سلسلة التنبيهات العلمية
_ 2 _
عذب الغدير
في بيان التأويلات
في كتاب
فتح القدير
للشوكاني – رحمه الله -
د. محمد بن عبد الرحمن الخميس – حفظه الله -
أخوكم في الله : أبوخطاب العوضي
ahalalquran@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ )(1) وقال أيضا: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِياً)(2) و قال أيضا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )(3)
أما بعد :
فان أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
__________
(1) سورة آل عمران الآية ( 102)
(2) سورة النساء الآية ( 1 )
(3) سورة الأحزاب الآية ( 70 – 71 )(1/1)
أما بعد: فإن كتاب التفسير الشهير الموسوم بـ(فتح القدير الجامع بين فني الدراية والرواية من علم التفسير ) للإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني- رحمه الله تعالى- هو من التفاسير الشائعة بين طلبة العلم ، وهو من الكتب المقرر دراستها في بعض الكليات الشرعية، وهو تفسير عظيم النفع من كل ناحية ، ويجد فيه الباحث وطالب العلم بغيته ومراده في الغالب ، حيث إن مؤلفه - رحمه الله - مجتهد اجتهاداً مطلقاً ، متبحر في كافة العلوم الشرعية ، ويعتبر تفسيره هذا أصلاً من أصول التفسير ، ومرجعاً مهماً من مراجعه ، فهو تفسير جامع بين التفسير بالدراية والتفسير بالرواية، وقد أحسن حيث فسر بالدراية، وتوسع حيث فسر بالرواية وأما عن طريقته في تفسيره هذا فقد بينها حيث قال : ( ... ووطنت النفس على سلوك طريقة هي بالقبول عند الفحول حقيقة... إلى أن قال : إن غالب المفسرين تفرقوا فريقين ، وسلكوا طريقين : الفريق الأول اقتصروا في تفاسيرهم على مجرد الرواية وقنعوا برفع هذه الراية ، والفريق الآخر جردوا أنظارهم إلى ما تقتضيه اللغة العربية ، وما تفيده العلوم الآلية ، ولم يرفعوا إلى الرواية رأسا، وان جاءوا بها لم يصححوا لها أساسا ، وكلا الفريقين قد أصاب ، و أطال و أطاب ... إلى أن قال : وبهذا تعرف أنه لابد من الجمع بين الأمرين ، وعدم الاقتصاد على مسلك أحد الفريقين ، وهذا هو المقصد الذي وطنت النفس عليه ، والمسلك الذي عزمت على سلوكه أن شاء الله مع تعرضي للترجيح بين التفاسير المتعارضة مهما أمكن واتضح لي وجهه ، واخذي من بيان المعنى العربي والأعرابي والبياني بأوفر نصيب ، والحرص على إيراد ما ثبت من التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو الأئمة المعتبرين..... إلى أن قال : فهذا التفسير وإن كبر حجمه ، فقد كثر علمه ، وتوفر من التحقيق قسمه و أصاب غرض الحق سهمه ، واشتمل على ما في كتب التفسير من بدائع(1/2)
الفوائد ، مع زوائد فوائد ، وقواعد شوادر ..فإن أحببت أن تعتبر صحة هذا ، فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة، انظر تفاسير المعتمدين على الدراية ، ثم انظر في هذا التفسير بعد النظرين ، فعند ذلك يفسر الصبح لذي عينين ، ويتبين لك أن هذا الكتاب هو لب اللباب وعجب العجاب، وذخيرة الطلاب ، ونهاية مآرب الألباب، وقد سميته " فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير " مستمداً من الله سبحانه وتعالى بلوغ الغاية ....)(1)
__________
(1) فتح القدير ( 1/12-13 )(1/3)
فهذا يوضح منهجه في تفسيره وهو الجمع بين الرواية وبين التفسير من خلال اللغة وغيرها بعيدا عن الرأي المنهي عنه وهذا ما يرفع ويعلي من قيمته هذا التفسير في بابه ، وغير أن الكمال لله وحده سبحانه فقد وقع في هذا التفسير زلات و هنات ، فيما يتعلق بتأويل بعض الصفات ، وقد رأيت من واجبي تنبيه طلبة العلم إليها ، ذلك مع العلم بأن المؤلف في كتبه الأخرى ، قد أثنى على طريقة السلف في الإثبات ، وحصر الحق فيها، وانتقد المتأولين في الصفات ، فمن ذلك قوله في كتاب " التحف في مذاهب السلف" : ( من جملة الصفات التي أمرها السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القران والسنة ، من دون كلف ولا تأويل ، صفة الاستواء الذي ذكرها السائل ، يقولون نحن نثبت ما أثبت الله لنفسه من استواء على عرشه على هيئته لا يعلمها إلا هو ، وكيفية لا يدري بها سواء ، ولا نكلف أنفسنا غير هذا ، فليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ... إلى أن قال : والحق ما عرفناك من مذهب السلف الصالح ، فالاستواء على العرش و الكون في تلك الجهة قد صرح به القران الكريم في مواطن يكثر حصرها ، ويطول نشرها ، كذلك صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد الناس في نسفه ، و يحسه في فطرته ، وتجذبه إليه طبيعته كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه والتجأ إليه ، ووجه أدعيته إلى جنابه الرفيع ، فانه يشير عند ذلك بكفه ، ويرمي إلى السماء بطرفه )(1).
__________
(1) التحف في مذهب السلف ( ص11-12)(1/4)
فانظر إلى قوله: ( والحق ما عرفناك من مذهب السلف الصالح ) فإنه صريح في أن ذلك مذهبه ، ومما يوضح كذلك أن مذهبه مذهب السلف رده على المعتزلة والمعطلة وغيرهم ممن نفى رؤية الله تعالى في الآخرة ، فقد ندد بهم و أنكر عليهم إنكاراً شديداً ، وحكم بجهلهم وضلالهم في نفيهم لرؤية الله في الآخرة ، وذلك في تفسيره للآية (55) من سورة البقرة عن قوله تعالى ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) وانظر كلامه بتمامه (1/87) حيث قال : ( وقد توارت الأحاديث الصحيحة بان العباد يرون ربهم في الآخرة ، وهي قطعية الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا أن العقل قد حكم بها ، دعوى مبنية على شفا جرف هارٍ ، وقواعد لا يغتر بها إلا من لم يحظ من العلم النافع بنصيب ، وسيأتيك أن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية ، وكلها خارج عن موضوع النزاع بعيد من موضوع الحجة، وليس هذا موضع المقال في هذه المسالة ) أ. هـ . وقد كان رحمه الله رجاعاً إلى الحق ، بعيداً عن التعصب ، فهذا اجتهاده ، وان كان قد أخطأ في مواضع ، لكنه أحسن في أكثر منها ، ومادام رجاعاً إلى الحق فإننا نقول رحمه الله ثم رحمه الله على ما أسداه للإسلام من خدمات جليلة في مجال نشر العلم الشرعي في الفروع المختلفة ، وقضائه بين الناس بما انزل الله تعالى ، وعلى صدعه بالحق لا يخاف في الله لومة لائم .(1/5)
ومما وقع للشوكاني رحمه الله في تفسيره من الزلات ، ونقله لبعض الروايات الموضوعة والضعيفة التي وضعها طوائف من الشيعة و الإمامية لنصره ما ذهبوا إليه من الباطل المخالف لما كان عليه السلف فان السلف يثبتون الإمامة لأبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعا ، وهذا من أصول اعتقادهم التي نقلوها في كتبهم، وادعت الشيعة أن علياً أحق بالإمامة وإن الشيخين قد اغتصباها منه ، وان الأمة كتمت نصوصا تدل على أحقيته فيها ، وقد أورد الشوكاني بعض هذه الروايات الموضوعة دون أن ينبه عليها، ونحن نربأ به أن يكون مورداً لنصوص تؤيد ما ذهبت إليه الشيعة ، عمدا منه، ولكن فاته التنبيه عليها ، فمنها :
1 _ ذكر ضمن ما ذكر من الروايات عن ابن عباس إنه قال : تصدق علي بخاتم وهو راكع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل: من أعطاك هذا الخاتم ؟ قال : ذلك الراكع . فأنزل الله فيه ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ )(1) ومر الشوكاني على هذه الرواية الموضوعة باتفاق أهل العلم فلم ينبه عليها(2) .
2 _ أورد الشوكاني كذلك(3) في تفسير الآية (67) من سورة المائدة قال : ( واخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك... "(4) على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غد يرخم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) . ولم يبين الشوكاني عدم صحة هذه الرواية بل أوردها كما رأيت وسكت عنها.
__________
(1) المائدة الآية ( 55 )
(2) انظر : فتح القدير ( 2/53 )
(3) انظر : فتح القدير ( 2/60 )
(4) المائدة الآية 67(1/6)
3 _ و أورد كذلك(1) عقب كلامه السابق رواية أخرى قال فيها : ( وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك أن عليا مولى المؤمنين وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " ) وسكت عن هذه الرواية كذلك .
وكان الواجب عليه بيان حالها ، لأن مسائل الإمامة هي من مسائل الأصول عند السلف وليس معنى ذلك أنها من مسائل أصول الإيمان كأركانه الستة مثلا، ولكن لما ضلت طوائف الشيعة والرافضة في هذا الباب ، واكثروا فيه الابتداع نص العلماء فيما نصوا عليه من مسائل الأصول التي أوردوها في كتب العقيدة ، نصوا على هذه المسألة حتى يغلقوا باب الفتنة والابتداع في الدين، والافتراء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورميهم بما هم براء منه.
__________
(1) انظر: فتح القدير ( 2/60 )(1/7)
هذا ومما يؤسف له وجود تيار بين بعض الناشئة ممن لم ينالوا قسطا وافرا من إلمام بالعلوم الشرعية ، وبما هو لائق بأهل العلم العاملين من الإكرام والإنصاف ، لذا تراهم يعرضون عن قراءة كتاب (فتح الباري بشرح صحيح البخاري ) لابن حجر العسقلاني، وكتاب ( شرح صحيح مسلم ) للنووي، وكتاب ( فتح القدير ) للشوكاني ، وهذا منهم جهل وقصور ، فإنهم لم يبلغوا عشر معاشر هؤلاء في العلم والورع والصدع بالحق والزهد في الدنيا والعمل بعملهم وما وقع من هنات(1) فإنه قطرات قليلة في بحر صوابهم وحسناتهم الزاخرة، فلله درهم على ما قدموا للإسلام، وعلى ما نشروا من علومه ، وعلى ما نوروه من قلوب مظلمة بفضل الله تعالى ، ونصيحتي لهؤلاء أن يقفوا من هؤلاء العلماء موقف المنصف ، وأن يكفوا ألسنتهم عن الوقوع فيهم، فإنهم بين يدي الله تعالى، ويخشى على من وقع فيهم أن يكون ممن يأكلون لحوم العلماء المسمومة وأن ينظروا إلى ما ألقى الله لهم ولكتبهم من القبول والذيوع بين الناس ، فهذه والله بشارة خير لهم ، وإن كان ثمة أخطاء فيجب أ تبين ولكن بهدوء وأدب ، ودون الخوض فيهم و التنقص لهم.
وأخيرا فلا أدعي أني قد وفيت الموضوع حقه ، وما أتيت به فإنه أمثلة لهنات وزلات وقع فيها المؤلف رحمه الله في تفسيره ( فتح القدير ) وصدق الله : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل .
د. محمد بن عبد الرحمن الخميس
__________
(1) لان أي شخص من أهل السنة صاحب منهج صحيح إذا زل في أمر جزئي لا يكون حكمه حكم مبتدع فاسد المنهج ، لأن خطأ الأول خطأ جزئي، وخطأ الثاني خطأ منهج مذهبي . ولذلك ترى شيخ الإسلام لا ينهى عن قراءة شرح صحيح مسلم للنووي ونحوه كما هو في كتب الفلاسفة والمعتزلة والماتريدية والأشعرية لأن شرح صحيح مسلم للنووي على طريقة المحدثين ونهجهم على ما وقع فيه من هنات وزلات .(1/8)
جاء في تفسير فتح القدير للإمام المجتهد العلامة قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي بن محمد الشوكاني تأويل بعض الصفات على خلاف الظاهر وعلى خلاف منهج السلف وإليك الأمثلة على ذلك:
*المثال الأول :
الآية رقم (7) من سورة الفاتحة , قول الله تعالى : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ )
فقد فسر الغضب (1) بلازم معناها وأثرها وهي العقوبة وهذا تعطيل لهذه الصفة قال الإمام أبو حنيفة : ( ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوابه )(2) وقال ابن جرير في تفسير هذه الآية: ( من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق، فقد سلم من غضب ربه... )(3) .
*المثال الثاني :
الآية (15) من سورة البقرة قوله تعالى: ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ).
فقد ذكر الشوكاني أن استهزاء الله بالمنافقين على سبيل المشاكلة(4) وهذا فيه نظر فإن معنى ذلك نفي صفة استهزاء الله بالمنافقين والصواب إثبات صفة استهزاء الله بالمنافقين على ما يليق به وليس كاستهزاء المخلوقين ومن صور هذا الاستهزاء أنه تعالى يمد الظالم في ظلمه وفي طغيانه ويعطيه ما يشتهيه حتى يرد بعد ذلك إلى ما لم يكن يحتسب من الله ، ومن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والأحوال الخبيثة حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ومن استهزائه بهم يوم القيامة أن يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا فإذا مشى المؤمنون بنورهم طفئ نور المنافقين وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين(5) .
*المثال الثالث:
الآية (26) من سورة البقرة قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) .
__________
(1) فتح القدير ( 1/24 )
(2) الفقه الأبسط ص (56 )
(3) تفسير ابن جرير ( 1/108 )
(4) فتح القدير ( 1/44 )
(5) انظر : تفسير ابن جرير ( 1/214 )(1/9)
حمل الشوكاني الحياء على المشاكلة(1) والتمثيل وهذا فيه نظر، فقد قال ابن جرير ( إن الله جل ذكره أخبر عباده أنه يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ضربها للمنافقين دون الأمثال التي ضربها في سائر السور وغيرها )(2) وقال البغوي : ( أي : لا يترك ولا يمنعه الحياء أن يضرب مثلا يذكر )(3) . وقال ابن القيم : ( وهذا جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن و قالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ... فأجابهم الله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه وإبطال الباطل و إضحاده كان من أحسن الأشياء والحسن لا يستحيا منه فهذا جواب الاعتراض )(4) . وقال السعدي : ( أي مثل كان - بعوضة فما فوقها- لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق والله لا يستحي من الحق )(5)
*المثال الرابع:
الآية (31) من سورة آل عمران قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) .
فسر المؤلف(6) المحبة بالإنعام عليهم وبالغفران وهذا فيه نظر لأنه تفسير للملزوم باللازم ، والصواب ما عليه سلف هذه الأمة من إثبات صفة المحبة لله عز وجل على ما يليق بجلاله فالآية تبين محبة الله ورضوانه وثوابه لا تنال إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرها واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه(7) .
فالسلف يثبتون اللازم مع إثبات الملزوم، بخلاف الخلف فانهم يثبتون اللازم وينفون الملزوم ومن هنا يقعون في تعطيل الصفات وتحريف نصوصها.
*المثال الخامس:
__________
(1) فتح القدير ( 1/56 )
(2) تفسير ابن جرير ( 1/214 )
(3) معالم التنزيل ( 1/58 )
(4) بدائع الفوائد ( 4/136 )
(5) تفسير السعدي ( 1/65 )
(6) فتح القدير ( 1/333 )
(7) انظر : تفسير السعدي ( 1/374 )(1/10)
الآية (32) من سورة آل عمران قوله تعالى : ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) .
قال المصنف : ( نفي المحبة كناية عن البغض والسخط )(1) .
قلت : رحم الله المؤلف فقد ذكر عبارة توهم خلاف المقصود لأن (الكناية ) من مصطلحات المجازيين المؤولين مع أن هذه الآية ليس فيها كناية.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية : ( قل يا محمد لهؤلاء الوفد من نصارى نجران أطيعوا الله والرسول محمدا... فإن تولوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك وأعرضوا عنه فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر فجحد ما عرف من الحق وأنكر بعد علمه... )(2) ، ولعل مراد المفسر رحمه الله أن الله تعالى إذ لم يحبهم يلزم ذلك أنه يبغضهم ويسخطهم .
*المثال السادس :
الآية ( 169) من سورة آل عمران قال تعالى : ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .
فسر المؤلف(3) العندية بالكرامة وهذا فيه نظر لأنه يتضمن إبطال صفة العلو.
قال ابن جرير : ( الذين قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمواتا ) يقول : ولا تحسبنهم يا محمد أمواتا لا يحسون شيئا ولا يلتذون ولا يتنعمون فإنهم أحياء عندي متنعمون في رزقي فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي ... )(4) .
ولفظ ( عند ربهم ) يقتضي علو درجتهم وقربهم من ربهم(5) .
*المثال السابع:
الآية ( 15) من سورة المائدة قوله تعالى : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) .
__________
(1) فتح القدير ( 1/333 )
(2) تفسير ابن جرير ( 3/233 )
(3) فتح القدير ( 1/399 )
(4) تفسير ابن جرير ( 3/513 )
(5) تفسير ابن سعدي ( 4551 )(1/11)
قال المؤلف : ( أي بل هو في غاية ما يكون من الجود وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء فان نسبة الجود إلى اليدين ابلغ من نسبته إلى اليد الواحدة وقيل المراد بقوله : ( بل يداه مبسوطتان ) نعمة الدنيا الظاهرة ونعمتها الباطنة وقيل نعمة المطر والنبات )(1) .
قلت : لا شك أن الله سبحانه بسط فضله وجوده وإحسانه على عباده لكن المصنف رحمه الله تعالى أغفل إثبات صفة اليدين بل وصرفها عن حقيقتها وقد أجمع أهل السنة على القول بما تظافرت على إثبات النصوص من الكتاب والسنة من أن الله يدين على الكيفية اللائقة بجلاله ، والكيف مجهول والتثنية هنا إثبات لأنهما يدان وليست يدا واحدة وفي حديث الشفاعة الكبرى : ( يا آدم أما ترى الناس ؟ خلقك الله بيديه وأسجد لك ملائكته ) الحديث(2) . فيجب المصير إلى هذا القول وتفسير الآية على هذا المعنى، نعم الجود من لوازم إثبات صفة اليد لكن لا يجوز تفسير الآية باللازم وترك الملزوم ومن القواعد المقررة عند أهل السنة الإيمان بأسماء الله وصفاته و أحكام الصفات .
*المثال الثامن:
الآية (18) من سورة الأنعام قوله تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) .
قال المؤلف : ( معنى ( فوق عباده ) فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، لا فوقية المكان كما تقول: السلطان فوق رعيته : أي بالمنزلة والرفعة )(3) .
__________
(1) فتح القدير ( 2/57 ) , وانظر أيضاً ( 2/57 ) ( 5/48 )
(2) رواه البخاري في التفسير باب قول الله تعالى ( وعلم آدم الأسماء ) ( 4/1624 ) ، والرقاق باب صفة الجنة والنار ( 5/2401 ) ، والتوحيد باب قوله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) وباب ( كلم الله موسى تكليما ) ( 6/2730 ) من حديث أنس رضي الله عنه .
(3) فتح القدير ( 2/104 )(1/12)
قلت : لا شك أن الله فوق عباده بالقهر والغلبة عليهم فلا يتصرف منهم متصرف ولا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بمشيئته سبحانه وتعالى فهو المستحق وحده للخضوع والذل.
ولكن المصنف رحمه الله تعالى نفى علو الله على خلقه وهذا مخالف لما تظافرت على إثباته النصوص من الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية : ( والله الظاهر فوق عباده يعني بقوله ( القاهر ) المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم )(1) .
*المثال التاسع:
الآية (158) من سورة الأنعام قوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) .
قال المؤلف : ( - ( أو يأتي ربك ) يا محمد كما اقترحوا بقولهم ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) وقيل : معناه أو يأتي ربك بإهلاكهم وقيل المعنى : أو يأتي كل آيات ربك بدليل قوله ( أو يأتي بعض آيات ربك ) وقيل هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيرا كقوله ( واسأل القرية ) وقوله ( واشربوا في قلوبهم العجل ) أي حب العجل، وقيل إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله ( وجاء ربك والملك صفا صفا )- )(2)
__________
(1) تفسير ابن جرير ( 5/161 )
(2) فتح القدير ( 2/181 ) , وانظر أيضاً ( 1/210 )(1/13)
قلت رحم الله المصنف فقد جمع بين التعطيل والتفويض و الإثبات بذكر الأقوال المتضادة المتعارضة التي منها حق ومنها باطل فلحق قوله : ( يا محمد كما اقترحوا بقولهم – لولا انزل علينا الملائكة أو نرى ربنا- ) وكذا قوله الأخير ( وهو إتيان الله لفضل القضاء بين خلقه ) وهذا هو الحق الذي مضى عليه سلف الأمة , قال ابن جرير : ( يقول جل ثناؤه هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام ( إلا أن تأتيكم الملائكة) بالموت فتقبض أرواحهم أو أن يأتيهم ربك يا محمد بين خلقه في موقف القيامة )(1) , فالله يأتي لفصل القضاء بين العباد و مجازاة المحسنين والمسيئين .
أما قول المصنف : أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم فهذا من تأويل المعطلة حيث جعلوه على حذف المضاف على سيل ادعاء المجاز فيه، و أما قوله: هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فان أراد إن معنى الإتيان من المتشابه فهذا فيه نظر فمعناه محكم وليس من المتشابه وان أراد الكيفية فهذا حق الكيف مجهول فالحاصل أن معاني آيات الصفات من قبيل المحكمات الواضحات وليست من قبيل المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله .
*المثال العاشر :
الآية (9) من سورة الرعد قوله تعالى: ( الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ).
قال المؤلف: ( أي العظيم الذي كل شيء دون، المتعالي عما يقوله المشركون أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره )(2) .
قلت : هذا أحد معاني العلو الثابتة له سبحانه ، فهو المتعالي على كل شيء بقهره والمتعالي عن كل سوء ونقص بكماله ولكنه لم يذكر المعنى الآخر : وهو المتعالي بذاته فوق خلقه كأنه مشى على طريقة المتكلمين في تأويل صفة العلو بالقهر ، مع أن علو الله يشمل النوعين؛ فذكر علو القهر وترك علو الذات تعطيل بحت .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
وله العلو في الوجوه جميعا ... ذاتا وقهرا مع علو الشان
__________
(1) تفسير ابن جرير ( 5/404 )
(2) فتح القدير ( 3/68 ) , وانظر أيضاً ( 1/272 )( 5/288)(1/14)
لكن نفاة علوه سلبوه إكمال ... العلو فصار ذا نقصان
حاشاه من إفك النفاة وسلبهم ... فله الكمال المطلق الربان(1) .
*المثال الحادي عشر:
الآية (88) من سورة القصص قوله تعالى: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) .
قال المؤلف: ( أي إلا ذاته )(2) .
قلت: إن كان المؤلف يريد تأويل صفة الوجه بالذات وأن الكلام مبني على المجاز فهذا تعطيل واضح فالوجه من صفات الله الحقيقة التي تليق به سبحانه ولا شك أن الوجه يستلزم الذات .
فقول الله تعالى: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) معناه كل شيء هالك إلا وجهه تعالى أي يبقى وجهه تبارك وتعالى ولا يهلك فيلزم من بقاء وجهه بقاء ذاته فلا يجوز إرادة اللازم ونفي الملزوم فإذا وجد مثل كلام المؤلف في تفسير الآية عند أئمة السنة فهذا هو قصدهم فهم يثبتون ذات الله مع إثبات صفة الوجه بخلاف المعطلة فهم يريدون تأويل الوجه بالذات وقصدهم نفي الصفة.
*المثال الثاني عشر :
الآية (10) من سورة فاطر قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه) .
قال المؤلف: ( أي إلى الله يصعد لا إلى غيره ومعنى صعوده إليه قبوله له أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبون من الصحف ... )(3) .
قلت: غفر الله للمؤلف فليس معنى الصعود القبول بل معناه : أن الكلم الطيب من قراءة وتسبيح و تحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب يرفع إلى الله ويعرض عليه ويثنى على صاحبه بين الملأ الأعلى فهذه الآية من اعظم الحجج الدالة على إثبات صفة العلو عند أهل السنة أما المعطلة فانهم يؤولون صعود الكلم بلازم معناه وهو القبول فيجب مع إثبات اللازم إثبات الملزوم . والله اعلم
قال الإمام ابن القيم:
هذا وخامسها صعود كلامنا ... بالطيبات إليه و الإحسان
__________
(1) النونية مع شرحها ( 1/208 )
(2) فتح القدير ( 4/189 )
(3) فتح القدير ( 4/341 )(1/15)
وكذا صعود الباقيات الصالحات ... إليه من أعمال ذي الإيمان
وكذا صعود تصديق من طيب ... أيضا إليه عند كل أوان (1) .
*المثال الثالث عشر :
الآية (1) من سورة الملك قوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ... ) .
قال المؤلف : ( اليد مجاز عن القدرة والاستيلاء )(2) .
قلت : غفر الله للمؤلف فهذا تعطيل واضح وعدول عن ظاهر اللفظ وخلاف لما فهمه السلف.
قال ابن جرير: ( الذي بيده الملك : بيده ملك الدنيا و الآخرة وسلطانهما ، نافذ فيهما أمره وقضاؤه)(3) .
فلا ينبغي تغيير صفة بأخرى لأن القدرة غير اليد ، و الأدلة على تغايرهما كثيرة جداً من القران والسنة واللغة ، ومن القواعد المقررة والمتفق عليها بين سلف الأمة و أئمتها الإيمان بأسماء الله وصفاته و أحكام الصفات.
*المثال الرابع عشر :
الآية (16) من سورة الملك قوله تعالى: ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ) .
قال المؤلف : ( قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته )(4) .
قلت : غفر الله للمؤلف فقد عطل صفة العلو لله وعدل عن ظاهر اللفظ.
ثم حمله على القدرة والسلطان ينافي سياق هذه الآية من ناحية اللغة لان كلمة ( من ) لذوي العقول والقدرة والسلطان والملك ليس من ذوي العقول فلو كان المراد القدرة والملك لكان المناسب أن يقول : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) بدلا من ( من ) .
__________
(1) النونية مع شرحها ( 1/216 )
(2) فتح القدير ( 5/258 )
(3) تفسير ابن جرير ( 12/164 )
(4) فتح القدير ( 5/262 )(1/16)
وكلمة ( في ) في هذه الآية بمعنى كلمة ( على ) ؛ فالمعنى : أن الله تعالى على السماء ؛ أي فوق سمواته على عرشه. أو كلمة ( السماء ) بمعنى جهة الفوق والعلو ؛ فالمعنى : أن الله تعالى في جهة العلو ؛ أي أن الله تعالى فوق خلقه عال على عرشه؛ وجهة العلو على هذا أمر عدمي، فلا يلزم في هذا كون الله تعالى في شيء مخلوق ، فان الله تعالى بائن من خلقه ليس هو في شيء من خلقه ، وهذه الآية من أعظم الحجج القاطعة الدالة على علو الله تعالى على خلقه عند أئمة السنة قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
هذا وتاسعها النصوص بأنه... فوق السماء وذا بلا حسبان
إذ اجمع السلف الكرام بان معناها ... كمعنى الفوق بالبرهان
أو أن لفظ سمائه يعني به ... نفس العلو المطلق الحقاني
والرب فيه وليس يحصره في المخلوق ... شيء عز ذو سلطان .
كل الجهات بأسرها عديمة ... في حقه فوقها ببيان(1) .
*المثال الخامس عشر :
الآية (42) من سورة القلم في قوله تعالى : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) .
لقد ساق الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره الساق أقوال الناس بان المراد شدة الأمر والهول وذكر في الاستشهاد عدة أشعار للعرب، ثم قال : ( و سيأتي في آخر البحث ما هو الحق ، و إذا جاء نهر الله بطل نهر العقل ) ثم ساق حديث الساق المتفق عليه ثم قال: ( وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عرفت ، وذلك لا يستلزم تجسيما ولا تشبيها فليس كمثله شيء.
دعوا كل قول عنه قول محمد ... فما أمن في دينه كمخاطر )(2) .
قلت : التحقيق أن الساق في هذه الآية تحتمل معنيين :
__________
(1) النونية مع شرحها ( 1/222 )
(2) فتح القدير ( 4/275-278 )(1/17)
الأول : أن يكون المراد شدة الهول ما فسر بذلك ابن عباس وغيره من المفسرين . فعلى هذا لا تكون هذه الآية من آيات الصفات. فلا يلزم من تفسير الساق بشدة الهول تأويل الصفات ويكون إثبات ( الساق ) بالسنة لا بهذه الآية.
والثاني : أن المراد من الساق ساق الله تعالى كما ورد في الحديث الصحيح فعلى هذا تكون هذه الآية في جملة آيات الصفات فلا يجوز تأويل الساق بشدة الهول والأمر.
ولا منافات بين القولين ، فالله يكشف عن ساقه يوم شدة الهول وهذا خلاف قول المعطلة الذين ينفون صفة الساق ولا يثبتونها لا بالقران ولا بالسنة، بل حملوا الآية والحديث على شدة الأمر ، وهذا وان كان محتملا في الآية لكنه لا يحتمل في تفسير الحديث، لورود الساق مضافة إلى الضمير العائد على الله تعالى(1) .
ولا شك في أن القول الثاني أظهر وارجح في تفسير الآية ،و أولى بان تفسر الآية به، لما ورد فيه من الحديث السابق كما عرفت.
و يا ليت المؤلف رحمه الله قرر الحق في أول كلامه لئلا يقع القارئ في اضطراب ووهم .
*المثال السادس عشر:
الآية (1) من سورة الأعلى قوله تعالى: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) .
ذكر المؤلف رحمه الله ما كان لازما لصفة(2) العلو فقط والأعلى اسم من أسماء الله تعالى يشتمل على إثبات صفة العلو لله تعالى ومعناه الأعلى من كل شيء ، فهو افعل تفضيل دال على علوه تعالى بكل معاني العلو فهو الأعلى قدرا ومنزلة، وهو الأعلى بالقهر والغلبة، وهو الأعلى بذاته فوق كل شيء.
قال الحافظ الحكمي:
الأحد الفرد القدير الأزلي ... الصمد البر المهيمن العلي
علو قهر وعلو الشان ... جل عن الأضداد و الأعوان
كذا له العلو والفوقية ... على عباده بلا كيفية
ومع ذا مطلع إليهمو ... بعلمه مهيمن عليهم
وذكره للقرب والمعية ... لم ينف للعلو والفوقية
__________
(1) انظر : تفسير ابن جرير ( 12/197 , وتفسير ابن كثير ( 7/90-91 )
(2) فتح القدير ( 5/423 )(1/18)
فانه العلي في دنوه ... وهو القريب جل في علوه(1) .
*المثال السابع عشر :
الآية (22) من سورة الفجر قوله تعالى ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ) .
حمل المؤلف (2) رحمه الله تعالى هذه الآية على المجاز على طريقة حذف المضاف أي جاء أمره وهو باطل وخلاف لظاهر النص وعدول عنه إلى معنى آخر وخلاف لما فهمه السلف من الآية ومسايرة للجهمية و أفراخهم الماتريدية والأشعرية.
قال ابن جرير رحمه الله : ( يقول تعالى ذكره: وإذا جاء ربك يا محمد و أملاكه صفوفا ، صفا بعد صف )(2(3).
فالمجيء صفة من صفات الله على الحقيقة على ما هو لائق بالله بلا معرفة الكيف، ومن الدلائل على بطلان تأويل المجيء بالأمر أن الملائكة من أمر الله فلا معنى لمجيء الأمر مع التصريح بمجيء الملائكة لأن يكون ذكرا للملائكة بلا فائدة.
*المثال الثامن عشر :
الآية (15) من سورة العلق قوله تعالى : ( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ).
فسر المؤلف (4) رحمه الله تعالى الرؤية بالعلم وهذا فيه نظر لان العلم من لوازم الرؤية لكن الرؤية غير العلم.
قال ابن جرير في تفسيره هذه الآية: ( يقول تعالى ذكره: ألم يعلم أبو جهل إذ ينهى محمدا عن عبادة ربه والصلاة بأن الله يراه فيخاف سطوته وعقابه )(5).
ففي الآية إثبات صريح لصفة الرؤية لله تعالى بلا كيف.
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبعد :
فهذا ما أردت التنبيه إليه مما وقع فيه الشوكاني رحمه الله تعالى في (فتح القدير ) ولم أقصد الاستيعاب وليس سوقي لهذه الأخطاء انتقاصا لهذا التفسير العظيم أو هضما لحقه أو محاكمة لشخص المؤلف الإمام رحمه الله تعالى وهو بين يدي ربه عز وجل .
__________
(1) معارج القبول ( 1/136 )
(2) فتح القدير ( 5/440 )
(3) تفسير ابن جرير ( 12/576 )
(4) فتح القدير ( 5/469 )
(5) تفسير ابن جرير ( 12/648 )(1/19)
و إنما هي أمور رأيت من اللازم علي شرعا أن انبه عليها والفت أنظار طلبة العلم إليها حتى يكونوا على بينة من أمر دينهم ، والله أسال القبول وان يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي يوم ألقاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(1/20)