إضافة صفة الخلافة الراشدة إلى غير الخلفاء الأربعة، فيصف الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بالخليفة الراشد، وكذلك عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-، فيعبر عن ذلك بقوله: "ولا نعني بهذا أنه لا خليفة راشداً في الأمة سوى الأربعة، بل الحسن بن علي الذي بايعه المسلمون خليفة راشد، وكذلك عمر بن عبد العزيز لكنهما أقل مرتبة من الأربعة"(2)، ويؤكد الحبشي هذا المعنى عندما يعتبر الخلفاء ستة، فيقول: "فقد مضى مجتهدون في السلف مع كونهم حاكمين كالخلفاء الستة أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والحسن بن علي، وعمر بن عبد العزيز"(3).
وكذلك يرى الحبشي: "أن من أنكر صحبة سيدنا أبي بكر بالقلب أي اعتقد أن أبا بكر ليس صاحباً لرسول الله فقد كفر، أما من أنكر صحبة عمر، أو صحبة عثمان، أو صحبة علي فلا يكفر وذلك لأن الله ما نصَّ في القرآن على صحبة عمر، أو علي، أو عثمان، أما أبو بكر فقد نص الله على صحبته في القرآن، فقال تعالى: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة:40]"(4)، وفي هذا يظهر القول بتفضيل أبي بكر على سائر الصحابة، ويصرح الحبشي بهذا المعنى فيقول: "يجب تفضيل أبي بكر -رضي الله عنه- على سائر أصحاب رسول الله، وذلك لأن الصحابة أجمعوا على إمامته، وبايعوه، وإجماعهم كآية من كتاب الله حجة موجبة للعلم قطعاً"(5).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص303.
(2) - المصدر السابق ص303.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص104-105، انظر: الشرح القويم للحبشي ص41.
(4) - بغية الطالب للحبشي ص47.
(5) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص301.(1/447)
وأما قول الحبشي بوجوب الإيمان بأحقية الخلافة للخلفاء الراشدين الأربعة على حسب ترتيبهم(1)، فهذا موافق لما عليه علماء أهل السنة والجماعة فيقول الإمام أبو جعفر الطحاوي: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولاً لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- تفضيلاً وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ثم لعثمان -رضي الله عنه-، ثم لعلي -رضي الله عنه-، وهم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون"(2)، ويعلق شارح الطحاوية على ما سبق من المتون بقوله: "وترتيب الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- أجمعين في الفضل كترتيبهم في الخلافة"(3)، وكذا يقول ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى: "أما تفضيل أبي بكر، ثم عمر على عثمان وعلي، فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم"(4)، وفي المعنى السابق نفسه يقول الإمام السفاريني: "فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي"(5)، وهذا الذي سبق أكده الإمام النووي بقوله: "أفضلهم على الإطلاق أبو بكر، ثم عمر -رضي الله عنهما- بإجماع أهل السنة، ثم عثمان، ثم علي، هذا قول جمهور أهل السنة"(6).
__________
(1) - انظر: المصدر السابق ص303.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص471-484 -المتن-.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص485.
(4) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/258.
(5) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/312.
(6) - تدريب الراوي للسيوطي 2/222-223 -المتن-.(1/448)
وأما إضافة الحبشي صفة الخلافة الراشدة إلى غير الخلفاء الأربعة، وجعلها غير مقتصرة عليهم، بل وجعل الخلفاء ستة من خلال إضافة الحسن بن علي -رضي الله عنه-، وعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-، فهذا أمرٌ فيه نظر وذلك إذا أراد الحبشي بوصف مَنْ حكم وفق الكتاب والسنة من أئمة المسلمين بأن خلافته راشدة، تشبه بذلك خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، فهذا أمر لا شيء فيه، وذلك من باب التشبه بالكرام والتأسي بأفعالهم وأقوالهم النابعة من الكتاب والسنة؛ وأما إذا أراد بها بإطلاق وصف الخلافة الراشدة على حكام المسلمين بشكلٍ عام، وجعلها غير مقصورة على الخلفاء الأربعة، فهذا أمر لم يرد عن علماء أهل السنة والجماعة، حيث أجمعوا على أن الخلافة الراشدة التي ورد ذكرها في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والذي فيه: "أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها"(1)، والخلفاء الراشدون المهديون الذين ورد ذكرهم في الحديث السابق هم الخلفاء الأربعة، فيقول الإمام ابن أبي العز في تعليقه على الحديث: "وترتيب الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- أجمعين في الفضل كترتيبهم في الخلافة"(2)، وما بينه أبو منصور البغدادي أن أصحابه مجمعون على أن أفضل الصحابة الخلفاء الأربعة(3)، ويلاحظ أن الإمام البغدادي حدد عدد الخلفاء الراشدين بالأربعة، وهذا ما ذهب إليه الإمام الأشعري -رحمه الله- في الإبانة عندما يتحدث عن إمامة الخلفاء الراشدين، ثم يعقب بقوله: "هؤلاء الأئمة الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم"(4)، ومما يؤكد أن الخلافة الراشدة التي على منهاج النبوة تقتصر على الخلفاء
__________
(1) - سبق تخريجه، انظر: ص276.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص485.
(3) - انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي ص352.
(4) - الإبانة للأشعري ص69.(1/449)
الأربعة، الحديث الذي استدل به الأشعري في الإبانة عن سفينة(1) (مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك"(2)، ثم قال سفينة لمحدثه -سعيد بن جمهان-: "أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم قال: أمسك خلافة علي بن أبي طالب، قال -سعيد-: فوجدتها ثلاثين سنة"(3)، ويعلق الإمام الأشعري على ذلك بقوله: "فدل على إمامة الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم-"(4)، ويقول ابن قدامة المقدسي -رحمه الله-: "وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)(5)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة)(6) فكان آخرها خلافة علي -رضي الله عنه-"(7)،
__________
(1) - سفينة: مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمه: أبو عبد الرحمن واسمه مهران، وقيل رومان، كان عبداً لأم سلمة فأعتقته وشرطت عليه خدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عاش. توفي سنة 70هـ. انظر: سير الأعلام للذهبي 3/172-173، تهذيب التهذيب لابن حجر 4/125.
(2) - سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الخلافة، ح2225، 4/502، قال أبو عيسى: وهذا حديث صحيح قد روي من غير وجهٍ عن ابن عمر، وقال الألباني في الصحيحة عن الحديث: وجملة القول أن الحديث حسن من طريق سعيد بن جمهان، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة -وشيء من فقهها وفوائدها-، محمد ناصر الدين الألباني ح459 م1، القسم الثاني/823، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، -بدون رقم طبعة-، سنة النشر 1415هـ-1995م، ويقول الألباني في صحيح الجامع عن الحديث: صحيح، ح3341، 1/630.
(3) - الإبانة للأشعري ص69.
(4) - المصدر السابق ص69.
(5) - سبق تخريجه، انظر: ص276 .
(6) - سبق تخريجه، انظر: الصفحة نفسها (بنحوه).
(7) - الاعتقاد لابن قدامة المقدسي ص62.(1/450)
ويعلق ابن تيمية -رحمه الله- على الحديث النبوي الذي يأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين بقوله: "وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- آخر الخلفاء الراشدين المهديين"(1)، وبهذا يتبين أن إطلاق الخلافة الراشدة -كما ورد في الحديث- إنما يقتصر على الخلفاء الراشدين الأربعة -رضي الله عنهم-.
__________
(1) - الوصية الكبرى لابن تيمية ص41، تحقيق: محمد بن حمد الحمود، الناشر: مكتبة السنة، القاهرة -بدون رقم طبعة- 1410هـ-1990م.(1/451)
وأيضاً وافق الحبشي سلف الأمة عندما قال بتفضيل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- على سائر صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال الإمام النووي -رحمه الله- في حق الصحابة الكرام: "أفضلهم على الإطلاق أبو بكر"(1)، وكذا جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري: "وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجب أنه أفضل المسلمين -رضي الله عنه-"(2)، وجاء عن ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك قوله: "وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء، والعباد، والأمراء، والأجناد، على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي -رضي الله عنهم-"(3)، وهذا ما يؤكده الإمام ابن قدامة المقدسي في (الاعتقاد) بقوله: "وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى"(4)، وهذا الذي سبق بيانه يؤكده ابن عمر -رضي الله عنهما- بقوله: "كنا نقول والنبي -صلى الله عليه وسلم- حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فيبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره"(5)، وكذلك يبين الإمام الطحاوي فضل أبي بكر على غيره من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولاً لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة"(6)، وبهذه النصوص الصريحة عن السلف في إثبات الأفضلية لأبي بكر الصديق -رضي الله
__________
(1) - تدريب الراوي للسيوطي 2/223 -المتن-.
(2) - الإبانة للأشعري ص68.
(3) - الوصية الكبرى لابن تيمية ص41.
(4) - الاعتقاد لابن قدامة المقدسي ص60.
(5) - سنن الترمذي،كتاب المناقب،باب في مناقب عثمان بن عفان-رضي الله عنه-،ح3707،5/630 (بنحوه)،قال أبو عيسى:حديث حسن صحيح غريب،ولكن يقتصر هذا الحديث عند ذكر عثمان فقط،وجاء في المسند للإمام أحمد2/14،ويقول محقق كتاب الاعتقاد لابن قدامة المقدسي:حديث صحيح،انظر: ص60.
(6) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص471 -المتن-.(1/452)
عنه- على بقية الصحابة الكرام، ومستند السلف في ذلك ما جاء في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على هذه الإمامة لأبي بكر الصديق وتقديمه على غيره، أما ما يستأنس به من القرآن في هذه المسألة قول الله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } [النور:55]، وما أثنى الله على أهل بيعة الرضوان فقال: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح:18]، قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وسموه خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل.
وأما من الأحاديث التي تظهر فضل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فهي كثيرة منها:(1/453)
الحديث الوارد عن عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها: قالت: دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الذي بُدئ فيه، فقال: "ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر"(1)، وأحاديث تقديم أبي بكر في الصلاة، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"(2)، والحديث المروي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع منها ذَنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غَرْباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أرَ عبقرياً يَفري فَرِيَّه(3)، حتى ضَرب الناسُ بعَطن(4)"(5).
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ح2387، 4/1857، صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، ح7217، 8/159-160.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب حَدَّ المريض أن يشهد الجماعة، ح664، 1/183، صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس …، ح418، 1/313-314.
(3) - يفري فريه: أي يعمل عمله ويقطع قطْعه. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/442.
(4) - العطن: مبرك الإبل حول الماء. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/258.
(5) - صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب فضل أبي بكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح3664، 4/233، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر -رضي الله عنه-، ح2393، 4/1862.(1/454)
وأما تكفير الحبشي لمن ينكر بقلبه صحبة الصديق للرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلاف لو أنكر صحبة عمر أو عثمان أو علي بحجة عدم وجود نص قرآني في ذلك(1)، وهذا الذي ذكره الحبشي لم يرد عن علماء السلف نص يُعتد به على ما قاله، بل إن الذي قاله الحبشي فيه انتقاص من حق الخلفاء الراشدين سوى أبا بكر -رضي الله عنه- لأنه ورد في فضلهم، وذكر شمائلهم، الأحاديث الصحيحة المتواترة والمستفيضة في ذلك، بل في كلام الحبشي تشجيع للبعض في أن يتجرءوا على الصحابة الكرام، وذلك بحجة عدم وجود نص قرآني يدلل على صحبتهم وبالتالي لا ينسحب حكم الكفر على من أنكر صحبتهم بخلاف أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- أجمعين.
وهذا الكلام باطل، لأن الإجماع الذي انعقد على أن المقصود بالصاحب هنا أبو بكر، قد انعقد أيضاً أن عمر وعثمان وسعد بن معاذ وغيرهم داخلون في معنى قوله تعالى: { مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ } [التوبة:100].
المبحث الثاني:موقف الأحباش من معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-:
__________
(1) - انظر: بغية الطالب للحبشي ص47.(1/455)
القارئ لكتابات الأحباش يتبين له أن موقفهم من هذا الصحابي الجليل موقف عداء وبغض، بحيث يصفه الأحباش بالباغي، فيظهر ذلك من خلال قول الحبشي في كتابه (صريح البيان): "بيان حكم القتال الذي حصل بين علي ومعاوية، وأن معاوية ومن معه بغوا"(1)، ومما قاله الحبشي تحت هذا العنوان: "قتال معاوية لعلي هو خروج عن طاعة الإمام … فيكون بذلك مرتكباً للكبيرة"(2)، وأيضاً يقول: "ثم إن وصف النبي لمعاوية وفئته الذين قاتلوا علياً بالبغي صريح في أنهم آثمون"(3)، ويعلل الحبشي هذا الهجوم على الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان بأن: "معاوية كان قصده من هذا القتال الدنيا، فلقد كان به الطمع في الملك، وفرط الغرام في الرئاسة، فلما وصل إلى الخلافة كف عن المطالبة بدم عثمان، وهو ما أتخذه حجة للخروج على عليّ وقتاله"(4)، بل إن الحبشي يرى إنه لم يصح في فضائل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- شيء، فيقول: "وما يروى في معاوية من الفضائل فإنه لم يصح منه شيء"(5)، بل يصل تحامل الحبشي على معاوية بن أبي سفيان أنه يرفض التماس الأعذار له من قِبل علماء السلف فيقول معلقاً على مثل أولئك العلماء "وهذا تحسين ظنّ في غير محله"(6).
والحبشي يشجع أتباعه على الخوض فيما شجر بين الصحابة، وإطلاق الحكم عليهم دون مراعاة أدب التعامل مع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "وليس من سب الصحابة القول إن مقاتلي علي منهم بغاة، لأن هذا مما صرح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين"(7).
__________
(1) - صريح البيان للحبشي ص196.
(2) - المصدر السابق ص211.
(3) - المصدر نفسه ص213.
(4) - المصدر نفسه ص220.
(5) - المصدر نفسه ص229.
(6) - المصدر نفسه ص234.
(7) - بغية الطالب للحبشي ص376.(1/456)
وهنا يظهر الاعتداء الصارخ من قِبل الحبشي على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتطاوله على أحدهم وهو معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وذلك من خلال اعتباره لمعاوية -رضي الله عنه- من البغاة الذين بغوا على الإمام علي -رضي الله عنه-(1)، واتهامه -رضي الله عنه- بأنه من الذين عششت الدنيا في قلوبهم وتربعت عليها، من حيث وصفه بأنه تمرد على الخليفة علي -رضي الله عنه- بسبب الطمع في الملك، وفرط الغرام بالرئاسة(2)، وبالتالي يكون الحبشي وافق المعتزلة في اتهامه لمعاوية -رضي الله عنه- حيث اعتبرت الصحابة عدولاً "إلا من قاتل علياً"(3)، ويقصدون بذلك صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاوية -رضي الله عنه-، وأيضاً وافق الرافضة في ذلك(4).
__________
(1) - انظر: صريح البيان للحبشي ص196.
(2) - انظر: صريح البيان للحبشي ص220.
(3) - تدريب الراوي للسيوطي 2/214.
(4) - انظر: منهاج السنة لابن تيمية 4/366-367، 378-379، 427-431.(1/457)
ألم يعلم الحبشي أن معاوية -رضي الله عنه- أحد صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذين اصطفاهم الله -سبحانه وتعالى- لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ قال جلا جلاله مخبراً عن أولئك السابقين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة:100]، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال:74]، وقال تعالى: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:117]، وأيضاً من فضائل معاوية بن أبي سفيان الظاهرة أنه شهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غزوة حنين ودخل تحت قوله تعالى: { ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } [التوبة:26]، وكذلك كان من الذين حضروا غزوة الطائف، ومن الذين شهدوا النصارى بالشام، وأنزل الله فيها سورة براءة، وهي غزوة العسرة(1)؛ وهذه الآيات القرآنية بمجموعها تبين دون أي شك فضل الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، لعدم استثناءها أي صحابي من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ما
__________
(1) - المصدر السابق 4/280-281.(1/458)
يوضحه علماء السلف حيث أجمعوا على تعديل الصحابة الكرام دون استثناء، فيقول ابن الصلاح -رحمه الله- في ذلك: "للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحدٍ منهم، بل ذلك أمرٌ مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدّلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يُعتد به في الإجماع من الأمة"(1)، ويقول الإمام القرطبي -رحمه الله- في حق الصحابة: "فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة"(2)، ويقول الإمام الصنعاني -رحمه الله-: "الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم عدول، سواء في ذلك من لابس الفتن ومن لم يلابسها، وذلك مما لا يشتبه فيه أحد من علماء المسلمين الذين انتهت إليهم زعامة العلم وعنهم تصدر الآراء والحجج"(3).
__________
(1) - علوم الحديث لابن الصلاح ص294.
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/299.
(3) - توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني 2/428، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة السلفية، المدينة المنورة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(1/459)
ومن الأحاديث النبوية الصحيحة التي تبين بعض فضائل معاوية -رضي الله عنه- ما ذكره الإمام البخاري في صحيحه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نام في بيت أم حرام بنت ملحان ثم استيقظ -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك، قالت أم حرام: ما يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، ومثل الملوك على الأسرة … قالت فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك فقلت: وما يضحكك يا رسول الله قال: ناسٌ من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله كما قال في الأول، قالت، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأوّلين"، فركبت -أم حرام- البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان؛ ويعلق ابن كثير -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: "يعني جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها سنة 27هـ أيام عثمان بن عفان"(1) وذلك بقيادة معاوية -رضي الله عنه- عقب إنشاء الأسطول في العهد الإسلامي الأول.
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير 8/229 -ط دار ابن كثير، بيروت-.(1/460)
وكفى فخراً وعزاً لمعاوية -رضي الله عنه- ولمبغضيه قهراً وذلاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا له فقال: "اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به"(1)، وأيضاً مما يبين فضله -رضي الله عنه- أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- استعمله في ولايته، ومعلوم أن "عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال، وأقومهم بالحق، وأعلمهم به، حتى قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه"(2)، وقال: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر"(3)، وقال ابن عمر: ما سمعت عمر يقول في الشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه. وقد قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "وما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك"(4)، ولا استعمل عمر قط، بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقاً، ولا من أقاربهما، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم"(5)، وهذا ما يؤكده القاضي أبو بكر
__________
(1) - سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، ح3842، 5/687، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب؛ ويقول الألباني في مشكاة المصابيح: سنده صحيح، انظر: ح6244،3/1758.
(2) - مسند الإمام أحمد 5/145،سنن الترمذي،كتاب المناقب،باب في مناقب عمر بن الخطاب-رضي الله عنه، ح3682، 5/617، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب؛ وبدل لفظة (ضرب) لفظة (جعل).
(3) - سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ح3686، 5/619 (بنحوه)، قال أبو عيسى: حديث حسن غريب.
(4) - صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب فضل أبي بكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ح3683، 4/240، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر -رضي الله عنه-، ح2396، 4/1863-1864.
(5) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 35/41-42.(1/461)
في كتاب (العواصم من القواصم) حيث يقول: "ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال: وهي أن عمر جمع له الشامات كلها وأفرده بها لما رأى من حسن سيرته، وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور، وإصلاح الجند، والظهور على العدو، وسياسة الخلق"(1)، ويبين القاضي أبو بكر فضل معاوية -رضي الله عنه- من خلال ما هو مكتوب على أبواب المساجد في دار خلافة بني العباس فيقول: "وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس-وبينهم وبين بني أمية ما لا يخفى على الناس-مكتوب على أبواب مساجدها:"خير الناس بعد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين -رضي الله عنهم-"(2)، ولو كان يتخوف من معاوية -رضي الله عنه- النفاق لما وُلي من أمر المسلمين شيئاً، والصحابة الكرام لم يكونوا ليسكتوا على معصية أو خطأ موجود "وقد اتفق المسلمون على أن إسلام معاوية خير من إسلام أبيه أبي سفيان، فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبي -صلى الله عليه وسلم- يأتمنهم على أحوال المسلمين في العلم والعمل؟!"(3).
__________
(1) - العواصم من القواصم-في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم-للقاضي أبي بكر بن العربي،ص202-205،تحقيق:محب الدين الخطيب، الناشر: المطبعة السلفية، القاهرة، ط الخامسة 1399هـ.
(2) - المصدر السابق ص213.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 35/42.(1/462)
ويضاف إلى ما سبق من الأحاديث النبوية الصحيحة التي تبين فضل معاوية -رضي الله عنه-، ما جاء من أقوال أهل العلم والفضل من الصحابة والتابعين وأئمة السلف، أن الإمام البخاري -رحمه الله- أورد في كتاب فضائل الصحابة ضمن الصحيح، اسم الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- حيث يذكر من الآثار ما يمدح به معاوية -رضي الله عنه-، فعن ابن أبي مليكة قال: "أوتر معاوية بعد العشاء بركعةٍ وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(1).
ومن مواقف علماء السلف من الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- فهو موقف مدح وتفضيل،لا ذم وتقبيح -كما فعل الحبشي- فيقول الإمام النووي -رحمه الله-: "وأما معاوية -رضي الله عنه- فهو من العدول الفضلاء، والصحابة النجباء -رضي الله عنه-"(2)، وهذا الإمام ابن كثير -رحمه الله- يذكر مجموعة من النقول عن علماء السلف يبين فيها فضل معاوية -رضي الله عنه- ويمهد بقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام"(3)، وما قاله ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: "ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناً شتم معاوية فإنه ضربه أسواطاً"(4).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب ذكر معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، ح3764، 4/263-264.
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 15/149، ط دار الريان للتراث 1407هـ.
(3) - البداية والنهاية لابن كثير 8/139 -ط دار ابن كثير، بيروت-.
(4) - المصدر السابق 8/139.(1/463)
ويبين الإمام ابن قدامة المقدسي فضل معاوية -رضي الله عنه- بقوله: "ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين"(1)، وأيضاً ذكر أبو بكر الخلال في السنة أنه وُجهت رقعة إلى أبي عبدالله -أحمد بن حنبل- فيها: "ما تقول -رحمك الله- فيمن قال: لا أقول أن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول أنه خال المؤمنين(2)، فإنه أخذها بالسيف غصباً، قال أبو عبدالله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس"(3)، ومما يؤكد فضل معاوية -رضي الله عنه- صلة المصاهرة التي تربطه بالرسول -صلى الله عليه وسلم- من خلال أخته أم حبيبة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيان فضل نسبه: "ينقطع كل نسب إلا نسبي، وسببي، وصهري"(4)، وأيضاً مما جاء في بيان فضل معاوية -رضي الله عنه- أن أبا بكر المروذي قال: "قلت لأبي عبدالله أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز، فقال: معاوية أفضل، لسنا نقيس أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحداً"(5)، وهذا مجاهد -رحمه الله- يقول في حق معاوية: "لو رأيتم معاوية لقلتم هذا المهدي"(6)، ويقول ابن سيرين -رحمه الله- أحد علماء الحديث: "كان معاوية لا يتهم في الحديث"(7).
__________
(1) - الاعتقاد لابن قدامة المقدسي ص70.
(2) - وتسمية معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- بخال المؤمنين، وذلك نسبة إلى صلة القرابة بينه وبين أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها- حيث يصل إليها بصلة الأخوة.
(3) - السنة لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال، ح659، ص434، دراسة وتحقيق: د. عطية الزهراني، الناشر: دار الراية، ط الأولى 1410هـ-1989م.
(4) - السنة للخلال ح656، ص433، قال المحقق: إسناده حسن، وانظر: المسند لأحمد بن حنبل 4/323.
(5) - المصدر السابق ح660، ص434.
(6) - السنة للخلال ص438.
(7) - المصدر السابق ص440.(1/464)
وقد ورد عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قوله: دخلت مع أبي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلمة خفيت علي، فسألت أبي ماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كلهم من قريش"(1)، ويعلق شارح الطحاوية على هذا الحديث بقوله: "والاثنا عشر، الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية، وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز، ثم أخذ الأمر في الانحلال"(2).
وأيضاً من فضل معاوية -رضي الله عنه- أنه: "اتفق العلماء على أن معاوية أفضل من ملوك هذه الأمة فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، وكان ملكه ملكاً ورحمة، كما جاء في الحديث (يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض(3))(4)، وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيراً من ملك غيره"(5).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، ح7222، 7223، 8/161، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب الناس تتبع لقريش والخلافة في قريش، ح1821، 3/1452.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص489.
(3) - عضوض: أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم. انظر: النهاية في غريب الحديث 3/253.
(4) - مسند الإمام أحمد 4/273 (بنحوه)، سنن الدارمي للإمام عبدالله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، ح2101، 2/855، تحقيق وتخريج نصوصه: فؤاد زمزلي، خالد العلمي، الناشر: دار الريان للتراث، القاهرة، ط الأولى 1407هـ-1987م، وجاء فيه: "أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة".
(5) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/292.(1/465)
ثم بعد هذا العرض لفضائل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يأتي الحبشي ويقول أنه لم يصح في فضائل معاوية -رضي الله عنه- شيء(1)، وهذا الادعاء من قِبل الحبشي مردود بما سبق بيانه، ويظهر بطلانه وفساده.
وأما الذي وقع بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- فإنه كان من باب الاجتهاد، فيوضح ذلك أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- بقوله: "وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- كان على تأويل واجتهاد وكل الصحابة أئمة مأمونين غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم وتعبدنا بتوقيرهم، وتعظيمهم، وموالاتهم، والتبري من كل من ينقص أحداً منهم -رضي الله عن جميعهم-"(2)، وبالمنهجية نفسها يتحدث الإمام النووي على ما شجر بين الصحابيين الجليلين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- بقوله: "وأما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول -رضي الله عنهم- ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون … فكلهم معذورون -رضي الله عنهم- ولهذا اتفق أهل الحق، ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم، ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين"(3)، ويتحدث ابن تيمية عما حصل بين الصحابيين الجليلين بقوله: "ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب، وهم كانوا مجتهدين إما مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح المغفور لهم خطؤهم، وما كان من السيئات وقد سبق لهم من الله الحسنى، فإن الله يغفرها إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك"(4)، ويؤكد ابن حجر -رحمه الله- أن الذي وقع بين الصحابة إنما كان اجتهاداً منهم فيقول: "واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من
__________
(1) - انظر: صريح البيان للحبشي ص229.
(2) - الإبانة للأشعري ص69.
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 15/149 -دار الريان للتراث-.
(4) - الوصية الكبرى لابن تيمية ص41.(1/466)
ذلك، … -والصحابة- لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين"(1)، ويبين الإمام القرطبي أن الذي وقع بين الصحابة الكرام لا يسقط من مرتبتهم ولا يقلل من قدرهم لأنه كان من باب الاجتهاد فيقول: "فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: { مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب:35]، وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب"(2)؛ وبهذا يتبين ما عليه علماء أهل السنة والجماعة مما شجر بين الصحابة علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، مع اعتقادهم "أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق"(3)، وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن علياً -رضي الله عنه- أقرب إلى الحق"(4).
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر 13/34.
(2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/299.
(3) - صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ح1065، 2/745-746.
(4) - الوصية الكبرى لابن تيمية ص42، انظر: منهاج السنة لابن تيمية 4/385، 448.(1/467)
وأما ادعاء الحبشي أن معاوية -رضي الله عنه- قاتل من أجل الملك فمردود عليه بما عليه أئمة أهل السنة والجماعة، حيث يبين ابن حجر ذلك بأن الذين طلبوا الدنيا هم الذين جاءوا من بعد، وأن الصحابة كانوا متأولين فيما حصل بينهم فيقول: "ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عدداً من الذين قاتلوا، وكلهم متأول مأجور إن شاء الله بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا"(1)، وبهذا يبطل ادعاء الحبشي المغلوط في حق الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-.
وأما عن وصف الحبشي لمعاوية -رضي الله عنه- بالباغي فهذا تجاوز للأدب مع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرد على مثل هذا الادعاء بالتالي:
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر 13/34.(1/468)
لو لم يكن لمعاوية -رضي الله عنه- حسنة سوى أنه صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكفته ولرجحت بمبغضيه جميعاً؛ وثبت في الصحيح أن حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، وبعدما علم الصحابة بذلك قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله قال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم"(1)، ويعلق ابن تيمية -رحمه الله- على ذلك بقوله: "وهذا مما يستدل به على أن ما جرى بين علي وطلحة والزبير ونحوهم، فإنه إما أن يكون اجتهاداً لا ذنب فيه، فلا كلام. فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"(2)، وإن كان هناك ذنب فقد ثبت أن هؤلاء -رضي الله عنهم- وغفر لهم ما فعلوه؛ … وأما من بعد هؤلاء السابقين الأولين، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، فهؤلاء دخلوا في قوله تعالى: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد:10]"(3).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب سورة الممتحنة، ح4890، 6/71-72، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم: وقصة حاطب بن أبي بلتعة، ح2494، 4/1941-1942.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب إذا اجتهد العامل -أو الحاكم-، ح7352، 8/198، صحيح مسلم، كتاب الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ح1716، 3/1343 (بنحوه).
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/282.(1/469)
ويقال للحبشي أن "الباغي قد يكون متأولاً معتقداً أنه على حق، وقد يكون متعمداً يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بغيه مركباً من شبهة وشهوة وهو الغالب. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون: إن الذنوب لها أسباب تُدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة وغير ذلك، وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم"(1)، وعند سلف الأمة يعتبر معاوية -رضي الله عنه- متأولاً ومعتقداً أنه على حق، وبالتالي لا يجوز وصفه بالباغي المتعدي لحدود الله، والمفتري على أوليائه.
__________
(1) - منهاج السنة لابن تيمية 4/385.(1/470)
وأيضاً: "فقتال البغاة المذكورين في القرآن(1) فنوع ثالث غير هذا وهذا، فإن الله تعالى لم يأمر بقتال البغاة ابتداءً، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين بالإصلاح بينهما، وليس هذا حكم المرتدين ولا حكم الخوارج، والقتال يوم الجمل وصفين فيه نزاع. هل هو من باب قتال البغاة المأمور به في القرآن؟ أو هو قتال فتنة القاعد فيه خير من القائم، فالقاعدون من الصحابة وجمهور أهل الحديث والسنة وأئمة الفقهاء بعدهم يقولون: هو قتال فتنة، ليس هو قتال البغاة المأمور به في القرآن، فإن الله لم يأمر بقتال المؤمنين البغاة ابتداءً لمجرد بغيهم، بل إنما أمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم"(2)، وبالتالي لا يمكن وصف معاوية -رضي الله عنه- بالباغي لترجيح جمهور أهل الحديث والسنة وأئمة الفقهاء بأن القتال قتال فتنة لا قتال بغي، بل إن علماء السلف يرون أن شرط الفئة الباغية لم تتوفر في معاوية، فيقول ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك: "وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم -كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم- لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية، فإن الله لم يأمر بقتالها ابتداءً، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما، ثم إن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت التي تبغي، وهؤلاء قوتلوا ابتداءً قبل أن يبدءوا القتال"(3) أي جيش معاوية، ومع ذلك فإن علماء السلف يرون الأصوب ألا يكون قتال؛ وعلي -رضي الله عنه- أقرب من معاوية -رضي الله عنه- إلى الحق، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن علياً كان أقرب إلى الحق من
__________
(1) - وهو قوله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات:9].
(2) - منهاج السنة لابن تيمية 4/502.
(3) - المصدر السابق 4/391.(1/471)
معاوية، والقتال فتنة ليس بواجب ولا مستحب وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، مع أن علياً كان أولى بالحق، هذا هو قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء وهو قول أكابر الصحابة والتابعين"(1)، ويقول ابن تيمية -رحمه الله- في موضع آخر: "ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث: أن علياً أولى بالحق وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن
وصفها بالظلم والبغي .. جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل"(2).
ولو كان معاوية باغياً -كما يدعي الحبشي- لما تأخر الصحابة الكرام عن قتاله، ومن المعلوم أن الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- لا يسكتون عن قول الحق ولو كان على أنفسهم، فيوضح شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذلك بقوله: "فالله تعالى أمر بقتال الطائفة الباغية، فيكون قتالها كان واجباً مع علي، والذين قعدوا عن القتال هم جملة أعيان كسعد، وزيد، وابن عمر، وأسامة، ومحمد بن مسلمة، وأبي بَكْرة، وهم يروون النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في القعود عن القتال في الفتنة، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الموضع)(3)، وقوله: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف(4) الجبال، ومواقع القطر: يفر بدينه من الفتن)(5)"(6).
__________
(1) - منهاج السنة لابن تيمية 4/448، انظر: المصدر السابق 4/389.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/269.
(3) - صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، ح7081، 8/118، صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، ح2886، 4/2211-2212.
(4) - شعف: يريد به رأس جبلٍ من الجبال. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/481.
(5) - صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب التعرب في الفتنة، ح7088، 8/121.
(6) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 4/269.(1/472)
ويرد على الحبشي بأن النص الذي استدل فيه على وصف معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- بالبغي وهو قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن عماراً تقتله الفئة الباغية"(1)، وعلماء السلف وضحوا المقصود بهذا النص النبوي، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا النص: "ليس نصاً في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضى بقتل عمار كان حكمه حكمها. ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار، كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية، وعمرو"(2)، وبهذا يسقط الاستدلال بهذا النص في أن معاوية باغٍ.
وبعد هذا العرض لما وقع بين الصحابيين الجليلين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- لا بد أن يُعلم أن الأمة تقع فيها أمور بالتأويل سواء في دمائها وأموالها وأعراضها(3)، وما حصل بين الصحابيين الجليلين من جنس ذلك، وبالتالي لا يجوز للحبشي وأمثاله من مبغضي الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان أن يصمه بالبغي والتعدي على حرمات الله وحدوده، بل كان ينبغي على الحبشي أن يكون موقفه مما حصل بين الصحابيين الجليلين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- كموقف السلف الصالح الذي يمثله قول الإمام عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حينما سُئل عن حقيقة تلك الفتنة، ومن المحق فيها ومن المخطئ فقال مستهجناً على السائل سؤاله: "تلك دم كَفّ الله عنها يدي، أريد أن ألطخ بها لساني؟!"(4)، وكأن لسان حاله -رحمه الله- يقول: تلك فتنة طهر الله منها سيوفنا وأيدينا، فالأولى أن نطهر منها ألسنتنا.
__________
(1) - صحيح البخاري،كتاب الجهاد والسير،باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله،ح2812، 3/272-273.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 35/48.
(3) - انظر: منهاج السنة لابن تيمية 4/452.
(4) - صون المنطوق للسيوطي ص134.(1/473)
وأما عن حكم سب الصحابة عند علماء أهل السنة والجماعة فيوضحه الإمام النووي بقوله: "واعلم أن سب الصحابة -رضي الله عنهم- حرام من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون"(1)، ويدخل ضمن سب الصحابة القدح فيهم وفي عدالتهم ووصفهم بصفات لا ينبغي أن يوصف بها أمثالهم كما صرح بذلك الحبشي ووصف معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- بالباغي، وهذا ما يؤكده النووي عندما ختم كلامه بقوله: "سواء من لابس الفتن منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون"(2).
__________
(1) - شرح صحيح مسلم للنووي 16/93 -ط دار الريان للتراث-.
(2) - المصدر السابق 16/93 -ط دار الريان للتراث-.(1/474)
وأيضاً يبين شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حكم من يسب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين، فيقول: "من لعن أحداً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ونحوهما، أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق، وعمر، أو عائشة أم المؤمنين وغير هؤلاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين"(1)، والإمام الطحاوي يذهب أبعد من ذلك حيث يرى أن مجرد بغض صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفر ونفاق وطغيان فيقول: "ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نفرط في حب أحدٍ منهم، ولا نتبرأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين، وإيمان، وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق، وطغيان"(2)، ولهذا فإن اعتقاد علماء أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه: "يجب لهم من المحبة والتبجيل والترضي والتفضيل على سائر الأمة، وتقبيح من آذاهم … والكف عما جرى بينهم مما لعله لم يصح عنهم، وما صح فله تأويلات سائغة، وإذا كان لأحد منهم هنات تقع مكفرة مستهلكة في عظيم حسناتهم وجسيم مجاهداتهم"(3)، لا أن يسبوا ويقللوا من شأنهم ويصفوهم بأبشع وأشنع الصفات التي لا تُقبل في حق العلماء فضلاً عن حق الصحابة الكرام.
المبحث الثالث: موقف الأحباش من عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-:
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 35/38.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص467 -المتن-.
(3) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/376-377.(1/475)
يذكر الحبشي تحت عنوان "الخارجون على عليّ بغاة"(1)، وتحت هذا العنوان يبين الحبشي أن الذين قاتلوا الإمام علياً خرجوا عن طاعته، ثم يعلق في الهامش على خروج عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- ضمن الذين خرجوا في المطالبة بدم عثمان -رضي الله عنه-، وأنها -رضي الله عنها- أرادت الرجوع فأصَرّ القوم على الذهاب معهم، فذهبت للإصلاح ولم تذهب للقتال(2)، ثم يتجرأ الحبشي بالقول على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ووصمها بارتكاب المعصية فيقول: "وكان معصيتها وقوفها في معسكر الذين تمردوا على عليّ الخليفة الراشد"(3)، ويؤكد الحبشي هذا المعنى الذي قال به عندما يتحدث عن ندم عائشة -رضي الله عنها- فيقول: "وثبت أيضاً ندم عائشة -رضي الله عنها- على ما فعلت، وهو أنها مكثت في المعسكر الذي كان ضد عليّ مع كونها لم تخرج بنية قتاله ولم تقاتله"(4)، ومن المعلوم أن الندم في حق المؤمنين يكون بعد ارتكاب ما لا يرضي الله -سبحانه وتعالى-، والتعدي على الآخرين.
والذي يظهر من كلام الحبشي تجرؤه على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كما فعلت الرافضة(5) من قبل، وهذا كله لأن عائشة -رضي الله عنها- وقفت في صف الذين طالبوا بدم عثمان -رضي الله عنه- والذين اعتبرهم الحبشي بأنهم تمردوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-(6)، وهذا أيضاً ما ذهب إليه المعتزلة، فيقول ابن تيمية -رحمه الله- تحت عنوان "أهل الأهواء في قتال علي ومن حاربه على أقوال:
__________
(1) - صريح البيان للحبشي ص197.
(2) - انظر: المصدر السابق ص97-198 (الهامش).
(3) - المصدر نفسه ص198 (الهامش).
(4) - المصدر نفسه ص203-204.
(5) - انظر: منهاج السنة لابن تيمية 4/301، 308-309، 329، 366.
(6) - انظر: صريح البيان للحبشي 198 (الهامش).(1/476)
… والثاني: تفسيق من قاتله إلا من تاب، ويقولون: إن طلحة، والزبير، وعائشة تابوا، وهذا مقتضى ما حكى عن جمهورهم كأبي الهذيل وأصحابه، وأبي الحسين وغيرهم"(1)، وهذا موافق لكلام الحبشي عندما وصف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بالندم عما فعلت(2)، وبهذا يظهر مشاركة الحبشي لأهل الأهواء من معتزلة ورافضة وغيرهم في موقفهم من كرام الصحابة ومن ضمنهم أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وكان الأولى بالحبشي بدل أن يترك العنان للسانه للخوض في عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيذائه فيه أن يكف عن ذلك، وهذا منهج السلف الصالح في التعامل مع مثل هذه الأحداث، فقد جاء عن ابن تيمية -رحمه الله- قوله: "وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم"(3) أي بين صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والواجب احترام نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية في حق نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم"(4)، وهذا المنهج في التعامل مع الأحداث التي حصلت بين صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بغريب ولا بمبتدع بين علماء أهل السنة والجماعة، فمثلاً يتحدث ابن حجر -رحمه الله- عما بدر من عائشة -رضي الله عنها- في الخروج لموقعة صفين والجمل، فيتحدث بكل أدب رفيع لئلا يخدش هيبة أهل البيت الكرام -رضي الله عنهم- لدى المسلمين فيقول: "والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير، وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان -رضي الله عنهم أجمعين-"(5)، وبعد هذا العرض يظهر لكل ذي لب البون الشاسع بين عرض المسألة من قِبل الحبشي، وبين عرض الإمام ابن حجر وتأدبه مع
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 35/33.
(2) - انظر: صريح البيان للحبشي ص203-204.
(3) - الوصية الكبرى لابن تيمية ص42.
(4) - منهاج السنة لابن تيمية 4/369.
(5) - فتح الباري لابن حجر 7/108.(1/477)
أهل بيت النبوة من حيث حسن اختيار الألفاظ.
وأيضاً إلصاق وصف المعصية في حق زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بسبب وقوفها في صف الذين طالبوا بدم عثمان -رضي الله عنه-، فيه تجني عليها ومجانبة للصواب!!، فلماذا لا يعتبر الحبشي أن هذا اجتهادٌ منها -رضي الله عنها-؟ فإن أصابت فلها أجران، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن أخطأت فلها أجرٌ واحد، وهو أجر الاجتهاد؛ فكان الأولى بالحبشي أن ينحى في هذه المسألة هذا المنحى.
ولا يقصد مما سبق أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها معصومة من الخطأ، فكل ابن آدم خطّاء، ولكن المقصود وجوب التأدب عند عرض هذه المسألة الحرجة، وعدم إيذاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في زوجه عائشة -رضي الله عنها-، وهي التي ورد في فضلها الكثير من الأحاديث، والتي منها: ما قاله أبو سلمة إن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً: "يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام"، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته(1).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب فضل عائشة -رضي الله عنها-، ح3768، 4/264.(1/478)
ومدحها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"(1)، ولمكانة عائشة عنده -صلى الله عليه وسلم- يرفض أن تؤذيه إحدى زوجاته في الكلام عنها -رضي الله عنها- فيقول -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة: "يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علىّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها"(2)، فكيف بالذي يتجرأ على الكلام في حقها ووصفها بفعل المعاصي، من غير دليل صحيح على صلى الله عليه وسلم!.
والذي عليه العلماء في أن عائشة -رضي الله عنها- من "أفضل نسائه -صلى الله عليه وسلم-في العلم النافع،والفقه الناصع، فلها من الفضل في ذلك ما ليس لغيرها من سائر أزواجه -صلى الله عليه وسلم-حتى كان الأكابر من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي عنهم إذا أشكل عليهم أمر من الدين استفتوها فيجدون علمه عندها"(3)،وبهذا يظهر فضل أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وتنكشف عنها الشبهات التي قال بها الحبشي .
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب فضل عائشة -رضي الله عنها-، ح3769، 4/264.
(2) - صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب فضل عائشة -رضي الله عنها-، ح3775، 4/265-266.
(3) - لوامع الأنوار للسفاريني 2/373.(1/479)
وفي خاتمة هذا الفصل لا بد من بيان موقف أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة الكرام،يوضحه الشيخ الحكمي بقوله:"أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-بعد قتل عثمان-رضي الله عنه-والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة،والاستغفار للقتلى من الطرفين،والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة،والاعتراف لهم بسوابقهم،ونشر مناقبهم عملاً بقول الله عز وجل: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } [الحشر:10]، واعتقاد أن كلاً منهم مجتهد إن أصاب فله أجران:أجر على اجتهاده،وأجر على إصابته،وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور،ولا نقول إنهم معصومون بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك. وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منها مكذوب،ومنه ما قد زيد فيه أو انقضى منه وغيرّ عن وجهه،والصحيح منه هم فيه معذورون"(1)،وأما من يقول بخلاف ذلك فهو:إما إنسان جاهل لا يعرف من أمر الدين شيئاً، وإما إنسان موتور صاحب حقد دفين لا بد من النظر في أمره،ويكون بذلك مخالفاً ما عليه علماء السلف.
__________
(1) - معارج القبول للحكمي 2/485.(1/480)
المبحث الأول: موقف الأحباش من شيخ الإسلام ابن تيمية(1):
__________
(1) - ابن تيمية: هو شيخ الإسلام، وحافظ الأنام، المجتهد في الأحكام: تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية، الحراني، الحنبلي (أبو العباس)، ولد بحرّان في العراق، سنة 661هـ، المتوفى سنة 728هـ؛ وقد ألف في التفسير، والفقه، والأصول والحديث، والكلام والردود على الفرق الضالة والمبتدعة. ومن تصنيفاته التي تبلغ ثلثمائة تصنيف: تعارض العقل والنقل، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، الرد على المنطقيين، إثبات المعاد، النبوات، رفع الملام عن الأئمة الأعلام إلى غير ذلك من المؤلفات والتصانيف. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1496-1498، جلاء العينين لابن الآلوسي ص5-7.(1/481)
لقد امتلأت كتب الحبشي في التهجم على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ووصفه بأقذع الصفات وأبشعها، من خلال التقول على الرجل ما لم يقله، أو تفسير عباراته بغير مقصودها، وذلك يرجع إلى مناقشات شيخ الإسلام وردوده على مثل معتقدات الحبشي المخالفة لما عليه أئمة أهل السنة والجماعة، فأدت هذه الردود إلى إبطال هذه المعتقدات وكشف زيفها؛ ويُجمل الحبشي سبب تحامله وتهجمه على شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة كتابه (المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية) بقوله: "اعلم أن سبب تأليف هذه الرسالة أن كثيراً من الناس ظنوا أن القول بأن نوع العالم أزلي ليس مخلوقاً لله، وإثبات الحد، والجسمية، وتحريم التوسل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم، والتبرك بزيارة قبورهم هو عقيدة السلف وما كانوا عليه عملاً. فلما كان الأمر كذلك دعت الضرورة إلى بيان أن الأمر على خلاف هذا، أي أن السلف كانوا على تنزيه الله تعالى عن الحدّ في علم الله، ولا فيما وصل إليه علم الخلق؛ وأن التوسل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم، والتبرك بزيارة قبورهم رجاء إجابة الدعاء عند قبورهم، هذا الأمر الذي كان عليه السلف، وبيان أن الإمام أحمد كان على خلاف ما أحدثه ابن تيمية وأتباعه"(1)، وهذا الذي ذكره الحبشي يظهر فيه التجني على الإمام ابن تيمية -رحمه الله- كادعائه أن الإمام أثبت الحد والجسمية لله، وقال بحوادث لا أوّل لها لم تزل مع الله، وأما أن يدعي الحبشي أن الإمام ابن تيمية -رحمه الله- منع ما أثبته وأجازه علماء السلف من التوسل بالأموات؛ وهذه الاتهامات والشبه يكيلها الحبشي ويوجهها إلى شيخ الإسلام ابن تيمية في معظم كتاباته، وبالتالي يلصق بشيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله- أوصاف لا
__________
(1) - المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية لعبدالله الهرري -الحبشي- ص9، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الثانية 1414هـ-1994م. وانظر: المطالب الوفية للحبشي ص49.(1/482)
ينبغي أن يوصف بمثلها، كوصفه بالزيغ والابتداع في دين الله فيقول: "ولقد زاغ أحمد بن تيمية …، وهو في الحقيقة مبتدع في الاعتقاد وفي الأحكام"(1)، ويتهم الحبشي الإمام ابن تيمية بالإشراك بالله وذلك من خلال الحديث عمن قال بأزلية أعيان العالم، ثم يدعي أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال بذلك، فيقول: "وهذا ظاهر في الإشراك بالله، وابن تيمية نص على ما نقلناه عنه"(2)، ويزيد الأمر تفصيلاً بقوله: "فمن ادعى الأزلية لشيء غير الله فقال العالم أزلي بنوعه أي بجنسه وأشخاصه فهو كافر، ومن قال العالم أزلي بجنسه لا بأفراده المعينة فإنها مخلوقة حادثة فهو كافر أيضاً وهو رأي الفلاسفة المحدثين وابن تيمية"(3)، أي القول بأزلية العالم؛ وأحياناً يصفه بالجهل فيقول: "أم نزل به الجهل بهذه المسألة إلى هذا الحضيض"(4)، ومرة أخرى يصفه بالافتراء حيث يقول: "بيان افتراء ابن تيمية على الإمام أحمد …"(5)، بل إن الحبشي يرى أن تسمية ابن تيمية بشيخ الإسلام "وضع للكلمة في غير محلها"(6)، حتى إن الحبشي يصف علم شيخ الإسلام بالسخافة، فيقول: "في بيان سخافة ابن تيمية"(7)؛ وتلاميذ الحبشي ساروا على منهج شيخهم نفسه بالتهجم والتطاول على شيخ الإسلام ابن تيمية فيصفونه بأنه فيلسوف مجسم بقولهم: "الفيلسوف المجسم ابن تيمية الذي قال مؤيداً لعقيدة متأخري الفلاسفة أن الله لم يخلق نوع العالم، وهذا كفر بإجماع المسلمين"(8)، ويقول محمد الولي (أحد تلاميذ الحبشي) في حق شيخ الإسلام ابن تيمية: "وبهذا عرفت حقيقة ابن تيمية أنه من الدهرية الكفار"(9)
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص91، وانظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص313، 325.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص54.
(3) - شرح الصفات الثلاث عشرة للحبشي ص15.
(4) - المصدر السابق ص244.
(5) - المصدر نفسه ص366.
(6) - صريح البيان للحبشي ص371.
(7) - المصدر السابق ص398.
(8) - غاية البيان إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص22.
(9) - رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري، مراجعة: محمد الولي ص42 -الهامش-.(1/483)
، وبهذا يظهر التكفير البواح لابن تيمية -رحمه الله-.
ويعتمد الأحباش في تهجمهم وتطاولهم على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على تجريح بعض العلماء له: كالسبكي فجاء في كتابهم (تفنيد مزاعم المدعى) قولهم: "وأما ابن تيمية فقد جَرّحه من هو أعلم منا، وأورع وهو الحافظ تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي"(1)، وبعد هذا العرض يظهر موقف الأحباش من شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله- دون أي غبش.
ومما سبق بيانه يتبين مدى الغبن والظلم الذي وقع على ابن تيمية -رحمه الله- من مبغضيه، ويظهر فيه التجني عليه -رحمه الله- دون أي وجه حق، ودون أي مستند شرعي يقفون عليه في تهجمهم عليه.
أما ادعاء الأحباش أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال بقدم العالم فكلام مردود وباطل وذلك للتالي:
أولاً: أن ابن تيمية -رحمه الله- رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وحكم عليهم بالإلحاد والخروج عن الدين، فيقول: "القول بقدم العالم قول الدهريين، وهو كفر ظاهر معلوم فساده بالعقل والشرع، إذ لو كان العالم قديماً لوجب أن يكون مع الله قديماً آخر، وهذا من أبطل الباطل، وأن من قال بذلك فليس معه إلا الجهل"(2)، ويقول أيضاً: "وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف"(3).
ثانياً: أن ابن تيمية -رحمه الله- قال بحدوث العالم، وأن كل ما فيه مخلوق حادث، وأن الله وحده هو القديم الأزلي، وهذا يوضحه بقوله: "كل ما سوى الله مخلوق حادث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي، ليس معه شيء قديم تقدمه"(4)، ومن الأدلة التي ساقها ابن تيمية -رحمه الله- على حدوث العالم:
__________
(1) - تفنيد مزاعم المدعى إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص47.
(2) - منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/101.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 18/133.
(4) - درء التعارض لابن تيمية 1/125.(1/484)
أن الرسل مجمعون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام كما أخبر بذلك القرآن الكريم(1).
العقول الصريحة تقر بأن الحوادث لا بد لها من محدث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها، لم يكن في العالم شيء من الحوادث، فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع، فإنه إذا كان معلولها لازماً لها كان قديماً معها لم يتأخر عنها، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب يقتضى حدوثه، فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وهذا باطل معلوم الفساد(2).
لا بد من العلم أن المؤثر التام يستلزم وقوع أثره عقب تأثره التام، لا يقترن به، ولا يتراخى، مثلاً: إذا طَلْقتُ المرأة فطلقت، وأعتقتُ العبد فعتق، فوقوع الطلاق والعتق ليس مقارناً لنفس التطليق والإعتاق بحيث يكون معه، ولا هو أيضاً متراخٍ عنه، بل يكون عقبه متصلاً به، وقد يقال: هو معه ومفارق له، باعتبار أنه يكون عقبه متصل به، كما يقال: هو بعده، متأخر عنه، باعتبار أنه إنما يكون عقب التأثير التام؛ ولهذا قال الله تعالى: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس:82]، فهو سبحانه يكوّن ما يشاء تكوينه، فإذا كونه كان عقب تكوينه متصلاً به، لا يكون مع تكوينه في الزمان، ولا يكون متراخياً عن تكوينه، بينهما فصلٌ في الزمان، بل يكون متصلاً بتكوينه كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض(3).
__________
(1) - انظر: مجموعة الفتاوى لابن تيمية 9/150.
(2) - المصدر السابق 9/150 بتصرف.
(3) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 9/150-151 بتصرف.(1/485)
ثالثاً: وأما قول ابن تيمية -رحمه الله- بقدم نوع الحوادث، وحدوث آحادها، كان رداً على الفلاسفة الذين قالوا بقدم آحادها؛ ويعتبر هذا القول هو عين التسلسل الباطل الممتنع، حيث لم يفرق الفلاسفة بين الآحاد والنوع من المفعولات، بخلاف ما عليه السلف -ومنهم ابن تيمية- حيث قالوا بقدم النوع، لأن الله لم يزل مريداً، خلاقاً، فاعلاً، متكلماً إذا شاء ومتى شاء، ويتضح هذا القول لابن تيمية -رحمه الله- من خلال رده على الفلاسفة بقوله: "إنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل، فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة، ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات؛ وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلماً بشيء بعد شيء دائماً، وكون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول: كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً(1)، وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حياً، وقيل: إن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث، كالبخاري والدارمي، وغيرهما، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبما شاء، ونحو ذلك، كما قاله ابن المبارك وأحمد، وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة -كان كونه متكلماً أو فاعلاً من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلماً فعالاً، مع العلم أن الحي يتكلم ويفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق، ولا تقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق له قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول: لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً لا شبه له ولا كيف؛ فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق
__________
(1) - كما قالت بذلك الفلاسفة.(1/486)
محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً"(1).
وبعد هذا العرض لموقف شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بقدم العالم يتبين أنه لا يوجد لأحد من مبغضيه حجة عليه، لأنه -رحمه الله- يناقش ويرد على من يقول بقدم العالم، ويبين فساد هذا المسلك وضعفه ومخالفته لما عليه أئمة أهل السنة والجماعة، والذي يظهر من كلام الحبشي أنه استند إلى أقوال مقطوعة من كلام ابن تيمية -رحمه الله- لم يكتمل معناها، واستدل بها الحبشي في غير موضعها.
وأما ادعاء الحبشي بأن ابن تيمية -رحمه الله- قام بإثبات الحد والجسمية لله(2) فهذا كلام يحتاج إلى نظر، لأن مقصد الحبشي أن الإمام ابن تيمية -رحمه الله- أثبت ما أثبته الله لنفسه على الحقيقة، وهذا عند الحبشي يعتبر من باب التجسيم لله سبحانه وتعالى، لأن إثبات صفات الذات على حقيقتها مثل إثبات صفة العين واليد والوجه وغيرها من الصفات، يعتبر الحبشي من يثبتها مجسماً، لأنه في اعتقاده بأن ذلك من باب تشبيه الخالق بالمخلوق، وكذلك إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى والاستواء على العرش، يعتبره الحبشي من باب الإحاطة بالله وتحديد مكانه، وهذه الأمور تم مناقشة الحبشي فيها، وثبت ضعفها بل فسادها مع الأدلة القوية لأئمة السلف الصالح في هذه المسألة(3).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 18/129-130.
(2) - انظر: المقالات السنية للحبشي ص9، الشرح القويم للحبشي ص91.
(3) - انظر: البحث ص128-171.(1/487)
ويدافع ابن الآلوسي في (جلاء العينين) عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ويبرئه من هذا الاتهام الباطل، ويبين أن ابن تيمية -رحمه الله- إنما هو "عن ذلك بمعزل، وبعيد عنه بألف ألف منزل، فتأليفاته وعباراته التي سمعتها قاضية بكذب ما عزى إليه"(1)، ثم ينقل ابن الآلوسي -رحمه الله- أقوالاً للعلماء تنفي شبهة التجسيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيقول: "وكذلك شهادات العلماء حاكمة باختلاف ما زور عليه، فمن ذلك ما قاله الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي في حاشيته المسماة (بمجلي المعاني على شرح عقائد الدواني) ما نصه: قوله: قيل ولعل وجه قول ابن تيمية بالتسلسل على سبيل التعاقب في العرش أنه من المجسمة إلخ. أقوال: ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم؛ فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً في رسالة تكلم فيها على حديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، وقال في رسالة أخرى: من قال: إن الله تعالى مثل بدن الإنسان، أو أن الله تعالى يماثل شيئاً من المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه؛ بل هو على مذهب السلف من الإيمان بالمتشابهات مع التنزيه بليس كمثله شيء. ولكنه قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة مع نفي اللوازم؛ ونقل عليه إجماع السلف"(2)، وأيضاً ينقل ابن الآلوسي عن والده ما رآه بخط يده في حق ابن تيمية -رحمه الله-: "حاشا لله تعالى أن يكون من المجسمة! بل هو أبرأ الناس منهم، نعم، … وهو بمعزل عن التجسيم"(3)، بل إن ابن تيمية -رحمه الله- حكم بالكفر على من يقول بما يوهم التجسيم فقال: "فمن قال علم الله كعلمي، أو قدرته كقدرتي، أو كلامه مثل كلامي، أو إرادته ومحبته ورضاه وغضبه مثل إرادتي ومحبتي ورضائي وغضبي، أو استوائه على العرش كاستوائي، أو نزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني ونحو ذلك، فهذا قد شبه الله ومثله بخلقه تعالى عما
__________
(1) - جلاء العينين لابن الآلوسي ص339.
(2) - المصدر السابق ص399-340.
(3) - جلاء العينين لابن الآلوسي ص340.(1/488)
يقولون، وهو ضال خبيث مبطل، بل كافر"(1).
وأما ادعاء الحبشي بأن ابن تيمية -رحمه الله- حَرّم التوسل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم وخاصة عند القبور(2)، وهذا الذي استنكره الحبشي على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- واعتبره بهذا الكلام السالف الذكر مبتدعاً في دين الله، إنما هو ما عليه أهل السنة والجماعة من عدم جواز التوسل بالأموات وخاصة عند القبور، لأن هذا شرك بالله سبحانه وتعالى، وهذا ما اجمع أئمة السلف على حرمته، وعدم جوازه -قد سبق بيان ذلك في الرسالة-(3).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 11/482 (نشر دار الإفتاء -الرياض- ط الأولى 1398هـ).
(2) - المقالات السنية للحبشي ص9، صريح البيان للحبشي ص135-164.
(3) - انظر: البحث ص289-302.(1/489)
وأما وصف الحبشي وتلاميذه لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأقذع الصفات وأبشعها: كالشرك بالله، والجهل، والافتراء، والفيلسوف المجسم، وأنه من الدهرية الكفار، بل يرفض الحبشي تسمية ابن تيمية -رحمه الله- بشيخ الإسلام ويرى أنها كلمة في غير موضعها(1)، ولا شك أن هذا تعدٍ صارخ في التعامل مع السلف، وتجاوز لحدود أدب الخصومة، والوصول إلى درجة الفجور، ومن المعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبح الفجور في التخاصم فقال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن، كانت فيه خلة من نفاقٍ حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر"(2)؛ وهذا الذي ذكره الحبشي وتلاميذه في حق الإمام ابن تيمية مردود عليهم بثناء أئمة السلف عليه -رحمه الله-، ومن هذه الشهادات الواردة في بيان فضل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما يلي:
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص91، إظهار العقيدة السنية للحبشي ص54، 244، 313، 325، 366، صريح البيان للحبشي ص371، 398، غاية البيان إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص22، تفنيد مزاعم المدعى إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص47، رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري مراجعة محمد الولي ص42 -الهامش-.
(2) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، ح58، 1/78.(1/490)
ما ذكره الإمام ابن سيد الناس(1) في حقه -رحمه الله-: "فألفيته -ابن تيمية- من أدرك من العلوم حظاً، وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظاً. إن تكلم في التفسير، فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه، فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث، فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالملل والنَّحل، لم يُرَ أوسع من نِحّلته في ذلك، ولا أرفع من درايته. برز في كل فنٍ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه"(2).
وقول الإمام ابن دقيق العيد(3) عندما سُئل عن ابن تيمية: هو رجل حُفَظَة، فقيل له: هلا تكلمت معه؟ فقال: هو رجل يحب الكلام، وأنا أحب السكوت. وقال أيضاً: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد(4).
__________
(1) - ابن سيد الناس: الإمام الحافظ، الفقيه، العالم، الأديب، البارع، فتح الدين، أبو الفتح، محمد بن الحافظ أبي عمرو محمد بن الحافظ العلامة الخطيب، محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن يحيى بن أبي القاسم، بن سيد الناس، (أبو الفتح) اليعمري، الأندلسي الإشبيلي، ثم المصري، الشافعي. ولد بالقاهرة سنة 671هـ، توفي في شعبان سنة 734هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 6/108-109، الدرر الكامنة لابن حجر 4/21.
(2) - الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي ص26-27، تحقيق وتعليق: نجم عبد الرحمن خلف، الناشر: دار الفرقان، عمان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1404هـ-1983م.
(3) - ابن دقيق العيد: هو الشيخ العلامة الإمام، أحد شيوخ الإسلام، قاضي قضاة المسلمين، عمدة الفقهاء والمحدثين. تقي الدين محمد بن علي بن وهب بن مطيع (أبو الفتح) المنفلوطي، المالكي، الشافعي، توفي سنة 702هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 4/91-96، شذرات الذهب لابن عماد 6/5، البدر الطالع للشوكاني 2/229-232.
(4) - الشهادة الزكية للكرمي ص29 بتصرف.(1/491)
ويقول الإمام ابن الورْدي(1) في ابن تيمية -رحمه الله-: "وتركت التعصُّب والحمية، وحضرت مجالس ابن تيمية فإذا هو بيت القصيدة، وأول الخَريدة، علماء زمانه فلك، هو قطبه. وجسم هو قلبه، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القطر؛ بحيث جلست بين يديه يوماً، فأصبت المعنى. فكفاني، وقبّل بين عيني اليمنى، فقلت: إن ابن تيمية في كل العلوم واحد، أحييت دين أحمد وشرعه يا أحمد"(2).
وما قاله أبو حيان النحوي(3): "ما رأت عيناي مثل ابن تيمية"(4).
وما ذكره الإمام ابن قيم الجوزية في شيخه ابن تيمية -رحمهما الله-"شيخ الإسلام والمسلمين،القائم ببيان الحق، ونصرة الدين، الداعي إلى الله ورسوله، المجاهد في سبيله، الذي أضحك الله به مِنَ الدين ما كان عابساً، وأحيا من السنة ما كان دارساً، والنور الذي أطلعه الله في ليل الشبهات، فكشف به غياهب الظلمات. وفتح به من القلوب مقفلها، وأزاح به عن النفوس عللها فقمع به زيغ الزائغين، وشَكَّ الشاكين، وانتحال المبطلين"(5).
__________
(1) - ابن الوردي: زين الدين عمر بن مظفر بن عمر، أبي الفوارس المعري، الحلبي، الشافعي، كان علامة متفنناً في العلوم، ماهراً في المنثور والمنظوم، وله الأشعار الرائقة والمقاطيع الفائقة، وكان باهراً في العربية، دَرَّس وأعاد وأفتى، توفي في حلب سنة 749هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/195، شذرات الذهب لابن عماد 6/161-162.
(2) - الشهادة الزكية للكرمي ص3.
(3) - أبو حيان النحوي: هو الشيخ الإمام العلامة، علم القراء، أستاذ النحاة والأدباء، جمال المفسرين، أثير الدين، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان (أبو حيان) الأندلسي، الجياني، الغرناطي، ثم المصري، الظاهري، ولد سنة 654هـ، توفي سنة 745هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 4/302-310، النجوم الزاهرة لابن تغري 10/91-93.
(4) - الشهادة الزكية للكرمي ص31.
(5) - المصدر السابق ص34.(1/492)
وما ورد عن الشيخ ابن الزملكاني(1) في بيان فضل ابن تيمية -رحمه الله- مع أنه تولى مناظرته أكثر من مرة، فقد سُئل عن ابن تيمية فقال: لم يُرَ من خمسمائة سنة أحفظ منه(2)، وقال أيضاً: "لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارات والترتيب، والتقسيم والتبيين. وقد ألان الله له العلوم، كما ألان الحديد لداود، كان إذا سئل عن فن من العلم ظنَّ الرائي والسامع: أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذهبهم منه، ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك. ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع، أم من غيرها إلا فاق منه أهله والمنتسبين إليه"(3).
__________
(1) - ابن الزملكاني: هو الشيخ الإمام العلامة، قاضي القضاة، جمال المناظرين، كمال الدين، محمد بن أبي الحسن، علي بن عبد الواحد بن خطيب زملكاه (أبو المعالي)، الأنصاري، الشافعي. انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، ولد سنة ست أو سبع وستين وستمائة، توفي سنة 727هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 4/74-76، النجوم الزاهرة لابن تغري 9/195-196.
(2) - الشهادة الزكية للكرمي ص36.
(3) - المصدر السابق ص36-37.(1/493)
وما ذكره الحافظ الذهبي(1) في حق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- "هذا خط شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين، قرأ القرآن والفقه، وناظر واستدلَّ، وهو دون البلوغ. برع في العلم والتفسير، وأفتى ودرّس، وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار، التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون: أربعة آلاف كراس وأكثر. وفسرَّ كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره في أيام الجُمع، وكان يتوقد ذكاءً، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث، ورجاله، وصحته، وسقمه، فيما يُلحق فيه. وأما نقله للفقه، ومذاهب الصحابة والتابعين، فضلاً عن المذاهب الأربعة، فليس له فيه نظير. وأما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيراً. ويَدْري كل جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جداً، ومعرفته بالتاريخ والسَّيرَ فعجب عجيب. وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف، ويفوق النعت وهو أحد الأجواد الأسخياء، الذين يُضرب بهم المثل. وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والمشرب"(2).
__________
(1) - الحافظ الذهبي: هو الشيخ الإمام، الحافظ الهمام، مفيد الشام، ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين، وإمام المعتدلين والمجرحين، إمام أهل التعديل والجرح، والمعتمد عليه في المدح والقدح، شمس الدين محمد بن= =أحمد بن عثمان (أبو عبدالله) التركماني، الفارقي الأصل ثم الدمشقي، ولد سنة 673هـ، وتوفي بدمشق سنة 748هـ، ومشيخته بالسماع والإجازة نحو ألف شيخ وثلاثمائة. أنظر: النجوم الزاهرة لابن تغري 10/144-145، البدر الطالع للشوكاني 2/110-112، شذرات الذهب لابن عماد 6/153-157.
(2) - الشهادة الزكية للكرمي ص40.(1/494)
وأورد الإمام المِزَّي(1) قوله عن ابن تيمية -رحمه الله- "ابن تيمية لم يُرَ مثله منذ أربعمائة سنة"(2)، وقد جاء أن الإمام المزي لم يكتب بخطه لفظة (شيخ الإسلام) إلا لثلاثة ومن ضمنهم الإمام ابن تيمية -رحمه الله-(3).
__________
(1) - الإمام المزي: الشيخ الإمام، حافظ الإسلام، محدث الأعلام، الخيرْ النبيل، أستاذ أئمة الجرح والتعديل، شيخ المحدثين، جمال الدين، يوسف ابن الزكي عبد الرحمن بن يوسف القضاعي (أبو الحجاج) الكلبي، الحلبي، الدمشقي، ثم المِزَّيَّ، الشافعي، ولد بظاهر حلب سنة 654هـ، وتوفي سنة 742هـ، ودفن بجوار ابن تيمية. انظر:تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1498-1500، شذرات الذهب لابن عماد 6/136-137.
(2) - الشهادة الزكية للكرمي ص45.
(3) - انظر: طبقات الشافعية للسبكي 10/195.(1/495)
ومن الذين أثنوا على ابن تيمية -رحمه الله- الحافظ البرزالي(1) حيث يذكره ضمن شيوخه فيقول: "الإمام المجمع على فضله ونُبله ودينه. قرأ القرآن وبرع فيه، والعربية، والأصول، ومَهَرَ في علمي التفسير والحديث؛ وكان إماماً لا يُلْحَق غباره في كل شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين؛ وكان إذا ذكر التفسير ابهت الناس من كثرة محفوظه، وحسن إيراده، وإعطائه كل قولٍ ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل علم. وكان الحاضرون يقفون منه العجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد من أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى. وكان يجلس في صبيحة كل جمعة، يقرأ على الناس تفسير القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه، وبركة دعائه وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقته قوله لعمله، وأناب إلى الله تعالى خلق كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر، والتقلل من الدنيا، ورد ما يفتح به الله عليه"(2).
وقال ابن رجب البغدادي الحنبلي في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد ذكر اسمه يصفه بقوله: "الإمام، الفقيه، المجتهد، المحدَّث، الحافظ، المفسر، الأصولي، الزاهد، تقي الدين، أبو العباس، شيخ الإسلام، وعَلَم الأعلام وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره"(3).
__________
(1) - الحافظ البرزالي: الشيخ الإمام الحافظ، الثقة الحجَّة، مؤرخ الشام، وأحد محدثي الإسلام، مفيد المحدثين، علم الدين، القاسم بن محمد بن يوسف، البِرْزالي (أبو محمد) الإشبيلي الأصل، الدَّمشقي؛ ولد سنة 665هـ بدمشق، وتوفي سنة 738هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/237-239، ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني ص18-20.
(2) - الشهادة الزكية للكرمي ص48.
(3) - المصدر السابق ص50-51.(1/496)
وممن أثنى على شيخ الإسلام ابن تيمية الحافظ ابن عبد الهادي(1) حيث قال فيه: "هو الشيخ، الإمام، العالم، العامل، الرباني؛ إمام الأئمة، وعلامة الأمة، ومفتي الفِرق، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، ووحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وتَرْجُمان القرآن، وعلم الزمان، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، تقي الدين، أبو العباس، … وصاحب التصانيف التي لم يُسبق إلى مثلها، ولا يلحق في شَكْلها توحيداً أو تفسيراً، وإخلاصاً، وفقهاً، وحديثاً، ولغةً، ونحواً. كُتُبُهُ طافحةٌ بذلك. وانتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والأمانة، والعِنَّةِ والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، والمراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم، والصبر على مَنْ آذاه، والصفح عنه، والدعاء له، وسائر أنواع الخير؛ وكان -رحمه الله- سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشَجّاً في حُلُوق أهل الأهواء مِنَ المبتدعين، وإماماً قائماً
__________
(1) - ابن عبد الهادي: هو الشيخ الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، ذو الفنون، عمدة المحدثين، متقن المحررين، شمس الدين، محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن قدامة بن مقدام بن نصر، المقدسي، الصالحي، الحنبلي؛ ولد سنة أربعٍ -أو خمس- وستمائة، وتوفي سنة 744هـ بدمشق، قرأ القرآن بالروايات، وسمع ما لا يحصى من المرويات، وعني بالحديث وأنواعه، ومعرفة رجاله وعلله، وتفقه، وأفتى، ودرَّس، وجمع، وألف، وكتب الكثير، وصنَّف، وتصدى للإفادة. انظر: بغاة الوعاة للسيوطي 1/29-30، شذرات الذهب لابن عماد 6/141-142، الدرر الكامنة لابن حجر 3/331-332.(1/497)
ببيان الحقَّ، ونصرة الدين"(1).
وكذلك قول الإمام ابن فضل الله العمري(2) في ابن تيمية -رحمه الله- "هو البحر من أي النواحي جئتَهُ، والبدر من أي الضواحي رأيته، رضعَ ثدي العلم منذ فطم، وطلع وَجه الصَّباح ليحاكيه فَلَطَم. وقطع الليل والنهار رداءين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أنسى السلف بهُداه، وأنأى الخلف عن بلوغ مداه …، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم"(3).
ما ورد عن الإمام بهاء الدين السبكي(4) في مدحه لابن تيمية -رحمه الله- عندما جاء إليه جماعة من المتصوفة يسألونه، فأمر لهم بشيء، وبعد انصرافهم قال: "رحم الله ابن تيمية كان يكره هؤلاء الطوائف على بدعهم -فذُكر له كلام في ابن تيمية- فقال: … ما يبغض ابن تيمية إلا جاهلٌ أو صاحب هوى، فالجاهل: لا يدري ما يقول؛ وصاحب الهوى: يصدُّهُ هواه عن الحقَّ بعد معرفته به"(5).
__________
(1) - الشهادة الزكية للكرمي ص52-53.
(2) - ابن فضل الله العمري: هو القاضي، الفاضل، البارع، النبيل، العالم، الأصيل، أحمد ابن القاضي الإمام، يمين مملكة الإسلام يحيى بن فضل الله (أبو العباس)، العدوي، العمري، الشافعي، ولد سنة 697هـ، توفي سنة 749هـ. انظر: شذرات الذهب لابن عماد 6/160، الدرر الكامنة لابن حجر 10/331-333، النجوم الزاهرة لابن تغري 10/185.
(3) - الشهادة الزكية للكرمي ص55.
(4) - بهاء الدين السبكي: هو الشيخ الإمام، العلامة، قاضي القضاة، علم المناظرين، أحد المتبحرين، بهاء الدين محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام، الأنصاري، الخزرجي، السبكي، الشافعي، ولد سنة 707هـ، توفي سنة 777هـ. انظر: بغية الوعاة للسيوطي 1/152-153، الدرر الكامنة لابن حجر 3/490-491.
(5) - الشهادة الزكية للكرمي ص58.(1/498)
ويتحدث الإمام مرعي الحنبلي(1) عن شيخ الإسلام بقوله: "الشيخ تقي الدين، هو الإمام، الحافظ، الحجة، العلم، المجتهد، الضابط، المتقن، المفسر، أعجوبة الزمان، ترجمان القرآن. سيد المحققين، وسند المدققين، وشيخ الإسلام والمسلمين. والمعراج الأعلى في العارف، والمنهاج الأسني في الحقائق والعوارف …، فإن كنت تعرف الحقَّ عرفت أهله، أو تدري ما الفضل أدركت فضله؛ إلا أن تكون ذا عصبية وحَمية، فتجحد بالهوى فضائل ابن تيمية، وتعمى عن لمعان أنواره البهية"(2).
__________
(1) - مرعي الحنبلي: هو الشيخ الإمام مرعي بن يوسف بن أبي بكر بن يوسف بن أحمد الكرمي، ثم المقدسي الحنبلي؛ ولد في طور كرم بفلسطين، وانتقل إلى القدس، ثم إلى القاهرة، وهو من كبار علماء الحنابلة بمصر، وهو إمامأً محدثاً فقيهاً، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه، ودقائق الحديث، ومعرفة تامة بالعلوم = =المتداولة، توفي سنة 1033هـ. انظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمُحبّي 4/358-361، الناشر: دار صادر، بيروت -بدون تاريخ نشر أو رقم طبعة-.
(2) - الشهادة الزكية للكرمي ص87.(1/499)
وما جاء في كتاب الإمام عماد الدين ابن شيخ الحزاميين(1)، في ثنائه على ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "شيخنا الإمام الأمة الهمام، محيي السنة، وقاطع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفائق عن الحقائق، وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلى قاطن. أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم ونسيت الأمة حذوهم وسبلهم، فذكرهم بها الشيخ، فكان في دارس نهجهم سالكاً، ولموات حذوهم محيياً، ولأعنة قواعدهم مالكاً: الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس …"(2)، وفي بداية هذه الشهادات السالفة الذكر من العلماء الأجلاء تبين زيف وفساد طعون الحبشي في شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
وأما مستند الأحباش في طعنهم في ابن تيمية -رحمه الله- على قول ما قاله (تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي) في التشنيع على ابن تيمية(3) مردود عليهم بالتالي:
__________
(1) - عماد الدين ابن شيخ الحزاميين: الشيخ الإمام القدوة الزاهد العارف عماد الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي(أبو العباس)المعروف بابن شيخ الحزاميين،توفي سنة 711هـ،وكان رجلاً صالحاً ورعاً، كبير الشأن، منقطعاً إلى الله، متوفراً على العبادة والسلوك. انظر: العقود الدرية لابن عبد الهادي ص193.
(2) - العقود الدرية لابن عبد الهادي ص195.
(3) - انظر: تفنيد مزاعم المدعى إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص47.(1/500)
أولاً: أن الإمام السبكي من المعاصرين لابن تيمية -رحمهما الله- ومن قواعد المحدثين في الجرح والتعديل أنه لا يؤخذ بجرح الأقران لبعضهم البعض وخاصة من ظهر ورعه وتقواه وكثر مزكوه، فيذكر الإمام تاج الدين السبكي في طبقاته تحت عنوان (قاعدة في الجرح والتعديل) قوله: "الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة وإلا لو فتحنا هذا الباب، أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون"(1)؛ وفي المعنى نفسه يتحدث الإمام ابن عبد البر في جامع العلوم تحت باب عقده بعنوان (حكم العلماء بعضهم في بعض) فيقول: "قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحَّت عدالته وثبتت في العلم إمامته، وبانت ثقته وبالعلم عنايته، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة يصح فيها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة، وسلامته من ذلك كله فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر"(2)، وهذا ما يؤكده الإمام اللكنوي "بأن كلمات المعاصر في حق المعاصر غير مقبولة وهو كما أشرنا إليه مقيدٌ بما إذا كانت بغير برهان ولا حجة، وكانت مبنية على التعصب والمنافرة، فإن لم يكن هذا ولا هذا فهي مقبولة بلا شبهة(3)، وينقل ابن
__________
(1) - طبقات الشافعية للسبكي 2/9.
(2) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/1093-1094.
(3) - الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي ص276، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1388هـ-1968م.(2/1)
الآلوسي أقوالاً للعلماء في جرح الأقران لبعضهم البعض، ومن هذه الأقوال ما قاله "الذهبي والعسقلاني: إن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، لا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب، إذ الحسد لا ينجو منه إلا من عصمه الله تعالى"(1)، ويقول ابن الآلوسي أيضاً: "وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: إذا بلغك أن أحداً من الأئمة شَدّد النكير على أحد من أقرانه فإنما ذلك خوف على أحد أن يفهم من كلامه خلاف مراده، لا سيما علم العقائد فإن الكلام في ذلك أشد"(2)، وبهذا يتبين أن الاستئناس بقول الأقران في بعضهم البعض في الجرح لا يؤخذ به، وخاصة في حق الأتقياء منهم.
ثانياً: وأما تخطئة الإمام السبكي لابن تيمية وتشنيعه عليه، لا يعتبر حجة على فساد معتقد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فهناك من العلماء الأجلاء من انتصب للرد على السبكي -رحمه الله- كالإمام (ابن عبد الهادي) في مجلد كبير سماه (الصارم المنكي في الرد على السبكي)(3) وفند كلام السبكي، ورد عليه فيه. وأيضاً قال العلامة المقبلي في (العلم الشامخ) بخطأ السبكي في هجومه على ابن تيمية، وتشنيعه عليه حيث يقول: "زعم السبكي أن ابن تيمية خالف الإجماع"(4).
__________
(1) - جلاء العينين لابن الآلوسي ص52.
(2) - المصدر السابق ص53.
(3) - انظر: الشهادة الزكية للكرمي ص90.
(4) - العلم الشامخ للإمام المقبلي ص499.(2/2)
وبعد هذا العرض يظهر خطأ ما ذهب إليه الحبشي من وصف شيخ الإسلام ابن تيمية بأبشع الصفات وأشنعها بناءً على فهمٍ خاطئ لأقوال الشيخ، أو بسبب حقد نتيجة التعصب المذهبي لديه، وأفضل ما يقال للحبشي في هذا، ما قاله ابن عبد البر لمن خاض في العلماء "ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما ندر من بعضهم في بعض على الحسد، والهفوات، والغضب، والشهوات دون أن يعنى بفضائلهم، ويروي مناقبهم حُرم التوفيق، ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق"(1)، ويوجه الحارث بن أسد المحاسبي نصيحة لمن خاض فيما حصل بين العلماء يبدؤها بقوله: "وينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وألا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض، إلا إذا أتى ببرهانٍ واضح. ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صَفْحاً عما جرى بينهم، فإنك لم تُخْلَق لهذا، فاشتغل بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك ولا يزال طالب العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين، ويقضي لبعضهم على بعض. فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذيب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي …، فإن اشتغلت بذلك خشيتُ عليك الهلاك فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل، ربما يُفهم بعضها، فليس لنا إلا الترضي عنهم والسكوت عما جرى بينهم، كما يفعل فيما جرى بين الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-"(2).
__________
(1) - جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/1118.
(2) - طبقات الشافعية للسبكي 2/278.(2/3)
ولا بد من معرفة أن شيخ الإسلام ابن تيمية من أشد الناس تمسكاً بالكتاب والسنة، وهذا ما يوضحه الإمام البزار(1) بقوله: "وإذا نظر المنصف إليه بعين العدل يراه واقفاً مع الكتاب والسنة لا يميله عنهما قول أحد كائناً من كان، ولا يراقب في الأخذ بمعلومها أحداً، ولا يخاف في ذلك أميراً ولا سلطاناً ولا سوطاً ولا سيفاً، ولا يرجع عنها لقول أحد وهو متمسك بالعروة الوثقى، واليد الطولى، وعامل بقوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء:59]، وبقوله تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10]، وما سمعنا أنه اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة المتابعة للكتاب والسنة، والإمعان في تتبع معانيها، والعمل بمقتضاها، ولهذا لا يرى في مسألة أقوال للعلماء، إلا وقد أفتى بأبلغها موافقة للكتاب والسنة، وتحرى الأخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول"(2)، ولهذا قلّ من يسلم من أهل الفضل والدين في هذه الدنيا بلا امتحانات وابتلاءات تُظهر صدق عقيدته، ومدى اتباعه لمنهج السلف، وعدم الحياد عنه مهما يقع عليه من خصومة، ويبقى صامداً ثابتاً مصابراً لا يُداهن أحداً على حساب دينه، وهذا ما حصل مع ابن تيمية
__________
(1) - الإمام البزار: الإمام عمر بن علي بن موسى بن الخليل البغدادي، الأرجي، الحنبلي، البزار (سراج الدين، أبو حفص) محدث، مؤرخ فقيه، ولد تقريباً سنة 688هـ، وأقام بدمشق، وتوفي بمنزلة حاجر قبل الوصول إلى الميقات في 21 ذي القعدة 749هـ، له تصانيف عديدة منها: الأعلام العلية في مناقب الإمام ابن تيمية. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 3/180، شذرات الذهب لابن عماد 6/163-164.
(2) - الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية للإمام مرعي بن يوسف الكرمي ص100-101، تحقيق: نجم عبد الرحمن خلف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط الأولى 1406هـ-1986م.(2/4)
-رحمه الله-، حيث إنه "أُمتحن بمحن، وخاض فيه أقوام ونسبوه إلى البدع والتجسيم، وهو من ذلك بريء. فأول محنته -كما نقل الثقات- في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة، بسبب عقيدته الحموية الكبرى، وهي جواب سؤال ورد من حماة، فوضعها ما بين الظهر والعصر في ست كراريس بقطع نصف البلدي، فجرى له بسبب تأليفها أمور ومحن، رجّح مذهب السلف على مذهب المتكلمين، وشنع عليهم"(1)، ودخل السجن بسببها، ولم يتراجع عما كتبه فيها لأنها تمثل عقيدة السلف الصالح.
وأختم هذا المبحث بما قاله الإمام الكرمي تحت عنوان (نصيحة وموعظة)، وذلك بعد أن ذكر ثناء الأئمة على الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- وعَدّد مناقبه، إلى غير ذلك، فيقول: "قد علمت -أيدك الله- مما مر من سيرة الشيخ، ومناقبه، وغزارة علمه، وقوة جهاده، واتصافه بكل فعل جميل، بشهادة الأئمة له، وثنائهم عليه نثراً ونظماً، حياً وميتاً.
إنه من كبار الأئمة المحققين،وعلماء الأمة العاملين الراسخين،وأكابر الأولياء العارفين، بشهادة الإمامين الجليلين:أبي حنيفة والشافعي،حيث قالا:(إذا لم يكن العلماء أولياء الله، فليس لله وليّ).
لا سيما وقد شهد له بذلك غير واحد من الأئمة، مع ما أعطاه الله من العلم بالعمل، والزهادة والعبادة، ووقوفه مع الكتاب والسنة، لا يميله عنهما أحد كائناً من كان ….
هذا وقد تكلم فيه، وبغى عليه من لا يخاف الله، واستحلَّ الوقوع في عرضه، ونسبه لقبائح هو منها بريء.
وترى كثيراً من الجهلة المهتوكين ينسبونه -بغير علمٍ- لما لا يحل لهم أن ينسبو إليه أعظم الجاهلين. فكيف بمن هو من العلماء الراسخين وأئمة الدين، والذابَّ عن شريعة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-.
__________
(1) - المصدر السابق ص102-103.(2/5)
أترى هذا المفتري لم يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في (حجة الوداع) "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت"(1) ..، وروى أيضاً (مسلم) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل المسلم على المسلم حرامٌ دمه، وعرضه، وماله"(2)، أو ما درى هذا المهتوك بلسانه قول الحافظ (ابن عساكر): "لحوم العلماء مسمومة، وهتك أستار منتقصهم معلومة"، وقوله -أيضاً-: "لحوم العلماء سمٌ من شمها مرِضَ، ومن ذاقها مات". أو ما بلغ هذا المتجرّئ أنه قد جاء النهي عن ذكر مساوئ الأموات …. فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اذكروا محاسن موتاكم وكفُّوا عن مساويهم"(3)…، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا"(4)…، فلا يجوز لمن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر أن يَثْلِمَ عرض أحد من المسلمين بما لا يليق؛ فكيف بأئمة المسلمين وورثة الأنبياء!! فكيف بالأموات منهم!!"(5)؛ ولهذا لا بد للحبشي وأتباعه من الانتهاء عن سب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ووصفه بأقذع الصفات.
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، ح1739، 2/231، صحيح مسلم، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، ح1679، 3/1305-1306.
(2) - صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، ح2564، 4/1966.
(3) - سنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب (34)، ح1019، 3/330، قال أبو عيسى: حديث حسن غريب، سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب النهي عن سب الموتى، ح4900، 4/275.
(4) - صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يُنهى من سب الأموات، ح1393، 2/131، وأيضاً: كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، ح6516، 7/247.
(5) - الكواكب الدرية للكرمي ص233-235.(2/6)
المبحث الثاني: موقف الأحباش من الإمام محمد بن عبد الوهاب(1):
__________
(1) - محمد بن عبد الوهاب: هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن بعضاد بن ديس بن زاخر بن محمد بن علي بن وهيب التميمي النجدي صاحب الدعوة المشهورة، ولد في بلدة (العيينة) في نجد سنة 1115هـ، توفي سنة 1206هـ، وهو داعية إسلامي من زعماء الإصلاح في العصر الحديث فقد تعلم على يد والده القرآن والحديث، وسافر في رحلات متعددة إلى العراق والمدينة ومكة، ألمّ خلالها بكثير من العلوم الشرعية، ونادى الشيخ بإقامة السنة الصحيحة وتعاليم الإسلام في صفائها الأول، وبقى مجاهداً في نصرة الدين الإسلامي حتى توفي، ومن أشهر مصنفاته: كتاب التوحيد، كشف الشبهات، أصول الإيمان، الكبائر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر: الموسوعة العربية العالمية إعداد مؤسسة أعمال الموسوعة 22/366، تاريخ نجد للسيد محمود شكري الآلوسي ص106، تحقيق: محمد بهجة الأثري، الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-، منهاج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة على ضوء الكتاب والسنة، جمع وترتيب: محمد بن جميل زينو ص40-42، الناشر: لجنة التضامن الخيري، الكويت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/7)
يشن الحبشي هجوماً شديداً في كتاباته على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيرى أن تسمية الشيخ محمد بن عبد الوهاب بشيخ الإسلام هو "وضع للكلمة في غير محلها"(1)، ويظهر تحامل الحبشي وحقده على الشيخ ابن عبد الوهاب من خلال قوله: "هو من أهل القرن الثاني عشر الهجري، ظهر بدعوة ممزوجة بأفكار منه، زعم أنها من الكتاب والسنة، وأخذ ببعض بدع تقي الدين أحمد بن تيمية فأحياها، وهي: تحريم التوسل بالنبي، وتحريم السفر لزيارة قبر الرسول وغيره من الأنبياء والصالحين بقصد الدعاء هناك رجاء الإجابة من الله، وتكفير من ينادي بهذا اللفظ: يا رسول الله، ويا محمد، أو يا علي، أو يا عبد القادر أغثني إلا للحي الحاضر …، وعقيدة التجسيم في الله والتحيز في جهة"(2)، بل إن الحبشي يزيد في هجومه وتشنيعه على الشيخ ابن عبد الوهاب حين يصفه بسفك "الدماء ونهب الأموال والتجرؤ على قتل النفوس ولو بالاغتيال، وإكفار الأمة المحمدية في جميع الأقطار"(3)، وبهذا يظهر موقف العداء من قِبل الحبشي للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وينسحب هذا الموقف العدائي على تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيرى الحبشي أن "مشبهة العصر الوهابية"(4)، ومن عباراته التي تبين هذا العداء قوله: "وليحذر من تمويه الوهابية وتلبيسهم"(5)، وقوله: "لو فرضت مناظرة بين المجسم كالوهابي …"(6)، وقوله: "وتبين أن انتسابكم أيها الوهابية إلى السلف دعوى كاذبة"(7)، وهذه الاتهامات من الحبشي للشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه بسبب مخالفة الشيخ وتلاميذه لمعتقدات الحبشي، وموافقة السلف في اعتقادهم، واثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات مع تنزيهه عن مشابهة
__________
(1) - صريح البيان للحبشي ص371.
(2) - المقالات السنية للحبشي ص43.
(3) - المصدر السابق ص48.
(4) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص58، انظر: المطالب الوفية للحبشي ص49.
(5) - صريح البيان للحبشي ص396.
(6) - صريح البيان للحبشي ص397.
(7) - المصدر السابق ص371.(2/8)
المخلوقين، ويدعي الحبشي أن ذلك من "تجسيم الباري، أي إثبات الحد لله تعالى، وإثبات الأعضاء، والحركة، والسكون وكل ذلك عند العقلاء المنزهين تشبيه للخالق بالمخلوق"(1).
ويلاحظ على الحبشي أن الاتهامات التي يكيلها للشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه هي نفسها التي وجهها لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وخاصة أن الحبشي يعتبر أن الشيخ ابن عبد الوهاب هو الذي أحيا فكر ابن تيمية(2)، ظناً من الحبشي أن عقيدة ابن تيمية -رحمه الله- والتي تمثل عقيدة السلف الصالح قد اندثرت وانتهت وهذا كلام معلوم الفساد. وقد تم مناقشة الحبشي في اتهاماته لابن تيمية، وتبين وجه الفساد فيها(3)، وهي الاتهامات نفسها التي يوجهها الحبشي إلى الشيخ ابن عبد الوهاب وأشهرها إنكاره استغاثة الناس بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عند قبره أو عند قبور الصالحين، وإنكاره عليه إثبات الصفات التي توهم التجسيم -حسب اعتقاد الحبشي- كصفة اليد، وصفة العين، وصفة الوجه إلى غير ذلك من الصفات الذاتية لله التي أثبتها سبحانه لنفسه، وهي من صفات الكمال لله تليق بجلاله سبحانه.
__________
(1) - المصدر نفسه ص371.
(2) - انظر: المقالات السنية للحبشي ص43.
(3) - انظر: البحث ص331-346.(2/9)
والحبشي يرفض أن يُسمى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بشيخ الإسلام ويراها كلمة تقال في غير موضعها(1)، ولهذا لا بد من النظر في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكيف كانت نشأته، فمن المعلوم أن الشيخ داعية إسلامي من زعماء الإصلاح في العصر الحديث، وقد نشأ هذا الشيخ وترعرع تحت رعاية أبٍ فياض في العلم، فكان أبوه هو المعلم الأول حيث حفظ القرآن الكريم قبل بلوغه العاشرة على يد والده، ثم قرأ مبادئ الصرف والنحو، وقواعد اللغة العربية، وبعض كتب الفقه والحديث على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وبعض كتب التفسير، واستمر في تعلم العلم الشرعي من منبعه الأصلي الكتاب والسنة، وقام برحلات علمية إلى كل من العراق ، والمدينة، ومكة. وما كاد يبلغ العشرين من عمره حتى ظهرت عليه علامة النجابة بأبهى وأوضح صورها، وتوسعت مداركه، وارتقى تفكيره، وتوقد ذهنه، واشتد ذكاؤه. فأدرك ما كان عليه قومه من الضلال وتفشي البدع، وما كانت عليه بلاده من حالات الفوضى والانحلال، فلم تعجبه الطريقة التي كان يسير عليها علماء نجد من هدوء وسكون على هذه الضلالات والبدع المنتشرة، فعقد العزم على انتهاج منهج السلف الصالح بالدعوة لنبذ البدع، وتطهير ما علق بالإسلام من الأوهام، والخرافات، وإنقاذ المسلمين من الضلال(2)، فجعل الكتاب والسنة مستنده في تلك الدعوة ضد البدع المنتشرة والتي منها ما كان يفعله كثير من الناس في ذلك الوقت، حيث كانوا يحجون إلى القبور، وينسبونها إلى الصحابة الكرام، ويطلبون منها حاجاتهم، ويستغيثون بها لدفع كروبهم -وهذا ما ينادي به الحبشي-، فقد
__________
(1) - انظر: صريح البيان للحبشي ص371.
(2) - انظر: الموسوعة العربية العالمية إعداد مؤسسة الموسوعة 22/366، تاريخ الجزيرة العربية -في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب- لحسين خلف الشيخ خزعل ص55-56، الناشر: دار مكتبة الهلال، بيروت، ط الأولى 1986م، تاريخ نجد للآلوسي ص106-107، منهاج الفرقة الناجية لزينو ص40.(2/10)
كانوا في (الجُبيلة) يؤمّون قبر زيد بن الخطاب، يتضرعون لديه، ويسألونه حاجاتهم، وأغرب من ذلك توسلهم في بلد (المنفوحة) بفحل النخل، واعتقادهم أن من تؤمّه من العوانس تتزوج، فكانت من تقصده تقول: (يا فحل الفحول، أريد زوجاً قبل الحول)، وفي (الدرعية) كان غار يقصدونه، بزعم أنه كان ملجأ لإحدى بنات الأمير التي فرت هاربة من تعذيب بعض الطغاة(1)، وكانت تُؤتى تلك الأماكن ويذبح لها، ويُنذر عندها، حيث أصبح اعتقاد الناس في تلك القبور، والأحجار، والأشجار بأنها تنفع وتضر، فهالت هذه البدع والخرافات الشيخ محمد بن عبد الوهاب فبدأ ينادي بإقامة السنة الصحيحة وتعاليم الإسلام كما جاءت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومناهضة كل ما كان مخالفاً للكتاب والسنة، وأعلن من أجل ذلك جهاداً دينياً لحمل مخالفيه على اتباع الدين الصحيح؛ وقضى بذلك الشيخ حياته مجاهداً في نصرة الدين الإسلامي حتى توفاه الله(2).
__________
(1) - انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب -عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه- للشيخ أحمد بن حجر آل أبو طامي آل بن علي ص18-19، الناشر: مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، ط 1395هـ، منهاج الفرقة الناجية لزينو ص40.
(2) - انظر: الموسوعة العربية العالمية إعداد مؤسسة الموسوعة 22/366، الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر لآل أبو طامي ص21.(2/11)
وأما عن علم الشيخ وصفاته فقد كان علماً من الأعلام، ناصراً للسنة وقامعاً للبدعة خبيراً مطلعاً، إماماً في التفسير، والحديث، والفقه وأصوله، وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان، عارفاً بأصول عقائد الإسلام وفروعها، فصيح اللسان، قوي الحجة، لديه مقدرة على إبراز الأدلة لمخالفيه، وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأبينها، تظهر عليه علامات الصلاح وحسن السيرة، وصفاء السيرة، يحب العبّاد ويغدق عليهم من كرمه ويصلهم ببره وإحسانه، ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة، كان صبوراً عاقلاً، حليماً، لا يستفزه الغضب إلا أن تنتهك حرمة الدين أو تهان شعائر المسلمين، فحينئذ يناضل بسيفه ولسانه، معظماً للعلماء، منوهاً بما لهم من الفضائل، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، غير صبور على البدع، ينكر على فاعليها بلين ورفق، متجنباً الشدة والغضب والعنف، إلا أن تدعو إليه الحاجة(1).
ومما سبق بيانه يتبين مدى علم الرجل وجهاده من أجل نصرة مذهب السلف الصالح، ومحاربته لأهل البدع والزيغ، ومدى تأثير حركته الإصلاحية في نقاء العقيدة لدى الناس، وبهذا يظهر فضل الرجل ومكانته وأنه من العلماء العاملين -رحمه الله-.
__________
(1) - انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص28-29، تاريخ الجزيرة العربية لخزعل ص333-337.(2/12)
وأما زعم الحبشي بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ظهر بدعوة ممزوجة بأفكار من عنده وهي ليست نابعة من الكتاب والسنة، وأن انتماءه للسلف دعوى كاذبة(1)، كلام مردود على الحبشي، لأن عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب "كعقيدة السلف الصالح، على ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، والتابعون، والأئمة المهتدون: كأبي حنيفة ومالك والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن المبارك، والبخاري، ومسلم، وأبي داود وسائر أهل السنن وأمثالهم ممن تبعهم من أهل الفقه والأثر كالأشعري، وابن خزيمة، وتقي الدين بن تيمية، وابن القيم، والذهبي -رحمهم الله-.
يعتقد أن الله واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له ولا مثيل، ولا وزير له ولا مشير؛ لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؛ عالم بكل شيء ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، بل هو الفعال لما يريد، ويثبت جميع صفات الله العليا، وأسماءه الحسنى، كما نطق الكتاب، وجاءت به السنة الصحيحة، يؤمن بها، ويُمرُّها كما جاءت من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه.
توحيد العبادة والربوبية -حيث- يعتقد بأن الله هو الحي القادر الخالق، الرازق، المحيي، المميت؛ يؤمن بأن يفرد ربنا بالعبادة، ولا يشرك به أحد لا مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل.
ويبرأ من عبادة ما سواه كائناً ما كان، وهذا هي الحكمة التي خلق الله لأجلها الجن، والإنس، وأرسلت لها الرسل الرسل، وأنزلت بها الكتب، ويعتقد أن من يخالف في ذلك قد وقع في الشرك، والضلال، والكفر بالله.
__________
(1) - انظر: المقالات السنية للحبشي ص43، صريح البيان للحبشي ص371.(2/13)
الإيمان بالرسل والأنبياء، والملائكة، والكتب، واليوم الآخر -حيث- يؤمن بجميع أنبياء الله ورسله، لا يفرق بين أحد منهم، ويعتقد أن محمداً أفضلهم، أرسله الله بالآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة، وكرمه بطهارة الأعراق، وحباه محاسن الأخلاق، فمن اتبعه صار من المفلحين، ومن عصاه صار من الأشقياء الخاسرين.
ويؤمن باليوم الآخر، وبالبعث بعد الموت، وحساب الله للعباد، وبالميزان، والصراط، والجنة والنار ….
يؤمن بالقدر خيره وشره، ويبرأ مما قالته القدرية النفاة، والمجبرة والمرجئة ويوالي جميع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته الطاهرين، ويكف عما شجر بينهم؛ ويعتقد بأفضلية أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم(1).
__________
(1) - انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص31-33.(2/14)
وهذا المعتقد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ظهر جلياً في مصنفاته،ومن النقول التي تدلل على اتباع الشيخ لمذهب السلف وعدم تجاوزه لغيره،ما ذكره الشيخ في(كشف الشبهات)قوله: "اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة،وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده"(1)،ويبين مقصود التوحيد الذي دعت إليه الرسل من خلال بيان معنى التوحيد عند المشركين فيقول:"وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام،وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحلَّ دماءهم وأموالهم عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى الإقرار به المشركون،وهذا التوحيد هو معنى قولك:لا إله إلا الله فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً،أو نبياً،أو ولياً،أو شجرة،أو قبراً،أو حنيّاً.لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده …، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد فأتاهم النبي-صلى الله عليه وسلم-يدعوهم إلى كلمة التوحيد(لا إله إلا الله)والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها …"(2).
__________
(1) - كشف الشبهات في التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص4، بدون ناشر أو رقم طبعة أو تاريخ نشر.
(2) - المصدر السابق ص6.(2/15)
ويبين الشيخ ابن عبد الوهاب ما يجب تعلمه من مسائل الاعتقاد، فيقول: "يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه الثلاث المسائل والعمل بهن (الأولى) أن الله خلقنا، ورزقنا، ولم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار … (الثانية) أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد، ولا ملك مقرب، ولا نبي مرسل … (الثالثة) أن من أطاع الرسول، ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب"(1).
ويبين الشيخ ابن عبد الوهاب من عادات المشركين في الجاهلية "أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله تعالى وعبادته، ويرون ذلك من تعظيم الصالحين الذي يحبه الله"(2)، وبهذا الكلام يُعَرْض بمن يستغيث بالأموات، أو ما شابهها من بدع انتشرت في عصره.
وتحت عنوان (الغلو في الصالحين) يقول الشيخ: "حتى نرى غالب الناس اليوم معرضين عن الله، وعن دينه الذي ارتضاه، متوغلين في البدع، تائهين في أودية الضلال، معادين للكتاب والسنة ومن قام بهما"(3)، وهذه النقول تبطل دعوى الحبشي مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمذهب السلف، وأنه جاء بأفكار ممزوجة من عنده.
__________
(1) - الأصول الثلاثة وأدلتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص6-7، الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق، بدون رقم طبعة، 1387هـ-1967م.
(2) - مسائل الجاهلية -التي خالف فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص4-5، الناشر: مؤسسة مكة للطباعة والنشر، السعودية، بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر.
(3) - مسائل الجاهلية لابن عبد الوهاب ص26.(2/16)
وأما ادعاء الحبشي بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يسفك الدماء، وينهب الأموال، ويكفر الأمة(1)، يُرد عليه بما ذكره حسين خزعل في كتابه (تاريخ الجزيرة العربية) ببيان الأوضاع التي تغيرت عند وصول الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى (الدرعية) حيث أبطل الأسلوب العشائري في حل المنازعات وأبدله بنظام مدني على أساس القرآن، وأبطل جباية الأموال من الناس وقام بإرجاعها إلى الطريقة الشرعية، وأبطل أسلوب القوة في حسم الخلافات التي تقوم بين الناس، ويعبر عن ذلك بقوله: "تغيرت الأوضاع في نجد بعد هجرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية تغييراً كاملاً وأهمها ما يأتي:
أولاً: أبطل الأسلوب العشائري الذي كان يحكم به الناس، وحلَّ محله حكم نظامي مدني دستوره القرآن وقانونه الشريعة المحمدية؛ وقد أحل الجهاد الديني محل الغارات العشائرية القديمة التي كان يقصد منها مجرد السلب والنهب والعدوان.
وكانت تبعث السرايا للجهاد، ويتم تجهيزها وتدريبها على استعمال الأسلحة النارية الحديثة بإشراف الشيخ نفسه.
ثانياً: أبطل جباية الأموال من الناس عن غير الطرق الشرعية كالإخاة (القانون) والمكس، وكان الناس يسمون رجال الأمراء الذين يأخذون منهم الأموال: مكاساً وعشاراً. ووضع محلها الزكاة، والغنائم ونحوها من المواد التي أحلها الله فصار الأمراء يرسلون الجباة لقبض الزكاة وخرص الثمار.
ثالثاً: أبطل أسلوب القوة في حسم الخلافات التي تقوم بين الناس، وكان القول فيها دائماً للقوي، يأخذ ما أراد، وأما الضعيف فلا يجد من يشكو إليه ليرد حقه، وأحل محله حكماً عادلاً يتولاه قضاة مشهورون بالعدل والتمسك بالدين، يفصلون الخصومات التي تقع بين الناس، فعّمت الجمهور نعمة الأمن والعدل والاستقرار"(2).
__________
(1) - انظر: المقالات السنية للحبشي ص48.
(2) - تاريخ الجزيرة العربية لخزعل ص338-339.(2/17)
وعن دعوى الحبشي أن ابن عبد الوهاب -رحمه الله- يقوم بتكفير الأمة المحمدية، أمر غير صحيح، حيث يرد على هذا الادعاء أحد حفدة الشيخ ابن عبد الوهاب ويبين أن مثل هذا الادعاء من قبل خصومهم كذب وبهتان؛ فيرد الشيخ (عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب) على سؤالٍ لشيخٍ عراقي اسمه (داود بن سليمان جرجيس) ومفاده بأن أهل نجد يكفرون المسلمين وعباد الله الصالحين واعتقاد ضلالهم، وبالتالي إباحة قتالهم، فيقول الشيخ النجدي: "أيها العراقي ليس الأمر كما علمت أنت وأمثالك، بل أنتم في لبس مما نحن عليه … فأقول: أركان الإسلام خمسة: أولها الشهادتان. ثم الأركان الأربعة، فالأربعة إذا أقرّ بها أحد وتركها تهاوناً فنحن -وإن قاتلناه على فعلها- فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود. ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان. وأيضاً نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر، فنقول أعداؤنا معنا على أنواع:
النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهره للناس، وأقر أيضاً أن هذه الاعتقادات في حجر أو شجر الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه، ولا دخل فيه، لا ترك الشرك؛ فهذا كافر نقاتله بكفره لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه وعرف دين الشرك فلم يتركه مع أنه لا يبغض دين الرسول ولا من دخل فيه ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس.(2/18)
النوع الثاني: من عرف ذلك كله ولكنه تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد غير الله وغالى في أوليائه وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك؛ فهذا أعظم من الأول وفيه قوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [البقرة:89]، وهو ممن قال الله فيه: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ } [التوبة:12].
النوع الثالث: من عرف التوحيد واتبعه وعرف الشرك وتركه ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقى على الشرك فهذا أيضاً كافر فيه قول الله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [محمد:9].
النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد، واتباع أهل الشرك وساعون في قتالهم ويتعذر عليه ترك وطنه ويشق عليه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بماله ونفسه فهذا أيضاً كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان: ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل، ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ترك إلا بمخالفتهم فعل ….
هؤلاء الذين نكفرهم لا غير! وأما القول بأنا نكفر الناس عموماً، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل ومثل هذا وأضعاف أضعافه؛ فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذ لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل، سبحانك هذا بهتان عظيم"(1) وبهذا الكلام يظهر بطلان إدعاء الحبشي.
__________
(1) - تاريخ نجد للآلوسي ص50-52؛ انظر : الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص60-63.(2/19)
واتهامات الحبشي للشيخ محمد بن عبد الوهاب قديمة حديثة، حيث أشاعها أعداؤه عليه وعلى دعوته التي نادى بها، فما كان من ابنه عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب إلا أن كتب رسالة بعد دخول الإمام سعود -رحمه الله- مكة المكرمة سنة 1218هـ، بيّن فيها لمن سأله عما يعتقدونه ويدينون الله به، فمما جاء في هذه الرسالة: "… ومما نحن عليه، أنا لا نرى سَبْىَ العرب، ولن نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان.
وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق أفهامنا، من دون مراجعة شرح، ولا معوّل على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بقولنا: "النبي رمة في القبر، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله، حتى نزل عليه { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد:19]، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف مؤلفات أهل المذاهب، لكونها فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفّر الناس على الإطلاق أهل زماننا ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله. وأنا ننهى عن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون … فلا وجه لذلك.(2/20)
فجميع هذه الخرافات وأشباهها، لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً: كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور:16]، فمن عنى شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى. ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعاً، أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه، أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس من الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48]"(1).
وأما ما يطلقه الحبشي من لفظ (الوهابيين) على تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فيرى تلاميذ الشيخ أن ذلك من باب التنابز بالألقاب المنهي عنه، وأن هذا اللقب من دعايات الأتراك والأشراف في ذلك الوقت لتنفير الناس من دعوة الشيخ، وجعل هذا اللقب على هذه الفرقة كعنوان لخروج هذه الفرقة عن المذاهب، وعدم اتباعها النبي والصالحين(2).
ومن جهة أخرى يرى تلاميذ الشيخ ابن عبد الوهاب، أن أعداء التوحيد أطلقوا هذا اللفظ على الموحد نسبة إلى (محمد بن عبد الوهاب) وهذه نسبة خاطئة وهي على غير القياس العربي، والصحيح أن يقال (المحمدية) إذ أن اسم صاحب هذه الدعوة والقائم بها هو الشيخ محمد، لا أبوه عبد الوهاب، ومع ذلك فإن لفظة (وهابي) نسبة إلى (الوهاب) أو هو اسم من أسماء الله، فهي كقول القائل: (رباني) نسبة إلى الرب(3).
__________
(1) - الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص57-58.
(2) - انظر: المصدر السابق ص50.
(3) - انظر: منهاج الفرقة الناجية لزينو ص39، الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص50، تاريخ نجد للآلوسي ص106.(2/21)
وفي خاتمة هذا المبحث أختم بثناء العلماء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الداعية الإسلامي الذي سخر نفسه لخدمة هذا الدين، وبيان زيف المعتقدات التي انتشرت في عصره وظهور البدع والخرافات حتى ظنها كثيرٌ من الناس في ذلك الوقت أنها دين الله، فجلى الحقيقة وبينها، ورفع راية التوحيد، وجعل شعاره الكتاب والسنة؛ ومما قاله فيه العلماء:
قال الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني قصيدة، عندما بلغته دعوة الشيخ وثورته على البدع والخرافات، وقيامه بالدين الصحيح، والسنة المطهرة وإرشاد الناس إلى أن يتمسكوا بالكتاب والسنة؛ ومن هذه الأبيات:
سلامي على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي
وقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد
سرت أسير بنشد الريح إن سرت ... ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي(1)
وقد رثى الشيخ العلامة محمد بن علي الشوكاني مؤلف (نيل الأوطار) الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومما قاله فيه:
لقد مات طود العلم قطب رحى العلا ... ومركز أدوار الفحول الأفاضل
وماتت علوم الدين طراً بموته ... وغيب وجه الحق تحت الجنادل
إمام الهدى ماحي الردى قامع العدا ... ومروى للصدى من فيض علم ونائل
إمام الورى علامة العصر قدوتي ... وشيخ الشيوخ الجد فرد الفضائل
(محمد) ذو المجد الذي عز دركه ... وجل مقاماً عن لحوق المطاول
إلى عابد الوهاب يعزى وإنه ... سلالة إنجاب زكى الخصائل
عليه من الرحمن أعظم رحمة ... تبل ثراه بالضحى والأصائل
لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل
ومن شأنه قمع الضلال ونصره ... لمن كان مظلوماً وليس بخاذل
وكم كان في الدين الحنيف مجاهداً ... بماضي سنان دامغ للأباطل
__________
(1) - الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص80-81.(2/22)
وكم ذب عن سامي حماه وذاد من ... مضل وبدعيَّ ومعفو نائل
ففيم استباح أهل الضلال لعرضه ... وكم نكست أعلامه الأراذل
فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزاً ... ولا اشتد للإسلام ركن المعاقل(1)
وقال العلامة السيد محمود شكري الآلوسي في حق الإمام محمد بن عبد الوهاب: "دعا الناس إلى ترك ما كانوا عليه من البدع والأهواء، ونصر السنة، وأمر باتباعها"(2).
ويتحدث الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار الحسنة المحمدية من علماء الأزهر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه بقوله: "وإنهم الحنابلة متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه ككل أتباع المذاهب الأخرى، فهم لا يدّعون، لا بالقول، ولا بالكتابة أن الشيخ ابن عبد الوهاب أتى بمذهب جديد، ولا أخترع علماً غير ما كان عند السلف الصالح، وإنما كان عمله وجهاده لإحياء العمل بالدين الصحيح، وإرجاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الإلهية والعبادة لله وحده ذلاً، وخضوعاً، ودعاءً، ونذراً وحلناً، وتوكلاً، وطاعة لشرائعه.
وفي توحيد الأسماء والصفات، فيؤمن بآياتها كما وردت، لا يحرف، ولا يؤول، ولا يشبه، ولا يمثل، على ما ورد في لفظ القرآن العربي المبين، وما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما كان عليه الصحابة وتابعوهم والأئمة المهتدون، من السلف والخلف رضوان الله عليهم ،وفي كل ذلك وأن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
لا يتم على وجهه الصحيح"(3).
__________
(1) - المصدر السابق ص83-84.
(2) - تاريخ نجد للآلوسي ص106.
(3) - الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص90.(2/23)
ويظهر رأي الأستاذ الإمام محمد عبده في الشيخ ابن عبد الوهاب من خلال ما ينقله الشيخ حافظ وهبة في كتابه (50 عاماً في جزيرة العرب) وهو يتحدث عن طلبة العلم في الأزهر أنه سمع الأستاذ محمد عبده يثني على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويطلق عليه لقب (المصلح العظيم)، ويبين الأستاذ الإمام سبب وقف الدعوة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الأتراك وعلى محمد علي الألباني ومن دار في فلكهم من علماء أيدوا البدع والخرافات ومجافاة حقائق الإسلام(1).
ويبين الشيخ محمد رشيد رضا فضل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: "لم يخل قرن من القرون التي كثر فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث؛ ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، من هؤلاء العدول المجددين قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة"(2).
ويتحدث الزركلي في الأعلام عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: انتقل إلى العيينة، ناهجاً منهج السلف الصالح، وداعياً إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع، وتحطيم ما عَلق بالإسلام من الأوهام، وكانت دعوته الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله تأثر بها رجال الإصلاح في الهند، ومصر، والعراق، والشام وغيرها(3).
__________
(1) - انظر: المصدر السابق ص118.
(2) - المصدر نفسه ص92.
(3) - الأعلام للزركلي 6/257 بتصرف.(2/24)
ويذكر ستودارد الأمريكي مؤلف (حاضر العالم الإسلامي) الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقوله: "وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت يدوي من قلب صحراء شبه الجزيرة مهد الإسلام، يوقظ المؤمنين. ويدعوهم إلى الإصلاح، والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم. فكان الصارخ في هذا الصوت إنما هو المصلح المشهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي أشعل نار الوهابية، فاشتعلت واتقدت، واندلعت ألسنتها إلى كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي القديم،والعز التليد؛ تبدت تباشير صبح الإصلاح، ثم بدأت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام"(1).
وقال الدكتور داك برت المؤرخ الألماني في كتابه(عبد العزيز)وقد صدر في ألمانيا سنة 1953م،ونقله إلى العربية الدكتور أمين رويحة عن الشيخ ابن عبد الوهاب:"ورأى الشيخ أن سبب الإنقاذ هو الرجوع إلى تعاليم الدين المشروعة،إلى تعاليم الرسول الصحيحة، فراح يبشر بوحي من ضميره وعقيدته بمحاربة البدع التي أدخلت على الإسلام عبر العصور الغابرة،والضال المضل من تقارير علماء الدين غير مقيم وزناً إلا لما نص عليه القرآن صراحة أو لما يمكن نسبته بصورة قاطعة للنبي محمد-صلى الله عليه وسلم- وراح يحارب بكل قواه المستمدة من عقيدته الصلبة تقديس الأولياء، وجعلهم واسطة بين الله وبين الناس،وينادي بهدم الأضرحة، ومزارات الأولياء، وإزالة معالمها، إقتداءً بالنبي الكريم، الذي حارب بدعة تقديس الهياكل، وعبادة الأصنام الموروثة من الجاهلية"(2).
__________
(1) - الشيخ محمد بن عبد الوهاب لابن حجر آل أبو طامي ص105.
(2) - المصدر السابق ص116.(2/25)
ويذكر العلامة سنت جون فيلبي صاحب كتاب (تاريخ نجد) بعض الصفات التي تخلق بها الشيخ ابن عبد الوهاب فيقول: "ولا بد أنه كان شخصية فذة"(1)، ثم يتحدث عن شجاعة الشيخ في ثورته على البدع والخرافات التي كانت منتشرة في وقته فيقول: "ولكن محمد بن عبد الوهاب، لم يكن ليعتقد بهذا .. لقد أخجله ما عرفه في معاصريه من مخازي واستهتار أحدثا في نفسه أعمق الجروح، ومتحلياً بالشجاعة التي توارثها عن أسلافه، كان على استعداد تام لأن يثور على عالمه في سبيل قضية عظمى في نظره، متجاوزاً في سبيلها جميع الاعتبارات الأخرى: كالسلام، والرفاهية، والشعبية، وما أشبه ذلك"(2).
وبعد هذا العرض يتبين فساد ما ذهب إليه الحبشي في حق الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإنما الذي جعل الحبشي ينحى هذا المنحى هو التعصب المذهبي ومخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمعتقدات الحبشي ومسايرته لمذهب السلف الصالح وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
__________
(1) - تاريخ نجد -ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب- تأليف: سنت جون فيلبي ص52، تعريب: عمر الديسراوي، الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة، ط الأولى 1414هـ-1994م.
(2) - المرجع السابق ص54.(2/26)
المبحث الثالث: موقفهم من الأستاذ الشهيد: سيد قطب(1):
__________
(1) - سيد قطب: هو سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي، أديب، ومفكر إسلامي مصري، وناقد، ومربٍ، ولد في قرية (موشة) وهي إحدى قرى محافظة أسيوط في صعيد مصر سنة 1906م، والتحق سيد قطب رحمه الله بكلية دار العلوم عام 1929م، ودرس فيها أربع سنوات، وتخرج فيها عام 1933م حاملاً شهادة الإجازة العالية -الليسانس- في اللغة العربية وآدابها؛ انتظم في شبابه مع حزب الوفد حتى عام 1942م، ثم انتظم في (جماعة الإخوان المسلمين) فعلياً عام 1953م، وأمضى بقية عمره فيها، أعتقل عدة مرات وكان آخرها عام 1965م بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم، وكان يعتبر في تلك الفترة الموجه الحركي للجماعة؛ وحكم عليه بالإعدام، ونفذ يوم الاثنين 29/8/1966م، ترك مصنفات عديدة أشهرها: تفسير في ظلال القرآن، معالم في الطريق، التصوير الفني في القرآن وغيرها. انظر:الموسوعة العربية العالمية إعداد مؤسسة الموسوعة13/370،مجلة هدى الإسلام ص55-58،العدد الرابع،السنة الحادية عشرة،رجب-شعبان 1413هـ،سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد د.صلاح عبد الفتاح الخالدي ص15-17،الناشر:دار القلم،دمشق،الدار الشامية،بيروت،ط الأولى 1411هـ-1991م،سيد قطب من الأديب الناقد،والداعية المجاهد،والمفكر المفسر الرائد-لصلاح عبد الفتاح الخالدي ص49-64،الناشر:دار القلم، دمشق، ط الأولى 1421هـ-2000م، الأعلام للزركلي 3/147-148.(2/27)
يوجه الحبشي مجموعة من الاتهامات للأستاذ الشهيد سيد قطب -رحمه الله-، ومنها أنه يقتدي بكلام بعض الملاحدة ثم يرميه بعد ذلك بالكفر بطريق غير مباشر، حيث يقول: "وكذلك لا يجوز تسميته سبحانه بالقوة كما فعل سيد، وكأنه اقتدى بكلام بعض الملاحدة الذين يقولون: (إن للعالم قوة مدبرة)، ويعنون أن الله هو هذه القوة، ولعلّ هذا مما اكتسبه منهم حين كان مع الشيوعية إحدى عشرة سنة … وكذلك تسمية قطب لله بالعقل المدبر، لأن العقل صفة من صفات البشر، والجن، والملائكة، وهذه التسمية تدخل تحت قول الإمام أبي جعفر الطحاوي في كتابه الذي ألفه لبيان ما عليه أهل السنة: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر)"(1)، وفي المعنى نفسه يقول الحبشي في المطالب الوفية: "فإطلاق سيد قطب (الريشة المبدعة) و (القوة الخالقة) على الله ممنوع بالاتفاق لأنه ليس وصفاً، فالريشة اسم من أسماء الأعيان، والقوة صفة وليست لفظاً من ألفاظ الوصف"(2).
والأحباش لا يكتفون بتكفير الأستاذ الشهيد سيد قطب -رحمه الله- بل يقومون بالتحذير من كتاباته، واعتباره من المتطرفين، فيقول عدنان طرابلسي -أحد تلاميذ الحبشي- في بيان خطر كتابات سيد قطب -رحمه الله- ليْحذَر الناس منها: "مثل كتب سيد قطب، وابن تيمية وغيرهما من المتطرفين، وعلى هذا ساهمت هذه الكتب مع اللقاءات، والندوات في تكريس أعمال العنف"(3).
ويعتبر الأحباش أن الأستاذ الشهيد سيد قطب -رحمه الله- من رموز الإرهاب والتطرف في هذا العصر، فيقولون: "سيد قطب وأمثاله هم رموز التطرف والإرهاب في هذا العصر"(4).
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص151.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص42.
(3) - مجلة منار الهدى ص14، العدد 9، محرم 1414هـ.
(4) - نصيحة لعامة المسلمين -القرضاوي في ميزان الشريعة- شبكة المعلومات (www.aicp.de)(2/28)
وتتمحور اتهامات الحبشي للأستاذ الشهيد سيد قطب في أنه قلد الفلاسفة واستخدم ألفاظاً في حق الله لم ترد في الشرع كتسمية الله بالقوة، وبالعقل الفعال، والريشة المبدعة، وهذه المعاني تطلق على المخلوقات، وبالتالي من يصف الله بمعنى من معاني المخلوقات فهو كافر(1)، والنتيجة تكفير سيد قطب -رحمه الله-.
ولا شك أن هذا تسرع في إطلاق الأحكام على دعاة المسلمين وعلمائهم، والبحث عن سقطات العلماء -إن وجدت أصلاً- وإطلاق ألفاظ التكفير، وذلك من خلال الاستدلال بنصوص علماء السلف في غير موضعها حيث إن الحبشي يستند فيما سبق إلى قول الإمام الطحاوي: في أن من يصف الله بمعنى من معاني البشر فإنه يكفر(2)، وهذا الاستدلال من قِبل الحبشي في غير موضعه وذلك للتالي:
أن الإمام الطحاوي قال ذلك القول تعقيباً على من شبه كلام الله بكلام البشر فيقول: "وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية؛ فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر …"(3).
__________
(1) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص151، المطالب الوفية للحبشي ص42.
(2) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص151.
(3) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص168 -المتن-.(2/29)
الألفاظ التي أوردها الحبشي والتي من خلالها كَفّر الأستاذ سيد قطب بمعانٍ متوهمة من عنده؛ لم يثبت عن الأستاذ الشهيد اعتقاده فيها، بل إن اعتقاده قد استقاه من النبع الصافي الكتاب والسنة، وإليه يدعو المسلمين؛ ومن خلال استقراء مصدر القوة لدى الجيل القرآني الفريد أي الصحابة الكرام فيقول: "إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهديه العملي، وسيرته الكريمة، كلها بين أيدينا كذلك، كما كانت بين أيدي ذلك الجيل الأول، الذي لم يتكرر في التاريخ"(1)، ويُجلى القول في حقيقة مصدر فكره من خلال بيان معنى العبودية فيقول: "العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة: أن لا إله إلا الله، والتلقي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كيفية العبودية- هو شطرها الثاني، المتمثل في شهادة أن محمداً رسول الله"(2)، ومن كان هذا شأنه كيف يمكن أن يقول بألفاظ مخالفة لمنهج الله!.
يُسأل الحبشي عن مدى صحة هذه الألفاظ مع معانيها الفاسدة التي نسبها للأستاذ الشهيد سيد قطب، فلا يجوز أن يقتطع كلمة من نص متكامل، ثم يفسره حسب مراده، فعلى سبيل المثال: ينسب الحبشي لسيد قطب -رحمه الله- أنه قال في حق الله (الريشة المبدعة) و (القوة الخالقة)(3)، وهذا مخالف لما قاله سيد قطب -رحمه الله- والحبشي حَرّف كلامه، فيقول سيد -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا } [آل عمران:103]: "وهكذا: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ } [آل عمران:103]، موشكين على الوقوع تكاد أقدامكم تزل فتهوون.
__________
(1) - معالم في الطريق لسيد قطب ص11، الناشر: دار الشروق، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - معالم في الطريق لسيد قطب ص83.
(3) - انظر: المطالب الوفية للحبشي ص42.(2/30)
وليس المهم لدينا في هذا المجال دقة التشبيه وصدقه. إنما المهم أولاً هو هذه الصورة القلقة المتحركة الموشكة في الخيال على الزوال. ولو استطاعت ريشة مصور بالألوان أن تبرز هذه الحركة المتخيلة في صورة صامتة لكانت براعة تحسب في عالم التصوير، والمصور يملك الريشة واللوحة والألوان، وهنا ألفاظ فحسب يصور بها القرآن"(1)، وقال في موضع آخر: "ونحن نستعرض هنا بعض هذه النماذج استعراضاً سريعاً على طريقة عرضها في القرآن، وقد أسلفنا بعضاً منها في فصل التصوير الفني، ومكانها كان في الواقع هناك فما هي إلا لمسات الريشة الخالقة في التصوير، ولكنها لا تمت إلى النماذج القصصية بسبب"(2)، وهذه النصوص الواردة التي فيها لفظ (الريشة) وليس فيها ما يدل على أن سيد قطب -رحمه الله- سمى الله بها، ولكنه أديب يظهر أسلوبه الأدبي البياني في كتاباته، ومن لمحاته الأدبية ما ذكره هنا وبالتالي "فإن ما أشاعه الحبشي على سيد قطب -رحمه الله- بأنه وصف الله تعالى بالريشة دعوى مكذوبة باطلة لا نصيب لها من الصحة، إن سيد قطب بحسه المرهف، وأسلوبه البليغ يرسم بخاطره الأدبي، وذوقه الفني، وحسه القرآني عظمة التصوير القرآني الذي يرسم حالة العرب قبل الإسلام، وكيف أنقذهم الله تعالى من الهلاك والضياع، فكأن حالهم حال قوم على شفا حفرة من النار موشكين على الوقوع فيها، ولو استطاعت ريشة مصور فنان مبدع يستعمل الألوان أن تبرز هذه الحركة المتخيلة في صورة صامتة لكانت براعة تحسب في عالم التصوير.
__________
(1) - التصوير الفني في القرآن سيد قطب ص37 -بدون ناشر أو رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - المصدر السابق ص165.(2/31)
لكن القرآن الكريم يستعمل الألفاظ (لا الألوان) التي يفوق تصويرها تصوير أي فنان مهما بلغت إجادته وبراعته. إن أي طالب علم يملك قدراً من علوم البلاغة والذوق الأدبي لا يفهم البتة مما قاله سيد قطب أن الله تعالى موصوف بالريشة في هذا الكلام، ومع كل هذا فإن أئمة الدين يقولون: لا يجوز لنا أن نحكم على مسلم بكلمة قالها، أو نقلت عنه، أو كتبها أوجدت شبهة، إلا بعد الرجوع إليه لمعرفة مقصده فيما قال.
فكيف حكم الحبشي على سيد قطب بالكفر، مع أن الكلام لا يحتمل شبهة يعتمد عليها في التكفير؟"(1)، وفي المعنى نفسه يتحدث الشيخ أبو طلال القاسمي عن هذا الادعاء للحبشي، يقول: "إن الشيخ سيد قطب رحمه الله قال: (الريشة المبدعة) وهو رحمه الله كان أديباً، وقد اقتبس هذه اللفظة من قوله تعالى: { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر:64]"(2)، وهذا نفسه ينسحب على ادعاء الحبشي بأن سيد قطب -رحمه الله- سمى الله بالقوة، أو العقل المدبر(3)، حيث إن صح أنه أطلق هذه المسميات على الله يُسأل هل أردت بها إطلاقات الفلاسفة؟ والإجابة دون ريب بالسلب، لأن الأستاذ الشهيد سيد قطب أوعى من أن ينزلق في مثل هذا المزلق العقائدي، مع عدم ادعاء العصمة له فيما يقوله؛ ويعبر الدكتور الخالدي عن هذا المعنى بقوله: "يقرأ أحد هؤلاء عبارة لسيد قطب، ولا يكلف نفسه أن يجمع معها مثيلاتها، وإنما يحّملها ما ليس فيها، ويستخرج منها ما لم يقل سيد فيها، وينسب لسيد رأياً لم يقله، ويُلزمه بأشياء لم تلزمه، وذلك بسبب تطبيق (مفهوم المخالفة) على تلك العبارة"(4).
__________
(1) - المقالات السنية في كشف ضلالات الفرقة الحبشية لعبد العزيز بن صهيب ص217-218.
(2) - إقامة الحجة على الحبشي لأبي طلال القاسمي ص22، الناشر: شبكة المعلومات (asunnah.com/gr/ahbash1.html)
(3) - انظر: الشرح القويم للحبشي ص152.
(4) - سيد قطب الناقد د. الخالدي ص583.(2/32)
ويعلل الحبشي هجومه على الشهيد سيد قطب بأنه سمى الله بأسماء لم ترد في الشرع، فيقال للحبشي:هذا الأمر الذي هاجمت غيرك من أجله قد وقعت فيه،وذلك عندما أجزت أن يطلق على الله اسم الطاهر مع اعترافك الضمني أنه لم يرد في الشرع فيقول الحبشي:"أما إذا قلنا يا طاهر على الله فيجوز،لأن معناه المنزه عن النقائص"(1)،وبالتالي يظهر أن الحبشي لا توجد لديه منهجية ثابتة سوى اتباع الهوى في إطلاق أحكامه المتسرعة ضد خصومه.
وأما عن غمز الحبشي للشهيد سيد قطب -رحمه الله- بانتمائه للشيوعية إحدى عشرة سنة، فيقال له: أن الأعمال بخواتيمها كما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوله: "إنما الأعمال بخواتيمها"(2)، والأستاذ سيد -رحمه الله- لقي الله شهيداً من أجل كلمة لا إله إلا الله حيث أُعدم من أجل قول كلمة الحق، مفضلاً لقاء الله سبحانه وتعالى، على البقاء في هذه الدنيا صامتاً لا يحرك ساكناً في وجه الظلم.
بل إن الشهيد سيد قطب -رحمه الله- رويت عنه كلمات تدل على استعلائه على الضغوط وقوة إيمانه، فلما سمع الحكم عليه بالإعدام، قال: "الحمد لله؛ لقد عملت خمسة عشر عاماً لنيل الشهادة"(3).
__________
(1) - المرجع السابق ص150.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم وما يُخاف منها، ح6493، 7/240.
(3) - سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد د. الخالدي ص473.(2/33)
ومن المساومات التي واجهها سيد قطب -رحمه الله- مقابل التراجع عن إعدامه، أرسلت إليه الطغمة الحاكمة أخته (حميدة) لتقنعه بالاعتذار عما كتبه وقاله، مقابل إطلاق سراحه، قال: "لن أعتذر عن العمل مع الله"(1)، ويتجلى هذا الاستعلاء بأوضح أشكاله ضد قوى الظلم والتكبر المتمثلة في السلطة الحاكمة عندما طُلب منه كتابة كلمات يسترحم عبد الناصر فقال: "إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفاً يقرُّ به حكم طاغية"(2)، وقال رداً على ذلك الطلب: "لماذا أسترحم؟ إن سجنتُ بحق فأنا أقبلُ حكمَ الحق! وإن سجنتُ بباطل فأنا أكبر من أسترحم الباطل!!!"(3)، وبعد هذا هل يتبقى مكان للغمز على الشهيد سيد قطب -رحمه الله-؟!!.
وأما عن تحذير الأحباش للمسلمين من كتابات سيد قطب -رحمه الله-، واعتباره رمزاً من رموز التطرف في هذا العصر(4)، لا بد من استقصاء كتب سيد قطب الإسلامية، حيث يمكن تقسيمها إلى خمسة أقسام:
القسم الأول:كتبه القرآنية الجمالية، التي حلل فيها-رحمه الله-التعبير القرآني تحليلاً فنياً بيانياً جمالياً،ويمثل هذا الفن كتابه(التصوير الفني في القرآن) و(مشاهد القيامة في القرآن).
القسم الثاني: كتبه الفكرية الإسلامية التي ألفها قبل خوضه مرحلة الاعتقال عام 1954م والتي بدأها بكتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام). وهي أربعة كتب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، ومعركة الإسلام والرأسمالية، والسلام العالمي والإسلام، ودراسات إسلامية.
__________
(1) - المرجع السابق ص474.
(2) - المرجع نفسه ص474.
(3) - المرجع نفسه ص474.
(4) - انظر: مجلة منار الهدى ص14، عدد 9 محرم 1414هـ، نصيحة لعامة المسلمين شبكة المعلومات (www.aicp.de)(2/34)
القسم الثالث: الكتب الفكرية التي ألفها الشهيد -رحمه الله- في سجنه، وتعتبر تحولاً كبيراً في فهمه للإسلام، والقرآن، والدعوة، والمواجهة، والجهاد، وهي أربعة كتب: هذا الدين، والمستقبل لهذا الدين، والإسلام، ومشكلات الحضارة، وخصائص التصور الإسلامي.
القسم الرابع: الكتب القرآنية الدعوية الحركية، وفيها فسر القرآن تفسيراً حركياً تربوياً، وهما كتابان: في ظلال القرآن، ومعالم في الطريق.
القسم الخامس: كتابه الذي ختم به تصانيفه، وهو الذي ألفه بعد سجنه الثاني عام 1965م وقبيل استشهاده وهو كتاب (مقومات التصور الإسلامي)، والذي طبع بعد استشهاد صاحبه بعشرين سنة(1).
وأي ناقد منصف لهذه الكتب بمجموعها دون استثناء يعلم أنها من أجمل وأروع ما كتب في الفكر الإسلامي المعاصر، من حيث طريقة الكتابة، وأسلوب العرض الشائق، والأفكار الصحيحة الخالية من أي انزلاق عقائدي أو فكري؛ بل يضاف إلى الكم المعرفي الغزير لدى الشهيد -رحمه الله- ما فتح الله عليه من فنٍ جديد في كتاباته وهو فن التصوير الجمالي لألفاظ القرآن الكريم؛ حيث إن الله منحه قدرة للتعبير عن مكنونات الألفاظ القرآنية واكتشاف الكنوز القرآنية الجمالية البيانية وهو ما وضعه في كتابه (التصوير الفني في القرآن)(2).
فهذا يظهر أن كتابات الأستاذ الشهيد تدور ما بين إظهار الجانب الإعجازي البلاغي البياني للقرآن، وما بين العمل على إصلاح الفرد والمجتمع للعود الأحمد إلى النبع الصافي الكتاب والسنة، لتحكيم شرعة الله على هذه البسيطة، فيكون تحذير الأحباش من كتاباته في غير موضعها، لأنه لا يعتمد على منهجية علمية، بل يعتمد على الأمزجة والأهواء لديهم.
__________
(1) - انظر: سيد قطب الأديب الناقد د. الخالدي ص361-362.
(2) - انظر: المرجع السابق ص362.(2/35)
وأما أن يكون التحذير من كتابات الأستاذ الشهيد بسبب انحرافه في المعتقدات، وهذا أمر معلوم الفساد، لأن سيد قطب -رحمه الله- صاحب منهج سلفي في العقيدة، وتظهر عقيدة الأستاذ سيد قطب في كتابه (مقومات التصور الإسلامي)، وفيه يتحدث عن حقيقة الألوهية وأنها الحقيقة الأولى الكبرى الأساسية، والحقيقة الفاعلة العميقة، في التصور الإسلامي. وفي ظل عرض حقيقة الألوهية يرى سيد قطب -رحمه الله- أن الإنسان لا يمكن أن يكون شيئاً في واقع الأرض إلا إذا امتلأ كيانه كله بحقيقة الألوهية، عند ذلك يقوم بواجبه في خلافة الأرض، والصبر على عقبات الطريق، ومواجهة أعداء الله، وإنشاء الواقع الإسلامي الذي يريده الله(1).
ويبين سيد قطب -رحمه الله- حقيقة التوحيد بقوله: "إن معرفة الله -سبحانه- في التصور الإسلامي تبدأ من نبذ كل الصور التي انبثقت ابتداء من تصورات البشر، وأوهامهم عن ذات الله -سبحانه- وصفاته، لتستقى مباشرة من تعريف الله لعباده بذاته وصفاته، وخصائصه وأفعاله، وكيفيات أفعاله، وهي تُتلقى من هذا المصدر وحده، ولا تتلقى من مصدر آخر غيره … والله سبحانه ليس كمثله شيء مما خلق على الإطلاق، ولا يملك الخيال البشري -مهما اجتهد- أن يعثر على شبيه له في صورة أو حال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11]، { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } [النحل:60]، { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } [النحل:74]، { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } [الأعراف:180]، وبتحكيم هذه النصوص الجازمة تسقط كل التصورات التي جاءت بها الوثنيات"(2).
__________
(1) - انظر: مقومات التصور الإسلامي سيد قطب ص187-188، الناشر: دار الشروق، بيروت، ط الأولى 1406هـ-1986م.
(2) - مقومات التصور الإسلامي سيد قطب ص197.(2/36)
ويتحدث في موضع آخر عن حقيقة التوحيد من خلال المنهج القرآني فيقول: "التركيز في المنهج القرآني ابتداء على التوحيد لأعلى الوجود .. توحيد الذات الإلهية .. فالله سبحانه ذات واحدة لا تتعدد، ولا تتبعض، ولا تندمج معها ذوات أخرى، ولا تتلبس بها في صورة من صور الاندماج أو التلبس .. هذه الذات الواحدة متصفة بصفات تنفرد بها كذلك فلا يشاركها فيها أحد .. ومن وحدانية الذات وتفردها بهذه الصفات تتضح وحدانية الفاعلية والتأثير والتدبير، ووحدانية الهيمنة والسلطان في الدنيا وفي الآخرة سواء … ويبلغ المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية على هذا النحو، وشمول هذا التعريف ودقته ووضوحه ما لا يبلغه منهج آخر على الإطلاق .. أن الله سبحانه ذات واحدة متفردة الصفات لا نظير لها ولا شبيه"(1).
وبعد عرض هذه النماذج التي تظهر معتقد الرجل -رحمه الله- يتبين مما لا خلاف فيه أن الشهيد سيد قطب -رحمه الله- سلفي المنهج والاعتقاد، والتحذير منه ومن كتاباته إنما هو تحذير من منهج السلف الصالح، لأنه -رحمه الله- لا يمثل نفسه فيما يكتب إنما يصول ويجول بقلمه في التراث الإسلامي وفق ما سار عليه السلف الصالح، وبهذا تسقط الاتهامات التي وجهت للأستاذ الشهيد -رحمه الله- من الحبشي وتلاميذه.
__________
(1) - المصدر السابق ص239.(2/37)
المبحث الرابع: موقفهم من الشيخ أبي الأعلى المودودي(1):
__________
(1) - أبو الأعلى المودودي: ولد المودودي في الثالث من شهر رجب عام 1321هـ، الموافق الخامس والعشرين من شهر سبتمبر عام 1903م، في مدينة (أورنك آباد) إحدى مدن ولاية حيدر آباد، ولقد نشأ المودودي في أسرة متدينة، مستورة الحال من الناحية المادية، وتوفي أبوه وهو في السادسة عشرة، فعمل في الصحافة لضيق الحال، ولكنه استمر في طلب العلم، وتأثر بما حوله من أحداث حتى مَنّ الله عليه بتأسيس الجماعة الإسلامية، ومن خلال هذه الجماعة عمل من أجل رفعة دينه، ونال من الابتلاءات والمحن ما ينال الدعاة الصادقين، واستمر على هذه الحال، حتى توفاه الله في يوم السبت أول ذي القعدة سنة 1399هـ، ومن أشهر مصنفاته: الجهاد في سبيل الله، الإسلام والجاهلية وغيرها الكثير من الكتب. انظر: مجلة الجامعة الإسلامية ص229-232، العدد الأول من السنة الثانية عشرة من رمضان 1399هـ مقال بعنوان (أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية)، مجلة الأزهر تصدر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ص1317-1319، الجزء 9 رمضان 1402هـ- يوليو 1982م، علماء ومفكرون عرفتهم محمد المجذوب 2/5-18، الناشر: دار الاعتصام، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/38)
الأحباش لم يوفروا جهداً في التشنيع على العلماء العاملين في العصر الحالي، وذلك من خلال التقليل من شأنهم، أو تصيد الأخطاء لهم، أو إثارة الشبهات حولهم، ليحذر الناس منهم وبالتالي من دعوتهم ويبتعدوا عنهم؛ فالأحباش يعتبرون الشيخ أبا الأعلى المودودي رمزاً للتطرف والإرهاب، وذلك يظهر من خلال تشنيعهم على الدكتور يوسف القرضاوي حيث يرون أن من مثالبه مدحه للعلماء أمثال أبي الأعلى المودودي فيقولون: "نرى في أغلب كتب القرضاوي مدحه لزعماء التطرف والإرهاب أمثال … أبي الأعلى المودودي"(1).
وللرد على الأحباش في مزاعمهم ضد الشيخ أبي الأعلى المودودي لا بد من معرفة التربية التي تلقاها منذ صغره حيث إن الشيخ المودودي نشأ في بيئة دينية محافظة، كان لها الأثر العظيم في نشأته، وتكوين شخصيته، فاشتهر منذ صغره بالذكاء وقوة الملاحظة، وسرعة البديهة والفهم.
وكان والده من العلماء الصالحين الذين امتهنوا مهنة المحاماة والدفاع عن المظلومين، فعني بتربية ولده وتثقيفه، فبدأ بتعليمه القرآن الكريم واللغتين العربية والفارسية، والفقه والحديث، ولم تمض سنوات حتى كان أبو الأعلى المودودي الفتى الصغير قد حصل من العلوم في خمس سنوات ما لم يحصله نظراؤه من الأطفال، واستمر معه والده على النهج نفسه في تعليمه وتوجيهه حتى استوى يافعاً، فألحقه بالمدرسة الثانوية حتى أنهى التعليم الثانوي. وبهذا تم للمودودي ما أراده والده من قوة إيمانه وثباته على الدين، وتمسكه بالأخلاق الحميدة والشمائل الكريمة(2).
__________
(1) - نصيحة لعامة المسلمين -القرضاوي في ميزان الشريعة- (www.aicp.de)
(2) - انظر: علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 2/6-8، أبو الأعلى المودودي ومنهاجه في الإصلاح والدعوة إعداد صالح حسين الرقب ص87-88 (مخطوط) سنة 1402هـ-1403هـ، مجلة الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ص229، العدد الأول من السنة الثانية عشرة رمضان 1399هـ.(2/39)
وعن التزام أبي الأعلى المودودي بتعاليم الدين يظهر من خلال أقواله، فيعبر عن ذلك بقوله: "يمكن لآرائي أن تتغير طبقاً للأدلة العلمية والعقلية، إلا أن إيماني وضميري ليس بالشيء القابل للبيع"(1).
وعندما اختير أميراً للجماعة الإسلامية بالإجماع ألقى فيهم الخطاب التالي: "أنا لست أكثركم علماً، ولا أكثركم تقوى، ولست بأفضلكم من أي ناحية من النواحي، وعلى كل حال حين اخترتموني لهذا العمل العظيم، وأظهرتم اعتمادكم عليّ، فإنني لا أملك إلا أن أتوجه بالدعاء إلى الله عز وجل أن يعطيني القوة للاطلاع بهذه المسئولية …، ولي عليكم حق وهو أن تتبعوني طالما كنت أسير على طريق الصواب، ولن أحيد أبداً -إن شاء الله- عن طريق كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وطريق الخلفاء الراشدين"(2).
__________
(1) - أبو الأعلى المودودي فكرته ودعوته أسعد جيلاني ص112-113، ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، الناشر: مطبعة المكتبة العلمية، لاهور، سنة 1398هـ.
(2) - المرجع السابق ص46.(2/40)
إن الفترة التي كان يعيش فيها الإمام المودودي فترة تموج بأحداث خطيرة بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من أحداث جسام في العالم الإسلامي، حيث كان الإنجليز يحكمون الهند حكماً استعمارياً غاشماً، وكان يعاني المسلمون من هذا الاحتلال الإنجليزي الذي كان يقابله دعم وتأييد للطائفة الهندوسية في الهند من قبلهم، وسقوط الخلافة الإسلامية سنة 1342هـ، ودعوة رؤساء الهندوس المسلمين للانضواء تحت لواء القومية الهندوسية المدعومة من الإنجليز، وإثارة الشبهات حول الخلافة الإسلامية، فأدى ذلك إلى دفع الإمام المودودي للرد على هذه الافتراءات والشبهات، فألف كتاباً سماه (الجهاد في سبيل الله)، ولم يتجاوز المودودي الخامسة والعشرين، ثم توجه إلى العمل في الصحافة من خلال إصداره مجلة (ترجمان القرآن) وجعلها منبراً إسلامياً خالصاً يدافع عن الإسلام، ويرد على شبهات الحاقدين ويفندها ويبين هزالها وعدم صحتها، وأشترك في مجلة (تاج)، وشارك أيضاً في جريدة (مسلم)(1)؛ وهذا العمل الذي كان يقوم به الإمام المودودي يمثل جانباً من جهاده وبلائه ضد أعداء هذا الدين.
__________
(1) - انظر: مجلة الجامعة الإسلامية ص229-230، العدد الأول رمضان 1399هـ، مقال بعنوان (أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية للشيخ: محمد شريف الزئبق)، علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 2/8-9.(2/41)
ولكن الجهاد بالقلم لم يشبع رغبة الإمام المودودي، ولم يكن على المستوى المطلوب أمام التحديات التي كان يحياها، فانتقل من جهاده باللسان والقلم إلى جهاده العملي الحقيقي فقام بتكوين جماعة إسلامية، لتقوم بتطبيق ما دعا إليه من آراء نظرية في مجال التشريع الإسلامي(1)، وكان يهدف من وراء ذلك إلى الوصول إلى تطبيق شرع الله -سبحانه وتعالى-، وبالتالي فإن هناك مراحل خاضها الإمام المودودي -رحمه الله- من أجل تطبيق شرع الله:
أولاً: إعداد الدستور الإسلامي:
قام المودودي بإعداد الخطوط العريضة للدستور الإسلامي الذي يجب على الدولة المسلمة أن تسير عليه، وقد أعلن المودودي عن هذا الدستور أمام أعضاء الجماعة الإسلامية أثناء إحدى الحملات الانتخابية.
وأرادت الحكومة الباكستانية أن تعرقل قضية الدستور فدعت العلماء من مختلفي النزعات من سنة وشيعة وغيرهم، لوضع الدستور وهي تعلم أن اجتماع كلمة العلماء على رأي في هذا الأمر بعيد المنال، فأرادت أن تظهر بمظهر المؤيد للإسلام في حين أنها تعلم أن ذلك لا يتم، ولكنها تريد أن تحمل مسئولية تعطيل الدستور للعلماء، ولكن الله خيب ظن الحكومة حين اجتمع مجموعة من العلماء لمواجهة تحدي الحكومة، ووضع المبادئ الأساسية للدولة الإسلامية، ولقد شارك المودودي بجهد مبارك في هذا الاجتماع، إذ قدم للعلماء مجموعة من المبادئ العامة للدستور الإسلامي، فوافقوا عليها بالإجماع بعد أن أدخلوا عليها بعض التعديلات البسيطة(2).
ثانياً: تصدي الإمام المودودي للحكومات التي تعرقل الدستور الإسلامي:
__________
(1) - انظر: مجلة الأزهر ص1318، الجزء 9 رمضان 1402هـ- يوليو 1982م، مقال بعنوان (أبو الأعلى المودودي)، علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 2/14-16.
(2) - أبو الأعلى المودودي للرقب ص133-134 بتصرف (مخطوط).(2/42)
بعد خروج المودودي -رحمه الله- من السجن في مايو 1950م، قام بعقد المؤتمرات والاجتماعات الشعبية، ثم قاد المودودي حركة شعبية واسعة للضغط على الحكومة وإجبارها على وضع الدستور. ونتيجة لجهود الإمام المودودي أوعزت الحكومة لمجلسها التشريعي أن يقدم توصياته بشأن الدستور وذلك في سبتمبر 1950م، ولما كانت التوصيات التي قدمها المجلس التشريعي منافية في كثير من بنودها للشريعة الإسلامية، قام المودودي بانتقادها وبيان عيوبها في اجتماع شعبي، مما اضطر الحكومة إلى سحب التوصيات(1).
ثالثاً: المطالبة بالدستور الإسلامي:
من المعلوم أن دولة باكستان قد قامت باسم الإسلام، وأن المسلمين قد بذلوا أرواحهم، ودماءهم من أجل ذلك. ولكن لما قامت دولة باكستان بدأ الحكام والقادة يتنكرون للشعب المسلم في باكستان، وأرادوا أن تكون الدولة علمانية، وفطن الإمام المودودي لسياسة الحكومة وأعمالها، وقام بنشاط واسع شمل أنحاء البلاد من أجل المطالبة بإقامة شرع الله وتنفيذه في واقع الحياة، فعقد الندوات وألقى المحاضرات؛ وشمل نشاط المودودي -رحمه الله- الفئة المثقفة، وخاصة الذين لديهم صلة بدراسة القوانين الوضعية والنظم من المحامين والقضاة وأساتذة وطلاب كلية الحقوق بلاهور، حيث اجتمع مع هؤلاء، وأخذ يشرح لهم النظام الإسلامي وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان(2).
وبعد هذا العرض الموجز لمعالم حياة الإمام المودودي، يمكن إجمال أهم أعماله فيما يلي:
"مجابهة الجاهلية، وبيان آثارها الفاسدة في المجتمع الإسلامي المعاصر، فأوضح مضارها على الجانب الفكري والجانب الاجتماعي، والجانب الخلقي، وانتقد المتعصبين للمذاهب الفقهية، وانتقد دعاة الاجتهاد المطلق، ودعاة التحرر من الدين، ومنكري حجية السنة، وآثار بكتاباته وخطبه همّ العلماء الواقفين عند التراث القديم.
__________
(1) - أبو الأعلى المودودي للرقب ص134-135 بتصرف.
(2) - المرجع السابق ص136 بتصرف.(2/43)
بيان العقيدة الإسلامية من مصادرها الأساسية: الكتاب والسنة، فشرح مبادئ العقيدة، وبين التصور الإسلامي الصحيح للكون والإنسان والحياة، وشرح العبادات الإسلامية، وشرح جوانب الإسلام الخلقية والسلوكية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قام ببيان دور الإسلام في حل مشكلات الحياة الإنسانية قديماً وحديثاً، وبيان مميزات الحضارة الإسلامية وفضلها على الإنسانية، وانتقد الحضارة الغربية وما تشتمل عليه من نظريات وفلسفات باطلة، وأفكار زائفة من شأنها تقويض الإيمان في نفوس المسلمين المتأثرين بها. وعَرّف المودودي المسلمين على الطريق المناسب لإقامة دين الله على منهج السلف. وبين لهم المحاولات التي بذلت من قبل لإقامته في واقع الناس، وأخيراً دعا المودودي الناس إلى تطبيق الإسلام في حياتهم، وطالبهم أن ينقضوا على أنفسهم الجاهلية التي سيطرت على حياتهم أمداً ليس بالقصير"(1). وبالتالي من قام بمثل هذه الأعمال، وضحى من أجل رفعة دين الله، وتحمل الابتلاءات، لا يجوز أن يلقب بالمتطرف والإرهابي، كما يفعل أعداء الله من يهود ونصارى ومن ولاهم يُسمون الدعاة بالمتطرفين، وذلك لصد الناس عن دعوتهم وإبعادهم عن طريق الله؛ وخاصة أن منهج الإمام المودودي منهج سلمي أخذ به وجماعته، وعندما واجه القوى الشريرة حيث واجههم بالتظاهرات السلمية(2).
__________
(1) - أبو الأعلى المودودي للرقب ص277-278.
(2) - انظر: علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 2/18.(2/44)
وبالتالي فإن كل من يحط من شأن الإمام المودودي لا بد أن يعلم أن مكانة الإمام المودودي إنما بناها إخلاصه للحق، وما فتح الله عليه من العلم الذي قدم به الحلول لمشكلات الإنسان في هذا العصر؛ والإمام المودودي من المتضامنين من أجل إعلاء كلمة الله بشتى السبل حتى أن المملكة العربية السعودية منحته جائزة الملك فيصل، فقام بتحويل الجائزة بأسرها إلى حساب الجماعة الإسلامية لتنفقها في خدمة الدعوة إلى حقائق الإسلام(1).
المبحث الخامس: موقفهم من الشيخ الألباني(2):
__________
(1) - انظر: المرجع السابق 2/33.
(2) - الشيخ الألباني: هو محمد ناصر الدين ابن الحاج نوح نجاتي أبو عبد الرحمن الألباني، أحد أبرز علماء العصر الذين سلكوا طريقاً يلتمسون فيه العلم وخدمة المتعلمين والمتفقهين في هذا الدين، وتمييز الحديث الشريف وتنقيحه، وتخريج الأحاديث التي اختلطت، وجمعها، وتدوينها، ولد في مدينة أشقودرة الألبانية سنة 1914م، توفي يوم السبت في الثاني من تشرين أول لسنة 1999م، الموافق 22 جمادى الآخرة 1420هـ وله الكثير من المصنفات أشهرها: سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقد خرّج فيه ثلاثة آلاف حديث، سلسلة الأحاديث الضعيفة وخرّج فيه ألفين وخمسمائة حديث، التعليقات والتخريجات لكتاب التوحيد، مختصر صحيح مسلم،ارواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل،حجاب المرأة في الكتاب والسنة.انظر:علماء ومفكرون عرفتهم محمد المجذوب 1/287-299،مجلة المنبر ص55-58،العدد الحادي والعشرين، شعبان 1420هـ- نوفمبر 1999م، مقال بعنوان (تأملات في حياة محدث العصر العلامة ناصر الدين الألباني).(2/45)
يتهم الحبشي الشيخ الألباني بمخالفة العلماء والشذوذ عنهم، فيقول في تعليقه على قصة توسل الأعمى بالرسول -صلى الله عليه وسلم-: "وهذا من الألباني خروج على أهل الحديث كعادته"(1)، وعلى هذا النهج سار تلاميذ الحبشي فقد جاء في أحد كتبهم (تبيين ضلالات الألباني) حيث مُلئ هذا الكتاب باتهامات واستخفاف بالشيخ الألباني -رحمه الله-، فمما جاء فيه قولهم: "فقد كثر المبطلون والمفترون وأدعياء العلم الذين يغشون الناس في دينهم ويبيعون الآخرة رجاء دراهم قليلة، فصاروا يتصدون للتدريس والتأليف والفتوى، ويتكلمون في الدين برأيهم وهواهم ويضعون القرآن في غير محله لنصرة مذهبهم الفاسد الذي حول عقيدة التشبيه والتجسيم ومخالفة السلف والخلف، ويتهجمون على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيُضعفون ما يخالف عقيدتهم، ويخرقون إجماع الأمة المحمدية، ويتطاولون على صحابة رسول الله، والسلف الصالح، وعلماء الأمة الأجلاء من أشاعرة وماتريدية شافعية كانوا أو حنفية أو مالكية أو من فضلاء الحنابلة، فهذا لا شك طبع الجاهل، وسلاح المفلس العاجز. ومن هؤلاء رجل نسب نفسه للعلم والعلماء والحديث والمحدثين زوراً وبهتاناً، فأطلق لسانه وقلمه فيما ذكرنا وعمد من خلال فتاويه إلى زرع الفتنة والفرقة، وبث الحقد والعداوة والبغضاء بين المسلمين، إنه الساعاتي المدعو (ناصر الدين الألباني)"(2).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص337.
(2) - تبيين ضلالات الألباني جمع بعض تلاميذ عبدالله الهرري (الحبشي) ص4، الناشر: دار الاعتصام، بيروت، ط الأولى 1419هـ-1999م.(2/46)
ويصفه الأحباش بالوقاحة فيقولوا: "فما هذه الجرأة والوقاحة التي يتحلى بها هذا الرجل"(1)، بل ويرى الأحباش أن من معايب الألباني: "لمزه لمن يخالفه بالابتداع فهو ومن كان معه على زعمه سني يستحق الجنة، ومن خالفه فهو مبتدع يستحق النار، وقصده بهذا الشهرة، ومراده أنه أوحد عصره، وأنه سبق معاصريه، وتفوق على متقدميه، وبالجملة فللألباني في فتاويه واستنباطاته بلايا وطامات، وسقطات عظيمة"(2).
بعد هذا العرض لموقف الأحباش من الشيخ الألباني -رحمه الله-، تظهر العداوة واضحة وجلية من خلال الألفاظ المستخدمة في حق الشيخ بأنه من أدعياء العلم، ومن الذين يغشون الناس في دينهم، وأنه من الذين زرعوا الفتنة والحقد والعداوة والبغضاء بين المسلمين، ووصفه بالوقاحة، بل يتعدى الأمر هذه الألفاظ القاسية في حق الشيخ إلى وصف عقيدته بالعقيدة الكفرية(3)؛ وهذه الاتهامات يلقيها الأحباش دون أي معيار علمي يستندوا إليه، بل بسبب التعصب المذهبي، لأن الشيخ الألباني من مخالفيهم في مذهبهم العقدي.
__________
(1) - المصدر السابق ص6.
(2) - الرد على الألباني إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص16 (جزء من الرسائل الغمارية)، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الأولى 1417هـ-1996م.
(3) - انظر: تبيين ضلالات الألباني لبعض تلاميذ الحبشي ص4، 21.(2/47)
فاتهام الأحباش للشيخ الألباني أنه من أدعياء العلم، ومن الذين يغشون الناس في أمور دينهم، وأنه من الذين يتهجمون على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا أمر مردود عليهم بما له من تصانيف علمية ذات منهج معتمد، تشهد للرجل بعلمه ومن هذه التصانيف: سلسلة الأحاديث الصحيحة، سلسلة الأحاديث الضعيفة، صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حجاب المرأة المسلمة، نصب المجانيق في قصة الغرانيق، منزلة السنة في الإسلام، وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة، فهرس المخطوطات بالمكتبة الظاهرية.
من التصانيف المعد للطبع: الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب، مختصر صحيح البخاري، قاموس البدع، حجة الوداع، مختصر العلو للذهبي، الرد على ابن حزم في حديث المعازف، الروض النضير في ترتيب معجم الطبراني الصغير.
وبعض المطبوع من تحقيقاته: تحقيق الجامع الصغير وزياداته -صحيح الجامع-، ضعيف الجامع الصغير، مشكاة المصابيح، شرح الطحاوية في العقيدة، مختصر كتاب الإيمان لابن تيمية، مختصر صحيح مسلم للمنذري، كتاب العلم لأبي خيثمة، اقتصاد العلم العمل للخطيب، رسالة في الصيام لابن تيمية، المسح على الجور بين للقاسمي، صحيح ابن خزيمة -مع الأعظمي-.
وبعض المخطوطات التي حققها: التعليقات الجياد على زاد المعاد، تخريج أحاديث سنن أبي داود، الترغيب والترهيب للمنذري، الحج المبرور لعلوشي، الأحكام لعبد الحق الإشبيلي، السنة لابن أبي عاصم، ضعيف أبي داود(1).
__________
(1) - انظر: علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/307-308.(2/48)
وهذه التصانيف التي تم ذكرها من الكتب المعتمدة لدى أهل العلم، ويستأنس فيها في التأليف والتصنيف من قِبل طلاب العلم، حتى خصومه يستندون إليها؛ ويوافق هذا المعنى الشيخ دمشقية فيقول: "ولا يزال الموافق والمخالف للألباني يستفيد من تخريجاته للحديث، وقد قام بعملية متميزة في فرز الصحيح من الضعيف وتربية أجيال تدعو إلى التجرد للحديث، واتباع السنة، ونبذ التقليد الأعمى؛ بخلاف ذاك الذي يصحح الموضوع من الحديث ويطعن في الصحيح محاولة منه للتوفيق بين دين الإسلام ومخلفات أهل الجدل والكلام والسفسطة. والحاقدون عليه غاضبون لأنه ميز كتب السنن، وفصل الصحيح عن الضعيف، هكذا يغارون على الحديث الضعيف!"(1)، ومع هذا لا يعني أن الشيخ الألباني معصوم من الخطأ، أو الوقوع في الزلل، فيبقى الشيخ إنساناً معرضاً لهذا وذاك، ولكن ليس مجرد الخلاف مع شخصٍ ما يؤدي إلى هذا الحقد والضغينة لأن المسلم خيرّ بطبعه، يغفر زلات غيره، ويتغاضى عنها، ويعمل على نصحه وإرشاده بأسلوب ليّن مقبول، بعيد عن الجرح، والسب، والقدح، وإظهار المثالب، ونسيان الفضائل؛ وهذا يعني أن الاختلاف مع الآخرين، وخاصة ذوي الهيئات من أصحاب العلم، كالشيخ الألباني، لا بد من اختيار الألفاظ في التحاور معهم، وعدم التجرؤ عليهم بفحش القول وبذيئه، والالتزام بآداب المحاورة والمناظرة.
__________
(1) - موسوعة أهل السنة لدمشقية 2/1186.(2/49)
وأما اتهام الأحباش للشيخ الألباني بأنه يتهجم على علماء الأمة، فهذا أمر فيه نظر حيث إن الشيخ من الذين يعلمون فضل العلم وأهله، ولكنه بطبعه حاد، وأحياناً عنيف في مناقشاته مع بعض العلماء، ولكنه لا يصل لدرجة التقليل من شأن العلماء، ووصفهم بألفاظ لا تليق بهم، ويقول الشيخ المجذوب موضحاً هذا المعنى: "ومع أن السمة الأساسية في أخلاق العلماء هي الأناة، وطول النفس مع المخالفين، وفي الشيخ منها الكثير ولله الحمد، إلا أن في طبيعته إلى ذلك لوناً من الشدة قد تبلغ أحياناً حد العنف حتى مع محبيه فضلاً عن مخالفيه .. وما لذلك من تعليل سوى شدة الثقة بنفسه، وبما توافر له من رؤية لما يعتقد أنه الحق. ومن هنا كانت جرأته في النقد لكل اجتهاد يخالف ما ثبت لديه حتى ولو كان ذلك الاجتهاد صادراً ممن لا يكتم أثرهم وفضلهم"(1).
ومع هذا فإن الشيخ نزال للحق يعود إليه عندما يعلم صحته، وهذا ما ظهر في بعض كتاباته، فمثلاً: يقول في كتابه (صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-): وهو يحاور العلامة التويجري في بعض تعقيباته على الكتاب يقول: وأرى من تمام الشكر -للشيخ التويجري- أن أعترف بإصابته الحق فيها، وأني رجعت إلى رأيه في:
تفسير المأثم والمغرم.
قوله في الصلاة إنها اعظم ركن من أركان الإسلام.
تفسير جملة (والشر ليس إليك)(2).
__________
(1) - علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/297.
(2) - انظر: صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من التكبير إلى التسليم كأنك تراه محمد ناصر الدين الألباني ص5-6، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/50)
وفي الكتاب نفسه يقول: "تبين لي أن الحديث ضعيف، وكنت اتبعت المناوي في تصحيح الإسناد، ثم تيسر لي الوقوف عليه"(1)، وفي هذا يظهر منهج الشيخ -رحمه الله- أنه منهج علمي موضوعي، بعيد عن العصبية العمياء، وإن كان فيها نوع من الحدة غير المرغوب فيها بحق أصحاب الهيئات من رجال العلم.
وأما من الأمور العجيبة للأحباش في حق الشيخ الألباني -رحمه الله- أنهم يقللون من شأنه بقدر المستطاع، ومن الألفاظ التي استخدموها لهذا الشأن وصفه بالساعاتي، أي أنه امتهن تصليح الساعات، وهذا الأمر ليس بالعيب أو الأمر المستهجن في حق رجال العلم، فهذا الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- كان يمتهن التجارة والبيع في الأسواق(2)، وهذا الإمام أحمد بن حنبل يتعلم عند أحد النساجين ويعاونه، ليكسب بعض الدراهم ليعتاش منها(3)، وهذا الأمر لم يقلل من شأن أولئك الرجال، بل كانوا يمدحون من أجل ذلك بحيث إنهم لم يكونوا عالة على غيرهم، ويضاف إلى ذلك أن الشيخ اعتبر تعلم مهنة تصليح الساعات نعمة من الله عليه، يشكر الله عليها فيقول: "إن نعم الله عليّ كثيرة لا أحصي لها عداً، لعل من أهمها اثنتين: هجرة والدي إلى الشام ثم تعليمه إياي مهنته في إصلاح الساعات. … وأما الثانية: فقد قيضت لي فراغاً من الوقت أملؤه بطلب العلم، وأتاحت لي فرص التردد على المكتبة الظاهرية و غيرها ساعات من كل يوم. ولو أني لزمت صناعة النجارة -التي حاولت التدرب عليها أولاً- لالتهمت وقتي كله، وبالتالي لسدت بوجهي سبل العلم، الذي لا بد لطالبه من التفرغ"(4)، وبهذا يظهر فضل هذه المهنة عليه في تعلمه -رحمه الله-.
__________
(1) - صفة صلاة النبي للألباني ص10 -الهامش-.
(2) - انظر: أئمة الفقه التسعة لعبد الرحمن الشرقاوي ص59، الناشر: العصر الحديث، بيروت، ط الثانية 1406هـ-1985م.
(3) - انظر: المرجع السابق ص194-195.
(4) - علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/292-293.(2/51)
وأما عن اتهامه للشيخ الألباني بأن مذهبه فاسد حيث حوى على عقيدة التشبيه والتجسيم ومخالفة السلف، ومن المآخذ على عقيدته -رحمه الله- أنه يعتقد أن الله في جهة -أي في السماء- ويعترض على من يقول أن الله يُرى لا في جهة(1)، واعتقاده بأن الله متكلم بحرف وصوت، فيقولون في ذلك: "هاهو الألباني يصرح باعتقاد ليس له سلف فيه إلا الكرامية والمشبهة، وهما فرقتان من الفرق الضالة الذين انحرفوا عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فيقول في كتابه المسمى (مختصر العلو) بأن الله متكلم بصوت وحرف، وما هذا الكلام إلا امتداد لعقيدة التشبيه التي يحملها وينسبها زوراً وبهتاناً إلى أئمة الحديث وإلى أهل السنة والجماعة، وهم بريئون منه، ومن عقيدته الكفرية، شأنه في ذلك شأن متبوعه إمام الضلالة أحمد بن تيمية الحراني"(2)، ويعترضون عليه لأنه ينفي التأويل الذي قال به الخلف، وحمل آيات القرآن والحديث على غير ظاهرها(3)، إلى غير ذلك من المسائل التي خالفوا فيها السلف، والتي تم مناقشتهم فيها في أثناء البحث، وهذه المسائل التي اعترضوا فيها على الشيخ الألباني واعتبروه من أصحاب العقائد الكفرية، هي نفسها التي شنعوا فيها على شيخ الإسلام، والإمام محمد بن عبد الوهاب، وتم مناقشتهم فيها، وبيان فساد قولهم وضعفه، حيث إن الله سبحانه وتعالى في السماء فوق العرش كما قال بذلك علماء السلف، وأن التوهمات التي يقول بها الأحباش ليس لها أصل وإنما هي من تهيؤاتهم، وأيضاً: أثبت علماء السلف أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت، ولكن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين فإن الله سبحانه وتعالى ليس له شبيه، ولا مثيل في صفاته وأسمائه وأفعاله، وإن كان هناك تشابه في الألفاظ بين مسميات صفات الخالق، ومسميات صفات المخلوقين، وأيضاً ثبت فساد التأويل الذي ذهب إليه الخلف من صرف
__________
(1) - انظر: تبيين ضلالات الألباني لبعض تلاميذ الحبشي ص10.
(2) - المصدر السابق ص21.
(3) - انظر: المصدر نفسه ص26.(2/52)
النصوص عن ظواهرها بحجة تنزيه الله -سبحانه وتعالى- عن المخلوقين.
وأما عن عقيدة الشيخ الألباني فهي عقيدة السلف الصالح، حيث يعمل على تنشئة جيل يستمد عقيدته من الكتاب والسنة وأن يُسلم لحكم الله ورسوله فيقول: "وأريد بالتربية تنشئة الجيل على العقيدة الإسلامية الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة، وأخص بالذكر تربية الصغار على العبادة … ولا أنسى هنا تدريس التشريع الإسلامي، فالذي أراه أن يكون تدريس هذه المادة على أساس التسليم التام لأمر الله والثقة بحكمته، دون الاهتمام الكثير ببيان فوائدها المادية … وفي ذلك تزويد لنفس الطالب بالمناعة من كل دس وتسميم. وأذكر هذه المناسبة بصلح الحديبية، وأهمية التسليم لحكم الله ورسوله"(1).
وفي كتابه (صفة صلاة النبي) على سبيل المثال، يبين الشيخ الألباني منهجه وهو التمسك بالسنة الصحيحة، وأن ذلك الأمر سوف لا يرضي بعض الطوائف والمذاهب لما فيه من تضعيف لمعتقداتهم، وبالتالي سيوجه إليه الكثير من ألسنة الطعن، وأقلام اللوم، ويذكر الشيخ أن هذا الطريق هو الذي أمر الله تعالى به، وبينه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسلكه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وفيهم الأئمة الأربعة الذين ينتمي إليهم مذاهب جمهور المسلمين(2).
__________
(1) - علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/311.
(2) - انظر: صفة صلاة النبي للألباني ص12-13.(2/53)
وبعد هذا العرض يتبين دون أدنى شك تسرع الأحباش في إطلاق الاتهامات في حق الشيخ الألباني -رحمه الله-، وهذه الاتهامات مبنية على أصل الخلاف المذهبي والاعتقادي للشيخ الألباني، وهذا أمر مخالف للمنهجية العلمية الموضوعية في النقاش، وإن كان هناك خلاف يتم مناقشته بالحجج لا بالسباب وإطلاق الأحكام الكفرية في حق الخصم، ولا يصل الأمر إلى التكفير والإخراج من الملة وخاصة أن هناك نصوصاً لعلماء السلف استند إليها الشيخ الألباني في المسائل الخلافية مع الأحباش، ومع ذلك لا يوصف الشيخ الألباني بالعصمة من الخطأ، بل يعتبر أحد رجال العلم في العصر الحالي، يؤخذ منه، ويرد عليه، ولكن من خلال التعامل بأدب الحوار والمناظرة.
المبحث السادس: موقفهم من الدكتور يوسف القرضاوي(1):
__________
(1) - يوسف القرضاوي: يوسف عبدالله القرضاوي (أبو محمد)، ولد عام 1926م في قرية (صفط تراب) من توابع المحلة الكبرى في مصر، وحفظ القرآن في العاشرة، والتحق بالأزهر في كلية أصول الدين، ونال عدة شهادات، ثم التحق بقسم التفسير والحديث من كلية أصول الدين (الدراسات العليا) عام 1960م ثم شرع في إعداد أطروحة الدكتوراه عن (الزكاة في الإسلام) حيث كان مقرراً أن ينتهي منها خلال سنتين إلا أنه اعتقل في السجون المصرية، فأخرت موعد إجازته حتى صيف 1973م، ويعتبر الشيخ القرضاوي من أشهر الدعاة المعاصرين، وحالياً يقطن في دولة قطر، ويعمل أستاذاً في جامعتها، بالإضافة إلى ذلك يرأس مجموعة من النشاطات الدعوية والعلمية، ومن مصنفاته: العبادة في الإسلام، الحلال والحرام في الإسلام، الناس والحق وغيرها. انظر: علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/461-465.(2/54)
يظهر موقف الأحباش من الدكتور القرضاوي من خلال كتاباتهم التي ينشرونها تحت مسميات مختلفة مثل: (النقض الكاوي لدعوى يوسف القرضاوي)، (نصيحة لعامة المسلمين -القرضاوي في ميزان الشريعة)، والذي يظهر من هذه العناوين أن الأحباش يشنون هجمات عنيفة على الدكتور يوسف القرضاوي، ويصفونه بأبشع الصفات حيث يجعلونه مُحرَّفاً، وصاحب أخطاء وهفوات كثيرة، فيقول خليل دربان -أحد تلاميذ الحبشي-: "وكأن صاحب الفتوى -أي الدكتور يوسف القرضاوي- قد غرّه سكوت أهل العلم عن فضح أخطائه وهفواته … وغير ذلك من ضلالات في الأصول والفروع يندى لها الجبين"(1)، ويتحدث (دربان) بكل تهكم واستخفاف في حق الدكتور يوسف القرضاوي فيقول: "ولسنا أول من يردّ على أمثال هذا (الدكتور)"(2).
ويرى الأحباش أن الدكتور يوسف القرضاوي من الذين أفسدوا في الأرض وفتنوا العباد وأنه تميز بالوقاحة وقلة الحياء من الله، فيقولون: "ومن هؤلاء رجل أفسد في البلاد، وفتن العباد وهو الشيخ يوسف القرضاوي الذي دفعته وقاحته وقلة حيائه من الله، إلى الظهور على شاشات التلفزة الفضائية ليفتي بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان"(3).
ومن مآخذ الأحباش على الدكتور القرضاوي أنه مدح في معظم كتبه زعماء التطرف والإرهاب أمثال سيد قطب، وأبي الأعلى المودودي وابن عبد الوهاب وغيرهم من العلماء العاملين(4)، ويعلقون على ذلك بقولهم: "وهذا يشهد بفكر القرضاوي المتطرف مع كونه يدعي أنه داعية للوسطية والاعتدال بين الجماعات وميوله إلى هؤلاء واضح وصريح تكاد كتبه تنطق بذلك"(5).
وبهذا يظهر تحامل الأحباش على الدكتور القرضاوي، وحقدهم عليه، وموقفهم منه.
__________
(1) - النقض الكاوي لدريان ص4-5.
(2) - المصدر السابق ص47.
(3) - نصيحة لعامة المسلمين شبكة المعلومات www.aicp.de .
(4) - المصدر السابق www.aicp.de .
(5) - نصيحة لعامة المسلمين شبكة المعلومات www.aicp.de .(2/55)
والملاحظ أن الأحباش يسيرون على منهجية واحدة في التعامل مع خصومهم وذلك من خلال توجيه الاتهامات إلى معتقداتهم، ووصفهم بأقذع الصفات وأبشعها، بالإضافة إلى التهكم والسخرية بالخصم والاستهزاء به وبعلمه، وهذا ما حصل مع الشيخ القرضاوي، حيث وصفه الأحباش بأنه مُحرَّف، وصاحب أخطاء وهفوات كثيرة، وأنه قد أصابه الغرور لسكوت العلماء عليه، وبالتالي فإن له ضلالات في الأصول والفروع، وهذا كله أدى به إلى الفساد في الأرض، وفتنة العباد، بل تعدى الأمر إلى شتمه ووصفه بالوقاحة وعدم الحياء من الله(1)، ولا شك أن هذه الاتهامات تدل على عدم الموضوعية في النقاش من جهة، ومن جهة تدل على الفجور في الخصومة، وأن ذلك بعيد عن روح التسامح والتماس الأعذار للغير، وليس فيه إنصاف للخصم من حيث إبراز محاسنه ولو كان الطرف الثاني هو الخصم.
فيقال للأحباش ما الدليل على أن الشيخ القرضاوي مُحرَّف؟؟ وما الأخطاء والهفوات الكثيرة التي جعلتكم توجهون له هذه الاتهامات دون ضابط؟؟ وما ضلالات الشيخ القرضاوي في الأصول؟؟ هل يقصد بذلك أنه وصف الله بما وصف به نفسه دون تحريف، أو تشبيه، أو تعطيل، أو تكييف فهذا هو منهج السلف، أم أنه انتقد الزيارة البدعية للقبور من توسل بالأموات والاستغاثة بهم، وأيضاً هذا هو طريق السلف؛ ومع هذا فإن السلف يثبتون العصمة للأنبياء من البشر دون غيرهم، فإن أخطأ الدكتور القرضاوي في مسألة ما -وهذا جائز في حقه- يُناقش في ذلك ويُراجع، وخاصة لأن العلم عبارة عن رحم موصول بين أهله لا يقطع لمجرد خطأ أو زلل وقع فيه الإنسان دون قصد، أو حتى بقصد دون الإصرار عليه.
__________
(1) - انظر: النقض الكاوي لدريان ص4-5، 47، نصيحة لعامة المسلمين -شبكة المعلومات- www.aicp.de .(2/56)
بل إن الشيخ القرضاوي بين وجهة نظره في مسألة التساهل أي تسهيل أمر الدين على الناس ويكون ذلك في الفروع لا في الأصول فيقول: "والتساهل الذي أعنيه هو التساهل في الفروع والوسائل، لا في الأصول والأهداف"(1).
وأما وصف القرضاوي بأنه يفسد في الأرض، ويفتن العباد فهذا قول مردود بما على أرض الواقع، حيث إن الشيخ القرضاوي من الدعاة العاملين الذين يعملون على توحيد الصف الإسلامي، ويدعو إلى وضع المسائل الخلافية جانباً، لئلا تؤدي إلى إضعاف الصف الإسلامي في مرحلة تجمعت قوى الكفر كلها من يهودية ماكرة، وصليبية حاقدة، وأفكار كفرية ضالة ضد الإسلام وأهله، فهل هذا الفعل من الإفساد في الأرض، ونشر الفتنة بين العباد؟؟!.
وأيضاً ما يلقاه الدكتور القرضاوي من ثقة ومحبة من المسلمين لتؤكد على صحة منهجه وعدم فساده،وإن كان لكل إنسان أخطاء، فتندرج تحت الخطأ البشري غير المعصوم أحد منه.
وأما وصف الدكتور القرضاوي بالوقاحة وقلة الحياء مع الله، فهذا التعدي ليس من الأدب في شيء، فإنه لا يصح بأي حالٍ من الأحوال التعامل مع الخصم من خلال الجرح والقدح في شخصه، بل إن الشرع نفى أن يكون المسلم بالطعان أو اللعان أو الفاحش أو البذيء، فلهذا لا بد من الاعتدال عند التحاور، وعدم الانجرار وراء العاطفة، والخروج عن المنهجية العلمية في النقاش؟!.
__________
(1) - علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/487.(2/57)
وأما عن ذم الأحباش للدكتور القرضاوي بسبب مدحه للعلماء العاملين، الذين يسميهم الأحباش زعماء التطرف والإرهاب، أمثال: الشهيد سيد قطب -رحمه الله-، وأبو الأعلى المودودي -رحمه الله-، والإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وغيرهم(1)، وهذا تجنٍ على الشيخ القرضاوي وعلى العلماء العاملين -رحمهم الله-، فهذه الاتهامات لهم بأنهم زعماء التطرف والإرهاب، إنما صدرت من أعداء هذا الدين، وذلك ليصدوا الناس عن دعوتهم، وليضعوا الحواجز والعقبات أمامهم ليبتعد الناس عنهم، وعندما فعل ذلك أعداء الدين كان لهم هدف واضح هو الصد عن سبيل الله، ولكن يقال للأحباش أنكم تقولون عن أنفسكم أنكم دعاة إلى الله!! فكيف يمكن التوفيق بين كونكم دعاة إلى الله، وبين إطلاقكم هذه الاتهامات الشنيعة في حق علماء المسلمين -رحمهم الله-؟!.
ولبيان تهافت الادعاءات في حق الدكتور القرضاوي لابد من الاطلاع على بعض جوانب شخصيته، وما يتصل بها من أحداث أثرت فيه:
لا بد من معرفة أن هناك مجموعة من المؤثرات أثرت في شخصيته وصقلته، وجعلته قوي الشكيمة، يستطيع أن يتحمل أعباء الحياة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، حيث كانت بداية نشأته العلمية على مائدة القرآن حيث حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وتربى ببيت متمسكٍ بدينه فساعده على الالتزام بالدين منذ صغره، وتأثر فيما بعد بالإمام الشهيد حسن البنا: حيث يقول القرضاوي: "إن أعظم الشخصيات أثراً في حياتي الفكرية والروحية هي شخصية الشهيد العظيم حسن البنا، مؤسس كبرى الحركات الإسلامية الحديثة .."(2).
__________
(1) - انظر: نصيحة لعامة المسلمين -شبكة المعلومات- www.aicp.de .
(2) - علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/466.(2/58)
أما عن ثقافته وعلمه فيقول: "وأنا الآن أقرأ في كل العلوم الإسلامية تفسيراً، وحديثاً، وفقهاً، وأصولاً، وتوحيداً، وتاريخاً، وتصوفاً، وأخلاقاً، وقد ظن بعض الناس -لاشتغالي بالنواحي الفقهية والأصولية- أنني خريج كلية الشريعة، والواقع أنني ابن أصول الدين، ولكن نزعة التحرر من التقليد والعصبية جعلتني أهتم بفقه الكتاب والسنة، وأعنى بالموازنة بين الأقوال والمذاهب، وأرجع إلى أصول الأدلة، وبخاصة أني اشتغلت بالفتوى من زمن غير قليل تحريراً ومشافهةً"(1)، وهذه الثقافة لدى الشيخ يوسف القرضاوي دفعته إلى التأليف والتصنيف ومن أشهر ما كتبه:
الحلال والحرام في الإسلام، العبادة في الإسلام، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، الناس والحق، الإيمان والحياة، فقه الزكاة، عالم وطاغية، درس النكبة الثانية، شريعة الإسلام، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، الخصائص العامة للإسلام، قضية التكفير بين الغلو والتقصير، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، شبهات المرتابين والمشككين في الحل الإسلامي، أعداء الحل الإسلامي، الصبر في القرآن، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، إلى غير ذلك من التصانيف للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي(2).
__________
(1) - علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/470.
(2) - انظر: المرجع السابق 1/476-477.(2/59)
والشيخ القرضاوي يعتبر من العلماء العاملين حيث لاقى من الابتلاءات والمحن ما لاقى حيث اعتقل عدة مرات بسبب نشاطه من أجل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، فيقول عن ذلك: "وقد أدى انتمائي إلى دعوة الإخوان المسلمين إلى اعتقالي عدة مرات. أولها: اعتقالي سنة 1949م نحو عشرة أشهر في عهد الملك فاروق، وقد كنت طالباً في السنة الخامسة الثانوية …، ثم كان اعتقالي في 2 يناير 1954م لمدة شهرين ونصف في عهد الثورة، ثم في نوفمبر 1954م لمدة عشرين شهراً تقريباً، ثم في يونيو 1962م نحو خمسين يوماً قضيتها في سجن انفرادي في مبنى مخابرات الثورة"(1)، ويبين الدكتور القرضاوي الأحداث الرهيبة التي عاشها في فترة اعتقاله وخاصة الأيام التي قضاها في السجن الحربي خلال محنة 1954م، فسطر قصيدة أسماها (النونية) والتي قال في خواتيمها متحدياً جبروت الطغاة:
ضع في يدي القيد، ألهب أضلعي ... بالسوط، ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة ... أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي، وقلبي في يَدَيْ ... ربي، وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي ... وأموت مبتسماً، ليحيا ديني(2)
ولمعرفة طبيعة معتقد الشيخ القرضاوي، وفكره الدعوي ويوجد ذلك في وصاياه للعلماء المعاصرين التي يجب أن يأخذوا بها، ليعود الإسلام إلى الحياة منها:
أن يكون ولاؤهم لله سبحانه، ولدينه وحده، لا لقومية، ولا لوطنية، ولا لأنظمة، ولا لأحزاب، ولا لأشخاص إلا بمقدار اتصالها بالإسلام وقربها منه.
أن يجعلوا مستندهم في كل قضية الرجوع إلى كتاب الله، وما صح من سنة رسول الله، مهتدين بهدي السلف الصالح لهذه الأمة في فهمهم لروح الإسلام، واتباعهم لمناهجه، عاملين على تحرير الإسلام مما شابه وابتدع فيه -على مر القرون- من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
__________
(1) - المرجع نفسه 1/472-473.
(2) - انظر: المرجع نفسه 1/482.(2/60)
أن يجهروا بكلمة الحق في وجوه الطغاة والمتألهين، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا سطوة ظالم.
أن يعرفوا عصرهم، وعدوهم، ومعركة وقتهم .. فلا يشغلوا أنفسهم وطلابهم وجمهورهم بمعارك جانبية، أو فرعية، أو تاريخية، غافلين عن معركة الوقت ومعركة المصير.
أن يتخذوا من قاعدة المنار الذهبية شعاراً لهم ودستوراً يتعاملون به فيما بينهم: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
أن يقفوا إلى جانب كل حركة إسلامية سليمة الاتجاه، تعمل على العودة بالإسلام إلى قيادة الحياة من جديد، وصبغ المجتمع بصبغة إسلامية(1).
وبعد هذا العرض السريع لأهم جوانب شخصية الدكتور القرضاوي وأهم المؤثرات في حياته، لا بد من ذكر بعض أوجه النشاط في خدمة الدعوة الإسلامية، فيقدم الدكتور القرضاوي بعض الصور من ذلك النشاط بقوله:
"في المجال الجامعي: حيث أعمل أستاذاً ورئيساً لقسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية في قطر، وذلك بعد أن عملت اثنتي عشرة سنة مديراً لمعهد قطر الديني الثانوي ….
في الميدان الشعبي: عن طريق الخطابة، والوعظ، وإلقاء الدروس بالمساجد.
في المجال الإعلامي: عن طريق البرامج التي أقدمها في الإذاعة والتليفزيون، ومنها برنامج أسبوعي لمدة نصف ساعة في إذاعة قطر للرد على رسائل المواطنين واستفتاءاتهم، ومثله في التليفزيون، وذلك بعد إنشاء الإذاعة والتليفزيون القطريين. هذا عدا برامج توجيهية أخرى أقدمها بين حين وآخر، وبخاصة في شهر رمضان.
المحاضرات التي أُدعى لإلقائها بتكليف من الجامعات والجمعيات والأندية والمؤسسات الثقافية وغيرها في بلاد العرب والإسلام، وأحياناً خارج الوطن الإسلامي.
__________
(1) - انظر: علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/486-489.(2/61)
المشاركة في المؤتمرات والندوات الإسلامية العلمية في البلاد الإسلامية وغيرها، مثل ندوة التشريع الإسلامي في ليبيا، والمؤتمر التاريخي الأول في بيروت، والمهرجان التعليمي لندوة العلماء بالهند، والمؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة، ومؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض، ومؤتمر الدعوة والدعاة بالمدينة المنورة، ومؤتمر اتحاد الطلاب المسلمين في الولايات المتحدة وكندا وغيرها.
كتابة المقالات والبحوث في المجلات الإسلامية، التي تصدر في أنحاء شتى من وطننا الإسلامي.
تأليف الكتب في مختلف مجالات الثقافة الإسلامية"(1)، وأخيراً إن كانت هناك كلمة فيقال أن الدكتور "القرضاوي ليس أول ضحاياهم .. ولا آخرها!"(2).
__________
(1) - علماء ومفكرون عرفتهم للمجذوب 1/474-475.
(2) - مجلة الأسرة ص36، العدد 77 -شعبان 1420هـ-.(2/62)
ومما سبق بيانه في هذا الفصل، يتبين أن الأحباش حادوا عن جادة الصواب في التعامل مع علماء الأمة القدامى منهم، والمعاصرين أمثال: الإمام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والأستاذ الشهيد سيد قطب، والشيخ أبي الأعلى المودودي، والشيخ الألباني، والدكتور يوسف القرضاوي -رحمهم الله- حيث إنهم كفروهم، ووصفوهم بأبشع الصفات، وتهكموا عليهم، وسخروا منهم، وهذا كله مخالف لما عليه أئمة أهل السنة والجماعة الذين قدّروا العلماء واحترموهم وإن كانوا مخالفين لهم في المذهب، لأنهم يعلمون أن أولئك القوم إنما يمثلون الإسلام بعلمهم وما قالوه إلا تعظيماً وإجلالاً لهذا الدين، وإن أخطأ بعضهم في الاجتهاد، وحاد عن الصواب، لأنهم فقهوا نصوص القرآن التي تحض على احترام العلم والعلماء والتي منها قوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر:9]، وقوله تعالى: { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة:11]، وتخصيص الله العلماء لخشيته في قوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28].(2/63)
وأما الأحاديث التي تبين فضل العلم والعلماء كثيرة منها: ما رواه معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(1)، وما رواه عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"(2)، ودعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "اللهم علمه الكتاب"(3)، وأي خيرٍ أفضل من العلم؟؟، ولهذا حرص علماء السلف على عدم جرح أو قدح أي عالم من العلماء المعاصرين لهم أو القدامى لمكانتهم، وحتى لا يكون ذلك سبباً في خوض عوام الناس في أعراض علماء الأمة الذين هم الحصون المانعة والواقية لهذا الدين، ومن أفضل ما قيل في الابتعاد عن ذلك ما ورد عن الإمام الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال: "وينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وألا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض، إلا إذا أتى ببرهانٍ واضح؛ ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صَفْحاً عما جرى بينهم، فإنك لم تُخْلَق لهذا، فاشتغل بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك، ولا يزال طالب العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين، ويقضي لبعضهم على بعض، فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ح71، 1/3، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، ح1037، 2/718.
(2) - صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ح73، 1/30-31، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، ح815، 1/558.
(3) - صحيح البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- اللهم علمه الكتاب، ح75، 1/31.(2/64)
… فإن اشتغلت بذلك خشيت عليك الهلاك فالقوم أئمة أعلام ولأقوالهم محامل، ربما يُفهم بعضها، فليس لنا إلا الترضي عنهم"(1)، ولذلك الحذر من الخوض في أعراض العلماء، فقد قال الإمام ابن عساكر محذراً من ذلك: "لحوم العلماء مسمومة، وهتك أستار منتقصهم معلومة. -وقوله أيضاً-: لحوم العلماء سمٌ من شمَّها مرِض، ومن ذاقها مات"(2)، ولما سبق بيانه يتوجب على الأحباش أن يكفوا وينتهوا عن الخوض في أعراض العلماء، ويتقوا الله فيهم.
الخاتمة
بعد أن وفقني الله -سبحانه وتعالى- إلى الانتهاء من هذا العمل، والذي إن أحسنت فمن الله وحده، وإن أسأت فمن نفسي ومن الشيطان، أختم هذا البحث بعرض خلاصة ما توصلت إليه من النتائج أُجملها فيما يلي:
يعتمد الأحباش على التأويل المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة والذي يعني صرف النص عن معناه الظاهر إلى معنىً محتمل، وذلك لتأويل صفات الله العليّ بحجة تنزيه الله عن التشبيه بالخلق، ويعتبر الحبشي آيات الصفات من المتشابه الذي يتوجب تأويله وصرفه عن الظاهر، مخافة الوقوع في التجسيم، وهذا مخالف لما عليه السلف الصالح.
قام الأحباش برد خبر الآحاد، وعدم اعتماده في الأمور العقدية، وذلك تمهيداً لتأويل صفات الله -سبحانه وتعالى-.
التردد الواضح لدى الأحباش في موضوع التقليد والاجتهاد، فتارةً يكونوا من أشد الدعاة إلى التقليد وعدم جواز المخالفة، وذلك عندما يدعون لاتباع منهج الأشاعرة، ويرون عدم جواز مخالفته؛ وأخرى يكونوا من دعاة الاجتهاد وذلك عندما يجتهدون في مسألة ما، فيقولوا بجواز الاجتهاد.
يعتبر الأحباش من أشد الناس تمسكاً بعلم الكلام؛ ويرون وجوب دراسته وتعلمه، وذلك لميل منهجهم في الاعتقاد إلى المسائل الكلامية، غاضين الطرف عن الويلات التي جاء بها هذا العلم على المسلمين بشكل عام، وعلى المشتغلين به بشكل خاص.
__________
(1) - طبقات الشافعية للسبكي 2/278.
(2) - الكواكب الدرية للكرمي ص235.(2/65)
اعتماد الأحباش بصورة كبيرة على الأدلة العقلية في إثبات وجود الله، وهذه الأدلة انتقدها السلف وبينوا عدم صحة الاستدلال بها لما تحويه من مآخذ، وأيضاً خالفوا السلف عندما جعلوا أول واجب على المكلف معرفة الله؛ والصحيح هو النطق بالشهادتين.
استخدم الأحباش ألفاظاً مبتدعةً بعيدة عن منهج أهل السنة والجماعة، والتي تعود في أصلها إلى المتكلمين والفلاسفة مثل: التركيب، والجسم، والتأليف، والجهة، والتحيز وأشباه ذلك من ألفاظ.
يؤخذ على الأحباش أنهم جعلوا التوحيد، والواحد، والأحد بمعنى الواحد، وهذا كلام معلوم الفساد.
استخدام الأحباش للأدلة العقلية في إثبات وحدانية الله، والتي منها دليل التمانع، وهو دليل صحيح لا شيء فيه من حيث التركيب، ولكن الخطأ الذي وقعوا فيه استخدامهم آية الأنبياء في غير موضعها، حيث استدلوا بها على توحيد الربوبية، وهي قصد بها توحيد الألوهية؛ مع العلم أن الألوهية أشمل من الربوبية.
قسّم الأحباش التوحيد بصورة مخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، وهذا التقسيم يحتمل أوجهاً عديدة من القصور والنقص.
وافق الأحباش السلف عندما قالوا بأن أسماء الله الحسنى أكثر من تسعة وتسعين اسماً، ولكنهم خالفوا عندما جعلوا الاسم هو الصفة نفسها.
خالف الأحباش السلف عندما قاموا بتأويل صفات الله عن ظاهرها، وأيضاً عندما اقتصروا على وجوب معرفة ثلاث عشرة صفة وهي: الوجود، القدم، البقاء، السمع، البصر، الإرادة، القدرة، العلم، الحياة، الوحدانية، القيام بالنفس، المخالفة للحوادث، الكلام، ومع ذلك أوّلوا هذه الصفات عن ظاهرها، وأخرجوها عن حقيقتها.(2/66)
اعتقاد الأحباش في النبوات موافق لما عليه السلف من حيث إن إرسالهم إنما هو تفضل من الله على عباده، وفي ذكر الصفات الواجب توفرها في الرسل؛ وصحة اعتقادهم في سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الحبشي قصَّر عندما جعل دليل النبوة يقتصر على المعجزة فقط، بل هذا يعتبر دليلاً واحداً من مجموعة أدلة، وليست هي وحدها فقط الدليل على صدق النبوة.
يؤمن الأحباش بالأمور الغيبية، ويوافقون السلف في ذلك، حيث إنهم يؤمنون بعذاب القبر ونعيمه، ولكنهم يخالفون عندما جعلوا عذاب آل فرعون قبل قيام الساعة الذي أخبر الله به إنما يقتصر على إدخال الرعب في قلوبهم، دون تعذيبهم بالنار، وأيضاً وافق الأحباش السلف في إثبات الحشر يوم القيامة للعباد.
خالف الأحباش السلف في مسألة الشفاعة، حيث أثبتوا شفاعة واحدة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي لأهل الكبائر، وأحياناً يثبتون شفاعة أخرى للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي تخليص الناس من حر الشمس يوم القيامة، وهذا بخلاف الشفاعات الثماني التي أثبتها علماء السلف -رحمهم الله- للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وافق الأحباش السلف في مجموعة من الأمور الأخروية مثل: محاسبة الله للعباد، والجنة والنار والميزان، وبالثواب والعقاب للعبيد، وبالإيمان بالصراط، ولكنهم خالفوا بوصف الصراط بأنه جسر عريض خلاف ما قال السلف بأنه أدق من الشعر وأحدّ من السيف.
سار الأحباش في تعريفهم للقضاء والقدر على منهج السلف، وبالإيمان بالقدر خيره وشره، ولهم نصوص توهم القول بالجبر، وذلك من خلال القول بمقالة الأشاعرة في الكسب والتي حقيقتها لا تأثير لقدرة العبد في الكسب.
يرى الأحباش أن الإيمان بمعنى التصديق بالقلب والإقرار باللسان دون ذكر العمل، وهذا خلاف ما عليه السلف الصالح في تعريفهم للإيمان، وأيضاً يؤخذ عليهم أنهم جعلوا الإيمان والإسلام بمعنى واحد، والسلف -رحمهم الله- أوجدوا فرقاً وتغايراً بين مسمى الإيمان والإسلام.(2/67)
وافق الأحباش المرجئة عندما جعلوا الإيمان مقتصراً على الإيمان بالقلب والإقرار باللسان دون إدخال العمل فيه.
تقسيم الأحباش للكفر بأقسامه الثلاثة: الكفر الاعتقادي، الكفر الفعلي، الكفر القولي، فإن قصدوا بذلك المسمى الطبيعي للردة، فهذا صحيح، وإن أرادوا بذلك المسمى العام للكفر الذي يتصف به كل مخالف لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا خلاف ما عليه السلف، لأنهم جعلوا الكفر نوعين: أصغر وأكبر، والكفر الأكبر ينقسم إلى خمسة أقسام: تكذيب، وإباء، وإعراض، وشك، ونفاق، وأيضاً فإن الأحباش تميزوا بإطلاق عبارات الكفر دون ضابط ضد مخالفيهم.
وافق الأحباش السلف في معظم مستثنيات الكفر، ولكنهم حادوا عن قول السلف عندما التمسوا العذر لمانعي الزكاة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وجعلهم معذورين في اجتهادهم الخاطئ.
يعتبر الأحباش من أتباع الطرق الصوفية، ومع شيخهم إجازات في طرق منها كالقادرية، والرفاعية، والنقشبندية، وفي هذه الطرق من البدع ما يعلمه الله سبحانه وتعالى، والتي من أشهرها: الاستغاثة والتوسل بالأموات، وزيارة قبور الرسل والأولياء للتبرك بها بحجة التقرب إلى الله، الاعتقاد بأن الولي الصالح قد يخرج من قبره كرامةً له، واستعمال الدف بحجة التقرب إلى الله.
وعن موقف الأحباش من الخلفاء الراشدين فيوافقوا السلف بتفضيل الصديق -رضي الله عنه- على سائر الصحابة، ولكنهم يذكرون شيئاً غريباً هو أن من ينكر صحبة أبي بكر الصديق بقلبه يكفر بخلاف إنكار صحبة الخلفاء الراشدين الثلاثة سوى أبي بكر -رضي الله عنه-، وهذا كلام لم يرد عن سلف هذه الأمة، وإنما هذا من شواذ الفكر لدى الأحباش.(2/68)
افترت الأحباش على الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، وأطالوا عليه لسانهم عندما وصفوه بالباغي، ولم يتأدبوا بأدب السلف الصالح، وخاضوا فيما شجر بين الصحابة، حتى أنهم تجرءوا على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بوصفها بالوقوع في المعصية.
افترت الأحباش على كثير من العلماء الكرام أمثال: شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن عبد الوهاب، والأستاذ الشهيد سيد قطب، والشيخ أبي الأعلى المودودي، والشيخ الألباني، والدكتور يوسف القرضاوي، بحيث كفّروهم، ووصفوهم بالزنادقة والجهال، والزائغين، وبالسخفاء، وبالإرهابيين، وبالمتطرفين وغير ذلك من الألفاظ البشعة، التي ليس من الأدب وصف عوام الناس بها، ويعتبر ذلك من الفجور بالخصومة، فكيف يكون ذلك في حق العلماء العاملين.
تدعو هذه الفرقة إلى الاعتزاز بالقومية العربية أكثر من الاعتزاز بالانتساب إلى الدين الإسلامي.
ومما سبق بيانه يظهر بدون أي ريب أن الأحباش ضلوا عن منهج السلف الصالح، وذلك بارتكابهم الكثير من المحظورات الاعتقادية، والتي تم بيانها بين طيات البحث.
التوصيات:
إن كان لا بد من توصيات أوصي بها في نهاية هذا البحث، فأوصي بما يلي:
الرجوع إلى الكتاب والسنة كمصدر أساسي في استقاء العقيدة الصحيحة، وعدم اعتماد المناهج الكلامية كطريقة في بناء العقيدة لدى الفرد المسلم.
السكوت عما شجر بين الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، وعدم البحث عن زلات العلماء -إن وجدت- لأنهم الستر الواقي لهذا الدين الحنيف.
دراسة الجانب الفقهي لدى الأحباش، ومناقشتهم في الأقوال الشاذة التي يعتمدون عليها في فتاويهم، وذلك من خلال دراسة علمية من قِبل أحد طلبة كلية الشريعة.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل،
وصلى الله على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفهارس
...
... أولاً ... : ... فهرس الآيات القرآنية.(2/69)
ثانياً ... : ... فهرس الأحاديث النبوية.
ثالثاً ... : ... فهرس الأعلام المترجم لها.
رابعاً ... : ... فهرس المراجع و المصادر.
خامساً ... : ... فهرس الموضوعات.
أولاً : فهرس الآيات القرآنية
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
الفاتحة ... (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ... 4 ... 107،292
الفاتحة ... (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ... 1 ... 101،113
الفاتحة ... (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ... 2 ... 113
الفاتحة ... (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ... 3 ... 113
البقرة ... (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ... 277 ... 240
البقرة ... (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) ... 177 ... 258
البقرة ... (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ... 3 ... 199
البقرة ... (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ... 15 ... 132
البقرة ... (الم) ... 1 ... 141
البقرة ... (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) ... 89 ... 265،353
البقرة ... (كُنْ فَيَكُونُ) ... 117 ... 149
البقرة ... (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ... 286 ... 238
البقرة ... (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ…) ... 255 ... 171،301
البقرة ... (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ…) ... 210 ... 159
البقرة ... (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى…) ... 29 ... 143
البقرة ... (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ…) ... 127-129 ... 189
البقرة ... (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ... 43 ... 137
البقرة ... (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ... 163 ... 103
البقرة ... (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) ... 247 ... 101(2/70)
البقرة ... (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي …) ... 116 ... 149
البقرة ... (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ... 115 ... 147
آل عمران ... (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) ... 19 ... 250
آل عمران ... (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) ... 55 ... 170
آل عمران ... (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ... 26 ... 234
آل عمران ... (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ) ... 173 ... 153
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
آل عمران ... (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا…) ... 16 ... 293
آل عمران ... (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ…) ... 53 ... 293
آل عمران ... (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ... 119 ... 122
آل عمران ... (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ... 31 ... 183
آل عمران ... (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ…) ... 7 ... 15،36،38
آل عمران ... (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ…) ... 81 ... 189
آل عمران ... (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا…) ... 103 ... 287،361
آل عمران ... (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ... 85 ... 254
النساء ... (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ... 48 ... 205،355
النساء ... (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ... 31 ... 205
النساء ... (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ …) ... 163-164 ... 176(2/71)
النساء ... (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) ... 158 ... 146،170
النساء ... (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ... 35 ... 17
النساء ... (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ…) ... 59 ... 345
النساء ... (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ…) ... 79 ... 233
النساء ... (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ... 11 ... 103
النساء ... (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ... 36 ... 192،292
النساء ... (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ... 125 ... 250
النساء ... (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ…) ... 1 ... 104
المائدة ... (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) ... 22 ... 236
المائدة ... (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) ... 64 ... 151
المائدة ... (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ... 67 ... 139
المائدة ... (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) ... 54 ... 260
المائدة ... (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ... 64 ... 268
المائدة ... (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) ... 44 ... 267
المائدة ... (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…) ... 3 ... 276
الأنعام ... (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) ... 90 ... 275
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
الأنعام ... (الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ... 82 ... 59
الأنعام ... (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ... 33 ... 265
الأنعام ... (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ…) ... 65 ... 20(2/72)
الأنعام ... (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ…) ... 153 ... أ،287
الأنعام ... (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا…) ... 114 ... 139
الأنعام ... (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) ... 18، 61 ... 163،170
الأعراف ... (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) ... 194 ... 292
الأعراف ... (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ... 55 ... 292
الأعراف ... (المص) ... 1 ... 141
الأعراف ... (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ…) ... 53 ... 17
الأعراف ... (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ…) ... 172 ... 93
الأعراف ... (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ... 204 ... 135
الأعراف ... (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا…) ... 197 ... 292
الأعراف ... (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ…) ... 180 ... 293،365
الأنفال ... (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ…) ... 2-4 ... 118
الأنفال ... (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) ... 1 ... 122
الأنفال ... (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ... 24 ... 230
الأنفال ... (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ... 74 ... 316
الأنفال ... (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) ... 30 ... 131
التوبة ... (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ... 40 ... 310
التوبة ... (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) ... 31 ... 59(2/73)
التوبة ... (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ…) ... 26 ... 316
التوبة ... (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) ... 122 ... 47
التوبة ... (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ) ... 117 ... 316
التوبة ... (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ…) ... 33 ... 48
التوبة ... (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى…) ... 6 ... 135،140
التوبة ... (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ…) ... 12 ... 353
التوبة ... (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ …) ... 100 ... 56،314
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
التوبة ... (وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى…) ... 30 ... 268
التوبة ... (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) ... 105 ... 240
يونس ... (ِبَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) ... 39 ... 18
يونس ... (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) ... 83 ... 247
يونس ... (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) ... 26 ... 150
هود ... (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ... 7 ... 288
هود ... (يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) ... 81 ... 180
يوسف ... (تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) ... 95 ... 130
يوسف ... (فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ) ... 10، 15 ... 198
يوسف ... (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ…) ... 37 ... 19
يوسف ... (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) ... 44 ... 19(2/74)
يوسف ... (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) ... 36 ... 18
يوسف ... (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ) ... 100 ... 19
يوسف ... (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) ... 101 ... 19
يوسف ... (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ …) ... 45 ... 19
يوسف ... (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) ... 21 ... 18
يوسف ... (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) ... 17 ... 243
يوسف ... (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ... 106 ... 115
يوسف ... (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) ... 6 ... 18
الرعد ... (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ) ... 16 ... 110
الرعد ... (فَلَا مَرَدَّ لَهُ) ... 11 ... 260
إبراهيم ... (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) ... 10 ... 90،92
إبراهيم ... (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ…) ... 48 ... 210
الحجر ... (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ…) ... 92-93 ... 218
النحل ... (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) ... 17 ... 355،357
النحل ... (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ) ... 98 ... 138
النحل ... (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ... 43 ... 62،177
النحل ... (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) ... 74 ... 365
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
النحل ... (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) ... 102 ... 138
النحل ... (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) ... 101 ... 138
النحل ... (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ) ... 106 ... 268،279
النحل ... (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) ... 60 ... 365(2/75)
النحل ... (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) ... 50 ... 161،163
الإسراء ... (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) ... 38 ... 235
الإسراء ... (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ…) ... 29 ... 152
الإسراء ... (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) ... 32 ... 137
الكهف ... (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) ... 82 ... 19
الكهف ... (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) ... 78 ... 19
الكهف ... (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) ... 105 ... 222
الكهف ... (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ…) ... 110 ... 179،246
الكهف ... (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) ... 47 ... 210
الكهف ... (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ…) ... 35-38 ... 266
الكهف ... (وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ…) ... 49 ... 104،218
مريم ... (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ…) ... 93-95 ... 210
مريم ... (كهيعص) ... 1 ... 141
مريم ... (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ... 65 ... 36،152
مريم ... (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) ... 52 ... 133
مريم ... (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْدًا) ... 85 ... 212
طه ... (الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ... 5 ... 36،141
طه ... (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) ... 110 ... 72
طه ... (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ…) ... 112 ... 224
طه ... (يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ... 11-12 ... 133
الأنبياء ... (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) ... 104 ... 166،211(2/76)
الأنبياء ... (لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ... 22 ... 105،106
الأنبياء ... (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ…) ... 52-53 ... 60
الأنبياء ... (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى) ... 28 ... 213
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
الأنبياء ... (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) ... 7 ... 178
الأنبياء ... (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) ... 47 ... 219
الحج ... (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) ... 75 ... 180
الحج ... (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) ... 52 ... 175
المؤمنون ... (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ…) ... 102-103 ... 220
المؤمنون ... (قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ) ... 84-89 ... 115
المؤمنون ... (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ…) ... 91 ... 110
النور ... (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) ... 16 ... 355
النور ... (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا…) ... 55 ... 313
النور ... (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) ... 40 ... 226
الفرقان ... (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ…) ... 25-26 ... 159
الشعراء ... (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ... 195 ... 27
الشعراء ... (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ…) ... 193-194 ... 127
النمل ... (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ) ... 5 ... 218
النمل ... (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) ... 14 ... 265(2/77)
النمل ... (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) ... 40 ... ج
القصص ... (إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) ... 48 ... 259
القصص ... (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ... 88 ... 28،147
القصص ... (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) ... 14 ... 143
العنكبوت ... (بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ... 49 ... 141
العنكبوت ... (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) ... 26 ... 247
العنكبوت ... (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ) ... 61 ... 115
الروم ... (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ... 47 ... 292
لقمان ... (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ... 13 ... 59
السجدة ... (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ... 17 ... 240
الأحزاب ... (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ... 67 ... 60
الأحزاب ... (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ... 21 ... 183
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
الأحزاب ... (مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) ... 35 ... 321
الأحزاب ... (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ... 40 ... 179،304
سبأ ... (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) ... 34 ... 59
سبأ ... (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا…) ... 23 ... 134
فاطر ... (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ... 10 ... 146،170
فاطر ... (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ... 28 ... 382
يس ... (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ... 82 ... 333
يس ... (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) ... 39 ... 124،130(2/78)
الصافات ... (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) ... 23 ... 227
الصافات ... (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ... 96 ... 233
ص ... (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ... 75 ... 151
الزمر ... (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ... 1 ... 139
الزمر ... (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ…) ... 18 ... أ
الزمر ... (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا …َ) ... 9 ... 382
الزمر ... (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ... 67 ... 166
غافر ... (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا…) ... 46 ... 200
غافر ... (حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ... 1-2 ... 139
غافر ... (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) ... 45 ... 202
غافر ... (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ... 64 ... 365
غافر ... (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ…) ... 34 ... 176
غافر ... (يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ…) ... 36-37 ... 171
فصلت ... (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ... 40 ... 240
فصلت ... (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ... 46 ... 232
الشورى ... (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ... 11 ... 32،36،72
الشورى ... (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ…) ... 30 ... 224،233
الشورى ... (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) ... 10 ... 345
الزخرف ... (إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) ... 22 ... 62
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
الزخرف ... (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) ... 13 ... 143(2/79)
الزخرف ... (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ…) ... 23-24 ... 59
الدخان ... (حم) ... 1 ... 141
الأحقاف ... (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) ... 25 ... 28، 33
محمد ... (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ…) ... 9 ... 354
محمد ... (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) ... 5 ... 227
محمد ... (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ... 19 ... 354
الفتح ... (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ…) ... 18 ... 56،313
الفتح ... (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ... 10 ... 151
الحجرات ... (قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ... 14 ... 243،246
الحجرات ... (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ…) ... 9 ... 323الحاشية
الحجرات ... (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) ... 7 ... 246
الحجرات ... (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ... 6 ... 47
الذاريات ... (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا…) ... 52 ... 174الحاشية
الذاريات ... (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ... 21 ... 91
الذاريات ... (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ... 56 ... 93
النجم ... (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) ... 32 ... 205
القمر ... (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) ... 49 ... 232
القمر ... (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ... 14 ... 149
القمر ... (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر…) ... 13-14 ... 34(2/80)
الرحمن ... (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ... 27 ... 131،132
الحديد ... (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ…) ... 3 ... 90،130
الحديد ... (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) ... 10 ... 323
المجادلة ... (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ) ... 22 ... 246
المجادلة ... (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا …) ... 11 ... 382
الحشر ... (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا…) ... 10 ... 329
الممتحنة ... (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ…) ... 4 ... 114
الصف ... (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ…) ... 6 ... 190
اسم السورة ... الآية ... رقمها ... الصفحة
التحريم ... (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ... 4 ... 153
التحريم ... (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا…) ... 6 ... 256
الملك ... (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) ... 16 ... 146،161
الملك ... (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ... 1 ... 151
القلم ... (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) ... 42 ... 28،133
المعارج ... (ذِي الْمَعَارِجِ) ... 3 ... 170
الجن ... (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا…) ... 18-20 ... 292
المزمل ... (وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا) ... 4 ... 135
المدثر ... (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) ... 11 ... 103،104
المدثر ... (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) ... 48 ... 216
القيامة ... (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ... 16 ... 141
الإنسان ... (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنْزِيلًا) ... 23 ... 135
النبأ ... (جَزَاءً وِفَاقًا) ... 26 ... 228(2/81)
التكوير ... (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ... 19 ... 127
التكوير ... (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ…) ... 28-29 ... 232،239
المطففون ... (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) ... 18 ... 229
المطففون ... (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) ... 7 ... 229
الأعلى ... (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ... 1 ... 163
الفجر ... (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ... 22 ... 28،154
التين ... (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ…) ... 1-3 ... 191
العلق ... (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ... 1 ... 93
البينة ... (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ…) ... 5 ... 246
الزلزلة ... (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه…) ... 7-8 ... 218
العصر ... (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ... 2 ... 153
الإخلاص ... (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ... 1 ... 103،109
الإخلاص ... (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ... 4 ... 36،109
الفلق ... (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ…) ... 1-2 ... 233،244
ثانياً: فهرس الأحاديث النبوية
الرقم ... الحديث ... الصفحة
أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدابة يركبها ... 144
إذا أحب الله العبد نادى جبريل أن أحب فلاناً فأحبوه ... 159
إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ... 322
إذا سألتم الله -الجنة- فسلوه الفردوس ... 228
إذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، حمدني عبدي ... 113
إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها ... 134
إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول ... 165
إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة ... 296
أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل ... 191
أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ... 336(2/82)
الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... 254
أصاب الناس سَنة على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم - ... 294
أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... 107
أعتقها فإنها مؤمنة ... 161
أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد ... 304
أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم ... 150
ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ... 165
أما أنها كائنة ولما يأتِ تأويلها ... 20
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... 246،271
إن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - حدثني أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج ... 212
إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به ... 137
إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه ... 171
إن الله سيخلَّصُ رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ... 220،222
إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ... 317
إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... 258
إن الله لما خلق الخلق، كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش ... 171
الرقم ... الحديث ... الصفحة
إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ... 269
إن الله يحدث من أمره ما يشاء ... 136
أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج، فوج راكبين طاعمين كاسين ... 212
أن النبي كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ملبياً ... 144
أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ ... 207
إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... 136
إن عماراً تقتله الفئة الباغية ... 324
إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ ... 204
إن لله تسعةٍ وتسعين اسماً مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة ... 116
إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة النهار ... 165(2/83)
إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ... 165
إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد ... 190
إن هذه الأمة ستبتلى في قبورها ... 201
أنا أول شفيع في الجنة ... 217
أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ... 189
أنا سيد الناس يوم القيامة ... 139
إنك تأتي قوماً أهل كتاب ... 93
إنكم محشورون حفاة عراة غُرْلاً ... 211،212
إنما الأعمال بالنيات ... 47
إنما الأعمال بخواتيمها ... 363
أنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله قال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم ... 322
إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ... 222
إنه ليس الذي تعنون ... 59
إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ... 104
إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ... 60
آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان ... 266
أيصلي الرجل في الثوب الواحد ... 104
الرقم ... الحديث ... الصفحة
الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر ... 230
أين الله؟، قالت: في السماء ... 171
احتج آدم وموسى، فقال: أنت الذي خلقك الله عز وجل بيده ... 152
ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ... 314
اذكروا محاسن موتاكم وكفُّوا عن مساويهم ... 346
بلغني أنه أدقُّ من الشعرة، وأحدُّ من السيف ... 225
بلغوا عني ولو آية ... 59
بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها ... 314
تبدل الأرض غير الأرض والسموات، فيبسطها ويسطحها ... 211
تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله ... 275
تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ... 276،286،311
تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ... 74،83
تكون الأرض يوم القيامة خبزةً واحدة ... 151
تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ... 322
ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم ... 171
الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك ... 312
خير الناس قرني ... 56(2/84)
دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة ... 275
رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة ... 207
ربنا الله الذي في السماء ... 165
سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) ... 211
سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ... 267
سبعة يظلهم الله في ظله ... 223
شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ... 213،217
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ... 205
عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل ... 176
فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ ... 346
الرقم ... الحديث ... الصفحة
فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء ... 215
فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة ... 202،229
فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ... 129
القاعد فيها خير من القائم ... 324
كان الله ولم يكن شيء غيره ... 91،162،169
كان النبي يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ... 20
كل المسلم على المسلم حرامٌ دمه ... 346
كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ... 222
كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا… ... 329
لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا ... 346
لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر ... 60
لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ... 47
لا حسد إلا في اثنتين … ... 383
لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً ... 320
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ... 252
لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك ... 234
لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضحاح من نار ... 216
لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته ... 215
لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده ... 163
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ... 294(2/85)
اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ... 289،290،295
اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ومن عذاب القبر لا إله إلا أنت ... 201
اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ... 201
اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به ... 317
اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب ... 29
اللهم علمه الكتاب ... 383
لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي ... 204
لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ... 317
الرقم ... الحديث ... الصفحة
ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ... 117،293
ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان ... 218،219
مروا أبا بكر فليصلّ بالناس ... 314
من أتى عرّافاً فسأله عن شيء، لم يقبل له صلاة أربعين ليلة ... 199
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ... 286
من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار ... 59
من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ... 382
النظر إلى وجه الله تعالى ... 150
نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ... 104
نهي عن بيع الولاء وهبته ... 47
هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء ... 203
هلاك أمتي في الكتاب اللَّبن ... 29
هلك المتنطعون ... 75
هم في الظلمة دون الجسر ... 210،222
وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر ... 266
وأهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما استوى على راحلته ... 146
والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه ناراً في قبره ... 208
والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ... 222
والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها ... 161،164
والصراط كحد السيف، دحض مزلة ... 226
وما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك ... 318
يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة ... 329
يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، قال: أوفي بنذرك ... 305(2/86)
يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: تقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتحج البيت ... 246
يا رسول الله، ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة ... 207
يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام ... 328
يا عائشة، ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو ... 304
يا معشر من آمن بلسانه، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ... 246
الرقم ... الحديث ... الصفحة
يحشر الله الخلائق فيناديهم بصوتٍ يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قرب ... 134
يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف ... 211
يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ... 211
يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك ... 133
يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة ... 320
يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب ... 171
يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحَّاء الليل والنهار ... 234
ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ... 156،159
يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ... 324
ثالثاً : فهرس تراجم الأعلام
الرقم ... العلم ... الصفحة
إبراهيم بن أحمد بن عمر (أبو اسحق بن شاقلا). ... 35
إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي (أبو ثور). ... 244
إبراهيم بن محمد بن أبي بكر (ابن القيم). ... 40
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي (الشاطبي). ... 276
أبو الأعلى المودودي. ... 366
أبو عبد الرحمن مولى رسول الله (سفينة). ... 312
أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل (أبو بكر الإسماعيلي). ... 251
أحمد بن إبراهيم الواسطي (عماد الدين ابن شيخ الحزاميين). ... 342
أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن (القرافي). ... 234
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (ابن تيمية). ... 331
أحمد بن عبد الواحد ابن المحدث (ابن أبي الحديد). ... 84
أحمد بن علي بن أحمد (الرفاعي). ... 280
أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي (أبو بكر). ... 46
أحمد بن علي بن عبد القادر (المقريزي). ... 184(2/87)
أحمد بن علي بن محمد (ابن حجر العسقلاني). ... 46
أحمد بن محمد بن سلامة (أبو جعفر الطحاوي). ... 102
أحمد بن يحيى بن فضل الله (ابن فضل الله العمري). ... 341
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة (السدي). ... 15
إسماعيل بن عمر بن كثير (ابن كثير). ... 16
بشر بن مروان بن الحكم. ... 141
الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي (أبو عبد الله). ... 49
الحسن بن أبي الحسن يسار (الحسن البصري). ... 68
الحسين بن علي بن يزيد (الكرابيسي). ... 45
الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء (أبو محمد البغوي). ... 251
حنبل بن اسحق بن حنبل (حنبل). ... 34
خالد بن أحمد بن حسين (بهاء الدين النقشبندي). ... 284
الخليل بن أحمد (الفراهيدي). ... 42
الرقم ... العلم ... الصفحة
ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ربيعة الرأي). ... 22
سفيان بن سعيد بن مسووق (الثوري). ... 31
سليمان بن خلف بن سعد (الباجي). ... 53
سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي (سيد قطب). ... 359
صالح بن أحمد بن محمد (أبو الفضل). ... 35
صالح بن المهدي بن علي (المقبلي). ... 108
عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار. ... 227
عبد الحق بن أبي بكر بن عطية (ابن عطية). ... 15
عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد (السيوطي). ... 39
عبد الرحمن بن أبي عبدالله محمد بن اسحق (أبو القاسم ابن منده). ... 158
عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين (ابن رجب). ... 244
عبد الرحمن بن اسحق بن إبراهيم. ... 122
عبد الرحمن بن عبد المحسن بن عمر (الواسطي). ... 283
عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد (أبو عمر الأوزاعي). ... 31
عبد الرحمن بن محمد بن محمد (ابن خلدون). ... 69
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم (ابن عبد السلام). ... 227
عبد القادر بن عبدالله بن جنكي (الجيلاني). ... 283
عبد الله بن أحمد بن محمد. ... 34
عبد الله بن مسلم الدينوري (ابن قتيبة). ... 38
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف (إمام الحرمين أبو المعالي). ... 25(2/88)
عبد الوهاب بن أحمد بن علي (الشعراني). ... 283
عبدالله بن أحمد بن محمد (ابن قدامة المقدسي). ... 244
عبدالله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز (ابن بابطين). ... 131
عبدالله بن علي بن الجارود النيسابوري (أبو بكر بن الجارود). ... 91
عبدالله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي (المأمون). ... 67
عثمان ابن المفتي عبد الرحمن بن عثمان (ابن الصلاح). ... 53
عروة بن الزبير بن العوام. ... 21
علي بن أبي علي بن محمد (الآمدي). ... 82
علي بن أحمد بن سعيد (ابن حزم). ... 45
الرقم ... العلم ... الصفحة
علي بن خلف بن بطال (ابن بطال). ... 244
علي بن عبد الكافي بن علي (تقي الدين السبكي). ... 79
علي بن عبد الله بن جعفر (ابن المديني). ... 32
علي بن عقيل بن محمد (أبو الوفاء). ... 81
عمر بن علي بن موسى (الإمام البزار). ... 344
عمر بن محمد بن أحمد (النسفي). ... 252
عمر بن مظفر بن عمر (ابن الوردي). ... 337
عمرو بن عبيد (أبو عثمان البصري). ... 68
عياض بن موسى بن عياض (أبو الفضل). ... 185
القاسم بن محمد بن يوسف (الحافظ البرزالي). ... 339
قتادة بن دعامة السدوسي. ... 17
الليث بن سعد بن عبد الرحمن (أبو الحارث). ... 31
مجاهد بن جبر (أبو الحجاج). ... 17
محمد بن أحمد بن أبي بكر (أبو عبدالله القرطبي). ... 205
محمد بن أحمد بن الأزهري (أبو منصور). ... 13
محمد بن أحمد بن سالم (السفاريني). ... 183
محمد بن أحمد بن عبد الهادي (ابن عبد الهادي). ... 340
محمد بن أحمد بن عثمان (الحافظ الذهبي). ... 338
محمد بن أحمد بن محمد (ابن رشد). ... 106
محمد بن الحسين بن عبدالله البغدادي الآجري (أبو بكر). ... 157
محمد بن الخطيب بن محمد (الباقلاني). ... 25
محمد بن بهادر بن عبدالله (الزركشي). ... 79
محمد بن جابر بن حماد (المروزي). ... 35
محمد بن جرير بن يزيد (الطبري). ... 15
محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام. ... 41(2/89)
محمد بن داود بن علي (داود الظاهري). ... 45
محمد بن عبد البر بن يحيى (بهاء الدين السبكي). ... 341
محمد بن عبد الرحيم بن محمد (صفي الدين الهندي). ... 68
محمد بن عبد السلام بن سعيد (ابن سحنون). ... 27
الرقم ... العلم ... الصفحة
محمد بن عبد الكريم بن أحمد (الشهرستاني). ... 67
محمد بن عبد الوهاب بن سليمان (ابن عبد الوهاب). ... 347
محمد بن علي بن اسحق (ابن خواز منداد). ... 44
محمد بن علي بن الحسن (الحكيم الترمذي). ... 204
محمد بن علي بن عبد الواحد (ابن الزملكاني). ... 338
محمد بن علي بن عمر (أبو عبدالله المازري). ... 184
محمد بن علي بن محمد (الشوكاني). ... 71
محمد بن علي بن وهب (ابن دقيق العيد). ... 337
محمد بن علي بن وهب (الفتح القشيري). ... 84
محمد بن عمر بن الحسن (الرازي). ... 73
محمد بن محمد بن الحافظ محمد (ابن سيد الناس). ... 337
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد (الغزالي). ... 25
محمد بن محمد بن محمد عبد الرازق (الزبيدي). ... 53
محمد بن مسلم بن عبيد الله (الزهري). ... 21
محمد بن مكرم بن علي (ابن منظور). ... 37
محمد بن ناماور بن عبد الملك (الخوفجي). ... 81
محمد بن يوسف بن علي (أبو حيان). ... 338
محمد ناصر الدين نوح نجاتي (الألباني). ... 371
مرعي بن يوسف بن أبي بكر (مرعي الحنبلي). ... 341
مقاتل بن حيان بن دوال دور (أبو بسطام). ... 16
ميمون بن محمد بن محمد (أبو المعين النسفي). ... 204
نصر بن إبراهيم بن نصر (المقدسي). ... 76
واصل بن عطاء (أبو حذيفة المخزومي). ... 68
الوليد بن أبان الكرابيسي. ... 80
الوليد بن مسلم (أبو العباس). ... 31
يوسف بن عبد البر بن عبد الله (ابن عبد البر). ... 31
يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف (الإمام المزي). ... 339
يوسف عبدالله القرضاوي (أبو محمد). ... 377
رابعاً : المراجع والمصادر
... القرآن الكريم(2/90)
أئمة الفقه التسعة لعبد الرحمن الشرقاوي، الناشر: العصر الحديث، بيروت، ط الثانية 1406هـ-1985م.
أبو الأعلى المودودي فكرته ودعوته أسعد جيلاني، ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، الناشر: مطبعة المكتبة العلمية، لاهور، سنة 1398هـ.
أبو الأعلى المودودي ومنهاجه في الإصلاح والدعوة إعداد صالح حسين الرقب (مخطوط) سنة 1402هـ-1403هـ (رسالة ماجستير).
إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للعلامة محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير مرتضى، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1418هـ –1989م.
الإحكام في أصول الأحكام لأبي الحسن الآمدي، الناشر: دار الحديث، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الإحكام في الأحكام لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1404هـ–1984م.
أخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان المعروف بوكيع، الناشر: عالم الكتب، بيروت -بدون تاريخ نشر ورقم طبعة-.
الإرشاد -إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد -لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، تحقيق: أسعد تميم، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط الأولى 1405 هـ - 1985م.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، الناشر: دار المعرفة، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
أساس التقديس في علم الكلام لأبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط الأولى 1415هـ–1995م.
الأسماء والصفات لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الأشباه والنظائر -في قواعد وفروع فقه الشافعية- للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1413هـ-1983م.
أصل الاعتقاد د. عمر سليمان الأشقر، الناشر: الدار السلفية، ط الثالثة 1405هـ–1985م.(2/91)
الأصول الثلاثة وأدلتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب، الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق، بدون رقم طبعة، 1387هـ-1967م.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن محمد الأمين بن محمد الشنقيطي، الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة –بدون رقم طبعة- 1408هـ-1988م.
إظهار العقيدة السنية بشرح العقيدة الطحاوية الشيخ عبد الله الهرري، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع، ط الثالثة 1417هـ-1997م.
الإعجاز العلمي في القرآن د. عبد السلام اللوح، الناشر: آفاق -غزة، ط الأولى 1419هـ-1999م.
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الثالثة 1417هـ –1997م.
الأعلام خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط الخامسة 1980م.
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
الأم لمحمد بن إدريس الشافعي، الناشر: دار الفكر، بيروت، ط الأولى 1400هـ-1980م، وطبعة: مكتبة الكليات الأزهرية، ط الأولى 1961م.
الإيمان لابن تيمية، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1414هـ-1993م.
الاتفاق في علوم القرآن جلال الدين السيوطي، الناشر: دار المعرفة، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الاجتهاد ـ الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ـ لجلال الدين السيوطي، تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد، الناشر: مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية -بدون رقم طبعة- 1405هـ-1985م.
الاستذكار -الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار- لابن عبد البر، مراجعة وتدقيق وترقيم: د. عبد المعطي أمين قلعجي، الناشر: مؤسسة الرسالة، دمشق، ط الأولى 1414هـ-1993م.(2/92)
الاعتصام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي، الناشر: دار المعرفة، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
الاعتقاد للإمام ابن قداحة المقدسي، تحقيق: عادل عبد المنعم أبو العباس، الناشر: مكتبة القرآن، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
اعتقادات فرق المسلمين والمشركين فخر الدين الرازي، تحقيق: محمد زينهم محمد عزب، الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة، ط الأولى 1413هـ-1993م.
اقتضاء الصراط المستقيم -في مخالفة أصحاب الجحيم- لابن تيمية، الناشر: مطابع المجد التجارية -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
البداية والنهاية لأبي الفداء ابن كثير، الناشر: مكتبة المعارف، بيروت، ط الأولى 1966م.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع لمحمد بن علي الشوكاني، الناشر: دار المعرفة، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
البدور السافرة في أمور الآخرة لجلال الدين السيوطي، تحقيق: مصطفى عاشور، الناشر: مكتبة القرآن، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
البرهان في علوم القرآن لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار التراث، القاهرة –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
بصائر ذوي التمييز -في لطائف الكتاب العزيز- لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، تحقيق: محمد علي النجار، الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية -لجنة إحياء التراث الإسلامي- القاهرة ط 1389هـ-1969م.
بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب لعبد الله الهرري (الحبشي)، الناشر: دار المشاريع الخيرية، لبنان، ط الثالثة 1416هـ-1996م.
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: المكتبة العصرية، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ-.(2/93)
بهجة النظر -في ما يزيد على أربعمائة سؤال في متن المختصر- إعداد قسم الأبحاث والدراسات، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر، بيروت، ط الحادية عشرة 1418هـ-1997م.
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية أو نقض تأسيس الجهمية لأحمد بن تيمية، الناشر: مؤسسة قرطبة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
البيان والتعريف إبراهيم بن محمد الحسيني، تحقيق: سيف الدين الكاتب، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت ط 1401 هـ.
تأويل مختلف الحديث للإمام ابن قتيبة الدينوري، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية، ط الأولى 1408هـ-1988م.
تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الناشر: دار التراث، القاهرة، ط الثانية 1393هـ–1973م.
تاج العروس من جواهر القاموس محمد مرتضى الزبيدي، الناشر: دار مكتبة الحياة، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
تاريخ الجزيرة العربية -في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب- لحسين خلف الشيخ خزعل، الناشر: دار مكتبة الهلال، بيروت، ط الأولى 1986م.
تاريخ المذاهب الإسلامية (في تاريخ المذاهب الفقهية) محمد أبو زهرة، الناشر: دار الفكر العربي، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
تاريخ بغداد أو مدينة السلام للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي،الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، أو دار الفكر –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر–.
تاريخ نجد للسيد محمود شكري الآلوسي، تحقيق: محمد بهجة الأثري، الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
تاريخ نجد -ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب- تأليف: سنت جون فيلبي، تعريب: عمر الديسراوي، الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة، ط الأولى 1414هـ-1994م.
تبين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، تأليف: أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، الناشر: دار الفكر، دمشق، ط الثانية 1399هـ.(2/94)
تبيين ضلالات الألباني جمع بعض تلاميذ عبدالله الهرري (الحبشي)، الناشر: دار الاعتصام، بيروت، ط الأولى 1419هـ-1999م.
تجريد التوحيد المفيد للإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، الناشر: مركز شئون الدعوة -الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة ط 1412هـ.
التحصيل في المحصول محمود بن أبي بكر الأرموي، دراسة وتحقيق: د. عبد الحميد علي أبو زنيد، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1408هـ-1988م.
التحف في مذاهب السلف لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، الناشر: مطبعة الإمام، مصر – بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر -.
تدريب الراوي في شرح تقريب النووي لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، الناشر: دار التراث، القاهرة، ط الثانية 1392هـ-1972م.
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للإمام شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن نوح الأنصاري القرطبي، الناشر: المكتبة التوفيقية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
ترجمة التوراة السامرية لأبي الحسن الصوري، إعداد الكاهن: عبد المعين صدقه السامري، الناشر:مطبعة النصر -نابلس- ط 1978م (مخطوط).
تسلية أهل المصائب لأبي عبدالله محمد بن محمد المنجي الحنبلي، تحقيق: بشير محمد عيون، الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق، ط الثالثة 1413هـ-1992م.
التصوف المنشأ والمصادر إحسان إلهي ظهير، الناشر: إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان، ط الأولى 1406هـ-1986م.
التصوف في الميزان د. مصطفى غلوش، الناشر: دار النهضة، مصر، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
التصوير الفني في القرآن سيد قطب -بدون ناشر أو رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
تطهير الاعتقاد -عن أدران الألحاد- لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، الناشر: مؤسسة النور، الرياض، ط الثانية 1389هـ.
تفسير الجلالين للإمامين محمد بن أحمد المحلي، والإمام عبد الرحمن السيوطي، الناشر: دار المعرفة، بيروت –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/95)
تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل لعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي، الناشر: شركة الحلبي وأولاده، ط الثانية 1375هـ-1955م.
تفسير القرآن الجليل المسمى بمدارك التنزيل وحقائق التأويل لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، الناشر: المطبعة الأميرية، مصر، ط 1936م.
تفسير القرآن الحكيم المشهور تفسير المنار محمد رشيد رضا بتصرف، الناشر: دار المعرفة، بيروت، ط الثانية –بدون تاريخ نشر-.
تفسير القرآن العظيم لأبي النداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، الناشر: دار المعرفة، بيروت، ط 1400هـ-1980م .
التفسير القيم للإمام ابن القيم جمع: محمد أويس الندوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1398هـ-1978م.
التفسير الكبير لابن تيمية، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1408هـ-1988م.
التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي، الناشر: دار الكتب العلمية، طهران -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج د. وهبة الزحيلي، الناشر: دار الفكر، دمشق، ط 1418هـ-1998م -بدون رقم طبعة-.
تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبو الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني، الناشر: دار العاصمة، الرياض، ط الأولى 1416هـ، وطبعة أخرى (الناشر: دار المعرفة، بيروت، ط الثانية 1395هـ-1975م).
تلبيس إبليس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق: أيمن صالح، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1415هـ-1995م.
التمهيد لما في الموطئ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، تحقيق: سعيد أحمد إعراب –بدون رقم طبعة– 1403هـ – 1988م.
تهذيب التهذيب للإمام أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني، الناشر: مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، ط الأولى 1326هـ.(2/96)
تهذيب الكمال في أسماء الرجال لأبي الحجاج يوسف المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1413هـ–1992م.
تهذيب اللغة لأبى منصور محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الناشر: دار الكاتب العربي، ط 1967.
تهذيب تاريخ دمشق الكبير للإمام أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الشافعي، ترتيب عبد القادر بدران، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط الثالثة 1407هـ-1987م.
التوحيد -وإثبات صفات الرب عز وجل لمحمد بن اسحق بن خزيمة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
التوسل أنواعه وأحكامه لمحمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الرابعة 1403هـ-1983م.
التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع لمحمد نسيب الرفاعي -بدون ناشر- ط الأولى، 1394هـ-1974م.
توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة السلفية، المدينة المنورة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م.
جامع البيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، الناشر: دار المعرفة، بيروت، ط 1400هـ-1980م.
الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، الناشر: الحلبي، ط الثانية 1395هـ –1975م.
جامع العلوم والحكم -شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم- لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، الناشر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط جمادى الثانية 1346هـ.
الجامع الفريد -كتب ورسائل لأئمة الدعوة الإسلامية- كتاب الزيارة لابن تيمية، الناشر: مطبعة المدينة، الرياض -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/97)
جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد البر، باب فيمن تأول القرآن وتدبره وهو حاصل بالسنة، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، الناشر: دار ابن الجوزي، ط الأولى 1414هـ-1994م.
الجامع لأحكام القرآن لمحمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الناشر: دار الكاتب العربي، القاهرة، بدون رقم طبعة 1387هـ-1967م.
جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للسيد نعمان خير الدين الآلوسي، الناشر: دار الكتب العلمية -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
جمهرة اللغة لأبي بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري (ابن دريد)، الناشر: دار صادر، بيروت –بدون رقم طبعة و تاريخ نشر-.
الجواب الصحيح -لمن بدل دين المسيح-، الناشر: مكتبة المدني، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن قيم الجوزية، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
حاشية إعانة الطالبين للسيد أبي بكر -المشهور بالسيد البكري بن السيد محمد شطا الدمياطي المصري-، الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحصبي، مصر، ط الثانية 1356هـ-1938م.
الحبشي شذوذه وأخطاؤه لعبد الرحمن دمشقية، -بدون دار نشر- ط الثالثة 1417هـ-1996م.
حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، ط الأولى 1387هـ–1967م.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، الناشر: المكتبة السلفية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر للمُحبّي، الناشر: دار صادر، بيروت -بدون تاريخ نشر أو رقم طبعة.
خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: دار المعارف، الرياض، سنة النشر 1398هـ-1978م.(2/98)
دائرة المعارف الإسلامية يصدرها أحمد الشنتناوي وآخرون، الناشر: دار المعرفة، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
دائرة المعارف الحديثة أحمد عطية الله، الناشر: مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط الثانية 1979م.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي، الناشر: دار المعرفة، لبنان، -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول لابن تيميه، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الناشر: دار الكنوز الأدبية – بدون رقم طبعة و تاريخ نشر -.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لأحمد بن علي الشهير بابن حجر العسقلاني، الناشر: دار الجيل، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
دلائل النبوة -ومعرفة أحوال صاحب الشريعة- لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1408هـ-1988م.
الدين الخالص السيد محمد حسن بن حسن القنوجي البخاري،الناشر:مكتبة دار التراث،القاهرة –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر.
الذخيرة لأحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد بو خبزة، الناشر: دار الغرب الإسلامي، ط الأولى 1994م.
ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي لآبي المحاسن الحسيني الدمشقي، الناشر: دار الفكر العربي، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر.
رحمة الأمة في اختلاف الأئمة لأبي عبدالله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي، -بدون دار نشر ورقم طبعة- ط 1401هـ-1981م.
الرد على الألباني إعداد قسم الأبحاث والدراسات (جزء من الرسائل الغمارية)، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الأولى 1417هـ-1996م.
الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: دار اللواء، الرياض –بدون رقم طبعة– 1397هـ-1997م.
الرد على المنطقيين لابن تيمية، الناشر: إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط الثانية 1396هـ–1976م.(2/99)
الرد على عبدالله الحبشي لعبدالله محمد الشامي، الناشر:دار الطلاع -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب لأبي الحسن الأشعري، تحقيق: عبدالله شاكر محمد الجنيدي، الناشر: مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط 1413هـ.
رسالة استحسان الخوض في علم الكلام للأشعري، تقديم: محمد الولي -أحد تلاميذ الحبشي-، الناشر: دار المشاريع، ط الأولى 1415هـ-1995م.
الرسالة المستطرفة -لبيان مشهور كتب السنة المشرقة- لمحمد بن جعفر الكتاني، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثانية 1400هـ.
رسالة –وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة– لأبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: الدار السلفية، الكويت، ودار العلم مصر -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر–.
الرسل والرسالات د. الأشقر، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط الثامنة 1419هـ-1999م.
الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1388هـ-1968م.
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم -للعلامة الآلوسي البغدادي، الناشر: مكتبة دار التراث، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الروح لابن القيم الجوزية، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثانية 1405هـ-1985م.
زاد المسير في علم التفسير للإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن عبد الله، الناشر: دار الفكر، لبنان، ط الأولى 1407هـ-1987م.
سلسلة الأحاديث الصحيحة -وشيء من فقهها وفوائدها- محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، -بدون رقم طبعة-، سنة النشر 1415هـ-1995م.(2/100)
السنة لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال، دراسة وتحقيق: د. عطية الزهراني، الناشر: دار الراية، ط الأولى 1410هـ-1989م.
سنن أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجتاني، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، الناشر: دار إحياء الستة النبوية -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
سنن ابن ماجة لأبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
سنن الدارمي لعبدالله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، الناشر: دار الريان للتراث-القاهرة ودار الكتاب العربي-بيروت ط الأولى 1407هـ-1987م، وطبعة: دار الريان للتراث، القاهرة، ط الأولى 1407هـ-1987م
السنن الكبرى لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1411هـ-1991م، وطبعة مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1406هـ-1986م.
سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، الناشر: دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، ط الأولى 1411هـ-1991م.
سير أعلام النبلاء للإمام محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط السابعة 1410ه-1990م.
السيرة النبوية لأبي عبد الملك بن هشام المعافري -المعروفة بسيرة ابن هشام-، تحقيق: جمال ثابت ومجموعة، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1416هـ-1996م.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، الناشر: دار الفكر، ط الأولى 1399هـ-1979م.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله بن الحسن الطبري الللالكائي، تحقيق: د. أحمد سعد حمدان، الناشر: دار طيبة، الرياض –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/101)
شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، الناشر: دار المدني، جدة -بدون رقم طبعة- ط 1985م.
شرح الصفات الثلاث عشر لعبدالله الهرري (الحبشي)،الناشر:دار المشاريع الخيرية،لبنان،ط الثانية 1416هـ-1996م.
شرح العقيدة الطحاوية للإمام محمد بن علاء الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنقي، الناشر: المكتب الإسلامي، ط الثامنة 1404هـ-1984م.
شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية محمد خليل هراس،الناشر:دار الاعتصام، القاهرة،ط الرابعة –بدون تاريخ نشر-.
الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم للشيخ عبد الله الهرري(الحبشي)، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر، ط الثانية 1420هـ-1999م.
شرح جوهر التوحيد للشيخ إبراهيم اللقاني، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1403هـ-1983م.
شرح فتح الجليل على مختصر العلامة خليل للشيخ محمد عليش، الناشر: دار الفكر، بيروت، ط الأولى 1404هـ-1984م.
شرح قصيدة الإمام ابن القيم -الموسومة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية- لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثانية 1394هـ.
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري لعبدالله بن محمد الغنيمان، الناشر: مكتبة لينة، دمنهور، ط الثانية 11413هـ-1993م.
شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، شرح الملأ على القاري الحنفي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1404هـ-1984م.
شرح لمعة الاعتقاد -الهادي إلى سبيل الرشاد- لمحمد بن صالح العثيمين، تحقيق: أشرف بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، الناشر: مكتبة الإمام البخاري، ط الأولى 1412هـ-1992م.
شرح مغني المحتاج للشيخ الشربيني الخطيب مع متن المنهاج للنووي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1352هـ-1933م.(2/102)
شروط الاجتهاد عند علماء الأصول: كشف الأسرار شرح المصنف على المنار لأبي البركات عبدالله بن أحمد المعروف (حافظ الدين النسفي)، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1406هـ-1986م.
الشريعة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1403هـ-1983م.
شعب الإيمان لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1410هـ-1990م.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، تحقيق: علي محمد البجاوي، الناشر: مكتبة الإيمان -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
شفاء العليل -في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل- لابن قيم الجوزية، تعليق: إبراهيم أحمد عبد الحميد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، تحقيق وتعليق: نجم عبد الرحمن خلف، الناشر: دار الفرقان، عمان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1404هـ-1983م.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب -عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه- للشيخ أحمد بن حجر آل أبو طامي آل بن علي، الناشر: مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، ط 1395هـ.
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، ط الثانية 1399هـ-1979م.
صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن البخاري،الناشر: دار الحديث، القاهرة،- بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر، وطبعة دار الفكر، -بدون رقم طبعة- 1414 هـ-1994م.
صحيح الجامع الصغير وزياداته (الفتح الكبير) محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، ط الثالثة 1408هـ-1988م.(2/103)
صحيح سنن أبي داود لمحمد ناصر الدين الألباني ، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط الثانية، 1421هـ-2000م.
صحيح مسلم بشرح النووي للإمام النووي، الناشر:دار إحياء التراث العربي،بيروت،ط الأولى 1347هـ-1929م، وطبعة : دار إحياء الكتب العربية، ط الأولى 1374هـ-1955م.
الصراط المستقيم الشيخ عبد الله الحبشي، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع، ط التاسعة 1413هـ-1993م.
صريح البيان في الرد على من خالف القرآن الشيخ عبد الله الهرري، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع، ط الأولى 1415هـ-1995م.
صفة الصفوة للإمام جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، الناشر: دار المعرفة، بيروت، تحقيق: محمود فاخوري، ط الثانية 1399هـ –1979م.
صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- من التكبير إلى التسليم كأنك تراه محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
الصلة بين التصوف والتشيع د. كامل مصطفى الشيبي، الناشر: دار المعارف، مصر، ط الثانية -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
صون المنطوق الكلام عن فن المنطق والكلام لجلال الدين السيوطي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع شمس الدين عبد الرحمن السخاوي، الناشر: دار مكتبة الحياة، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
ضوابط المعرفة -وأصول الاستدلال والمناظرة- لعبد الرحمن حسن حبنكا الميداني، الناشر: دار القلم، دمشق -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
طبقات الحفاظ للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1403هـ-1983م، طبقات القراء لابن الجزري.
طبقات الشافعية الكبرى لأبي نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود محمد الطناحي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية – بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.(2/104)
الطبقات الكبرى لابن سعد، الناشر: دار صادر، بيروت – بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
طبقات المفسرين لجلال الدين السيوطي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزيه، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
العبر في خبر من عبر للحافظ الذهبي، تحقيق: محمد السعيد بن بسيوني زغلول، الناشر: دار الكتب العربية، بيروت، -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
عصمة الأنبياء لفخر الدين الرازي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1401هـ-1981م.
العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لمحمد بن محمد بن عبد الهادي، الناشر: مطبعة المدني، مصر -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
العقيدة الإسلامية وأسسها عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني،الناشر:دار القلم،دمشق،ط السادسة 1412هـ-1992م.
العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك عبد الله بن يوسف الجويني، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط الأولى 1399هـ-1979م.
العقيدة في الله د.عز سليمان الأشعر، الناشر: دار النفائس، عمان، ط الثانية عشر 1419هـ-1999م.
العلم الشامخ -في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ- لصالح بن المهدي المقبلي اليمني، الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
علماء ومفكرون عرفتهم محمد المجذوب، الناشر: دار الاعتصام، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
علوم الحديث لأبي عمر وعثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف (بابن الصلاح)، تحقيق: نور الدين عتر، الناشر: دار الفكر، دمشق -بدون رقم طبعة- 1406هـ-1986م.
عمدة السالك وعدة الناسك لأبي العباس أحمد بن النقيب المصري، الناشر: المكتبة العصرية، بيروت -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.(2/105)
عمدة القاري -شرح صحيح البخاري- لأبي محمد محمود بن أحمد العيني، الناشر: دار الفكر، بيروت -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
عمل اليوم والليلة للإمام أحمد بن شعيب النسائي، دراسة وتحقيق: د. فاروق حمادة، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية 1406هـ-1985م.
العواصم من القواصم -في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- للقاضي أبي بكر بن العربي، تحقيق: محب الدين الخطيب، الناشر: المطبعة السلفية، القاهرة، ط الخامسة 1399هـ.
عون المعبود -شرح سنن أبي داود- لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1410هـ-1990م.
العين لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي و د. إبراهيم السامرائي، الناشر: مؤسسة الأعلمي –بيروت- ط الأولى 1408ه-1988م.
غاية البيان في تنزيه الله عن الجهة والمكان، إعداد قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية في جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، الناشر: دار المشاريع الخيرية، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م.
غاية النهاية في طبقات القراء لأبي الخير محمد بن محمد الجزري، عني بنشره ج. برجستراس، الناشر:دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثالثة 1402هـ-1982م.
الغنية في الأصول لأبي صالح منصور بن اسحق بن أبي جعفر السجستاني، تحقيق: محمد صدقي بن أحمد البورنو، -بدون ناشر-، ط 1400هـ–1989م.
الغنية -لطالبي طريق الحق عز وجل في الأخلاق والتصوف والآداب الإسلامية- للشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني،وضع حواشيه: صلاح بن محمد بن عويضة،الناشر:دار الكتب العلمية،بيروت،ط الأولى 1417هـ-1997م.
فتاوى الحافظ ابن حجر العسقلاني (قسم العقيدة)، تحقيق ودراسة: محمد تامر، الناشر: دار الصحابة للتراث بطنطا، ط الأولى 1410هـ-1989م.(2/106)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدّويش، الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، ط الأولى 1412هـ-1991م.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، الناشر: المكتبة السلفية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
فتح العلام -بشرح مرشد الأنام- لمحمد عبدالله الجرداني، تصحيح وتعليق: محمد النجار، الناشر: دار السلام، القاهرة، ط الثانية 1408هـ-1988م.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير محمد بن علي الشوكاني، الناشر: دار الفكر، لبنان، ط 1403هـ-1983م.
الفَرق بين الفِرق لعبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، بيروت، بدون رقم طبعة 1416هـ – 1995م.
فضل علم السلف على الخلف لابن رجب البغدادي الحنبلي، تحقيق: محمد عبد الحكيم القاضي، الناشر: دار الحديث، القاهرة –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الفقه الأكبر للإمام أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، إعداد: محمد محمود محمد فرغلي، الناشر: مجلة الأزهر، -بدون رقم طبعة- ط جمادى الأولى 1406هـ.
الفكر الصوفي -في ضوء الكتاب والسنة- لعبد الرحمن عبد الخالق، الناشر: دار الحرمين، القاهرة، ط الرابعة 1413هـ-1993م.
الفلاسفة الإسلاميون والصوفية -وموقف أهل السنة منهم- د. عبد الفتاح فؤاد، الناشر: دار الدعوة، القاهرة، ط الأولى 1418هـ-1997م.
الفهرست للنديم لأبي الفرج محمد بن أبي يعقوب اسحق المعروف بالوراق، تحقيق: رضا المازندراني، الناشر: دار المسيرة، ط الثالثة 1988م.
الفوائد لابن قيم الجوزية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
القاموس الفقهي -لغة واصطلاحاً- سعدي أبو حبيب، الناشر: دار الفكر، دمشق، ط الثانية 1408هـ-1988م.(2/107)
القاموس المحيط مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، الناشر: مؤسسة العربية، لبنان ودار الجيل، لبنان -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
القضاء والقدر د. عمر الأشقر، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط الثانية 1410هـ-1990م.
قفو الأثر في صفو علوم الأثر لمحمد بن إبراهيم الحلبي الحنفي الشهير (بابن الحنبلي)، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1408هـ.
قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، الناشر: مكتبة الاستقامة، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
القيامة الصغرى د. عمر سليمان الأشقر، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط التاسعة 1419هـ-1999م.
القيامة الكبرى د. عمر الأشقر، الناشر: دار النفائس، الأردن، ط الثامنة 1419هـ-1999م.
كتاب أصول الدين لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثالثة 1401هـ–1981م.
كتاب إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: محمد صبحي بن حسن حلّان، الناشر: دار ابن حزم، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م.
كتاب الأربعين في دلائل التوحيد لأبي إسماعيل الهروي، تحقيق: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، -بدون ناشر-، ط الأولى 1404هـ-1984م.
كتاب الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري، تحقيق ودراسة: د. أحمد عبد الحميد غراب، الناشر: دار الكاتب العربي، القاهرة -بدون رقم طبعة-، 1387هـ-1967م.
كتاب التاريخ الكبير لأبي عبد الله إسماعيل بن إبراهيم البخاري، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
كتاب التعريفات لعلي بن محمد السيد الشريف الجرجاني، تحقيق: د. عبد المنعم الحفني، الناشر: دار الرشاد، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.(2/108)
كتاب السُّنة للإمام عبدالله بن أحمد بن حنبل، تحقيق: د. محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، الناشر: دار ابن القيم، السعودية، ط الأولى 1406هـ-1986م.
كتاب السنة لأبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، ط الثالثة 1413هـ-1993م.
كتاب الصفدية لابن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، -بدون ناشر أو رقم طبعة- 1406هـ.
كتاب الطبقات للإمام أبي عمر خليفة بن خياط شباب العصفري، تحقيق: د. أكرم ضياء العربي، الناشر: دار طيبة، الرياض، ط الثانية 1402هـ-1982م.
كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، الناشر، مكتبة الإرشاد، جدة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
الكتاب المقدس -أسفار العهد القديم-، الناشر: دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ط 1996م.
كشاف اصطلاحات الفنون محمد علي الفاروقي، تحقيق: د. لطفي عبد البديع، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب – بدون رقم طبعة- 1972م.
كشف الشبهات في التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، بدون ناشر أو رقم طبعة أو تاريخ نشر.
كشف الظنون -عن أسامى الكتب والفنون- لمصطفى بن عبدالله القسطنطي الرومي الحنفي، المعروف -بحاجي خليفة-، الناشر: دار الفكر، بيروت، ط 1402هـ-1982م.
كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار لأبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي، الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط الثانية -بدون سنة نشر-.
الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية للإمام مرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق: نجم عبد الرحمن خلف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط الأولى 1406هـ-1986م.
الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للشيخ نجم الدين الغزي، الناشر: دار الفكر، بيروت، تحقيق: جبرائيل سليمان جبور –بدون رقم طبعة و تاريخ نشر-.(2/109)
لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، الناشر: دار صادر، بيروت –بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
لغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الناشر: مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط الثانية 1408هـ.
لوامع الأنوار البهية وسواطع الأنوار الأثرية للشيخ محمد السفاريني الحنبلي، الناشر:المكتب الإسلامي، بيروت، ودار الخاني، الرياض، ط الثالثة 1411هـ-1991م.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لعلي بن أبي بكر الهيثمي ، الناشر: دار الرياض للتراث، القاهرة، -بدون رقم طبعة- سنة النشر 1407هـ.
مجمل اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: زهير عبد المحسن سلطان، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية 1406ه-1986م.
مجموعة التوحيد لابن تيمية وابن عبد الوهاب، الناشر: دار إحياء التراث، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
مجموعة الفتاوى لتقي الدين أحمد بن تيمية الحراني بتصرف،الناشر:دار الوفاء،مصر،ط الثانية1419هـ-1998م.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لآبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، تحقيق: المجلس العلمي بفاس –بدون ناشر-، ط 1397هـ- 1977م.
المحيط في اللغة إسماعيل بن عباد، تحقيق: محمد حسن آل ياسين، الناشر: عالم الكتب، بيروت، ط الأولى 1414هـ-1994م.
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
مختصر عبدالله الهرري -الكافل بعلم الدين الضروري- لعبد الله الهرري (الحبشي)، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الثانية عشر 1420هـ-1999م.
مدارج السالكين -بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين- لابن قيم الجوزية، الناشر: دار الفكر -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.(2/110)
المذاهب الصوفية ومدارسها عبد الحكيم عبد الغني قاسم، الناشر: مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 1989م.
المراقب اليفاعية في المناقب الرفاعية تهذيب فادي علم الدين، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الأولى 1414هـ-1994م.
مرشد الحائر-في حل ألفاظ رسالة ابن عساكر- للشيخ سمير القاضي، الناشر:دار المشاريع، بيروت، ط الأولى 1420هـ-1999م.
مسائل الجاهلية -التي خالف فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، الناشر: مؤسسة مكة للطباعة والنشر، السعودية، بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر.
المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل -في العقيدة- جمع وتحقيق ودراسة: عبد الإله بن سلمان الأحمدي، الناشر: دار طيبة، الرياض، ط الأولى 1412هـ.
المستدرك على الصحيحين لأبي عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري، تحقيق:مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1411هـ-1990م.
المستصفى من الأصول لإمام أبي حامد الغزالي،الناشر: دار الفكر، بيروت -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
مسند الإمام أحمد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-، وطبعة أخرى (الناشر: دار الفكر العربي، بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر)، وطبعة أخرى (شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر، بدون دار نشر أو رقم طبعة أو تاريخ نشر).
مسند الربيع: الربيع بن حبيب بن عمرو الأزدي البصري، تحقيق: محمد إدريس، عاشور بن يوسف، الناشر: دار الحكمة، مكتبة الاستقامة، بيروت، ط الأولى 1415هـ.
المسودة في أصول الفقه آل تيمية (أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن الخضر، وأبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام، وأبو العباس أحمد بن عبد الحليم)، تقديم: محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: مطبعة المدني، القاهرة –بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/111)
مشكاة المصابيح لمحمد بن عبدالله الخطيب التبريزي، تحقيق:محمد ناصر الدين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثالثة 1405هـ-1985م.
مشكل الحديث وبيانه للإمام أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت -بدون رقم طبعة– 1400هـ-1980م.
معارج القبول -بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد- للشيخ حافظ بن أحمد حكمي، تحقيق: سيد عمران، علي محمد علي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط 1420هـ-1999م.
معالم في الطريق لسيد قطب، الناشر: دار الشروق، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
معجم الأدباء لياقوت الحموي، الناشر: دار الفكر، ط الثالثة 1400ه-1980م.
المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الناشر: مصطفى ا لبابي الحلبي، ط الثانية 1389هـ-1969م.
المقاصد النووية لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي، الناشر: دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط الأولى 1413هـ-1992م.
المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية لعبدالله الهرري -الحبشي-، الناشر: دار المشاريع، بيروت، ط الثانية 1414هـ-1994م.
المقالات السنية في كشف ضلالات الفرقة الحبشية لأبي صهيب عبد العزيز بن صهيب المالكي، -بدون دار نشر-، استراليا، ط الثانية 1421هـ.
مقدمة ابن خلدون لعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون الحضري المغربي، الناشر: دار العودة، بيروت -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
مقدمة كتاب -شرح المقاصد للإمام سعد الدين التفتازاني- تحقيق وتعليق مع مقدمة في علم الكلام د. عبد الرحمن عميرة، الناشر: عالم الكتب، بيروت، ط الأولى 1409هـ-1989م.(2/112)
المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، تأليف: إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، تحقيق: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، ط الأولى 1410هـ-1990م.
المقصد الأسني -في شرح أسماء الله الحسنى- للإمام عبد العزيز أحمد الديريني، تحقيق: د. مصطفى محمد حسين الذهبي، الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة، ط الأولى 1409هـ-1998م.
مقومات التصور الإسلامي سيد قطب، الناشر: دار الشروق، بيروت، ط الأولى 1406هـ-1986م.
الملك والنحل للإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الناشر: دار السرور، بيروت، ط الأولى 1368هـ1948م.
مناقب الإمام أحمد بن حنبل للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق: د. عبد الله عبد المحسن التركي. الناشر: مكتبة الخانجي، مصر، ط الأولى 1399هـ –1979م.
مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد، تحقيق د. محمود قاسم، الناشر: مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة -بدون رقم طبعة- 1955م.
مناهج الإسلاميين في إثبات وجود الله ووحدانيته دراسة ونقداً د. صالح حسين الرقب (مخطوط)1412هـ.
منتخب حدائق الفصول وجواهر الأصول -في علم الكلام على أصول أبي الحسن الأشعري- لتاج الدين محمد بن هبة الله المكي الحموي، الناشر: دار المشاريع للطباعة والنشر، ط الأولى 1416هـ-1996م.
المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1412هـ – 1992م.
منتهى الخارف الجاني -في رد زلقات التجاني الجاني- للشيخ محمد الخضر الجكني الشنقيطي، الناشر: دار البشير، الأردن، ط الأولى 1405هـ-1985م.
منهاج السنة لابن تيمية، تحقيق : د. محمد رشاد سالم ، الناشر : مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، ط الثانية 1409هـ-1989م.(2/113)
منهاج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة على ضوء الكتاب والسنة، جمع وترتيب: محمد بن جميل زينو، الناشر: لجنة التضامن الخيري، الكويت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج -المسمى اختصاراً: صحيح مسلم بشرح النووي -لمحي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، الناشر: دار الخير، بيروت، ط الأولى 1414هـ-1994م.
المواقف في علم الكلام لعبد الرحمن بن أحمد الآيجي، الناشر: عالم الكتب، بيروت -بدون رقم طبعة وتاريخ نشر-.
موسوعة أهل السنة في نقد أصول فرقة الأحباش ومن وافقهم في أصولهم لعبد الرحمن بن محمد سعيد دمشقية، الناشر: دار المسلم، ط الأولى 1418هـ –1997م.
موسوعة الزاد للعلوم والتكنولوجيا، المؤلف: مجموعة من العلماء، الناشر: مطابع ديداكو، إسبانيا، ط 1995م.
الموسوعة العربية الميسرة، إشراف: محمد شفيق غربال، الناشر: دار نهضة لبنان للطبع والنشر، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب الإسلامية د.عبد المنعم الحفني، الناشر: دار الرشاد، ط الأولى 1413هـ –1993م.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، إعداد: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الناشر: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
الموطأ لمالك بن أنس، تصحيح وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبد الرحمن صالح المحمود، الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، ط الأولى 1415هـ–1995م.
النبوات لابن تيمية، تحقيق : محمد عبد الرحمن عوض، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط الأولى 1405هـ-1985م.
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تأليف: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردى الأتابكي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1413هـ –1992م.(2/114)
النقض الكاوي لدعوى يوسف القرضاوي، تأليف: خليل دريان، الناشر: دار المشاريع الخيرية، لبنان، ط الأولى 1420هـ-2000م.
نهاية السُّول في شرح منهاج الأصول لناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، تأليف: جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الآسنوي الشافعي، الناشر: عالم الكتب -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لمحمد بن أبي العباس الرملي المنوفي المصري، الناشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 1386هـ-1967م.
النهاية في غريب الحديث والأثر لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
هذه هي الصوفية عبد الرحمن الوكيل، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الثالثة 1399هـ-1979م.
الوجيز في أصول الفقه د. عبد الكريم زيدان، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية 1407هـ-1987م.
الوصول إلى الأصول لأحمد بن علي بن برهان البغدادي، تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد،الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، -بدون رقم طبعة- 1403هـ-1983م.
الوصية الكبرى لابن تيمية، تحقيق: محمد بن حمد الحمود، الناشر: مكتبة السنة، القاهرة -بدون رقم طبعة- 1410هـ-1990م.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس أحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق: د. إحسان عباس، الناشر: دار الثقافة بيروت– بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر -.
يوم الفزع الأكبر -مشاهد يوم القيامة وأهوالها- للإمام القرطبي، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، الناشر: مكتبة القرآن، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
الدوريات: -
مجلة منار الهدى:
عدد 9، محرم 1414هـ.
عدد 23، ربيع الثاني 1415هـ.
مجلة البيان:
عدد 110، شوال 1417هـ.
عدد 62، شوال 1417هـ.
عدد 111، ذو القعدة 1417هـ.
مجلة الأسرة، العدد 77، شعبان 1420هـ.
مجلة الوطن العربي، العدد 1095، شهر فبراير 1998م.(2/115)
مجلة الجامعة الإسلامية-المدينة المنورة-العدد الأول من السنة الثانية عشرة 1399هـ.
مجلة الأزهر، الجزء 9 رمضان 1402هـ - يوليو 1982م.
مجلة المنبر، العدد الحادي والعشرين، شعبان 1420هـ - نوفمبر 1999م.
وثائق عن شبكة المعلومات العالمية (إنترنت) :-
إقامة الحجة على الحبشي لأبي طلال القاسمي www.asnnah.com/gr/ahbash1.html
ترجمة للدكتور عدنان طرابلسي www.aicp.de
ترجمة للشيخ حسام قراقيرة www.aicp.de
ترجمة للشيخ عبد الله الهرري (الحبشي) www.aicp.de
ترجمة للشيخ نزار حلبي www.aicp.de
مجلة المجتمع العدد 1447 www.Almujtamaa.mag.com
نصيحة لعامة المسلمين - القرضاوي في ميزان الشريعة www.aicp.de
خامساً : فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
الإهداء ... ب
شكر وتقدير ... ج
المقدمة ... د - ل
التمهيد ... 2 - 9
أولاً: نشأة الأحباش ... 2
سبب تسميتهم بالأحباش ... 2
الظروف التي نشأ فيها الأحباش ... 4
ثانياً: أبرز دعاة جماعة الأحباش ... 4
الشيخ عبد الله الهرري (الحبشي) ... 4
الشيخ نزار حلبي ... 6
الشيخ حسام قراقيرة ... 6
الدكتور عدنان طرابلسي ... 7
ثالثاً: أهم المؤسسات والأنشطة التابعة للأحباش ... 7
الجمعية ... 7
المدارس ... 8
الإعلام ... 8
الغناء والطرب والأندية ... 9
الباب الأول
أسس العقيدة عند الأحباش عرض ونقد
الفصل الأول: منهج الأحباش في تقرير العقيدة ... 12 - 88
المبحث الأول: التأويل ... 12
المطلب الأول: تعريف التأويل عند الأحباش ... 12
أولاً: في تعريف التأويل ... 12
التأويل في اللغة ... 13
التأويل في القرآن ... 14
التأويل عند السلف ... 20
المطلب الثاني: أقسام التأويل عند الأحباش ... 22
المطلب الثالث: مسوغات استخدام التأويل عند الأحباش ... 26
المطلب الرابع: رد الأحباش على من أنكر التأويل ... 27
الرد على أدلة الأحباش في التأويل ... 29
الموضوع ... الصفحة
المبحث الثاني: المحكم والمتشابه ... 36(2/116)
المطلب الأول: تعريف المحكم والمتشابه عند الأحباش ... 36
أولاً: تعريف المحكم عند السلف لغة واصطلاحاً ... 36
ثانياً: تعريف المتشابه عند السلف لغة واصطلاحاً ... 37
المطلب الثاني: أقسام المتشابه والحكمة منه ... 38
أولاً: أقسام المتشابه ... 38
ثانياً: الحكمة من الآيات المتشابهة ... 40
المبحث الثالث: خبر الآحاد ... 42
المطلب الأول: تعريف خبر الآحاد ... 42
أولاً: خبر الآحاد في اللغة ... 42
ثانياً: خبر الآحاد في الاصطلاح ... 43
المطلب الثاني: موقف الأحباش من خبر الآحاد ... 43
المطلب الثالث: حجية خبر الآحاد في الاعتقاد ... 44
أولاً: أقوال العلماء بإفادة خبر الآحاد العلم اليقيني إن كان صحيحاً ... 44
ثانياً : الأدلة على إفادة خبر الآحاد العلم اليقيني إن كان صحيحاً ... 47
المبحث الرابع: الاجتهاد والتقليد ... 50
المطلب الأول: تعريف الاجتهاد والتقليد عند الأحباش ... 50
أولاً: تعريف الاجتهاد ... 50
ثانياً: تعريف التقليد ... 50
تعريف الاجتهاد والتقليد في اللغة ... 50
تعريف الاجتهاد والتقليد في اصطلاح الأصوليين ... 51
المطلب الثاني: شروط الاجتهاد عند الأحباش ... 52
المطلب الثالث: موقف الأحباش من التقليد والاجتهاد ... 56
الرد على الأحباش في ميلهم الشديد للتقليد ... 59
المبحث الخامس: علم الكلام ... 64
المطلب الأول: تعريف علم الكلام: وموضوعه، وسبب التسمية ... 64
أولاً: تعريف علم الكلام ... 64
ثانياً: موضوع علم الكلام ... 66
ثالثاً: سبب التسمية بعلم الكلام ... 66
المطلب الثاني: من مسميات علم الكلام وأقسامه عند الأحباش ... 69
أولاً: من مسميات علم الكلام عند الأحباش ... 69
ثانياً: أقسام علم الكلام عند الأحباش ... 70
الموضوع ... الصفحة
المطلب الثالث: أدلة الأحباش على جواز الاشتغال بعلم الكلام ... 73
الرد على أدلة الأحباش في جواز الاشتغال بعلم الكلام ... 75(2/117)
المطلب الرابع: العقل أصل الشرع عند الأحباش ... 86
بيان منهج السلف في تقرير العقيدة ... 88
الفصل الثاني: موقف الأحباش من الألوهيات ... 90 - 171
المبحث الأول: موقف الأحباش من وجود الله ... 90
المبحث الثاني: موقف الأحباش من وحدانية الله ... 100
المطلب الأول: تعريف الوحدانية عند الأحباش ... 100
المطلب الثاني: أدلة الأحباش على وحدانية الله ... 105
المطلب الثالث: أقسام التوحيد عند الأحباش ... 108
المطلب الرابع: بيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل ... 114
المبحث الثالث: موقف الأحباش من الأسماء والصفات ... 116
المطلب الأول: موقف الأحباش من أسماء الله الحسنى ... 116
المطلب الثاني: موقف الأحباش من الصفات: ... 120
أولاً: علاقة الصفات بالذات عند الأحباش ... 120
ثانياً: الصفات الواجب معرفتها عند الأحباش ... 124
مناقشة الأحباش في الصفات التي أثبتوها : ... 128
الطريقة الأولى: مناقشة منهج الأحباش في إثبات الصفات الثلاثة عشر ... 128
الطريقة الثانية: مناقشة الأحباش في الصفات التي أثبتوها بخلاف السلف ... 130
ثالثاً: موقف الأحباش من الصفات الغير الثلاث عشرة التي أثبتوها والرد عليهم ... 141
الفصل الثالث: عقيدة الأحباش في النبوات ... 173 - 196
المبحث الأول: النبوة والرسالة عند الأحباش ... 173
المطلب الأول: النبوة والرسالة لغة واصطلاحاً ... 173
المطلب الثاني: الحاجة إلى النبوة وصفات النبي ... 177
المطلب الثالث: الفرق بين النبوة والرسالة عند الأحباش ... 179
المطلب الرابع: ما يجب للأنبياء وما يستحيل عليهم ... 180
المبحث الثاني: دليل النبوة عند الأحباش (المعجزة) ... 187
المطلب الأول: أولاً: تعريف المعجزة لغة واصطلاحاً ... 187
ثانياً: الرد على قول الأحباش (السبيل إلى معرفة النبي المعجزة) ... 188
المطلب الثاني: الأمور التي تخرج عن كونها معجزة ... 193
المطلب الثالث: أقسام المعجزة ... 195(2/118)
الموضوع ... الصفحة
الفصل الرابع: الغيبيات عند الأحباش ... 198 - 240
مدخل لعلم الغيب ... 198
أولاً: تعريف الغيب لغة واصطلاحاً ... 198
ثانياً: علم الغيب عند الأحباش ... 198
المبحث الأول: عذاب القبر ونعيمه ... 200
المطلب الأول: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه ... 200
المطلب الثاني: مستقر الأرواح في البرزخ ... 206
المطلب الثالث: حكم منكر عذاب القبر ... 208
المبحث الثاني: اليوم الآخر عند الأحباش ... 210
المطلب الأول: صفة حشر العباد ... 210
المطلب الثاني: الشفاعة ... 213
المطلب الثالث: الحساب ... 217
المطلب الرابع: الميزان ... 219
المطلب الخامس: الثواب والعقاب ... 223
المطلب السادس: الصراط ... 224
المطلب السابع: الجنة والنار ... 227
المبحث الثالث: القضاء والقدر عند الأحباش ... 230
المطلب الأول: معنى القضاء والقدر والإيمان به ... 230
المطلب الثاني: مسألة الجبر ... 236
أولاً: تعريف الجبر لغة واصطلاحاً ... 236
ثانياً: نصوص للحبشي توهم القول بالجبر، والرد عليها ... 237
الباب الثاني
الإيمان والكفر والتصوف عند الأحباش عرض ونقد
الفصل الأول: الإيمان والكفر عند الأحباش ... 243 - 273
المبحث الأول: الإيمان والإسلام ... 243
المطلب الأول: تعريف الإيمان والإسلام ... 243
أولاً: الإيمان لغة واصطلاحاً ... 243
ثانياً: الإسلام لغة واصطلاحاً ... 249
المطلب الثاني: العلاقة بين الإيمان والإسلام ... 251
المطلب الثالث: الإرجاء عند الأحباش ... 255
أولاً: تعريف الإرجاء لغة واصطلاحاً ... 255
ثانياً: نصوص للحبشي توهم القول بالإرجاء والرد عليها ... 256
الموضوع ... الصفحة
المبحث الثاني: الكفر والردة ... 259
أولاً: تعريف الكفر لغة واصطلاحاً ... 259
ثانياً: تعريف الردة لغة واصطلاحاً ... 260
المطلب الثاني: العلاقة بين الكفر والردة عند الأحباش ... 262
المطلب الثالث: الكفر وأنواعه ... 263(2/119)
أولاً: أنواع الكفر عند الأحباش ... 263
ثانياً: الحالات التي تستثنى من الكفر اللفظي عند الأحباش ... 267
الفصل الثاني: التصوف عند الأحباش ... 275 - 307
المبحث الأول: مدخل إلى الصوفية ... 275
المطلب الأول: الإسلام والتصوف ... 275
المطلب الثاني: أنواع التصوف ... 277
المبحث الثاني: الحبشي والتصوف ... 279
المطلب الأول: الحبشي والطريقة الرفاعية ... 279
المطلب الثاني: الحبشي والطريقة القادرية ... 283
المطلب الثالث: الحبشي والطريقة النقشبندية ... 284
المبحث الثالث: من بدع التصوف عند الأحباش ... 289
المطلب الأول: الاستغاثة والتوسل البدعي ... 289
المطلب الثاني: التبرك بالقبور ... 299
المطلب الثالث: خروج الولي من قبره ... 302
المطلب الرابع: استعمال الدف قربةً لله ... 304
الباب الثالث
موقف الأحباش من الصحابة والعلماء عرض ونقد
الفصل الأول: موقف الأحباش من الصحابة -رضي الله عنهم- ... 310 - 349
المبحث الأول: موقفهم من الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- ... 310
المبحث الثاني: موقف الأحباش من معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- ... 315
المبحث الثالث: موقف الأحباش من عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- ... 327
الفصل الثاني: موقف الأحباش من العلماء ... 331 - 383
المبحث الأول: موقف الأحباش من شيخ الإسلام ابن تيمية ... 331
المبحث الثاني: موقف الأحباش من الإمام محمد بن عبد الوهاب ... 347
المبحث الثالث: موقفهم من الأستاذ الشهيد: سيد قطب ... 359
المبحث الرابع: موقفهم من الشيخ أبي الأعلى المودودي ... 366
الموضوع ... الصفحة
المبحث الخامس: موقفهم من الشيخ الألباني ... 371
المبحث السادس: موقفهم من الدكتور يوسف القرضاوي ... 377
الخاتمة ... 384
الفهارس ... 389 - 431
فهرس الآيات القرآنية ... 389
فهرس الأحاديث النبوية ... 398
فهرس الأعلام ... 404
فهرس المراجع والمصادر ... 408
فهرس الموضوعات ... 429(2/120)
المبحث الأول:الإيمان والإسلام
المطلب الأول: تعريف الإيمان والإسلام:
أولاً: الإيمان لغةً واصطلاحاً:
الإيمان لغةً:
"الإيمان فهو مصدر: آمن، يؤمن، إيماناً، فهو مؤمن"(1)، والإيمان يقصد به التصديق كما في قوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } [يوسف:17]، أي بمصدق(2)، ويقول الأزهري في تأكيد المعنى سالف الذكر: "واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه:التصديق، وقال الله تعالى: { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } [الحجرات:14]"(3)، وجاء في (مجمل اللغة) في معنى الإيمان: "أمن: أمنتُ فأنا آمنٌ، وآمنتُ غيري، إذا أعطيته الأمان والله جل ثناؤه المؤمن أعطى عباده الأمان أن يظلم، وآمنت بالله: صدقت، والإيمان: التصديق"(4)، وبالتالي فإن المعنى الذي أجمع عليه أهل اللغة في الإيمان هو التصديق.
الإيمان اصطلاحاً:
أما تعريف الإيمان في الاصطلاح فقد عَرّفه الحبشي بقوله هو: "تصديق مخصوص"(5)، ويقصد بذلك: "التصديق بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-"(6)، وتارة يرى أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، فيقول في (المطالب الوفية): "الإيمان هو التصديق بالقلب بما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من عند الله تعالى، والإقرار به باللسان"(7)، ويعلق على ما ذكره بقوله: "أي الإيمان يشمل كلا الأمرين"(8).
__________
(1) - تهذيب اللغة للأزهري 15/513.
(2) - انظر: المحيط في اللغة لابن عباد 10/414.
(3) - تهذيب اللغة للأزهري 15/513.
(4) - مجمل اللغة لابن فارس 1/102.
(5) - صريح البيان للحبشي ص89، انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص227.
(6) - صريح البيان للحبشي ص89، انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص227.
(7) - المطالب الوفية للحبشي ص129.
(8) - المصدر السابق ص129.(2/121)
ومما سبق بيانه يتبين أن الحبشي واقع في الحيرة والاضطراب في تعريفه للإيمان لأنه تارة يعرف الإيمان بالتصديق أي يجعله قاصراً على معرفة القلب، وأخرى يتعداها ويجعل الإيمان تصديقاً بالقلب وإقراراً باللسان، وعلى كلا الوجهين لم يصب الحبشي في تعريفه للإيمان، حيث خالف السلف وأئمة أهل السنة والجماعة في تعريفاته للإيمان لأن الوارد عنهم في تعريف الإيمان: أنه تصديق القلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح والأركان؛ ومن هذه التعريفات الواردة في هذا المعنى عن علماء السلف على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
عَرّفه الإمام الشافعي بقوله:"واعلموا أن الإيمان:معرفة بالقلب،وإقرار باللسان وعمل بالأركان"(1).
قول الإمام الآجري في الإيمان: "أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح"(2).
وما قاله أبو ثور(3)عندما سئل عن الإيمان:"أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان،وعمل الجوارح"(4).
وما ذكره ابن بطال(5) في شرحه لصحيح البخاري في بيان "مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل"(6).
__________
(1) - الفقه الأكبر للشافعي ص56.
(2) - الشريعة للآجري ص119.
(3) - أبو ثور: إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي (أبو ثور) الإمام الحافظ الحجة المجتهد مفتي العراق ويُكنى أيضاً (أبو عبدالله) ولد في حدود سنة 170هـ، وتوفي سنة 240هـ. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/512-513، سير الأعلام للذهبي 12/72-76.
(4) - شرح الأصول لللالكائي 1/172.
(5) - ابن بطال:علي بن خلف بن بطال البكري،القرطبي،ثم البلنسي،ويعرف بابن اللجام (أبو الحسن)شارح صحيح البخاري،وهو من كبار المالكية، توفي سنة 449هـ.انظر:العبر للذهبي2/294،سير الأعلام للذهبي 18/47-48.
(6) - شرح صحيح مسلم للنووي 1/122.(2/122)
وما جاء عن الإمام ابن قدامة المقدسي(1):"والإيمان قول باللسان،وعمل بالأركان،وعقد بالجنان"(2).
وما أورده ابن رجب(3) في تعريف الإيمان:"المشهور عن السلف وأهل الحديث أن
الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان"(4).
وأيضاً التعريف الجامع الذي ذكره ابن القيم للإيمان قوله: "هو حقيقة مركبة من معرفة ما
جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان"(5).
ويضاف إلى ما سبق ما ذكره الإمام ابن أبي العز شارح الطحاوية، حيث يذكر عن قول السلف المختار في الإيمان وهو: "أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان، وسائر الجوارح"(6).
__________
(1) - ابن قدامة المقدسي: شيخ الإسلام موفق الدين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي (أبو محمد) ولد سنة 541هـ، وتوفي سنة 620هـ. انظر: ، البداية والنهاية لابن كثير 13/99-101، سير الأعلام للذهبي 22/165-173.
(2) - الاعتقاد لابن قدامة المقدسي ص47.
(3) - ابن رجب:زيد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين بن محمد البغدادي،ثم الدمشقي،الحنبلي،المعروف (بابن رجب)ويكنى (بأبي الفرج)المتوفى بدمشق سنة 795هـ.انظر:الرسالة المستطرفة-لبيان مشهور كتب السنة المشرقة-لمحمد بن جعفر الكتاني ص111،الناشر:دار الكتب العلمية،بيروت،ط الثانية 1400هـ.
(4) - جامع العلوم والحكم -شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم- لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص18-19، الناشر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط جمادى الثانية 1346هـ.
(5) - الفوائد لابن قيم الجوزية ص129، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: دار إحياء الكتب العربية، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(6) - شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص332.(2/123)
ويُجمل شيخ الإسلام -ابن تيمية- موقف السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان فيقول: "فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح …، والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن مقصودهم الرد على المرجئة(1)
الذين جعلوه قولاً فقط؛ فقالوا: بل هو قول وعمل"(2).
__________
(1) - المرجئة: سموا بالمرجئة:لأنها زعمت أن الواحد من المكلفين إذا قال:لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفعل بعد ذلك سائر المعاصي لم يدخل النار أصلاً،وأن الإيمان هو قول بلا عمل، والأعمال الشرائع، والإيمان قول مجرد والناس لا يتفاضلون في الإيمان، وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه فمن أقر بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن. انظر: الغنية -لطالبي طريق الحق عز وجل في الأخلاق والتصوف والآداب الإسلامية-للشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني 1/185، وضع حواشيه: صلاح بن محمد بن عويضة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1417هـ-1997م، فتح الباري 1/110.
(2) - الإيمان لابن تيمية ص136-137، تحقيق: عصام الدين الصبابطي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1414هـ-1993م.(2/124)
والإيمان -كما سبق ذكره- هو تلفظ باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح والأركان، والأدلة على ذلك كثيرة ومتزاحمة في الكتاب والسنة، ومن هذه الأدلة على أن الإيمان تلفظ باللسان قول الله عز وجل: { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } [الحجرات:14]، وما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"(1).
ومن الأدلة على أن الإيمان يتضمن الاعتقاد بالقلب، قوله تعالى: { وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14]، وقوله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:7]، وقوله تعالى: { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ } [المجادلة:22]، وما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه"(2).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)، ح25،1/14، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب (الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله…)، ح22، 1/53 (بنحوه).
(2) - سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، ح4880، 4/270، مسند الإمام أحمد 4/420-421، قال الألباني: حديث حسن صحيح، انظر: صحيح سنن أبي داود لمحمد ناصر الدين الألباني ح4880، 3/197، الناشر: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط الثانية، 1421هـ-2000م.(2/125)
ومن الأدلة على أن الإيمان يشتمل على العمل، قول الله عز وجل: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة:5]، وقال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف:110]، وما روي أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: تقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتحج البيت، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: نعم، قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار والقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: نعم"(1)؛ ويروي الإمام الللالكائي عن جمعٍ من الصحابة من الذين قالوا أن العمل داخل الإيمان فيقول: "وبه قال من الصحابة ممن تقدم ذكرهم في أن الصلاة من الإيمان: عمر وعلي ومعاذ وعبدالله بن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وجابر بن عبدالله"(2)، وبهذا يتبين أن العمل داخل في مسمى الإيمان ولا بد منه.
ويرد على الحبشي في جعله الإيمان بمعنى التصديق فقط(3)، ومرادفاً له، وهذا مردود من عدة وجوه:
"أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به. بل يقال: آمن له، كما قال: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت:26]،وقال: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } [يونس:83] …"(4)
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله (إن الله عنده علم الساعة) ح4777، 6/24.
(2) - شرح الأصول لللالكائي 4/832.
(3) - انظر: صريح البيان للحبشي ص89.
(4) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 7/182.(2/126)
"أنه ليس مرادفاً للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبراً عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة، كقوله: طلعت الشمس، وغربت، أنه يقال: آمناه. كما يقال: صدقناه، ولهذا المحدثون والشهود ونحوهم، يقال: صدقناهم، وما يقال: آمنا لهم، فإن الإيمان مشتق من الأمن. فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر؛ كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ (آمن له)، إلا في هذا النوع، والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء، يقال: صدق أحدهما صاحبه، ولا يقال: آمن له، لأنه لم يكن غائباً عنه ائتمنه عليه، ولهذا قال: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت:26]"(1).
"أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر. يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط"(2)؛ وبهذا يتبين خطأ جعل الإيمان مرادفاً للتصديق فقط.
وأما جعل الحبشي الإيمان عبارة عن إقرار باللسان وتصديق بالقلب(3) ففيه مغالطات من وجوه، منها على سبيل المثال:
__________
(1) - المصدر السابق 7/183.
(2) - المصدر نفسه 7/184.
(3) - انظر: المطالب الوفية للحبشي ص129.(2/127)
"ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأوجب على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن، ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً، فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك. وأما من بلغه من القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر، وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل؛ لموته قبل أن يبلغه شيء آخر؛ وأيضاً لو قدر أنه عاش، فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين"(1)، وبهذا يتبين وجوب العمل وعدم الاكتفاء بالإقرار باللسان والتصديق بالجنان.
من خطأ الأحباش: "ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط، دون أعمال القلوب"، وهذا نفس ما قاله جهمية المرجئة"(2).
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 7/125.
(2) - المصدر السابق 7/130.(2/128)
وأيضاً: ظن الحبشي أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال، ولهذا يجعل الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه، بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلها لازمة له. والذي عليه سلف الأمة أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر(1).
ثانياً: الإسلام لغةً واصطلاحاً:
الإسلام لغةً:
جاء في مادة (سلم) أن "السَّلام والسلامة: البراءة، وتسلَّمَ منه: تبرأ"(2)، "وسلَّمه الله من الأمر: وقاه إياه"(3)، "والسَّلمَ: الاستسلام"(4)، "والسَّلمُ: الإسلام، والسَّلْمُ: الاستخذاء والانقياد والاستسلام"(5)، وجاء في (المحيط في اللغة) أن "الإسلام: الاستسلام لأمر الله والانقياد لطاعته، ويقولون: سلّمنا لله ربنا: أي استسلمنا له، وأسلمنا. والسَّلمُ -أيضاً- الإسلام. والمسلم: المستسلم"(6)، ولهذا يقال "المسلم: المخلص لله عبادته"(7)، وخلاصة القول في معنى الإسلام لغة هو تمام الخضوع والانقياد والاستسلام.
الإسلام اصطلاحاً:
يرى الحبشي أن المقصود بالإسلام في الشرع هو: "انقياد مخصوص، وهو الانقياد لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنطق بالشهادتين"(8)، ولهذا يقول الحبشي عن الإسلام: "هو الدين الذي رضيه الله لعباده وأمرنا باتباعه"(9).
__________
(1) - انظر: المصدر نفسه 7/130.
(2) - لسان العرب لابن منظور 3/2077.
(3) - المصدر السابق 3/2078.
(4) - المصدر نفسه 3/2079.
(5) - المصدر نفسه 3/2081.
(6) - المحيط في اللغة لابن عباد 8/333.
(7) - المصدر السابق 8/333.
(8) - صريح البيان للحبشي ص89، انظر: المطالب الوفية للحبشي ص132.
(9) - الصراط المستقيم للحبشي ص7، انظر: الشرح القويم للحبشي ص25.(2/129)
في تعريف الحبشي للإسلام وافق السلف في بعض الأمور وخالفهم في بعضها الآخر فكانت موافقة الحبشي تتمثل في تعريفه للإسلام بأنه جعله انقياداً لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن المخالفة ظهرت لديه عندما جعل الإسلام انقياداً بالنطق بالشهادتين، وإن كان هذا صحيحاً إلا أنه غير كامل لأن الأعمال الظاهرة جزء من تعريف الإسلام، فجاء عن ابن تيمية قوله في الإسلام: "لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة"(1)، ويزيد الأمر وضوحاً شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريفه للإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الظاهر من القول والعمل، وهي المباني الخمسة"(2)، ويعرفه الشيخ الحكمي بقوله: "الإسلام: معناه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [النساء:125]"(3)، ويزيد الأمر وضوحاً الشيخ الحكمي في تعريفه للإسلام بقوله: "وأما في الشريعة فلإطلاقه حالتان: الحالة الأولى:أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان،فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله كقوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران:19]… ، الحالة الثانية: أن يطلق مقترناً بالاعتقاد فهو حينئذٍ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة، كقوله تعالى: { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 7/164، انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص348.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز 7/386.
(3) - العقيدة الإسلامية -200سؤال وجواب- للشيخ حافظ بن أحمد حكمي ص8، الناشر: دار الاعتصام، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/130)
[الحجرات:14]"(1)
... وبهذا يتبين أهمية ذكر الأعمال الظاهرة من الإنسان لإثبات الإسلام له، أما ما ذكره الحبشي من النطق بالشهادتين إنما هو إثبات حكم الإسلام فقط ولم يذكر حقيقته وهو المطلوب في التعريف، وفي هذا المعنى يقول ابن الصلاح: "وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر. وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأربع لكونهما أظهر شعائر الإسلام ومعظمها، وبقيامه بها يثبت استسلامه، وتركه لها يشعر بحل قيد انقياده وانحلاله"(2)
وما سبق ذكره من أن الإسلام لا بد فيه من العمل وعدم الاكتفاء بالنطق بالشهادتين وإن كانت هي مفتاح الدخول لهذا الدين، ما ذكره مجموعة من علماء السلف منهم:
والإمام الطبري يقول في الإسلام: "وهو الانقياد بالتذلل والخشوع"(3) ويكون هذا الأمر بالعمل كما يوضحه فيما بعد بقوله: "أن الدين عند الله الإسلام أن الطاعة التي هي الطاعة عنده له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية، والذلة وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذللها له بذلك من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودية والألوهية"(4).
__________
(1) - معارج القبول للحكمي 2/21-22.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 7/226.
(3) - جامع البيان للطبري 3/141.
(4) - المصدر السابق 3/141.(2/131)
الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي(1) -رحمه الله- في حديث سؤال جبريل -عليه السلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام، فقال عن الإسلام: "جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال"(2).
وما ذكره أبو بكر الإسماعيلي(3)في رسالته إلى أهل الجبل:"والإسلام فعل ما فرض الله
على الإنسان أن يفعله"(4).
وما قاله ابن رجب في الإسلام: "والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل وهو الدين"(5).
المطلب الثاني: العلاقة بين الإيمان والإسلام عند الأحباش:
__________
(1) - أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي: الشيخ الإمام، العلامة القدرة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي، الشافعي المفسر، صاحب التصانيف كشرح السنة يكنى (بأبي محمد)، توفي سنة 516هـ بمرو الروذ مدينة من مدائن خراسان. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان 2/136-137، سير الأعلام للذهبي 19/439-443.
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 1/122.
(3) - أبو بكر الإسماعيلي: أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، الجرجاني، الشافعي (أبو بكر)، محدث، فقيه، صاحب الصحيح، ولد سنة 277هـ، وتوفي سنة 371هـ؛ من تصانيفه: الصحيح على شرط البخاري، الفرائد، العوالي وغير ذلك. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 3/947-951، شذرات الذهب لابن عماد 3/72،75، سير الأعلام للذهبي 16/292-296.
(4) - جامع العلوم والحكم لابن رجب ص19.
(5) - المصدر السابق ص20.(2/132)
... يعتقد الحبشي أن "الإسلام والإيمان متلازمان لا يقبل أحدهما بدون الآخر، وإن كانا مختلفين من حيث معنياهما الأصليان… فكما أن الظهر لا ينفصل عن البطن مع أنهما مختلفان فكذلك الإيمان لا ينفصل عن الإسلام، والإسلام لا ينفصل عن الإيمان، فمن آمن بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدّق ذلك بالنطق بالشهادتين بلسانه فهو مسلم مؤمن"(1)، وبهذا يتبين أن الإيمان والإسلام عند الحبشي بمعنى واحد، وعلى هذا يرى الحبشي أن من "آمن بالله ورسوله وأدى الواجبات واجتنب المحرمات فهذا مسلم مؤمن وإيمانه كامل، ومن ترك بعض الواجبات كالصلوات الخمس أو أرتكب بعض المحرمات كأكل الربا وشرب الخمر فهذا مسلم مؤمن وإيمانه ناقص"(2).
__________
(1) - صريح البيان للحبشي ص89-90.
(2) - المصدر السابق ص91.(2/133)
والذي يدلل على صحة ما سبق بيانه أن الحبشي في كتابه (المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية) يورد في نهاية الكتاب متن العقيدة النسفية، ويذكر فيها قول الإمام النسفي(1) قوله: "والإسلام واحد"(2)، ولكن عند شرحه يقول: "قال المؤلف -رحمه الله- (والإيمان والإسلام واحد)"(3)، وبهذا يتبين أن الحبشي يعتبر أن الإيمان والإسلام شيئاً واحداً، ويشرح الحبشي القول السابق بقوله: "يعني أن الإيمان والإسلام الذي هو التصديق القلبي والاعتراف باللسان بوحدانية الله وألهيته ورسالة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكون أحد المفهومين مقبولاً معتبراً عند الله إلا باجتماع الأمرين، فإذا اجتمع التصديق القلبي والاعتراف باللسان يصيران معتدّاً بهما وإلا فلا يعتد بأحدهما دون الآخر، وبالنظر إلى هذه الحيثية فهما واحد، أما اعتبار المفهوم اللغوي فهما متغايران"(4).
ويرى الحبشي أن من ينطق بالشهادتين فهو مؤمن مسلم، فيقول في ذلك: "بل يكون الرجل مؤمناً مسلماً بالشهادتين"(5)، وهذه النصوص بمجموعها تبين أن الإيمان والإسلام يأتيان بمعنى واحد من حيث حقيقتهما، وإنما الاختلاف واقع بينهم من حيث الأصل اللغوي.
__________
(1) - الإمام النسفي: عمر بن محمد بن أحمد بن لقمان النسفي الحنفي (أبو حفص)، العلامة، المحدث، الحافظ، ولد سنة 461هـ، وتوفي سنة 537هـ، من مصنفاته: بعث الرغائب لبحث الغرائب، المعتقد، مجمع العلوم وغيرها، انظر: سير الأعلام للذهبي 20/126-127، طبقات المفسرين للسيوطي ص27.
(2) - المطالب الوفية للحبشي ص166 -المتن-.
(3) - المصدر السابق ص131.
(4) - المصدر نفسه ص131.
(5) - المصدر نفسه ص132، انظر: إظهار العقيدة السنية للحبشي ص227، بغية الطالب للحبشي ص8، الصراط المستقيم للحبشي ص107، الشرح القويم للحبشي ص422.(2/134)
وهذا الذي ذُكر مخالف لما عليه أئمة أهل السنة والجماعة لأنهم أوجدوا فرقاً وتغايراً بين مسمى الإيمان والإسلام فيقول الإمام القرطبي: "والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التغاير لحديث جبريل"(1)، وعلى هذا النهج سار علماء السلف في التفريق بين الإسلام والإيمان، فقد جاء عن الإمام أحمد أنه سُئل: تفرق بين الإيمان والإسلام؟ قال: نعم، وأقول مسلم ولا استثني، فقال السائل: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا. ثم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن"(2). وقال الله عز وجل: { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } [الحجرات:14]، فقال السائل: فنذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن؟ فقال الإمام أحمد: نعم، فقال السائل: فإذا كان المرجئة يقولون أن الإسلام هو القول؟ فقال الإمام: هم يصيرون هذا كله واحداً ويجعلونه مسلماً ومؤمناً شيئاً واحداً على إيمان جبريل ومستكمل الإيمان(3)؛ وبالتالي يظهر شناعة قول الحبشي بجعله الإيمان والإسلام شيئاً واحداً، وينقل الإمام النووي عن أبي عمرو بن الصلاح تعليقه على أركان الإيمان والإسلام قوله: "هذا بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر"(4)، ويقول ابن الصلاح: "وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً"(5)
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/43-44.
(2) - صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب النُّهبى بغير إذن صاحبه، ح2475، 3/146، وأيضاً:كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى:(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) ح5578، 6/300-301، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ونفيه عن المتلبس بالمعصية، على إرادة نفي كماله، ح57، 1/76.
(3) - المسائل والرسائل للأحمدي 1/109 بتصرف.
(4) - شرح صحيح مسلم للنووي 1/124.
(5) - المصدر السابق 1/124.(2/135)
، وبهذا يكون قد أوجد الإمام ابن الصلاح الفرق بين الإسلام والإيمان وهذا ما عليه السلف، ويعلق الإمام النووي على ما ذكره ابن الصلاح بقوله: "وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين"(1).
وعلى المنهج نفسه يسير ابن رجب في التفريق بين الإسلام والإيمان في (جامع العلوم والحكم) حيث يقول: "والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمى الله في كتابه الإسلام ديناً وفي حديث جبريل وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام والإيمان والإحسان ديناً"(2)، وأيضاً عن أبي بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل أنه قال: "قال كثير من أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض الله على الإنسان أن يفعله، إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعاً، مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر، وإذا ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمهم"(3)، ويتحدث الإمام الخطابي عن العلاقة بين الإسلام والإيمان بقوله: "والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعضها؛ والمؤمن مسلم في جميع الأحوال؛ فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلمٍ مؤمناً"(4).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/124.
(2) - جامع العلوم والحكم لابن رجب ص20.
(3) - المصدر السابق ص19.
(4) - شرح صحيح مسلم للنووي 1/122.(2/136)
ويبين شيخ الإسلام الفرق بين الإيمان والإسلام فيقول: "قد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل -عليه السلام- بين مسمى الإسلام، ومسمى الإيمان، ومسمى الإحسان، فقال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"(1)، وقال: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(2) …، وحديث جبريل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو الإسلام نفسه، ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الدين ثلاث درجات أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن،وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسناً، ولا كل مسلم مؤمناً"(3) وفي المعنى السابق الذكر يقول ابن تيمية أيضاً في (مجموعة الفتاوى): "وأما قول من سوى بين الإسلام والإيمان، وقال: إن الله سمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وسمى الإسلام بما سمى به الإيمان، فليس كذلك، فإن الله ورسوله قد فسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وبين -أيضاً- أن العمل بما أمر به يدخل في الإيمان، ولم يسم الله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت إسلاماً، بل إنما سمى الإسلام: الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين والعمل بما أمر به؛ كالصلاة والزكاة خالصاً لوجهه، فهذا هو الذي سماه الله إسلاماً وجعله ديناً، وقال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، ح8، 1/36، سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في وصف جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان والإسلام، ح2610، 5/6-8، قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.
(2) - التخريج السابق نفسه.
(3) - الإيمان لابن تيمية ص6، انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز ص338-339.(2/137)
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران:85]، ولم يدخل فيما خص به الإيمان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، بل ولا أعمال القلوب، مثل حب الله ورسوله ونحو ذلك، فإن هذه جعلها من الإيمان، والمسلم المؤمن يتصف بها، وليس إذا اتصف بها المسلم المؤمن يلزم أن تكون من الإسلام، بل هي من الإيمان، والإسلام فرض، والإيمان فرض، والإسلام داخل فيه، فمن أتى بالإيمان الذي أمر به، فلا بد أن يكون قد أتى بالإسلام المتناول لجميع الأعمال الواجبة، ومن أتى بما يسمى إسلاماً لم يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل منفصل"(1)؛ وبعد هذا العرض للفرق بين الإيمان والإسلام بالإضافة إلى ما سبق ذكره في تعريف كل من الإيمان والإسلام، يتبين فساد ما ذهب إليه الحبشي وجعل الإيمان والإسلام من حيث الحقيقة بمعنى واحد.
المطلب الثالث: الإرجاء عند الأحباش:
أولاً: تعريف الإرجاء:
الإرجاء لغةً:
__________
(1) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 7/254-255.(2/138)
الإرجاء مأخوذ من مادة (رجأ) الراء والجيم والهمزة، وهي بمعنى التأخير كما جاء في معاجم اللغة، ففي (المحيط في اللغة): "الإرجاء: من قولك أرجأتُ الشيء: أي أخرَّته"(1)، وفي (لسان العرب): "أرجأ الأمر: أخرَّه… والإرجاء: التأخير"(2)، وفي (الصحاح): "أرجيت الأمر: أخرته، يهمز ولا يهمز…"(3)، وكما سبق قرأت بغير همزة "(أرجا) الأمر: أخره.. وآخرون مرجئون لأمر الله -بهمزة- حتى يُنزل الله فيهم ما يريد، ومنه سميت المرجئة"(4)؛ وجاءت معاني أخرى مثل: "والرجاء من الأمل ممدود، يقال: رجوت فلاناً رجواً ورجاءً ورجاوة"(5)، وأيضاً: "والرجا مقصور: ناحية البئر وحافتاها. وكل ناحيةٍ ترجا. يقال منه: أرجَيْتُ"(6).
الإرجاء اصطلاحاً:
الإرجاء هو القول بأنه: لا يضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة، وهذا ما عرف به الجرجاني المرجئة(7).
ويفصل القول ابن حجر في تعريف الإرجاء بقوله: "الإرجاء بمعنى التأخير، وهو عندهم على قسمين: منهم من أراد به تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللذين تقاتلوا بعد عثمان، ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم من أتى الكبائر وترك الفرائض بالنار لأن الإيمان عندهم الإقرار والاعتقاد ولا يضر العمل مع ذلك"(8)، والمراد هنا في تعريف الإرجاء القسم الثاني: الذين اعتبروا الإيمان إقرار واعتقاد بدون عمل، حيث إنهم قدّموا القول وأرجئوا العمل.
ثانياً: نصوص للحبشي توهم القول بالإرجاء والرد عليها:
__________
(1) - المحيط في اللغة لابن عباد 7/175.
(2) - لسان العرب لابن منظور 2/1583.
(3) - الصحاح للجوهري 6/2352.
(4) - القاموس المحيط للفيروز آبادي 1/16.
(5) - الصحاح للجوهري 6/2352.
(6) - المصدر السابق 2/2353.
(7) - انظر: التعريفات للجرجاني ص237.
(8) - فتح الباري لابن حجر -المقدمة- ص459.(2/139)
الحبشي عندما عَرّف الإيمان اقتصر في تعريفه على التصديق بالقلب والإقرار باللسان(1) في أحد قوليه، والثاني الاكتفاء بالتصديق(2)، ولم يذكر العمل في تعريفه للإيمان، وهناك العديد من النصوص الواردة في كتاباته توهم القول بالإرجاء؛ فمنها على سبيل المثال:
تفسير الحبشي لقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6]، فيقول: "وجاء في تفسير الآية أن الله يأمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم النار التي وقودها الناس والحجارة بتعلّم الأمور وتعليم أهليهم ذلك(3) أي معرفة ما فرض فعله أو اجتنابه أي الواجبات والمحرمات، وذلك كي لا يقع في التشبيه والتمثيل والكفر والضلال"(4)، والملاحظ أن الحبشي في تفسيره للآية اقتصر في تبيين الوقاية من النار بالتعلم والمعرفة فقط، ولم يذكر شيئاً عن العمل للوقاية من النار الذي هو الأصل في الإيمان عند السلف.
ويقول الحبشي: "أن من عَرَف الله ورسوله ونطق بالشهادة مرة في العمر ورضي بذلك اعتقاداً فهو مسلم ومؤمن"(5).
__________
(1) - انظر: المطالب الوفية للحبشي ص129.
(2) - انظر: صريح البيان للحبشي ص89.
(3) - يسند الحبشي هذا القول للإمام علي -رضي الله عنه-، انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص22.
(4) - الصراط المستقيم للحبشي ص22.
(5) - المصدر السابق ص107.(2/140)
ويتحدث الحبشي عن مرتبة الولاية وكيفية الحصول عليها فيقول: "فهذه الولاية ليست بمجرد كثرة الطاعات بل هي بالاستقامة بلزوم الطاعة، ويتضمن ذلك معرفة ما افترض الله على عباده من علم الدين الذي يصحح به العقيدة، وتصحح به الأعمال، وتتجنب به المعاصي الظاهرة والباطنة، وأما مجرد كثرة الصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة، وكثرة الذكر فلا يبلغ بها العبد الالتحاق بهؤلاء الأولياء"(1).
وبهذه النصوص التي تمثل اعتقاد الحبشي في الإيمان الذي يقتصر على الاعتقاد والمعرفة في الحكم على الناس بالإسلام والإيمان، دون التركيز على العمل الذي هو الفيصل بين المؤمنين وغيرهم، لهذا وجه علماء السلف كل اهتمامهم إلى العمل، "وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله ومستحق للوعيد"(2)، وابن القيم -رحمه الله- يرى في تعريفه للإيمان أنه لا بد من وجوب العمل بتكاليف الدين، فيقول: "العمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان وكماله في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله وحده إلهه ومعبوده، والطريق إليه تجديد متابعة رسوله ظاهراً وباطناً"(3).
__________
(1) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص230.
(2) - شرح الطحاوية لابن أبي العز ص333.
(3) - الفوائد لابن القيم ص129.(2/141)
والملاحظ -كما سبق- أن الحبشي يجعل جُلَّ اهتمامه في التركيز على المعرفة والتعلّم وهذا أمر ليس بالهين بل إنه مهم، ولكنه بمفرده ولا يجزئ ولا يخرج المسلم من دائرة عقاب الله سبحانه وتعالى إن لاقاه على هذه الحال، وعلى مثل هذا يعلق الآجري بقوله: "ثم اعلموا: أنه لا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان، حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال: كان مؤمناً"(1)، وأيضاً يعلق على قوله تعالى: { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات:14]، "فهذا مما يدلك على أن علم القلب بالإيمان، وهو التصديق والمعرفة، ولا ينفع القول به إذا لم يكن القلب مصدقاً بما ينطق به اللسان مع العمل، فاعلموا ذلك"(2)، وفي موضع آخر يقول الآجري: "فالأعمال -رحمكم الله تعالى- بالجوارح: تصديق للإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه: مثل الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه"(3).
__________
(1) - الشريعة للآجري ص119.
(2) - المصدر السابق ص119.
(3) - المصدر نفسه ص120.(2/142)
وأما ما ذكره في تفسير آية التحريم (6)، في أن وقاية الأهل من النار تتمثل في تعليمهم لأهليهم ومعرفة ما فرض عليهم(1)… إلخ، فإن اقتصار الحبشي في تفسيره للآية على مجرد المعرفة والتعلّم مخالف لما عليه السلف، حيث جاء عن ابن عباس في تفسيره للآية قوله: "اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، واؤمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار"(2)، ويقول أيضاً الطبري في تفسيره للآية الكريمة مبيناً أهمية العمل فيقول: "يقول تعالى ذكره يأيها الذين صدقوا الله ورسوله قوا أنفسكم، يقول علموا بعضكم بعضاً ما تقون به من تعلمونه النار، وتدفعونها عنه إذا عمل به من طاعة، واعملوا بطاعة الله وقوله (وأهليكم ناراً) يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم من النار"(3).
وأما معرفة الله ورسوله والنطق بالشهادة ولو لمرة واحدة في العمر، ورضاؤه بذلك اعتقاداً لا تجعل الإنسان مسلماً ومؤمناً كما ادعى الحبشي(4)، لأنه سبق الحديث في هذه الجزئية في التفريق بين الإيمان والإسلام(5) وأن كليهما لا بد فيه من العمل، والحبشي لم يتطرق في كلامه إلى العمل ولو من بعيد، فكلامه مردود عليه فإن المعرفة وحدها لا تكفي، والكلام وحده بدون العمل لا يكفي، وهذا هو منهج السلف، حيث جاء عن أبي العالية في قوله تعالى: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة:177]، يقول: "تكلموا بكلام الإيمان وحققوه بالعمل"(6)، وقال الربيع بن أنس: وكان الحسن يقول: "الإيمان كلام، وحقيقته العمل. فإن لم يحقق القول بالعمل، لم ينفعه القول"(7).
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص22.
(2) - التفسير العظيم لابن كثير 4/391.
(3) - جامع البيان للطبري 28/106.
(4) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص107.
(5) - انظر: البحث ص251-254.
(6) - الشريعة للآجري ص130.
(7) - المصدر السابق ص130.(2/143)
وأيضاً إدعاء الحبشي بأن الولاية ليست بكثرة الطاعات كلام مردود بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث ثبتت ولاية الله لعبيده وحبه لهم بمدى التقرب بالطاعات من النوافل بعد الفرائض "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه"(1)، وأما تفسيره للاستقامة بلزوم الطاعة، وجعلها مبهمة وعند تفسيره لها يوجه عنايته إلى المعرفة دون العمل -وهذا كما سبق- مخالف لما عليه السلف، بل إن في كلامه نوعاً من التثبيط عن العمل حيث قال: "وأما مجرد كثرة الصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة وكثرة الذكر فلا يبلغ بها العبد الالتحاق بهؤلاء الأولياء"(2)، فما المانع أن يكثر الإنسان من الصلاة والصيام والقيام والذكر وفق ما جاء في الكتاب والسنة؟! أم أن الاستقامة تقتصر في معظمها على المعرفة والعلم فقط دون العمل؟!
المبحث الثاني: الكفر والردة
أولاً: تعريف الكفر لغةً واصطلاحاً:
الكفر لغةً:
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، ح6502، 7/243-244.
(2) - إظهار العقيدة السنية للحبشي ص230.(2/144)
مما ورد في معاجم اللغة في معنى الكفر أنه "ضد الإيمان، وقد كفر بالله كفراً. وجمع الكافر كفارٌ وكفرةً"(1)؛ والكفر جاء بمعنى الجحود، فجاء في (لسان العرب): "الكفر: كفر النعمة، وهو نقيض الشكر، والكفر: جحود النعمة وهو ضد الشكر. وقوله تعالى: { إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [القصص:48]، أي جاحدون، وكفر نعمة الله يكفرها كفوراً وكفراناً، وكفر بها: جحدها وسترها"(2)، وأيضاً من معاني الكفر العصيان والامتناع حيث ورد في (المحيط في اللغة) أن "الكفر: نقيض الإيمان. وهو أيضاً: العصيان والامتناع"(3)، وجاء بمعنى التغطية: "الكَفْرُ بالفتح التغطية. وقد كفرت الشيء أكفره بالكسر كفراً أي: سترته، ورمادٌ مكفورٌ، إذا سنت الريح التراب عليه حتى غطته"(4)، والكفر بمعنى البغض وذلك مأخوذ من "قول العرب: كفرٌ على كفر: أي بغضٌ على بغض"(5)، ومما سبق يتبين أن الكفر ضد الإيمان ، وسمي بذلك لأنه يؤدي بالكافر إلى جحود نعمة الله عليه، وستر وتغطية نعمة الإسلام، من خلال جحودها وسترها وتغطيتها بالأمور الكفرية سواء أكانت قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً.
الكفر اصطلاحاً:
أما تعريف الكفر عند الأحباش فلم أجد تعريفاً له مما وقع بين يدي من كتابات في هذه المسألة، وأما تعريفه عند العلماء فقد جاء فيه ما يلي:
عرفه الإمام الرازي بقوله: "الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به"(6).
__________
(1) - الصحاح للجوهري 2/807.
(2) - لسان العرب لابن منظور 4/3897، انظر: الصحاح للجوهري 2/807.
(3) - المحيط في اللغة لابن عباد 6/250.
(4) - الصحاح للجوهري 2/807، انظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي 2/132.
(5) - المحيط في اللغة لابن عباد 6/250.
(6) - التفسير الكبير للإمام الرازي 2/37-38.(2/145)
وعرفه الإمام القرافي بقوله: "هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجوده أو صفاته، أو بفعلٍ كرمي المصحف في القاذورات والسجود للصنم… أو جحد ما عُلم من الدين بالضرورة"(1).
أما الإمام ابن تيمية عَرّفه بقوله: "الكفر عدم الإيمان باتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم"(2).
وعَرّفه الشيخ الميداني بقوله: "هو رفض التصديق عن معرفة وإرادة، ولو بشيء مما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ووصل إلينا بطريق يقيني قاطع"(3).
وهناك من عَرّفه بتعريف فلسفي كابن يوسف العامري -أحد تلاميذ الكندي- بقوله: "الكفر اعتقاد كاذب غير يقيني، ومحله من النفس هو القوة المتخيّلة"(4).
وجاء في تعريف الكفر في القاموس الفقهي بأن الكفر "ورد بمعنى جحد المعلوم من الدين الإسلامي بالضرورة الشرعية"(5).
ويمكن الخروج بتعريف جامع للمعاني للسابقة وهو: الكفر جحد ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- على وجه اليقين، أو بعضه، أو الشك به، أو فعل شيء، أو التكلم بكلام فيه انتهاك لحرمة شرع الله، عن معرفة وإرادة.
ثانياً: تعريف الردة لغةً واصطلاحاً:
الردة لغةً:
__________
(1) - الذخيرة لأحمد بن إدريس القرافي 12/28، تحقيق: محمد بو خبزة، الناشر: دار الغرب الإسلامي، ط الأولى 1994م.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 20/51.
(3) - العقيدة الإسلامية وأسسها عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص615، الناشر: دار القلم، دمشق، ط السادسة 1412هـ-1992م.
(4) - كتاب الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري ص83، تحقيق ودراسة: د. أحمد عبد الحميد غراب، الناشر: دار الكاتب العربي، القاهرة -بدون رقم طبعة-، 1387هـ-1967م.
(5) - القاموس الفقهي -لغة واصطلاحاً- سعدي أبو حبيب ص321، الناشر: دار الفكر، دمشق، ط الثانية 1408هـ-1988م.(2/146)
الردة في المعنى اللغوي جاءت بمعنى الرجوع عن الشيء والتحول عنه والانصراف إلى غيره، وجاء في (الصحاح) تحت مادة (ردد) "رده عن وجهه يرُدُّه ردّاً ومَرَداً: صرفه، وقال الله تعالى: { فَلَا مَرَدَّ لَهُ } [الرعد:11]، وردّ عليه الشيء، إذا لم يقبَلْهُ، وكذلك إذا خطأه. وتقول: رَدَّهُ إلى منزله. وردّ إليه جواباً:أي رجع… والارتداد: الرجوع، ومنه المرتدُّ… والرِدَّة بالكسر مصدر قولك ردّهُ يَرُدُّه رَدّاً ورِدَّة، والرِدَّةُ: الاسم من الارتداد"(1)، وفي المعنى السابق نفسه جاء في (لسان العرب) أن الردة بمعنى التحول "ارتدَّ، وارتد عنه: تحول. وفي التنزيل { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } [المائدة:54]، والاسم الرَّدَّةُ، ومنه الردة عن الإسلام. أي الرجوع عنه. وارتد فلان عن دينه إذا كفر بعد إسلامه"(2).
ب- الردة اصطلاحاً:
جاء في تعريف الردة عند الأحباش بأنها "قطع الإسلام"(3)، ويبين الحبشي المقصود بهذا من خلال قوله: "يجب على كل مسلم حفظ إسلامه، وصونه عما يفسده ويبطله ويقطعه وهو الردة"(4)، وأوضح الحبشي أن قطع الإسلام والارتداد عنه يكون إما بأفعالٍ أو أقوالٍ أو اعتقادات(5)؛ وهذا الذي ذكره الحبشي في تعريفه للردة موافق لما عليه علماء أهل السنة والجماعة، ومن النصوص الواردة في هذا الشأن ما يلي:
__________
(1) - الصحاح للجوهري2/473، انظر:القاموس المحيط للفيروز آبادي1/304،المحيط في اللغة لابن عباد 9/257.
(2) - لسان العرب لابن منظور 2/1621.
(3) - بهجة النظر إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص42.
(4) - مختصر عبدالله الهرري للحبشي ص13.
(5) - انظر: صريح البيان للحبشي ص94.(2/147)
ما ذكره الإمام النووي في (المنهاج) بأن الردة "هي قطع الإسلام بنيةٍ، أو قول كفرٍ، أو فعلٍ سواء قاله استهزاءً أو عناداً أو اعتقاداً"(1)، ويزيد الإمام النووي الأمر وضوحاً في تعريفه للردة حيث جاء في كتابه (روضة الطالبين) بأن الردة "قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات… وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء"(2).
وما قاله الإمام أبو بكر الحسيني في (كفاية الأخيار) في الردة بأنها: "الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام، ويحصل تارة بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بالاعتقاد"(3).
أو ما جاء عن الإمام أبي عبدالله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي في تعريفه للردة بأنها: "قطع الإسلام بقول أو فعلٍ أو نية"(4). ومما سبق ذكره يتبين أن الأحباش لم يخالفوا في تعريف الردة، ويكونون وافقوا علماء أهل السنة والجماعة.
المطلب الثاني: العلاقة بين الكفر والردة عند الأحباش:
__________
(1) - شرح مغني المحتاج للشيخ الشربيني الخطيب مع متن المنهاج للنووي 4/133-134 -المتن-، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1352هـ-1933م.
(2) - روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي 10/64، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط الثانية 1405هـ-1985م.
(3) - كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار لأبي بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي 2/123، الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط الثانية -بدون سنة نشر-.
(4) - رحمة الأمة في اختلاف الأئمة لأبي عبدالله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي ص351، -بدون دار نشر أو رقم طبعة-، ط 1401هـ-1981م، انظر: شرح فتح الجليل على مختصر العلامة خليل للشيخ محمد عليش، الناشر: دار الفكر، بيروت، ط الأولى 1404هـ-1984م.(2/148)
وعند النظر فيما كتبه الحبشي في الكفر والردة، يُلاحظ أن العلاقة بينهما علاقة تماثل أي أن الكفر والردة شيء واحد والدليل على ذلك ما ذكره الحبشي في تقسيم الكفر تحت عنوان "بيان أقسام الكفر"(1)، ويبين أن "الكفر ثلاثة أنواع: كفر اعتقادي، وكفر فعلي، وكفر لفظي وذلك باتفاق المذاهب الأربعة"(2)،وفي المقابل عندما يتحدث الحبشي عن الردة وأقسامها يقول: "والردة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أفعال وأقوال واعتقادات، كما اتفق على ذلك أهل المذاهب الأربعة"(3)، وتحت هذه العناوين في الكفر والردة يذكر الأمثلة نفسها ويكررها، وهذا يدلل على أن الكفر والردة عند الحبشي شيء واحد.
ولكن الحبشي لا يثبت على رأي معين في هذه المسألة من حيث جعله الكفر والردة بمعنى واحد من خلال ذكر التقسيم نفسه تحت كل من الكفر والردة، فأحياناً يجعل الكفر أعم من الردة وهذا يفهم من خلال قوله: "ولا يزول اسم الإيمان والإسلام عن المؤمن إلا بالردة التي هي أفحش أنواع الكفر، ويسمى عندئذٍ كافراً"(4)، ويظهر من هذا القول للحبشي أن الردة أخص من الكفر وهي داخلة فيه، لأنه اعتبر من يرتد يكون قد ارتكب أفحش أنواع الكفر ويطلق عليه كافراً.
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص9، انظر: الشرح القويم للحبشي ص31.
(2) - المصدرين السابقين.
(3) - صريح البيان للحبشي ص94، انظر: مختصر عبدالله الهرري للحبشي ص13، بغية الطالب للحبشي ص37، بهجة النظر إعداد قسم الأبحاث والدراسات ص41.
(4) - صريح البيان للحبشي ص93.(2/149)
وخلاصة القول فيما سبق ذكره أن للحبشي رأيين في بيان العلاقة بين الكفر والردة، الأول: أن الكفر والردة متماثلان، والثاني: أن الكفر أعم من الردة، أما الرأي الأول فهو مردود، لأن الردة أخص من الكفر وتكون الردة بعد دخول الإنسان في الإسلام والخروج منه، وأما الكفر فيتعلق بكل إنسان لم يشهد الشهادتين وبقي على معتقده سواءً أكان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو أي معتقد يخالف الدين الإسلامي، ويزيد الأمر وضوحاً فيمن تحدث عن الردة فيقول ابن النقيب المصري في بيان المرتد بأنه هو "من ارتد عن الإسلام، وهو بالغ عاقل مختار"(1)، وأيضاً أبو بكر الحسيني في حديثه عن الردة: "الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام"(2)، وغيرها من التعريفات التي سبق ذكرها، تبين أن الردة تحصل بعد الدخول في الإسلام، ويكون كل مرتدٍ كافراً وليس كل كافرٍ مرتداً؛ أما إذا ادعى الحبشي بأنه يفرق بين كل من الكفر والردة يحتج عليه بما ذكره في تقسيمات كل من الكفر والردة بأنه شيء واحد بل إن الأمثلة نفسها، وإن من ادعى أن هذا دليل لا يقوى للاحتجاج به على أنه جعل الكفر والردة شيئاً واحداً، فهذا مردود عليه لأن الحبشي نفسه يحاسب غيره على كل كلمة يقولها بل إنه يفسق خصومه بناءً على بعض الكلمات بل وأحياناً يكفرهم، مثال ذلك ما ذكره في حق الشهيد سيد قطب، وفي الصفحة نفسها ما ذكره في حق البوطي فيقول: "وكذلك لا يجوز تسمية الله بالقوة كما فعل سيد قطب وكأنه اقتدى بكلام بعض الملاحدة الذين يقولون (إن للعالم قوة مدبرة)… وكذلك تسمية سيد قطب لله بالعقل المدبر لأن العقل صفة من صفات البشر والجن والملائكة، وهذه التسمية تدخل تحت قول الإمام أبي جعفر الطحاوي في كتابه الذي ألفه لبيان
__________
(1) - عمدة السالك وعدة الناسك لأبي العباس أحمد بن النقيب المصري ص233، الناشر: المكتبة العصرية، بيروت -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - كفاية الأخيار لابن محمد الحسيني 2/123.(2/150)
ما عليه أهل السنة: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر)، وكذلك ما في كتاب محمد سعيد البوطي من تسمية الله بالعلة الكبرى والسبب الأوّل والواسطة والمصدر والمنبع وذلك مذكور في كتابه كبرى اليقينيات الكونية وذلك نوع من الإلحاد"(1)، وهذا مثال على حساب الحبشي لخصومه على كلمات، وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن كل كلمة يكتبها الحبشي يقصدها ويعرف مدلولاتها ومقاصدها وإلا يكون لا ثقة في علمه ويتوجب الحذر منه
وأما القول الثاني للحبشي في أنه جعل الكفر أعم من الردة فهذا موافق لما عليه العلماء وهذا يظهر من خلال مناقشته في القول الأول.
المطلب الثالث: الكفر وأنواعه:
أولاً: أنواع الكفر عند الأحباش:
ينقسم الكفر عند الأحباش إلى ثلاثة أنواع وهي: الكفر الاعتقادي، والكفر الفعلي، والكفر اللفظي، وهذا ما يوضحه الحبشي بقوله: "الكفر ثلاثة أنواع: كفر اعتقادي، وكفر فعلي، وكفر لفظي"(2)، ويفصل الحبشي القول في هذه الأنواع الثلاثة:
"الكفر الاعتقادي: مكانه القلب، كنفي صفةٍ من صفات الله تعالى الواجبة له إجماعاً كوجوده وكونه قادراً سميعاً بصيراً…
الكفر الفعليّ: كإلقاء المصحف في القاذورات…
الكفر القولي: كمن يشتم الله تعالى…"(3).
يحتاج الأمر هنا إلى تفصيل: بحيث إذا أراد الحبشي بهذه الأنواع الثلاثة من الكفر الاعتقادي والفعلي والقولي أنها نتيجة ردة المسلم عن دينه للأمور الثلاثة السالفة الذكر، أي أراد بالكفر هنا الناتج عن الردة فهذا صحيح، حيث ذكر العلماء هذه الأمور تحت عنوان الردة وخاصة في كتب الفقه،حيث جاء في(فتح العلام) أن الردة تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي كالتالي:
__________
(1) - الشرح القويم للحبشي ص151.
(2) - الصراط المستقيم للحبشي ص9، انظر: الشرح القويم للحبشي ص31-49، صريح البيان للحبشي ص94-115، بغية الطالب للحبشي ص37-59، مختصر عبدالله الهرري للحبشي ص13-16.
(3) - الصراط المستقيم للحبشي ص9.(2/151)
"الأول: الاعتقادات: كالشك في وجود الله، وكأن شك في سيدنا محمد هل هو رسول الله أو لا؟ أو في القرآن هل هو من عند الله أو من عند سيدنا محمد؟….
الثاني: الأفعال: كالسجود لصنم أو لشمس أو لقمر أو لمخلوق….
الثالث: الأقوال: وهي كثيرة جداً لا تنحصر كأن يقول لمسلم: يا يهودي، أو يا نصراني، أو عديم الدين…"(1)،والشيخ عبد الرحمن الميداني ذكر هذه الأمور التي تُخرج الإنسان المسلم من دينه تحت مسمى المكفرات على أنها نتيجة للردة التي يقع فيها المسلم،وفصّل في ذلك حيث قال: "إن المكفرات في الأصل أمور ومفردات اعتقادية، تكسر في قلب الإنسان قناة الإيمان الصحيح الذي هو وحده تامة لا تقبل التجزئة مطلقاً، فمن اعتقد بها كلها صحّت عقيدته وكان من المؤمنين، ومن آمن ببعضها وكفر ببعضها عاد الجزء الذي كفر به فنقص الجزء الذي آمن به وكان من الكافرين؛ ولكن لما كانت الأمور الإعتقادية أموراً قلبية، ونحن بالنظر لحدود إمكاناتنا البشرية لا نستطيع أن نستشفها إلا من خلال مظاهر السلوك الإنساني في الأقوال والأفعال، لزمنا أن نعتبر هذه المظاهر أمارات على المعتقدات القلبية، وأن نحكم من خلالها على بعض الناس بالكفر، لأنه ظهر منه قول أو فعل لا يظهر عادة إلا من كافر في عقيدته، ثم نترك لله الحكم على دخائلهم ونياتهم، وإن الإسلام قد جعل لنا بعض أقوال الإنسان وأفعاله أمارات تسمح لنا بان نحكم على من ظهرت منه هذه الأمارات بالكفر؛ وأن نُجري عليه أحكام الكافرين. فالمكفرات إذن معتقدات قلبية وأمارات ظاهرة من أقوال وأعمال تدل عليها.
ولذلك يصح لنا أن نقسم أصول المكفرات إلى ثلاثة أقسام:
الأصل الأول: وهو الأصل الأساسي: المكفرات الإعتقادية.
الأصل الثاني -وهو من باب الأمارات-: المكفرات القولية.
__________
(1) - فتح العلام -بشرح مرشد الأنام- لمحمد عبدالله الجرداني 4/536-537، تصحيح وتعليق: محمد النجار، الناشر: دار السلام، القاهرة، ط الثانية 1408هـ-1988م.(2/152)
الأصل الثالث -وهو من باب الأمارات أيضاً-: المكفرات العملية"(1)، وبالتالي إن قصد الحبشي بأنواع الكفر المسمى الطبيعي للردة والنتيجة الحتمية لها وهي الكفر فقد وافق العلماء في ذلك كما سبق بيانه.
وأما إن قصد بأنواع الكفر المسمى العام للكفر الذي يتصف به كل إنسان مخالف لما جاء به النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من يهود ونصارى وغيرهم، فهذا تقسيم مخالف لما عليه السلف في تقسيم الكفر، وهذا ما يوضحه ابن القيم في كتابه (مدارج السالكين) حيث قسّم الكفر إلى نوعين: كفر أكبر وكفر أصغر، ويعبر عن ذلك بقوله: "فأما (الكفر) فنوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر؛ فالكفر الأكبر: هو الموجب للخلود في النار؛ والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود"(2)، والكفر الأكبر يقسمه ابن القيم إلى خمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق؛ ويمثل ابن القيم لكل نوع من أنواع الكفر الأكبر بالتالي:
كفر التكذيب: وهو اعتقاد كذب الرسل، وهذا القسم قليل في الكفار، لأن الله سبحانه وتعالى أيد رسله بالآيات والبراهين الدالة على صدقهم، فقال الله سبحانه وتعالى عن فرعون وقومه: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [النمل:14]، وقال الله لرسوله: { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام:33] (3).
__________
(1) - العقيدة الإسلامية للميداني ص718-719.
(2) - مدارج السالكين لابن القيم 1/335.
(3) - المصدر السابق 1/337 بتصرف.(2/153)
كفر الإباء والاستكبار: وذلك ككفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار؛ ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله ولم يَنْقَدْ له إباءً واستكباراً، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل، كما حكى الله كفر اليهود حيث قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } [البقرة:89] (1).
كفر الإعراض: وفيه يعرض الكافر بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة، كما قال أحد من بني عمرو بن عمير(2) للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (والله أقول لك كلمة إن كنت صادقاً، فأنت أجلّ في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أكلمك)(3)، وبهذا يتبين كفر الإعراض عن دعوة الحق(4).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/337 بتصرف.
(2) - كما ورد في (سيرة ابن هشام) وليس كما جاء في (مدارج السالكين لابن القيم) أن القائل أحد بني عبد يا ليل، لأن هذا المذكور أحد الثلاثة الذين خاطبهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، انظر: السيرة النبوية لأبي عبد الملك بن هشام المعافري -المعروفة بسيرة ابن هشام- 2/30، تحقيق: جمال ثابت ومجموعة، الناشر: دار الحديث، القاهرة، ط الأولى 1416هـ-1996م.
(3) - السيرة النبوية لابن هشام 2/30.
(4) - مدارج السالكين لابن القيم 1/338 بتصرف.(2/154)
كفر الشك: وفيه لا يجزم بصدق الرسول ولا بكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكُّه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- جملة، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها، ونظره فيها فإنه لا يبقى معه شك، لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار(1)، ويسمى هذا الكفر أيضاً بكفر الظن، والدليل قوله تعالى: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ……. وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } [الكهف:35-38] (2).
__________
(1) - مدارج السالكين لابن القيم 1/338 بتصرف.
(2) - مجموعة التوحيد لابن تيمية وابن عبد الوهاب ص10 بتصرف، الناشر: دار إحياء التراث، القاهرة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/155)
كفر النفاق: وهو أن يظهر المنافق بلسانه الإيمان، وينطوي بقلبه على التكذيب، وهذا هو النفاق الأكبر(1)، والنفاق ينقسم إلى نوعين: اعتقادي أو عملي: "فأما الاعتقادي، فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به، أو بغض الرسول، أو بغض بعض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول. وأما العملي: فهو خمسة أنواع، والدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"(2)، وفي حديث آخر "وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر"(3)؛ فهذه الأنواع الخمسة وصاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار"(4).
وهذا التقسيم لم يقتصر عليه ابن القيم فقط بل تعداه إلى علماء آخرين، وإن كان هناك خلاف محدود في عدد أنواع الكفر، حيث ينقل الإمام السيوطي عن الإمام النووي قوله: "الكفر أربعة أنواع: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق؛ من أتى الله بواحد منها لا يغفر له، ولا يخرج من النار"(5).
__________
(1) - مدارج السالكين لابن القيم 1/338 بتصرف.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، ح33، 1/16، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، ح59، 1/78.
(3) - صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، ح34، 1/17، وأيضاً: كتاب المظالم، باب إذا خاصم فجر، ح2459، 3/139، سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في علامة المنافق، ح2632، 5/19-20.
(4) - مجموعة التوحيد لابن تيمية وابن عبد الوهاب ص11.
(5) - الأشباه والنظائر -في قواعد وفروع فقه الشافعية- للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ص487، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1413هـ-1983م.(2/156)
وهناك نصوص تبين أن الكفر ينقسم إلى قسمين: أكبر وأصغر أو كفر يخرج من الملة، وكفر لا يخرج من الملة، حيث استدل ابن القيم في كتابه (مدارج السالكين) بالعديد من النصوص منها قوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } [المائدة:44]، ويورد ابن القيم أقوال السلف فيها: فيقول ابن عباس: "ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر"(1)، وكذلك قال طاووس، وقال عطاء: "هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق"(2)، ويقول فيها ابن القيم: والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصياناً مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه، فهو مخطئ له حكم المخطئين، والقصد:أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر(3).
__________
(1) - مدارج السالكين لابن القيم 1/336.
(2) - المصدر السابق 1/336.
(3) - المصدر نفسه 1/336-337 بتصرف.(2/157)
ومن النصوص أيضاً قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(1)، وفي هذا الحديث يتبين أن الكفر نوعان: أصغر وأكبر أي كفر مخرج من الملة، وكفر غير مخرج من الملة كما في الحديث، ويعلق الإمام النووي عليه بقوله: "وأما قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفراً يخرج به من الملة"(2)، وأيضاً في المعنى السابق يقول ابن حجر: "ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر جامعة في التحذير، معتمداً على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة"(3)، وبالتالي فإن الكفر الأصغر المراد به كفر الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود(4).
ثانياً: الحالات التي تستثنى من الكفر اللفظي عند الأحباش:
يعدد الحبشي حالات يستثنى منها الكفر اللفظي، بحيث من وقع في مثلها لا يبوء بحكم الكفر، فيعبر عن ذلك بقوله: "يستثنى من الكفر اللفظي:
حالة سبق اللسان: أي أن يتكلم بشيء من ذلك بغير إرادة، بل جرى على لسانه ولم يقصد أن يقوله بالمرة.
حالة غيبوبة العقل: أي عدم صحو العقل.
حالة الإكراه: فمن نطق بالكفر بلسانه مكرهاً بالقتل ونحوه، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يكفر، قال تعالى: { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ } [النحل:106].
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ح48، 1/21، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- سباب مسلم فسوق وقتاله كفر، ح64، 1/81.
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 1/241.
(3) - فتح الباري لابن حجر 1/112.
(4) - انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 1/241، مجموعة التوحيد لابن تيمية وابن عبد الوهاب ص10، العقيدة الإسلامية للحكمي ص23.(2/158)
حالة الحكاية لكفر الغير: فلا يكفر الحاكي كفر غيره على غير وجه الرضى والاستحسان ومستندنا في استثناء مسألة الحكاية قول الله تعالى: { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة:30]، { وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة:64]، ثم الحكاية المانعة لكفر حاكي الكفر إما أن تكون في أول الكلمة التي يحكيها عمن كفر، أو بعد ذكره الكلمة عقبها، فلو قال: المسيح ابن الله قول النصارى، أو قالته النصارى، فهي حكاية مانعة للكفر عن الحاكي.
حالة كون الشخص متأولاً باجتهاده في فهم الشرع: فإنه لا يكفر المتأول كتأول الذين منعوا الزكاة في عهد أبي بكر بأن الزكاة وجبت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأن صلاته كانت عليهم سَكَناً لهم وطهرةً، وإن ذلك انقطع بموته فإن الصحابة لم يكفروهم بذلك…"(1).
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي13-14،انظر:الشرح القويم للحبشي49-57،صريح البيان للحبشي119-127.(2/159)
والمتأمل للحالات التي تستثنى من الكفر اللفظي عند الأحباش يلاحظ أن الحبشي وافق السلف في معظمها، ففي حالة سبق اللسان يذكر القاضي عياض رأياً فيمن زل لسانه وسبق فبدل أن يلعن الشيطان لعن بارئه يقتل بكفره ولا يقبل عذره ثم يعلق على ذلك بقوله: "وهذا على القول الآخر من أنه لا تقبل توبته"(1)، أي أن هناك رأياً أولى ومقدماً على هذا الرأي من أن سبق اللسان وزلته تقبل توبته. وفي المقابل يبين القاضي عياض أن "من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه؛ أو تمثل في بعض الأشياء ما عظّم الله من ملكوته أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصدٍ للكفر والاستخفاف ولا عامدٍ للإلحاد فإن تكرر هذا منه، وعُرف به دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه وهذا كفرٌ لا مرية فيه"(2).
وأيضاً حالة غيبوبة العقل تستثنى من الكفر اللفظي بحيث لو تلفظ أحد بكلمة الكفر وهو غائب بعقله فلا عبرة لما قاله، فقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: "ولو ارتد مغلوباً على عقله بغير السكر لم يحبسه الوالي ولو مات بتلك الحال لم يمنع ورثته المسلمون ميراثه لأن ردته كانت في حال لا يجري فيها عليه القلم"(3)، ومن المعلوم السكر والجنون يكون فيه ذهاب العقل لهذا فإن: "السكران والمجنون ما عُلم أنهما قالاه في حال لا يميزان فيه فلا عبرة به"(4).
__________
(1) - الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/1092، تحقيق: علي محمد البجاوي، الناشر: مكتبة الإيمان -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.
(2) - الشفا للقاضي عياض 2/1093.
(3) - الأم لمحمد بن إدريس الشافعي 6/171، الناشر: دار الفكر، بيروت، ط الأولى 1400هـ-1980م.
(4) - الذخيرة للقرافي 12/30.(2/160)
وأيضاً حالة الإكراه بحيث لو نطق الإنسان بكلمة الكفر وهو مطمئن بالإيمان فلا شيء عليه وهذا معلوم من خلال النصوص الشرعية كقوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } [النحل:106]، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(1)، لهذا جاء عن الإمام الشافعي قوله: "لو أن رجلاً أسره العدو فأكرهه على الكفر لم تبن منه امرأته ولم يحكم عليه بشيء من حكم المرتد"(2)، أي هذا دليل على انتفاء حكم الردة عنه، وجاء عن الإمام النووي قوله في حكم المكره: "المؤمن إذا أكره على أن يتكلم بكلمة الكفر فتكلم بها، لا يحكم بردته"(3)، وجاء في (الذخيرة) للقرافي أن: "الإكراه مسقط لاعتبار الأسباب كالبيع والطلاق وغيرهما، والردة سبب الإهدار والإسلام سبب العصمة فيسقطان مع الإكراه"(4).
__________
(1) - سنن ابن ماجة، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، ح2045، 1/659، ويقول محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على الحديث: في الزوائد إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع.
(2) - الأم للشافعي 6/175.
(3) - روضة الطالبين للنووي 10/72.
(4) - الذخيرة للقرافي 12/14.(2/161)
أما حالة حكاية الكفر عن الغير فهذا لا شيء فيه بحيث لم يرد عن علماء السلف نهيٌ في هذه الأمور، لأنه كثيراً ما يُسأل العلماء عن مسائل ينقل فيها السامع أقوالاً كفريةً ولم يرد عن العلماء نهيٌ في ذلك، ولكن الذي يؤخذ على الحبشي في هذه الجزئية أنه تساهل كثيراً في نقل ألفاظ كفرية بحجة تحذير الناس منها، وهذه الألفاظ يعف القلم عن كتابتها لأنها ألفاظ فاضحة، لا يجوز نقلها كما هي لو كانت في حق العباد لأنها خارجة عن نطاق الأدب، فكيف يجوز نقلها وكتابتها بحجة التحذير منها من خلال عدم قولها في حق الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي ذكره الحبشي في نقل مثل هذه الألفاظ مخالف لمنهج علماء السلف، حيث إنهم استعظموا استخدام لفظ الجلالة في بعض العبارات الموهمة، أو حتى التقلل من استخدام لفظ الجلالة في حديثهم من باب التعظيم والإجلال لله سبحانه وتعالى، حيث ورد عن عون بن عبدالله الزاهد الفقيه التابعي الذي توفي في حدود العشرين ومائة أنه قال: "ليعظمَّ أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول: أخزى الله الكلب وفعل به كذا وكذا"(1)، وقال أيضاً: "وكان بعض من أدركنا من مشايخنا قلَّ ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعته. وكان يقول للإنسان: جزيت خيراً. وقل ما يقول: جزاك الله خيراً، إعظاماً لاسمه تعالى أن يمتهن في غير قربةِ"(2)، وبعد هذا يظهر الفرق الشاسع والبون الكبير بين منهج السلف في استخدام الألفاظ في حق الله، وبين منهج الحبشي في استخدام الألفاظ العارية الخادشة للحياء في حق العبيد، فكيف إذا كانت منسوبة لله سبحانه وتعالى ولو كانت من باب التحذير منها، لأنه لا بد من التأدب مع الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) - الشفا للقاضي عياض 2/1096.
(2) - المصدر السابق 2/1096.(2/162)
أما كون الشخص متأولاً باجتهاده في فهم الشرع فإنه يستثنى من الكفر حسب قول الحبشي فهذا يحتاج إلى نوع من البيان والتوضيح، بحيث لا بد من معرفة ما يجوز فيه الاجتهاد وما لا يجوز لأن الأحكام الشرعية لا يجوز أن تكون كلها في محل اجتهاد، ويبين هذا الأمر الدكتور عبد الكريم زيدان بقوله: "ليست الأحكام الشرعية كلها تصلح أن تكون محل اجتهاد، ولهذا قال بعض علماء الأصول: "المجتهدون فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي" أي أن الأحكام الشرعية التي فيها أدلة قطعية لا تحتمل الاجتهاد والاختلاف، مثل: وجوب الصلاة، والصيام، وحرمة الزنى ونحو ذلك مما وردت فيه نصوص قطعية، وشاع أمرها، وعرفها الجاهل والعالم على حدٍ سواء ولم يغدر أحد بجهلها"(1)، وفي المعنى السابق جاء عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن: "المخطئ المعذور من أخطأ في المسائل النظرية الاجتهادية لا من أخطأ فيما ثبت بنص صريح، ولا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة"(2)، وبالتالي لا بد أن يكون الاجتهاد منصباً على ما هو غير معلوم من الدين بالضرورة، وعلى ما لم يرد بنصوص قطعية الثبوت، ولهذا يتبين أن: "مذهب أهل السنة: لا يُعذر من أدّاه اجتهاده لبدعة، لأن الخوارج اجتهدوا في التأويل فلم يُعذروا،
وسمّاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مارقين من الدين"(3).
__________
(1) - الوجيز في أصول الفقه د. عبد الكريم زيدان ص406، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية 1407هـ-1987م.
(2) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدّويش 2/39، الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، ط الأولى 1412هـ-1991م.
(3) - الذخيرة للقرافي 13/234.(2/163)
وأيضاً المثال الذي استدل به الحبشي من عدم تكفير المرتدين الذين منعوا الزكاة بحجة اجتهادهم في تأويلهم حسب فهمهم الشرع(1)، فهذا كلام موهم يحتاج إلى بيان، فقد بيّن القاضي عياض وغيره أن أهل الردة ثلاثة أصناف:
صنف عادوا إلى عبادة الأوثان.
وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكانا قد ادعيا النبوة فحاربهم المسلمون وقضوا عليهما وعلى أتباعهما.
وصنف استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-(2).
__________
(1) - انظر: الصراط المستقيم للحبشي ص14.
(2) - فتح الباري لابن حجر 12/276 بتصرف.(2/164)
ويلاحظ أن البخاري قد ترجم كتاب بقوله (كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم)(1)، وقام الإمام البخاري بإدراج الصنف الثالث تحت باب (قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة)(2)، وذكر الإمام البخاري في هذا الباب الأحاديث التي تحدثت عن أهل الردة، فعن أبي هريرة أنه قال: "لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستُخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"(3)، وينقل ابن حجر عن القاضي عياض في تعليقه على الحديث أنه يوجد فيه "نص بقتال من لم يصل ولم يزك، كمن لم يقر بالشهادتين، واحتجاج عمر على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله (إلا بحقه)"(4)، ويعلق ابن حجر على ما سبق بقوله: "إن كان الضمير في قوله (إلا بحقه) للإسلام فمنهما ثبت أنه من حق الإسلام تناوله، ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة(5)، ومن المعلوم أن الذين منعوا الزكاة نسبوا إلى الردة، وهذا مستفاد من ترجمة البخاري للكتاب وللباب الوارد فيه الحديث السابق، والردة هي الخروج من الإسلام، ولهذا جاء عن أبي بكر قوله: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة من المال، والله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق"(6)
__________
(1) - صحيح البخاري 8/64.
(2) - المصدر السابق 8/64.
(3) - صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة، ح6924، 8/64.
(4) - فتح الباري لابن حجر 12/277.
(5) - المصدر السابق 12/277.
(6) - صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، ح1400، 2/135، وأيضاً: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة، ح6925، 8/64-65.(2/165)
، ويرى الإمام المازري أن: "ظاهر السياق أن عمر كان موافقاً على قتال من جحد الصلاة فألزمه الصديق بمثله في الزكاة لورودهما في الكتاب والسنة مورداً واحداً في قوله: (إن الزكاة حق المال) يشير إلى دليل منع التفرقة التي ذكرها أن حق النفس الصلاة، وحق المال الزكاة، فمن صلى عصم نفسه، ومن زكى عصم ماله، فإن لم يُصل قوتل على ترك الصلاة، وإن لم يُزك أخذت الزكاة من ماله قهراً"(1)، وبالتالي فإن الردة "قد تطلق على الامتناع من أداء الحق كمانعي الزكاة في زمن الصديق -رضي الله عنه-"(2)، وأهل الردة من العرب كفرهم أغلظ من غيرهم، لهذا كان قتالهم أولى من غيرهم من الكفار(3).
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر 12/277-278.
(2) - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لمحمد بن أبي العباس الرملي المنوفي المصري 7/413، الناشر: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 1386هـ-1967م.
(3) - انظر: كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي 21/76، تحقيق: محمد نجيب المطيعي، الناشر، مكتبة الإرشاد، جدة -بدون رقم طبعة أو تاريخ نشر-.(2/166)
وبهذا يتبين عدم صحة استخدام المثال السابق، والذي استدل به الحبشي ضمن حال كون الشخص متأولاً باجتهاده في فهم الشرع بحيث لا يكفر المتأول(1)، وذلك أن المرتدين لم يتأولوا أمراً مبهماً غير معلوم بالنصوص الشرعية قطعية الثبوت، وإنما أنكروا أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، ويتحدث ابن تيمية -رحمه الله- عن استثناءات في تكفير المجتهد فيقول: "ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة"(2)، وأهل الردة أقيمت عليهم الحجة بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة وبهذا يثبت كفرهم؛ ويقرر ابن تيمية -رحمه الله- مذهب أهل السنة والجماعة في عدم تكفير أهل القبلة بذنب إلا في بعض الأمور، كأن "يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وعدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة"(3)، وأي بيان أوضح من نصوص القرآن والسنة في وجوب الزكاة.
ومما سبق بيانه يظهر أن الحبشي فتح باب الاجتهاد على مصراعيه للجميع، وذلك من خلال عدم وضع ضوابط لهذا الاجتهاد بحيث جعله مطلقاً لجميع الناس غير مقيد وهذا مخالف لما عليه السلف، لأن الاجتهاد يقتصر على ما هو غير معلوم من الدين بالضرورة، وفيما لم يثبت قطعيته، بالإضافة إلى ذلك لا بد من توفر شروط في المجتهد تؤهله للاجتهاد: كمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، ودقائق اللغة، وألا يكون للأهواء مجال في الاجتهاد إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الأصول. وأيضاً لم يوفق في عرض المثال والاستدلال به في هذا الموضع، لأن المرتدين الذين منعوا الزكاة في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- ثبت خروجهم من الإسلام بعد فعلهم هذا، فكيف يجعلهم الحبشي متأولين في فهم الشرع وإنما هم منكرون لأمور ثبتت بالنصوص القطعية؛ وشتان بين من ينكر ويجحد، وبين من يجتهد ويتأول؟!.
__________
(1) - الصراط المستقيم للحبشي ص14 بتصرف.
(2) - مجموعة الفتاوى لابن تيمية 3/147.
(3) - المصدر السابق 20/53.(2/167)