صَوَارِمُ اليَقٍيْن
لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدين
( رد على الزيدية في تشكيكهم في السنة النبوية وحملتها )
تأليف
العلامة يحيى بن الحسين بن المنصور بالله
ت ( 1100هـ )
اعتنى به
علي بن محمد العمران
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله الذي بيَّن الأحكام، وهدى بشرعه الإسلام، وأوجب على الكافة الاهتداء بقوله رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، فقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر:7]، وقال تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3،4].
أما بعد؛ فإن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري أنشأ رسالة في تعجبه من علماء الزيدية، حيث كان منهم من يعتمد على الأحاديث النبوية في كتب حفاظ السنة الشرعية، فتوجه الجواب عليه بالحق الذي لا مزيد فيه، وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ } [المائدة:8].
* * *
قال: " فإني أكثر التعجب ... " إلى آخره .
أقول: التعجب إنما يكون من الغريب النادر الشاذ، وأنت خالفت علماء الإسلام، فالتعجب من قولك أجدر.
قوله: " ما ذاك إلا لإرادة الله تعالى ".
أقول: وافق القاضي في الإرادة السلف.(1/1)
قوله:" فإذا كان المقصود هو الاعتقاد، مقتضى تلك الأدلة والعلم به زاغ عنها، وتبرَّى منها، ونسي ما كان فيها، وأعانهم على ذلك كثير من أصحابنا، بتكثير سوادهم، واعتقاد اعتقادهم، وما يتوهمه كثير منهم من أن صناعة علم الحديث وقوانينه وقواعده إنما عنى بها محدثوا الفقهاء دون أهل البيت -رضي الله عنهم أجمعين وشيعتهم- حين رأوا من المحدثين قعقعة من غير مطر، وجعجعة من دون / طِحْن، من غير تأمل لتلك القواعد، وشدة الخلاف من شيوخهم.
ومن أعظم ما يتطاولون به القدح بالإرسال، أو عدم نقد الرجال؛ فإن علوم الحديث التي هي عندهم أصوله، وكتب الجرح والتعديل التي هي قاعدته لا يُرى فيها من المشايخ في تلك المقالات-التي يزعمونها-مسند إلا الشاذ الشارد، والقليل البارد.
وما لزم غيرهم فيما أصَّلْت له لزم فيها لا اختصاص لبعض – بالشرط دون بعض...
حتى قال: ولم ينصف الفقيه العلامة محمد بن يحيى بهران بما ذكر في ديباجة كتابه تخريج " البحر" الذي سمَّاه: "جواهر الأخبار" من قوله: "وقد آثرت رواية الكتب الستة على غيرها من كتب الأحاديث كجامع الأصول" .
ثم قال: وما شأن "جامع الأصول" إلا مثل "الانتصار"، و "الشفا"، وما التفرقة بين ذلك إلا أنهم يقولون: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وهؤلاء يقولون: " قال البخاري " !
فإن قالوا: قد عرف أن لها طرقاً مسندة. قلنا: كذلك " أصول الأحكام"، و "الشفا" و"الانتصار" إليها طرق مسنده، وهم قد أسندوا.
وأما "أصول الأحكام"، فقد ذكر أصولها كلها بأسانيد "شرح التجريد"، وهو مختصر منه، فهذا أشد شرطاً من البخاري ومسلم.
وأما "الشفا"، فقد صرح بأنه ما روى إلا ما صحت أسانيدها، وأما "الانتصار" فصرح الإمام شرف الدين بطرقه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – عليه السلام-.
ومع ذلك فإن معلقات البخاري معروفة.(1/2)
ثم قال: وإن كان المرجع إلى الرجال؛ ففي كلٍّ من رجال الفريقين أقوال منها الحق ومنها الباطل، فقال يحيى بن معين في الشافعي: ليس بثقة، وأن أبا زرعه ضعف البخاري، وقالوا في مالك: روى عن جماعة يتكلم فيهم، وأن صاحب "الميزان" وغيره قد ضعف كثيراً من رجال البخاري ومسلم.
ثم قال: وهم لا يرتابون في القبول ولا الرد؛ لصحة المعنى وبطلانه، ولذلك صححوا أحاديث الجبر والتشبيه ونحوها مما يصادم كتاب الله تعالى في صريح القول.
أقول: إن في هذا ما لا يخفى من التساهل؛ إذ أهل الحديث من المسلمين وليس ما رووه يحل رده جميعاً، إذ الواجب على كل مكلف الإنصاف من نفسه، ولا يحابي في دينه، بل الواجب قبول ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل حال، قال الله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ويقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63].
ولا شك ولا ريب أن أكثر السنة في الأحكام وغيرها دائرة على المحدثين بالضرورة، ولو قلنا بمقالة القاضي بن سعد الدين للزم تعطيل الأحكام الشرعية بالمرة –والعياذ بالله– ولأدى ذلك إلى رد الأخبار الصحيحة المشهورة والمتواترة، وهذا لا يقول به من له أدنى بصيرةٍ وإنصاف من نفسه، فالحق أحق أن يتبع، والله عند لسان كل قائل.
إن قيل: إن قد نقم السيد الهادي ابن إبراهيم الوزير بأشياء توافق القاضي صاحب هذه الرسالة، وذلك في كتاب السيد: " إزهاق التمويه" حيث قال، أول كتابه:
ومجتهد في ذم قوم أكارم
وقال: يقولون لا فضل لعلي فوق غيره.
وقال:
وإن ذكروا يوم الغدير تأولوا
وقال: وهم أنكروا حصر الإمامة في بني البتول.
وقال: وهم أبطلوا الإجماع من آل محمد.
وقال: وهم أنكروا لعن ابن هند وسبه.
وقال: وهم أنكروا إسناد يحيى وقاسم.(1/3)
هذا مضمون ما اشتملت عليه رسالته فشرح هذا وبين أقواله وليس هذا لجميع العلماء بل هم مختلفون وأكثر الزيدية، وبعض المعتزلة، وبعض أهل الحديث، والسلف يفضلون علياً من غير رفض للمشايخ، وبعضهم يتوقف في التفضيل، وأما تأويل حديث الغدير فهو ظاهر عند جميع العلماء من المعتزلة والأشعرية والأكثر من الزيدية، ولكن دلالته خفية غير جلية، لأن لفظ "المولى" له وجوه كثيرة نحو ستة عشر وجهاً، فالمعتزلة، والأشعرية بنو على مقتضى التأويل، والزيدية بنو على أنه يقتضي أن النص خفي لاحتماله فلا قطع في دلالته كما حققه الإمام المهدي في "الغايات" وغيره وأما إنكار حصر الإمامة، فهو للمعتزلة والصالحية، والحرورية، والأشعرية، فهؤلاء قالوا: الإمامة في جميع قريش، وإن أهل البيت أولى وأحق، واستند الصالحية، والحروية، من الزيدية وغيرهم إلى نص لزيد بن علي في مجموعه الكبير بمثل ذلك لما سأله أبو خالد الواسطي عن منصب الإمامة؟ فقال: هي في جميع قريش إذا كان برَّاً تقيَّاً عالماً فلا شك أن المسألة خلافية بين الناس، وأما إبطال إجماع آل محمد فالخلاف –أيضاً– والإمام يحيى والإمام المهدي بنو أن دلالة الإجماع من حيث هي ظنية لإحتمال أدلته وأن الحجة إنما هي في الكتاب والسنة وهو ظاهر قول الهادي أيضاً أول المنتخب.
وأما لعن ابن هند فعند العلماء كافة أنه لا يجب اللعن ولا تعبد المسلمون به، وعند كثير من العلماء أنه لا يجوز لعن المسلم المعين لمعصية لجواز حسن خاتمته بالتوبة أو نحوها، واللعن إنما هو لغير المعين كما قال تعالى: { أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [هود:18]، ومما يدل على ذلك قوله تعالى:
{(1/4)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [آل عمران:128]، فإنها نزلت في الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلعنهم في قنوت الصلاة فامتنع - صلى الله عليه وسلم - وتركه فإذا كان هذا في الكفار فأولى في المسلمين. وقال تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة:134].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموه). وأما إنكار إسناد يحيى وقاسم فلم ينكره أحد أصلاً بل إذا جاء مسنداً من طريقهم عمل به على الرأس والعين، وإنما أنكر المنكر المقاطيع والمراسيل بغير إسناد؛ إذ شرط الحديث الإسناد كما قرره المؤيد بالله وغيره من أهل الحديث لتزول الجهالة عن الراوي؛ لأن رواية المجهول لا تصح، وقد رجع السيد الهادي عن ذلك فإنه بعد أن رحل إلى مكة المشرفة فأسمع "جامع الأصول" على أن ضهيره وغيره، فلما عرف الحديث وطرقه وشروطه وعلومه رجع عن هذه الرسالة وحسن ظنه بالصحابة كما صرح به في كتاب آخر له.
وقوله: أعانه على ذلك كثير من أصحابنا.. إلى آخره .
أقول: ذلك منهم كان تبعاً للدليل، ومراعاة للإنصاف، وعدم العصبية، وليس من اتبع السنة والنبي - صلى الله عليه وسلم - مبتدعاً إنما المبتدع الذي رد السنة النبوية فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي قوله: كثير من أصحابنا حجة عليه بأن أكثر الزيدية متبعون للسنة والحديث من الكتب المرونة، وأنه خالف أكثرهم، وخالف علماء الإسلام أجمع، وإنما يمنع الاحتجاج بالسنة النبوية الخوارج.
وقوله: وما يتوهمه كثير منهم من أن صناعة الحديث وقوانينه إنما عنى به محدثو الفقهاء ومن أهل البيت إلى آخره.(1/5)
أقول: إن الحديث النبوي يجب قبوله من كل مسلم متبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - لعموم قوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وليس علينا إن عملنا بما أمرنا الله تعالى من وجوب تلقي ما جاءنا من الأخبار الصحيحة من بأس، إنما الحجة على من رد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعله وراء ظهره، وقد كان أمير المؤمنين الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حجة على القاضي لقبوله ما جاء من الأخبار عن غيره من الصحابة كما ذلك معلوم لمن عرف التواريخ والسير والأخبار، فكان الواجب على القاضي اتباعه والتسنن بسنته في هذا الأصل، ولا يخفى ما في اتباع السنة المتواترة وأن ردها إنما كان لمخالفي علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج والرافضة الذين ردوا كلما جاء من غير طريق الاثنى عشر أئمتهم، والاثنى عشر رضي الله عنهم ما رووا إلا اليسير من الحديث الذي قد دخل في رواية أهل السنة دون ما تفرد به الإمامية عنهم، فلا يقبل، إما لعدم الإسناد لهم أو لضعف الوسائط.
قوله: ومن أعظم ما يتطاولون به: القدح بالإرسال، وعدم نقد الرجال، مع أن كتب الجرح والتعديل وأصوله التي هي قاعدته لا يرى فيها عن المشايخ إلا الشاذ والنادر إلى آخر كلامه.
أقول: لو أنك قرأت كتب الحديث، ولقيت شيوخهم، وسألتهم، ورحلت إليهم، أو وقفت على مصنفاتهم؛ لرأيت الإسناد في نقلهم للجرح والتعديل مسطوراً بيناً ظاهراً، لكن قصرت الهمم لكثير من المحصلين وإلا فإن أصول كتب الجرح والتعديل مسنده بالرجال غير مجهول ككتاب أبي حاتم في الضعفاء، وابن حبان، وتاريخ البخاري الكبير، وتاريخ بغداد للخطيب، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والضعفاء للعقيلي، والكامل لا بن عدي، والدار قطني وغيرهم من المحدثين ولله قول الشاعر:
فقل من يدعي للعلم معرفة ... حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء(1/6)
وما زال الإسناد من المصنفين للتاريخ ظاهراً كابن الجوزي الحافظ فجميع كتبه في التواريخ والتراجم مسندة، وكذلك ابن كثير والذهبي في أكثر تاريخ النبلاء وتاريخ الإسلام وسائر من قبلهم لا سيما من كان من أهل الحديث، وإنما اقتصر المتأخرون على حذف الإسناد في مختصرات أمهات الحديث واكتفوا بالعزو إلى الأصول المسندة والإسناد مع ذلك ثابت؛ لأن المصنف لا يروي عن الأصول الأوله إلا بطريق الإسناد إلى المصنف والمصنفون لها مُسندون لها، وأما مثل الميزان للذهبي وطبقات ابن حجر ونحوهما من المحذوفة الأسانيد التي اطلع عليها القاضي في مختصرات الأصول -والله المستعان- على أن المختصرين لذلك حذفوا الأسانيد لعدم الداعية للكذب في مثل الجرح والتعديل كداعيته في غير ذلك، ولأنه في الأغلب إنما يكون من أئمة العلم الذين يبعد عن مثلهم داعية الكذب أرادوا بالتعديل للرجال حراسة السنة وما يجب في ذلك من كمال عدالة الراوي وعدم جهالته كما هو الواجب في ما أراد بذلك الغيبة بل اتباع لنحو قوله تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات:6].
إن قيل: إن السيد الهادي بن إبراهيم ذكر في كتابه إزهاق التمويه ترجيح تقليد أهل البيت على غيرهم.
قيل له: صحيح، ولكنه لم يخص أحداً منه دون أحد، بل رجح تقليد الحي على الميت.
ثم إن الإمام شرف الدين ذكر أن الفقهاء الأربعة وغيرهم متبعون لأئمة أهل البيت فقاتل الله المفرق بينهم كما في خطبة الأنمار,(1/7)
ثم إن أهل البيت كثيرون فإن سلفهم لهم مذاهب أخر غير مذاهب المتأخرين كما اشتمل عليه الجامع الكافي يعرف ذلك من طالعة، والمتأخرين من الأئمة أيضاً مختلفون كالهادي، والقاسم، والمؤيد، والإمام يحيى وغيرهم كل له مسائل يستقل بها في ذلك، فترى سائر علماء الإسلام لا يخالفون إجماع أهل البيت في الغالب، والحديث أخذه سلف أهل البيت من طريق حفاظ الحديث بالضرورة كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وقوله: إن الفقيه العلامة محمد بن يحيى بهران آثر "جامع الأصول" على "الانتصار" و"الشفاء" إلى آخره.
أقول: إن الفقيه الحافظ محمد بن يحيى بهران -رحمه الله تعالى- تبع الإنصاف حيث قبل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما أن "جامع الأصول" شأنه شأن "الانتصار" و"الشفا" فالكل أحاديث نبوية ولكن أحاديث "جامع الأصول" معروفة الطرق والأسانيد لأجل عزو كل حديث إلى مخرجه والمخرج مسند له، بخلاف أحاديث "الانتصار" و"الشفا" فهي وإن كانت أصولها كتب الحديث لكن مجمل الطرق يحتاج العارف في تحصيلها إلى بحث طويل عن أصولها، ولأجل أن أحاديث الكتابين المذكورين قد علم أنها من كتب الحديث منقولة -كما سنبين إن شاء الله تعالى- كان ذلك وجه ترجح الفقيه رحمها لله تعالى لـ"جامع الأصول" لقرب معرفة الطرق والأسانيد، فما في هذه من خلة عليه رحمه الله تعالى؛ وبهذا يزول الإشكال في قول القاضي: إن الفرق أن هذا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والآخر يقول: قال البخاري.(1/8)
وأما أن "الشفا" و"الانتصار" و"أصول الأحكام" مسندة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فهذا شيء ما قال به أحد من علماء الزيدية ولا غيرهم، بل هم مصرحون أنهم ناقلون عن كتب الحديث على كثرتها مثل: "سنن أبي داود"، و"كتاب الطحاوي"، و"مسند ابن أبي شيبة"، كما يصرح به المؤيد بالله في "شرح التجريد"، وتمنى ما أسنده في بعضه مسنداً بطرقهم التي نقلها عنهم، وليست إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصلاً هذا معلوم، وقد صرح به الإمام يحيى بن حمزة صاحب "الانتصار" بأنه إذا تعارض حديث البخاري وغيره رجح البخاري، وكذلك ذكر مثل هذا الإمام المهدي أحمد بن يحيى في "معياره" وهما من أئمة الزيدية.
وأما دعوى أن الإمام شرف الدين أسند "الانتصار"، والإمام المؤيد بالله أسند "التجريد" إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهذه مباهته بينه إذ المعلوم أن ذلك لم يوجد في زمن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قطعا بالضرورة.(1/9)
وإن أردت الأخبار المروية فيهما فكذلك ما رواهما كلها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما أراد المسند لذلك كذلك إن ثبت لأجل فقه الإسلام من الخمسة الأركان كما أسنده الإمام شرف الدين أخذ ذلك ممن سبقه في وضع ذلك الإسناد، إذ أول من وضعه القاضي عبد الله الدواري في أول "الديباج شرح اللمع" وهو مصرح بمثل ما ذكرناه من أنه؛ لأجل قواعد الفقه حيث قال ما لفظه: "فائدة في بيان ما نحن عليه من مذهب أهل البيت المتصل بزيد بن علي المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يتصل بذلك من طرق الشرع التي هي الإجماع القياسي والاجتهاد وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتروكه، وما يتشعب من ذلك قراءة الكتب المتداولة بين أيدينا هذا الزمان ككتاب "التجريد" وشرحه وتعليق القاضي زيد و"الإفادة" و"الزيادات" و"تعاليق الإفادة" و"المجموع" وتعليق ابن أبي الفوارس وغيرها، ولكنها وغيرها مما يرجع في الحكم والمعنى إليها" ثم سرد المسند الذي ذكره في شرح "التجريد" وقال بآخره ما لفظه: هذا سند فقه من أهل البيت على الجملة، وأصول الشريعة وقواعد كتبها وأبوابها.
فأما تعيين المسائل وتفاصيلها فإلى كل واحد منهم ما ينسب إليه، وإن كانوا في الحكم كالمتفقين في الأغلب، وهذه السنة سماع في بعض ذلك، وفي بعض ذلك مستنبط كونه كذلك، وبعضه منقول من كتب موضوعه فيها ذلك يغلب الظن على صحتها، والرواية كذلك بحسب الظن والعمل بحسبه قال به كثير من الأصوليين، واحتجوا بعمل الصحابة وروايتهم بحسب ما يوجد في كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى.(1/10)
فانظر أيها المنصف ما في هذا الكلام من الاضطراب الذي حاصله أنه إسناد لبعض دون بعض، ثم كون الإسناد راجع إلى أصل طرق الشرع التي هي الإجماع والاجتهاد والعمل بأفعاله وتروكه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم فرع على هذا الأصل المذكور السند للكتب واجتهاد العلماء كونها راجعة إلى ذلك الأصل وهذا بالضرورة وليس بإسناد للأخبار قطعاً، فظهر لك أن السند ليس هو حقيقته للمؤيد بالله، وإنما أصله للدواري المذكور اصطلحه بهذا الاعتبار فنقله من نقل إلى أول شرح "التجريد"، ونقله الإمام شرف الدين أيضاً.
ثم إن الروايات في الكتابين شعره بذلك، ويؤكده أيضاً ما يرويه عن أبي بكر المقري وهو من جملة الحفاظ ترجم له الذهبي في "التذكرة" وهو ممن أخذه عليه المؤيد بالله بغير واسطة وله مسند في الحديث على أن خطبة شرح "التجريد" إنما هي ملصقة، فالظاهر أنها ملصقة من غير المصنف بدليل أن خطبته الأصلية غيرها عقبها، بدليل أني وقفت على نسخة قديمة جداً ليس فيها هذه الخطبة الملصقة وإنما قيد الخطبة الأصلية الصغيرة خطبة الكتاب، والضرورة من أسانيده في كتابه _رحمه الله تعالى- تخالف ذلك؛ لأنه يذكر في كتابه أكثرها عن غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأن تلك الأحاديث إنما هي له بالنقل والرواية عن كتب الحديث: كـ"سنن أبي داود" و"شرح الآثار" للطحاوي وكتاب أبي جعفر الجصاص الحنفي وعن أبي بكر المقري يرويه في كتابه كذلك، ومعلوم أنها ليست من طرق الهادي ضرورة، ثم إنها إذا كانت الخطبة من أصل الكتاب حمل عمومها وإطلاقها على الخصوص والتقييد بأن تلك لا في كتابه جميعاً ما جاء من طرق أهل البيت ومن طرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فيزول الإشكال مع ذلك في "البحر" في أوائل كتاب النكاح تبعاً لأصله "الانتصار" والله عند لسان كل قائل.(1/11)
ولو قال كما قال به الأئمة في تأويل الحديث هذا بعد الاعتراف بصحته بأن المراد به من لا يستحق ذلك عند الغضب والسهو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بين ذلك من الحديث والآيات التي ذكر أن الله تعالى قد لعن الكفار، والمراد بها الابعاد ولا زكاة ورحمة بالضرورة، وخص - صلى الله عليه وسلم - من صدر إليه اللعن عند الغضب والسهو.
قال: وإن كثيراً من الأحاديث مخالف للكتاب ومضاد له.
أقول: إن هذا قول غير صحيح، فإن ما صح من الأحاديث له شواهد من الكتاب ظاهره لمن فهم الصحيح لا يخالف الكتاب في الأغلب، فالقائل بالعرض إن من أنصف وجد من شاهد ظاهر لأكثر الأخبار، أما الأخبار الصحيحة فالغالب بل الكل لها شواهد، وقد أشار البخاري في صحيحه، صدر كثير من الأبواب إليها، وكما ذكرناه قريباً والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقوله: في جوابه على السيد الإمام محمد بن إبراهيم حيث قال: لو لم يحتج بما في كتب السنة لأدى إلى تعطيل علم الحديث، فقال صاحب الرسالة: ولعمري ما عليه من بأس إن كان علم الحديث معطلاً باجتناب الكذب على الله ورسوله، وليت شعري أي فائدة وفضيلة في ذكر الكذب وهذا كلام صاحب الرسالة.
أقول: كيف أطلق الكذب على جميع كتب أهل الحديث مما أجمع أهل الإسلام على الاحتجاج بها إلا الخوارج والروافض؟! لأن الزيدية لا يرتضون مثل هذا .
إن قيل: إنه لم يأت في شرح "التجريد" من طرق أهل البيت متصل الإسناد إلا النزر اليسير. قيل له: المراد ما جاء الإسناد عن أحدهم وإن توسط فيه من غيرهم وكان إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مما جاء في جميع كتابه لا سيما والعنعنة تحتمل ذلك كما عرف في كتب الحديث.(1/12)
ومما يؤكده ما قلناه: إن المراد بذلك ما ذكرناه قول الزحيف أول كتابه "شرح البسامة" لما ذكر الإسناد لمصنفات الزيدية إلى القاضي جعفر عن الشيخ أحمد بن الحسن الكن فقال: هذا ذكر جميع مشايخه وعددهم إلى أن أول كل كتاب بإسناده إلى مصنفه، ثم المصنفين سردوا ذكر أصل طرقهم إلى أن أوصلوهم إلى الصحابة انتهى.
وهو يريد بأصل طرقهم الأحاديث المحتج بها والآثار، فمنها: المسند، ومنها: المرسل إلى الصحابة، بل الظاهر غير هذا، وهو الإسناد في أصل ملة الإسلام من التوحيد لله تعالى، والإقرار بالبعث، والنشور، والجنة، والنار كما هو كذلك للمنصور بالله ذكره في بعض دعواته للباطنية كما في الجزء الثاني من سيرته، وهذا لا يخالف فيه أحد فإنه إسناد كل مسلم من المسلمين على إن الإسناد بهذا الاعتبار قد أسنده جميع أهل المذهب كما ذكره أول شرح ابن أبي الحديد على "نهج البلاغة" فإنه أسند مذهب المعتزلة، والأشعرية، والإمامية، والزيدية، إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من جهة الأصل الجملي، وقد أسند كثير من أهل المذاهب أصل علمهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاعتبار الجملي، كما أسند بعض الشافعية إلى الشافعية ثم قال: والشافعي أخذ العلم عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وعن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/13)
ومع التنزل فالذي يظهر أن ذلك الإسناد إن ثبت للمؤيد بالله المتصل بمن ذكر إنما هو في "أماليه" وهي حديثه يسير في كراسة فقط مسنده من المؤيد بالله فيكون قد حالها إسناد آخر من تلك الطريق مع الطرق التي ذكرها، فأما جميع أحاديث شرح "التجريد" فمجازفة ظاهرة إذ هي بالضرورة لا تكون جميعاً عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قطعاً، فثبت أن هذه الخطبة الجديدة التي ظهرت موضوعة ليست من المصنف، وقد ذكر مثلما ذكرته السيد الحسن بن أحمد الجلال والله أعلم. وما ذكروا أولاً "الشفا" فإن المراد بما قال: إنما هو تصحيح السماع والإجازة فيما نقله من أمهاته إلى المصنفين، وليس المراد بالصحة التي أشار إليها الرجال كل حديث كما هو ظاهر كلامه، والرجال أكثرهم مجاهيل عنده في الأصول التي نقل منها ومقاطيع بلا شك ولا ريب، إذ نقله من شرح القاضي زيد و"الانتصار" وشرح "التجريد" مهذّب الشافعية، والفائق للزمخشري، وما روى على هذا إلا ما صح له روايته يعني: عن هؤلاء الذي نقل من كتبهم، ورجال كل حديث مطوي لم نخصْ فيه ولم يعرفه، ولذلك تساهل في رواية الموضوع كحديث الضيافة لأهل الوبر وليست على أهل المدر؛ فإنه لم يروه غير القضاعي في الشهاب.
قال: الإمام القاسم بن محمد هو حديث موضوع مكذوب لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث رواه في "الشفا" وكلما رواه فهو صحيح عنده وهو خلاف الإجماع فيما نص عليه ذلك، وكذلك حديث الجمعة الذي رواه أبو طالب في "أماليه" بإسناده و"الشفا" وذكر فيه أن الله تعالى افترض عليكم الجمعة يوم الجمعة فمن تركها وله إمام عادل أو جائر فلا بارك الله له في أمره.
الحديث فإنه ضعيف عند أهل الحديث؛ لأن في إسناده عبد الله بن محمد العدوي وهو منكر الحديث وليس بحجة والزيدية أيضاً عندهم ضعيف؛ لأنه يخالف أصولهم بذكر تصحيح إمامه فلم يصح الحديث عند الكل، فحصل التناقض عند القاضي.(1/14)
ومن ذلك حديث: من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر فهذا عند أهل الحديث ضعيف، وجزم الإمام القاسم بن محمد بأنه موضوع. وقد رواه في "الشفا" و"الانتصار" و"البحر"؛ فيلزم ابن سعد الدين أن يكون صحيحاً، وهو خلاف المعلوم فتتناقض قوله.
ومنها حديث: ليس منا من استنجى من الريح ولفظه عند ابن عساكر، والديلمي في "الفردوس" وصرح (من استنجا من الريح فليس منا) فهذا الحديث موضوع كما ذكره الإمام المهدي في "الغيث" وهو في "الانتصار" و"الشفا" وغير ذلك كثير يضيق سرده هنا مما يناقض قول القاضي ابن سعد الدين.
وروى أحمد بن سليمان في "أصول الأحكام" عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في كتاب الشهادة على الزنا أنه قال للتي أقرت عنده: "لعلك اغتصبت لعل زوجك من عدونا" فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من المحدثين أصلاً غير المؤيد بالله في شرح "التجريد" رواه بلا إسناد، ثم إن معناه مشكل في قوله: "لعل زوجك من عدونا" لأنه لا يسقط الحدَّ بذلك بالإجماع.
إن قال: العهدة على المصنف فيما روى فلا يجب البحث.
قيل له: هذا لم يقل به أحد من العلماء، والإمام المهدي عليه السلام وإن قال بذلك: فإنما أراد إذا لم يكن في الرجال مجهول، صرح به في "مقدمات البحر".
قال صاحب "الفصول": إنما يصح ذلك إذا علم أن المصنف لا يروى إلا عن عدل يعنى: قد بحث عن الرجال ونقدهم، ثم أرسل فيصح ذلك.
ومعلوم أن "الانتصار" و"أصول الأحكام" و"الشفا" وشرح "التجريد" لم ينقدوا الرجال كل فرد فرداً –أصلاً- كما هو ظاهر لا شك فيه، بل إنما يصح لهم السماع عن المصنف للكتب التي نقلوا منها تلك الأحاديث المجموعة فقط، فحينئذٍ عاد القول إلى وجوب البحث عن الرجال في مثل هذه الكتب التي لم يعرف شرطها قطعاً، إذ رواية المجاهيل غير مقبولة إلا عند بعض الحنفية وهو خلاف قول الجمهور.(1/15)
قال الوالد شرف الدين رحمه الله تعالى في كتابه "شرح الغاية" ما لفظه: وأما المرسلات التي نجدها في كتب المتأخرين من أصحابنا وغيرهم، فإذا فتشنا عن أسانيدها وجدنا المجروح فيها كثيراً إلا أن يقال: مقبول خبر المجهول ولا قائل به على الإطلاق فإن أبا حنيفة لم يقل بقبوله مطلقاً، بل إلى تابع التابعين لقوله - صلى الله عليه وسلم - : :خير القرون قرني..الحديث". انتهى
وقوله: إن في البخاري معلقات.
أقول: تلك المعلقات أسانيدها ظاهرة قد ألحقها حفاظ الحديث في الشروح وغيرها، بل منهم من أفرد لها كتباً مصنفه، وإنما عبر البخاري ومسلم بالصحة عن غيرها بإجماع من يعتد به كونه علم شرطهما وشدة بحثهما وحرصهما على رواية الصحيح مع بيان الأسانيد وترك مالم يصح هذا ظاهره. قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه "القواعد" ما لفظه: إن علماء الزيدية من المتأخرين معتمدين على كتاب الإمام أحمد بن سليمان المعروف بـ"أصول الأحكام" وقد صرح في خطبته في بعض النسخ أنه نقله من كتب مسموعة ومن كتب غير مسموعة، ثم لم يبين الحديث المسموع من غير المسموع ولم يميز هذا من هذا بعلامة ولا بنسبة كل منهما إلى موضعه، والقارئ فيه لا يحصل له سماع حديث واحد هذا غاية التساهل أن يكون كتاب الزيدية المعتمد في التحليل والتحريم المتداول في أيدي علمائهم وفضلائهم الثابتة عليه خطوطهم بصحة السماع لا يصح فيه سماع حديث واحد، بل كل حديث فيه يحتمل أنه مسموع وأنه غير مسموع.
وأعجب من هذا وأغرب! أن أحداً منهم ما نبه على هذا الإشكال ولا ذكره أبداً ليس ذلك إلا للتساهل في علم الحديث، وهذا الكتاب منقول من "المنتخب" و"الأحكام" وشرح القاضي زيد، وهذه هي المسموعة.
ومن كتاب الطحاوي، وكتاب محمد بن الحسن الشيباني، ومن كتاب المزني صاحب الشافعي، قال عن الشافعي بإسناده الصحيح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن صحيح البخاري قال: وهذه غير مسموعة صرح بذلك.(1/16)
واعلم أن هذا الكتاب عمدة الزيدية من غير نزاع منهم، ومنهم من ينقل مصنفوهم مثل الأمير الحسين وغيره ممن صنف في الحديث وأدلة الفقه، ولو كان قد سمع هذه الكتب لكان في هذا غاية التساهل؛ لأن قبول كلما روى الطحاوي ومحمد بن الحسن مشكل مع قول بعض الحنفية للمجهول.
ثم قوله في كتاب المزني: إنه عن الشافعي بإسناده الصحيح.(1/17)
لا يقوله أحد حتى الشافعية وليس للشافعي في كتاب صحيح، وإنما له مسند فيه الصحيح والضعيف وأسانيد الشافعي عند الشافعية غير صحاح، بل فيها الصحيح والضعيف وهذا مما يدل على أن علماء أصحابنا إذا قالوا: وروينا بالإسناد الصحيح فلا تثق به لأنهم يعتقدون أن معنى الصحة في الأحاديث وفي الإسناد وهو أن يقرئ على شيخ ثقة ولقد صرح بهذا المعنى الأمير حسين في كتاب "الشفا" وقد ذكر حديثين ثم قال: وليس لي سماع ولكنهما من كتاب "الفائق" للنسفي قال: وهو مشهور عن الشفعوية، يشير بذلك إلى قوتهما ثم كتب في الحاشية على هذا الكلام في بعض النسخ أنه صح له الفائق بعد ذلك السماع على بعض أهله ورأيت ذلك في نسخة في حي جدي المرتضى وهي معنا إلى الآن وهي مسموعة على الإمام محمد بن المطهر وقد كتب حي جدي المرتضي في هذا الموضوع المذكور وأنا به أيضاً قد صح لي كتاب الفائق وقال الحديثان لسماعي لكتاب الفائق على مولانا محمد بن المطهر وما أعلم أحد جعل قراءة هذا الكتاب على الشيخ طريقاً إلى صحته إلى آخر ما ذكره السيد محمد في قواعده مع ما في كتاب "الشفا" للأمير حسين من الأوهام الفاحشة الباطلة ما يستحى منه، فإنه ضبط في كتابه "الشفا" الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحنا من الإيمان"! بالحاء المهملة المكسورة، ثم نون يريد الخضاب بشجرة الحنا، وليس الحديث هكذا، فإنه تصحيف فاحش، فإنما هو الحيا بفتح الحاء المهملة ثم ياء مثناه من أسفل مفتوحة، وكذلك ضبط المجزرة في حديث النهي عن الصلاة في السبع المواطن فقال: بالخاء المعجمة ثم راء مضمومة، ثم ضبط لما ورد في بيعه السيف فقال: بضم القاف ثم نون ساكنة ثم ياء موحدة، وهذا التصحيف فاحش فلا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/18)
فحينئذ ظهر الفرق بين العزو إلى الأمهات الست كعزو "جامع الأصول" وغيره، وبين غيرها من الكتب المنقولة فاعرف ذلك فإنه أنه ما ترك الحديث النبوي ولا رده، فليس حاله كحال الخوارج، وإنما قال بأنه يؤخذ منه ما جاء في الكتب التي عدها مثل: "الشفاء"، و"الانتصار"، و"أصول الأحكام"، وشرح "التجريد"، لا سواها قيل له: الله تعالى قد ذم من يؤمن ببعض ويترك البعض من بنى إسرائيل قد قال كثير من العلماء الرد للسنة الصحيحة والمتواترة بل للحديث الواحد المتواتر والقرآن والرد لذلك لا يخفى ما فيه، وحاشا القاضي عن ذلك، فالواجب اتباع ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما صح أو تواتر مطلقاً، ثم إن السيد محمد بن إبراهيم الوزير ذكر في كتابه الفصول ما لفظه: "ولا يشترط كون الراوي للحديث الإمام المنصوص عليه ولا كون الراوي من أهل البيت قال السيد صلاح في شرحه: أي أنه لا يخالف في هذه الصوة إلا الإمامية وهو باطل بالإجماع من الصحابة ومن بعدهم.
وقوله: ولا كون الراوي من أهل البيت لرجوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خبر المقداد وهو ليس من أهل البيت، وللإجماع من الصحابة على خلاف ذلك. انتهى كلامه على أن قد بينا أن أهل هذه الكتب المعينة أصولها مأخوذة من كتب الحديث -كما شرحناه- فلم يكن العمل ببعضها أولى من بعض، بل في نقل أئمة الزيدية لحديثهم من كتب الحديث كما ذكرناه مزيد حجة في نقض قول القاضي أحمد بن سعد الدين كما ذكر كذا ظاهر.
وقوله: إذا كان المرجع إلى الرجال ففي رجال الفريقين ما هو الحق والباطل فقد قال يحيى بن معين في الشافعي: إنه ليس بثقة.(1/19)
أقول: الله المستعان! أما تضعيف يحيى بن معين للشافعي -رحمه الله تعالى- فهو جرح مطلق، والجرح المطلق غير مقبول عند أهل الحديث، ثم إن سلم قبوله: فإن الشافعي رحمه الله كان في ابتداء أمده لما كان بالعراق يروي عن مشايخ متكلم فيهم ليسوا بذاك في الحديث مثل: الرنحي، وإبراهيم بن أبي يحيى، فأخذ عنهم في رواية الحديث كما في مسند الشافعي فإن أكثر داير عليهما، وهم عند أهل الحديث ضعفاء، فلعل ابن معين أطلق عليه ذلك لأجل ما روى من تساهله في الرواية المسندة عن مثل هؤلاء أو نحو ذلك، وإلا فإن الشافعي -رحمه الله تعالى- من كبار العلماء الثقات والعلماء الأثبات، ثم أيضاً: إن الخلاف إذا حصل في الجرح والتعديل، فإن العمل في ذلك على قول الأكثر من المعتبرين والرجوع إلى البحث عن أسباب الجرح والنظر، فلابد أن يظهر ما هو الصحيح من غير لمن عرف الحديث والعلم، وعلى هذا يجري شأن ما تكلم فيه شذوذ في جماعة من رجال الصحيحين وهم القليل مثل: عكرمة مولى ابن عباس، وهشام بن عروة، ومحمد بن إبراهيم التيمي هو راوي حديث: (إنما الأعمال بالنيات) وهو متلقى بالقبول بإجماع الأمة.(1/20)
قال: أحمد فيه: إن بعض أحاديثه مناكير، وكذلك عكرمة رمي بالكذب، وقد ظهر سبب ذلك فإن ابن حجر ذكر أن عكرمة أتهم بمذهب الخوراج فرمي بالكذب في العقيدة لذلك، ومحمد بن إبراهيم قد عدله الأكثرون وتلقي خبره بالصحة، وأما أن في بعض أحاديثه مناكير فمن القاعدة إذا قد شارك الثقة العدل في أكثر أحاديثه غيره من الثقات ثم تفرد بحديث لا يعد تفرده فيه من الأحاديث المنكرة أصلاً كما حققه مسلم في مقدمة كتابه صحيح مسلم، والمذكور قد شارك الحفاظ في كثير من أحاديثهم، وقد أشبع الفصل والرد على الدار قطني، وتكلم في بعض رجال الحديث في الصحيحين ابن حجر أول فتح الباري في مقدمته وأجاب عن كل رجل بكل ما فيه وبين الوجه في ذلك بما لا مزيد عليه. وكذلك الشيخ محمد بن أسعد بن علي بن هاشم بن علي بن عروان القرشي الهاشمي المكي الشافعي، والذهبي أيضاً أفرد كتاباً لطيفاً مستقلاً فيمن ذكره من رجال الصحيحين وغيرهم من الثقات في الميزان، وبين أن ذلك الكلام قيل فيهم ولا يضرهم ولا يكون جارحاً فيهم وإنما ذكرهم في الميزان لئلا يتعقب في ذلك لا لضعفهم، ثم إنه قد روى عنهم أهل الكتب المعينة التي قصر ابن سعد الدين الحديث عليها دون غيرها، فإما كانوا عدولاً وزال الإشكال، أو ضعفا وترك الحديث بالمرة؛ فإن عكرمة كثيراً ما يروي عنه المؤيد بالله في "شرح التجريد" وغيره، ولو كان عكرمة خارجياً لما روى الحديث عن الصحابة أصلاً لأنهم لا يستحلون رواية الحديث عن أحد من الصحابة بعد التحكيم.
وأما ما تكلم فيه هو عن جماعة من المتأخرين قد رد عليه ابن السبكي في "طبقاته الكبرى"، وقال: ذلك كان منه لأجل أنه كان مذهبه في الأصول على رأي الحنابلة، وقد عرف ما وقع من الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة في علم الكلام مما ليس هذا محل ذكره.
إن قيل: فيلزم من هذا أن لا يقبل جرح كثير من الرجال لأنه يحتمل مثل هذا فكما لا يقبل في رجال الصحيحين كذلك في رجال غيرها.(1/21)
قيل له: هذا غير صحيح بأن الصحيحين قد انتقى الشيخان ما فيهما من الأحاديث وإن فرض من أنَّ أحداً ممن تكلم فيه منهم قد وجد مشاركتهم للحفاظ الكبار في رواية الحديث فبذلك زالت نكارة الحديث إذ لم يتفرد: وإن أحاديث مخالفة لغيرهم، ومع ما ذكرناه من شهادة أكثر المعدلين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - . والعمل على الأكثر ولظهور أسباب ذلك المبينة لعدم اقتضا سبيله إلى الجرح بخلاف غيرهم، فإنه نفع بيان السبب إما بالوضع والكذب الصريح أو بالأوهام الفاحشة المبطلة للرواية مثل: ابن لهيعة؛ فإنه معدود في الثقات الحفاظ؛ لكنه طرأ عليه بعد احتراق كتبه أو هام وقلة حفظ، فكان يحدث بالوهم الفاحش فلذلك تركوه لهذا لا لتعمده للكذب حاشاه من ذلك ونحوه يجري هذا المجرى مع الأصل المعتبر من موافقه الحفاظ ومشاركتهم في الذي رووا كما حققه مسلم أول كتابه في مقدمته.
وقوله: إن مسلماً صنف كتابه الصحيح ثم عرضه على أبي زرعة فأنكر عليه وتغيظ وقال: سميته الصحيح وجعلته سلماً لأهل البدع وغيرهم.(1/22)
أقول: قد ذكر النووي وغيره عن أبي سعيد بن عمرو البردعي أنه ذكر إنكار أبي زرعة على مسلم فقال: لأجل روايته عن أسباط بن نصر، وقطن بن بشير، وأحمد بن عيسى المصري، قال: فنظر روايته عن هؤلاء لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا: إذا احتج بحديث هذا ليس في الصحيح قال سعيد: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة ذلك؟ فقال لي مسلم: إنما قلت صحيح وما أدخلت من حديث أسباط، وقطن بن أحمد، إلا ما قدر رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلىَّ عنهم بارتفاع في السند فذكرتهم لذلك، ويكون عندي من رواته أوثق منهم، فاقتصر على ذلك.(1/23)
وأصل الحديث معروف من رواه أوثق منهم، وذكر عن غير أبي زرعة نحوه، ثم لما عرف بجواب مسلم عذره في ذلك فزال الإشكال حينئذ، كما ترى في قول أبي زرعة على أنه ذكر الشيخ محمد أبو سعيد بن علي الهاشمي في جوابه على الدار قطني ما لفظه: قال مكي بن عبدان: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة فكلما أشار إلى أن له علة تركته إلى آخر كلامه، وأما تضعيف أبي زرعة للبخاري، فقد قال المورد في رسالته هذه التي أجبنا عليه ما لفظه: "وإن أبا حاتم الرازي، وأبا زرعة تركا حديثه (يعني: البخاري) لما كتب إليهما محمد بن يحيى الذهلي بذلك يعني: بمقالة البخاري في اللفظ بالقرآن، فهذا صريح منه بأن تضعيفه كان لأجل مخالفته له في الاعتقاد في مسألة اللفظ بالقرآن الكريم وهي مسألة معروفة بين المتقدمين وقع فيها خلاف عظيم، فالتضعيف لأجل هذا السبب غير صحيح لا يوجب التضعيف أصلاً، وترك الحديث إن قيل أن الحاكم المعتزلي روى عن أبي علي المعتزلي: "إن العمل عندهم على التلقي بالقبول من جميع الأمة إلا الإسناد كما ذكره في حديث مخالفة آدم موسى وهو في الصحيحين، فإنَّ أبا علي رده فاعترض بالخبر الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - : "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"، فهذا خبر صحيح بالاتفاق فقيل لأبي علي: هذان خبران بإسناد واحد فكيف تصحح أحدهما وترد الآخر؟! فقال: ما قبلت ذاك بالإسناد ولا رددت هذا الإسناد، ولكن ذلك خبر يتضمن حكماً وتلقته الأمة بالقبول فقبلته، وهذا خبر يخالف الأصول فرددته انتهى.(1/24)
قيل له: فيلزم أن أكثر أحاديث الأحكام مما قد جزم القاضي بصحته غير صحيح؛ لأن الأمة لم تلقها بالقبول بل ضعف كثير منها على أن الأمة جميعاً تلقت خبر المحاجة بالقبول حتى أكثر المعتزلة وتأولوه تأويلات صحيحة فيكون ذلك حجة على أبي علي، وقد رواه أيضاً من الزيدية بعض أصحاب "الأمالي" وعند القاضي ابن سعد الدين أن كل ما رواه الزيدية في كتبهم فهو صحيح فيلزم أنه صحيح بالاتفاق ويكون من المتشابه المتأول.
وأيضاً أن أبا علي قد تأوله من جملتهم والتأويل لا يكون إلا للصحيح.
وقوله: إن التشيع عندهم أشد أسباب الجرح.
أقول: هذا أمر القاضي عدم معرفة لما عندهم إذ الجرح بالتشيع عندهم ليس على إطلاق فكثير من الشيعة ثقات معمول على اخبارهم حجة في رواياتهم علي بن المديني شيخ البخاري، وعبد الرزاق الصنعاني، وغيرهما وإنما المتروك عندهم الشيعي الرافضي.
وقوله: إن سمرة بن جندب الصحابي مجروح العدالة ومقدوح فيه بما روى أنه كان يقتل كثير من النفوس وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ولأبي هريرة ولثالث معهما: (آخركم موتاً في النار) فكان آخرهم سمرة.
أقول: إن المذكور قد ترجم له ابن عبد البر في "الإستيعاب" مع الصحابة وذكر ثناء الحسن البصري وغيره عليه واحتجاجهم به، وقال: إنما كان يقتل من الخوارج الحرورية عملاً بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مروقهم من الإسلام واستحلالهم الدم الحرام إجتهاداً منه مع أن قد أجمعوا بين اعتقاد الخوارج من المحاربين، والمحارب الذي يخيف السبيل ويقتل النفس حده القتل، كما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز بشروطه المعروفة.
وقال ابن عبد البر: وأما موته في النار، فإنه كان به علة البرد فكان يتداوى على دست حار يقعد عليه فكان بآخره وسقط في الدست وهو نار فمات فيه فكان آخرهم موتاً في النار والله أعلم.
وقوله: بأنهم روو أحاديث الجبر والتشبيه وصححوها.(1/25)
أقول: يا للعجب من هذا القول!! فإن الجبر لا يلتزمه أحد من المحدثين، بل هم قائلون بثبوت الإختيارية للعبد والحيوان، والجبر مذموم عندهم، بل منهم من كفر القائل به، وإنما يقول به جهم بن صفوان وأصحابه الجهمية الجبرية هذا ظاهر مسطر في كتبهم، وفرقوا بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش وبين الحركة الاختيارية من أقرب من صرح بذلك صحاب المنتهى لابن الحاجب الذي كان في المدارس مقروء لا يجهله إلا من كان قاصراً أو متجاهلاً لأنه بين أيدي جميع أهل الوقت فأين القاضي ابن سعد الدين، وكذلك العقائد النسفية وشرحها لسعد الدين التفتازاني، فإنها التي أجمع عليها أهل السنة في الشرق والغرب، ولفظها: وللعباد أفعال اختيارية يثابون بها إن كانت طاعة ويعاقبون عليها إن كانت معصية، لا كما زعمت الجبرية أنه لا فعل للعبد أصلاً، وأن حركته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة عليها ولا قصد ولا اختيار وهذا باطل؛ لأنا نفرق بالضرورة بين حركة البطش وحركة الارتعاش، ونعلم أن الأول باختياره دون الثاني؛ ولأنه لو لم يكن للعبد فعل أصلاً لما صلح تكليفه ولا ترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله إلى آخر ما ذكره سعد الدين! فكيف يكون جبرياً من هذا قوله الله المستعان.
وأما إلزامهم الجبر من قولهم بالمشيئة والإرادة فلم يلزموه أصلاً، بل هو نصوص أئمة أهل البيت المتقدمين كزيد بن علي، والصادق، والباقر، والحسن، والحسين، وزين العابدين وجميع الصحابة والتابعين يعرف ذلك من عرف ممن طالع الكتب القديمة كـ"مجموع" زيد بن علي الكبير، وجامع آل محمد وغيرها.(1/26)
ففي جامع آل محمد قال محمد في كتاب أحمد. قلت لأبي عبد الله أحمد بن عيسى هل المعاصي بقضاء وقدر؟ قال: نعم، وكان أحمد يثبت القدر خيره وشره، ونقل ذلك عن سلف أهل البيت بطول، فمن أراده فليقف على "الجامع الكافي" على أن الذي ألزم به بعض المعتزلة قد لزمهم أيضاً أن جعلوا الإلزام بأن الشهوة للقبيح خلق الله تعالى لا يعذب عليها المخلوق كما حققه السيد ما لكريم في شرح الأصول الخمسة وسائر المعتزلة أجمع أولهم؟ وآخرهم وجميع علماء الإسلام غير الطبائعين، وكذلك خلق الداعي الذي لا تتم القدرة إلا به وغير ذلك من القيود للقدرة المنوطة به راجعت مرة شيخنا القاضي أحمد بن صالح العنسي رحمه الله في الشهوة للقبيح، وأنها خلق الله لا يقدر عليها العبد، فقال: نعم ودليله العنين؛ فإنه عاطل عن الشهوة، وعن الحركة يعالج الفعل فلا يقدر عليه فلو كان يقدر عليها لأمكنه، وكذلك يعالج الإنسان أن يضحك أو يبكي فلا يقدر عليه ولا تنزل له دمعة، وإذا بدره ذلك لم يقدر منعه، ولذلك صرح ابن منتويه آخر تذكرته بأنه ليس من مقدور العباد وإليه أشار بقوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [النجم:43] وغير ذلك والله أعلم.
وإلزام بالجبر لمن لا يعرف العلم؛ فإن أهل السنة قد ألزموا المعتزلة بالجبر من قولهم: إذا تقوت الدواعي، وانتفت الصوارف، وجب الفعل، قال أهل السنة: ولا يزيد قولنا على هذا. قالت المعتزلة: مرادنا بذلك وجوب عاده واستمرار لا وجوب جبر وعدم اختيار.(1/27)
أجاب أهل السنة عليهم: بأن هذا أيضاً قولنا؛ فإن العبد له اختيار غير مضطر إلى الفعل، وأما التشبيه فإنهم مصرحون بنفيه تصريحاً بيناً ظاهراً مكشوفاً حتى إنهم يتأولون في شروح الحديث وغيرها على ما يصح، وقد صنف ابن الخطيب الرازي من الشافعية كتاباً مستقلاً في تأويل أحاديث الصفات المتشابهة وغيره من المتأخرين بعده من أهل السنة وقرر فيه الأدلة على نفي التشبيه والتجسيم، وأما أحاديث القدر فليست بجبر كما توهم القاضي، بل المراد بها علم الله تعالى السابق، وكتابته في اللوح المحفوظ، وإحاطة المشيئة، وخلق الداعي، ونحو ذلك.
وأما أن الأحاديث وجدت كذلك فهي كثيرة ثابتة بالقدر، والمراد بها ما ذكرناه، وقد ذكر ذلك أيضاً علي بن موسى الرضا من الأئمة في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله -عز وجل- قدّر المقادير ودبر التدابير قبل أن يخلق آدم بالفي عام، وفي مجموع زيد بن علي إثبات القدر في موضعين أو ثلاثة في "مجموع الفقه الكبير" وفي "الصغير" ذكر بعضه ذلك في أحدهما، وأما متشابه السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام إلا كمتشابه القرآن الكريم، وقد قال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [آل عمران:7].(1/28)
فلو أنصف صاحب الرسالة لقال: لا يمنع وجود المتشابه في السنة عن العمل بها ولا يوجب ذلك ردها أصلاً، إذ قد كان التشابه في القرآن، فأما تأويل ما يحتمل التأويل ويرد إلى المحكم كالأخبار في الصفات كما تأولها أهل الحديث في الشروح وغيرهم أو أُمَّرت على قول بعض السلف بعد اعتقاد أن الله ليس كمثله شيء سبحانه ويرد تأويلها إلى الله على أحد القولين في ذلك كما جرى ذلك في متشابه القرآن على السواء، ولكن الناس عدوا ما جهلوا: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } [البقرة:285] فيجب الإيمان بما نطق به شارع الأديان عليه أفضل الصلاة والسلام.
وأما ما نقل صاحب الرسالة عن علي بن المديني أنه في زمن بني أمية وضع كثير من الفضائل للمشايخ وهي كذب.
فجوابه: أن ذلك ليس بحجة للقاضي على ترك كتب السنة، بل ذلك حجة عليه؛ لأنهم ميزَّوا فيها الموضوع من غير الموضوع ما لا يعرفه سواهم فجزاهم الله خير الجزاء، فلولاهم ما عرف الموضوع الذي ذكر علي بن المديني من غيره، فأما أن يترك جميع ما رووا من الحديث فهذا حيف وضلال كبير ووسواس ورد للسنة النبوية، أو تعمل بالكل وكان عملاً بالموضوع وفيه ما لا يخفى، فإذا كان الحق هو في الرجوع إلى ما صح في السنة المنورة كما نقده وصححه حفاظها جزاهم الله خيراً، وبهذا يزول الإشكال.
قال صاحب الرسالة: ومن أصول أئمتنا تقديم ما وافق الكتاب العزيز أو اشتراط موافقته والمحدثون لا يعتبرون غير الشروط التي اعتبروها للصحة.(1/29)
أقول: إن اعتبار العرض مختلف فيه بين العلماء وكثير من الزيدية لا يعتبرونه، ومن أثبته منهم وهم الأقل يجد الشاهد في أكثر السنة الصحيحة النبوية، فالمتشابه من السنة يشهد له المتشابه من الكتاب كأحاديث الصفات ونحوها، وتأويله كتأويل القرآن على الخلاف في الخوض في التأويل والامرار مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وهذا ظاهر، فأي فائدة للتشنيع والإنصاف أولى وأحسن، على أن البخاري قد ذكر شواهد الأحاديث في باب من آيات القرآن من أوله إلى آخره يعرفه من شارف على الحديث ولم ينزله وراء ظهره، ولكن الناس أعداء ما جهلوه والله أعلم.
وما حاول للجرح من الصحابة كأبي هريرة مره وغيره فلا يلتفت إليه كما أوضحناه في كتاب الأصول، وأما البغاة والخوارج والمنافقون وأهل الردة فأمرهم ظاهر على أن قدر قرر أكثر الزيدية قبول رواية البغاة المتأولة كالإمام المهدي، والإمام يحيى بن حمزة، وغيرهما إن قيل أن الرواية عن البغاة قد ذكر بعضهم أنها رواية عن الدعاة إلى النار، وقد ثبت في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الترمذي ومسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).
قيل له: الأحاديث مروية من طرق البغاة قليلة إن سلم عدم قبولهم وكيف وطرح الكثير مع أن الصحيح قبول روايتهم كما قرره في الأزهار وذكره المنصور في كتابه صفوة الإختيار وغيره من أئمة الزيدية وسيأتي آخذ هذا مزيد كلام لأقوال العلماء في قبول أخبار المتأولة والبغاة.
وأما حديث من لعنته أو سببته فاجعل ذلك زكاة ورحمه، فالحديث رواه البخاري وغيره، وقد رواه صاحب "الانتصار" الذي صححت جميع ما رواه فيه، فهذه مناقضة إذ هو في الورقة الأولى من الرسالة صحح جميع ما روى صاحب "الانتصار" وأسنده جميعاً إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي الورقة الثانية قال: هو ضعيف.(1/30)
قال: وتقول قاتل الله من يفتري على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل هذا كلامه!! فانظروا أعجب من هذه المناقضة والتكذيب بعد التصحيح منه، بل رواه كذلك الإمام المهدي –أصلاً- بل يحتجون بالسنة النبوية كما قرروه في كتب الأصول حين صرحوا بترجيح رواية الصحيحين على رواية غيرهما كما ذكروه في باب الترجيح، ولا ينكر العمل بأحاديث السنة الصحيحة التي لها الشواهد إلا من ضل عن السبيل فالله المستعان.(1/31)
ولقد كان علم السنة قرب زمن الإمام صلاح الدين الناصر محمد بن علي بن محمد وغيره من الأئمة ظاهراً في بلد الهدوية يقرونه ويستمعونه ويحلقون عليه في مثل صنعاء، وصعدة، وغيرهما ولم يعرج على نهي والده الإمام المهدي علي بن محمد وكان المتصدر ذلك التاريخ للتدريس جماعة من الهدوية الذين اعتنوا بالحديث وسمعوه ورحلوا إليه وغيرهم، فمن الهدوية الشيخ أحمد بن سليمان الأوزري -رحمه الله تعالى- كان يدرس في الست جميعاً وغيره من العلماء في جامع صنعاء واستفاد كثير، ومازال ذلك كذلك ورحل جماعة إلى مكة المشرفة وتهامة وغيرها كالإمام السراجي يحيى بن محمد، والقاضي العلامة إبراهيم بن ساعد، والفقيه محمد الشاوري، والفقيه موسى بن سليمان بن أبي الرجال له رحلة وسمع كثيراً من كتب الحديث، ومن الأئمة الإمام عز الدين الحسن رحل من صعدة قبل الدعوة إلى قبة حرض بتهامة فدرس في الحديث على الشيخ يحيى العامري أكثر أمهات الست واستفاد عليه في الحديث ولازمه مدة قراءته، ومنهم السيد الهادي بن إبراهيم الوزير سمع بمكة المشرفة آخر مدته جامع الأصول على القاضي محمد بن عبد الله بن ضهيرة وصنوه محمد بن إبراهيم صاحب العواصم، والعلامة أبو القاسم بن محمد الشقيق سمع أكثر الست بمكة وغيرها وصنف في الحديث كتاباً وسماه: السنام، وخرج أحاديثه وهو كتاب حسن، والسيد العلامة أحمد بن علي الأهندي الملقب رعين المحرابي رحل إلى المرواح، فقرأ على الولي الصديق الشافعي في كتب الحديث وخلائق كثير، فكان قراءة الحديث أولى من درس علوم اليونان كالمنطق ونحوه والعلماء لا يخفى عليهم وجه المتشابهات وردها إلى المحكمات إن شاء الله تعالى، والأحاديث الصحيحة المشروحة حسبما في الست وغيرها المتشابه منهما تحتمل للتأويل ظاهر فيه، وقد بينه شراح الأحاديث من أهل السنة ولم يعلموا بظاهرها يعرف ذلك من طالعها؛ لأنه لم يرون القول بالتشبيه ويحمل من منع من قراءتها هو عدم الأهلية(1/32)
والمعرفة برد المتشابه إلى المحكم، فأما العارف لذلك فلا حجر عليه فيه ولا منع أصلاً، فالحق أحق أن يتبع على أنه لا وجه للمنع مطلقاً كما لا تمنع العامة من قراءة القرآن مع أن فيه المتشابه إذ العامي يقرأ اللفظ ولا يعرف المعنى وإن ترقى إلى الفهم فلا بد أن يسأل العلماء فيوضحون المشتبه عليه وأما من أطلق عليها بأن فيها الجبر والتشبيه فهو غفله من صاحب ذلك ظاهره؛ لأنا لم نر فيها جبراً ولا تشبيهاً أصلاً إلا من قبيل المتشابه وهو راجع إلى المحكم كما في القرآن الكريم سواء بسواء، وكيف لا وفيها الآداب الشرعية والأحكام النبوية التي تشرح الصدور وتجلب الخير والحبور مما اشتملت عليه، وقد قال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر:7] والله الموفق للصواب. على أن بعض أهل الزمان من الهدوية قد عموا القضية فذكروا قراءة الحديث على الإطلاق الذي فيه المتشابه والذي فيه غير ذلك ولله قول الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب
قوله: من يعرى عباد الله بالمعاصي، وحديث: (ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء يقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله) لهم الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره.
قال القاضي: والله يقول: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد:38] وقال تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه } [هود:3].(1/33)
أقول: أنه لا تناقض بين شرائع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أقواله: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم:3،4] لكن القاضي كان عليه أن ينصف وإن يعاود النظر والبحث، فأول ما نقول له: أصلح الله شأنه احتجاجك بقوله تعالى: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد:38] المراد في صفة من الصفات التي سوقها عدم الاتفاق كالواجب من الزكاة ونحوها والإ لزم لو كان على الإطلاق أن يكون المستبدل جنساً آخر من غير بني آدم، وإن استلزم كان إما من الملائكة وهم معصومون بعصمة الله أو من المكلفين من هذا الجنس غيرهم سالمين من هذه الصفة لا من جميع الصفات؛ لأن السلامة من جميع الصفات التكليفية لا يكون إلا للمعصوم وبالإجماع أن التكليف لا عصمة إلا لمن شاء بدليل قوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ*إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود:118،119] وقوله تعالى: { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأنعام:149]، وقوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام:112]، وقوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة:253]، وقوله تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر:45] وفيها دليل على أن أحداً لا يسلم من ذنب إما صغيرة أو كبيرة، والآيات كثيرة والمعنى للكل: إن الله قد علم في سابق علمه أن هؤلاء الذين تحملوا الأمانة لا بد أن يختلفوا، فمنهم الطائع، ومنهم العاصي فخلق العباد بعد علمه تعالى بهذا فهم كما وصف تعالى فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أنهم لو لم يذنبوا -والمعلوم في علمه تعالى أنهم يذنبون في الواقع- لجاء الله بقوم يذنبون(1/34)
فيستغفرون فيغفر الله لهم؛ لأنه يقال: قد علم من بني آدم الذنب من البعض والطاعة من بعض، وعلمه سابق لكل شيء بل علم الله تعالى أنه قد لا يسلم أحد من الصغائر والتأويل ولذلك وقع من بعض الأنبياء أشياء من الصغائر والنسيان -عليهم السلام-، وغفر الله لهم، وعلمه سابق لكل شيء، فلو لم يقع منهم الذنب ومحال عدم وقوعه ولو صغيرة أو غيبه أو نميمة مما يتساهل فيه كثير من الناس، أو نظرة لشهوة لأوجب الله الذي قد علم، ولفظ "لو" في اللغة يؤتى بها لامتناع الشيء لامتناع غيره فعدم ذنبهم محال، وإذا كان محالاً فالقوم غيرهم وجودهم لا يكون؛ لأن وجودهم مقيد بعدم ذنب الأولين، وعدم ذنبهم غير حاصل فيكون وجودهم غير حاصل. قال السيد محمد بن عز الدين المفتي -رحمه الله تعالى- في شرح التكملة له: ويكون المراد بذلك الدلالة على سعة -رحمه الله تعالى- والتذلل لطلب غفرانه والوقوف في مقام العبودية من التواضع والقصور عن الوفاء بما يجب لمقام العلي الأعلى، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (ما عبدتك حق عبادتك) وذلك كله طاعة مراده للحكم جل وعلا قال أبو علي المعتزلي: الخبر هذا يحتمل معنيين أحدهما: أنه كان في معلومه أنه يخلقهم فلا بد أن يخلقهم فيذنبوا فيتوبوا لله فيغفر لهم ولم يرد أن يخلقهم ليذنبوا.
الثاني: أنه لا يقصد بخلقه لمن يعلم أنه يطيع، بل يخلق من يعلم أنه يعصي كما يخلق من يعلم أنه يطيع انتهى كلامه.
قال السيد محمد المذكور: وليس في هذا الحديث هذا وحديث العجب دلالة على إرادة الذنوب.(1/35)
قلت: ولذلك لما تقدم في معنى الحديث ويريد هاهنا: أنه تعالى قد علم في سابق علمه أن من ابتلى بهذا التكليف، وخلق الدواعي والشهوات، والتمكين بالقوى والقدر، والتخلية لفعل الخير والشر؛ فإنه قد يقع منه العصيان في الجملة؛ ولكن الله تعالى قد جعل مع ذلك ما يمحوه من الاستغفار والتوبة، والله تعالى علم المطيع من العاصي؛ فإرادته تعالى ليست لفعل الذنب وكسب العبد؛ بل إرادته تعالى للتمكين منها ليميز الخبيث من الطيب وليتم التكليف؛ فإنه تعالى أراد التكليف بالتمكين من الطاعة والمعصية وجعل ما يمحوه من الاستغفار، فلو لم يقع ما علمه من ذلك -ومحال عدم وقوعه بالمرة- لخلق ما قد علمه -كما ذكرناه أولاً- وهذا كله مبالغة في أن الله تعالى يغفر الذنب بالتوبة والاستغفار ويمحوه لئلا يحصل القنط من العاصي من رحمة الله تعالى، فإن القنط من الكبائر كما قال تعالى: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [الحجر:56] وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن لم يكن قد ركب الذنب العبد بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه، وأيم الله إن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير، فدل كلامه رضي الله عنه أنه لا يخلو المكلف عن شيء من المعاصي -لا سيما الصغائر.(1/36)
وفي مجموع زيد بن علي الكبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ليس من نبي يأتي يوم القيامة إلا وهو يحاسب بذنب غيره، لقوله تعالى: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح:2] فدل أنه لا يخلو أحد من الصغائر، وشهد له قوله تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [فاطر:45] فما في هذا الحديث من خلة، بل هو جار مجرى قوله تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة:13] يعني تعالى وهو لا يشاء هدى كل نفس على جهة العموم؛ لأنه تعالى أراد وشاء التخلية للعباد والتمكين من فعل الطاعة وفعل المعصية، فمنهم من شاء الله هدايته، ومنهم من شاء خذلانه على حسب ما سبق في علمه كما قال تعالى: { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف:29] وإثبات الهدى لكل نفس محال، وإذا كان محالاً كانت الطاعة والمعصية حاصلين بحصول التمكين والتخلية للعباد كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت:46] مع أنه قد روى نحو هذا الحديث صاحب شمس الأخبار وهو من الزيدية وروايته عند صاحب الرسالة مقبولة، وكذلك ابن مظفر رواه أول بيانه في الفقه، والإمام المهدي في تكمله البحر له، ورواه من أهل السنة البزار، فقالوا فيه وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أعظم من ذلك العجب العجب، فما أجاب به القاضي هنا فهو جواب الحديث السابق، وقد أرشد هذا الحديث إلى أن العباد على خطر عظيم، وأن أشد شيء عليهم العجب وهو ذنب عظيم،(1/37)
فإياك والعجب فإنه ما أعجب أحد بعلمه إلا وحجبه عن كثير من الحق.
وكذلك عاب قاضي قضاة مصر على عمرو بن منصور العبسي لما اتفق به عام حجة فألقى على المصري سؤالاً وهو في طريقه راكباً فأعرض عنه القاضي فقال عمرو بن منصور:
أنا عمرو بن منصور ... هل لمثلي نظير
فأجاب القاضي سؤاله ثم قال: في الزيدية علماء إلا أنهم يعظمون أنفسهم، وقد قال تعالى: { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم:32] وفي "المطالب العالية" لابن حجر قال مسدد: حدثنا عبد الله بن داود عن موسى بن عبيده عن طلحه بن عبيد الله بن كريز قال: قال عمر بن الخطاب: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ومن قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار.
وقال عن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من زعم أنه في الجنة فهو في النار.
قوله: إن معاوية حث الناس على رواية الأخبار في فضائل الثلاثة ونهى عن رواية شيء من فضائل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فوضع الناس أخباراً لا أصل لها ميلاً إلى الدنيا، وخاف الذين يحفظون فضائل علي رضي الله عنه من معاوية فلم يظهروا شيئاً فما ظنك بهم إذا روو حديثاً عن مثل معاوية وعمرو بن العاص وأشباههما.
أقول: إن الرواية في الصحيحين عن هؤلاء في حكم العدم إلا النزر اليسير فما الوجه لبطلان سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب هؤلاء الجماعة القليلة ما هو والله من الإنصاف في شيء فخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - لا من صدر عن هديه.(1/38)
ولا شك ولا ريب أن في كتب الحديث على الجملة الصدق الصحيح وفيها الضعيف فما الوجه المجوز لتضعيفها كلها بسبب ضعف بعضها والله يقول في كتابه العزيز: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } [الزمر:32] ثم إن أئمة الزيدية الذين هم القدوة يحتجون بالأحاديث التي رواها أهل التأويل من الثقات كما قرره في "الأزهار" وشرحها وغيرها وما عرفنا عن المشايخ إلا تقرير ذلك، فما عرفت ما مذهب صاحب هذه الرسالة إذ الزيدية يخالفونه وماكان يحس من القاضي الطعن في صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي السنة المنورة والتكذيب للحديث عموماً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كيف وفيها الصحيح بالضرورة والمتواتر والموجود شاهده في القرآن، وما أدري ما هذه الغفلة للقاضي مع أنه كان من أهل المعرفة.
قال: ومن تأصيلهم أن الصحابة كلهم عدول وقد سمعوا قول الله عز وجل فيهم خاصة: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [آل عمران:152] وقوله: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [التوبة:101] وقوله في المتخلفين: { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } [الفتح:15] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (أصحابي أصحابي) حين يؤخذ بهم ذات الشمال.(1/39)
أقول: الحديث صحيح وما ذكر في الآية كل ذلك وارد في أهل الردة، كبني حنيفة والخوارج ونحوهم من المنافقين الذين كانوا في الظاهر من جملة أصحابه، وقد مردوا على النفاق ورجعوا القهقرى، وقد ذكرهم بأعيانهم الواحدي في أسباب النزول فقال قوله: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ } [التوبة:101] حكى الكلبي: أنها نزلت في جهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، ومن أهل المدينة يعني: عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير، والحلاس بن سويد، وأبا عامر الراهب، وأما الصحابة الذين هم صحابة فهم غيرهم ولا يسمى عن أحد من أولئك خبر واحد في الرواية أصلاً لا عن منافق ولا عن خارجي ولا عن مرتد، وإنما جاءت الأخبار عن سائر الصحابة فما فائدة هذه القعقعة من القاضي والتلبيس!! فإن قيل: صاحب هذه الرسالة أراد بذكر الآيات الكريمة إنه إذا كان في المدينة من لا يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - نفاقه، ولأن أكثر الأحاديث لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/40)
قيل له: الله المستعان هذا تشكيك في أكثر الشرائع التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنها إنما أخذت عن جملة الصحابة، ونحن نتنزل مع المذكور فنقول: عدَّل الله تعال جميع المهاجرين والأنصار قبيل هذه الآية حيث قال: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } [التوبة:100،101] الآية، على أن تأصيل أن الصحابة عدول قد نص عليه المنصور بالله كما رواه السيد محمد بن عز الدين المفتي في كتابه "منهج الإنصاف" قال: قال المنصور بالله في "صفوة الاختيار" في أصول الفقه ما لفظه: العدالة لا يسأل عنها في ثلاثة قرون: قرن الصحابة، والتابعين، وتابعيهم. انتهى.
ورأيت نسخة من صفوة الاختيار وإذا فيها بياض في حد الصحابة لعل الناسخ أسقط ما ذكره السيد محمد المفتي فيها لما لم يوافق هواه ولله در الشاعر حيث يقول:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فوافق قلباً خالياً فتمكنا
غير أن الإمام المنصور بالله ذكر في موضع آخر، فقال: فاسق التأويل مقبول خبره.
قال: والذي يدل عليه إجماع الصحابة وإجماعهم حجة وذلك أن الفتنة لما وقفت فيهم، وتفرقوا فرقاً، وصاروا أحزاباً، وانتهى الأمر بينهم إلى القتل والقتال كان بعضهم يروي عن بعض بغير مناكرة بينهم في ذلك بل اعتماد أحدهم على ما يرويه عمن يوافقه كاعتماده على روايته عمن يخالفه وذلك ظاهر فيه إلى آخر كلامه.(1/41)
إن قيل: إن جماعة من رجال الصحيحين وغيرهما كانوا يبغضون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) وهؤلاء: عمرو بن شعيب، وقيس بن أبي حازم، وحريز بن عثمان بالحاء المهملة، والوليد بن كثير، وبهز بن راشد، وعبد الله ابن سالم الأشعري، ومحمد بن زياد بن الربيع، وحصين بن نمير الواسطي.
قيل له: هؤلاء ليسوا في رجال الصحيح كعمرو بن شعيب مع أن عمرو بن شعيب قد روى عنه أهل "الأمالي" من الزيدية مثل: أمالي السمان وغيرهما، وكذا روى عنه المؤيد بالله واحتج به في مواضع من "شرح التجريد" من ذلك: في ركوة مال اليتيم حيث قال: روى الحسن بن سفيان بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: (من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) وذكره.
وأخرج الكنجي الشافعي في مناقبه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلنا: يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قلنا: من الرجال؟ قال: فأبوها، إذا قال: فقالت: لم أرك قلت في علي شيئاً؟ قال: إن علياً نفسي! هل رأيت أحداً يقول في نفسه شيئاً؟ انتهى .
فهذه منقبة وفضيلة رواه المذكور لعلي رضي الله عنه فكيف يكون من رواها ناصبياً؟! الله المستعان وقد أخرج له السيد المرشد بالله في "أماليه" وهو من كبار الزيدية وأفاضلهم رحمه الله تعالى، فما قيل في روايته في الأمالي المرشدين قيل روايته في السنن، وأما بهز بن أسد فالمعروف أنه كان يتحامل على عثمان كما ذكره الذهبي في "الميزان" حيث قال. قال أبو الفتح الأزدي: كان بهز ابن أسد يتحامل على عثمان، قال أبو حاتم: وبهز بن أسد ثقة إمام.(1/42)
وأما عبد الله بن سالم الأشعري فالمشهور أيضاً أن تحامله على أبي بكر وعمر كما ذكره أبو داود، قال: النسائي ليس به بأس، وكذلك الوليد بن كثير أيضاً إنما قالوا: ناصبي والناصبي إذا أطلق يتردد بين الثلاثة وبين أمير المؤمنين علي رضي الله عنهم جميعاً؛ ولكنه صدوق في نفسه فلم يعلم حينئذٍ أنه كان ناصبياً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعينه، وحصين بن نمير الواسطي ليس له في البخاري غير فرد حديث فقط، وأما أبو مسلم فلم يرو له شيئاً وكذلك سائرهم فإنه يحتمل ذلك، ثم إن روايتهم في الصحيحين قد تكون مقرونة بغيرهم ولا تخلو من الشواهد أيضاً والله أعلم.
إن قيل: إنه قد جاء في رواية "المنهاج" عن الهادي عليه السلام أنه ذكر في كتاب القياس من مجموعه أن بين الصحيحين وبين الصحة مسافات.(1/43)
قيل له: هذا لم يوجد للهادي عليه السلام أصلاً في نسخ كثيرة قديمة بحيث أني وقفت على نسخة كتبت في زمن المفضل بن الحجاج الكبير جد آل الوزير وهو في المائة الرابعة ولم يذكر فيها ذلك أصلاً ومعنا نسخة منقولة على نسخة نقلت على تلك النسخة مع أن الإمام المهدي يرى ترجيح رواية البخاري ومسلم على غيرهما كما ذكره آخر الكتاب في "المعيار" و"المنهاج" في باب الترجيح فدل هذا أن هذه الرواية في "المنهاج" تكون منقولة من نسخة كتاب القياس للهادي عليه السلام مدسوسة عليه لمخالفتها للنسخ الصحيحة أو دست على الإمام المهدي في منهاجه والهادي قد أحتج بأخبار كتب السنة في المنتخب أذا عرف هذا فما ذكرناه أولاً في نفي النفاق عن الصحابة علم منه أن المنافقين غير كبار الصحابة ووجدنا الأحاديث مروية عن المهاجرين والأنصار ولم يرو أحد من أهل المدينة والأعراب من الأوس والخزرج من تأخر إسلامه إلا اليسير مما هو في التحقيق معدود في المتابعات لا أصول الأديان فإنما هو عن الذين عدلهم الله تعالى من متشابه ومحكم هذا معلوم لمن عرف الحديث ثم أن قد ذكر أهل التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم بجماعات من المنافقين وأعلمه الله تعالى كعبد الله بن أبي وأصحابه ثم إنا نقول كانت هذه الآية قبل أن يعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم علمهم جميعاً بعد ذلك فلا إيهام ولا شك في دين الله لأن التعمية والتلبيس لا يجوزان للشرائع الدينية فلا حجة للقاضي حينئذٍ.
قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } قيل القتل وعذاب القبر.
وقيل: الفضيحة وعذاب القبر وعن ابن عباس قال قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً يوم الجمعة فقال: أخرج يا فلان فإنك منافق! أخرج يا فلان فإنك منافق! فأخرج ناساً وفضحهم فهذا العذاب الأول والثاني عذاب القبر انتهى.(1/44)
فدلت الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علمهم وتجنبهم فكيف ألبس القاضي على نفسه بأن في الصحابة وكبارهم الذين يحملون السنة البيضاء من هو منافق؟! يا للعجب من هذه الغفلة التي وصلت إلى هذا.
قوله: حديث البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى رسول الله وأن الجنة والنار حق حرم الله عليه النار) قال هذا باطل.
أقول: إن هذا الحديث قد جاء من طريق الزيدية الذين يصدق القاضي بجميع مارووا فقد روى صاحب "شمس الأخبار" من طريق صاحب "الذكر" محمد بن منصور عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال" (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصة من قلبه) فما أجبت به هنا فهو جواب الحديث المذكور الذي هو من طريق البخاري ومسلم، وجوابهما: أن المراد بذلك ممن كان أهلاً للشفاعة مطلقاً مقيد بقوله تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء:28] إذ اليهود يقولون: لا إله إلا الله فلذلك كان مطلقاً كما أن قوله تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [الزمر:53] قيد بقوله تعالى عقبها بلا فصل
{(1/45)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } [الزمر:54] الآية. قوله: حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أتاني جبريل فقال: من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمتك دخل الجنة: قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق) الحديث. وعن أبي موسى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً) رواه مسلم ونحوه، قال ابن سعد الدين: هذا لا يصح لأنه معارض بحديث حذيفة: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً أبداً) الحديث قال: فهذه الأحاديث ونحوها متناقضة فدل أنهم يروون الأحاديث المتناقضة، قال: ومن المتناقض ما روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونوه ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن) وما روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى آخره خير أم أوله) قال: فهذا طرف من التناقضات.(1/46)
أقول: هذا التناقض عنده لا يحكم على تناقضه عند غيره وإلا فإن أحكام الشريعة لا تناقض فيها قال الله تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء:82] وما صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يتناقض أصلاً وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فالحديث الأول حديث أبي ذر له طرق كثيرة وفي معناه ما أخرجه السيد المرشد بالله في أماليه بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ولمن خاف مقام ربه جنتان) قال أبو هريرة: وإن زنى وإن سرق. وأخرج المرشد بالله أيضاً عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذره من إيمان ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير) انتهى.
وعلى قاعدة القاضي صاحب الرسالة هذا صحيح لا شك فيه؛ لأنه من رواية إمام أئمه الزيدية فالإنصاف الذي أخذ الله على المؤمنين القول به هو أن هذه الأخبار يحتمل تأويلها بأنها مطلقة مقيدة بالتوبة والاستغفار وقد جاء في ذلك أيضاً حديث مفسر له وسيأتي إن شاء الله تعالى وذكر إمام السنة البخاري في صحيحه في باب لباس الثياب البيض ذلك الحديث وقال هذا حيث تاب فطالعه في الجزء الآخر تجده كذلك.
والحديث الذي بعده قد جاء في حديث آخر: (إن ما من ميت يموت من المسلمين إلا ويرى مقعده من الجنة و النار في قبره) فيحتمل أن المسلم يرى مقعده في النار حيث عصى ويراه حيث كان تائباً في الجنة فإن كان تائباً مستغفراً أدخل الله مكانه يهودياً أو نصرانياً.
إن قيل: إن التأويل بالتوبة في حديث أبي ذر خلاف الظاهر لأن أبا ذر لا يراجع في الأمر الظاهر إذ لا يخفى عليه أن الله يتوب على التائب.(1/47)
قيل له: لكن روى ابن حجر في "المطالب العالية" بإسناده عن كعب بن ذهل الإيادي قال: سمعت أبا الدرداء يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتاني آت من ربي عز وجل فقال: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً } [النساء:110] قلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق ثم استغفر غفر له قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم الحديث فهذا دليل صريح يحمل تلك الرواية المتقدمة المسكوت فيها عن ذكر الاستغفار في حديث أبي ذر على هذه الرواية وقد أخرجه ابن مردويه والطبراني وقد ذكره السيوطي في تفسيره وكلهم ذكر الاستغفار فهذا هو الإنصاف بالنظر إلى الموافقة بين الأحاديث وجمعها لئلا يتنافى والمتشابه فيها كالمتشابه في القرآن فيحمل مطلقها على مقيدها وعامها على خاصها ونحو ذلك وليس من الإنصاف التكذيب لكل حديث فيه تشابه أصلاً وقد أنصف السيد إبراهيم بن محمد الوزير صاحب "الفصول والهداية" في أول كتابه الذي كان شرع فيه في الحديث حيث قال ما لفظه الواجب قبول حديث كل راو من أي فرق الإسلام كان إذا عرف تحرزه في نقل الحديث وصدقه وأمانته وبعده عن الكذب وإن كان مبتدعاً متأولاً ورد كل راو عرف منه خلاف ذلك من غير تساهل في القبول ولا تعنت في الرد فأما قبوله بمجرد الموافقة في الاعتقاد ورده بمجرد المخالفة في الاعتقاد وتطلب المدح لغير الثقات وتكلف القدح في حق الأثبات فمن مزال الأقدام إلى آخر كلامه على أن حديث أبي ذر المذكور أولاً قد ذكر في "أمالي" المرشد بالله و"أمالي" الموفق بالله بإسناده إلى الزهري إن ذلك كان قبل نزول الفرائض والحدود وذكر ابن حجر في فتح الباري عن الطبراني بإسناده فحينئذ لا حجة فيه لأنه كان منسوخاً والله أعلم.(1/48)
وأما حديث تحاج موسى وآدم عليهما السلام فلم يرد آدم فيه الاعتذار من الذنب بل أراد أنه قد وقع منه ذلك واستغفر الله تعالى منه فكيف يلام من قد سبق العلم واستغفر منه وتاب إذ لا لوم على التائب المستغفر لله كما حكى الله تعالى توبته في كتابه وليس في الدين إشكال إن شاء الله تعالى.
وقد تأول أهل الحديث بتأويلات تؤدي هذا المعنى ولم يعملوا بظاهره.
وأما قول القاضي أن كتب الحديث لا يقرء فيها لأجل ما فيها من المتشابهات والجبر والتشبيه واحتج بنهي المهدي علي بن محمد.
فأقول: الله يجب الإنصاف أليس في كتاب الله تعالى المتشابه فلا بد أن يقول نعم فنقول كذلك السنة فيرد المتشابه إلى المحكم كما في القرآن الكريم لا يمنع من قراءتها فإن أكثر الأحكام فيها قطعاً والرواة الذين رووا المحكم هم الذين رووا المتشابه في الغالب فكيف يصح هذا دون هذا والراوي واحد فإن قال الرواة جبرية ومشبهة ومرجئة فلا يعمل بروايتهم.
قلنا قد عمل أئمة الزيدية بروايتهم في كتبهم ومصنفاتهم مسندة إليها كما سبق ثم إنه لم يكن فيهم مشبهة ولا من يلتزم الجبر ولا يقول به أحد بل يضللون من قال به أما التشبيه فالأمر ظاهر أنه لا يقول به أهل السنة أصلاً وكذلك الإرجاء ولذلك يجرحون في كتب الرجال بالإرجاء والإرجاء هو التأخير في اللغة والشرع قال تعالى: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ } [التوبة:106] والقول إن الإيمان قول بلا عمل فهذا هو المذموم الذي لا يقول به أحد من أهل السنة وأما الرجاء وهو الأمل في الله وحسن الظن فلا بأس به قال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [السجدة:16] وقال تعالى: { يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه } [الإسراء:57] وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - : (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) والرجاء هو علامة كل مؤمن ومن لم يقل به فهو آيس من رحمة الله تعالى.(1/49)
وأما مسألة الشفاعة احتجاجاً بظاهر ما فيها من الأخبار فهم وإن قالوا بذلك لم ينفوا العقاب فلا يوجب ذلك ترك رواياتهم كما ذكره الإمام المهدي أحمد بن يحيى إمام الهدوية الذي يرجع الهدوية إليه ذكره في "شرح الفرائد" واحتج عليه بمثل حجج أهل السنة والإمام عز الدين الحسن في شرح "المعراج على المنهاج" ومن المتقدمين الإمام أبو عبد الله الداعي وغيرهم وهو قول جماعة من المعتزلة على أن المتقدمين من المحدثين رووا الأخبار كما جاءت مع احتمالها ظنية ومسألة الشفاعة عليه فلا بد فيها من العلم بالاتفاق بين جميع العلماء من أهل السنة وغيرهم كما حققه ابن الخطيب الرازي في كتابه "التقديس في تأويل الأحاديث".
وأيضاً أنه جزم بأن دلائل الشفاعة لأهل الكبائر ظنية في تفسير "مفاتيح الغيب" وفي غيره ولذلك روى في "شرح المواقف" عن كثير من الأشعرية أن دلائل الشفاعة لأهل الكبائر ظنية فلم يحصل العلم فيها وإن تواتر متنها مع احتمالها للتوبة والصغائر ونحو ذلك من المؤاخذة على الصراط كما لا يخفى على المحقق إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن القاسم في "حاشية جمع الجوامع" على قول المحلى الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية فقال ابن القاسم قال في "شرح المقاصد": واعتبروا في أدلتها اليقين لأن غيرها بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات قال وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعيات الفرعية وعلم الله تعالى وعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاعتقاديات وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه ودخل علم علماء الصحابة بذلك فإنه كلام وإن لم يكن يسمى في ذلك الزمان بهذا الإسم كما أن علمهم بالعلميات فقه وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب انتهى .(1/50)
وقد قررناه في مصنفاتنا أن الأخبار في الشفاعة محتملة للمحسنين المؤمنين لصغائر الذنوب فإن كثيراً من العلماء قال يجوز العقاب على الصغائر منهم سعد الدين في شرح العقيدة النسفية قال لأن فائدة قوله تعالى: { لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف:49] فليس فائدة الإحصاء إلا ذلك وكذا البيضاوي في تفسير سورة الأعراف عند قوله تعالى: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف:23] وهو من الشافعية ومثله قرره أيضاً صاحب الحواشي السعدية على تفسير البيضاوي وهو من الحنفية واختاره الإمام شرف الدين فحينئذ كانت دلالة الأخبار ظنية محتملة لذلك فلا تتم الحجة القاطعة وأيضاً إن الإتفاق بما يحصل من التشديد على حسب الأعمال ورحمة العزيز الغفار لمن يشاء فأما أهل الكبائر فأدلة الوعيد ظاهرة لهم في نار جهنم إذا لم يتوبوا قبل موتهم أعني الوعيد المعين على الكبائر إلا العام فإنه ظني كالأول.
وأما حديث الترمذي الذي ذكره فقد قال الحافظ أبو بكر في "عارضة الأحوذي شرح الترمذي" ما لفظه أخرج أبو عيسى عن حماد بن يحيى الأشج عن ثابت البناني عن أنس واختلف في حماد الأشج فقيل حماد الأشج ليس بشيء وقال أبو عيسى كان عبد الرحمن بن مهدي يثبت حماد الأشج ويقول كان من شيوخنا الأصول اعترضوا على هذا الحديث فردوه بقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ } [الواقعة:10] وبقوله سبحانه وتعالى: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } [الحديد:10] وقال - صلى الله عليه وسلم - : (مخاطباً لبعض الصحابة في بعضهم لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فأنى يستوي أول هذه الأمة وآخرها.(1/51)
قال الإمام الحافظ: وأثبتنا رواية أبي ثعلبة الخشني: إن من ورائكم أياماً يصير للعامل فيها أجر خمسين منكم قالوا بل منهم قال بل منكم زاد قالوا لم يا رسول الله قال لأنكم تجدون على الخير أعواناً قال وقد بالغنا في بيان ذلك وأيضاً في اليسير في أقسامه على التمام وجملته أن الصحابة رضوان الله عليهم الذين أسسوا الدين ورتبوا قواعده وعدلوا ميزانه وأبانوا برهانه بمناقب تساموا إليها وتفاوتت درجاتهم فيها فمنهم سابق ولا حق وأول وآخر ويبعد كل البعد يساوي المنتهي منهم المبتدي فما ظنك بمساواة من بعدهم لهم هذا لا يخطر ببال أحد وإنما وجه الحديث على الجملة أن معظم مقاصد الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ القانون الذي تقوم به رياسة الدين لسياسة العالمين فرضه دائم إلى يوم القيامة وتكثر المناكر في آخر الزمان ويقل المغيرون لها ويذهب المعروف ويعدم الداعي إليه والأمر به فإذا قام بهذا أحد أومن كان فله أضعاف ما كان من الأجر للصحابة في هذه الخصلة وحدها ويفضلون الخلق بعظم سائر الخصال التي تضامها الصحبة الكريمة ومشاهدة تلك الغرة الزاهدة وبلقى تلك الأخلاق الطاهرة فهذا وجه إن صح الحديث ويشهد له قول المتمسك بدينه عند فساد الناس كالقابض على الجمر انتهى كلام الحافظ شارح الترمذي وقال سعد الدين التفتازاني في التلويح ما لفظه فإن قيل قد قال عليه السلام: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) فكيف التوفيق قلنا الخيرية تختلف بالإضافات والاعتبارات فبالقرون الأول السابقة خير بنيل شرف قرب العهد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولزوم سيرة العدل والصدق واجتناب المعاصي ونحو ذلك على ما أشار إليه قوله عليه السلام يفشو الكذب.(1/52)
وأما باعتبار كثرة الثواب ونيل الدرجات في الآخرة فلا يدرى أن الأول خير لكثرة طاعته وقلة معصيته أم الآخر لإيمانه بالغيب طوعاً ورغبة مع انقضاء زمان مشاهدة آثار الوحي وظهور المعجزات وبالتزامه طريق السنة مع فساد الزمان انتهى وفي "شرح مصابيح البغوي" للعلامة فضل الله ما لفظه: لا يحمل هذا الحديث على التردد في فضل الأول على الآخر فإن القرن الأول المفضلون على سائر القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم إنما المراد نفعهم في بث الشريعة والذب عن الحقيقة والمطر ينبت الزرع في الأول ثم يربيه عند استوائه على سوقه في الآخر فلا يدر أنفعه في الأول أجدى أم في الآخر فكذلك هذه الأمة أقام الدين منهم الأولون ومهد قواعده الآخرون الآخرون انتهى كلامه.
وفي شرح الشهاب للشيخ إسماعيل الحضرمي الشافعي ما لفظه: فإن قيل ما وجه الإجمال في قوله: لا تدري مع ما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة تفضيل صدر هذه الأمة على من بعدهم كقوله - صلى الله عليه وسلم - خير الناس قرني ثم الذين يلونهم الحديث وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وصرح به القرآن في غير آية كقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ } [التوبة: 100] وقوله تعالى: { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل } [الحديد:10] إلى غير ذلك.
قلنا: كلها صحيحة لا تناقض فيها.
وقوله: "لا تدري" أي: بالرأي والاستنباط بما أخبر به عن الغيب ليشمر المشمر في درك من تقدم كما ذكرنا في خبر موته ليعود ابن مريم في أمتي كذا .(1/53)
وأما مساواة آخر الأمة أولها أو يفضلونهم، فالمراد في ثواب الأعمال والمجاهدات وإن لم يدركوهم في فضيلة سبقهم في الوجود وصحبتهم إياه، وروايته لا يلحقهم فيه أحد من الخلق بنفقة ولا عمل لقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ } [التوبة:100] وإنما ساواه الآخرون في الثواب ويفضلونهم، لأن الإسلام في قوله عليه السلام: (بدأ غريباً) في زمن الصحابة (وسيعود غريباً) في آخر الأمة فساووهم الآخرون لا سبق المجاهدة مع قلة العدد ووجد فضل الآخرين.
إن الأولين كانت لهم قوة برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه وشفقته.
قال الشيخ رحمه الله: سئل بعض الفقهاء في زمانه في مجلس وعضه عن هذه الأحاديث فلم يتضح له الجمع بينها، فقلت له في الخلوة وقد بت إلى فهمه بمثال من ظاهر الفقه فقلت كما لو - صلى الله عليه وسلم - صحابي في ليلة ركعتين وصلى تابعي من بعده في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يحكم بفضل صلاة التابعي مع الحكم بفضل صلاة الصحابي عليه بالصحبة انتهى كلامه.
وحاصله في المعنى يوافق ما تقدم ذكره للشيخ ابن العربي المالكي في شرحه "عارضة الأحوذي" للترمذي كما سبق غير أن في هذا بعض زيادة إيضاح والله أعلم.
إن قيل: إن الشرور في القرن الثاني والثالث كانت أيضاً فكيف معنى الخير؟
قيل له: المراد بالخير نظراً إلى القلة والكثرة للشرور والبدع مكان قربه - صلى الله عليه وسلم - أفضلها ثم الذي بعده ثم الذي بعده فالشر في الأول قد كان لكنه قليل ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ما زال يتناقص الخير ويكثر الشر والبدع بعد وما يأتي من قرن إلا والذي بعده أقل خيراً من الذي قبله حتى الساعة فيخلص الشر ولا يبقى الخير هذا.(1/54)
وأما قول الإمام المهدي على نهيه بمنع قراءة كتب السنة فلا حجة فيه إنما الحجة في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خطأ بين ولذلك خلافه ولده الناصر محمد بن علي وأمر الناس بقراءة الحديث حتى كانت السنة في زمانه ظاهرة حية مقرءة في المساجد زاهرة أنوارها ظاهره أعلامها نور الله حضره من نورها وإذا عرفت هذا أيها المسترشد فاعلم أنا قد تصفحنا الأحاديث جميعاً التي يحتج بها الهدوية وإذا هي كلها مأخوذة من كتب أهل الحديث بلا شك ولا ريب يعرف ذلك من طالعها وعرف أصولها فإن شرح التجريد للمؤيد بالله مأخوذ من كتاب أبي جعفر الطحاوي في الحديث الموسوم بـ"شرح معاني الآثار" أربعة مجلده فنقل المؤيد بالله أحمد بن الحسين أكثر أحاديث "شرح التجريد" بأسانيدها أعني أسانيد الطحاوي في كتابه.(1/55)
والطحاوي من الحنفية وحفاظ الحديث وكذلك "سنن أبي داود" ومن كتاب الجصاص الحنفي ومن مسند أبي بكر بن أبي شيبة الحافظ ومن مسند أبي بكر المقري وغيرهم كما ذكرناه أولاً وكذلك أبو طالب في "شرح التجريد" أخذ من هذه الكتب المذكورة ومن "أصول الأحكام" مختصرة من "شرح التجريد" لم يرد على ما فيه من الأحاديث إلا ما حذف و"الشفا" مختصر من "شرح التجريد" ومن شرح القاضي زيد وشرح القاضي زيد مختصر من شرح أبي طالب وأخذ أيضاً صاحب "الشفا" من "الانتصار" للإمام يحيى و"الانتصار" من هذه الكتب ومن كتاب مهذب الشافعي ومن "الفائق" للزمخشري في الغريب ومن "شرح الإبانة" ومن "مجموع" زيد بن علي ومن "أمالي" أحمد بن عيسى ومن غير ذلك هذا معلوم وإذا أن الأمر هكذا فجميع مارووه من الحديث عائد إلى كتب الحديث والحفاظ وفيه الصحيح والضعيف كما هو معلوم عند المصنفين لتلك الأصول إذ لم يجمعوا الصحيح فقط بل جمعوا الكل مما جاءهم وبينوا أسانيده ومنهم من قطعها كالمحتجين في كتب الفقه نحو مهذب الشافعي وغيره فكيف تصح دعوى انقلاب هذه الأصول التي علم فيها الضعف بمجرد نقل الزيدية لها إلى كتبهم إلى الصحة؟ هذا بعيد فإن النحاس الفاسد إذا دخل تحت مطرقة الحداد لا يخلصه الشبه والفساد فالضعيف ضعيف لا يفيد نقله من محل إلى محل وليس للزيدية في الحديث من المسندات إلا ما هو في الزهديات كما في "أمالي" المرشد بالله وأمالي أبي طالب ونحوها وكلها أسانيدها أسانيد سائر كتب الحديث ورجالها رجالهم فتراهم أخذوا نصباً عنهم وإن أسندوا ولذلك رووا أحاديث الشفاعة والقدر كما في أمالي المرشد بالله وصحيفة علي بن موسى الرضا ومجموع زيد بن علي الكبير وإن كان قد ذكر في أمالي أحمد بن عيسى أشياء من الأحاديث المسندة في الأحكام فهي قليلة لا تفي بجميع الأحكام الشرعية أصلاً ولذلك اضطر أئمة الهدوية إلى الرواية والنقل عن غيرها كما أخذوا من الكتب المذكورة أولاً عن أبي جعفر(1/56)
الطحاوي وغيره كما ذكرناه عنهم وكذلك جامع آل محمد فإنه قد يذكر اليسير مسنداً والأكثر من الأخبار مقطوعاً من كتب الحديث أيضاً وهو كتاب جليل يجري على مذاهب السلف.
فإن قال صاحب الرسالة: إن في كتب الحديث ما هو صحيح وما هو ضعيف.
قلنا له: قد ذكرت الأسانيد والرواة ونقد الرجال وهذه المصنفات بين أيدينا في أحوال الرجال والتعديل والتجريح، فمن ظهر ضعفه حكم به وما صح عمل بحسبه كما هو الإنصاف وأما العرض فلا مانع منه ولا يوجب المحذور للعارف ولكن أنت تعرض ذلك على الكتاب العزيز وتحكم بعرض الكل على المحكم والمتشابه في القرآن وهذا ليس من الإنصاف في شيء أصلاً بل الإنصاف العرض للمحكم على المحكم والمتشابه على المتشابه ليظهر وجه الحق إن شاء الله تعالى ويحصل الإنصاف والله الموفق.
ومما يتوجه التنبيه عليه هنا أنه لا ينبغي التجاري في ذم السلف الصالح من كبار الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة بمجرد ما يوجد من الأكاذيب في كتب المثالب التي وضعها الرافضة قال الإمام المهدي والإمام يحيى بن حمزة وغيرهما ذكروا أن فرقة من الرافضة تجيز الكذب لنصرة دينهم وقد رأيت كثير من الرافضة يتتبعون المثالب والمساوئ، ويطالعون لها الكتب الكبار والتواريخ والأسفار وليس همهم إلا السقوط على مثلبة مكذوبة أو عثره على جهة الخطأ فيبادرون إلى نقل ذلك وإذا رأوا المناقب الغامرة لذلك الكثيرة الطافحة دفنوها وأعرضوا عنها بالمرة ولا يلتفتون إليها فهذا لعمري ليس من الإنصاف بل هو جار مجرى ما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقال الآخر:
إن يعلموا الخير أخفوا وإن علموا ... شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
وقال الآخر:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً
مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا(1/57)
وقد روي في حديث أنه قال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تتبعوا عثرات العلماء فإن لهم عند الله إقالة).
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أخطئ في العقوبة مع ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن سب السلف الصالح كما في الأخبار الصحيحة ومع ما ينبغي للإنسان من الاشتغال بعيب نفسه عن عيوب الناس وقد جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وقال تعالى في الكفار وهم كفار: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة:134] فكيف بالمسلمين الذين ثبت إسلامهم ونصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا قوة إلا بالله، فيجب حسن الظن بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقل حاله أن نقول فيهم { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر:10] ومن العجائب: أن الفقيه ابن سعد الدين كان يعتني بتحرير كتاب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي النقيب والرجل إمامي اثني عشري فإنه صرح بالمتعة في كتابه هذا وابن أبي الحديد ذكره في "شرح النهج" قريب آخر الكتاب ورد عليه بجواب لبعض كتابه فترى من ينقله لا ينقل جواب ابن أبي الحديد، وقد وهم كثير بسببه أن ابن أبي الحديد يعتقد ذلك وحاشاه من ذلك فإنه قد بين جوابه في شرحه فليطالعه من أحب ذلك قريب آخر الجزء الآخر منه والله الموفق. وليعلم المسترشد أن أهل الحديث والرواة هم عمدة الإسلام وعليهم اعتماد كافة الفرق في الرواية فإنما أخذوا الحديث من كتبهم وعنهم هذا ظاهر مشهور وكذا علم أصول الفقه والعربية والتفسير وأكثر الفقه كل ذلك مأخوذ عن السلف لكل مذهب.(1/58)
ثم أيضاً بعد هذا إن من كان من أهل التأويل مقبول خبره.
قال في اللمع ما لفظه: وفي تعليق الإفادة ومن بلغ إلى حد الكفر والفسق وكان متأولاً فالعلماء يختلفون فيه والأظهر أن شهادته جائزة وهو على قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وعند أبي علي وأبي هشام: لا تقبل شهادته مع أن هذا الخلاف في المشبهة والمجبرة العرف فكيف فيمن لا يلتزم ذلك ولا يعتقده أصلاً وأئمة الحديث لا يرون الجبر والتشبيه؟! وعن المؤيد بالله والقاسم ويحيى قبول خبر المجبرة والمشبهة كما ذكره أبو مضر في شرحه فوجب قبول شهادتهم لأنهم من أهل القبلة وهذا في الشهادة مع أنها أعظم من قبول الأخبار.
وقال الأمير حسين في كتابه التقرير في كفار التأويل عن المؤيد بالله أنه قال: شهادتهم جائزة وحكى عن أبي مضر أنه قال ذلك وفي الوافي لا بأس بشهادة أهل الأهواء تخريجاً قال القاضي زيد: لأن الإجماع قد حصل على قبول خبرهم فجاز أن تقبل شهادتهم وقال المنصور بالله في كتاب الشهادات من كتابه "المهذب" في فتاويه ما لفظه وقد ذكر أهل التحصيل من العلماء جواز قبول أخبار المخالفين في الاعتقادات وروي عنهم المحققون بغير مناكرة في ذلك هذا كلام المنصور بالله فانظر كيف خص قبول خبرهم بأنهم أهل التحصيل وخص الرواة عنهم بأنهم المحققون ذكر ذلك محتجاً به على جواز شهادتهم قال لأن الأخبار نوع من الشهادة وتجري مجراها في بعض الأحكام.(1/59)
وقال الفقيه عبد الله بن زيد العنسي رحمه الله تعالى مذهبنا قبول كافر التأويل وفاسق التأويل ويجيئ عليه رواية كافر التأويل فثبت رواية الإجماع على قبول رواية فاسق التأويل من ثمان طرق عن المنصور بالله والإمام المؤيد بالله والقاضي زيد والفقيه عبد الله بن زيد العنسي والشيخ أبي حسين البصري، والحاكم بن سعيد بن المحسن بن كردمه والشيخ الحسن بن محمد الرصاص وحفيد أحمد بن الحسن والإجماع على قبول رواية كافر التأويل من أربع طرق عن الإمام يحيى بن حمزة والمنصور بالله والقاضي زيد وذكر المؤيد بالله أنه قول أصحابنا وظاهره حكاية إجماعهم واتفاقهم لأنه لم يستثن منهم أحد فيحصل من هذا كله الاتفاق بني الزيدية على قبول أخبار المخالفين في باب الروايات كما ترى فكان قول صاحب الرسالة مخالفاً لقول الزيدية والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
خاتمة فيها نصيحة لمن وفقه الله إلى قبولها(1/60)
قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة:2] والنصيحة من المعاونة على التقوى وقال تعالى: { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر:3] وقال تعالى: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } [هود:88] وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [هود:34] وفي الحديث الصحيح كما في صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) قال النووي في شرح مسلم عن الخطابي وغيره من العلماء أن معنى النصيحة لله منصرف إلى الإيمان به ونفي الشك عنه وترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها وتنزيهه سبحانه عن جميع أنواع النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه وجهاد من كفر به والاعتراف بنعمته وشكره عليها والإخلاص في جميع الأمور والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس ومن أمكن منهم عليها.
قال الخطابي: وحقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه فالله تعالى غني عن نصح الناصح.(1/61)
وأما النصيحة لكتابه سبحانه فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وطعن الطاعنين والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار لمواعظه والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما ذكر من نصيحته.
وأما النصيحة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فتصديقه على الرسالة والإيمان بجميع ما جاء به وطاعته في أوامره ونهيه ونصرته حياً وميتاً ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه وإعظام حقه وتوقيره وإحياء طريقته وسنته وبث دعوته ونشر سنته ونفى التهمة عنها واستنارة علومها والتفقه في معانيها، والدعاء إليها والتلطف في تعلمها وتعليمها وإعظامها وإجلالها والتأدب عند قراءتها والإمساك عن الكلام فيها بغير علم وإجلال أهلها لانتسابهم إليها والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين بمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتثبيتهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما عقلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم.(1/62)
وأما نصيحة عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر فإرشادهم لمصالحهم في دنياهم وأخراهم، وكف الأذى عنهم وتعليمهم ما يجهلون من دينهم ودنياهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل وستر عوراتهم وسد خلتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيطهم على الطاعات وقد كان السلف رضي الله عنهم من يبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه والله أعلم.
قال ابن بطال في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى ديناً وإسلاماً وسلاماً، وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول، قال: والنصيحة فرض كفاية يجزي فيه من قام به ويسقط عن الباقين.
قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاعة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه فإن خشي إذاً فهو في سعة والله أعلم. انتهى كلام النووي في شرح مسلم. والله أعلم.
نعم وهذه النصيحة والخاتمة عن الوقوع في شيء مما وقع فيه صاحب هذه الرسالة من المجازفة والوقيعة في المسلمين والخطأ الذي وقع فيه من الطعن في سنة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - والإرشاد للانتباه عن الغفلة التي وقع فيها والتحذير من ذلك بعد بيان بطلان رسالته.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم، والحمد لله رب العالمين.
وافق الفراغ من زبره ليلة الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة 1177هـ.(1/63)