عِظَمُ المِنَّةْ
في رؤيَةِ المؤمنِيْنَ رَبهم في الجنَّةِ
تأليف
عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل
71 , 210 الأهدل ، عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة
أع ع عظم المنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة
الطبعة الثانية 1407 هـ _ 1987 م
51 - 24 سم
الفهرس
تقديم ...................................................... 4
مقدمة ..................................................... 5
الدليل الأول
قول الله عزوجل : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}..... 7
الدليل الثاني
قول الله عزوجل : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ......... 15
خاتمة الكتاب ............................................... 53
مراجع البحث .............................................. 55
تقديم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وأكرم المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد ..
فقد أطلعت على هذا البحث الذي كتبه الأخ الكريم السيد عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل فألفيته وافيا في بابه مكينا في أسلوبه ، وقويا في ردّه على المنكرين لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة في الجنة .
ولقد أفدت من هذا البحث كثيرا وانتفعت بما فيه من علم غزير .
ولقد أعجبني حسن ترتيبه للأدلة وتنسيقه لأقوال العلماء الذين لهم في هذا الميدان قدم راسخة .
وإني إذ أقدم لهذا البحث الممتاز أسأل الله العلي القدير أن ينفع به طلاب الحق والمعرفة في كل مكان وزمان .
متمنياً لصاحب هذا البحث مزيدا من العلم والفقه في الدين إنه سميع قريب مجيب .
23 / 3 / 1399 هـ الدكتور / محمد بكر اسماعيل
المدرس بالأزهر
مقدمة
الحمد لله الذي منَّ على أهل الإيمان بالنعيم المقيم في جنات النعيم ، وزادهم على ذلك النظر إلى وجهه الكريم ، فنعمه على عباده لاتحصى وفضله عليهم لايستقصى .(1/1)
أحمده حمد معترف بآلائه ، وأشكره شكراً يوصل إلى المزيد من نعمائه وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لاشريك له شهادة أرجو بها الفوز في يوم القيام وأدخرها سلم نجاة في يوم الزحام .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، أرسله إلى العالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وعلى آله وصحبه الأتقياء الأمجاد ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد .
وبعد ..
فهذا بحث أقدمه بين أيدي القراء وموضوعه (( إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الجنة )) بالأدلة ، راجيا من المولى عزوجل أن ينفعهم بما فيه من بيان وهدى .
الباعث على اختيار الموضوع :
أولاً : إن هذا الموضوع قد غلط فيه أقوام كثيرون وزلت بسببه أقدامهم كالمعتزلة (1) والجهمية (2) ومن نحا نحوهم حيث أنكروا رؤية أهل الجنة ربهم واستدلوا بما لاينهض بحجة ولا يتشبث به إلا معاند لأن الأدلة السمعية من الكتاب والسنة على إثبات الرؤية ظاهرة جلية لمن تدبر وأمعن وحالفه التوفيق
وفي بحثي هذا سوف أستعرض أدلة النافين للرؤية وأناقشها لأبين ماترزح فيه من وَهَن وأُوفي الموضوع حقه إن شاء الله تعالى .
ثانياً : سوف أحاول جمع أدلة الرؤية من كتاب الله تقدست أسماؤه وسنة رسوله( ليكون البحث مستوفياً أطرافه جامعاً لما تفرق .
ثم إني بعد أن أورد الأدلة من الكتاب العزيز أذكر أقوال أهل العلم وأئمة التفسير في بيانها عازيا كل قول إلى صاحبه وإن كان التفسير نبويَّا أو قول صحابي أو تابعي ذكرته وعند سوقي للأدلة من السنة سوف أعزو الأحاديث إلى مخرجيها .
والله أسأل أن يوفقنا لسلوك المحجة البيضاء ويحشرنا يوم القيامة في زمرة خير الأنبياء ( .
______________
1_ المعتزلة : هم أصحاب واصل بن عطاء البصري الغزال المتكلم البليغ قديم المعتزلة
وشيخها وأول من أظهر المنزلة بين المنزلين وقد اعتزل عن الحسن لما خالفه وجلس(1/2)
إليه عمرو بن عبيد فقيل لهما ولأتباعهما معتزلون ولد بالمدينة سنة ثمانين وتوفي
سنة مائة واحدى وثلاثين من الهجرة : ابن حجر : لسان الميزان 6 / 313 .
2_ الجهمية : هم أصحاب جهم بن صفوان وهم من الجبرية الخالصة ظهرت بدعته
بترمذ وقتله سام بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك أمية وافق المعتزلة في نفي
الصفات وزاد عليهم بأشياء : الشهرستاني ، الملل والنحل 1 / 86 .
أدلة الرؤية من الكتاب :
اعلم نفعني الله تعالى وإياك بهدي كتابه العزيز أنه أجمع أهل السنة والجماعة على أن رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ممكنة وقد جاء الوعد بها صريحا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه ما نصه (( نعم رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة وهي أيضا للناس في عرصات القيامة كما تواترت بها الأحاديث عن النبي ( حيث قال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ) إلى أن قال : (( وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول واتفق عليها أهل السنة والجماعة وإنما يكذبها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة )) (1) .
وقد استند أهل السنة والجماعة في إثبات الرؤية إلى الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة .
وسوف نسرد أولا أدلتهم مشفعة بما قاله فيها أولو العلم وأئمة هذا الشأن .
الدليل الأول :
قول الله عزوجل : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
اعلم رحمني الله وإياك أن هذه الآية العظيمة من أقوى الأدلة وأصرحها على أن المؤمنين يرون ربهم في يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته كذا فسرها رسول الله ( كما في حديث ابن عمر الثابت الآتي قريبا مع جملة من أحاديث الرؤية .
______________(1/3)
1_ ابن تيمية : الفتاوى 3 / 390 - 391
وقد أجمع علماء التفسير _ عدا المعتزلة ومن جرى في سلكهم _ على أن قول الله تبارك وتعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أنها تراه عيانا لتعديه في الآية بإلى وإليك ذكر ما قالوه حولها :
قال أهل اللغة : (( يقال شجر ناضر وروض ناضر أي حسن ناعم ونضارة العيش حسنه وبهجته )) قال ابن كثير : (( أي حسنة بهية مشرقة مسرورة )) (1) .
ثم اعلم أن النظر له عدة استعمالات كما ذكره صاحب حادي الأرواح (2) وشارح الطحاوية (3) وغيرهما ، وذلك بحسب صلاته وتعديه : فإن عُدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار كقوله عز من قائل : { انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } (4) وإن عدي بفي فمعناه التفكر والاعتباركقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } (5) وإن عدي بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار كقوله تعالى : { انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } (6) .
ومنه قول امرئ القيس :
نظرت إليها والنجوم كأنها .
مصابيح رهبان تشب لقفال .
وقول عمر بن أبي ربيعة :
نظرت إليها بالمحصب من منى .
ولي نظر لولا التحرج عارم .
______________
1_ تفسير ابن كثير 4 / 450 .
2_ / 304 .
3_ / 305 .
4_ الحديد : 13 .
5_ الأعراف : 184 .
6_ الأنعام : 99 .
وقول الآخر :
إني إليك لما وعدت لناظر .
نظر الفقير إلى الغني الموسر .
والمعنى أنظر إليك نظر ذل كما ينظر الفقير إلى الغني لأن نظر الذل أرق لقلب المسؤول فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل للإبصار .(1/4)
قال أبو الحسن الأشعري : (( ولما قرن الله النظر بذكر الوجه أراد نظر العينين اللتين في الوجه كما قال تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } (1) فذكر الوجه وإنما أراد تقلب عينيه نحو السماء ينظر نزول الملك عليه بصرف الله له عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة )) . وعلى هذا فإن الآية الكريمة من المعنى الأخير وهو المعاينة بالأبصار لتعديه في الآية بإلى ولذا خطأ الأزهري مجاهدا حينما قال (( إن النظر في هذه الآية انتظار مالهم عند الله من الثواب قال لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار وقول القائل نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين . وإذا أراد الإنتظار قالوا نظرته كما في قول امرئ القيس :
فإنكما إن تنظراني ساعة .
من الدهر تنفعني لدى أم جندب .
أي تنتظراني )) (2) .
قال النسفي عند تفسير هذه الآية (( وحمل النظر على الانتظار لأمر ربها أو الثواب لايصح لأنه لايقال نظرت فيه أي تفكرت ونظرته وانتظرته ولايعدى بإلى إلا بمعنى الرؤية مع أنه لايليق الانتظار في دار القرار )) (3) .
______________
1_ البقرة : 144 .
2_ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن 19 / 109 ، الشوكاني : فتح القدير 5 / 338.
3_ تفسير النسفي 53 / 31 .(1/5)
فقوله لايليق الانتظار إلخ هذا أمر ظاهر لأن الانتظار كما قال أبو الحسن الأشعري : (( معه تنغيص وتكدير وأهل الجنة لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم إلى أن قال : وإذا كان هكذا لم يجز أن يكونوا منتظرين لأنهم كلما خطر ببالهم شئ أتوا به مع خطوره ببالهم )) (1) ونقل صاحب الفتح عن البيهقي مالفظه (( وجه الدليل من الآية أن لفظ ناضرة الأول بالضاد المعجمة من النضرة بمعنى السرور ولفظ ناظرة بالظاء المعجمة يحتمل في كلام العرب أربعة أشياء نظر التفكر والاعتبار كقوله تعالى : { أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } ونظر الانتظار كقوله تعالى : { مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً } ونظر التعطف والرحمة كقوله تعالى : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } ونظر الرؤية كقوله تعالى : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } والثلاثة الأول غير مرادة أما الأول فلأن الآخرة ليست بدار استدلال وأما الثاني فلأن في الانتظار تنغيصا وتكديرا والآية خرجت مخرج الامتنان والبشارة وأهل الجنة لاينتظرون شيئا لأنه مهما خطر لهم أتوا به وأما الثالث فلا يجوز لأن المخلوق لا يتعطف على خالقه فلم يبق إلا نظر الرؤية وانضم إلى ذلك أن النظر إذا ذكر مع الوجه انصرف إلى نظر العينين اللتين في الوجه ولأنه هو الذي يتعدى بإلى كقوله تعالى : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } وإذا ثبت أن ناظرة هنا بمعنى رائية اندفع قول من زعم أن المعنى ناظرة إلى ثواب ربها لأن الأصل عدم التقدير وأيد منطوق الآية في حق المؤمنين بمفهوم الآية الأخرى في حق الكافرين { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } وقيدها بالقيامة في الآيتين إشارة إلى أن
______________
1_ الإبانة عن أصول الديانة / 13 .(1/6)
الرؤية تحصل للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا (1) وقال ابن حجر أيضا (( وقد أخرج أبو العباس السراج في تاريخه عن الحسن بن عبد العزيز الجروي وهو من شيوخ البخاري سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول سمعت مالك بن أنس وقيل له يا أبا عبدالله قول الله تعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } يقول قوم ينظر إلى ثوابه فقال كذبوا فأين هم عن قول الله تعالى : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (2) وقال أبو عبد الله القرطبي عند تفسير قوله عزوجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
الأول : من النضرة التي هي الحسن والنعمة . والثاني : من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة . يقال : نضرهم نضارة وهو الإشراق والعيش والغنى ومنه الحديث (( نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها )) ثم قال : إلى ربها إلى خالقها ومالكها ناظرة أي تنظر إلى ربها على هذا أجمع جمهور العلماء (3). وأورد الطبري في تفسيره الاختلاف في ذلك ثم قال عقب ذلك ما نصه (( وأولى القولين عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن عن عكرمة من أن معنى ذلك تنظر إلى خالقها وبذلك جاء الأثر عن رسول الله ( (4) )) . وقال ابن كثير في قوله تعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } تراه عيانا إلى أن قال : ومن تأول ذلك بأن المراد مفرد الآلاء كما قال الثوري عن منصور عن مجاهد إلى ربها ناظرة تنتظر الثواب من ربها فقد أبعد هذا الناظر النجعة وأبطل (5) )) .
______________
1_ ابن حجر : فتح الباري 13 / 425 .
2_ ابن حجر : فتح الباري 13 / 426 .
3_ تفسير القرطبي 19 / 107 .
4_ تفسير الطبري 37 / 119 .
5_ تفسير ابن كثير 4 / 450 .
وقال الشوكاني ما لفظه { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } هذا من النظر إليه هكذا قال جمهور أهل العلم والمراد به ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر (1) )) .(1/7)
قال أبو الفداء ابن كثير : (( وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام (2) )) .
وقال ابن بطال : ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى في الآخرة ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة ، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثاً وحالاً في مكان وأولوا قوله ناضرة بمنتظرة وهو خطأ لأنه لا يتعدى بإلى - إلى أن قال - وما تمسكوا به فاسد لقيام الأدلة على أن الله تعالى موجود والرؤية في تعلقها بالمرئي بمنزلة العلم في تعلقه بالمعلوم فإذا كان تعلق العلم لايوجب حدوثه فكذلك المرئي (3) )) .
ولابن القيم كلام حسن عند الاستدلال بهذه الآية على إثبات الرؤية وهذا نصه (( وأنت إذا أجرت هذه الآية من تحريفها عن مواضعها والكذب على المتكلم بها سبحانه فيما أراده منها وجدتها منادية نداء صريحا بأن الله سبحانه يرى عيانا بالأبصار يوم القيامة وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون تأويلا فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان أسهل على أربابه من تأويلها وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك ولايشاء مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك السبيل ______________
1_ الشوكاني : فتح القدير 5 / 338 .
2_ تفسير ابن كثير : 4 / 450 .
3_ فتح الباري لابن حجر 13 / 426 .(1/8)
ما وجده متأول مثل هذه النصوص وهذا الذي أفسد الدين والدنيا (1) )) ومن خلال ما أوردناه يظهر أن المفسرين مطبقون على أن هذه الآية الكريمة صريحة في أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر وهذه النصوص المنقولة عن أئمة التفسير تؤكد لنا أن المخالف في هذه المسألة خارج عن ميدان الحق لم يحالفه التوفيق في فهم الآية على وجهها وبحسب تركيبها البين ، وسوف تعرف ما ترزح فيه أدلة المخالف من وهن عند مناقشتها وقد أشار بعض العلماء إلى مسألتنا هذه في أبيات فقال :
وقد يتجلى الله للخلق جهرة وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا رواه جرير عن مقال محمد .
كما البدر لايخفى وربك أوضح بمصداق ما قلنا حديث مصرح فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح .
قلت إن قوله رواه جرير الخ يعني به ما أخرجه البخاري في صحيحه وغيره من طريق قيس عن جرير بن عبد الله قال : (( كنا جلوسا عند النبي ( إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : (( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل الغروب فافعلوا (2) )) وفي رواية (( إنكم سترون ربكم عيانا )) .
فنسأل الله النعيم والنظر فإنه ينظر بالأبصار لأنه سبحانه لم يحجب .
لربنا من غير ما شين غبر كما أتى في النص والأخبار إلا عن الكفار والمكذب (3) .
______________
1_ ابن القيم : حادي الأرواح / 304 .
2_ صحيح البخاري 8 / 179 .
3_ الأبيات للسفاريني كما في الكواشف الجلية / 492
ورجوعا إلى تفسير الآية الكريمة بما ورد فيها من السنة وآثار الصحابة والتابعين
* ما ورد في تفسير قوله تقدست أسماؤه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } من السنة وأقوال الصحابة والتابعين :
1_ عن ابن عمر رضي الله عنهما : قال : قال رسول الله ( ( إن أدنى أهل
الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف(1/9)
سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله ( { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) .
2_ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( في قوله
تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال من البهاء والحسن { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
قال : (( في وجه الله عزوجل (2) )) .
3_ عن ابن عباس رضي الله عنهما { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال : (( تنظر إلى وجه
ربها (3) )) .
4_ وعنه أيضا _ قال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال : حسنها ، { إِلَى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ } قال (( نظرت إلى الخالق (4) ))
______________
1_ أخرجه أحمد في مسنده 3 / 64 ، والترمذي في سننه 4 / 93 ، وقال هذا حديث
غريب وقد روي غير واحد عن ثوير عن اسرائيل مثل هذا مرفوعا ، وانظر المنذري
الترغيب والترهيب 6 / 380 .
2_ أخرجه ابن مردويه في تفسيره كذا في حادي الأرواح 304 ني .
3_ قال الشوكاني : في فتح القدير 5 / 340 ، اخرجه ابن مردويه .
4_ أخرجه ابن المنذر والآجري في الشريعة واللالكائي في السنة : كذا في فتح القدير
للشوكاني 5 / 340 .
5_ عن الحسن في قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال حسنة { إِلَى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ } قال تنظر إلى الخالق وحق لها أن تتضرع وهي تنظر إلى الخالق (1)
6_ عن عكرمة { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال تنظر نظرا (2).
7_ عن عطية العوفي قال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال هم
ينظرون إلى الله لاتحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم . فذلك
قوله تعالى : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (3) .
فتبين من هذه النصوص أن المراد من الآية الكريمة أن وجوه المؤمنين تنظر
إلى ربها يوم القيامة وهذه الآية كما قلنا من أقوى الأدلة على إثبات الرؤية
وإمكانها ووقوعها .(1/10)
وآثار الصحابة والتابعين مؤيدة بالتركيب العربي الذي لايحتمل سوى ما
ذكروه ويقوي ذلك تلاوة رسول الله ( لها عقب بيان المكرمين المنعمين
بالنظر إلى ربهم غدوة وعشية .
والأحاديث في الرؤية متواترة سأوردها في موضعها إن شاء الله تعالى .
الدليل الثاني
قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } .
أي الذين أحسنوا في القيام بما أوجبه الله تعالى عليهم من الأعمال والكف
عما نهاهم عنه من المعاصي فلهم الحسنى .
______________
1_ أخرجه الطبري في تفسيره مسندا 27 / 119 .
2_ أخرجه الطبري في تفسيره 27 / 119 .
3_ أخرجه الطبري في تفسيره 27 / 119 .
قال ابن الأنباري : (( والحسنى كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها لأن العرب توقعها على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغنى عن نعتها فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرف من جهتها يدل على ذلك قول امرئ القيس )) :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت فصرت إلى الحسنى ورق كلامنا .
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال ورضت فذلت صعبة أي إذلال .
أي إلى الأمر المحبوب (1) .
وللمفسرين في المراد بالحسنى أقوال خمسة كما في الزاد منها أنها الجنة قال ابن الجوزي (( وبه قال الأكثرون )) .
فلنقتصر على هذا التفسير لأنه هو الصحيح المروي عن رسول الله ( من حديث أبي موسى الأشعري وأبي بن كعب الآتيان قريبا عند ذكر معنى الزيادة.
( معنى الزيادة وما ورد فيها )
أورد أبو عبد الله القرطبي في الزيادة أقوالا إليك ذكرها .
1_ أن الزيادة أن تضاعف الحسنات الحسنة بعشر أمثالها إلى أكثر من ذلك
روى ذلك عن ابن عباس .
2_ وعن علي رضي الله عنه الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة آلاف
باب .
3_ وقال مجاهد : الحسنى حسنة مثل حسنة والزيادة مغفرة من الله ورضوان .
4_ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الحسنى الجنة والزيادة ما أعطاهم الله(1/11)
في الدنيا من فضله لايحاسبهم به يوم القيامة .
______________
1_ كذا في زاد المسير لابن الجوزي 4 / 23 .
5_ وقال يزيد بن شجرة . الزيادة أن تمر السحاب بأهل الجنة فتمطرهم
من كل النوادر التي لم يروها وتقول يا أهل الجنة ما تريدون أن أمطركم
فلا يريدون شيئا إلا مطرتهم (1) .
وقال أبو الفداء ابن كثير الزيادة (( هي تضعيف ثواب الأعمال الحسنة
بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ويشمل ما
يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضى عنهم وما أخفاه لهم من
قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فإنه زيادة
أعظم من جميع ما أعطوه . لايستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته )) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنهما قال : (( أما الحسنى فالجنة وأما الزيادة
فالنظر إلى وجه الله (2) )) .
وهذا القول هو الراجح (( أعني أن الزيادة في الآية الكريمة المراد بها النظر
إلى وجه الرحمن سبحانه وتعالى )) .
وقد روي عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة _
معظمها أنها النظر إلى الرب تقدست أسماؤه .
وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله ( فلم يبق حينئذ لقائل مقال .
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
صهيب عن النبي ( قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال : ( يقول تبارك
وتعالى تريدون شيئا أزيدكم ) فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة
وتنجنا من النار .
______________
1_ تفسير القرطبي 8 / 331 .
2_ أخرجه أسباط بن نصر في تفسيره كما في حادي الأرواح 200 .
قال : ( فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزوجل وزاد ) ثم تلا هذه الآية { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (1) .(1/12)
ورواية ابن ماجة عن صهيب (( تلا رسول الله ( هذه الآية { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ألم يثقل الله موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر يعني إليه ولا أقر لأعينهم (2) )) .
وأخرج ابن جرير من طريق كعب بن عجرة عن النبي ( في قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال (( الزيادة النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى (3) )) .
وأخرج أيضا عن أبي تميمة الجهني أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله ( ، (( إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم إن الله وعدكم الحسنى والزيادة فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عزوجل (4) )) .
______________
1_ صحيح مسلم 1 / 112 .
2_ سنن ابن ماجة 1 /67 .
3_ تفسير ابن جرير 11 / 107 .
4_ تفسير ابن جرير 11 / 107 .
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ( عن قول الله عزوجل للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال (( الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عزوجل (1) )) .
وعن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله ( عن الزيادتين في كتاب الله في قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : النظر إلى وجه الرحمن وعن قوله { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } قال عشرون ألفا (2) )) .
وعن أنس رضي الله عنه قال (( سئل رسول الله ( عن هذه الآية { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } : قال : للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة والزيادة وهي النظر إلى وجه الله عزوجل (3) )) .(1/13)
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال (( إذا دخل أهل الجنة الجنة أعطوا فيها ما سألوا قال : يقال لهم قد بقي من حقكم شيء لم تعطوه قال : فيتجلى لهم تبارك وتعالى ، قال : وتلا { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } . الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى ربهم ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة بعد نظرهم إلى ربهم رواه ابن خزيمة (4) )) .
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أيضا (( الزيادة النظر إلى وجه الله )) وعنه أيضا أنه سئل عن قول الله تبارك وتعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة وأعطوا فيها من النعيم والكرامة نودوا يا أهل الجنة إن الله قد وعدكم الزيادة قال فيكشف لهم الحجاب تبارك وتعالى
______________
1_ تفسير ابن جرير 11 / 107 .
2_ أخرجه الترمذي الحكيم ذكره القرطبي في تفسيره 8 / 330 .
3_ كذا في حادي الأرواح 119 .
4_ من كتاب التوحيد _ 181 / 182 .
فما ظنك بهم حين ثقلت موازينهم وحين طارت صحفهم في أيمانهم وحين جازوا جسر جهنم فقطعوه وحين دخلوا الجنة فأعطوا فيها من النعيم والكرامة فكأن لم يكن بشيء مما أعطوا . رواه الطبري (1) وابن خزيمة (2) يعني أن كل ما أعطوه في الجنة لا يعد شيئا إذا قيس بما يحصل لهم من اللذة عند النظر إلى وجه الله عزوجل وأخرج ابن خزيمة بسنده عن حذيفة رضي الله عنه { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : الزيادة النظر إلى وجه ربكم .
وأخرج أيضا عن أبي إسحق عن عامر بن سعد رضي الله عنه { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : النظر إلى وجه الله (3) .
وأخرج أيضا عن قتادة في قوله تعالى .. { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى } الجنة ( والزيادة ) فيما بلغنا النظر إلى وجه الله عزوجل (4) .(1/14)
وأخرج ابن خزيمة بسند آخر عن قتادة في قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : ذكر لنا أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة ناداهم مناد إن الله تبارك وتعالى وعدكم الحسنى وهي الجنة وأما الزيادة فالنظر إلى وجه الرحمن قال الله تبارك وتعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (5) .
قال أبو بكر بن خزيمة عند ذكر هذا الحديث ما لفظه (( فأسمعوا الآن خبرا صحيحا ثابتا من جهة النقل يدل على أن المؤمنين يرون خالقهم حدثنا جل ثناؤه أنها بعد الموت وأنهم لايرونه قبل الممات ولو كان معنى قوله :
______________
1_ في تفسيره 11 / 105 / 106
2_ في كتاب التوحيد / 183
3_ أنظر كتاب التوحيد / 183
4_ أنظر كتاب التوحيد / 183
5_ أنظر كتاب التوحيد / 184 / 185
{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } على ماتتوهم الجهمية المعطلة الذين يجهلون لغة العرب فلا يفرقون بين النظر وبين الإدراك لكان معنى قوله : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } أهل الدنيا قبل الممات (1) )) .
وأخرج الطبري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال (( النظر إلى وجه ربهم (2) )) .
وأخرج عنه أيضا { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى .
وأخرج عن عامر بن سعد { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال (( النظر إلى وجه ربهم )) .
وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : النظر إلى وجه ربهم وقرأ { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } قال بعد النظر (3) .
وقال أيضا : حدثني يحي بن طلحة اليربوعي قال : ثنا شريك قال : سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله عزوجل { وَزِيَادَةٌ } قال النظر إلى وجه الرحمن .(1/15)
وأخرج ابن جرير بسنده إلى أبي موسى الأشعري قال : إذا كان يوم القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديا ينادي هل أنجزكم الله ماوعدكم فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة فيقولون نعم فيقول : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } النظر إلى وجه الرحمن .
______________
1_ أنظر كتاب التوحيد / 185
2_ تفسير ابن جرير 1 / 104
3_ تفسير ابن جرير 11 / 101
وأخرج عن الحسن رضي الله عنه { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } النظر إلى الرب جل وعلا .
وأخرج أيضا عن عبد الرحمن بن ساباط قال : الحسنى والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى .
وهذا التفسير هو من جملة الأقوال في معنى الحسنى وقد سبق أن قول جمهور الصحابة والتابعين أنها الجنة هو الراجح بل هو الثابت عن رسول الله ( وأما الزيادة فإن ما أوردناه يبعث على الإقناع ويفيد اليقين بأن معناها النظر إلى الرب تبارك وتعالى .
ولا شك أن الدليل القرآني حجة قاطعة لاسيما والذي نفى الرؤية لم يتمسك بشيء يصلح للإستدلال لا من الكتاب ولا من السنة ولكن من اتبع الأوهام اعتنق مهامه الضلال وذهب يتخبط في ليل من الحيرة لايدري أين يقع .
وسوف أورد في ما يلي شبه ما نعي الرؤية وأناقشها لتعرف مدى ضعفها والله ولي التوفيق .
أدلة النافين للرؤية والرد عليها :
إعلم أن المعتزلة وعلى رأسهم الزمخشري والجهمية ومن وافقهم من منكري رؤية المولى تقدست أسماؤه يوم القيامة تمسكوا بأدلة هي في الحقيقة حجة عليهم كما سيتضح لك من مناقشة استدلالاتهم .
أدلة مانعي رؤية الله يوم القيامة والرد عليها :
دليلهم الأول :(1/16)
قوله سبحانه : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } قالوا فلما عطف الله عزوجل بقوله وهو يدرك الأبصار وكان قوله وهو يدرك الأبصار على العموم أنه يدركها في الدنيا والآخرة كان قوله لاتدركه الأبصار دليلا على أنها لاتراه الأبصار في الدنيا والآخرة كعموم قوله لا تدركه الأبصار لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر (1) .
وقد أجاب أبو الحسن الأشعري على هذا الإستدلال الواهي بجواب يحسن ذكره في هذا البحث وذلك لزيادة الفائدة .
وإلا فالكتاب والسنة مملوءان بالآيات والأحاديث على إثبات الرؤية مما يلزم المخالف ويقمع شبهه .
قال أبو الحسن : (( يجب إذا كان عموم القولين واحدا وكانت الأبصار أبصار العيون وأبصار القلوب لأن الله عزوجل قال : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وقال : { أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } .
فأراد أبصار القلوب التي يقصد بها المؤمنين والكافرين ، ويقول أهل اللغة فلان بصير بصناعته يريدون بصير العلم ويقولون قد أبصرته بقلبي كما يقولون قد أبصرته بعيني فإذا كان البصر بصر العيون وبصر القلوب ثم أوجبوا علينا أن يكون قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } في العموم كقوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر وجب عليهم بحجتهم أن الله عزوجل لا يدرك بأبصار العيون ولا بأبصار القلوب لأن قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } في العموم كقوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } .
قال أبو الحسن رحمه الله (( وإذا لم يكن عندهم فقد وجب أن يكون قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } أخص من قوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } وانتقض احتجاجهم وقيل لهم إنكم زعمتم أنه لو كان قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } خاصا في وقت دون وقت كان قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }
______________(1/17)
1_ أبو الحسن الأشعري الابانة / 18
وقوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وقوله : { لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } في وقت دون وقت ، فإن جعلتم قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } خاصا لو لم يجب خصوص هذه الآيات فلم أنكرتم أن يكون قوله عزوجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } أراد بعض الأبصار دون بعض ولا يوجب ذلك تخصيص هذه الآيات التي عارضتمونا بها .
فإن قالوا : قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } يوجب أنه لايدرك بها في الدنيا ولا في الآخرة وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا ونبصره ، ولاندركه بها .
قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون لاندركه بأبصار العيون ولايوجب إذا لم ندركه بهما ألا نراه بها فرؤيتنا له بالعيون وإبصارنا له بها ليس بإدراك له بها كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك ، فإن قالوا : رؤية البصر هي إدراك البصر قيل لهم ماالفرق بينكم وبين من قال أن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته فإذا كان علم القلب بالله عزوجل وإبصار القلب له ورؤيته إياه ليس بإحاطة ولا إدراك ، فلم أنكرتم أن تكون رؤية العيون وإبصارها لله عزوجل ليس بإحاطة ولا إدراك (1) .
ومن أجوبة أبي الحسن الأشعري أيضا قوله : (( ويقال لهم إذا كان قول الله عزوجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } كقوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر فخبرونا أليس الأبصار والعيون لاتدركه رؤية ولا لمساً ولا ذوقاً ولا على وجه من الوجوه فإن قالوا نعم فيقال لهم أخبرونا عن قوله عزوجل : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } أتزعمون أنه يدركها لمساً وذوقاً بأن يلمسها فإن قالوا : لا فيقال لهم فقد انتقض قولكم أن قوله وهو يدرك
______________
1_ الابانة عن أصول الديانة / 18
الأبصار في العموم كقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } (1) .(1/18)
ومن أجوبته أيضا قوله (( فإن قال قائل منهم إن البصر في الحقيقة هو بصر العين لا بصر القلب قيل له زعمت هذا وقد سمى أهل اللغة بصر القلب بصراً كما سموا بصرالعين بصراً وإن جاز لك ما قلته جاز لغيركم أن يزعم أن البصر في الحقيقة هو بصر القلب دون العين وإذا لم يجز هذا فقد وجب أن البصر بصر العين وبصر القلب (2) )) .
وقال أبو الحسن أيضا (( حدثونا عن قول الله عزوجل : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } ما معناه فإن قالوا : معنى يدرك الأبصار أنه يعلمها قيل لهم وإذا كان أحد الكلامين معطوفا على الآخر وكان قوله عزوجل : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } معناه يعلمها فقد وجب أن يكون قوله { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } لاتعلمه وهذا نفي للعلم لا لرؤية الأبصار (3) )) .
ومما يدل دلالة واضحة لاغبار عليها على أن الله سبحانه وتعالى يرى بالأبصار هو أن كل موجود جائز أن يريناه الله عزوجل وإنما لايجوز أن يرى المعدوم وهذا لاشك فيه فلما كان الله سبحانه وتعالى موجودا كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عزوجل .
وأما من أراد أن ينفي رؤية الله عزوجل بالأبصار فإنما أراد بذلك التعطيل فلما لم يمكنهم أن يظهروه صُراحا أظهروا ما يؤول بهم إليه فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
______________
1_ الابانة عن أصول الديانة /18
2_ الابانة عن أصول الديانة / 18
3_ الابانة عن أصول الديانة / 19(1/19)
قال المحدث المفسر ابن كثير في قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } مانصه (( فيه أقوال للائمة من السلف أحدها لاتدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله (من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن إلى أن قال : وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية إنه لايرى في الدنيا ولا في الآخرة فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله ( تم ذكر أدلة في ذلك )) (1) .
وأما ما ذكرته سابقا من أن قوله عزوجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } دليل على منكري الرؤية لالهم فهو ماذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : (( إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ولم ينف مجرد الرؤية لأن المعدوم لايرى وليس في كونه لايرى مدح إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي كما أنه لايحاط به وإن علم فكما أنه إذا علم لايحاط به فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته مايكون مدحا وصفة كمال وكان دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها )) (2) .
ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به الرب عزوجل وإنما يمدح بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا كمدحه سبحانه وتعالى بنفي الشريك والصاحب والولد والظهير المتضمن كمال
______________
1_ ابن كثير في تفسير 3 / 161 .
2_ الرسالة التدمرية /25 .(1/20)
الربوبية والألوهية وقهره ، وبنفي الأكل والشرب المتضمنين كمال صمديته وغناه وبنفي الشفاعة عنده عزوجل إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه ، وبنفي الظلم المتضمن كمال عدله وغناه ولهذا لم يمدح عزوجل بعدم محض لم يتضمن أمرا ثبوتيا لأن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه فلهذا فإن قوله عزوجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء وأنه لكمال عظمته لايدرك بحيث يحاط به وإن رئي لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما يدل على ذلك قوله سبحانه : { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } .
{ قَالَ كَلَّا} (1) فموسى عليه السلام لم ينف الرؤية وإنما نفى الإدراك والرب عزوجل يرى ولا يدرك كما يعلم ولايحاط به علما بل الشمس هذه المخلوقة لايتمكن رائيها من إدراكها على ماهي عليه وكذلك السماء فإن الرائي يقلب فيها بصره ولا يتمكن من الإحاطة بها والله عزوجل أعظم من ذلك كله .
ومما استدل به منكرو الرؤية أيضا قوله عزوجل لموسى : { لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } .
ووجه استدلالهم . أن لن كلمة تدل على التأبيد كما هو مشهور في كتب اللغة عن الزمخشري المعتزلي ومن نحا نحوه . وذلك ليس بسديد من وجوه .
أولاً : دعواهم تأبيد النفي بلن وأن ذلك يدل على نفي الرؤية فاسد وباطل
______________
1_ الشعراء 63 .
والدليل على فساده وبطلانه قوله عز من قائل في صفة اليهود : {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } (1) لأنهم يتمنون الموت يوم القيامة بدليل قوله تعالى : {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } .(1/21)
ثانيا : أنها لو كانت تفيد التأبيد لما كان يحسن ذكر لفظ الأبد بعدها إذ يكون ذكره بعدها تكراراً والأصل عدمه ولكن ذكر الأبد بعدها واقع في أفصح الكلام قال عزوجل : { وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا } وقال تعالى : { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } .
ثالثا : أنها لو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم في قوله عزوجل : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } .
رابعا : أنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها وقد جاء ذلك في قوله تعالى : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي } فثبت حينئذ أن لن لا تقتضي النفي المؤبد قال ابن مالك رحمه الله .
ومن رأى النفي بلن مؤبداً : فقوله اردد وسواه فاعضدا .
قلت وقد ذكر الزمخشري في كشافه عند قوله تعالى : { لَن تَرَانِي .. الخ } ما نصه (2) (( فإن قلت مامعنى لن قلت معناها تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غدا فإذا أكدت نفيه قلت لن أفعل غدا والمعنى أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى : { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } اهـ .
______________
1_ البقرة / 95
2_ الكشاف للزمخشري مع الانصاف لأحمد الاسكندري 2 / 113 .
أقول وبالله التوفيق إن قول الزمخشري إن لن تفيد التأكيد هو خلاف ما عليه جل النحاة .
قال أبو الحسن الأشموني (1) (( فأما لن فحرف نفي تختص بالمضارع وتخلصه للاستقبال وتنصبه كما تنصب لا الاسم نحو لن أضرب ولن أقوم فتنفي ما أثبت بحرف التنفيس ولا تفيد تأبيد النفي ولا تأكيده خلافا للزمخشري وقال ابن هشام (2) ولا تفيد لن توكيد النفي خلافا للزمخشري في كشافه ولا تأبيده خلافا له في أنموذجه وكلاهما دعوى بلا دليل )) .(1/22)
وقال أيضا (3) (( بل قولك لن أقوم محتمل لأن تريد بذلك أنك لاتقوم أبدا وأنك لا تقوم في بعض أزمنة المستقبل وهو موافق لقولك لا أقوم في عدم إفادة التأكيد . وفي حاشية الخضري (4) (( لن حرف ينفي المضارع وينصبه ويخلصه للاستقبال فهو ينفي المستقبل والسين يثبته ولايفيد تأبيد النفي خلافا للزمخشري في أنموذجه
______________
1_ شرح الأشموني على ألفية ابن مالك مع حاشية الصبان 3 / 378 . طبع دار احياء
الكتب العربية .
2_ في مغنى اللبيب مع حاشية محمد الأمير 1 / 331 طبع دار احياء الكتب العربية .
3_ شرح القطر / 80 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد طبع السعادة الثانية عشرة .
4_ حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الألفية 2 / 110 الطبعة الأخيرة
مصطفى البابي الحلبي 1359 .
وأما قوله تعالى : { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا } فالتأكيد فيه خارج عن لن لا منها (1) ولا تأكده خلافا له في كشافه لكن وافقه على التأكيد كثيرون اهـ . قلت فقول الخضري لكن وافقه كثيرون . نعم وافقه كثيرون ولكن هذه الكثرة بالنسبة للقائلين بعدم التأكيد قليل ويظهر ذلك جليا لمن تتبع كتب اللغة وأقوال المتبحرين في هذا الفن ولو سلمنا جدلا بأن لن في قوله تعالى : { لَن تَرَانِي } للتأكيد فهل يا ترى تفيد النفي الدائم الذي فهمه الزمخشري وأمثاله حتى جعلوا رؤية الله عزوجل بالأبصار مستحيلة بمقتضى ما فهموه من الآية الكريمة .
أليس قال تعالى حكاية عن قصة موسى مع الخضر : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } (2) وهو جائز غير محال .
وهذا الفخر الرازي يوافق الزمخشري في أن لن للتأكيد ولكنه يرد عليه في كونها لتأكيد النفي الدائم . فيقول (3) (( إن لن لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكأن قوله عزوجل : { لَن تَرَانِي } نفي لذلك المطلوب فأما أن يفيد النفي الدائم فلا )) .(1/23)
قلت وقد سبق أن نظر الزمخشري (4) لقوله تعالى : { لَن تَرَانِي }
______________
1_ وذلك أن جملة لن يخلقوا الخ وارادة مورد التعجيز لأنه لما كان الخلق والايجاد
للانفس مختصا بالمولى تقدست أسماؤه وما سواه عاجز عن ذلك دلت الآية الكريمة
بجملتها على عجز المخلوق عجزا مؤبدا عن أن يخلق ذبابة فوضح أن التأبيد
مستفاد من غير لن .
2_ سورة الكهف 67 .
3_ في تفسيره الكبير 14 / 333 الطبعة الأولى بمطبعة البهية المصرية سنة 138 .
4_ انظر صفحة 21 من هذا الكتيب : ومعنى نظراتي للآية بنظير لها أي بشبيه .
بقوله عزوجل : { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } (1) على أن مفاد الآيتين سواء في تأكيد النفي المؤبد وهذا مغالطة منه وهروب من الحق لأن بين الآيتين بونا وفرقا شاسعا وقد مر بنا قول الخضري (2) وأما قوله تعالى : { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا } التأييد فيه خارج عن لن لا منها اهـ قلت ومن ذلك أيضا قوله تعالى : { وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } (3) فليس التأبيد دلت عليه لن بل من دليل خارج .
قال أحمد الإسكندري في الإنصاف (4) (( لن كما قال تشارك لا في النفي وتمتاز بمزيد تأكيده وأما استنباط الزمخشري من ذلك منافاة الرؤية لحال الباري عزوجل ثم إطلاق الحال على الله مما يستحرز عنه واستشهاده على أن لن تشعر باستحالة المنفي بها عقلا مردود كثيرا بكثير من الآي كقوله تعالى : { فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا } (5) فذلك لايحيل خروجهم عقلا { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } (6){ لَّن تَتَّبِعُونَا } (7) فهذه كلها جائزات عقلا لولا أن الخبر منع من وقوعها فالرؤية كذلك اهـ(1/24)
قلت فإذا فهمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى : { لَن تَرَانِي الخ } هي أدل على جواز الرؤية منها على استحالتها عكس مافهمه النفاة كالمعتزلة وغيرهم ويظهر ذلك جليا لمن نهج سبيل الحق واجتنب اتباع الهوى وأمعن النظر في الآية الكريمة أعني في سؤال موسى عليه السلام { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ }
______________
1_ الحج 73 .
2_ صفحة 25 .
3_ الحج 47 .
4_ الانصاف على الكشاف للزمخشري 2/ 114 .
5_ التوبة 83 .
6_ هود 36 .
7_ الفتح 15 .
وجواب الرب جل وعلا عليه بقوله : { لَن تَرَانِي }
فهل كان نبي الله وكليمه عليه السلام عالما بجواز رؤية الله أم جاهلا بذلك .
فإن كان جاهلا فهو غير عارف بالله عزوجل حق معرفته وليس يليق ذلك بجناب النبوة .
وإن كان عالما بجواز رؤية الله عزوجل فقد سأل مولاه جل وعلا ما يجوز وقوعه لا ما يستحيل لأن السؤال لا يكون بالمستحيل .
وكذا قوله تعالى : { لَن تَرَانِي } فإنه غير خاف على ذوي العقول السليمة أنه دليل على جواز رؤية الله عزوجل لا على أنها محال .
لأنه عزوجل ما قال لست بمرئي وإنما قال _ لن تراني . فأثبت العجز وذلك لضعف البشر في الدنيا ووعد بالرؤية بدليل قوله تعالى : { وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }. فلما كان الجبل غير مطيق للتجلي مع شدته وصلابته بل خر دكا من عظمة الله سبحانه علم أن البشر في الدنيا غير مطيقين بطريق الأولى لاسيما والضعف صفتهم كما قال سبحانه : { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} .
ولما ربط الله عزوجل المنع بأمر جائز ومع جوازه أحال المنع على ضعف الآلة علمنا أن رؤية الله عزوجل جائزة غير مستحيلة .(1/25)
* قال أبو الحسن الأشعري (( ومما يدل على أن الله تعالى يرى بالأبصار قول موسى { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } ولا يجوز أن يكون موسى عليه السلام الذي قد ألبسه الله تعالى جلباب النبيين وعصمه بما عصم به المرسلين فيسأل ربه ما يستحيل عليه وإذا لم يجز على موسى فقد علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا وأن الرؤية جائزة على ربنا عزوجل ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا كما
زعمت المعتزلة ولم يعلم ذلك موسى عليه السلام وعلموا هم لكانوا على قولهم
أعلم بالله من موسى عليه السلام وهذا مالا يدعيه مسلم (1) .
وقال أبو الحسن أيضا (2) (( ودليل آخر مما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار قول الله تعالى لموسى : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } _ فلما كان الله عزوجل قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا كان قادرا على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى فدل ذلك على أن الله تعالى قادر على أن يري عباده نفسه وأنها جائزة رؤيته .
فإن قال فلم ما قلتم إن قول الله تعالى { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } تبعيد للرؤية قيل له لو أراد الله عزوجل تبعيد الرؤية لقرن الكلام بما يستحيل وقوعه ولم يقرنه بما يجوز وقوعه فلما قرنه باستقرار الجبل وذلك أمر مقدور لله سبحانه دل ذلك على أنه جائز أن يرى الله عزوجل ألا ترى أن الخنساء لما أرادت تبعيد صلحها لمن كان حربا لأخيها قرنت الكلام بما يستحيل فقالت :
ولاأصالح قوما كنت حربهم .
حتى تعود بياضا حلكة (3) القاري(4) .
والله عزوجل إنما خاطب العرب بلغتها ونحن نرجع إلى ما نجده مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها فلما قرن الله الرؤية بأمر مقدور علمنا أن رؤية الله بالأبصار جائزة غير مستحيلة انتهى كلامه .
______________
1_ الابانة / 14 .
2_ المرجع السابق .
3_ الحلكة بالضم والحلك محرك شديد السواد اهـ القاموس المحيط 3 / 309 طبع
المؤسسة العربية .(1/26)
4_ القير بالكسر والقار شيء أسود يطلي به السفن أو الابل أو هما الزفت أ . هـ .
القاموس المحيط 2 / 138 .
وفي تفسير أبي السعود (1) ما نصه :
{ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك _ هو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء لاسيما ما يقتضي الجهل بشؤون الله تعالى مستحيل ولذلك رده بقوله { لَن تَرَانِي } دون أن أرى ولن أريك ولن تنظر إلي تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته اهـ .
قلت وقد استدل شارح الطحاوية (2) بهذه الآية الكريمة على إثبات رؤية الله عزوجل من سبعة وجوه وهذا نصها .
أحدها : أنه لايظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته _ أن يسأل مالا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله وقال : { إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (3) .
الثالث : أنه تعالى قال : { لَن تَرَانِي } ولم يقل إني لا أرى أو لاتجوز رؤيتي أو لست بمرئي والفرق بين الجوابين ظاهر . ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاما فقال : اطعمنيه فالجواب الصحيح أنه لا يؤكل أما إذا كان طعامه صح أن يقال إنك لن تأكله وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ولكن موسى لا تتحمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى يوضحه الوجه الرابع :
______________
1_ تفسير أبي السعود 2 / 400 طبع السعادة تحقيق عبد .
2_ شرح الطحاوية 306 / 307 .
3_ هود 46 .
وهو قوله : { وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } (1) فاعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لايثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذين خلقوا من ضعف .(1/27)
الخامس : أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرا وذلك ممكن وقد علق به الرؤية ولو كانت محالا لكان نظير أن يقول ان استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام والكل عندهم سواء .
السادس : قوله تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } . فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف .
السابع : أن الله كلم موسى وناداه وناجاه ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز ولهذا لايتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه وقد جمعوا بينهما )) .
فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن الزمخشري ذكر في كشافه (2) أنه ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجر وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم بالخطأ ونبههم على الحق فلجوا _ وتمادوا في لجاجهم وقالوا لابد و{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } فأرادوا أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله _ { لَن تَرَانِي } ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة فلذلك قال : {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } اهـ .
______________
1_ الأعراف / 143 .
2_ تفسيره الكشاف 2 / 113 مع الإنصاف .
قلت وباالله التوفيق إن قول الزمخشري هذا مخالف للظاهر من كل وجه وقرينة
المقال تدل على أن السؤال كان مقصورا على كليم الله من كل وجه إذ قال { وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } ولم يقل انظروا ... الخ بصيغة الجماعة .
ثانيا : إنه لايجوز لنبي الله أن يسأل ربه محالا إذ لو جاز ذلك لكان عبثا وهو غير لائق بالأنبياء .(1/28)
ثالثا : إنه لما قال له قومه _ { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } (1) لم يلزمهم بالسؤال عن الله عزوجل بل أجابهم في الحال { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } . إذ كان تحقيق طلبهم ممتنعا شرعا فكذلك رؤية الله تعالى لو كانت مستحيلة لأجابهم كما فعل في تلك . قال في الانصاف (2) فالحق أن موسى عليه السلام إنما طلب الرؤية لنفسه لعلمه بجواز ذلك والقدرية يجبرهم الطمع ويجرؤهم حتى يروموا أن يجعلوا موسى عليه السلام كان على معتقدهم وما هم حينئذ إلا ممن آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها وأما قوله عليه السلام : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا } تبريا من أفاعيلهم وتسفيها لهم وتضليلا برأيهم فلا راحة للقدرية في الاستشهاد به على إنكار موسى عليه السلام لجواز الرؤية فإن الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة العجل في قول أكثر المفسرين ثم وإن كان السبب طلبهم للرؤية فليس لأنها غير جائزة على الله ولكن لأن الله تعالى أخبر أنها لاتقع في دار الدنيا والخبر صدق وذلك بعد سؤال موسى للرؤية فلما سألوه وقد سمعوا الخبر بعدم وقوعها كان
______________
1_ الأعراف / 137 .
2_ الانصاف على الكشاف لأحمد بن المنير الاسكندري 2/ 113 مع تفسير الكشاف .(1/29)
طلبهم خلاف المعلوم تكذيبا لما خبر فمن ثم سفههم موسى عليه السلام وتبرأ من طلب ما أخبر الله أنه لايقع ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها فإنما سفههم موسى عليه السلام لاقتراحهم على الله هذه الآية خاصة وتوقيفهم الإيمان عليها حيث قالوا _ { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } (1) ألا ترى أن قولهم { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا} إنما سألوا فيه جائزا ومع ذلك قُرعوا به لاقتراحهم على الله مالايتوقف وجوب الإيمان عليه فهذه المباحث الثلاثة توضح لك سوء نظر الزمخشري بعين الهوى وعمايته عن سبيل الهدى والله الموفق انتهى كلامه .
قال : أبو السعود في تفسيره (2) وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا { أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً } خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل ذلك حين قالوا { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } وكما قال لأخيه { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } انتهى كلامه .
وفي التفسير الكبير للفخر الرازي (3) .. وأما التأويل بأنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه فهو أيضا فاسد ويدل عليه وجوه .
الأول : أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ولقال الله تعالى لن يروني فلما لم يكن كذلك بطل هذا التأويل .
والثاني : أنه لو كان هذا السؤال طلبا لمحال لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا : { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } . منعهم عنه بقوله { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } .
______________
1_ البقرة / 45 .
2_ تفسير أبي السعود 2 / 400 تحقيق عبد القادر عطا / 3_ 3 / 230
طبع البهية المصرية 1317 .(1/30)
والثالث : أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل على أنه تعالى لاتجوز رؤيته وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال فأما أن لايذكر شيئا من تلك الدلائل البتة مع أن ذكرها كان فرضا مضيقا كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام وأنه لايجوز .
والرابع : أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا قد آمنوا بنبوة موسى عليه السلام أو لم يؤمنوا بها فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له لانسلم أن الله منع الرؤية بل هذا قول افتريته على الله تعالى فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة لهم في قول موسى عليه السلام : { أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } انتهى كلامه .
ثم أعلم مرة أخرى أن االزمخشري قال في كشافه (1) ما نصه :
(( فإن قلت كيف اتصل الاستدراك في قوله : { وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } . بما قبله . قلت اتصل به على معنى أن النظر إلي محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم إلى أن قال هذا المعتزلي ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة (2) فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
لجماعة سموا هواهم سنة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا .
وجماعة حمر لعمري موكفه شنع الورى فتستروا بالبلكفة .
______________
1_ 2 / 113 _ 114 _ 115 _ 216 .
2_ يعني قولهم بلا كيفية .(1/31)
أقول وبالله التوفيق إن قول الزمخشري (( فإن قلت كيف اتصل الإدراك الخ هذا من حيله وحيل أتباعه من المعتزلة القائلين بأن قوله عزوجل { فَسَوْفَ تَرَانِي } تعليق لوجود الرؤية بوجود مالايكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه بالأرض كما ذكره في كشافه (1) )) .
والمعنى أنه سبحانه وتعالى علق الرؤية على شرط محال وهو استقرار الجبل وهذا تأويل فاسد ورأي باطل لأن المعلق عليه استقرار الجبل وذلك جائز وممكن كما سبق بيانه موضحا (2) .
قال أحمد الإسكندري (3) (( استقرار الجبل ممكن وقد علق عليه وقوع الرؤية والمعلق على الممكن ممكن والمعتزلة يعتقدون أن خلاف المعلوم لايجوز أن يكون مقدورا ونحن نقول مقدور ولكن ما تعلقت المشيئة بإيجاده وقولنا أقعد بالأدلة وأسعد بالإجلال في الخطاب أ هـ .
وقال الفخر الرازي (4) (( من الوجوه المستنبطة من هذه الآية أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة إنما قلنا إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل بدليل قوله تعالى : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } . واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها _ ا هـ .
______________
1_ 2 / 114 .
2_ راجع صفحة / 23 إلى 26 من هذا البحث .
3_ في الانصاف على الكشاف 2 / 115 .
4_ تفسيره الكبير 14 / 221 .
وقال البيضاوي عند قوله تعالى { لَن تَرَانِي .. الخ } استدراك يريد أن يبين أنه لا يطيقه وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز لأن المعلق على الممكن ممكن . أ هـ .(1/32)
قلت : وأما قول الزمخشري يرجف بك وبمن طلبت لهم الرؤية )) هذا بناء على مذهبه الفاسد أن موسى عليه السلام طلب الرؤية لقومه لا لنفسه وقد مر قريبا ما أوردنا في الرد عليه في ذلك بما فيه الكفاية ثم انظر أيها القارئ إلى انتقال الزمخشري من المكابرة والجدال بالتأويلات الفاسدة إلى ما سمعته من هجاء أهل السنة والجماعة والطعن فيهم وكان هو المستحق لذلك ثم انظر إلى جعله إثبات رؤية الله تعالى الثابتة بالآيات والأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها منافيا للاتسام بأهل السنة ولكن صدق من قال :
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا قد جاءهم من حيث لا يدرونه وتلقبوا عدلية قلنا نعم .
بالعدل ما فيهم لعمري معرفة تعطيل ذات الله مع نفي الصفة عدلوا بربهم فحسبهم سفه .
وقال أحمد الاسكندري (1) عند وقوفه على هجاء الزمخشري أهل السنة مانصه (( وقد انتقل الزمخشري في هذا الفصل إلى ما تسمعه من هجاء أهل السنة ولولا الاستنان بحسان بن ثابت الأنصاري صاحب رسول الله ( وشاعره والمنافح عنه وروح القدس معه لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية سلاما ولكن كما نافح حسان عن رسول الله أعداءه فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله ( أعداءها .
______________
1_ في الانصاف على الكشاف 2 / 115 _ 116 .
فنقول
وجماعة كفروا برؤية ربهم وتلقبوا عدلية قلنا أجل وتلقبوا الناجين كلا إنهم .
حقا ووعد الله ما لن يخلفه عدلوا بربهمو فحسبهمو سفه إن لم يكونوا في لظى فعلي شفهه .
قلت وقال بعضهم في الرد عليه أيضا :
هل نحن من أهل الهوى أم أنتم اعكس تصب فالوصف فيكم يكفيك في ردي عليك بأننا وبنفي رؤيته فأنت حرمتها فنراه في الأخرى بلا كيفية .
ومن الذي منا حمير مؤكفةْ كالشمس فارجع عن مقال الزخرفةْ نحتج بالآيات لا بالسفسطةْ إن لم تقل بكلام أهل المعرفةْ وكذاك من غير ارتسام للصفةْ .
وقال أبو حيان في الرد عليه (1) :(1/33)
شبهت جهلا صدر أمة أحمد وجب الخسار عليك فانظر منصفا أترى الكليم أتى بجهل ما أتى إن الوجوه إليه ناضرة بذا نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى .
وذوي البصائر بالحمير المؤكفةْ في آية الأعراف فهي المنصفةْ وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفةْ جاء الكتاب فقلتموا هذا سفه فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفةْ .
قال العطار (2) (( ولو ادعى مدع أن هذا ألطف الردود وآمنها لسلم له فلاشتغال بعد ذلك بالرد عليه كالتشفي بالقتيل بعد قتله :
(( مالجرح بميت إيلام ))
______________
1_ كما في حاشية العطار على جمع الجوامع مع 2 / 466 طبع .
2_ المرجع السابق .
والمراد بآية الأعراف هي قوله عزوجل حكاية عن موسى عليه السلام . { رَبِّ أَرِنِي .. الخ } وقد سبق الاستدلال بها على إثبات رؤية الرب عزوجل وعلا مبسوطا فارجع إليه إن شئت (1) .
ثم اعلم أيها القارئ أن كتاب الله عزوجل وسنة رسوله (مملوءان بالآيات والأحاديث الصحيحة الدالة على إثبات رؤية الله عزوجل يوم القيامة مما يجعلك على يقين من العلم بأن المخالف في ذلك وإن كان بصره صحيحا فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع إلا الباطل وبحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلا بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح وتلقي ما جاء به الكتاب العزيز والسنة المطهرة بالإيمان والتسليم فنسأل الله تعالى الهداية .
وكم من عائب قولا صحيحا .
وآفته من الفهم السقيم .
أدلة أخرى من كتاب الله عزوجل على إثبات الرؤية .
الدليل الأول
قوله تعالى { لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } (2) قال ابن جرير (3) يقول تعالى وعندنا لهم فوق ما أعطيناهم من هذه الكرامة التي وصف جل ثناؤه صفتها مزيد يزيدهم إياه وقيل إن ذلك المزيد النظر إلى الله جل ثناؤه .
قال الطبراني (4) (( قال علي ابن أبي طالب وأنس بن مالك هو النظر إلى وجه الله عزوجل وقاله من التابعين زيد بن وهب وغيره )) .(1/34)
______________
1_ انظر 24 / 26 من هذا البحث .
2_ سورة ق / 35 .
3_ تفسير ابن جرير الطبري 36 / 173 .
4_ كما في حادي الأرواح / 301 .
قلت وروي ابن جرير (1) بسنده عن أنس رضي الله عنه حديثا طويلا ذكر فيه قوله : (( ثم ناداهم الرب عزوجل من وراء الحجب مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي أكلوا وشربوا وفكهوا وكسوا وطيبوا وعزتي لأتجلين لهم حتى ينظروا إليَّ قال فذلك انتهاء العطاء وفضل المزيد قال فيتجلى لهم الرب عزوجل ثم يقول السلام عليكم عبادي انظروا إليَّ فقد رضيت عنكم )) . وسرد الحديث بطوله .
وروى ابن جرير أيضا (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه حديثا طويلا وذكر فيه . (( فيتجلى لهم عزوجل حتى ينظروا إلى وجهه وهو يقول (( أنا الذي صدقتكم عدتي وأتممت عليكم نعمتي )) وذكر الحديث إلى أن قال فيه ليزدادوا منه كرامة وليزدادوا نظرا إلى وجهه ولذلك دعي يوم المزيد )) .
وفي القرطبي (3) قال أنس وجابر (( المزيد النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف ))
الدليل الثاني :
قول الله عزوجل : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } (4) عن أنس بن مالك أن النبي ( أقرأه هذه الآية . { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال : والله مانسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحملون ويرفع الحجاب بينه وبينهم فينظرو ن إليه وينظر إليهم عزوجل وذلك قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه (1) ونسبه للدارقطني في الرؤية .
______________
1_ تفسير ابن جرير الطبري 36 / 174 .
2_ المرجع السابق .
3_ تفسير أبي عبد الله القرطبي 17 / 31 .
4_ سورة مريم / 63 .
5_ مجموع فتاوى 6 / 435 .
الدليل الثالث :(1/35)
قوله تعالى : { سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } (1) : عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( : ( بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة قال : وذلك قول الله : { سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } : قال : فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ) رواه ابن ماجة (2) وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه (3) وزاد نسبته للدارقطني ثم قال ورويناه من طريق أخرى معروفة إلى سلمة بن شبيب حدثنا بشر ابن حجر حدثنا عبد الله بن عبيد عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله ( : ( بينما أهل الجنة في ملكهم ونعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فيقول السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تبارك وتعالى : { سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } : فينظرون إليه وينظر إليهم فلا يلتفتون إلى شيء من الملك والنعيم حتى يحتجب عنهم قال فيبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم .
______________
1_ يس / 58 .
2_ في سننه 1 / 65 _ 66 بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي .
3_ مجموع فتاوى 6 / 449 .
الدليل الرابع :
قوله عزوجل : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } (1) . وقوله : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} (2) وقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ } (3) وقوله : { لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } (4) . وقوله : { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } (5) .
وقوله سبحانه : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } (6) .(1/36)
وغير ذلك من الآيات الداله على أن المؤمنين يرون الله عزوجل يوم القيامة لأن اللقاء يستلزم ذلك .
قال أبو عبد الله بن قيم الجوزية (7) (( أجمع أهل اللسان على أن اللقاء متى نسب إلى الحي السليم من العمى والمانع اقتضى المعاينة والرؤية )) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (8) (( أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير وقالوا إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى واحتجوا بآيات اللقاء على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية والمعتزلة )) .
______________
1_ سورة الأحزاب 44 .
2_ الكهف 110 .
3_ البقرة 333 .
4_ الرعد 3 .
5_ العنكبوت 5 .
6_ البقرة 46 .
7_ في حادي الأرواح 198 .
8_ في مجموع فتاوى 6 / 462 .
وقال شيخ الإسلام أيضا (1) (( إن لقاء الله لم يستعمل في لقاء غيره لا حقيقة ولا مجازا ولا استعمل لقاء زيد في لقاء غيره أصلا بل حيث ذكر هذا اللفظ فإنما يراد به لقاء المذكور إذ ما سواه لا يشعر اللفظ به فلا يدل عليه )) .
وفي صحيح البخاري (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ( أرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة وقال لهم : ( اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض ) . وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ( قال : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) رواه البخاري في صحيحه (3) .
فتبين إذاً أن اللقاء في هذه الآيات والأحاديث يدل على الرؤية والمعاينة بالأبصار لأنه يستلزم ذلك .(1/37)
ومما يؤيد ذلك أيضا قول رسول الله ( : ( لاتتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ) أخرجه البخاري في صحيحه (4) وأخرج البخاري أيضا (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لقيني رسول الله ( وأنا جنب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسللت وأتيت الرَّحْلَ فاغتسلت ثم جئت وهو قاعد فقال : ( أين كنت يا أبا هريرة ) فقلت له فقال : ( يا سبحان الله يا أبا هريرة إن المؤمن لاينجس ) .
______________
1_ مجموع فتاوى 6 / 474 الطبعة الأولى في الرياض سنة 1381 هـ .
2_ 8 / 184 .
3_ المرجع السابق 8 / 191 .
4_ 8 / 130 .
5_ صحيح البخاري .
فهل ياترى لقاء العدو . ولقيني بدون رؤية وبدون معاينة الأبصار أم هناك أحد يقول هذا .
الدليل الخامس :
قول جل ذكره : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } (1) فإنه يستدل بها على وقوع الرؤية للمؤمنين يوم القيامة لأنه عزوجل خص الكفار بكونهم محجوبين فيكون المؤمنين غيرمحجوبين وهو معنى الرؤية والحمل على كونهم محجوبين عن ثوابه وكرامته خلاف الظاهر فلا يلتفت إليه .
قال الشافعي (2) : (( لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا . ثم قال : أما والله لو لم يوقن محمد بن أدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا )) وقال الزجاج : في هذه الآية دليل على أن الله عزوجل يُرى في القيامة ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون وقال جل ثناؤه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فأعلم الله جل ثناؤه أن المؤمنين ينظرون إليه وأعلم أن الكفار محجوبون عنه (3) وقال مالك رضي الله عنه في هذه الآية لما حجب أعداءه لم يروه تجلى لأولياءه حتى رأوه (4) .(1/38)
وأخرج اللالكائي وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } : قال إذا كان يوم القيامة برز ربنا تبارك وتعالى فيراه الخلق ويحجب الكفار فلا يرونه (5) .
______________
1_ المطففين / 15 .
2_ كما في تفسير القرطبي 19 / 361 .
3_ المرجع السابق .
4_ المرجع السابق / 361 .
5_ كما في لوامع الأنوار للسفاريني 3 / 343 .
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا يعقوب بن إسحاق قال سمعت نعيم بن حماد يقول سمعت ابن المبارك يقول : ماحجب الله عنه أحدا إلا عذبه ثم قرأ : {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } .. قال ابن المبارك بالرؤية (1) .
وروى ابن بطة باسناده عن أشهب قال : قال رجل لمالك يا أبا عبد الله هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة ، فقال مالك : لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعيّر الكفار بالحجاب . قال تعالى : { كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } (2) .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ما نصه :
(( اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا وأجمعوا أيضا على وقوعها في الآخرة وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين (3) .
قلت : وهو معنى قوله عزوجل : { كَلَّا إِنَّهُمْ ... } الخ فنسأل الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم وأن يهدينا الصراط المستقيم بمنه وكرمه .
أدلة الرؤية من السنة
أخرج البخاري في صحيحه (4) عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوسا عند النبي ( إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لاتغلبوا على صلاتكم قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا ) :
______________
1_ كما في حادي الأرواح 336 .(1/39)
2_ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6 / 449 .
3_ شرح النووي على صحيح مسلم 3 / 15 طبع دار الفكر .
4_ 8 / 179 طبع دار الطباعة العامرة .
وفي رواية عنه ( إنكم سترون ربكم عيانا ) وفي البخاري (1) أيضا من حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(( إن الناس قالوا يارسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله ( : ( هل تضارون في القمر ليلة البدر ) قالوا : لا يارسول الله . قال : ( فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ) قالوا : لا يا رسول الله . قال : ( فإنكم ترونه كذلك فيجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها ( شك إبراهيم ) فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاءنا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ) وساق الحديث بطوله .
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه ) رواه البخاري (2) في الصحيح .
______________
1_ المرجع السابق .
2_ صحيح البخاري 8 / 179 : 8 / 185 .(1/40)
وفي صحيح البخاري أيضا (1) من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( قلنا يارسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال : هل تضارون في رؤية الشمس إذا كانت صحوا قلنا : لا . قال : فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون من رؤيتها ) . ثم ذكر الحديث وفيه (2) ( وإنما ننتظر ربنا قال : فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ) وساق الحديث بطوله .
وعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي ( قال : ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن ) أخرجه البخاري (3) وأخرجه مسلم في صحيحه (4) وأخرجه ابن ماجة بهذه الزيادة (5) وفي حديث الشفاعة المروي عن أنس رضي الله عنه :
( فيأتون عيسى فيقول لست هنا لكم ولكن ائتوا محمدا ( عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتون فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول : ارفع يا محمد وقل
______________
1_ 8 / 181 .
2_ أي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
3_ في صحيحه 8 / 185 .
4_ صحيحه / 1 .
5_ في سننه 1 / 66 .
يسمع واشفع تشفع وسل تعط قال فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة ) . وساق تمام الحديث رواه البخاري (1) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( : ( هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا : لا . قال : فكذلك لا تضامون في رؤية ربكم يوم القيامة ) رواه ابن ماجة (2) .(1/41)
وأخرج ابن خزيمة (3) بسنده عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله ( : ( إنكم تُعاينون الله عزوجل يوم القيامة عيانا ) .
وعن عبد الله بن عكيم قال : سمعت ابن مسعود بدأنا باليمين قبل الحديث فقال : ( والله إن منكم من أحد إلا سيخلوا الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر أو قال ليلته يقول يا ابن آدم ما غرك ابن آدم ما غرم ابن آدم ما عمِلت فيما عَلمْتَ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين .. ) رواه ابن خزيمة (4) .
وعن وكيع عن حدس عن عمه أبي رزين قال : قلت يارسول الله أترى الله يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال : ( يا أبا رزين ، أليس كلكم يرى القمر مخليا به قال ، قلت : بلى . قال : فالله أعظم وذلك آية في خلقه ) .. رواه ابن ماجة (5) .
______________
1_ 8 / 183 .
2_ في سننه 1 / 63 .
3_ صحيحه 1 / 113 .
4_ كتاب التوحيد 171 طبع دار الفكر مع تعليق محمد خليل هراس .
5_ في كتاب التوحيد 171 .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يارسول الله هل نرى ربنا قال : ( ألستم ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته قالوا : بلى , قال : والله لتبصرنه كما ترون القمر ليلة البدر لاتضارون في رؤيته ) _ يعني تزدحمون : رواه ابن خزيمة (1) .
فالتعبير بالإبصار دليل واضح على أنها رؤية عين وليست نوعا من العلم كما يزعم من يسميهم الجهلة محققين (2) فإنا لله وإنا إليه راجعون .
______________
1_ في سننه 1 / 64 .
2_ في كتاب التوحيد / 171 .
خاتمة الكتاب
أقول وبالله التوفيق ومنه الإعانة .(1/42)
إن خلاصة بحثنا هذا أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق وأنها أفضل اللذات وأكمل النعيم الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة والرضوان وأنها أحق ما يصدق عليه قوله تعالى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1) وقوله عزوجل في الحديث القدسي الذي رواه عنه رسول الله ( : ( أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) (2) :
قال ابن القيم (3) رحمه الله تعالى :
ويرونه سبحانه من فوقهم هذا تواتر عن رسول الله لا وأتى به القرآن تصريحا وتعريضا وهي الزيادة قد أتت في يونس وهو المزيد لذاك فسره أبو وعليه أصحاب الرسول وتابعو ولقد أتى ذكر اللقاء لربنا الر ولقاؤه إذ ذاك رؤيته حكى وعليه أصحاب الحديث جميعهم .
نظر العيان كما يرى القمران ينكره إلا فاسد الإيمان هما بسياقه نوعان تفسير من قد جاء بالقرآن بكر هو الصديق ذو الإيقان هم بعدهم تبعية الإحسان حمن في سور من الفرقان الإجماع فيه جماعة ببيان لغة وعرفا ليس يختلفان .
______________
1_ سورة السجدة / 17 .
2_ في كتاب التوحيد / 171 .
3_ كما في الكواشف عن معاني الواسطية / 347 .
هذا ويكفي أنه سبحانه وأعاد أيضا وصفها نظرا وذا وأتت أداة إلى لرفع الوهم من وإضافة لمحل رؤيتهم بذكـ .
وصف الوجوه بنظرة بجنان لاشك يفهم رؤية بعيان فكر كذاك ترقب الإنسان ـر الوجه إذ قامت به العينان .
فنسأل الله عزوجل أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم وأن يجعلنا ممن قال فيهم وهو أصدق القائلين :
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا }.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
والحمد لله رب العالمين .
************************
أشرف على هذا البحث القيم الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة خلد الله فضائلها(1/43)
إذ هو مقدم كمادة من مواد الدراسة في السنة الرابعة من كلية الشريعة
فجزى الله القائمين على هذه المؤسسة خير الجزاء آمين .
مراجع البحث
1_كتاب الله عزوجل .
2_ صحيح البخاري .
3_ صحيح مسلم .
4_ جامع الترمذي طبع السجالة .
5_ سنن ابن ماجة _ طبع دار احياء الكتب العربية .
6_ مسند الإمام أحمد طبع المكتب الإسلامي _ بيروت سنة 1381 هـ .
7_ الترغيب والترهيب للحافظ أبي محمد _ الطبعة الأولى بمطبعة السعادة .
8_ تفسير ابن جرير الطبري _ الطبعة الثانية سنة 1373 بمصر .
9_ التفسير الكبير للفخر الرازي _ طبع بالمطبعة البيهية المصرية
سنة 1375 هـ .
10_ تفسير أبي عبد الله القرطبي _ مصور عن طبع دار الكتب .
11_ زاد المسير في علم التفسير لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي طبع المكتب
الإسلامي في دمشق سنة 1385 هـ .
12_ تفسير أبي السعود بتحقيق عبد القادر عطاء _ طبع السعادة .
13_ تفسير ابن كثير _ طبع دار احياء الكتب العربية بمصر .
14_ فتح القدير للشوكاني _ طبع مصطفى البابي الحلبي _ الطبعة الثانية سنة
1383هـ .
15_ الكشاف للزمخشري مع الانصاف لأحمد الإسكندري _ الطبعة الأخيرة سنة
1385 بمصر .
16_ فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني _ المطبعة السلفية .
17_ شرح مسلم للنووي _ طبع دار الفكر ، الطبعة الثانية 1392 هـ .
18_ مجموع فتاوى لشيخ الاسلام ابن تيمية الطبعة الأولى في الرياض
سنة1381هـ .
19_ شرح الطحاوية مع التوضيح للالباني _ الطبعة الثانية سنة 1393
بدار الفكر .
20_ كتاب التوحيد لابن خزيمة بتعليق محمد خليل هراس الطبعة الثانية سنة
1392 هـ .
21_ التدمرية لابن تيمية .
22_ الكواشف الجلية عن معاني الواسطية _ الطبعة الثانية سنة 1390 هـ بدار
السعادة .
23_ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لشمس الدين أبي عبد الله بن قيم الجوزية
طبع دار الكتب العلمية ببيروت .
24_ الابانة عن أصول الديانة لأبي الحسن الأشعري من مطبوعات الجامعة(1/44)
الاسلامية بالمدينة .
25_ حاشية العطار على جمع الجوامع لابن السبكي طبع مصطفى محمد بمصر .
26_ الملل والنحل للشهرستاني _ طبع مصطفى البابي الحلبي بتحقيق محمد سيد
كيلان .
27_ شرح الأشموني على ألفية ابن مالك مع حاشية الصبان _ طبع دار احياء
الكتب العربية .
28_ حاشية الخصري على شرح ابن عقيل _ الطبعة الأخيرة سنة 1359 هـ .
29_ مغني اللبيب .
30_ القطر لابن هشام .
31_ القاموس المحيط للفيوز أبادي _ طبع المؤسسة العربية ، بيروت .
??
??
??
??
13(1/45)