شرح نواقض الإسلام
للشيخ المحدث
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد :
يسر إخوانكم في (منبر الدين النصيحة) أن يقدموا لكم باكورة إصداراتهم العلميّة وهو :
{سلسلة تفريغ الدروس والمحاضرات للعلماء والدعاة}
ولا شك أننا نقصد بالعلماء والدعاة هم الصادقين الناصحين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والحمد لله أمة محمد لا يزال فيهم الكثير من أمثال هؤلاء ومنهم الشيخ ابن جبرين الشيخ عبدالرحمن البراك عبد الله الغنيمان والشيخ السعد(وهو الذي معنا في الإصدار الأول) والطريفي وغيرهم كثير حفظ الله حيّهم ورحم الله ميّتهم وفك الله أسيرهم...اللهم آمين .
{سياسة التفريغ}
وسنحاول أن نقوم بتفريغ مالم يفرّغ من قبل أو لم يطرح في الشبكة تفريغه حتى نكون أفدنا أمة الإسلام بشئ لم يسبقنا إليه فالله أمرنا بالتنافس والتسابق إلى الخير وأعمال البر ومنها نشر العلم وخدمة طلبة العلم , وسنحاول اختيار المادة المفرّغة بعناية , و نرجوا من الله أن يتقبل من إخواننا الذين يقومون بالتفريغ وأن يجزيهم خير الجزاء فهم يفرّغون أنفسهم وأوقاتهم من أجل خدمة العلم وأهله فحفظهم الله ورعاهم وأسكنهم في فسيح جناته....اللهم آمين .
ونسأل الله الإعانة على ذلك , ونرجوا التجاوز عمّا يقع في التفريغ من أخطاء فجلّ من لا يسهو فتجاوزوا عنّا تجاوز الله عنكم ونسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ماينفعنا وأن يزيدنا علما...اللهم آمين...اللهم آمين...اللهم آمين .
إخوانكم
منبر الدين النصيحة
(قسم التفريغ والتصحيح)
بسم الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .......
الناقض الأول من نواقض الإسلام :
قال رحمه الله تعالى :(1/1)
الأول : الشرك في عبادة الله ، قال الله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . وقال : ( إن من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار .
الشرح :
نعم أحسنت ....
هذا الكتاب كما تقدم وكما هو معلوم للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، و الكتاب رسالة صغيرة تتحدث عن نواقض التي تنقض إسلام المرء ، والتي تجعله مرتدا – عافانا الله وإياكم – بعد إيمانه وإسلامه ، وهذه المسألة لا يخفى على مسلم أهميتها ، وقد ذكرها الله عز وجل في كتابه كثيرا ، وكذلك أيضا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، وتبعا لما جاء في الكتاب والسنة ذكر أهل العلم هذه المسألة في كتبهم ، أو أفردوها بالتصنيف والتأليف ، فلا تجد كتاب يتعلق بالسنة النبوية أو يتعلق بالفقه إلا وتجد فيه باب يتعلق بحكم المرتد أو أحكام المرتدين ، وكذلك أيضا – كما ذكرت قبل قليل – أن هناك من أفردها بالتصنيف ، ومن ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، وذلك في هذه النواقض العشرة .
وفي الحقيقة أن هذه النواقض هي قد تكون عشرة وقد تكون أكثر وقد تكون أقل ، لكن المقصود : مرجع هذه النواقض إلى عشر نواقض ، ولذلك بعض أهل العلم أوصلها إلى أربعمائة ناقض ، وهناك من أوصلها إلى تسعين ناقض ، وهناك من ذكر أقل ... وهكذا ، فقصد الشيخ رحمه الله تعالى في النواقض العشرة هو أن هذه النواقض راجعة إلى عشرة أشياء .(1/2)
وأول ما بدأ به رحمه الله – كما سمعنا – هو : الإشراك بالله ، والشرك بالله – عافانا الله وإياكم – بدأ به المصنف لأن هذا الذنب هو أكثر الذنوب انتشارا بين الناس ، وهو أعظم الذنوب ، ولذلك بدأ به المصنف رحمه الله تعالى ، وقد قال الله عز وجل : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فأخبر سبحانه وتعالى أن الغالب على الناس أنهم لا يؤمنون بالله إلا مع الشرك به عافانا الله وإياكم من ذلك ، فلكثرة انتشار هذا الذنب ابتدأ به المصنف ، ولأن هذا الذنب أيضا – كما هو معلوم – أنه أعظم الذنوب عند الله عز وجل ، وقد قال الله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فأخبر الله عز وجل أن جميع الذنوب داخلة تحت مشيئته إن شاء غفر لصاحب الذنب وإن شاء عذبه ، إلا الإشراك به فهذا الذنب هو الذي لا يغفر الله سبحانه وتعالى ، وقد جاء في مسند البزار من حديث إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أن الشرك ثلاث وسبعين باب أو بضع وسبعين باب ، فالشرك بالله عافانا الله وإياكم له صور كثيرة لعلي أذكر أولا معنى الشرك ، ثم بعد ذلك نذكر ما يتعلق بهذا الناقض من نواقض الإسلام من أحكام ومن أقسام متعلقة بهذا الناقض .
فأولا : أن الشرك مأخوذ من المشاركة والاشتراك ، فهذا هو معنى الشرك من حيث اللغة ،
وأما من حيث الاصطلاح : فهو جعل شريك لله عز وجل في ربوبيته أو إلهيته أو أسمائه وصفاته .
أو هو : مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله .
أو أن تقول هو : صرف العبادة لغير الله عز وجل .
أو أن تقول هو : صرف التعلق لغير الله ... إلى غير ذلك من التعريفات التي تختلف من حيث اللفظ ، ولكن معناها واحد ... ، ولعل أجمع هذه التعريفات هو : أن يجعل الإنسان شريكا لله عز وجل بربوبيته أو إلهيته أو أسمائه وصفاته ... ، والشرك عافانا الله وإياكم من – كما تقدم – أنه ثلاثة وسبعين باب .(1/3)
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الإشراك بالله ينقسم إلى قسمين :
1-إلى شرك أكبر .
2- إلى شرك أصغر .
والشرك الأكبر ينقسم إلى أقسام ، والشرك الأصغر أيضا ينقسم إلى أقسام .
فأولا فيما يتعلق بالشرك الأكبر هو ينقسم إلى أقسام :
إما أن يكون هذا الشرك في الربوبية .
وإما أن يكون في الألوهية .
وإما يكون في الأسماء والصفات .
وكذلك الشرك في الربوبية منه ما يكون شركا في الاعتقاد , ومنه ما يكون شركا في الأعمال , ومنه ما يكون شركا بالأقوال ، وكذلك أيضا الشرك الذي يكون في الألوهية منه ما يكون شركا في الاعتقادات , ومنه ما يكون شركا في الأقوال , ومنه ما يكون شركا في الأفعال ، وكذلك أيضا فيما يتعلق بالأسماء والصفات .
وأما ما يتعلق بالشرك الأصغر فهو أيضا ينقسم إلى قسمين :
1- شرك أصغر ظاهر .
2- وشرك أصغر خفي .
والشرك الأصغر الظاهر هو أيضا منقسم ، إما أن يكون شركا في الربوبية , أو شركا في الألوهية , أو في الأسماء والصفات ، وأما الشرك الأصغر الخفي فهو على قسمين :
1- منه ما يكون رياء .
1- ومنه ما يكون سمعة .
الأقسام التي ذكرناها إجمالا لعلي أذكر بعض التفاصيل المتعلقة بهذه الأقسام ، فقلت أن الشرك الأكبر هو منقسم إلى ثلاثة أقسام :
شرك في الربوبية .
أو في الإلهية .
أو في الأسماء والصفات .
وأيضا منه ما يكون في الاعتقادات ومنه ما يكون في الأقوال ومنه ما يكون في الأعمال .(1/4)
فأما ما يتعلق في الربوبية فالشرك في الربوبية هو واضح ، وهو : أن يعتقد الإنسان أن هناك من يخلق أو يحيي أو يميت أو يملك أو يتصرف بهذا الكون أحدا مع الله . فلا شك أن هذا شرك في الربوبية ، ومن المعلوم أن الربوبية هي : توحيد الله عز وجل بأفعاله ، وإفراده سبحانه وتعالى بالأفعال. وذلك أنك تفرده عز وجل بجميع الأفعال المختص بها ولا تجعلها لغيره سبحانه وتعالى ، ومن ذلك : الخلق والإحياء والإماتة والملك والتصريف والتدبير ... إلى غير ذلك ، فالشرك الأكبر منقسم إلى شرك في الربوبية وكذلك أيضا منقسم إلى شرك في الألوهية ، وذلك أن يدعو الإنسان غير الله أو يستغيث بغير الله أو يصلي لغير الله أو ينذر لغير الله .... إلى غير ذلك . ومن المعلوم لذينا أن تعريف توحيد الإلهية هو : أن تفرد الله عز وجل بأفعاله . وذلك أنك تصرف هذه الأفعال العبادية له وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) فمن صلى أو استغاث أو نذر أو دعا أو سأل غير الله عز وجل يكون قد أشرك في ألوهية الخالق سبحانه وتعالى .
ومن المعلوم أن الغالب على شرك الناس هو في الألوهية ، كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفاؤنا عند الله ) فهذا شرك في ألوهية الله عز وجل ، وكما قال تعالى : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) فأيضا أنهم ما عبدوهم إلا لأجل أن يقربوهم إلى الله عز وجل منزلة ، فكل هذا شرك في جانب الألوهية.(1/5)
وأما يتعلق بالقسم الثالث وهو الذي يكون في الأسماء والصفات : فمن اعتقد أن هناك من يعلم الغيب مع الله فهذا الإنسان يكون قد أشرك مع الله عز وجل في أسمائه وصفاته ، أو من اعتقد أن هناك من يرحم الرحمة التي تليق بالله عز وجل أن هناك من يغفر مثله ، وذلك بأنه يغفر الذنوب ويعفو عن عباده ويتجاوز عن السيئات ويدخل عباده إلى الجنة ويبعدهم عن النار ، فلا شك أن هذا قد أشرك في هذه الصفة المختص بها الله عز وجل وحده ، أو أطلق اسم الرحمن أو اطلق اسم الأحد أو الصمد على غير الله عز وجل يكون هذا قد أشرك في أسمائه .
ومن المعلوم أن أسماء الخالق عز وجل على ثلاثة أقسام فيما يتعلق باشتراكها مع المخلوق أو إطلاق هذه الأسماء على المخلوق ، أسماؤه عز وجل تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- أولا : أسماء خاصة به عز وجل وحده .
2- والقسم الثاني : الأسماء التي هي مشتركة بين الله وبين عباده .
3-والقسم الثالث : هي الأسماء التي إذا لوحظ فيها معنى الصفة ينبغي أن تغير تعظيما وتقديسا لاسم الخالق عز وجل .(1/6)
فأما ما يتعلق بالقسم الأول ؛ فالله عز وجل مختص بأسماء ، أولا : مختص باسم الله عز وجل ، ومختص كذلك باسم الأحد والصمد والقدوس والرحمن ... فكل هذه الأسماء مختص بها الخالق عز وجل ، وهناك أسماء مشتركة بين الله وبين عباده ، مثل : الرحيم ومثل أيضا الملك ومثل الكريم كما جاء في صحيح البخاري عندما سئل الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من أكرم الناس ؟ قال : الكريم بن الكريم بن الكريم ) فذكر يوسف عليه السلام بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فهذا الاسم مشترك بين الله عز وجل وبين عباده ، والقسم الثالث هي الاسماء التي إذا لوحظ فيها معنى الصفة فينبغي أن تغير ، كما ثبت في سنن النسائي وغيره في حديث أبي شريح عندما كان هذا الرجل يقضي بين قومه ، فكُنِّي بسبب ذلك كني بأبي الحكم ، فالله عز وجل غير هذه الكنية لأنه لوحظ فيها معنى الصفة ، ولذلك بسبب قضاءه بين قومه ، ورضا كلا الخصمين بقضاءه ، فكأنه شابه الخالق هنا تعالى الله عن ذلك ، فغيره الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أبي شريح ، المقصود أن الشرك الذي يكون في الأسماء والصفات هو في الأسماء المختص بها الخالق عز وجل ، وأما ما يتعلق بالصفات فكل صفة هو متصف بها عز وجل فلا يجوز أن يوصف بها العبد .
كذلك أيضا الشرك بالله هو منقسم أيضا – الشرك الأكبر – هو أيضا منقسم إلى ثلاثة أقسام :
إما أن يكون هذا الشرك في الاعتقاد .
أو أن يكون في الأقوال .
أو أن يكون في الأفعال .(1/7)
في الاعتقاد كما تقدم مثلا أن يعتقد الإنسان أن هناك شريكا مع الله ومن اعتقد أن هناك من ينزل المطر مع الله ، ومن اعتقد أن هناك من يُطاع طاعة مطلقة مع الله عز وجل فهذا يكون أيضا قد أشرك في الاعتقاد ، وأما الشرك الذي كون في الأفعال كأن الإنسان لغير الله أو يسجد لغير الله أو يحج لغير الله فهذا شرك يكون في الأفعال ، وأما ما يتعلق بالأقوال كأن يستغيث بغير الله أو يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل أو يدعو غير الله فيما لا يليق إلا أن يصرف لله عز وجل فهذا شرك يكون في الأقوال .
وعلى كل هذه الأقسام أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، يعني مثلا الشرك الذي يكون في الأقوال كما في قوله تعالى : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله ) والشرك الذي يكون في الأفعال : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له ) إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على هذه المسألة ، فهذا ما يتعلق بالشرك الأكبر .
وأما ما يتعلق بالشرك الأصغر فهذا قد جاء أولا – الشرك الأصغر – قد جاء في السنة نصا ، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر . فسئل عنه فقال : الرياء ) . فالشرك الأصغر قد جاء في السنة، والأدلة التي تدل على هذا غير هذا الحديث كثيرة ، لكن ذكرت هذا الحديث لأن هذا الحديث فيه نصا ذكر الشرك الأصغر .
نعم ... الشرك الأصغر – كما تقدم – هو منقسم إلى قسمين :
1- شرك أصغر ظاهر .
2- وشرك أصغر خفي .
والشرك الأصغر الظاهر – كما تقدم أيضا – منه ما يكون في الربوبية , ومنه ما يكون في الألوهية , ومنه ما يكون في الأسماء والصفات ، وكذلك أيضا منه ما يكون في الاعتقاد , ومنه ما يكون في الأقوال , ومنه ما يكون في الأعمال .(1/8)
الاعتقاد قد يكون هذا الاعتقاد أيضا شرك هو في جانب الربوبية ، وذلك أن يعتقد سبب ما ليس بسبب ، فهذا شرك أصغر في جانب الربوبية ، أو يكون هذا في جانب الإلهية وذلك كأن يتمسح بشيء يعتقد أن فيه البركة ... يتمسح بيده ، فهذا عمل وهو شرك أصغر في جانب الألوهية ، وذلك أن يعتقد بأن هذا سبب وهو ليس بسبب ، أو يكون هذا الشرك هو فيما يتعلق بالأسماء والصفات وذلك أن يقول الإنسان ما شاء الله وشئت ، فهذا له تعلق في صفات الله عز وجل وأسمائه ، وذلك أن هذا الإنسان عندما يقول ما شاء الله وشئت أشرك في لفظه ، وساوى في لفظه بين الله عز وجل وبين هذا الإنسان ، فهذا مرجعه إلى الأسماء والصفات ... إلى غير ذلك .
في الاعتقاد أن يعتقد الإنسان في شيء أنه سبب وهو ليس بسبب ، مثلا أن يعتقد أن تعليق التمائم سبب في دفع الضر وجلب النفع ، فهذا النوع من أنواع الشرك هو أصغر ويكون في الاعتقاد ، أو فيما ما يتعلق بالأعمال كأن يعلق التميمة ، فهذا شرك أصغر في العمل ، أو يتمسح بشيء ويعتقد فيه البركة والله عز وجل لم يجعل فيه البركة ، ومن المعلوم أن البركة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم ولعل هذا يأتينا فيما بعد ، وأما ما يتعلق بالأقوال فكأن يحلف الإنسان بغير الله أو يقول ما شاء وشئت وما شابه ذلك ، فهذا شرك أصغر يكون في الأقوال .
فهذه أنواع الشرك .
وهناك من قسَّم شرك الربوبية إلى أربعة أقسام ، قال :
1- إما أن يكون هذا الشرك في الدعاء .
2- أو أن يكون هذا الشرك في الطاعة .
3- أو أن يكون هذا الشرك في المحبة .
4- أو أن يكون هذا الشرك في الإرادة والنية والقصد .
وهذه الأقسام الأربعة أيضا هي داخلة فيما تقدم التنبيه عليه .(1/9)
طبعا قال فيما يتعلق بشرك الدعاء هو أن يدعو الإنسان غير الله ، كما جاء في قوله تعالى : ( له دعوة الحق ) وكما جاء في قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) ، أو أن يكون هذا في شرك الإرادة والنية والقصد ( وما أمروا إلا ليبعدوا الله مخلصين له الدين ) ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) ... إلى غير ذلك ، أو يكون هذا فيما يتعلق بالمحبة ، أو يكون – كما تقدم – هذا فيما يتعلق بالطاعة في قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ... إلى غير ذلك .
بالنسبة للشرك الأصغر – كما ذكرت قبل قليل – هو على قسمين : ظاهر وخفي . والظاهر منه ما يكون في الربوبية والإلهية والأسماء والصفات ، وأيضا يكون في الاعتقادات وفي الأقوال وفي الأعمال . وبالنسبة للشرك الأصغر الخفي هو على قسمين : في العمل وفي التسميع . في العمل : هو أن يحسن الإنسان صلاته مثلا أو أن يحسن عمله من أجل الناس ، وأما ما يتعلق بالتسميع : هو أن يسمع بعمله ، يعمل عمل لله عز وجل ثم بعد ذلك يسمع به ، يقول : فعلت كيت وكيت ... وما شابه ذلك ، وبهذا جاء في الحديث الصحيح : ( من سمَّع سمَّع الله به ) عافانا الله وإياكم من ذلك . وفيما يتعلق بالرياء :
الرياء على ثلاثة أقسام :(1/10)
1- إما أن يكون الإنسان عمل جميع هذا العمل رياء ، كما ذكر الله عز وجل عن المنافقين أنهم يراؤون في صلاتهم وأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ( يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) . وإما أن يكون – هذا طبعا القسم الأول – أقول إن القسم الأول هو أن يعمل الإنسان العمل لغير الله ... جميع هذا العمل يعمله لغير الله ... يكون الباعث له هو الناس ومراءاة الناس ، وهذا الذي ذكره الله عز وجل جاء عن المنافقين وأنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ( يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ) وهذا القسم : طبعا هذا شرك أكبر ، لأن الباعث لهؤلاء إنما هو مراءاة الناس ... هو الباعث لهم .
2- وإما أن يكون هذا الرياء هو يكون مصاحبا للعمل ، هو يعمل العمل لله عز و جل ، لكن في عمله هذا العمل لله عز وجل يصاحبه الرياء.
3- وأما القسم الثالث هو : أن يعمل عمل لله عز وجل ولا يكون قصده رياء ، ثم بعد ذلك يطرأ عليه الرياء .(1/11)
طبعاً الفرق ما بين الأول والثاني : أن الأول لم يعمل العمل إلا للمخلوق ، وأما الثاني : هو عَمِل عَمَل لله عز وجل لكن صاحبه رياء ، وذلك أن يزين هذا العمل ومثلا ويحسن هذا العمل ، يعني الرياء صاحبه في جزئية من جزئياته ، ولم يصاحب هذا العمل – أي الرياء – لم يصاحب هذا العمل من أساسه وأصله ، وإنما صاحب في جزئية من جزئياته ... فهذا هو الفرق بين الأول والثاني ، أن الأول لم يعمل العمل إلا للمخلوق فهذا شرك أكبر عافانا الله وإياكم من ذلك ، وهذا نعلم أنه جاء في الكتاب والسنة إلا ما جاء في الآية السابقة في حق المنافقين ، ولَّا في الغالب إذا أطلق الرياء ينصرف إلى الثاني والثالث ، وهو أن يعمل الإنسان العمل لله عز وجل لكن يصاحب هذا العمل في جزئية من جزئياته مراءاة المخلوق ، وذلك كأن يصلي الله عز وجل لكن يحسن هذه الصلاة ، وهذا التحسين في جزئية من جزئياتها وليس في أساسها وأصلها ، وأما القسم الثالث هو : أن يعمل جميع هذا العمل لله عز وجل ولا يخالطه من حيث الأصل رياء ، ثم بعد ذلك يطرأ عليه الرياء ، والفرق ما بين الثاني والثالث أن الثاني – كما هو ظاهر – بدأ الرياء معه من الأول ، وأما الثالث فهذا بعد ذلك طرأ عليه .
طبعا بالنسبة لحكم الثاني أن هذا الشخص لا شك أنه آثم ، واختلف هل يبطل هذا العمل من أساسه أو لا يبطل ، والأقرب والله أعلم أن هذا الجزء الذي ورد فيه هو الذي يبطل بخلاف الأساس والأصل الذي عمله لله عز وجل ، لأنه ما عمل العمل في الأصل إلا لله عز وجل فهو مثاب عليه ، لكن هذه الجزئية التي خالطها وصاحبها الرياء فهي التي تبطل ، ويكون آثما بذلك ، وأما ما يتعلق بالقسم الثالث فهذا الشخص في هذا الجزء من هذه الجزئية التي ورد فيه هو الذي يبطل ويكون آثما به ، وأما سائر عمله فهو صحيح .
أما ما يتعلق بالشرك أولا وخطورته فكما تقدم لنا ، أولا أن خطورة هذا الذنب جاءت من جهتين – كما تقدم قبل قليل - :(1/12)
1- أولا : هو عظم هذا الذنب ، وكما تقدم في الآية الكريمة السابقة ، وكما جاء في الصحيحين من حديث الأعمش ومنصور كلاهما عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يا رسول الله ، أخبرني أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قال : ثم أي ؟ قال: أن تزني بحليلة جارك ) . فعندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أي الذنوب أعظم أول ما بدأ بالإشراك بالله عافانا الله وإياكم من ذلك ، و من المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول ما يدعون الناس إلى عبادة الله وإفراده بالعبادة والبراءة من الشرك وأهله ، وأن الله سبحانه وتعالى ما خلق الخلق إلا لعبادته عز وجل وإفراده بالعبادة ، ويعني هذا أنه لا بد أن يدعوا الشرك ويتبرؤوا منه ومن أهله ، كما قال عز وجل على لسان إبراهيم : ( إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين).
فأقول فيما يتعلق بالشرك الأكبر أحكام :
1- الحكم الأول : أن من وقع في الشرك الأكبر أن هذا يكون كافرا عافانا الله وإياكم من ذلك ، ويكون مرتدا وخارجا عن الدين ، وقد حكم الله عز وجل بذلك على من أشرك كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فأخبر الله عز وجل أنه لا يغفر لمن أشرك به سبحانه وتعالى ، وإنما هو يغفر ما كان دون ذلك لمن يشاء ... إلى غير ذلك من الآيات التي جاءت في حق المشرك بالله شركا أكبر .
وهذه المسألة قد اختلف فيها أهل العلم بعد أن اتفقوا على أن الشرك الأكبر هو كفر ومخرج من الملة من حيث الأساس والأصل والإجمال ، لكن بقي من حيث تكفير المشرك بعينه ، اختلفوا فيما يتعلق بالجهل وعدمه :(1/13)
أ- فهناك من أهل العلم ممن قال أن الشخص عندما يشرك بالله شركا أكبر أن هذا يكون مرتدا ، ولا ينظر هل هو جاهل أو عالم ، وذلك لأن الحجة قائمة عليه ... هذا هو القول الأول .
ب- وأما القول الثاني : قالوا أن هذا المشرك إذا كان جاهلا أنه لا يكفر بعينه ، بل لا بد من قيام الحجة عليه حتى يكفر .
ج- والقسم الثالث هو التفريق : ما بين إذا كان الغالب عليه الشرك بالله وما إذا كان الغالب عليه التوحيد ، وإنما وقع منه أحيانا شرك أكبر بالله عز وجل ، وإنما الغالب عليه التوحيد .(1/14)
فتقريبا هناك ثلاثة أقوال في المسألة ، وبالنسبة للقول الأول قد عُزي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأيضا لبعض أبنائه وتلاميذه ، ومن ذلك عبد الله وحسين أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ، وأما بالنسبة للقول الثاني فقد عزي أيضا لشيخ الإسلام ابن تيمية وللشيخ محمد بن عبد الوهاب ... على خلاف بين أهل العلم في ثبوت ذلك عن كلا الشيخين ، لكن بالنسبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الأقرب عنه أنه كان يقول بالقول الأول وهو أن من أشرك بالله شركا أكبر أنه قد كفر وخرج عن الملة ، سواء كان جاهلا أو عالما ، وذلك أن الحجة قد قامت عليه وهو في صلب أبيه آدم ، وهذا الذي عزاه إليه الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمة الله على الجميع ، وهذا الذي أيضا كان يفتي به أبناء الشيخ وهم أعلم الناس بقول أبيهم رحمة الله على الجميع ، وما نقل عنه أنه قال : ( لا أكفر من طاف حول قبر عبد القادر الجيلاني أو من يطوف حول قبر البدوي ، وذلك بسبب جهلهم ) هذا أجيب عنه بأن الشيخ رحمه الله قصده من هذا النفي أنه لم يتكلم بذلك ، أو أنه يريد أن يدرِّج الناس كما كان يقول رحمه الله لمن دعا زيد بن خطاب رضي الله تعالى عنه كما كان يفعل أهل العيينة ، كانوا يقولون ينادون ويستغيثون بزيد ، فكان الشيخ رحمه الله يقول : الله خير من زيد . فهو يريد رحمه الله أن يدرجهم حتى يعلمون ويتبين لهم أن هذا الذي يفعلونه هو كفر بالله عافانا وإياكم من ذلك .
المقصود أن القول الأول هو القول الصحيح ، وهو : أن من أشرك بالله شركا أكبر أنه لا يُنظر إلى جهله أو إلى علمه ، بل يحكم عليه بالردة والخروج عن الإسلام ، وهذا الذي دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم :(1/15)
1- فالله عز وجل أخبر أن من دعا غيره وصرف شيئا من العبادة لغيره أنه أشرك بالله شرك أكبر ، والشرك الأكبر أخبر الله عز وجل أنه لا يغفر لصاحبه ... هذا واحد .
2- ثانيا : أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد حكم على أناس أشركوا بالله الشرك الأكبر ولم ينظر إلى جهلهم أو علمهم ، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث حماد عن ثابت عن أنس عندما جاء أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال : أين أبي ؟ فقال : أباك في النار . فعندما أدبر وقد أخذ بنفسه ناداه ، وقال له عليه الصلاة والسلام : إن أبي وأباك في النار . فهنا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يستفصل ، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزَّل منزلة العموم في المقال ، ومن قال من أهل العلم أن هذا خاص بأناس بأعيانهم فعليه أن يأتي بالدليل الذي يخصص هذا الحكم بهؤلاء الناس فقط ، فالرسول عليه الصلاة والسلام قد حكم على من أشرك بالله عز وجل حكم عليه بأنه هو في النار خالد فيها عافانا الله وإياكم من ذلك ، فكذلك أيضا نحن نقول أن كل إنسان وقع في الشرك الأكبر فهو خالد في النار عافانا الله وإياكم من ذلك .
3- ومن ذلك أيضا ما ثبت في صحيح مسلم عندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه فنهاه عز وجل لأنها ماتت على الشرك ، كما نهى الله عز وجل إبراهيم أن يستغفر لأبيه .
4- وكذلك أيضا ما ثبت في الصحيح عندما قالت عائشة رضي الله عنها أن ابن جدعان كان يتصدق كذا وكذا ، فقال : لم يقل في يوم: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين .
فالرسول عليه الصلاة والسلام حكم على أناس بأعيانهم بأنهم في النار ، وذلك بسبب شركهم ، ولم يستفصل هل هؤلاء علماء ولا جهال ، قامت عليهم الحجة أو لم تقم ، ومن قال بأن هذا خاص بهؤلاء الناس بأعيانهم فعليه أن يأتي بالدليل ، ولا دليل في ذلك فيما أعلم .(1/16)
الأمر الثالث : أن أهل الجاهلية قد دلت الأدلة من الكتاب والسنة وقد اتفق أهل العلم على ذلك بأنهم مرتدين وأنهم من أهل النار ، أهل الجاهلية الذين سبقوا البعثة ، ووجه الاستدلال بذلك أن هؤلاء كانوا أهل جاهلية وأنهم جهال ، ومع ذلك الله عز وجل قد حكم بكفرهم كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكم أيضا بكفرهم ، وأجمع على ذلك أهل العلم ، وأما من أتى من المتأخرين فقال أن الناس الذين سبقوا البعثة أنهم من أهل الفترة فهذا القول قول باطل وهو قول محدث ، وقد نقل الإجماع على خلافه ، وإنما قال بعض المتأخرين كالسبكي أو بعض شيوخ السيوطي والسيوطي ومن أتى بعده هم الذين قالوا بهذا القول ، ولا شك أن هذا القول باطل ، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك وهو أن السيوطي قال : إن الله عز وجل قد أحيى والدي الرسول فآمنوا به . مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم من أهل النار ، فأقول إن أهل الجاهلية قد حكم الله عز وجل بكفرهم وكانوا أهل جاهلية ، وكانوا مؤمنين بالله عز وجل ربا ، إلا أنهم كانوا يشركون بالألوهية ، وذلك لأن الحجة قد قامت عليهم وهم في صلب أبيهم آدم كما قال تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) ولذلك في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي يقول للمشرك : ( أردت منك أهون من ذلك ، أردت منك ألا تشرك بي شيئا وأنت في صلب أبيك آدم ) فالله عز وجل خلق عباده حنفاء أي : مؤمنين به سبحانه وتعالى ، فمن أشرك به الشرك الأكبر فهذا الحجة قائمة عليه وهو في صلب أبيه آدم فهو من أهل النار عافانا الله وإياكم من ذلك ,فهذا هو الحكم الأول : أن من أشرك به عز وجل ... أشرك به شركا أكبر ، فهذا كافر عافانا الله وإياكم ، وهو خالد في النار ... يلزم من ذلك الخلود في النار عافانا الله وإياكم من ذلك .(1/17)
2-الأمر الثاني : أن هذا المشرك الواجب هو استتابته ، فإن تاب وإلا يقتل .
3- والحكم الثالث : أن مال هذا الشخص إنما يؤول إلى بيت مال المسلمين ، فلا يرثه أهله وأقرباؤه ، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر ) .
فهذه بعض الأحكام المتعلقة بمن أشرك به الشرك الأكبر .
وأما ما يتعلق بالشرك الأصغر فالشرك الأصغر : لا يوجب – كما هو معلوم – الردة ولا بالتالي الخلود في النار ، وإنما يوجب التوبة ... أن يتوب الإنسان من هذا العمل الذي وقع فيه ، والشرك الأصغر منه ما هو من أكبر المعاصي والسيئات ومنه ما هو دون ذلك ، يعني القول بأن الشرك الأصغر هو أكبر الكبائر هذا فيه تفصيل : فمثلا يسير الرياء لا يكون مثل القتل أو الزنا عافانا الله وإياكم ، وإنما هو دون ذلك ، والمسألة فيها تفصيل فهي ليست على إطلاقها .
هذا ما يتعلق بهذه المسألة ، وهو ما يتعلق بالناقض الأول من نواقض الإسلام ألا وهو الشرك بالله عافانا وإياكم من ذلك .
ولعل أختم كلامي فيما يتعلق بهذه المسألة بوجوب الاهتمام بهذا الناقض ، وذلك بتعلمه ، و العمل بما يتعلق بذلك ، وذلك بالابتعاد عنه والبراءة منه ومن أهله ، ثم دعوة الناس إلى تركه والاتصال بضده من التوحيد وإفراد الله عز وجل بالعبادة ، وكما تقدم أن كثير من الناس قد وقعوا في ذلك ، فالواجب هو الابتعاد والحذر من ذلك ، ودعوة الناس إلى ترك ذلك وتنبيههم على ما هم واقعين فيه .....
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
الناقض الثاني من نواقض الإسلام ، قال رحمه الله :
(من يجعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعا(
الشرح :
يكفي أحسنت ...
بسم الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ... أما بعد :
فتقدم لنا بالأمس الكلام على الناقض الأول ألا وهو :الإشراك بالله سبحانه وتعالى .(1/18)
ونأتي اليوم إلى الكلام عن الناقض الثاني ، وهو : ( من جعل بينه وبين الله عز وجل وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويجعلهم شفعاء له عند الله سبحانه وتعالى ) ، وهذا الناقض في الحقيقة – الذي هو الناقض الثاني – هو لا شك أنه داخل في الناقض الأول ، لأنه شرك بالله عز وجل ، وتقدم لنا أن الناقض الأول هو : الإشراك بالله . فهذا من جملة الشرك ومن صور الشرك ، ولكن المصنف رحمه الله تعالى أفرده لأهميته ، ولكثرة من وقع فيه من الناس ، فلذلك أفرده عن الناقض الأول .
كل من جعل بينه وبين الله عز وجل وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويطلب منهم الشفاعة له عند الله فهذا قد أشرك بالله سبحانه وتعالى .
وقبل أن أتحدث على هذه المسألة أذكر أن الوسائط تنقسم إلى قسمين :
1- وسائط مشروعة .
2- ووسائط ممنوعة .
فأما الوسائط المشروعة هي : أن تجعل بينك وبين الله عز وجل واسطة في تبليغ الرسالة ، هو الواسطة في تبليغ الرسالة ، وهو عبارة عن بعثة الأنبياء والرسل ، أو إرسال الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إلى المخلوقين ، فلا شك أن هؤلاء واسطة بين الناس وبين الرب عز وجل ، فالواسطة بهذا المعنى هذا حق وأمر جاء وأمر دل عليه الكتاب والسنة ، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الواسطة بيننا وبين الله عز وجل في تبليغ الرسالة ، وذلك أننا لا نعرف ما جاء عن الله عز وجل إلا بواسطة الرسل ، فهم الذين أخبرونا عن الرب عز وجل فيما يتعلق بالتكاليف التي طلبها الله عز وجل من عباده ، فالواسطة بهذا المعنى حق ، والله عز وجل يقول : ( والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) ، فهؤلاء الذين اصطفاهم الله عز وجل هم الواسطة بيننا وبينه سبحانه وتعالى في تبليغ الرسالة ... هذا القسم الأول .
2- وأما النوع الثاني : وهي الواسطة بمعنى : التوكل والاستعانة والاستغاثة وطلب العون وطلب الشفاعة ، فهذي في الحقيقة على أقسام خمسة:(1/19)
أ- منها ما هو واجب ، وذلك بالتوكل والاعتماد وسؤال العون وسؤال القوة من الله سبحانه وتعالى ، ومن لم يسأل ربه عز وجل فلا شك أن هذا لم يوحد الله ولم يؤمن به ولم يتخذه ربا ولم يكن له أيضا هذا المخلوق عبدا ، فهذه الواسطة واجبة ولا بد منها في سؤال الله سبحانه وتعالى ، واللجوء إليه والاعتماد والتوكل عليه سبحانه وتعالى ، ولذلك الله عز وجل يقول : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ، والرسول عليه الصلاة والسلام قال لابن عمه عبد الله بن عباس فيما رواه الترمذي من حديث قيس بن حجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له : ( يا غلام إني أعلمك كلمات : إذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ... إلى آخر الحديث ) فأولا: الاعتماد واللجوء إلى الله عز وجل ، وطلب العون منه وطلب الشفاعة منه سبحانه وتعالى ، هذا أمر واجب ولا بد منه، وعلى قدر عبودية الشخص لله عز وجل يكون محققا لهذا الأمر ، ولا شك أنه ينبغي على المسلم أن يتعلق بربه سبحانه وتعالى وأن يتوكل عليه وأن يعتمد عليه عز وجل وأن يسأله أن يطلب منه الغوث والإعانة وأن يستجير به سبحانه وتعالى .
ب- وأما القسم الثاني(المستحب) هو : كثرة اللجوء إلى الله عز وجل وتعليق الأمور بيده سبحانه وتعالى والالتفات بالقلب إليه وعدم الالتفات إلى غيره ، فهذا أمر مستحب ، وكل ما كان الإنسان – كما تقدم – متصفا بهذا الشيء كلما كان أكمل عبودية للرب سبحانه وتعالى وكلما كان محققا للتوحيد ومحققا للإخلاص لربه عز وجل .
ج- وأما القسم الثالث(الجائز) هو : سؤال المخلوقين والطلب من المخلوقين وجعلهم أيضا وسائط بينهم وبين الرب عز وجل ، فهذا يكون جائزا بشروط :(1/20)
أ- الشرط الأول هو : أن يكون هذا المطلوب منه الشفاعة أن يكون حاضرا ، يعني في طلب الشفاعة مثلا وتوسيط الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بين الناس وبين ربهم عز وجل لا بد أن يكون هؤلاء الأنبياء حاضرين .
ب- وكذلك أيضا قادرين فيما طلب منهم ، وذلك كما جاء في حديث قتادة عن أنس ، حديث الشفاعة الطويل الذي في الصحيح ، أن الناس يأتون إلى الرسل عندما يؤخر الرب عز وجل الحساب ، فالناس يأتون إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام ويطلبون منهم الشفاعة لهم عند ربهم سبحانه وتعالى ، ولا شك أن في هذا جعل الأنبياء واسطة بينهم وبين الرب عز وجل ، فهذا حق بشرط أن يكون هؤلاء الأنبياء موجودون ، وكذلك أيضا أن يكون هذا في وسعهم ، أي هذا الشيء الذي طُلب منهم في وسعهم القيام به ، وذلك كطلب الشفاعة فهذا أمر في وسْع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يشفعوا للناس عند ربهم سبحانه وتعالى ، وكذلك أيضا هم أيضا موجودين ، وذلك إما يكون هذا في حياتهم ، مثل ما كان بعض الصحابة يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ويطلب منه أن يدعو له أو يطلب منه أن يرافقه في الجنة ، فهذا السؤال حق ، لأن المسؤول موجود وحاضر وهو الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولأنه أيضا في وسعه أن يدعو لهؤلاء الذين طلبوا منه أن يدعو الله لهم ، فهذا الأمر حق ولا بأس به .(1/21)
د- وأما الأمر الذي يعتبر مكروه والأولى تركه هو : كثرة سؤال الناس فيما هم قادرين عليه ، وفيما هم هو في وسعهم أن يحققوه لمن طلب منهم ، فمثل هذا لا شك أنه مشروع ، لكن الإكثار منه يكون مكروه ، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث عوف بن مالك عندما بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( أسر لهم كلمة خفية ، ألا تسألوا الناس شيئا ) قال الراوي : فكان أحدهم يسقط سوطه فلا يقول لأحد من الناس أعطني سوطي ، فهذا الأمر وهو عندما يكون في وسع العباد أن يفعلوا هذا الشيء فهذا لا شك أنه مشروع من حيث الأصل ، لكن الإكثار منه هذا يكره ، وكما تقدم في الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام حث هؤلاء النفر عندما بايعوه ألا يسألوا الناس شيئا ، أي لا يجعلوا بينهم وبين الله واسطة ، وطبعا هذه واسطة فيما إذا كان العبد قادر على هذا الشيء ، ولذلك أيضا كما جاء في حديث ثوبان الذي رواه النسائي عندما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من يتكفل بشيء وأتكفل له بالجنة ؟ قال ثوبان : أنا . قال : لا تسأل الناس شيئاً ) فعندما الإنسان يكثر من سؤال الناس فيما هم قادرون عليه لا شك أن هذا خلاف الأولى وينبغي تركه ، وينبغي للإنسان قدر ما يستطيع أن يسأل ربه عز وجل وأن يتعلق به سبحانه وتعالى ، ولذلك قال الله عز وجل : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) فأخبر الله عز وجل أنه قريب من الداعي إذا دعاه ، وأن ما على الداعي إلا أن يدعوه سبحانه وتعالى ، وتقدم لنا في حديث ابن عباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لا بن عمه : ( إذا سألت فاسأل الله ) والله عز وجل يقول : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) أي : لا نستعين إلا بك ، ولا نطلب العون إلا منك . فعندما الإنسان يكثر من سؤال الناس فهذا إذا كان في وسعهم لا شك أن هذا الشيء في الأصل مشروع وجائز ، لكن الأولى أن يتركه الإنسان تحقيقا(1/22)
للتوحيد وتكميلا للعبودية للرب عز وجل ، وأيضا تحقيقا للتعلق بالله سبحانه وتعالى .
هـ- وأما الخامس الذي هو محرم : فهو عندما يجعل العبد واسطة بينه وبين الرب عز وجل فيما لا يشرع ولا يجوز للعبد أن يجعل هناك من يكون واسطة بينه وبين الله عز وجل ، وهذا الذي قصده المصنف في هذا الناقض من نواقض الإسلام ، وقد قال الله عز وجل : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله مالا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون . وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) فأخبر الله عز وجل أنه ليس هناك أحد أضل ممن يدعو من دون الله ، وقال تعالى : ( له دعوة والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ) ، وكما قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) ، فعندما يجعل الإنسان واسطة بينه وبين الله عز وجل في شيء لا يقدر عليه هذا الإنسان ، وذلك طلب الرحمة والمغفرة وطلب الدخول إلى الجنة والاستعاذة من النار ، أو طلب الشفاء والعافية أو طلب الأموال والأولاد والرزق .... وما شابه ذلك ، فهذا الدعاء يكون شركا أكبر ، يكون شركا بالله وهو من القسم الأكبر من الشرك الأكبر عافانا الله وإياكم ، وكذلك أيضا فيما لا يجوز للعباد أن يجعلوا هذا المدعو واسطة ، وذلك مثل الشفاعة في طلب الشفاعة من الأموات ، هذا أمر لا يحوز بل هو شرك بالله وهو من الشرك الأكبر ، وذلك عندما يطلب شخص من الرسول بعد وفاته يطلب منه الشفاعة ، فلا شك أن هذا شرك أكبر ، وكما تقدم أنه ليس هناك أحد أضل من يدعو من دون الله مالا يستجيب ، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحالة لا يستجيب لمن دعاه ، ولا يشفع لمن طلب منه الشفاعة ، ولا يقبل من جعله واسطة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى ، وكما قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) ، فهذا النوع هو(1/23)
الذي قصده المصنف رحمه الله تعالى ، وهو فيمن جعل بينه وبين الله عز وجل واسطة فيما لا يقدر عليه إلا الله أو فيما لا يجوز للعباد أن يجعلوا هذا الشيء واسطة بينهم وبين الرب سبحانه وتعالى ، وكما قال تعالى : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولاينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) ، فأخبر الله عز وجل أن هذا شركا به سبحانه وتعالى ، فإذا الواسطة تنقسم إلى قسمين :
1- القسم الأول : الواسطة بمعنى تبليغ الرسالة ، فلا شك أن هذا حق ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين يكونون واسطة بينهم وبين العباد .
2- والقسم الثاني : هو الواسطة بمعنى طلب الشفاعة وبمعنى طلب الاستغاثة أو النذر أو التوكل أو طلب الإعانة والمعاونة وما شابه ذلك ، فهذه كما تقدم تنقسم إلى الأقسام الخمسة السابقة ، والمصنف رحمه الله تعالى قصد القسم الأخير ، وذلك عندما يسأل الإنسان مخلوقا من الناس ويجعله واسطة بينه وبين ربه عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى أو فيما لا يشرع للعبد أن يجعله واسطة ، فهذا هو الشرك بالله ، وهذا هو الناقض الثاني من نواقض الإسلام فيما ذكره المصنف رحمه الله تعالى .
لكن بقي الكلام على الشفاعة ، الشفاعة هي : الواسطة ، وهي كذلك الوصول إلى شيء بواسطة شيء آخر ، والشفاعة تنقسم إلى قسمين :
1- إما أن تكون هذه الشفاعة متعلقة بالآخرة ، وذلك بطلب المغفرة والتجاوز عن الذنوب ، وغفران هذه السيئات .
2- وإما أن تكون هذه الشفاعة متعلقة بالدنيا ، أي بشيء من أمور الدنيا التي في وسع العباد القيام بها .
ومقصود الشيخ رحمه الله في هذا الناقض الثاني هو الأمر الأول ، وهي : الشفاعة المتعلقة بأمر الآخرة ، والشفاعة المتعلقة بالآخرة هذه تنقسم إلى أقسام :
1- إما أن تكون هذه الشفاعة خاصة .
2- وإما أن تكون هذه الشفاعة عامة .(1/24)
فالشفاعة الخاصة هي التي تكون للرسول وحده عليه الصلاة والسلام ، وكذلك تكون لأناس معينين ، وأما الشفاعة العامة في التي تكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وتكون أيضا للصالحين وللملائكة وللأطفال وللأفراط عندما يشفعون لآبائهم ، وهذه أيضا تنقسم إلى أقسام : فأما ما يتعلق بالشفاعة الأولى ، وهي التي خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذه تنقسم إلى أقسام :
1- أولا : الشفاعة الكبرى ، وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك عندما يؤخر الله عز وجل محاسبة العباد ، فيأتي الناس إلى آدم عليه السلام ... إلى أن يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم يقول : ( لست لها ... لست لها ) ، حتى تصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث قتادة عن أنس الذي في الصحيحين ، فيقوم ويشفع عليه الصلاة والسلام عند ربه فيقول الله عز وجل له : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفع . وهذا هو المقصود بالمقام المحمود بقوله عز وجل : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) فالمقام المحمود هو :الشفاعة الكبرى وذلك في حساب العباد ... هذا القسم الأول من أقسام الشفاعة الخاصة .
2- القسم الثاني من أقسام الشفاعة الخاصة : هي الشفاعة لأهل الجنة بدخول الجنة ، فقد ثبت في صحيح مسلم أن الله عز وجل أمر الملائكة الذين هم حجبت الجنة وهم الذين عند أبواب الجنة أن لا يفتحوا لأحد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعندما يستفتح يقال : من ؟ فيقول : محمد . فيقولون الملائكة : بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك . فهذه الشفاعة هي النوع الثاني من أنواع الشفاعة الخاصة في الشفاعة لأهل الجنة بدخول الجنة .
3- وأما الشفاعة الثالثة الخاصة ، فهذه خاصة من جهتين :
أ- أولا ، الجهة الأولى : الرسول صلى الله عليه وسلم .
ب- وأما الجهة الثانية فهي : بشخص معين ، ألا وهو أبو طالب .(1/25)
وقد ثبت في حديث العباس بن عبد المطلب وحديث ابن عباس الذي في الصحيحين أن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه يقول : إن عمك أبو طالب كان يدافع وكان يحامي عنك ... وكذا وكذا ، فهل نفعته بشيء ؟ فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام : نعم ، شفت له عند الله عز وجل ، فأصبح أخف أهل النار عذابا . فهذه الشفاعة خاصة من جهتين : أولا : من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والجهة الثانية : خاصة بأبي طالب ، وذلك أنه كما سوف يأتينا أن الشفاعة لا بد فيها من شروط – أي الشفاعة العامة - ، لا بد من الإذن والرضا عن المشفوع له ، والله عز وجل لا يشفع إلا لأهل الإيمان لكن بالنسبة لأبي طالب هذا أمر خاص به ، وذلك لما كان عليه أبو طالب من المدافعة والمحاماة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيشفع له عليه الصلاة والسلام عند ربه فيكون أخف أهل النار عذابا ... نعم .
فهذه ثلاثة أنواع من أنواع الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم .
نأتي إلى الشفاعة العامة ، وهي التي تكون لأربعة أصناف:
1 - تكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
2- وتكون أيضا للصالحين .
3- وتكون أيضا للملائكة .
4- وتكون أيضا للأفراط يشفعون لآبائهم .
فتكون لأربعة أصناف من الناس ، وهذه الشفاعة العامة يندرج تحتها أنواع :
1- أولا : في الشفاعة لأناس لأن ترفع درجاتهم زيادة في الجنة ، الشفاعة لأناس من أهل الإيمان قد استحقوا الجنة أن يزدادوا رفعة ومكانة في الجنة ، وكدليل على ذلك أو مثال على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا لعم أبي موسى الأشعري أن يرفع الله عز وجل درجته عنده سبحانه وتعالى ، كما أنه أيضا دعا الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي سلمة بأن يرفع درجته في المهديين ، فهذه الشفاعة في أناس هم قد استحقوا الجنة لكن في أن يزدادوا رفعة ودرجات في الجنة.(1/26)
2- النوع الثاني : الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في أن لا يدخلوها ، الشفاعة لأناس قد استحقوا أن يدخلوا النار ، لكن بعد أن يُشفع لهم لا يدخلوا إلى النار .
3- والثالثة : الشفاعة لأناس دخلوا النار عافانا الله وإياكم في أن يخرجوا منها .
فهذه ثلاث أنواع من أنواع الشفاعة العامة ، وهذه الشفاعة العامة لها شروط ، لها ثلاثة شروط :
1- الشرط الأول : أن يأذن الله عز وجل للشافع أن يشفع ، كما قال تعالى : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لم يشاء ويرضى ) ، فلا بد أولا أن يستأذن الشافع في الشفاعة ، وكما تقدم في الشفاعة الخاصة أن الرسول عليه الصلاة والسلام يأتي تحت العرش ويسجد تحت العرش ، ويطلب من ربه عز وجل الشفاعة في محاسبة الناس ، فلا يمكن لأحد من الناس أن يشفع إلا بعد أن يأذن الله عز وجل .
2- والشرط الثاني : هو أن يرضى سبحانه وتعالى عن المشفوع له ، ولا يرضى عز وجل إلا عن أهل التوحيد ، إلا ما جاء استثناء أبي طالب كما تقدم ، فهذا الشرط الثاني .
3- وأما الشرط الثالث ... عفوا ، بالنسبة للشرط الثالث هذا في الحقيقة لشافع في أن يشفع ، وفي الحقيقة هو أيضا داخل في الشروط السابقة ، لأنه تقدم لنا أن الشرط الأول : أن يأذن الله عز وجل للشافع بأن يشفع ، وكذلك أيضا هناك شرط آخر فيمن يشفع : هو أن لا يكون من اللاعنين عافانا الله وإياكم من ذلك ، فقد ثبت في صحيح من مسلم من حديث أبي الدرداء أن اللاعنين لا يكونون شفعاء ولا شهداء في يوم القيامة . والمقصود باللعان هو الذي يكثر اللعن عافانا الله وإياكم من ذلك ، فهذا جاء في صحيح مسلم أن هؤلاء لا يكونون لا شفعاء ولا شهداء في يوم القيامة ، فهذه شروط ثلاث في ما يتعلق بالشفاعة العامة .(1/27)
هذا ما يتعلق بالنوع الأول من أنواع الشفاعة ، وهي الشفاعة التي تكون فيما يتعلق بالآخرة ، وأما الشفاعة التي تتعلق بالدنيا ، وذلك فيما يقدر عليه البشر ، وذلك في أن يشفع شخص لشخص في أن يعفو عنه مثلا ، أو أن يعطيه مال ، أو أن يزوجه ... وما شابه ذلك ، أي فيما كان في وسع البشر القيام به ، فهذه الشفاعة التي أيضا تسمى الواسطة ، هذه على قسمين :
1- جائزة .
2- وممنوعة .
هذه على قسمين : جائزة وممنوعة ، فلا تكون جائزة إلا بشروط :
أ- أولا : أن تكون هذه الشفاعة في شيء مباح ، لا يشفع هذا الشخص للشخص الآخر في شيء محرم ، فهذا محرم ولا يجوز ، والله عز وجل يقول : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ، ومن ذلك الشفاعة لأناس قد وجب عليهم الحد في أن لا يقام عليهم الحد ، فهذا قد جاء النهي عنه ولا يجوز ، وعندما أراد أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه وعن أبيه أن يشفع للمرأة المخزومية ، فلم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام شفاعته ، وقال له : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها . فأولا : لا بد أن تكون هذه الشفاعة في شيء مباح ، ولاتكون في شيء محرم .
2- الأمر الثاني : أن تكون هذه الشفاعة ليس فيها تعدي وتجاوز لحق الآخرين ، وذلك كأن يكون أناس مثلا مستحقين لوظيفة من الوظائف ، فيأتي شخص ويشفع لواحد من هؤلاء ويقدمه على الآخرين ، مع أن هناك من هو أولى منه وأحق بهذه الوظيفة مثلا من هذا الشخص ، فمثل هذه الشفاعة لا تجوز وذلك لأن في هذا تعدي وتجاوز وظلم للناس الآخرين ، فمثل هذا لا يجوز بل يحرم فلا بد من هذين الشرطين حتى تكون هذه الشفاعة مشروعة .(1/28)
وهذا النوع من أنواع الشفاعة إن قصد به الإنسان وجه الله عز وجل فإنه يثاب ، وكما ثبت في حديث معاوية وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله عز وجل على لسان رسوله ما شاء ) ، فحث الرسول عليه الصلاة والسلام على الشفاعة ، وقال أن الإنسان عندما يشفع لأخيه أنه يؤجر ، فهذه الشفاعة مستحبة ، وأما الشفاعة الممنوعة عندما يتخلف أحد هذين الشرطين ، فعندما تتخلف هذه الشروط أو واحد منها فتكون هنا الشفاعة ممنوعة ولا تجوز .
ومقصود المصنف رحمه الله تعالى في قوله أن يجعل بينه وبين الله عز وجل وسطاء وشفعاء وأناس يتوكل عليهم فمقصود المصنف رحمه الله تعالى في هذا أمرين :(1/29)
1- الأمر الأول هو : أن يُطلب من المخلوقين أن يشفعوا لهم عند الرب عز وجل ، وذلك بعد وفاتهم ، مثلا يطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشفع لهم عند الله عز وجل ، وذلك بعد وفاته ، فهذا النوع من أنواع الشفاعة محرم بل هو شرك بالله عافانا الله وإياكم من ذلك ، وأما الطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته فهذا حق ، وتقدم لنا في حديث أنس السابق أن الناس يأتون إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويطلبون منهم الشفاعة عند ربهم عز وجل ، وفي صحيح مسلم أن ربيعة بن كعب طلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرافقه في الجنة ، فقال : أو غير ذلك ؟ قال : ما أريد غير هذا ، قال : أعني على نفسك بكثرة السجود . وكان الصحابة يأتون يطلبون من الرسول عليه الصلاة والسلام الدعاء لهم عند ربهم عز وجل ، ومثل ما ثبت عند الترمذي وغيره في حديث عبد الرحمن بن حُنَيف عندما جاء الأعمى وطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو له ربه عز وجل في أن يرجع ويرد عليه بصره ، فهذا النوع من أنواع الشفاعة مشروع ولا بأس به ، وإنما الممنوع هو أن يُطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أو من غيره من الأنبياء أن يشفعوا لهم عند الله عز وجل بعد وفاتهم ، والدليل على أن هذا ممنوع هو أن الله عز وجل قال : ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله مالا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ) فعندما يطلب الإنسان من شخص ميتا أن يشفع له عند الله عز وجل هذا فيه خلع لهذا المخلوق بصفة من صفات الخالق ، هنا من صفات الخالق ، هنا يصفه بصفة من صفات الخالق ، وهي أن الله عز وجل هو الحي الذي لا يموت ، فهذا جعل هذا المخلوق مثل الخالق عافنا الله وإياكم في ذلك .(1/30)
2- وطبعا - أيضا - النوع الثاني هو أن يُدعى ويطلب من الأموات المغفرة والرحمة مباشرة ، بدل أن يجعلون شفعاء لا يدعون المغفرة والرحمة ، ولا شك أن هذا شرك أكبر في الربوبية والإلهية ، جمع الشرك الأكبر بنوعيه في الربوبية وفي الإلهية.
هذا ما يتعلق بالشفاعة والناقض الثاني من نواقض الإسلام .
ونأتي إلى الناقض الثالث ، وهو : من لم يكفِّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم
فهذا ردة عافانا الله وإياكم من ذلك ، ووجه أن هذا الشيء ردة أن الله عز وجل كفَّر الكفار والمشركين ، ولم يطلق الإسلام إلا على من اتصف بالإسلام وذلك أنه شهد الشهادتين ، فهذا هو المسلم ، وأما من لم يكن كذلك من أهل الكتاب أو من الوثنيين والمشركين فهذا أو هذا قد حكم الله عز وجل بكفره كما هو معلوم ، فعندما يأتي واحد من الناس ويقول : إن هؤلاء مسلمين أو ناجين في يوم القيامة ، أو يشك في كفرهم ، أو أن يصحح مذهبهم ويقول : إن مذهبهم حق وصواب ، فهذا كفر وردة عافانا الله وإياكم من ذلك .
وذلك أنه كذَّب الله عز وجل - والعياذ بالله – في خبره ، فالله عزوجل أخبر وحكم أن هؤلاء كفار ، وأنهم في نار جهنم خالدين فيها عافانا الله وإياكم من ذلك ، ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم ) فحكم الله عز وجل بأنهم في نار جهنم عافانا الله وإياكم من ذلك ، فعندما يأتي واحد من الناس ويقول إن هؤلاء ناجين أو مسلمين ، أو يشك في كفرهم وخسارتهم في يوم القيامة ، أو يصحح مذهبهم ، يكون قد كذَّب ما جاء في الكتاب والسنة ، وفي هذا إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر ، فيكون ردة يخرج عن ملة الإسلام عافانا الله وإياكم من ذلك.
والمشركين أو سائر الكفار في الحقيقة بالنسبة لهذه المسألة ينقسمون إلى قسمين :(1/31)
1- القسم الأول : الذين لا شك في كفرهم ، والذي ليس هناك خلاف في كفرهم ، وهم من لم يكن مسلما ، يعني كأن يكون من اليهود أو النصارى أو الوثنيين ... فهذا النوع الأول .
2- وأما النوع الثاني : هم الذين وقع فيهم خلاف في الحكم عليهم ، هل هم مسلمين أم كفار ، يعني مثلا : في ترك الصلاة ، هناك من أهل العلم من يرى أن تارك الصلاة لا يكفر ، وهناك من أهل العلم ، وهو الذي نُقِل عليه إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم كفار ، فهذا النوع وهذا الصنف ليس هو مقصود المصنف في هذا ، وإنما قصد المصنف رحمه الله فيمن صحح مذهب الكفار أو شك في كفرهم هو النوع الأول ، وهم الذين ليسوا بالمسلمين أصلا ، كأهل الكتاب والوثنيين الذين اتفق أهل العلم على كفرهم ... بل اتفق المسلمون قاطبة على كفرهم .(1/32)
فمقصود المصنف رحمه الله هذا الصنف ، وليس مقصود المصنف مثلا فيمن وقع فيهم خلاف ، وكما تقدم مثلا مسألة ترك الصلاة هذه محل خلاف وإن كان الصواب أن تارك الصلاة كافر ، لكن من لم يكفر تارك الصلاة لا يقال إنه كافر ، وكذلك أيضا مثلا فيمن تردد في الحكم على من يزعم أنه ينتسب إلى الإسلام ويشهد الشهادتين ويدعو الأموات مثلا ويستغيث بهم ، فكما تقدم لنا أن هناك خلاف في حكم هذا الصنف ، هناك من رأى كفرهم وهو الصواب والصحيح والذي دلت عليه الأدلة ، وهناك من لم يرى كفرهم ، بل قال إن هؤلاء لا بد أن تقوم عليهم الحجة ، عفوا ... طبعا يعني الذين يدعون الأموات ويستغيثون بهم هؤلاء إذا كانوا جهالا ، وأما إن كان الشخص عالم ويدعو الأموات ويستغيث بهم فهذا ما فيه خلاف ... هذا مجمع على كفره ... على كفر هذا الصنف ، ومن شك في كفر هذا الصنف فهذا كافر عافانا الله وإياكم من ذلك ، لأن الله عز وجل قد حكم على هذا الصنف بالكفر ، لكن الذي توقف فيه أهل العلم هو من لم تقم عليه الحجة ، وذلك كأن يكون جاهلا مثلا ، فهل هذا الصنف هل يعتبر كافر أو ليس بكافر ، هذا محل خلاف بين أهل العلم ، والصواب أنه كافر ، والحجة قائمة عليه وهو في صلب أبيه آدم ، كما قال تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم قال ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) ، فالله عز وجل أقام الحجة على العباد وهم في أصلاب أبيهم آدم بأنه هو ربهم سبحانه وتعالى ، ولذلك كما في صحيح مسلم في حديث حماد عن ثابت عن أنس عندما جاء رجل وسأل الرسول عليه الصلاة والسلام قال : أين أبي ؟ قال : أباك في النار ، وعندما وجد في نفسه قال : إن أبي وأباك في النار. فأقول أن هذا الصنف الذي وقع فيهم خلاف من توقف في كفرهم أو لم يكفرهم هذا ما يحكم عليه بالكفر ... لا ، وإنما مقصود المصنف رحمه الله في الكفار المشركين الذين اتفق المسلمون قاطبة على كفرهم ، والذي دلت الأدلة من(1/33)
الكتاب والسنة على أنهم كفار ، وكما ذكرت فيمن دعا الأموات واستغاث بهم – مثلا - وهو عالم فهذا لا شك في كفره ... هذا ما فيه خلاف ، ومن شك في كفره فهو كافر ، وإنما أهل العلم اختلفوا فيمن يزعم أنه جاهل ، وأنه ليس بعالم ، وأنه لا يدري عن هذا العمل أنه كفر ، هذا محل خلاف بين أهل العلم ، وأما من كان عالما واستغاث بهؤلاء الأموات وما شابه ذلك فهذا لا شك في كفره ، ومن لم يكفره فهو كافر ، فإذا الذي يتخلص لنا أن الكفار هم في الحقيقة ينقسمون إلى قسمين :
1- القسم الأول هم الذين أجمع المسلمون قاطبة على كفرهم ، فهذا الصنف من لم يكفرهم فهو كافر عافانا الله وإياكم من ذلك ، أومن شك في كفرهم .(1/34)
2- وأما القسم الثاني : هم الذين وقع فيهم خلاف ، ويزعمون أنهم ينتسبون إلى الإسلام ، ووقعوا في ناقض من النواقض التي وقع فيها خلاف ... هل هذا الناقض كفر أو لا ؟ فهذا الصنف ليس هو مقصود المصنف ، وهذا بالإجماع بين أهل العلم ، وإنما هناك بعض الجهال من لا يفهم جعل هذا الصنف المختلَف فيه جعل أيضا من شك في كفره أنه كافر ، ولا شك أن هذا باطل وليس بصحيح ، والله عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها ، والله سبحانه وتعالى أمر الإنسان بأن يتقي الله ما استطاع ، وأن يبحث عن الحق ، فإن تبين للإنسان الحق في تارك الصلاة بأنه كافر عليه أن يحكم بكفره ، ومن لم يتبين له كفره ، وتوقف لأدلة أخرى في ظنه أنها تدل على عدم الكفر فهذا يكون اجتهد وأدى ما عليه ، وهو إما يكون مصيب له أجرين ، وإما أن يكون مخطئ له أجر واحد ، والذي يترجح عندي أنه مخطئ ، وذلك لأن ترك الصلاة يعتبر كفر ، فإذا المقصود أن الكفار في هذه المسألة في تكفيرهم ينقسمون إلى قسمين : القسم الأول : هم الذين أجمع أهل الإسلام قاطبة على كفرهم ، فهذا الصنف من لم يكفرهم أو شك في كفرهم فهو كافر ، لأنه كذب ما جاء في الكتاب والسنة ... لأنه لم يؤمن بما جاء في الكتاب والسنة ... لأنه لم يؤمن بجميع ما جاء في الكتاب والسنة ... لأنه كذلك أيضا لم يستسلم لما جاء عن الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا كفر عافانا الله وإياكم ، وأما من وقع فيهم خلاف فهذا ليس هو مقصود المصنف في ذلك ... نعم .(1/35)
بقي نقطة ثالثة أو مسألة ثالثة في قول المصنف رحمه الله ( أو صحح مذهبهم ) ، وهذه مسألة مهمة جدا ، وذلك أن هناك من يثني على هؤلاء الكفار ، ويثني على أعمالهم وعلى أفعالهم ، ومبالغ في الثناء عليهم ، فلا شك عافانا الله وإياكم أن هذا ردة وخروج عن ملة الإسلام ، لأن هذا مولاة وتصحيح لمذهب هؤلاء ، والله عز وجل يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ، فقال عز وجل : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) ، وهذا من توليهم ، وكذلك أيضا عز وجل يقول : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم ... إلى آخر الآية ) ، فمن أثنى عليهم وصحح مذهبهم وأطغاهم وحسَّن أقوالهم وأفعالهم فهاذ عافانا الله وإياكم ردة .(1/36)
وإما أن يثني الإنسان على شخص هو كافر بصفة هو متصف بها ، كأن يثني عليه مثلا بالصدق ، أو يثني عليه مثلا بالكرم ، أو يثني عليه مثلا بالشجاعة ، فهذا حق وليس فيه شيء ، فلا شك نحن نثني مثلا على عنترة بن شداد بالشجاعة وهو من المشركين الذين ماتوا قبل البعثة ، ونثني على حاتم بن عبد الله الطائي بالكرم ، فهذا حق وليس فيه شيء ، وأما الثناء عليهم وإطرائهم وتصحيح مذاهبهم وأقوالهم وأفعالهم ، وحتى يصل ببعض الناس – والعياذ بالله – إلى تقديمهم على المسلمين ، وأنهم أحسن من المسلمين ، فهذا كله من الردة عافانا الله وإياكم من ذلك ، وفيما رواه الدارقطني وحسنه الحافظ ابن حجر أن أحد الصحابة قال : كان أبو سفيان قبل أن يُسْلِم ومعاه رجل آخر من الصحابة ، فقال واحد من الصحابة : أبو سفيان وفلان ... جاء أبو سفيان وفلان ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه . فنهاه أن يقدِّم فقط الاسم ... اسم الكافر على المسلم ، نهاه أن يبدأ بالتقديم بالكافر قبل المسلم ، وهذا أمر خطير جدا ، كثير من الناس يقدم المسلم على الكافر بس مجرد تقديم ، يعني أما من قدمه في أقواله وأعماله فهذا لا شك في ردته ، لكن ما يجوز للإنسان أن يبدأ به ، لا تبدأ به في سلام ولا أيضا تبدأ به في إعطاء الشيء ، طبعا السلام لا يجوز أن تبدأه بالسلام ، إلا اللهم إذا كانت لك حاجة إليه فسلِّم عليه سلاما مقيدا : ( السلام على من اتبع الهدى ) ، كما ثبت في حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس في كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام لهرقل – هذي طبعا في البخاري - ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام : السلام على من اتبع الهدى . ثم دعا هرقل إلا الإسلام ، فهذا سلام مقيد بالهداية ، إن اهتدى هذا الإنسان فالسلام واقع عليه ، وإن لم يهتدي فالسلام لم يقع عليه ، وأما أن تبدأه بالسلام المطلق الذي ليس مقيد فهذا لا يجوز ، كذلك أيضا معاك(1/37)
شيٍّ تعطيه ... عفوا ، معاك شيّ وهناك جمع من المسلمين ومعاهم كافر فلا يجوز أبدا أن تبدأ هذا الكافر بالإعطاء .
وطبعاً، أشد من هذا الثناء على الكافر ووصفه بالسيادة ، طبعا الثناء على الكفار – كما ذكرت قبل قليل – لعلي أضبطه بضابط ، فأقول الثناء على الكافر هذا على ثلاثة أقسام :
1- القسم الأول : إما أن يُثنى عليه ثناء مطلقا ، ويُصحح مذهبه وقوله وعمله ، فهذا ردة وكفر عافانا الله وإياكم من ذلك .
2- وإما أن يُثنى على هذا الكافر بثناء فيه نوع من التبجيل والتعظيم ، فهذا نوع من المولاة ويسخط الرب عز وجل ، وذلك كأن يقول له : يا سيد ... ويا مِسْتر ، فمستر يقوم ... تقوم مقام سيد ، لأن معناه سيد في اللغة العربية ، وفيما رواه النسائي في حديث قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه : ( إذا قلت للمنافق يا سيد فقد أسخطتم ربكم عز وجل ) . فهذا الشيء لا يجوز ويتعبر نوع من الموالاة ، ويكون كبيرة من كبائر الذنوب .
3- والثالث : أن تثني عليه بصفة هو متصف بها من الصفات الجميلة التي ليست بصفات دينية ، وإن كان لها علاقة بالدين ، كما تقدم كالشجاعة والكرم والصدق ... وما شابه ذلك ، أو مثلا تكنِّيه ، كما كنَّى الرسول عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أبي بن أبي سلول كنَّاه بأبي الحُباب ، فهذه الكنية لا بأس فيها ... نعم .
ولعلي طبعا أذكر المولاة وإن كانت سوف تأتينا بمشيئة الله ، لكن لعلي أذكرها الآن :
أقول لا شك أن الله عز وجل نهى عن موالاة الكفار ، والموالاة لها خمسة معاني ، أو تكون بخمسة أشياء :
1- أولا : النصرة والتأييد .
2- وثانيا : المحبة والمودة .
3- وثالثا : المبالغة في التعظيم والاحترام .
4- ورابعا : كثرة المخالطة والمعاشرة .
5- وخامسا : التشبه بهم في أقوالهم وأفعالهم وهديهم .
فهذه خمسة معاني من معاني الموالاة .(1/38)
فبالنسبة للنصرة والتأييد : من ناصرهم وأيدهم على المسلمين فهذه وردة عافانا الله وإياكم من ذلك ، والدليل على أن هذا ردة قوله تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم ) ، فهذه الآية نزلت في أناس من المسلمين كانوا في مكة ولم يهاجروا إلى المدينة وخرجوا مع الكفار مُكرهين ، فحكم الله عز وجل بأنهم في نار جهنم عافانا الله وإياكم من ذلك ، فمن ناصر وأيد الكافر على المسلم فهذا قد ارتد وخرج عن الدين عافانا الله وإياكم من ذلك ، وأما مناصرة الكفار على بعضهم من أجل دفع ضرر هؤلاء الكفار الآخرين فهذا حق ، وقد فرح المسلمون بانتصار الروم على الفرس المجوس ، لأن هؤلاء أقوى ، وأما مناصرة الكافر على المسلم فهذه ردة عافانا الله وإياكم من ذلك .
وأما الأمر الثاني وهو : المبالغة في الاحترام والتعظيم فهذا كما تقدم ، فهذا موالاة عافانا الله إياكم من ذلك ، ومن المبالغة في الاحترام والتعظيم هو قول الإنسان لهؤلاء الكفار : يا سيد ... ويا مستر ، وتقديمه على المسلمين ، أو جعل أعلام هؤلاء الكفار متساوية مع أعلام المسلمين ، أو مصاحبته والمشي معاه مع التبجيل والاحترام ، والفرح باستقباله وبقدومه ، فكل هذا نوع من الموالاة ، كل هذا عافانا الله وإياكم نوع من الموالاة ، وهو داخل في المبالغة في الاحترام والتعظيم .
الأمر الثالث الذي هو : المودة والمحبة ، فأيضا هذا من موالاة هؤلاء الكفار ، وكما قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) ، وطبعا المقصود بهذه المحبة : المحبة الدينية ، فالمَحاب أنواع :(1/39)
1- قد يحب الإنسان الكافر محبة شهوة ، وذلك كأن يحب الرجل المسلم زوجته الكتابية ، فهذا حق ، وقد شرع الله عز وجل - كما نعلم – زواج المسلم بالكتابية ، ولم ينهى عن المودة والمحبة التي تكون فيما بينه وبينها ، والله عز وجل أخبر أنه جعل محبة ومودة بين الرجل وزوجته ، فهذه المحبة لا بأس بها .
2- أو أن يحب المسلم الكافر محبة طبعية ، ومحبة رحمة ، مثل أن يحب الإنسان أمه الكافرة ، الله عز وجل لم ينهى عن ذلك ... بل أمر بطاعتها ما لم تأمر بمعصية ، وتدعو إلى الشرك ، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحب عمه أبو طالب ، وذلك أنه شفع له ، فهذه محبة طبيعة جِبِلَّة ، الله عز وجل جعل المحبة ما بين القريب وقريبه على قدر قرابة هذا القريب من قريبه ، فكلما كان أقرب كالأم أو الأب كلما كانت المحبة أكثر ، فهذه ليست مقصودة ،
3- وإنما المقصود هو المحبة الثالثة : المحبة الدينية ، ولابد أن المسلم يكره هذا الكافر على ما عليه من الكفر ، هو قد يحبه من وجه ، مثلا يحب الرجل زوجته الكتابية محبة الشهوة من وجه ، ولا بد أن يبغضها لاعتقادها الفاسد ، وأن يتبرأ من اعتقادها ، فهذا لا بد منه ، فهذا لا ينافي هذا ... نعم .(1/40)
والأمر الرابع هو : كثرة المخالطة والمعاشرة ، مجرد الاختلاط لحاجة ولمقصد هذا لا بأس به ، والله عز وجل أخبر في سورة الكهف عن رجل مسلم وكافر ، فقال عز وجل : ( إذ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ) ، فسماه الله عز وجل صاحبا له ، والصاحب هو : كل من صحب شخصا حتى ولو كان هذه المصاحبة قصيرة ... لمدة ساعة ، فالمصاحبة عندما تكون لمقصد ... ، طبعا لا بد أن تكون يسيرة وقليلة ولحاجة ، هذه المخالطة لحاجة ولمقصد ، ومن المعلوم أن اليهود كانوا يأتون إلى مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام وأحيانا يسألونه ، فهذا لا بأس به ، أو أنك أحيانا تأتي إلى هؤلاء الكفار فتدعوهم فهذا أيضا حق ، أو تشتري منهم حاجة وما شابه ذلك ، وأما كثرة مخالطتهم ومعاشرتهم فهذا لا يحوز ... وهذا نوع من الموالاة ، وفيما رواه النسائي من حديث الأعمش عن أبي وائل عن أبي نخيلة عن جرير بن عبد الله البجلي أنه بايع الرسول عليه الصلاة والسلام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم وأن يفارق المشرك ... وأن يفارق ماذا ؟ المشرك . فلا بد من مفارقة المشركين حساً ومعنى ، حساً بجسدك ، ومعنى بما يحملون من اعتقادات ... تفارقها بالبراءة منها والكفر بها .
فينبغي أن ينتبه الإنسان الذي يسافر إلى بلاد الكفار :
1- فأولا : لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار ... أولا لا يجوز كما تقدم وأن يفارق المسلم المشرك ، كما قال جرير : بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم وعلى مفارقة المشرك. فأولا : لا يجوز .
2- ثانيا : أن هذا يجوز من أجل مقصد صحيح ، إما أن يكون دعوة كما تقدم ، وإما أن يكون مثلا علاج وحاجة ماسة إلى ذلك ، فهذا لابأس به بشرطين :(1/41)
أ- الشرط الأول : أن يكون عنده علم يدفع به شبهات هؤلاء الكفار ، والله عز وجل أوجب علينا أن نبتعد عن مواطن الفتنة كما في صحيح البخاري في حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعب الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن . بوَّب عليه البخاري في صحيحه : باب من الدين الفرار من الفتن ، وفيما رواه أبو داود أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( من سمع بالدجال فلينأى عنه ) أي : فليهرب منه ، قال : يأتيه الرجل وهو يظن أنه مؤمن ، ثم يتابعه لما يلقي عليه من الشبهات . فلا بد من الابتعاد عن مواطن الفتنة ، فلا بد أن يكون عند الشخص علم يدفع به فتن هؤلاء . .
ب – والثاني أن يكون عنده إيمان يدفع به الشهوات التي عندهم ، فمن المعلوم أنهم واقعين في الرذائل وفي الشهوات وفي المعاصي والسيئات والزنا عافانا الله وإياكم من ذلك .
فلا بد أن يكون عند المسلم حصانه من هاتين الجهتين .(1/42)
وينبغي له أن لا يطيل ، يعني بعض الناس الآن تجده يذهب أربع سنوات يدرس ، أو يذهب ثمان سنوات يدرس ، لا بد أن يتغير ، تجلس ثمان سنوات بين الكفار ... هذا إذا ما أقمت إقامة ، إلا اللهم إنسان مضطر هارب بدينه فهذا له شأن آخر ، هذا رجل مضطر والرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة بالهجرة إلى بلاد الحبشة الهجرة الأولى كما نعلم ، أمرهم إلى أن يهاجروا إلى بلاد الحبشة في بلاد النصارى بلاد كفار، وقال عندهم ملك لا يظلم الناس ، فالإنسان إذا اضطر إلى أن يفر بدينه فهذا أمر مشروع ، وأما أن يذهب ويجلس ثمان سنوات ويجلس عشر سنوات بعض الناس و يجلس أربع سنوات فهذا أمر خطير ، وفي الغالب ما يسلم الإنسان ... في الغالب ما يسلم ، لا بد أن يتغير في الغالب ، والأمثلة على هذا كثيرة ، وكثرة الإمساس تميت الإحساس ، إذا كان الجماد يتأثر بالمخالطة ، إذا ما بالك بالإنسان ، الآن لو أن هناك ماء صافيا وألقيت فيه شي له رائحة كريهة ، أو ألقيت فيه ميتة ، الماء يفسد وهو جماد ، بل أن الإنسان عندما يخالط الحيوانات يتأثر فيها ، إن كانت هذه الحيوانات معروفة بالشدة والقسوة كالإبل فيتأثر فيها ، كما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إن أهل الإبل هم أهل القسوة ، وغِلظ القلوب ، وأهل الغنم أهل السكينة ، إذا كان الحيوان يتأثر به فما بالك بإنسان مثله ... فلا بد أن يتأثر .
وأما التشبه فهذا أيضا نوع من أنواع المولاة ، وقد جاء نص خاص ، وهو ما رواه الإمام أحمد من حديث حسان بن عطية عن عبد الله بن عمر ، أنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) . فالتشبه بالكفار يصيِّر الإنسان من هؤلاء الكفار عافانا الله وإياكم من ذلك ، والتشبه على قسمين :
1- إما تشبه أكبر ، فهذه ردة وخروج عن الدين .(1/43)
2- وإما أن يكون هذا التشبه تشبه أصغر ، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب ، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما جاءه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وقد لبس لباس الكفار ، ما قال إن هذا كفر ، وإنما أمره بأن يخلع الثياب وأن يحرقها ، فهناك تشبه أصغر ... هذه معصية ولا تجوز ، وهناك تشبه أكبر ، فهذه ردة عافانا الله وإياكم من ذلك ، كأن يتشبه بهم في شيء من دينهم وذلك كأن يأتي رجل يلبس لباس القساوسة ، أو يلبس الصليب ، فهذه ردة عافنا الله وإياكم ، هذا تشبه أكبر بهؤلاء الكفار وتعظيم لهذه الأشياء التي تعتبر طغيان ومن الطواغيت ، فالصليب هذا صنم ، فهذا تقديس لهذا الصنم ، ومن قدس لما عند الكفار كفر عافانا الله وإياكم من ذلك .
بسم الله والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، قال المؤلف رحمه الله تعالى :
نواقض الإسلام ، الناقض الرابع :
( من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه ، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر ) .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ... أما بعد :
فلا زلنا في النواقض التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، والتي تنقض الإسلام والإيمان ، فتقدم لنا ثلاثة نواقض ، ونأتي اليوم بمشيئة الله إلى الناقض الرابع ، والذي هو : من اعتقد أن هدي غير الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، أو أن حكم غير الرسول عليه الصلاة والسلام أحسن من حكمه . فمن كان معتقدا لذلك فلا شك في خروجه عن الإسلام ، ويعتبر مرتدا بعد أن كان مسلما ، وأقول إن هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- إما أن يعتقد الإنسان أن حكم وهدي غير الرسول عليه الصلاة والسلام أحسن من هدي وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام .(1/44)
2- وأما القسم الثاني هو : أن يعرض عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يحكمها ولا يتحاكم إليها ،
3- والقسم الثالث هو : من يعتقد أنه يسعه الخروج على هدي الرسول عليه الصلاة والسلام وحكمه .
فعندنا ثلاثة مسائل أو ثلاثة أقسام :
1- أما القسم الأول وهو : أن من يعتقد أن غير هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أن حكمه – حكم هذا الشخص – أكمل من حكم الرسول عليه الصلاة والسلام . طبعا الهدي معناه : الطريقة والسنة التي كان عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك الأحكام التي حكم بها عليه الصلاة والسلام وبلغها عن ربه سبحانه وتعالى ، فالهدي أعم والحكم أخص ، فالهدي هو الطريقة والسنة التي كان عليها عليه الصلاة والسلام وجميع الدين الذي أتى به عن ربه سبحانه وتعالى ، والذي بلغه عن الله عز وجل ، والحكم داخل في الهدي ، وفي الحقيقة أن بين هاتين الكلمتين ترادف وتداخل ، فالهدي هو الحكم والحكم هو الهدي ، والهدي قد يكون أعم من الحكم .
فمن اعتقد ذلك فهذا عافانا الله وإياكم كافر من جهتين :(1/45)
أ – الجهة الأولى : هو أنه كذب ما جاء في كتاب الله ، وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الدين والطريقة التي أتى بها الرسول عليه الصلاة والسلام هي أكمل وأحسن وأفضل الطرق ، وأنه لا يسع أحدا من الناس أن يخرج عن هذه الطريقة ، فالله عز وجل أخبر في آيات كثيرة أن هذا الدين الذي أوحاه لرسوله صلى الله عليه وسلم هو الذي فيه السعادة ، وهو الذي فيه الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ، وكما قال تعالى على لسان الجن : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) ، وكما قال تعالى : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ... إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت بمعنى هذه الآية ، وكذلك أيضا من الأحاديث كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب الناس في يوم الجمعة كان مما يقول في خطبته : أن خير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا الإنسان الذي يعتقد أن هدي غير الرسول عليه الصلاة والسلام ، وحكم غير الرسول عليه الصلاة والسلام أحسن من حكم الرسول وأحسن من هديه عليه الصلاة والسلام فهذا يكون قد كذب بهذه النصوص ولم يؤمن بها عافانا الله وإياكم من ذلك ، ولا شك من كان هكذا فهو مرتد وخارج عن الدين عافانا الله وإياكم من ذلك .(1/46)
ب- الوجه الثاني في تكفير هذا الشخص الذي اعتقد ذلك : هو عندما يعتقد بأن هناك من هديه أكمل وحكمه أحسن من حكم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو حكم الله عز وجل فهذا يكون قد انتقص الخالق والعياذ بالله ، ولا شك أن من انتقص الرب سبحانه وتعالى فهذا خرج عن الدين وكفر بربه عافانا الله وإياكم ، فهذا الشخص يكون قد انتقص الخالق عز وجل وفضل المخلوق على الخالق عافانا الله وإياكم من ذلك ، والله عز وجل يقول عن الكفار : ( تالله إن كنا لفي ضلال مبين . إذ نسويكم برب العالمين ) ، فما بالك بمن يجعل المخلوق أفضل من الخالق عافانا الله وإياكم من ذلك ، وكما قال تعالى : ( والذين كفروا بربهم يعدلون ) ، يعدلون به غيره ، فهؤلاء الناس الذين اعتقدوا ذلك زادوا على تسوية غير الله بالله ، بل جعلوا هذا المخلوق أفضل والعياذ بالله ، والله عز وجل يقول : ( ومن أحسن حكما من الله لقوم يوقنون ) ، فليس هناك أحد أحسن حكما من الله عز وجل ، وليس هناك هدي أفضل من الهدي الذي أوحاه عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه وتعالى .(1/47)
2- المسألة الثانية هي : في التحاكم لغير شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذه المسألة قد أشرت إليها فيما سبق ، وهذه أيضا كفر عافانا الله وإياكم من ذلك ، لأن الله عز وجل قال : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، فأقسم الله عز وجل بذاته المقدسة بأن الإنسان لا يمكن أن يكون مؤمنا حتى يحكم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما حصل له ، وفيما شجر بينه وبين الناس ، وأنه ليس هذا فقط ، بل عليه أن يرضى بذلك ويسلِّم ، ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، يرضوا بهذا الحكم ... هذا الأمر الثاني ، الأمر الثالث : أن يستسلموا وينقادوا إليه ويعملوا بما فيه ، وكما قال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) وكما قال تعالى بعدها بآية : ( فأولئك هم الظالمون ) ، وقال بعدها بآيتين : ( فأولئك هم الفاسقون ) ... وغير ذلك من الآيات التي جاءت في معنى هذه الآية ، وكما ذكرت لكم فيما سبق ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه فيما رواه ابن جرير الطبري بإسناد صحيح عن علقمة عن عبد الله بن مسعود ، عندما سئل عن الرشوة في الحكم ، قال : ذاك الكفر . فعرف الكفر قال : ذاك هو الكفر . يعني هو الكفر الأكبر عافانا الله وإياكم من ذلك ، وكما تقدم لنا فيما سبق أن الحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية عندما ذكر واقعة التتار ، وأنهم كانوا يحكمون بالياسق ، وهذا الياسق مجمع من شرائع متعددة ، أنه نقل إجماع أهل العلم على أن هذا كفر بالله ، وخروج عن ملة الإسلام ، نقل الإجماع على ذلك ، والنصوص التي تقدمت واضحة في هذا ، وكما تقدم لنا فيما سبق ما جاء عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس الكفر الذي تذهبون إليه ، بل هو كفر دون كفر . فهذا كما حمله(1/48)
بعض أهل العلم على الخوارج ، وأن الخوارج هم الذين كانوا يكفرون بالمعاصي والسيئات ، وأن هذا في بعض المسائل ، وليس فيمن نحى شريعة الخالق عافانا الله وإياكم من ذلك ، فالله عز وجل أقسم بذاته المقدسة أن من لم يتحاكم إلى شريعته ودينه فهذا ليس بمؤمن ... نعم .
3- أما المسألة الثالثة وهي : من يظن أنه يسعه الخروج على الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : أنها ليست بلازمة له فلا شك أن هذا كفر آخر ومخرج عن الملة ، وذلك أن الله عز وجل أمر الناس بالدخول ، ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) ... إلى غير ذلك من النصوص التي تأمر بالاستسلام وبالانقياد إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
لعلي بعد أن ذكرت ذلك ، أذكر ما قد يقع في الواقع مما يتعلق بهذه المسائل ، وقبل أن أذكر ما يتعلق بالواقع أذكر أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عندما عدَّد الطواغيت وقال : رؤوسهم خمسة ، ذكر من الطواغيت : الحاكم الجائر الذي لا يحكم بما أنزل الله ، فجعله من جملة الطواغيت الكبار ، ولا شك أن هذا طغيان عافانا الله وإياكم من ذلك .(1/49)
فأذكر بعض ما يتعلق بهذه المسألة مما هو حاصل في الواقع ، فتقدم لنا فيما سبق أن هناك من لم يدخل تحت شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يستسلم وينقاد إليها ، فكل من لم يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا منطبق عليه ، لأن هذا الشخص الذي لم يؤمن هو معتقد بأن هدي غير الرسول عليه الصلاة والسلام أكمل من هديه ، ولذلك لم يؤمن بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يتحاكم إليه ، فكل من لم يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو واقع تحت هذا الناقض مع النواقض الأخرى ، كذلك أيضا من ينتسب إلى الأحزاب العلمانية ويدافع عنها ، وكذلك أيضا يؤلف الكتب في الدعوة إليها ، فلا شك أن هذا مرتد عافانا الله وإياكم من ذلك ، فمن انتسب إلى الأحزاب الاشتراكية أو ما يسمى بالديموقراطية أو الأحزاب العلمانية التي تجمع هذه الأحزاب ، أو دعا إلى ما يسمى بالقومية العربية ، فهذا ردة وخروج عن ملة الإسلام عافانا الله وإياكم من ذلك :
1- وذلك أن أولا : هذه العقائد الموجودة في هذه الأحزاب هي عقائد كفرية .(1/50)
2- ثانيا : أن هذا الشخص ما انتسب إليها ودعا إليها وقاتل ودافع عنها إلا وهو يعتقد أنها أفضل من غيرها ، وأن فيها الفلاح والنجاح والسعادة ، فلذلك انتسب لهذه الأحزاب ونافح عنها ، وهناك من يضحي بنفسه في سبيلها ، ويقدم حياته من أجلها ، والله عز وجل يقول : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ، فلا شك أن من انتسب إلى هذه الأحزاب هو عافانا الله وإياكم مرتد ، وذلك أنه يعتقد بأن هذه الأحزاب أكمل وأفضل من غيرها ، ويدخل في ذلك هدي الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو المقصود ، فهذه ردة عافانا الله وإياكم من ذلك ، كذلك أيضا ممن له علاقة بذلك هو من يقلد الأشخاص تقليدا أعمى ، ويتعصب إليهم ، ويسير على طريقة ومنهج هي مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة ، فأيضا هذا أمر خطير ، وذلك أن هذا الشخص أيضا قدم هدي غير الرسول عليه الصلاة والسلام على هديه ، لكن فرق ما بين هذا القسم والذي قبله أن الذي قبله ليس بمتأول ، بل هو صريح ، وأما هذا القسم يتأول ، وذلك يقول بأن هذا العالم أعلم أو هذا الشخص أعلم أو أن هذه الطريقة وهذا المنهج هو الموافق لطريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويتأول من ذلك التأويلات ، ففي الحقيقة أن هذا أيضا أمر خطير ، وهو التعصب إلى غير الحق والانتساب إلى جماعات هي خارجة عن جماعة أهل السنة والجماعة ، وهناك من يغلو في الانتساب إلى هذه الجماعات ، حتى يصرح بأنها هي أفضل ، وأنها أكمل وأنها أحسن ، وأنها هي الجماعة التي لا يجوز الخروج عليها ، وتجد أن هذه الجماعة ليست هي جماعة أهل السنة والجماعة ، فلا شك أن هذا أمر خطير عافانا الله وإياكم من ذلك ، فالواجب على كل مسلم أن ينتسب إلى الكتاب والسنة ، وأن يتحاكم إلى ما جاء في الكتاب والسنة ، وأن يعرض كل قول وكل طريقة ومنهج على ما جاء في الكتاب والسنة ، فما كان حقا فهذا يقبل لأنه جاء في الكتاب(1/51)
والسنة ودل عليه ما جاء في الكتاب والسنة ، وما كان خلاف ذلك فهذا يكون باطلا ويكون مردودا ، وفيما رواه ابن ماجه وغيره من حديث ضمر بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو عن العرباض بن سارية ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( تركتم على البيضاء ، ليلها كنهارها ... ) طبعا بعضهم يضيف : ( المحجة البيضاء ) ، المحجة هذه لم تأتي ، وإنما الذي جاء : تركتم على البيضاء ، ليلها كنهارها ( ... لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) فالرسول عليه الصلاة والسلام تركنا على المحجة البيضاء الواضحة ، الطريق البينة ، فعلينا أن سلك هذه الطريق ، وهي طريق الصحابة رضي الله عنهم ، وسلف هذه الأمة ومن سار على دربهم ونهجهم من أهل السنة والحديث ، فكل هذا له علاقة بهذا الناقض من نواقض الإسلام ... نعم ، ولعلي أقف عند هذا .
الناقض الخامس من نواقض الإسلام :
من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر .
الشرح :
وهذا المسألة مسألة مهمة ، وهي في الحقيقة تنقسم إلى أقسام :
1- أول هذه الأقسام : أن يكره أو أن يبغض الإنسان – والعياذ بالله – ربه عز وجل عافانا وإياكم من ذلك ، أو يكره الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن هذا كما تقدم ردة عافانا الله وإياكم من ذلك ، لأنه يلزم من الإيمان بالله عز وجل وبربوبيته وبإلهيته محبته سبحانه وتعالى، والعبادة قائمة على المحبة ، العبادة قائمة على أربعة أركان :
أ – على كمال الخضوع والذل .
ب- وعلى كمال الطاعة والانقياد .
ج- وعلى كمال المحبة والمودة .
د- وعلى أيضا كمال التعظيم لله سبحانه وتعالى .(1/52)
بل أن الله عز وجل ألزم عباده أن يوالوا ويبحوا فيه ، وأن يبغضوا وأن يعادوا فيه سبحانه وتعالى ، كما مر علينا فيما سبق أن الله عز وجل نفى الإيمان عمن أحب وواد الكفار ، ( لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) ، فما بالك ببغض الله أو رسوله والعياذ بالله ، فهذا القسم الأول .
2- وأما القسم الثاني هو : أن يكره الإنسان ما شرعه الله عز وجل ، إما أن يكره جميع ما شرعه الله عز وجل كراهة كلية ، أو بعض ما شرعه الله سبحانه وتعالى ، ولا شك أن هذا أيضا – كما تقدم – أن هذا كفر وردة وخروج عن ملة الإسلام.
فهذا الناقض في الحقيقة ينقسم إلى قسمين : إما أن يكره الإنسان – والعياذ بالله – ربه عز وجل أو الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أرسله الله عز وجل ، أو أن يكره ما شرعه الله سبحانه وتعالى ، إما أن يكره ذلك كراهة كلية أو بعضه .
وينبغي الانتباه إلى أن المقصود بالكراهية هنا هو : الكراهية التي يلزم منها رد ذلك ، والتي يلزم منها كذلك أيضا : اعتقاد أن هذا ليس فيه الهدى ، وليس فيه الحق ، وليس فيه الصواب ، وليس فيه الفلاح و النجاح .
وأما كون الإنسان يحب ويتمنى مثلا أن الله عز وجل ما شرع هذا الشيء ، مع اعتقاده بأن ما شرعه الله عز وجل هو الحق ، وهو الصواب ، وهو الذي فيه الفلاح والنجاح ، وهو الموافق للعلم والحكمة ، فهذا ليس داخل فيما نحن نقول .(1/53)
فمثلا موسى عليه السلام - كما ثبت في حديث الإسراء والمعراج – أنه طلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرجع إلى ربه ويطلب منه سبحانه وتعالى أن ينقص الصلوات التي افترضها الله عز وجل على عباده بعد أن كانت خمسين ، طلب موسى عليه السلام من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطلب من ربه عز وجل أن ينقص ما كلف الله به هذه الأمة ، وبالفعل ذهب ورجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ربه ، وطلب منه أن ينقص ما افترضه الله عز وجل عليه ، فانقص الله عز وجل ما افترضه الله عليه حتى وصلت هذه الخمسين إلى خمس صلوات ، ومع ذلك أيضا طلب موسى عليه السلام مرة أيضا أخرى من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطلب من ربه أن ينقص أيضا هذه الخمس صلوات ، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام استحى من ربه سبحانه وتعالى ، فأقول كون الإنسان يتمنى مثلا أن التكاليف أقل مما هي عليه ، مع اعتقاده أن ما كلف الله عز وجل به عباده هو الذي فيه الحق ، وهو الذي فيه الفلاح والنجاح ، وهو الموافق للعلم وللحكم ، لكن يتمنى مع ذلك أن التكاليف أقل مما هي عليه ، فمثلا يتمنى أن صلاة الفجر بدل أن تكون مثلا عند طلوع الفجر أنها تكون مثلا بعد طلوع الشمس ، حتى تكون أيسر عليه وأسهل ، أو يتمنى مثلا أن الله عز وجل ما أوجب الجهاد ، أو يتمنى أن الله عز وجل مثلا ما أوجب الحج ، مع اعتقاده أن ما أوجبه الله عز وجل هو الموافق للحق وللحكمة وللصواب ، فهذا ليس داخل فيما نحن نتحدث عنه ، وإنما المقصود هو : أن الإنسان يكره ما شرعه الله عز وجل ، بحيث أنه يعتقد نقصان ذلك ، وأن الذي شرعه الله – والعياذ بالله – لا يحقق لا المصلحة ولا الفائدة ولا الفوز ولا النجاح ولا السعادة ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فهذا هو المقصود بهذا الناقض ، وقد نقل بعض أهل العلم كصاحب الإقناع الإجماع على ردة من كره ما شرعه الله وما أنزله ، وكما أخبر الله عز وجل أنه أحبط أعمال من كره ما شرعه الله(1/54)
عز وجل ، كره ما أنزل وكره رضوان الله سبحانه وتعالى ، كما جاء في سورة القتال ، فأحبط الله عز وجل أعمالهم ، فالمقصود من هذه الكراهية هو اعتقاد أن هذا ليس فيه فائدة ، وليس فيه مصلحة ، وليس فيه فلاح ولا نجاح ، مثل ما يكره المسلم والمؤمن الكفر والشرك والضلال والانحراف والمعاصي ، لأنها توجب سخط الرب عز وجل ، ولأنها تردي بصاحبها إلى الهلاك ، وأنه لا تحقق له المصلحة ولا السعادة ، وأنها مخالفة للعلم وللحكمة ، فمن جعل مثل هذه الكراهية لما شرعه الله فلا شك أن هذا هو المقصود بهذا الناقض ، والذي يعتبر من النواقض التي تنقض إيمان وإسلام الشخص ، إذا الكراهية كراهيتان :
1- إما أن يكره الإنسان مثلا هذا التكليف ، وهذه الكراهية بحيث يتمنى أن الله عز وجل ما شرع ذلك ، وما أوجب ذلك ، وأنه يتمنى أن الله عز وجل ما ألزم العباد بذلك ، مع اعتقاد أن ما شرعه الله عز وجل هو الحق ، وهو الصواب ، فهذا ليس داخلا فيما نحن فيه ، ولا شك أن التكاليف تحتاج إلى صبر ، ونعلم جميعا أن من أنواع الصبر هو الصبر على التكاليف وعلى الطاعات ، فهذه التكاليف تحتاج صبر ومصابرة ، فمن تمنى مثلا أن الله عز وجل ما أوجب بعض ما أوجبه عز وجل ، فهذا ليس داخل فيما نحن فيه .
2- وأما من كره ذلك بحيث أنه اعتقد فيه النقص ، وعدم الفائدة والعياذ بالله ، وأنه لا يحقق لا سعادة ولا مصلحة ، ولا فوز ولا نجاح ، وأنه ليس موافق للعلم ولا للحكمة ، فلا شك أن هذا هو الكفر عافانا الله وإياكم من ذلك .
إذا الكراهية كراهيتان ، والكراهية المقصودة هي ما تقدم ، وهي أن يعتقد الإنسان – والعياذ بالله – أن هذا الشيء الذي شرعه الله ليس فيه لا فلاح ولا نجاح ، وليس فيه سعادة ، ولا يحقق الكمال ، وأما ألا يعتقد الإنسان ذلك ، وإنما يتمنى أن الله عز وجل مثلا ما كلف عباده مثلا بإخراج زكاة المال مثلا ... وما شابه ذلك ، فهذا ليس داخلا فيما نحن بصدد الكلام عنه ... نعم .(1/55)
وتقدم أن هذه الكراهية والعياذ بالله على قسمين : إما أن يكره ويبغض الله عز وجل أو رسوله ، لا شك أن هذا كفر ، وإما أن يكره ما شرعه الله عز وجل ، سواء كان هذا الذي يكرهه كله أو بعضه ... عافانا الله وإياكم من ذلك .
ومن ذلك ما يقول بعض الناس عند مثلا : لماذا شرع الله عز وجل الزواج بأربع ، وأنه ينبغي أن يكون الزواج بواحدة ولا يتعدى ذلك إلى الأربع ، وأن هذا ليس فيه فائدة ولا مصلحة والعياذ بالله ، أو يدعو مثلا إلى مساواة الرجال بالنساء ، وما دعا إلى هذا إلا لاعتقاده – والعياذ بالله – أن ليس من العدل تفضيل الرجال بما فضلهم الله عز وجل به على النساء ، فيعتقد أن هذا ليس من العدل والعياذ بالله ، فيدعوا مثلا إلى أن يتساووا بالميراث مثلا ... وما شابه ذلك ، فهذا كله من الكفر عافانا الله وإياكم من ذلك ، أو من يدعو إلى نزع الحجاب ، وإلى التبرج والسفور ، ويحارب الحجاب ويدعو إلى ترك ذلك ، وهذا كله لاعتقاده أن هذا ليس هو الحق والصواب ، فلا شك كل هذا من الكفر عافانا الله وإياكم من ذلك .
فهذا هو المقصود بهذا الناقض من نواقض الإسلام العشرة ، وهو الناقض الخامس .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله ...
قال المؤلف رحمه الله تعالى :
الناقض السادس من نواقض الإسلام :
من استهزئ شيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو ثوابه أو عقابه ، كفر ، والدليل قوله تعالى : ( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ... أما بعد :
فالناقض السادس من نواقض الإسلام هو : الاستهزاء بالدين عافانا الله وإياكم من ذلك ، ودليل هذا الناقض :
1- أولا : ما جاء في كتاب الله عز وجل .(1/56)
2- وثانيا : ما أجمع عليه المسلمون قاطبة ، من أن الاستهزاء بشيء من الدين يعتبر كفر أكبر مخرج من الملة عافانا الله وإياكم من ذلك ، قال الله عز وجل : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونعلب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) . فهذه الآية فيها النص الواضح من الله عز وجل على أن من استهزئ بآيات الله عز وجل أو برسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا كافر بالله العظيم عافانا الله وإياكم من ذلك ، والدليل الثاني كما ذكرت هو الإجماع الذي نقله بعض أهل العلم ، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمة الله على الجميع ، نقل إجماع أهل العلم على أن من استهزئ شيء من الدين يكون كافرا بالله العظيم عافانا الله وإياكم من ذلك .
والاستهزاء – يا معاشر الإخوان – هو إما أن يكون – والعياذ بالله – بالله عافانا الله وإياكم من ذلك ، وإما أن يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون بشيء من الدين والعياذ بالله ، فالاستهزاء إنما يكون بواحد من هذه الأشياء الثلاثة أو بكلها عافانا الله وإياكم من ذلك .
والاستهزاء معروف لدى الجميع ، وهو انتقاص الرب والعياذ بالله ، والسخرية منه عافانا الله وإياكم ، أو انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم والسخرية منه ، أو انتقاص الدين والسخرية والاستهزاء بالدين عافانا الله وإياكم من ذلك .
وهذا الاستهزاء سواء كان ناشئا عن اعتقاد ، أو كان ناشئا عن غير اعتقاد يعتبر كفر عافانا الله وإياكم من ذلك ، سواء كان الإنسان معتقدا لما قال ، أو لم يكن معتقدا .
وكما ذكرت فيما سبق أن عندنا ثلاثة أشياء فيما يتعلق بهذه المسألة :
1- أولا : الاعتقاد .
2- ثانيا : القصد .
3- ثالثا : سبق اللسان وعدم القصد .(1/57)
لكل واحدة من هذه الأشياء الثلاثة لها حكم ، فالمستهزئ – والعياذ بالله – إما أن يكون معتقدا للسخرية بالدين ، وانتقاص الرب – والعياذ بالله - ، ومصدقا لهذا الشيء الذي قاله ومعتقدا به ، وكمثال على هذا : ما نزلت الآية بشأنه وبسببه كما سيأتي بمشية الله ، فأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم كلاها من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن بعض الناس في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا خارجين معه في غزوة من غزواته ، وجاء في بعض الروايات أنهم كانوا ثلاثة ، وتكلم واحد منهم ، فقال – والعياذ بالله - : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطون ، ولا أكذب ألسن ، ولا أجبن عند اللقاء . فنزلت هذه الآية الكريمة بالحكم بكفرهم عافانا الله وإياكم من ذلك . فأقول أن هؤلاء إن كانوا مصدقين بما قالوه – وسوف يأتي أنهم لم يكونوا معتقدين لما قالوه – إن كانوا حقيقة معتقدين ومصدقين بأن الرسول عليه الصلاة والسلام ومن كان معه – والعياذ بالله – أنهم أكذب الناس ألسن ، وأجبن عند اللقاء ، وأرغب بطون ، فإن كانوا مصدقين لما قالوه فهذا يعتبر عن اعتقاد ، يعتبر هذا الكلام ناشئا عن اعتقاد وصحة لهذا الشيء ، لأن الاعتقاد هو : عقد القلب على شيء ما – هذا هو الاعتقاد – والجزم بصحته – هذا هو الاعتقاد – ، نحن نعتقد بالرسول صلى الله عليه وسلم بنبوته ، أي : نصدق ونجزم ونعلم بأنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هذا ناشئا عن تصديق ، فهذا يعتبر اعتقاد ، وإن كان هذا الكلام ليس ناشئا عن تصديق ، وإنما من طبيع المزح لا غير ، فيكون مجرد كذب ...(1/58)
السخرية : يكذب الإنسان ويسخر ، وهو ليس بمصدق بأن حقيقة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام – أنه كان على هذه الصفة - ، وإنما مجرد أنه يكذب مع المزح والسخرية والاستهزاء ، فهذا يكون قاصدا لهذا الكلام ، يعني قال هذا الكلام وهو قاصد لكن ليس بمعتقد ، وهذا الذي حصل من هؤلاء النفر ، أنهم لم يكونوا مصدقين بما قالوا ، ولم يكونوا معتقدين لما تكلموا به ، وإنما كانوا مجرد يسخرون فقط ، وكذبوا مع السخرية ، ونحن نعلم جميعا أن الإنسان أحيانا يكذب على سبيل المزح ، وقد جاء ذم ذلك إذا كان الإنسان يكذب على سيل المزح من أجل أن يضحك الناس جاء ذم ذلك والتحذير من ذلك ، كما رواه ابن المبارك في الزهد من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( ويل لمن يكذب فيضحك القوم ، ويل له ) . فهؤلاء عندما تكلموا بهذا الكلام لم يكونوا مصدقين بما قالوه ، وإنما قالوه على سبيل الاستهزاء والكذب ، ولذلك قال الله عز وجل : ( ولئن سألتهم ... ) لماذا فعلتم ذلك ؟ ( ... ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) ، فهذا يعتبر قصد ، هو أن يقصد الإنسان أن يقول قولا ، أو أن يعمل عملا ، وإن كان ليس بمعتقد بصحة هذا القول أو هذا العمل ، وإنما هو قاصد مريد أن يقول هذه المقالة مثلا ، فهذا يمسى قصد ولا يسمى اعتقاد ، فبالاستهزاء سواء كان الإنسان معتقد أو قاصد هو واحد ، وهو كافر بالله عظيم ، لكن لا شك أن المعتقد أشد مع أن الحكم واحد ... هم كفار عافانا الله وإياكم من ذلك ، وطبعا هناك أقوال وأعمال يفرق فيها ما بين الاعتقاد والقصد ، يعني مثلا: من تمسح بشجرة ... هذا إن كان معتقدا أن هذه الشجرة تستقل بالضر والنفع فهذا شرك أكبر ، وإن كان ليس بمعتقد ، وإنما معتقد أنه مجرد سبب ... وإنما هو يقول مجرد سبب ، فهذا يعتبر شرك أصغر ، كذلك أيضا كمثال على هذا ما جاء في حديث سفيان الثوري عن الأجلح الكندي عن الأصم عن ابن عباس ، عندما قال رجل(1/59)
للرسول عليه الصلاة والسلام : ما شاء الله وشئت . هذا لم يكن معتقدا حقيقة لهذا المقالة ، يعني ما كان معتقد بقلبه أن مشيئة الله عز وجل مساوية لمشيئة الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأن الذي قال هذا الكلام :
1- أولا : هو صحابي .
2- وثانيا : هذا الكلام يتعلق بتوحيد الربوبية ، والعرب ما كانوا يساوون الله عز وجل بغيره فيما يتعلق بالربوبية ، وإنما في الإلهية فقط .
فمع أنه لم يكن معتقدا لهذه المقالة ، وإنما كان قاصدا أن يتكلم بها ، قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( أجعلتني لله ندا ؟! بل ما شاء الله وحده ) . والحديث رواه أصحاب السنن ومنهم البخاري في الأدب المفرد والإمام أحمد ، فهذا الرجل لو كان معتقدا لهذه المقالة التي قالها ، وأن والعياذ بالله مشيئة الرسول عليه الصلاة والسلام مساوية لمشيئة الله فهذا كفر أكبر ، وإنما هو كان قاصدا وليس بمعتقد ، قاصد أن يتكلم بهذا الكلام لكن ليس بمعتقد ، وهذا شرك أصغر يكون باللسان ، فبالنسبة للاستهزاء ما يفرق ما بين الاعتقاد والقصد .(1/60)
بقي المسألة الثالثة وهي : سبق اللسان ، إنسان سبق لسانه ، يريد أن يقول كلام وسبق لسانه إلى كلام آخر ، يعني مثل ما جاء في البخاري ومسلم عندما قال الرجل الذي فرح ، قال : اللهم أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح فلم يؤاخذ بذلك ، هذا ما كان قاصد ، سبق لسانه ، مثل إنسان يريد أن يسخر من واحد فسبق لسانه إلى السخرية بالله والعياذ بالله ، ولم يكن قاصد أن يسخر بالله تعالى الله عن ذلك ، بل يريد أن يسخر بواحد من الناس ، فهذا ما يؤاخذ هنا ، لأنه لم يكن قاصد . فينبغي الانتباه إلى هذه الدرجات الثلاث ، إما أن يكون الإنسان معتقد ، وإما أن يكون غير معتقد لكن قاصد ، وإما أن يكون ليس بمعتقد ولا قاصد وإنما سبق لسانه ، فالإنسان إذا سبق لسانه بأي شيء من الأشياء ما يؤاخذ ، وأما ما يتعلق بالاعتقاد والقصد فهذا يؤاخذ ، لكن هذه المؤاخذة أحيانا تختلف باختلاف الشيء الذي قاله أو عمله ، فكما ذكرت لكم فيما سبق أن من قال ما شاء الله وشئت . وهو ليس بمعتقد ، وإنما بس قاصد أن يقول هالكلام وهو غير مصدق بحقيقته ، فهذا شرك أصغر ، وأما إن كان معتقد فهذا شرك أكبر ، لكن بالاستهزاء ما في فرق بين قاصد وبين معتقد ، لماذا ؟ لأن – والعياذ بالله – عندما يقصد الإنسان أن يستهزئ وهو ليس بمصدق لهذا الاستهزاء الذي قاله ... هذا لا يمكن أن يجتمع مع الإيمان بالله ، كيف تسخر بالله – والعياذ بالله – حتى ولو لم تكن مضطر ... حتى ولو لم تكن معتقد ... كيف تسخر بالرب عز وجل ، ما يمكن أن يكون الإنسان عنده إيمان يسخر ... ما يمكن هذا ، ولذلك الله عز و جل قال : ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) ، قال : ( لا تعتذروا قد كفرتم ... ) بعد ماذا ؟ بعد الإيمان الذي كنتم عليه ، هذه المسألة الثانية فيما يتعلق بهذا الناقض .
المسألة الثالثة ... طبعا المسألة الأولى : الأقسام ، والمسألة الثانية هي : التفريق ما بين الاعتقاد والقصد .(1/61)
والمسألة الثالثة في هذه المسألة : أن الاستهزاء ينقسم إلى قسمين :
1- استهزاء صريح .
2- وليس بصريح .
الاستهزاء الصريح عافانا الله وإياكم : الذي يكون بالقول .
كما حصل من هؤلاء الثلاثة
والاستهزاء الذي ليس بصريح هو : الذي يكون – في الغالب – في الفعل ، مثل يحرك لسانه وقصده السخرية والانتقاص ، مثل يحرك حاجبه وقصده الانتقاص ، يعني مثلا – والعياذ بالله - : ذُكِر الرسول عليه الصلاة والسلام فحرك لسانه يريد الانتقاص ، أو حرك حاجبه يريد التقليل من شأنه ... من شأن الرسول عليه الصلاة والسلام والعياذ بالله ، فهذا الاستهزاء يسمى استهزاء ليس بصريح ، استهزاء فعلي وهو ليس بصريح ، وأحيانا – والله أعلم – الاستهزاء الفعلي قد يكون صريحا ، وذلك مثلا عندما يحرك يده بصورة واضحة ، ويقصد من هذا التحريك الاستهزاء ، فإذا الاستهزاء يكون صريح وليس بصريح ، الصريح يكون بالقول ، وأحيانا يكون بالعمل ، إذا حرك يده مثلا تحريك واضح وقصد الاستهزاء والعياذ بالله ، والاستهزاء الذي ليس بصريح هو الذي يكون بالعمل ، عندما يشير إشارة وقصده من هذه الإشارة الانتقاص والسخرية عافانا الله وإياكم من ذلك ، فهذه أنواع الاستهزاء .
المسألة الرابعة في الاستهزاء : هو حكم من كان موجودا ، إنسان – والعياذ بالله – استهزئ وهناك من هو موجودا معه ، فما حكم هذا الرجل الذي كان موجود ؟ هذا الرجل هو واحد من أربعة :
1- إما أنه ينكر ، فهذا حق وهذا هو الواجب . (1)
__________
(1) الشيخ حفظه الله عندما وصل إلى الكلمة قال : ( واحد من ثلاثة ) ، ثم لما وصل إلى قوله : ( وهذا هو الواجب ) قال : عفوا واحد من أربعة : 1- إما أن ينكر فهذا هو الواجب عليه . فآثرت عدم كتابة ذلك مراعاة للترتيب ، والله المعين .(1/62)
2- وإما أن يقوم ولا يجلس ، قال تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) وقال تعالى : ( وقد نزل في الكتاب عليكم أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزئ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) .
فإما أن ينكر ، وإما أن يخرج إذا كان ما يستطيع أن ينكر .
3- وإما أن يسكت ، وهو جاهل بهذا الأمر .
4- وإما أن يجلس ويسكت وهو عالم .
فإما إذا كان عالما فهو كافر مثله عافانا الله وإياكم ، نص الآية : ( إنكم إذا مثلهم ) ، فهو كافر – والعياذ بالله – مثل هذا الذي استهزئ ، وهذا الذي جاء في قصة هؤلاء النفر الثلاثة ، ( إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) ، والذي وقع منه الاستهزاء هو واحد ، جاء في بعض الروايات أنهم ثلاثة ، وأما إذا كان الإنسان جاهل بهذا الحكم فهذا يعني الإنسان قد يتوقف فيه ، يعني قد يقال إنه يعذر بالجهل ، وقد يقال أن هذه أشياء مفطور عليها البشر ، وهو تعظيم الرب عز وجل ، وأن هذا منافي التعظيم منافاة كلية ، فهذا بالنسبة لي محل توقف إذا كان جاهلا ، قد يكون مثله والعياذ بالله ، وقد يكون لا بد من أن تقام عليه الحجة ، وذلك بأن يبين له حكم ذلك ، فالأمر خطير عافانا الله وإياكم من ذلك .(1/63)
المسألة الخامسة – وهي كما تقدم في الأدلة على ذلك – ذكرت أنا طبعا الدليل من القرآن ومن السنة ، من السنة ما جاء في حديث عبد الله بن عمر السابق ، وهذا الحديث لا بأس بإسناده ، رواه ابن جرير ورواه كذلك أيضا ... رواه ابن جرير الطبري – فيما أظن من طريقين – طريق : معمر بن راشد وطريق : الليث ، كلاهما عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر ، وهذا إسناد حسن لا بأس به ، هشام بن سعد لا بأس به بالذات في زيد بن أسلم ، وزيد بن أسلم اختلف في سماعه من ابن عمر والصواب أنه سمع ، صرح في بعض الأحاديث في سماعه من عبد الله بن عمر ، وقد ساق هذه الأحاديث ابن عبد البر في التمهيد في ترجمة زيد بن أسلم ، فهذا إسناد حسن ، وقد جاء ما يشهد لهذا الإسناد من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة ، وجاء كذلك أيضا ما رواه ابن جرير من طريق أبي معشَر عن محمد بن كعب القرظي ... وغيرهم ، فهذه آثار تشهد لهذا الحديث ، فعندنا دليل من القرآن ومن السنة و مما أجمع عليه المسلمون ... نعم .(1/64)
المسألة السادسة وهي : خطورة هذا الأمر العظيم ، وهو السخرية والاستهزاء عافنا الله وإياكم من ذلك ، وهذا مع الأسف الشديد منتشر بين الناس ... السخرية والاستهزاء ، كثير من الناس يقولون كلمات وهم لا ينتبهون لها ، فيكفر والعياذ بالله بسبب هذه الكلمة ، وحتى أن مرة سمعت أن هناك من يسأل أهل العلم ، يقول : إن رجلا نادى رجلا قال يا عبد الضمير . والعياذ بالله ، وهو ما بال بهذه الكلمة ولا شك أنها كفر عافانا الله وإياكم ، هذه غاية في الكفر عافانا الله وإياكم ، مرة واحد سألني ، يقول : كان بعض الناس مجتمعين على طعام ، فجاء واحد وقال – والعياذ بالله – قال : وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ، قال : وخشعت الأصوات ... ، لأنهم انشغلوا بالطعام عن الكلام ، قال – والعياذ بالله - : وخشعت الأصوات ... ، وهذا – أعوذ بالله – استهزاء وسخرية، استهزاء وسخرية عافانا الله ، الأصوات تخشع للرحمن ما تخشع لطعام ، فهذا استهزاء وسخرية عافانا الله وإياكم ، هذا فضلا عمن يكون يعني كلامه صريح جدا – والعياذ بالله – في الانتقاص وفي السخرية ، وبالذات فيما يتعلق بالسنن ، كثير من الناس عندما يرى إنسان مقصِّر ثوبه يشير بيده ... يسخر ، وهذا كفر عافانا الله وإياكم ، بس الإشارة هذا كفر عافانا الله وإياكم وردة ، أو يسخر باللحية فهذا كفر أيضا عافانا الله وإياكم من ذلك ، فهذا الأمر غاية في الخطورة عافانا الله وإياكم من ذلك ، ومع الأسف الشديد أن هناك ممن قد ينتسب للخير – والعياذ بالله – ويقع في ذلك ، مرة واحد سمعته أيضا قال يعني يسخر ، قال : الحمد لله أنك شيعي لست بسني ... أو كلمة نحوها ، وهذه تعتبر كفر أيضا – والعياذ بالله - ، خطيرة نعم يعني ... ، يعني يحمد الله على ... يعني يسخر ، يقول : أنت شيعي ولست بسني ، وهو اللي مقابله سني ليس بشيعي ، والرافضي كافر ... الشيعي كافر ، فكيف يقدم الكافر على المسلم ، ويسخر أيضا في ذلك ،(1/65)
هذا ما ينفع السخرية ، هذه الأشياء ما فيها سخرية أبدا ، وإنما الواجب هو تعظيم الإنسان لربه سبحانه وتعالى التعظيم المطلق ، وأن يحترم رسوله عليه الصلاة والسلام الاحترام الذي يليق به ، وأن يحترم الدين الذي شرعه الله عز وجل ، فالأمر خطير غاية في الخطورة عافانا الله وإياكم من ذلك .
والمسألة السابعة هو : ما تقدم من خطورة من يجلس مع هؤلاء المستهزئين ، خطورة الجلوس في المجالس التي يُستهزئ بها بآيات الله ، ويُسخر فيها بدين الله – والعياذ بالله - ، واعلموا يا معاشر إخواننا : من اللعب في آيات الله والخوض بآيات الله هو : أن يُتكلم بكلام هو فيه تحليل لما حرَّم الله أو بالعكس ، أو إنزال الآيات في غير ما أنزلت فيه ، يعني كما تقدم فيما سبق أن بعض الناس يقول عن لعب كورة القدم يقول: إن هؤلاء مجاهدين ، ويقول : إن تنصروا الله ينصركم ، ... أو ما شابه ذلك ، ينزل الآيات القرآنية على أناس يلعبون الكرة ، ينزل عليها الآيات القرآنية ، فهذا من الخوض في آيات الله بالباطل ، أو واحد يريد أن يفتتح مثلا مشروع ولا مكان فيقرأ القارئ : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، فهذا أيضا خطير ، هذا تنزيل للآيات في غير ما أنزلت فيه ، وقد يكون هذا المفتتَح هو شيء محرم أو شي فيه تضييع للأوقات فتنزل الآية الكريمة العظيمة في الفتح الذي فتحه الله لرسوله تنزل على هذا الشيء الذي قد يكون حرام أو قد يكون في تضييع للأوقات وليس فيه فائدة ولا مصلحة للمسلمين ، فهذا أيضا من الشيء الخطير ، وقد كثر عافانا الله وإياكم تنزيل الآيات في غير ما أنزلت فيه ، قد كثر هذا الشيء في هذا الوقت ، الاستدلال بالآيات في غير ما أنزلت فيه ، فهذا من الخوض بآيات الله ، قد يدخل في الاستهزاء قد يدخل والعياذ بالله ... أنا أتوقف في ذلك ، لكن قد يدخل ، وأما أنه من الخوض في آيات الله بالباطل فهذا لا شك ، هذا خوض في آيات الله بالباطل عافانا الله وإياكم من ذلك ، فمسألة(1/66)
الاستهزاء مسألة خطيرة جدا وما أكثر من يستهزئ في هذا الوقت - والعياذ بالله – بآيات الله ، ومن السخرية والتلاعب بآيات الله هو أن النصارى مثلا على حق وصواب ، وأنهم إخواننا ... ومن هذه الكلمات ، وأنهم أصدقاؤنا ، ويقال لهم يا سيادة كذا ... ويا سيادة كذا ، أو – والعياذ بالله – اللي الأشد من هذا والذي يعتبر كفر ما فيه شك وهو القول عن القساوسة والرهبان : ( قداسة كذا ... وقداسة كذا ) ، أو إنسان طاغوت من الطواغيت زار مكان أو بلد فيقال له : ( إن زيارتك هبة ربانية ) ... ، هذا كفر أيضا عافانا الله وإياكم من ذلك ، لأن هذا الطاغوت حتى يُخرِج الناس عن دينهم ، فعندما يقول : ( زيارتك هبة ربانية ) ، والهبة من الله عز وجل هي التي فيها امتنان وفيها النعمة ، فزيارة ها الطاغوت اللي يُكفِّر المسلمين يعني نعمة من الله ورحمة ، هذا ( ... )(1) والعياذ بالله ، وهذا كذب وسب - والعياذ بالله - وتلاعب بالدين ، فهذه كلها – والعياذ بالله – من الأمور الخطيرة جدا ، أو رد النصوص الشرعية ... الأحاديث النبوية بالشبهات وما شابه ذلك ، مثل ما واحد من الناس – والعياذ بالله – رأى إنسان معفي لحيته وحالق شواربه ، فقال له : لماذا لا تحلق أيضا بعد حواجبك ؟ عافانا الله وإياكم من ذلك ، فهذه كلها من الأمور الخطيرة عافانا الله وإياكم من ذلك ، فالاستهزاء أمر خطير جدا كما قال ابن القيم رحمه الله : هو بحر لا ساحل له . فينبغي للمسلم أن ينتبه لهذا وأن يحذر الناس من الوقوع في ذلك ، وكما تقدم هذا منتشر بين العامة ... بل حتى من ينتسب إلى الخير عافانا الله وإياكم من ذلك .
__________
(1) لم أستطع التعرف على الكلمة .(1/67)
ومما من المناسبة أن يذكر في هذه المسألة هو : فيما يتعلق أيضا بالاستدلال بالآيات القرآنية في الكلام العادي ، عندما يُسأل الشخص مثلا عن الساعة ... كم الساعة ؟ فيقول : الساعة – والعياذ بالله – ... يقول : الساعة أدهى وأمرّ . هذا أيضا تلاعب بالآيات في غير ما وُضعت له ، أو يأتي إلى أهله يقول : آتونا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . فهذا فيه نوع إهانة للقرآن الكريم ، وأما أن يستشهد الإنسان بالقرآن أو بالحديث فيما هو محل استشهاد ، وفيما هو موافق لما لهذا الذي استشهد بهذه الآية أو بهذا الحديث فيه ، فهذا لا شك أنه حق ليس فيه ما نحن بصدد الكلام عنه ، وإنما هو استعمال الآيات في غير ما وضعت له واتسخدامها في الكلام العادي والكلام الذي لا قيمة له ، فينبغي أن تعظم وتجل آيات الله عن ذلك ، وأما الاستدلال بآيات الله في شيء هو موافق وفي شي حق فهذا حق لا شك فيه ، مثل ما قال الرسول : إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين . كما في صحيح البخاري ، فهذا حق ، ولا شك إذا نزل الرسول عليه الصلاة والسلام بساحة قوم فساء صباح المنذَرين . لا شك في هذا فهذا حق ، وأما واحد يأتي لأناس من أصحابه يقول : إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين . فهذا انتقاص للقرآن ونوع من السخرية
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ، قال المؤلف رحمه الله تعالى :
الناقض السابع من نواقض الإسلام ، قال رحمه الله :
السحر ، ومنه الصرف والعطف ، فمن فعله أو رضي به كفر ، والدليل قول الله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) .
الشرح :
.... نعم أحسنت .
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين .... أما بعد :(1/68)
فلا زلنا في نواقض الإسلام التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في هذه الرسالة ، ووصلنا إلى الناقض السابع وهو : السحر، فالسحر هو أحد نواقض الإسلام والتي تُخرج الإنسان عن الإيمان وعن دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر والضلال عافانا الله وإياكم من ذلك ، والكلام في هذا الناقض يكون من وجوه عدة :
1- أولا : في معنى السحر لغة واصطلاحا .
2- ثم بعد ذلك في حكم السحر .
3- ثم بعد ذلك في بيان خطورة السحر .
4- ثم بعد ذلك في بيان أنواع وأقسام السحر .(1/69)
فأقول : أن السحر معناه في اللغة هو : كل ما خفيَ ولطُف سببه ... يسمى سحرا ، ولذلك تقول العرب عن الشيء الشديد الخفاء ، تقول أنه أخفى من السحر ، وقيل أن الأكلة التي تكون في رمضان قبيل الفجر سميت : بأكلة السحر ، لأنها تقع في آخر الليل على وجه الخفاء ، فلذلك سميت بهذا الاسم ، ومنه كذلك أيضا الجزء الأخير من الليل ، فلأنه كأنه يقع مخفيا في حالة خفاء ، وفي شدة من ظلام الليل سمي بالسحر ، فالسحر هو : كل ما خفي ولطف سببه يسمى سحرا ، وأما من الناحية الاصطلاحية والشرعية : فالسحر عبارة عن عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب وفي الأبدان فتُمرِض وتقتل وتفرِّق بين المرء وزوجه ... هذا هو تعريف السحر من الناحية الاصطلاحية ، فهو عزائم وعقد ورقى تؤثر في القلوب وفي الأبدان فتُمرِض وتقتل وتفرِّق بين المرء وزوجه عافانا الله وإياكم من ذلك ، فهي عبارة عن عزائم يقوم بها السحرة يعزمون بها عافانا الله وإياكم على أوليائهم من الجن ويستدعونهم ويستعينون بهم في تنفيذ مآربهم ، وعقد كما قال تعالى : ( من شر النفاثات في العقد ) ، فأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله من شر النفاثات اللاتي ينفثن في العقد ، فالسحر منه ما يكون كذلك ، أنه عبارة عن عقد تعقد ويُنفث فيها من قِبل هؤلاء السحرة والسواحر ورقى ، والرقى هي : ما يُتلى على المريض بقصد الشفاء ، إنْ كان هذا المتن والمقروء هو من كلام الله عز وجل ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفيه استعانة وتوسُّل إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته في شفاء هذا المريض ، فهذه الرقية الشرعية ، وهذا حق كما هو معلوم ، كما قال تعالى : ( وينزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) ، فهذه هي الرقية الشرعية ، وأما الرقية السحرية فهي عبارة عن أدعية وتعاويذ يستعيذ ويدعو هذا الساحر – والعياذ بالله – أولياءه من الجن والشياطين ، فهي ... ، فالسحر(1/70)
عبارة عن عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب وفي الأبدان ، تؤثر على قلب الإنسان سلبا وإيجابا ... محبة وبغضا ، فتجد مثلا أن الشخص قد يحب شخصا ، ثم بعد أن يُسحر يصبح هذا الشخص بغيضا لديه ، أو بالعكس : بعد أن كان يكره شخصا من الناس ، أصبح يحبه محبة شديدة هكذا تلقائيا بدون مقدمات ولا أسباب ، وهذا يسمى بالعطف.
فتؤثر في القلوب محبة وبغضا ... مثلا ، أو يُخيل فيها للإنسان أن يفعل الشيء وما شابه ذلك ، تؤثر في القلوب وفي الأبدان ، في الأبدان تُسقم البدن ، وتمرض البدن ، فتُمرِض وتقتل أحيانا ، وتفرِّق ما بين المرء وزوجه ... فهذا هو تعريف السحر .
والسحر جاءت النصوص الشرعية بأنه كفر بالله العظيم عافانا الله وإياكم من ذلك ، وبعض أنواع السحر أجمع أهل العلم قاطبة على كفر من وقع فيها ، فكما قال تعالى : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) ، فأخبر الله عز وجل أن الشياطين كفروا ... بماذا ؟ بتعليمهم السحر للناس ... كفروا بذلك ، وكما قال تعالى : ( ولا يفلح الساحر حيث أتى ) ، فنفى الله عز وجل الفلاح عن الساحر من جميع الوجوه ، وكما قال تعالى : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، فنفى الله عز وجل عمن اشترى السحر أن يكون له نصيب في الآخرة ، فإذاً ليس له نصيب من الآخرة ، وإنما نصيبه من نار جهنم عافانا الله وإياكم من ذلك ، بل أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن من يأتي إلى السحرة ويسألهم ويصدقهم فهو كافر مثلهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، كما سوف يأتينا في حديث أبي هريرة : ( من أتى إلى كاهن أو عرَّاف فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزِل على محمد ) صلى الله عليه وسلم ، فهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على كفر السحرة ... بل كفر من يأتي إليهم ويسألهم ويصدقهم كما سوف يأتي بمشيئة الله .
وأما خطورة السحر ، فلا شك أن هذا الأمر خطير ... خطير من جهات متعددة :(1/71)
1- أولا : أن الله عز وجل بيَّن خطورته في كتابه ، وذلك أنه كفر بالله العظيم ، وكل ما كان كفرا فهو أمره عظيم وشأنه خطير ، وفي حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين عندما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله والسحر ... ثم ذكر باقي السبع ) ، فأول ما بدأ بالشرك ، ثم ثنَّى بالسحر ، فأمر باجتناب هذه السبع الموبقة التي توبق الإنسان في النار عافانا الله وإياكم من ذلك ، فأولا: وجه خطورته أن النصوص جاءت بالتحذير منه ، والحكم على من فعله بأنه كافر .
2 – والأمر الثاني : أن النصوص أيضا بينت أن من يأتي إلى هؤلاء السحرة ويصدقهم بما يقولون فهو كافر مثلهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، ولا شك أن هذا يدل على عِظم هذا الأمر ، وشدة خطورة هذا الشيء .
3- الأمر الثالث : أن في السحر فيه استعانة واستغاثة وتعلق بالشياطين عافانا الله وإياكم من ذلك ، فأخبر الله عز وجل أن الشياطين كفروا بأي شيء ؟ بتعليمهم السحر للناس ، فهؤلاء السحرة عافانا الله وإياكم يستعينون بالشياطين ، والشياطين لا تستجيب لهم ولا تنقاد لهم إلا بأن يكفروا بربهم والعياذ بالله ، فعندئذ تستجيب الشياطين لهم ، إما أن تأمرهم بأن يسجدوا لهم ، وإما أن تأمرهم بأن يستهينوا بالقرآن وبكلام الله عز وجل بأن يكتبوه بالنجاسة أو بالدم عافانا الله وإياكم من ذلك ... وما شابه هذه الأشياء ، فمما يدل أيضا على خطورته أن فيه استعانة واستغاثة بالشياطين عافانا الله وإياكم من ذلك .
3- الأمر الرابع : فيه ادعاء للغيب ، أن هذا الساحر يدعي الغيب ، وسوف يأتينا أن من أنواع السحر : الكهانة والعيافة وزجر الطير والتنجيم ...كل هذه سوف تأتينا أنها من أنواع السحر ، ففيه ادعاء لعلم الغيب ، وكل من ادعا علم الغيب فهو كافر بالله عافانا الله وإياكم من ذلك .(1/72)
4- الأمر الخامس : لما يحصل من السحر من ضرر على الناس ، على هؤلاء الناس المسحورين ، كما تقدم أنه يؤثر في القلوب محبة وبغضا ، وكذلك أيضا يؤثر في الأبدان فيسقها ، ويؤثر أيضا في العقول : فقد يخيل للإنسان أنه يفعل شيء وهو لا يفعله ، فلا شك أن هذا ضرر كبير على من وقع له هذا الأمر ، ... نعم .
وأما ما يتعلق بأنواع وأقسام السحر : فالسحر يطلق على خمسة أشياء :
1- أولا : على السحر الحقيقي ، والذي كما تقدم أنه يؤثر في القلوب وفي الأبدان فيسقها ويُمرضها ويغير محبتها أو بغضها ، فهذا النوع الأول هو من أنواع السحر الحقيقي ، وهذا رأس هذه الأنواع الخمسة ، ولا شك أن فاعل ذلك كافر بالله العظيم عافانا الله وإياكم من ذلك .(1/73)
2- النوع الثاني : هو السحر الخيالي كما قال تعالى : ( يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى ) ، فيخيل للإنسان أن هذا الشيء هو على اختلاف ما هو عليه ، فخُيل لموسى عليه السلام والناس الذين كانوا معه بأن هذه العصي أصبحت حيات ، وهي ليست بحيات وإنما هي عصي ، أو أن الشخص مثلا يزعم أنه يأتي بشيء من لا شيء ، فيأتي بحمامة أو بدجاجة أو ببيضة ... أو ما شابه ذلك ، وهذا النوع قد اختلف أهل العلم فيه ... اختلف أهل العلم في تكفير من وقع منه ، وجه الخلاف فيما بينهم أن هذا النوع من أنواع السحر إن كان فيه استعانة بالشياطين فلا شك في كفر من فعله ، وأما إن كان فيما يسمى بـ : خفة يد ، أو يستعمل بعض خواص الأشياء ... بعض الخواص الكيميائية لبعض الأشياء ، فيزعم أنه يغير الأشياء ، فهذا النوع قد اختلف أهل العلم في تكفير من فعله هل يكون كافرا أم لا ، ذهب جمهور أهل العلم إلى الحكم بكفره ، وذهب الإمام الشافعي إلى أنه لا يكفر ، والنصوص الشرعية في الحقيقة جاءت عامة ولم تفرق ما بين هذا وهذا ، ما فرقت بين هذا وهذا ، وإنما حكمت بحكم عام : بأن مرتكب السحر أنه كافر بالله العظيم ، فهذا النوع النصوص جاءت في حقه عامة في تكفير الساحر ، ولم تفرق النصوص ما بين سحر وآخر ، والله عز وجل قد ذكر في كتابه السحر الخيالي ، لكنه سبحانه وتعالى لم يفرق في حكم الساحر ، فالقول في أنه كافر قول قوي وقول له وجاهته .(1/74)
3- النوع الثالث من أنواع السحر التي جاءت في الكتاب والسنة إطلاق السحر عليها هو : ادعاء علم الغيب ، سواء كان هذا الادعاء بالتنجيم ، أو كان هذا الادعاء بزجر الطير ، أو كان هذا الادعاء بقراءة الكف أوالفنجان ... أو ما شابه ذلك ، فكل هذا جاءت النصوص بإطلاق السحر عليه ، ومن ذلك ما رواه أبو داود من حديث الوليد بن عبد الله عن يوسف بن مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد ) ، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أن من اقتبس شعبة من النجوم ، أي : استعمل التنجيم ، ويزعم أنه يتوصل به إلى معرفة الغيب ، فهذا حكم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه اقتبس شعبة من السحر ، كلما زاد من التنجيم كلما زاد من السحر ، ومن ذلك ما جاء في حديث هيَّام بن العلاء عن القطن بن قبيصة عن أبيه ، حديث هيَّام بن العلاء رواه الإمام أحمد وأبو داود ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( إن العيافة والطرق والتنجيم من الجبت ) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، والجبت هو السحر ، ( إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت ) ، والجبت هو السحر ، ووجه دخول الطيرة في ذلك أن أيضا في الطيرة إدعاء لعلم الغيب ، وذلك أن الطائر مثلا إذا طار واتجه إلى جهة اليمين تفائل هذا الشخص وظن أنه سوف يحصل له الخير ، وسوف يربح مثلا في تجارته أو في مسعاه الذي قصده بهذا السفر الذي قام به مثلا ، والعكس بالعكس ، فإن ذهب الطائر إلى جهة اليسار تشاءم وترك ما يريد أن يفعله أو يعمله من سفر أو زواج ... أو ما شابه ذلك ، ففيه ادعاء لعلم الغيب ، فإذاً أن التنجيم وما يتعلق به أن الشارع أطلق عليه بأنه سحر ، ووجه إطلاق السحر عليه أن فيه ادعاء لعلم الغيب ، وأن الذي يدعي وأن الساحر أيضا يدعي علم الغيب ، وأن الساحر في الغالب يدعي علم الغيب ... نعم .(1/75)
4- النوع الرابع : هو النميمة ، تمسى أيضا سحرا كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه الذي رواه الإمام مسلم ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( ألا أنبئكم ما العضل ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هي النميمة القالة بين الناس ) ، والعضل فسره بعض أهل العلم بالسحر ، وفسره بعضهم بالنميمة ، وممن فسره بالسحر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، فقد ذكر هذا الحديث في أنواع السحر ، ونص على أنه من السحر ، وأيضا غيره من أهل العلم ، ووجه دخوله في السحر أنه يفرق ما بين الناس ، ويفسد ما بين الناس ، فكذلك أيضا السحر كما قال تعالى : ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، فكذلك النمام عافانا الله وإياكم يفرق ما بين المتآلفين والمتحابين ، فجاءت النصوص بإطلاق السحر على النميمة .(1/76)
5- والأمر الخامس الذي جاءت النصوص بإطلاق السحر عليه هو : البيان والبلاغة كما جاء في صحيح البخاري في حديث سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر ، أنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( إن من البيان لسحرا ) ، ووجه إطلاق السحر على البيان : أن البيان يؤثر على الناس وعلى السامعين ، فقد يقلب الحق إلى باطل ، أو الباطل إلى حق ، فيستميل الناس ويؤثر فيهم ، وكذلك الساحر يستميل ويؤثر بالناس ، وبالنسبة للأمر الخامس – البيان كما نعلم - إما أن يستعمل في حق ، في تبيين الحق والدعوة إليه ، فهذا حق والرسول عليه الصلاة والسلام قد أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام ، ومن ذلك الفصاحة والبيان ، وإما أن يستعمل البيان عافانا الله وإياكم في قلب الحقائق وإبطال هذه الحقائق والتلبيس على الناس ، فلا شك أن هذا محرم ولا يجوز ، وفي الحقيقة أن هذا النوع من أنواع البيان هو المنتشر ، وهو الغالب على الناس ، حتى أصبح الناس عافانا الله وإياكم يأخذون دينهم وعقائدهم وتاريخهم ولغتهم وعاداتهم يأخذونها من مصادر تُلبِّس الحق بالباطل ، وتقلب الباطل إلى حق ، كالتلفاز وما تفرع منه والصحف والمجلات عافانا الله وإياكم من ذلك ، فكثيرا ما يلبس الإعلام على الناس ويغير الحقائق عندهم ، حتى يجعل الباطل يجعله حق ، ويزينه للناس ويدعوهم إليه ، فهذا النوع من أنواع البيان وهو تلبيس الحقائق وقلب الحقائق إلى أباطيل وجعل الباطل والحق هو المنتشر بين الناس ، فوسائل الإعلام في الغالب أنها تفعل ذلك ، فتغير وتلبس الحق على الناس وتقلبه إلى باطل ، والواجب على المسلم أن يبتعد عن هذه الوسائل ولا يأخذ دينه منها ولا يأخذ أبدا أي شيء منها ، وحتى الأخبار التي تأتي بها هذه الوسائل ينظر فيها ، ليست لا تؤخذ مأخذ التسليم ... لا تؤخذ مأخذ التسليم ، وإنما ينظر فيها ، وينبغي أيضا تنبيه وتحذير الناس من هذه الوسائل ، فكثير من الناس تنطلي عليهم هذه(1/77)
الوسائل ، ولا يعرفون الحق – بزعمهم – إلا منها ، ولا يأخذون دينهم – في الغالب – أيضا إلا منها ، فينبغي تحذير الناس وتنبيههم من هذه الوسائل ... نعم .
هذه خمسة أقسام جاءت النصوص الشرعية بإطلاق السحر عليها ، طبعا لا شك أن طبعا الأول ... القسم الأول والثالث لا شك أنها كفر ، والقسم الثاني النصوص جاءت في التعميم - وهو السحر الخيالي – جاءت النصوص بالحكم العام بأن الساحر يعتبر كافر ، فالقول بأنه كافر – أي هذا من يفعل السحر الخيالي – قول له وجاهته ، وأما الأمر الرابع وهو النميمة ، فالنميمة ليست كفر كما نعلم ، وإنما هي كبيرة من كبائر الذنوب ، و عِظَم وغِلَظ هذه النميمة يختلف باختلاف الأحوال ، فمن سعى إلى أهل الخير سعى إلى أهل الخير وأهل العلم سعى بهم عند الجهات المسؤولة أو ما شابه ذلك وأراد أن يفسد ما بينهم ولبَّس الأباطيل عليهم ، فلا شك أن هذا من أشد أنواع النميمة ، وقد جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان العبسي رضي الله تعالى عنه ، أنه كان جالسا مع أصحاب له ، فأقبل رجل ، فقال واحد من الناس إن هذا الرجل الذي أقبل يرفع أشياء إلى السلطان ، فعندما جلس هذا الرجل قال حذيفة رضي الله تعالى عنه : إني سمعت الرسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : ( لا يدخل الجنة قتات ) عافانا الله وإياكم من ذلك ، وهذا حذيفة رضي الله عنه توفي في خلافة عثمان ، في نهاية خلافة عثمان وبداية خلافة علي رضي الله تعالى عنهما ، فما بالك بمن أتى من بعده ، فالنميمة تختلف باختلاف الأحوال ، كلما كانت هذه النميمة في أمر حق وصواب ، تريد أن تفسد هذا الحق والصواب وتلبس وتغير الأمور ، فيزداد خطرها ويعظم شأنها ، ولا شك أن النميمة كبيرة من كبائر الذنوب عافانا الله وإياكم من ذلك ، وأما ما يتعلق بالبيان فتقدم ، إن كان والعياذ بالله في تلبيس الحق وجعله باطل ، فهذا باطل ولا يجوز ، فإن كان هذا التلبيس يؤدي إلى كفر فهو كفر(1/78)
، يعني من زين للناس عافانا الله وإياكم من الإتيان إلى المشعوذين ، وقال إن هؤلاء ينفعون ويطبِّبون ، وحسَّن ذهاب الناس إليهم ، فهذا كفر عافانا الله وإياكم من ذلك، لأنه دعى الناس إلى الكفر ، كمن يزين دين اليهود أو دين النصارى أو دين المشركين للناس و يدعوهم إليه ، فهذا مثله ، والرسول عليه والسلام يقول : ( من تشبه بقوم فهو مثلهم ) ، وأما إن كان هذا البيان يستعمل في بيان الحق والدعوة إليه فلا شك أن هذا حق ... نعم .
هذا ما يتعلق بالسحر ، ولعلي أتحدث إلى حكم من يأتي إلى هؤلاء السحرة :(1/79)
فأولا : الإتيان إلى السحرة هذا أمر محرم ولا يجوز ، وفي حديث جابر الذي رواه أبو داود والإمام أحمد من حديث وهب بن منبه عن جابر ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة ، قال : ( هي من عمل الشيطان ) ، والنشرة : فك السحر بسحر آخر ، فقال يمنع من الشيطان ، والله عز وجل نهانا عن اتباع خطوات الشيطان ، وجاء في صحيح مسلم عندما سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الكهان قال : ( لا تأتيهم ) ، وفي حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام أحمد من حديث عوف عن خِناس بن عمرو عن أبي هريرة ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( من أتى إلى كاهن أو عراف فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) صلى الله عليه وسلم ، فالإتيان إلى السحرة لا شك أنه لا يجوز أبدا ، وأما أن يسألهم ويصدقهم بمايقولون ، ويفعل ما طلبوه منه ، من اذبح كذا ، واذبح كذا ، فهذا شرك أكبر عافانا الله وإياكم من ذلك ، فالإتيان إلى السحرة لا شك أنه أمر محرم ، ومع الأسف الشديد أن السحر والسحرة قد انتشروا بين الناس ، وكثر من الناس الإتيان إلى أمثال هؤلاء ، وبالذات فيما يتعلق بالصرف والعطف ، الصرف صرف الإنسان عن شخص أو عطفه على شخص ، فهذا قد كثر بين الناس ، فالواجب هو تحذير الناس ، كثير من الناس ما يدرون ، يظن هذا جائز أو ما شابه ذلك ، أو مشروع أو أنه بس مجرد أنه محرم ، وهو أمر خطير أشد من ذلك ، فينبغي تحذير وتنبيه الناس ، ولا يجوز ألبتة الإتيان إلى السحرة ، بعض الناس يزعم أن فك السحر بسحر آخر أن هذا جائز ، ولا شك أن هذا ليس بصحيح ، وكما تقدم أن الرسول عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة قال : ( هي من عمل الشيطان ) ، فكيف عمل الشيطان يكون جائزا ، ثم النصوص المتكاثرة التي فيها النهي عن الإتيان إلى الكهان وإلى العرافين ، والسحرة هم رؤوس الكهان والعرافين ، فالقول بجواز الإتيان إلا الساحر لا شك أنه قول باطل وليس بصحيح .(1/80)
....... نعم لعلنا نقف عند هذا .
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ....... أما بعد :
فقال المصنف رحمه الله تعالى :
الناقض الثامن من نواقض الإسلام :
وهو مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين .
الشرح :
وفي الحقيقة عندنا مسألتان :
1- المسألة الأولى : هي موالاة الكفار والمشركين .
2- والمسألة الثانية : هي معاونة ومظاهرة الكفار على المسلمين .
فأما ما يتعلق بالموالاة فقد تقدم لنا فيما سبق الإشارة إلى مسألة الموالاة :
فأولا : أن معنا الموالاة كما تقدم هو خمسة معاني ... للموالاة خمسة معاني :
1- المعنى الأول : هو المعاونة والمناصرة .
2- والثاني : المحبة والمودة .
3- والثالث : هو المخالطة ، كثرة المخالطة والمعاشرة .
4- والرابع هو : التشبه .
5- والخامس : هو الاحترام والتعظيم ، المبالغة في الاحترام والتعظيم .
فهذه المعاني الخمسة كلها داخلة في الموالاة ، فالموالاة شاملة لهذه المعاني الخمسة .(1/81)
وقد بين الله عز وجل أن موالاة الكفار هي ردة وخروج عن الإسلام ، وذلك إذا كانت هذه الموالاة موالاة كبرى ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم من منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ، فأخبر الله عز وجل أن من والى الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم فهو مثلهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، وكما قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ... إلى آخر الآية ) ، فأخبر الله عز وجل بأنه لا يمكن أن يوجد من يؤمن بالله واليوم الآخر يواد من حاد الله ورسوله ، وقال تعالى : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إن برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) ، فأخبر الله عز وجل على لسان إبراهيم وقومه أنهم تبرؤا من الكفار ومن أعمالهم حتى يؤمنوا بالله وحده ، .... إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت تحذر من موالاة الكفار والمشركين ، فمن والى الكفار والمشركين موالاة كبرى فلا شك أنه قد ارتد عافانا الله وإياكم وخرج عن الإسلام .(1/82)
وأما من والاهم موالاة صغرى فهذا قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ، ويدل على هذا ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، عندما وقع منه شيء من الموالاة للمشركين الذين كانوا في مكة ، فعندما قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ( دعني أضرب عنق هذا المنافق ) ، قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ( وما أدراك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ، فلو أنه كفر لما نفعه شهوده غزوة بدر ، ولكنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب ، وعنده حسنة عظيمة كبيرة ماحية ، فمحت هذه السيئة التي وقعت منه رضي الله تعالى عنه ، فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الموالاة تنقسم إلى هذين القسمين :
1- موالاة كبرى .
2- موالاة صغرى .
فمن والى الكفار موالاة كبرى فهذا كما جاءت النصوص بأنه أصبح منهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، ومن والاهم موالاة صغرى ، يعني وقع منه شيء من الموالاة كمخالطة ومعاشرة مثلا ، أو احترام بعض الاحترام مثلا ، فهذه موالاة صغرى ، وتعتبر كبيرة من كبائر الذنوب .(1/83)
وأما ما يتعلق بالمعاونة والمظاهرة للكفار على المسلمين فهذه في الحقيقة أحد أنواع الموالاة كما تقدم لنا أن من معاني الموالاة النصرة والتأييد ، فمن ناصر وأيد الكفار على المسلمين فهذا عافانا الله وإياكم ردة وخروج عن ملة الإسلام ، كما قال تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جنهم ) ، فأخبر الله عز وجل بأن هؤلاء مأواهم جنهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، وذلك أن هذه الآية نزلت في أناس قد أسلموا ولكنهم لم يهاجروا من مكة إلى المدينة ، بل بقوا في مكة ، وعندما جاءت غزوة بدر خرجوا مع المشركين وكانوا كارهين لذلك ... وكانوا كارهين لذلك ... كانوا كارهين لذلك ، ولكنهم عندما خرجوا هنا كثَّروا سواد المشركين على المسلمين ، وحصل منهم مظاهرة ومعاونة لهؤلاء الكافرين على المسلمين ، فحكم الله عز وجل بأن مأواهم جنهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، فكل من والى وظاهر وعاون الكفار على المسلمين فهذا ردة منه ، فهذا ردة وخروج عن الإسلام وأحد نواقض الإيمان .
واعلموا يا معاشر الإخوان أن معاونة الكفار تنقسم إلى قسمين :
1- إلى مشروعة .
2- ممنوعة .(1/84)
أما الممنوعة فهي التي تقدمت ، عندما يعاون هؤلاء الكفار على المسلمين ، وأما المشروعة فهي معاونة الكفار على كفار آخرين تكون أو يكون من المصلحة معاونة هؤلاء الكفار عليهم ، وذلك أن هؤلاء الكفار الآخرين ضررهم أشد ، كما حصل عندما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة عقد عقدا مع اليهود الذين كانوا في المدينة على أنهم يتعاونون فيما بينهم على محاربة العدو الذي يأتي إلى المدينة حتى يغزوها ، فعقد الرسول صلى الله عليه وسلم عقدا معهم وصلحا معهم في أنه لو جاء عدو إلى المدينة فيتعاونون على محاربة هذا العدو ، فهذا حق ومشروع ، فإذا كان من المصلحة معاونة الكفار فهذا أمر مشروع ولا بأس به ، وأما إذا كان هذه المعاونة في حق الكفار فهذا كما تقدم ردة عافانا الله وإياكم من ذلك .
وهناك قسم ثالث : وهو معاونة الكفار في ما لا مصلحة فيه ، ولا فيه ضرر على المسلمين ، فهذا أيضا لا يجوز ، لا يجوز أن يُعاون هؤلاء الكفار بدون مصلحة ، لأن ... عفوا ، لأن في هذه المعاونة إذهاب لهذه المعونة التي عاونوا بها هؤلاء الكفار ، إذهاب لها في غير حقها ، وفي ما لا فائدة فيه ولا مصلحة منه ، ولئلا يتقوى هؤلاء الكفار بهذه المعاونة فيرجع على المسلمين ، فإذا لم يكن هناك من المصلحة معاونة الكفار على كفار آخرين فهذا لا يجوز ، وأما إذا كان هناك مصلحة فهذا حق كما تقدم ، وأما إذا كانت هذه المظاهرة والمعاونة على مسلمين فهذه ردة عافانا الله وإياكم من ذلك .
وكذلك أيضا فيما يتعلق بالتعامل مع الكفار ( الشيء بالشيء يذكر ) ، فالتعامل مع الكفار أيضا ينقسم إلى أقسام :(1/85)
1- أولا : إن كان هذا التعامل في شيء مشروع ، كتجارة ونحوها وما شابه ذلك ، فهذا أمر مشروع ، وقد تقدم لنا في درس البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي ، وأن الصحابة كانوا يشتروا ويبيعوا عند الكفار ، وقد جاء عند ابن ماجه وغيره بثلاث أسانيد بعضها يقوي البعض الآخر ، أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عمل عند امرأة يهودية ، وقَبْل ذلك جاء في كتاب الله في سورة يوسف ، أن يوسف عليه السلام عمل عند عزيز مصر وأصبح وزيرا عنده ، وعزيز مصر كان كافرا بالله العظيم ، فالتعامل معهم في بيع و تجارة أو في عمل مشروع فهذا أمر لا بأس به مالم يكن فيه إهانة وإذلال للمسلم حتى لو عمل هذا المسلم عند هؤلاء الكفار ، وأما إذا كان هذا التعامل في شيء محرم ، أو هذا العمل يؤدي إلى إهانة وإذلال للمسلم فهذا أمر ممنوع ، أو أن يكون هذا التعامل يؤدي إلى موالاة ، يؤدي مثلا إلى موالاة فهذا أيضا ممنوع ... هذا أيضا ممنوع ، أو أن يؤدي مثلا إلى فتنة ، فهذا أيضا ممنوع .
ومن ذلك أن يبقى بعض المسلمين في بلاد الكفار السنوات الطويلة ، يجلس أربع أو ثمان سنوات ويزعم أنه يدرس ، فلا شك هذا أمر خطير ... هذا أمر خطير ، هو أولا – كما تقدم – لا يجوز الذهاب إلى بلاد الكفار إلا بشروط ثلاث :
1- الشرط الأول : - كما تقدم – لا بد أن يكون عنده علم يرد به على شبهات هؤلاء الكفار حتى لا يُفتن عن دينه .
2- ويكون عنده إيمان حتى يرد به على ... ، أو حتى يعتصم بهذا الإيمان عن الشهوات الموجودة عند هؤلاء الكفار .(1/86)
3- وأما الأمر الثالث : هو أن يُظهر دينه ، وأن يبرأ من دين الكفار ، وهذا الشرط مهم جدا ، كثير من الناس قد يذهب إلى بلاد الكفار ولا يتبرأ من دينهم ، يعني يصلي ويصوم لكن لا يبرأ من دين الكفار ، وهذا ما يجوز ، لا بد من البراءة من كفر الكافرين كما تقدم في الآية السابقة ، ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم ) ، فلا بد من إظهار الكفر بهم وبمعتقداتهم ، و البراءة منهم ومن أعمالهم ، وكثير ممن يذهب إلى بلاد الكفار يغفل عن هذا الأمر المهم ، ويظن أن مجرد إظهار الدين كافي لا بد أن يكون مع إظهار الدين إعلان البراءة من الكفار والمشركين ، وما عادى كفار قريش الرسول عليه الصلاة والسلام إلا لأنه تبرأ من دينهم وسفه أحلامهم وآذى آباءهم وآلهتهم ، فلذلك ناصبوه العداء ، و إلا لو تعبد لربه عز وجل وأخلص له هو أعظم عن دينهم لما عادوا ، ولذلك هم لم يعادوا ورقة بن نوفل وقد كان على دين يخالف دينهم ، ولم يعادوا أيضا زيد بن عمرو بن نفيل العدوي ... لم يعادوه ، وكان على دين إبراهيم عليه السلام ، وغيرهم من الحنفاء الذين كانوا على دين إبراهيم لم يعادوهم ، بخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته ... ناصبوهم العداء ، وعذبوهم وأخرجوهم من ديارهم ، بينما غيرهم ممن كان على دين إبراهيم من الحنفاء ما أخرجوهم ، وذلك لأنهم لم يتبرؤا منهم ومن أعمالهم ، ولم يعيبوا ما كانوا عليه ، ولم يقل لهم إن آباءكم كانوا في النار ... أن آباءكم الذين توفوا على الشرك أنهم في النار ، فلذلك لم يعادوهم كما عادوا الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته ، فلا بد من هذا الشرط الثالث ، وهو البراءة ... إظهار الدين والبراءة من الكفار والمشركين ، كما قال إبراهيم عليه السلام : ( إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني ) ، وهذا من قبيل الكفر بالطاغوت ، لا يكون كفر بالطاغوت إلا(1/87)
بهذا ... نعم ، وأما كون الإنسان يبقى أربع أو ثمان سنوات عند الكفار فهذا أمر لا ينبغي أبدا ، ولا بد أن المسلم يتأثر ... لا بد أنه يتأثر ، إلا في أمر إما فيه مصلحة عظيمة ، وذلك كأن يكون هذا داعية إلى الإسلام ... يدعوهم ، و إلا تكون ضرورة ... هذا مضطر إلى ذلك ، كأن يتعالج مثلا عافانا الله وإياكم من ذلك ، فهذا نعم ، وأما إنسان يريد أن يدرس ويجلس أربع و ثمان سنوات ، فهذا فيه نظر ، لأن البقاء في بلاد الكفار أمر خطير ، ولا بد أن الإنسان – في الغالب – يتأثر بما عندهم ، ومر علينا في حديث أبي وائل عن أبي نخيلة عن جرير بن عبد الله البجلي ، أنه بايع الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يفارق المشرك ... ، على مفارقة المشركين ، وقد روى هذا النسائي ، فلا بد من مفارقة المشركين حسا ومعنى ، ولا بد من البراءة منهم ومن معتقداتهم وأعمالهم ، والكفر بهم ، فلا بد من هذا كله .
وأما ما يتعلق من الإحسان إلى الكافرين فهذا – كما تقدم – أيضا على قسمين :
1- إما أن يكون هذا الكافر ليس ممن ظاهر على إخراجنا من ديارنا ولم يحاربنا ، فهذا لا بأس بالإحسان إليه ، والإحسان إليه أمر مشروع كما قال تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) ، والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال : ( في كل كبدة رطبة أجر ) ، فالإنسان يؤجر على هذا ، وبالذات إذا أحسن إلى هذا الكافر بقصد إسلامه وهدايته ، فهذا حق ، وقد جاء في مصارف الزكاة : إعطاء بعض الكفار حتى يُرجى أن يسلموا أو يُدفع شرهم بهذا العطاء الذي يعطى إليهم ... نعم .
2- وأما الإحسان إلى الكفار الذين يحاربوننا في الدين ويريدون إخراجنا من ديارنا فهذا لا يجوز كما في الآية التي بعد الآية التي ذكرناها ، فهذا أمر محرم ولا يحوز .
وأما عقد الصلح مع الكفار والمشركين فهذا أيضا على قسمين :(1/88)
1- إن كان هناك من المصلحة في عقد الصلح مع هؤلاء الكفار والمشركين فهذا أمر لا بأس به ، كما عقد الرسول عليه الصلاة والسلام صلحا مع كفار مكة ، وسمى الله عز وجل هذا الصلح فتح ، وقد أسلم العدد الكبير بعد ذلك ، وعادت بركة هذا الصلح على المسلمين .
2- وأما إذا لم يكن هناك مصلحة في عقد هذا الصلح ، فهذا لا يجوز أبدا أن يُعقد هذا الصلح مع هؤلاء الكفار ، بالذات إذا كانوا محتلين لأراضي المسلمين ، فهنا لا يجوز أبدا عقد الصلح معهم .
ففيما يتعلق بعقد الصلح هو على هذين القسمين ، كان هناك مصلحة عظيمة في عقد الصلح معهم فهذا أمر لا بأس به ، كأن يكون المسلمين في حالة ضعف ، فهذا لا بأس فيه ، ويكون هذا الصلح مقيد : ليس صلحاً أبدي ، ما فيه صلح أبدي بين المسلم والكافر ، ما فيه صلح أبدي بين المسلمين والكفار ، وإنما يكون هذا لفترة معينة ، وقد اصطلح الرسول عليه الصلاة والسلام مع كفار قريش مدة معينة ، فلا يمكن أن يكون الصلح أبديا بين المسلم والكافر ، بل مطلوب من المسلم أو من الدولة الإسلامية أن تعلن الجهاد على سائر الكفار والمشركين ، فإذا اضطرت إلى عقد الصلح لمدة معينة فهذا أمر مشروع ، وأما إذا لم يكن شيء من ذلك فلا يجوز أبدا عقد الصلح مع الكفار والمشركين .
هذا بعض ما يتعلق بهذه المسألة العظيمة .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه :
الناقض التاسع من نواقض الإسلام :
من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين ... أما بعد :(1/89)
فهذا الناقض التاسع من نواقض الإسلام التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، وهو : من يظن أنه يسعه الخروج على شريعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى عليه السلام ، فهذا يعتبر كافر بالله العظيم ومرتدا عن الدين عافانا الله وإياكم من ذلك ، وذلك لأن الله عز وجل أمر الخلق جميعا بالإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وباتباعه ، فقال تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ، فأخبر الله عز وجل على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رسول للناس جميعا ، ولذلك قال الله عز وجل : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، فأقسم الله عز وجل بذاته المقدسة أنه لا يؤمن أحد من الناس حتى يحكم الرسول عليه الصلاة والسلام في كل صغيرة وكبيرة ، ولذلك أيضا قال الله عز وجل : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، فأمر الله عز وجل باتباع سبيله الذي بلَّغه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه ، ونهى عن اتباع السبل التي تضل عن سبيل الله عز وجل ، ولذلك في مسند الإمام أحمد والسنن ومعجم الطبراني وغيرها من كتب الحديث ، من حديث عاصم عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام خط خطا مستقيما ، ثم خط خطوطا أخرى عن يمين وشمال هذا الخط ، ثم قال : ( هذا صراط الله ) ، ثم تلا ما جاء في قوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) ، فليس لأحد من الناس أن يخرج على شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل من زعم الخروج فهذا كافر بالله العظيم والعياذ بالله ، وذلك أن هذا يعتبر منه تكذيب لما جاء في كتاب ، ولما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو المرسل لجميع الناس ، وهو اللازم على(1/90)
كل واحد من الناس أن ينقاد إليه ، وأن يتابعه ، ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد وغيره بأسانيد متعددة يقوي بعضها بعضا ، في قصة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، عندما وجد صحيفة من التوراة ، فقام وأتى بها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فعندئذٍ غضب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقال : ( أمتهوكون يا بن الخطاب ، والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ) ، فحتى موسى عليه السلام لو كان موجودا لما وسعه مع وجود الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن يتابعه وينقاد إلى شريعته ولا يخرج على هذه الشريعة ، ولذلك عندما ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان يحكم بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يحكم هو بشريعته ، لأن شريعته كانت هي اللازمة في وقته عليه السلام قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعندما بعث عليه الصلاة والسلام نسخت شريعته جميع الشرائع ، ولذلك الله عز وجل أخبر عن هذا الكتاب بأنه مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، ومعنى ( مهيمنا عليه ) : أي ناسخا لغيره من الكتب ، ولذلك كما ثبت في الصحيح من حدي أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار ) ، فقيد ذلك بالسماع ، وأن من سمع بشريعة الرسول عليه الصلاة والسلام من اليهود والنصارى ثم لم ينقد إلى شريعته فهذا لا شك أنه من أهل النار عافانا الله وإياكم من ذلك ، ومعنى أن يهودي ولا نصراني ... معنى ذلك أنه على شريعة موسى الصحيحة التي لم تُغير ، والنصراني على شريعة عيسى عليه السلام التي لم تُبدل ، وليس معنى هذا أنه يكون على الشريعة المغيَّرة والمبدَّلة ، فهذه الشريعة المغيَّرة والمبدَّلة سواء الإنسان ... سواء كان عمله بهذه الشريعة المغيَّرة والمبدَّلة بعد البعثة أو قبلها ، لأنها شريعة مغيَّرة و مبدَّلة ليست شريعة الله عز وجل ، فالمقصود(1/91)
من كان على شريعة موسى الصحيحة أو شريعة عيسى الصحيحة ولم يسمع بالبعثة ... ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا لا يكون من أهل النار ، وذلك لأنه معذور ولم تقم عليه الحجة في ذلك ، ولذلك نفى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون من أهل النار ، إذاً أنه لا يمكن لأحد من الناس أن يسعى ... أن يخرج على شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل الواجب على كل شخص بعد البعثة أن ينقاد وأن يستسلم وأن يحكم بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمن زعم الخروج فهذا قد كذَّب ما جاء في الكتاب والسنة ، وكما قال تعالى : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) ، فلا يمكن لأحد من الناس أن يخرج على شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وطبعا عندنا الخروج خروجان :
1- إما خروج اعتقادي .
2- وإما خروج عملي .
الخروج خروجان : إما خروج اعتقادي أو خروج عملي .
أما الخروج الاعتقادي فهذا كما تقدم كفر بالله ، لأنه تكذيب للنصوص الشرعية التي جاءت في الكتاب والسنة .(1/92)
وأما الخروج العملي فهذا على قسمين ، الخروج الاعتقادي هو الذي تقدم ، من يعتقد أنه لا يلزمه أن شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست بلازمة له ، وهذا هناك من يعتقد ذلك ، مثل ما كان بعض اليهود يعتقدون بأن الرسول عليه الصلاة والسلام مبعوث حق ، لكن ليس لجميع الخلق وإنما للعرب فقط ، وهناك فرقة تعتقد ذلك ، ومن ذلك ... ، هناك رجل التقى معاه ابن القيم رحمه الله تعالى ، فتناظر مع حبر من أحبار اليهود ، أو رجل من اليهود ، فتناظر معه ، حبر من أحبارهم ... نعم ، تناظر معه على إثبات نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فأنكر النبوة ، فأقام عليه الحجة في إثبات نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام فآمن بنبوته عليه الصلاة والسلام ، لكن زعم أنه للعرب خاصة وليس لكل الناس ، وهناك بعض الكفار الملاحدة الزنادقة عافانا الله وإياكم من ذلك ممن يزعم أن النصارى من الناجين ، وأن اليهود من الناجين ، لأنهم يؤمنون بالله ، فيزعم أنه من الناجين ، ولا شك أن هذا كما تقدم ... أن هذا كفر بالله والعياذ بالله ، المقصود أن الخروج خروجان :
1- خروج اعتقادي كما تقدم ، وهناك من يعتقد ذلك من بعض الطوائف ، وهناك من بعض الصوفية ممن يزعم أنه يسعه الخروج ، وأنه إذا وصل إلى درجة اليقين ليس ملزما بالأوامر الشرعية ، ويقول ... يتأول ما جاء في قوله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) قال : يعني اليقين هو : الإيمان الكامل ، ويزعم أنه جاءه اليقين ، فإذاً خلاص انتهى عبادته لربه ، إذاً يسعه الخروج عن هذه الشريعة ، فهذا كان يقوله بعض الملاحدة من الصوفية عافانا الله وإياكم من ذلك ، و ( اعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) الموت ... نعم .
2- وأما الخروج الثاني – وهو الخروج العملي – فهذا على قسمين ، الخروج العملي على قسمين :
1- إما خروج أكبر .
2- وإما خروج أصغر .(1/93)
يعني إنسان يؤمن بأن شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام هي الملزمة لكل أحد بعد بعثته ، ولكنه خرج بعمله ولم يعمل ... اعتقد ولم يعمل ، فهذا أيضا كما تقدم لنا أنه كافر بالله العظيم والعياذ بالله ، لأنه لا بد من العمل ، والعمل شرط في صحة الإيمان ، ولا يمكن أن يصح إيمان بلا عمل ، فالله عز وجل قد اشترط الأعمال ، ولذلك دائما يقرن ما بين الإيمان وعمل الصالحات ، كما قال تعالى ، بسم الله الرحمن الرحيم : ( والعصر . إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، فلابد من عمل الصالحات ، وكما تقدم لنا أن هناك قول باطل يقول به بعض غلاة المرجئة وممن تابعهم أن الإيمان ليس شرطا في صحة العمل ، وإنما العمل شرط لكمال الإيمان ، وليس شرطا لصحة الإيمان ، فعنده العمل مكمل للإيمان لا غير ، وهذا القول باطل مخالف للكتاب والسنة كما تقدم ، وقد سئل الحميدي رحمه الله عن هذا القول فأنكره وقال إن هذا يخالف كتاب الله وسنة رسوله وعمل المسلمين ، فكما تقدم لنا أن إجماع الصحابة والسلف الصالح على أن العمل لا بد منه في الإيمان ، وأنه لا يمكن أن يوجد إيمان بلا عمل ، وأن هذا محل إجماع ولا يعتد بمن خالف ، وقد ذكر هذا الإجماع الإمام أحمد رحمه الله عن الحميدي ، ذكر هذا الإجماع الإمام أحمد عن الحميدي ، وغيره ممن نقل هذا الإجماع ، وقد قال سفيان بن عيينة رحمه الله أن المرجئة هم الذين يقولون أن لا يلزم في الإيمان العمل ... نعم .
وأما الخروج الثاني هو الخروج الأصغر ، وهو يكون بالمعاصي والسيئات التي هي دون الكفر ، كأن يدع مثلا الزكاة أو يدع الصوم أو يدع بعض الواجبات التي لا تؤدي به إلى الكفر ، فهذا خروج أصغر ليس فيما نحن بصدده ، بل هذه معصية من المعاصي وكبيرة من كبائر الذنوب ، على حسب العمل الذي تركه ... نعم .(1/94)
لعلي أتحدث عما يسمى بالتقليد ، لأن له علاقة كبيرة بمسألة الخروج ، لأن هذا المقلد قد يقلد ويتابع شخصا من الناس فيكون كأنه قد خرج على أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى شريعته .
فأقول التقليد ... هذا له ثلاث صور بعضها حق وبعضها باطل :
1- الصورة الأولى : أن يكون الإنسان عاميا ، فهذا يقلد فيما يمكن التقليد فيه ، وأما اللي لا يمكن التقليد فيه – وهو الإيمان بالله والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم – فهذا ليس فيه تقليد ... الإيمان ليس فيه تقليد ، وإنما فيه إيمان وتصديق ، وإنما يقلد الإنسان في الأحكام ، أما ما يتعلق بالإيمان وبرسول وبأركان الإسلام الظاهرة الواضحة كفرضية الصلوات الخمس وفرضية الزكاة والحج والصوم فهذا ليس فيه تقليد ، وإنما يقلد الإنسان في صفة الصلاة مثلا ... في صفة الحج مثلا ... في صفة وأحكام الصوم مثلا ... في أحكام الزكاة مثلا ... وهكذا ، فهذا نعم فيه تقليد ، فالعامي إذا كان جاهلا وليس عنده علم فلا بأس أن يقلد في هذا ، لأن هذا الذي يسعه ، وهذا الذي يقدر عليه ، والله عز وجل يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
2- وأما الصورة الثانية ، وهي : أن يوجد إنسان يقلد إنسان ويوجب تقليده ولا يخرج عن أقواله ، ويزعم أنه جاهل ولا يمكن له العمل بما جاء في الكتاب والسنة ، فلا شك أن هذا شرك في الطاعة عافانا الله وإياكم من ذلك ، فلا شك أن هذا شرك في الطاعة ، كما قال تعالى : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وكما قال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) ، وذلك أنهم أطاعوهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام ، فلا شك أن هذه الصورة ممنوعة وتعتبر شركا بالله عافانا الله وإياكم من ذلك .(1/95)
3- الصورة الثالثة : أن الإنسان يكون عنده علم ، وعنده قدرة على استنباط الأحكام ، ولكنه لا يبذل وسعه ولا جهده في معرفة الحق والصواب ، هو عنده قدرة وعنده علم ، لكن ما يبذل وسعه في معرفة حكم الله عز وجل في هذه المسألة ، فلا شك أن هذا أيضا ما يجوز ... لا شك أن هذا ما يجوز ويحرم ، بل الإنسان مطالب بأن يعرف حكم الله عز وجل إذا كان أهلا لذلك وعنده من العلم ما يمكنه في أن يعرف حكم الله عز وجل في هذه المسألة .
4- هناك صورة رابعة ، وهي : أن الشخص عنده شيء من العلم ، وهذا العلم الذي عنده يعمل بهذا العلم ، لكن هناك مسائل دقيقة قد ما يتمكن فيها ... في معرفة الحق ، وفيها بعض الصعوبة و تحتاج إلى زيادة بذل جهد وإعمال للذهن ، فهذا لا بأس أن يقلد في مثل ذلك أحيانا ... نعم .
5- وقد توجد صورة خامسة ، وذلك : أن الإنسان عنده قدرة على البحث والاستنباط ، لكن نزلت عليه نازلة ، فما عنده وقت حتى يبحث هذه النازلة ، هل له الحق أن يفتي بقول عالم من العلماء أو يتوقف ، هذا محل خلاف بين أهل العلم ، نزلت عليه نازلة وهو عنده علم في أن يتوصل إلى الحكم لكن ما عنده وقت حتى يبحث ، فهذا محل خلاف بين أهل العلم ... نعم .
بقي علينا مسألة أخيرة وهي : أن الشيخ رحمه الله قال : ( كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ) ، فهناك من بعض الصوفية الملاحدة يحتجون بقصة الخضر مع موسى عليه السلام ، ويزعمون أن الخضر عليه السلام خرج على شريعة موسى عليه السلام ، فأولا قبل أن أذكر بيان وجواب ذلك ، أقول إن الخضر أولا اختُلِف فيه في مسائل متعددة :
1- أولا في نسبته و عمره .
2- وثانيا في بقائه .
3- وثالثا في نبوته وعدم ذلك .(1/96)
فاختلف في نسبه ، هل هو من أولاد آدم عليه السلام المباشرين أو أنه من أحفاده ، أو ليس بذلك وإنما هو بعيد ، وإنما من أحفاد الأحفاد ، فبعضهم قال أنه ابن لآدم من صلبه مباشرة ، وبعضهم قال لا ، هو ابن قابيل بن آدم ، وبعضهم قال غير ذلك ، وفي الحقيقة ما في شي يوضح ذلك ، وإنما هو كان موجودا في زمن موسى عليه السلام ، وليس هناك دليلا على أنه كان ذو عمر طويل ، وأنه من أطول الناس عمرا ... ليس هناك دليلا على هذا ، وإنما الظاهر خلاف ذلك .
وأما الأمر الثاني ، وهو فيما يتعلق ببقائه ، فبعضهم زعم أنه باقي إلى الآن ، وهذا القول باطل ، قال به بعض أهل العلم لكن لا شك أنه قول باطل ، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في السنة التي توفي فيها ، قال : ( أرأيتم ليلتكم هذه ، فإنه لا يبقى بعد مائة سنة على ظهر الأرض أحد ممن هو باق الآن ) ، ومعنى هذا الحديث أن بعد مئة سنة لن يبقى أحد ممن كان موجودا عندما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الكلام ، وبالفعل كان آخر الصحابة وفاة هو في عام عشرة ومائة ، وهذا الكلام قاله في عام عشرة ، فآخر الصحابة وفاةً - وهو الطفيل بن عمرو بن واثلة الليث – توفي في سنة عشرة ومائة ، وكل من ادعى الصحبة بعد سنة عشرة ومائة فهو كاذب بنص هذا الحديث ... وغير ذلك من الأدلة ، وكما قال تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) ، فالخضر قد توفاه الله عز وجل قبل عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو كان موجودا للزمه أن يأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإنما تروى أكاذيب ليس لها دليل ولا أصل ، وإن كان بعض الناس قد قواها ، لكن هذا ليس بصحيح بل كلها لا يصح منها شيء ... نعم .
وأما ما يتعلق في الخلاف في نبوته وعدم ذلك ، فاختلف فيه أهل العلم على ثلاثة أقوال :
1- هناك من قال أنه نبي ، وهذا القول هو الصحيح كما سوف يأتي بمشيئة الله .(1/97)
2- وهناك من قال بأنه رجل صالح وليس بنبي .
3- وهناك ممن قال بأنه ملك من الملائكة .
والصواب طبعا هو القول الأول ، وهو أنه نبي ، والذي يدل على هذا أربعة أشياء :
1- الشيء الأول : أن الله عز وجل أخبر عنه بأنه عبدا صالحا من عباد الله ، ( آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) ، فهذا يفيد بأن الله عز وجل آتاه رحمة وعلمه من لدنه علما ... هذا يفيد نبوته .
2- والأمر الثاني : أن بعد أن حصل له ما حصل مع موسى عليه السلام أخبر بأن هذا الذي فعله لم يفعله عن أمره ، وإنما عن أمر الله عز وجل ، كما قال تعالى على لسانه : ( وما فعلته عن أمري ) ، فإذا هذا الذي فعله ليس باجتهاد منه ، وإنما هو بأمر الله سبحانه وتعالى .(1/98)
3- الأمر الثالث هو : أن الخضر كما في قصته مع موسى عليه السلام قتل نفسا زكية ، وهذه النفس الزكية لا يمكن لأحد من الناس أن يفعل ذلك إلا بوحي من الله ، ما يمكن ... لا يجوز لأحد من الناس ... لا رجل صالح ولا غيره من الناس أن يقتل نفسا زكية إلا بإذن من الله عز وجل وبوحي منه ، وذلك أن الله عز وجل أوحى إلى الخضر بأن هذه النفس لن تكون زكية ، وأن الله عز وجل أراد أن يبدل أبوي هذه النفس خيرا منه ، فهذا لا يكون إلا بوحي ، أما تخريب السفينة من أجل حفظ المال فهذا حق ، فالإنسان إذا ما استطاع أن يحفظ المال إلا بإذهاب بعضه فهذا لا بأس به ، إذا كان هناك من أعطاك مال ، ولا تسطيع أن تحفظ هذا المال إلا بأن تُذهب بعضه فهذا لا بأس فيه ، حفظ باقي المال أو أكثر المال وذهاب بعضه أولى من أن يذهب جميع المال ، فهذا الملك كان يأخذ كل سفينة صالحة ، فأراد الخضر أن يعيب هذه السفينة حتى لا يأخذها هذا الملك ، فهذا لا بأس فيه ، وكذلك أيضا بناء الجدار ، فهذا أيضا أمر مشروع ولا بأس فيه إن كان ... يعني قد يُلهم الإنسان بأن تحت هذا الجدار مال ، وأن هذا الجدار ... وأنه ينبغي بناء هذا الجدار حتى يحفظ هذا المال على هذين الغلامين ، فهذا أمر أيضا مشروع لا بأس به ... بناء الجدار ، أما أن يقتل نفس فهذا لا بد من وحي .(1/99)
4- والأمر الرابع هو : أن موسى عليه السلام لا شك أنه من أنبياء الله ، وأنه من أولي العزم وكليم الرحمن ، والذي يبدو – والله أعلم – أنه يأتي في الدرجة الثالثة بعد إبراهيم عليه السلام ، أولهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم إبراهيم عليه السلام ، ثم موسى – فيما يبدو- عليه السلام هو الذي يأتي في الدرجة الثالثة ، ... من الصعوبة بمكان أن يتعلم من رجل صالح ، وهو من أولي العزم ، ... من الأنبياء وأولي العزم ، ومن أفضل الناس ... من أفضل الأنبياء ، من الصعوبة بمكان أن يتعلم من رجل صالح ، بل الصالحين وغيرهم هم الذين يتعلمون من الأنبياء عليه الصلاة والسلام .
فالأرجح أنه من أنبياء الله ... هذا هو الأرجح والأقرب والله أعلم .
وكما جاء في صحيح البخاري أن الخضر سمي بالخضر لأنه جلس على فروة فقام وقد اخضرت ، والمقصود بالفروة هو العشب اليابس ، فقام عنها وقد اخضرت ، وهذي معجزة من الله عز وجل ، فسمي بهذا الاسم ... نعم .(1/100)
إذا الخضر كان نبيا من أنبياء الله عز وجل ، فإذا هو لم يخرج على شريعة موسى عليه السلام ، وكما نعلم أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثا لكل الناس ، وإنما كان مبعوثا إلى من ؟ إلى اليهود ... كان مبعوثا إلى اليهود وإلى فرعون ، ولم يكن مبعوثا لكل الناس ، وكما ثبت في الحديث الصحيح في البخاري وغيره ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام فُضِّل بأشياء ، منها : أن النبي كان من قبل يُرسل إلى قومه خاصة ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أُرسل إلى الناس كافة ، فالخضر هو من أنبياء الله عز وجل ، وبما أنه نبي فلا يلزمه متابعة موسى ، وموسى عليه السلام كان مبعوثا إلى اليهود وإلى فرعون ، والخضر عليه السلام لم يكن من اليهود ... هذا هو ظاهر النصوص ، وذلك في حديث عمرو بن دينار الذي في صحيح البخاري ، أن سعيد بن جبير قال لابن عباس رضي الله عنهما : أن نوفل البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثني أبي بن كعب أنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام ... فقصَّ قصة الخضر مع موسى ، وفيه أن موسى عليه السلام سلَّم على الخضر فقال : موسى بني إسرائيل . فهذا يدل على أن الخضر ليس من بني إسرائيل ، وأن هذا موسى هو من بني إسرائيل ، وأن الخضر ليس من ذلك ، أو ليس من بني إسرائيل ، فإذاً هو لم يخرج على شريعة موسى ، بل هو موحى إليه شريعة وعمل بهذا الوحي ، ولذلك قال في آخر شيء : ( وما فعلته عن أمري ) ، فأخبر أن هذا لم يفعله عن أمر الله ... عفوا ، هذا أخبر أن هذا الأمر لم يفعله عن أمره ، وإنما فعله عن أمر الله سبحانه وتعالى ... نعم .(1/101)
والسبب في ذهاب موسى إلى الخضر هو أيضا ما ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث ، وهو أن موسى سأله رجل من بني إسرائيل ، قال : هل تعلم أن هناك أحدا أعلم منك ؟ فقال : لا ، فعتب الله عز وجل عليه ، لأنه لم يرد العلم إليه ، فأوحى إليه أن هناك عبدا الخضر عنده علم ليس موجودا عندك ، فقام موسى عليه السلام وشد الرحال إليه حتى يتعلم منه ، وأوحى الله عز وجل إليه أنه يعرف مكانه من خلال الحوت ، فأوحى الله عز وجل إليه بأن يأخذ حوت في مكتل ، فإذا خرج هذا الحوت من هذا المكتل فهذا دليل على أن هذا هو مكان الخضر ، فقام وفعل ذلك وخرج مع فتاه يوشع بن نون ... كما قص الله عز وجل علينا ذلك في سورة الكهف ، فعندما ذهب الحوت وبعد ذلك علم موسى عليه السلام رجع إلى المكان فوجد الخضر ... فوجده مسجى ببردة فسلم عليه ، قال : وعليك السلام ، أنى بأرضك السلام ؟ ثم قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، فصاحبه لكي يتعلم منه ، ولا شك أن هذا الحديث فيه حث عظيم ، وفائدة كبيرة على أهمية العلم وطلب العلم ، وأول رحلة في طلب العلم ، فمع أن موسى عليه السلام كليم الرحمن ، والذي خاطبه الله عز وجل مباشرة بلا واسطة ، ومع ذلك عندما علم أن هناك رجلا عنده علم ليس موجودا عند موسى قام وشد الرحال إليه ، إذاً ما بالك بغيره ، فلا شك أن غيره من باب أولى ، فهذا يدل على منزلة وأهمية العلم ، وفي الحقيقة كما تقدم لنا أن ما عُبِد الله عز وجل بمثل العلم ، بل لا يمكن عبادة الله عز وجل إلا بالعلم ، ولا يمكن أن تقوم للإسلام قائمة إلا بالعلم ، ولا يمكن أن تقوم شوكة لهذا الدين إلا بالعلم ، وكل من بذل وسعا أو جهدا في عبادة أو في دعوة من غير طريق العلم فلا شك أنه يفسد أكثر مما يصلح ، وإنما يجني على نفسه بهذا الجهل الذي هو يجتهد فيه ، ولذلك – ولا شك – اجتهاد في سنة ... نعم ، عدم يعني عفوا ... ، عدم بذل الوسع والجهد وقلة في العمل في سنة أولى من اجتهاد(1/102)
ووسع في غير سنة ، فلا يمكن لهذا الدين أن يقوم ، ولا يمكن للإنسان أن يفك رقبته من النار عافانا الله وإياكم من ذلك إلا بالعلم وبالدعوة بالعلم أولا ، ثم العمل بهذا العلم الذي تعلمه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... نعم .
لعلنا نقف عند هذا .........
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ... قال المؤلف رحمه الله تعالى :
الناقض العاشر من نواقض الإسلام :
الإعراض عن دين الله تعالى ، لا يتعلمه ولا يعمل به ، والدليل قوله تعالى : ( ومن أظلم ممن ذكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ) .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... أما بعد :
فهذا الناقض العاشر من نواقض الإسلام ، وهو الناقض الأخير من النواقض التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه هذا المسمى بـ : ( نواقض الإسلام ) .
فقال : الناقض العاشر : هو الإعراض عن دين الله عز وجل لا يتعلمه ولا يعمل به .(1/103)
ثم ذكر ما جاء في قوله تعال : ( ومن أظلم ممن ذكِّر بآيات ربه فأعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ) ، هذا الناقض في الحقيقة من النواقض التي تنقض الإيمان والإسلام ، والتي تخرج الإنسان عن دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر عافانا الله وإياكم من ذلك ، وهذا الناقض مبتلى به كثير من الناس ، وبالذات في هذا الوقت وهذا العصر الذي كثر بين الناس الإعراض عن دين الله عز وجل ، لا يتعلمونه ولا يعملون بما فيه ، والذين يصمون قلوبهم وآذانهم عن تدبره وعن سماعه ، وتجد أنهم يشتغلون بالدنيا عنه ، ولا يبحثون عن دينهم ولا يسألون عنه ، فلا شك أن هذا كفر بالله العظيم ، كما قال تعالى : ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) ، فأخبر الله عز وجل عن الكافرين بأنهم عما أنذروا عنه معرضون ، فأخبر الله عز وجل بكفرهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، وكما في الآية السابقة : ( ومن أظلم ممن ذكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ) ، فأخبر الله عز وجل أنه ليس هناك أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله فصم أذنه عن سماعها ، وأعرض بقلبه عن تدبرها ، فأخبر الله عز وجل أن هذا من أظلم الظلم ، وأن صاحبه يكون مجرما عافانا الله وإياكم من ذلك ، فلا شك أن الإعراض عن آيات الله عز وجل ، وذلك بعدم تعلمها والسؤال عنها أن هذا كفر بالله العظيم ، والله عز وجل أمر عباده أن يتعلموا دينه وأن يعملوا بهذا الدين ، ولا يمكن لأحد من الناس أن يعمل قبل أن يتعلم ، ولذلك قال الله عز وجل : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) ، ولذلك بوَّب البخاري رحمه الله على هذه الآية الكريمة في صحيحه فقال : باب العلم قبل القول والعمل ، فلا بد من العلم قبل القول والعمل ، ولذلك الله عز وجل قال : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم ) ، وقال تعالى أيضا : ( نرفع درجات من نشاء ) أي : بالعلم ، وأمر الله عز وجل بسؤال أهل العلم : ( فسألوا أهل الذكر إن(1/104)
كنتم لا تعلمون ) ، فهذا الدين عبارة عن علم لا بد أنك تتعلم هذا الدين ، ثم تعمل بما فيه ، ولذلك قال الله تعالى ، بسم الله الرحمن الرحيم : ( والعصر . إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا ) آمنوا على علم ، آمنوا وعملوا الصالحات ، فآمنوا على علم وعلى يقين وعلى برهان ( وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ، فلا بد من العلم ، ولذلك في صحيح البخاري من حديث يونس بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( من يرد الله به خيرا يفقِّهُه في الدين ) ، فمعنى ذلك أن الله عز وجل إذا ما أراد بالعبد خيرا والعياذ بالله ما فقِّهُه في الدين ، ولا شك أن الله عز وجل إذا لم يرد بالإنسان خيرا فهذا قد أعرض عنه ، ولذلك جاءت الأوامر التي تأمر كما تقدم بالعلم وبالتعلم ، وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة : ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) ، فطريق الجنة لا يكون إلا بالعلم ، ولا يكون بغيره ، ولذلك أيضا في صحيح البخاري من حديث أيوب عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، فإذا لم يكن عند الإنسان علما كيف يصلي كما يصلي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي الصحيحين من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران عن عثمان رضي الله تعالى عنه ، أنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه ، إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه ) ، فقال : من توضأ نحو وضوئي هذا .... ، فأمر أن يُتَوضأ كما توضأ هو عليه الصلاة والسلام ، وليس كما يريد أن يفعل أي واحد من الناس ، وإنما عليه أن يعمل كما عمل الرسول عليه صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن هذا يحتاج إلى علم ، ولذلك في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر(1/105)
، قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( خذوا عني مناسككم ) ، وفي حديث خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو عن العرباض بن سارية قال عندما وعظ الصحابة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ، قالوا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا ، فقال : ( عليكم بسنتي ... ) قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ) ، فلا يمكن لأحد من الناس أن يعمل بالسنة إلا بعد أن يتعلم ، فالعلم محتاج إلى العمل ، والعمل محتاج إلى العلم ، ولا فائدة من عمل بلا علم ، كما أن أيضا العلم بلا عمل لا ينفع ، فلا بد منهما ، فعندما يعرض الإنسان عافانا الله وإياكم عن دينه ، فلا يسأل عنه ولا يتعلمه ، فهذا كيف راح يعتقد الاعتقاد الصحيح بربه عز وجل ، ثم بعد ذلك كيف يعمل ، وكيف أيضا يقول الألفاظ التي يريدها الله عز وجل ، فلا شك أن الإعراض عن دين الله هذا كفر بالله والعياذ بالله ، كما قال تعالى : ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) .
واعلموا يا معاشر الإخوان أن الإعراض يكون على قسمين :
1- القسم الأول : الإعراض الأكبر .
2- والثاني : الإعراض الأصغر .
فأما الإعراض الأكبر هو ما تقدم ، أن يعرض الإنسان بقلبه وبسمعه عن دين الله وعن آياته ، فلا يتعلمها ولا يعمل بها ، وهذا كما تقدم أنه هو المقصود بكلام الشيخ رحمه الله تعالى .(1/106)
وأما الإعراض الثاني فهو الإعراض الأصغر الذي يكون عن بعض الآيات وبعض الأحاديث لا يتعلمها ولا يعمل بها ، وهذا يكون معصية ، وعلى حسب هذا الإعراض تكون هذه المعصية ، فكلما كبر هذا الإعراض كلما كانت المعصية أكبر ، وكلما قل هذا الإعراض كلما كانت المعصية أصغر ، ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن الله عز وجل ... ، ولذلك – عفوا - ثبت في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يستقبل المصلي بوجهه ، ينصب وجهه سبحانه وتعالى في وجه المصلي ، فإذا أعرض المصلي أعرض الله عز وجل عنه ، فالإعراض على هذين القسمين : إما إعراض أكبر ، وإما إعراض أصغر .
وفي الحقيقة أيضا : الإعراض أيضا على قسمين من جهة أخرى :
1- إما إعراض اعتقادي .
2- وإما إعراض عملي .
إما إعراض اعتقادي ، يعرض عن تعلم دين الله عز وجل ، وهذا كما تقدم كفر ، وإما أن يعرض عمليا ، وذلك بعدم عمله ... لا يعمل ، فهذا إن كان إعراضا كليا ، أي في جميع الأعمال ، فهذا كفر ، وإن كان في أعمال دون أعمال ، بحيث أن هذه الأعمال لا تُخرج الإنسان عن الإسلام ، فهذا الإعراض يكون معصية ، ويكون سيئة ... فالإعراض على هذين القسمين .(1/107)
وكما تقدم أن كثيرا من الناس الآن قد أعرضوا إما إعراض كلي عافانا الله وإياكم من ذلك ، وإما إعراض جزئي ، فتجد أنهم لا يحرصون على الخير ، ولا يتعلمون الدين ، ولا يأتون إلى أهل العلم ، وحتى اعتقد كثير من الناس بل حتى من بعض أهل الخير اعتقدوا بأن حلقات العلم ما يحضرها إلا طلبة العلم ، وأنها ليست للعامة ، وليست لمن يريد ويحب الخير ، وإنما فقط أهل العلم هم الذين يحضرون ، وأما ما عداهم فلا يحضرون ، ولا شك أن هذا باطل وليس بصحيح ، بل مُطالب من جميع المسلمين أن يحضروا حلقات العلم ، وأن يجلسوا في مجالس الذكر ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي عثمان النهدي عن أبي سعيد عن أبي معاوية رضي الله عن الجميع ، أن الله عز وجل يباهي بالجالسين ملائكته ... بالجالسين الذين يذكرون ربهم عز وجل ، يباهي بهم الملائكة . فكيف الإنسان ما يريد أن يباهي به عز وجل الملائكة ، وفي الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم ... في صحيح البخاري من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، أن هناك ملائكة سيَّاحة فُضلا تبحث عن مجالس الذكر ، فإذا وجدوا ناسا يذكرون ربهم قالو : هلموا إلى بغيتكم ، ثم يصعدون إلى الرب عز وجل بعد انتهاء هذا المجلس فيسألهم الرب عز وجل وهو أعلم : تركتم عبادي يسألونني عما ماذا ؟ ويستعيذون بي مما ماذا ؟ فتقول الملائكة : يا رب تركناهم يسألونك الجنة ، ويستعيذون بك من النار ، فيقول الرب عز وجل : أشهدكم أني قد أعطيتهم ما سألوا ، وأمنتهم مما خافوا ، - نسأل الله من فضله - ، فبهذا المجلس الواحد فقط الله عز وجل يعطيهم ما سألوه ، ويأمنهم مما خافوا منه ، ولا شك أن سؤال المسلم هو الجنة ، وغاية المسلم أن يعيذه الله عز وجل من النار، فهذا يكون بأسباب ومنها الجلوس في مجالس الذكر ومجالس العلم ، والله عز وجل قال : ( فمالهم عن التذكرة(1/108)
معرضين ) ، فأنكر على هؤلاء الكفار إعراضهم عن التذكرة ، فلا شك الإعراض عن آيات الله والغفلة عنها ... لا شك أن هذا يؤدي بالإنسان عافانا الله وإياكم إلى الكفر بالله العظيم ، وكما تقدم الآن قل حرص الناس على الخير ، حتى أنك تجد أحيانا عندما يسلم الإمام من الصلاة ... عندما يستقبل بعد أن يسلم الإمام من الصلاة يستقبل الناس بوجهه يجد نصف الناس قد ذهبوا ، ثم عندما مثلا يريد أن يشرع بالقراءة في بعض الكتب تجد أن نصف الباقين أيضا قد قاموا ، فلا يبقى إلا أناس قليلين ، كل هذا إعراض عن الخير ، واستبدالا بغيره ، وقد ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام أن كل مجلس يجلسه الإنسان لا يذكر فيه ربه ، ولا يصلي فيه على نبيه ، يكون عليه يوم القيامة حسرة عافانا الله وإياكم ، حتى ولو دخل الجنة ، و في صحيح البخاري من حديث بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت ) ، فجعل الذي يذكر ربه هو الحي ، والذي لا يذكر ربه هو الميت عافانا الله وإياكم من ذلك ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ، أن الله عز وجل مع عبده ، فإذا ذكره في قلبه ذكره الله عز وجل في نفسه ، إذا ذكر العبد ربه عز وجل في نفسه ذكره الرب عز وجل في نفسه ، وإذا ذكره في ملأ ذكره الله عز وجل في ملئ خير منه ، فيلاحظ على الناس الإعراض عن الخير ، وعدم الرغبة في الثواب وفي الأجر ، بينما يضيعون الأوقات الطويلة فيما لا فائدة فيه ، بل فيما يعود عليهم بالضرر وبالخسران وبالهلاك عافانا الله وإياكم من ذلك ، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة التي هي الأساس والأصل ، فيلاحظ الإعراض من الناس عن الخير والفائدة والذكر ، ويظنون أن المجالس ... مجالس العلم هي خاصة فقط بطلبة العلم ، فلا شك لا يجوز للإنسان ولا ينبغي له أن يحرم نفسه من الخير ومن الأجر ومن الثواب ، وقد(1/109)
يُغفر للإنسان في هذا المجلس الواحد فقط ... قد يغفر له ، وقد يُرفع درجات في الدنيا وفي الآخرة بهذا المجلس الواحد فقط ، وعندما تنظر في حال أهل العلم تجد أنهم مثل غيرهم من الناس ، ولكنهم جلسوا في مجالس العلم وحرصوا على مجالس الذكر ، فلذلك أصبحوا من أهل العلم وأصبحوا من العلماء ، فليس هناك مما يميزهم عن غيرهم من حيث القدرات والطاقات ، وإنما هم مثل باقي الناس ، ولكنهم جلسوا في مجالس العلم و مجالس الذكر ، ومع الأسف تجد أن كثيرا من الناس يسأل كيف نبدأ وكيف نتعلم ... ويكثر من هذه الأسئلة ، وبأي الكتب أبدأ ، ويجعل الأمر صعب ، ما على الإنسان إلا أن يجلس في مجالس العلم ومجالس الذكر ويصاحب أهل العلم .(1/110)
واعلموا يا معاشر الإخوان أن هناك من العلم ما لا بد منه ، ولا يكون مسلما إلا به ، ما يكون الإنسان مسلما إلا به ، وهو علم التوحيد والعلم الذي يكون في الجوامع كالصلاة فهذا لا بد منه ... هذا الأمر لا بد منه ، فهذا ليس خاصا ببعض الناس وبطائفة من الناس دون غيرهم من الناس ، فلا بد أن الإنسان يحرص على مجالس العلم ومجالس الذكر ويتعلم دينه ، ومع الأسف الشديد تجد أن كثيرا من الناس يجهل كثير من الأمور التي تتعلق بالشهادتين ، أو التي تتعلق بالصلاة ، أو التي تتعلق بالوضوء ... يجهلها ولا يعرفها ، مع أنه يكفيه أن يجلس مجلس واحد فقط ، يكفيه أن يجلس مجلس واحد فقط ممكن حتى يتعلم هذه الأشياء أو يتعلم بعضها ، ومع ذلك يجهلها ، وأحيانا تجد الإنسان يسأل عن سؤال بعد عشر سنوات ، وبعد عشرين سنة ، كما في مرة من المرات سمعت رجل يسأل أنه جلس مدة من الزمان – لعلها سنوات – يصلي الظهر أو العصر أو كليهما يصليها ركعتين ، وصل به الجهل إلى هذه الدرجة ... يصليها ركعتين ، فما عنده حرص أبدا على أنه يتعلم أو يسأل أو يأتي إلى المسجد حتى يتعلم ويصلي مع الجماعة ، فكثير من الناس تجد أنهم جاهلين بأشياء هي ما ينبغي على مسلم أن يجهلها ، الإنسان يبذل بعض السبب وبعض الجهد ، فمثلا فيما يتعلق بالتوحيد والعقيدة ، لو أن الإنسان مثلا قرأ في ثلاثة الأصول ، ثم بعد ذلك كشف الشبهات ، ثم في مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ، ثم في التوحيد ، ثم في الواسطية ، هذا يحق له أن يجلس ويعلم العقيدة ، هذا يحق له أن يجلس وأن يتصدر ويعلم العقيدة ، وهذي ما تأخذ من عنده إلا بضعة أسابيع أو بضعة أشهر بالكثير، ولو أنه مثلا قرأ عمدة الأحكام – وهي عبارة عن خمسمائة حديث تقريبا في بيان الأحكام من طهارة ووضوء ، ومن صلاة ، ومن أيضا زكاة وحج وصوم ، ومن بعض المعاملات التي تتعلق بالبيوع ، أو بعض ما يتعلق بالنكاح والطلاق – ، فلو قرأ عمدة الأحكام ... قرأها(1/111)
إما على أهل العلم ، أو قرأ الشرح المشروح به ، فهذا راح يحيط بكثير من الأحكام التي تتعلق بالعبادات ، أو تتعلق بباقي أركان الإسلام ، فإذا تعلم الشهادتين وباقي أركان الإسلام يكون خلاص يكون قد أحاط بالدين ، وما يحتاج إلى أن يتعلم عمدة الأحكام ... ما يحتاج إلى بضعة أسابيع أو أشهر يسيرة ، لكنه الإعراض ... الإعراض عن العلم والغفلة ، فتجد أن الإنسان ما عنده مانع أن يبق الساعات الطويلة في قراءة الصحف والمجلات لا تعود عليه بالخير ، بل تعود عليه بالضرر في الغالب ، لكن ما يستطيع أن يصبر نفسه حتى يقرأ في كتاب من كتب أهل العلم ، أو يجالس أهل العلم .
فالإعراض عن دين الله ... هذا إن كان إعرضا اعتقاديا أو أكبر فهذا كفر بالله العظيم ، وإن كان دون ذلك فهذه معصية ، وعلى حسب هذا الإعراض تكون المعصية .
قال رحمه الله :
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطرا ، وأكثر ما يكون وقوعا ، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه ، أعوذ من موجبات غضبه وأليم عقابه .
... نعم
قال رحمه الله : ( ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الجاد أو الهازل أو الخائف إلا المكره ) .
فهذي أيضا مسألة مهمة ينبغي على المسلم أن يتدبر هذه المسألة ، وأن يعقلها وأن يفهمها ، لا فرق في هذه النواقض بين الجاد والهازل ، فكما تقدم أن هذه الأشياء لا يجوز فيها الهزل أو المزح أو السخرية أو الاستهزاء ، فالإعرض الذي نحن بصدد بيانه ... لو أعرض الإنسان هازلا أو مازحا لما نفع ذلك ، بل هذا يعود على أنه استهزئ بالدين عافانا الله وإياكم ، أو مثلا في الناقض الأول وهو الشرك بالله عافانا الله وإياكم من ذلك ، فلو أن إنسان هزل وسجد للإصنام ، فهذا لا ينفعه أن يكون هازلا أو مازحا أو خائفا .(1/112)
والمقصود بالخوف هنا أن يخاف على الجاه والمال ... أن يخاف على جاهه وماله فقط ، ولا يخاف على نفسه ، فالله عز وجل لم يستثني إلا المكره ، ( من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) ، فلم يستثني الله عز وجل إلا المكره ، وذلك أنه عندما يخشى ويخاف على نفسه ، فهذا يكون مكرها ... فهذا جاء الاستثناء في حقه ، وأما أن يكون الإنسان خائفا على جاهه أو ماله أو منصبه فهذا لم يستثنيه الله عز وجل ، وكمثال على هذا أن الذين خافوا على أموالهم فلم يهاجروا من مكة إلى المدينة ، وأيضا استصعبوا أن يفارقوا أوطانهم في ذات الله ، بل بقوا في مكة ثم خرجوا مع الكفار وهم مكرهين ، فالله عز وجل حكم بأنهم من أهل النار عافانا الله وإياكم من ذلك ، ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم ) ، فهؤلاء لم ينفعهم أن يخافوا على مالهم ، ولم أيضا ينفعهم أن يكرهوا أن يغيروا أوطانهم ، لا شك أن الهجرة من الأوطان هذي تحتاج إلى صبر وإلى مصابرة ، فهم لم يفعلوا ذلك ، وإنما بقوا في أوطانهم ولم يتركوها ، بقوا مع الكفار فحكم الله عز وجل بأنهم من أهل النار عافانا الله وإياكم من ذلك ، فعندما يخاف الإنسان على الجاه أو منصبه ... هذا ليس له في ذلك مندوحة من الحكم بردته إذا وقع منه سبب من أسباب الردة عافانا الله وإياكم من ذلك ، كمن يطيع الكفار في الكفر ويخاف مثلا على المنصب ... أن يقيلونه من منصبه ، أو بعض الناس يأتيله حجة شيطانية ، فيقول أنت إذا تركت هذا المنصب راح يأتي من هو شر منك ، فإبقى في هذا المنصب ، وتجد أنه ينقاد للكفار في كفرهم وينقاد لهم في معاصيهم ، فهذا ما ينفع ، وهذه الحجة حجة شيطانية ، والله عز وجل قال : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم(1/113)
ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ) ، فهؤلاء اتخذوهم أرباب وذلك بطاعتهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام ، وهذا في متابعتهم وإن كانوا لم يعتقدوا ذلك ، لكن لم ينفعهم هذا الشيء ، بل كما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن كثير من الكفار كان مصدقا بقلبه ولكنه لم ينقاد ظاهرا ولا باطنا لله ولرسوله ، وذلك من أسباب عدم القيادة قد يكون هو خوفا على الجاه والمنصب ، وأن يكره أن يغير وطنه ... بلاده فيهاجر منها ، فهذا لا ينفعه ، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من أنواع من يعادي التوحيد هو أن الإنسان يعتقد بالتوحيد ولا يعمل الشرك ، ولكنه يبقى مع الكفار والمشركين ، ويظاهرهم ويعاونهم ، وكل هذا خوفا على الجاه والمنصب ، فحكم بردة هذا عافانا الله وإياكم من ذلك ، وقال أيضا رحمه الله في كشف الشبهات ... قال : لا شك أن التوحيد يكون في الاعتقاد وفي القول وفي العمل ، فإذا اختل واحد من ذلك فليس بمسلم . فينبغي أن يُنتبه لذلك ، وأن يُحذر من هذا الشيء ، وأن الدين ليس فيه هزل ولا مزح ، وليس فيه تفضيل للدنيا على الآخرة ، فينبغي للإنسان أن ينتبه لذلك .
وفي الحقيقة معاشر الأخوان أن هذه النواقض نواقض مهمة ، وقد كان أهل العلم يوصون بقراءة النواقض التي تنقض الإسلام ، والتي تخرج الإنسان عن الإيمان ، فكان أهل العلم يوصون بذلك ، حتى يعرف الإنسان الإسلام من الكفر ، ولذلك كان حذيفة بن اليمان – كما صح عنه – رضي الله عنه ، قال : كان الناس يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني . فلابد من معرفة الخير من الشر ، حتى يفعل الإنسان الخير ، ويُعرض ويُنكر ويُتبرأ من الشر ، ولذلك يقول الشاعر :
عرفت الشر لا للشر و لكن لتوقيه فمن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه(1/114)
فلذلك كان أهل العلم يوصون بمعرفة النواقض ، حتى لا يقع الإنسان في هذه النواقض من حيث لا يدري ولا يشعر ، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضا رحمه الله في بعض كتبه قال : الإنسان قد يكفر من مائة وجه . عافانا الله وإياكم ، وهذا لو تأملته لوجدته ... كثير من الناس قد يكفر من أوجه كثيرة ، يعني لم يكتفي أنه ارتكب ناقض واحد ، بل نواقض كثيرة ومتعددة ، فقد كما قال : قد يكفر من مائة وجه . عافانا الله وإياكم من ذلك ، فكثير من الناس قد يكفر من أوجه كثيرة فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذا كثير ما يكون مرده إلى الجهل وإلى عدم العلم بالله وبرسول لله وبدين الله ، فهذا كله في الغالب يكون إلى عدم العلم ، فينبغي معرفة هذه النواقض وتنبيه إلى معرفة هذه النواقض ، حتى لا يرتد الإنسان من حيث لا يدري ولا يشعر .
الأسئلة
- هذا يسأل عن توضيح ضوابط التكفير ؟
وهذه ذكرتها فيما سبق ، في بداية الدرس ومن خلال شرح النواقض ذكرنا كثير من هذه القواعد والضوابط ، ولذا آخر شي اليوم ذكرنا بعض أيضا ما يتعلق بهذه القواعد والضوابط .
- هذا يقول : أريد دليلا وحجة على من يدَّعي على أن الإنكار بالصمت حين الجلوس مع أهل المعاصي كفيل بتغييرها .
هذا ليس بصحيح ، والدليل على هذا ما جاء في كتاب الله : ( وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) ، فأمر الله عز وجل بالقيام حتى يخوضوا في حديث غيره ، وإلا سوف تكونون مثلهم عافانا الله وإياكم من ذلك ، وأيضا : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) ، وكما تقدم لنا أن الذي عقر الناقة إنما هو رجل واحد ، ومع ذلك قال الله عز وجل : ( فعقروها ) ، لأنهم سكتوا وتابعوا ، فلا يجوز السكوت ، بل الواجب الإنكار ، وإذا كنت لا تستطيع فقم ولا تبقى في هذا المكان .(1/115)
طبعا وهذا اليوم هو خاتمة الدورة هذي .
- هذا أحد الأخوان يسأل عن المخرج من الفتن .
أقول لا شك المخرج من الفتن هو ما جاء في كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله عز وجل قد بين لنا ذلك ، ومن ذلك كما تقدم في أكثر في سور في كتاب الله ، بسم الله الرحمن الرحيم : ( والعصر . إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) ، فمن أراد أن يخرج من كل فتنة سواء كانت كبيرة أو صغيرة ، فعليه أن يتصف بهذه الصفات الأربع ، بالإيمان وبالعمل وبالدعوة بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر الذي هو الصفة الرابعة وبالصبر على ما يلاقي الإنسان في ذات الله .
- هذا يسأل عن حكم إبلاغ السلام
ينبغي للإنسان إذا تحمل أمانة أن يبلغها ، سواء كانت هذه الأمانة حسية أو معنوية ، يعني الحسية سواء كان مبلغ من المال ، أو معنوية كأن يوصيه على أن يبلغ شخصا آخر السلام ولَّا كلام من الكلام ، فعليه أن يبلغ ذلك ، وإلا يقول إن شاء الله ، يقيد ذلك بالمشيئة ، فإذا لم يبلغ فليس عليه شيء .
- هذا يسأل عن صحة حديث (( تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون )) .
حديث النعمان بن بشير ، وهذا رواه أبو داود الطيالسي وغيره ، وهذا الحديث لا بأس بإسناده ، لعل إسناده لا بأس فيه ، وفيه بأن النبوة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله عز وجل ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، ثم يرفع ذلك الله عز وجل ، ثم يكون الملك ملكا عاضا ، ثم بعد ذلك يكون ملك جبري ، ثم بعد ذلك تكون الخلافة على منهاج النبوة ، فكثير من مراحل هذا الحديث قد مرت ، ليس كلها لكن كثير منها ، والعلم عند الله عز وجل .
- هذا يسأل عن الكلام في العلماء والدعاة وأنهم متطرفين وما شابه ذلك وأنهم أصوليين ، ومن هذا الكلام الذي ينتشر والذي أصبح حديث الساعة ، والذي تتولاه كثير من وسائل الإعلام الدولية .(1/116)
فأقول لا شك أن هذا باطل ، وفي الحقيقة أن هذا ليس وليد الساعة ، بل هذا منذ أن بعث الله عز وجل الأنبياء ، ومنذ أن خلق آدم عليه السلام ، فلم يزل الصراع بين الخير والشر ، وبين الحق والباطل ، لكن العاقبة للمتقين كما قال تعالى .
- هذا يسأل عن الوساوس وكيف القضاء عليها .
هذي تقدم ... تقدم كلام لي في هذه الوساوس ، لكن ما أظنه في هذا المجلس ، فأقول هذه الوساوس أولا على الإنسان ألا يلتفت إليها ، كما أرشد إلى ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ، كما في الحديث الذي في البخاري وغيره ، ( لا يزال الناس يقولون هذا الله قد خلق الخلق ، فمن خلق الله ) ، تعالى الله عن ذلك ، قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( فمن وجد ذلك فلينته ، وليستعذ بالله ، وليقل آمنت بالله وبرسله ) فالإنسان عليه ألا يسترسل مع هذه الوساوس ، وأن يستعيذ بالله منها ، فمن استرسل مع هذه الوساوس وأخذ يكررها في ذهنه بدل أن تكون وساوس تصبح حقيقة ، وبعد أن كانت خيال تصبح حقيقة ، فعلى الإنسان أن يستعيذ بالله من هذه الوساوس ... هذا العلاج النبوي , وإلا إذا استمرت هذه الوساوس بالإنسان فهناك علاج غاني ، وهو أن الله عز وجل ذكر شبهات الكفار ورد عليها ، وقال تعالى : ( ولا يأتونك بمثل إلا جائناك بالحق وأحسن تفسيرا ) ، فهذي إلى قيام الساعة ، ومن ذلك عندما قال الكفار كيف الله عز وجل يبعثنا بعد أن متنا ، وأصبحنا عظاما بالية، كما قال تعالى : ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم . قل يحيها الذي أنشأها أول مرة ) فرد الله عز وجل عليهم عندما قالوا كيف الله عز وجل يحيي هذه العظام البالية ، فرد عليهم عز وجل بأوضح رد ، وبأحسن جواب ، وهو أن الذي خلقها قادر على أن يعيدها ، وهذي الحجة حجة عقلية لا يمكن لأحد أن ينكرها ، ولله المثل الأعلى ... الذي بنى بيتا ، أليس قادرا على أن يبنيه مرة ثانية ؟ بلى ، والذي صنع هذا الجهاز الذي نتكلم فيه ، قادر(1/117)
على أن يصنع مثله وهكذا ... والذي صنع سيارة قادر على أن يصنع مثلها وهكذا ... ، فما بالك بالله سبحانه وتعالى ، ولذلك قال تعالى : ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) ، كما أن الله عز وجل بدأ الخلق إذا يعيده سبحانه وتعالى ، ومن ذلك الله عز وجل قال : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) ، فلله المثل الأعلى ... الذي يقدر على أن يغلب عشرة ، قادر من باب أولى أن يغلب وحد فقط منهم ، والذي بنى قصرا قادر على من باب أولى أن يبني غرفة واحدة ، فالله عز وجل خلق ما هو أعظم من الخلق ، وهي السماوات والأرض ، فأقول أن هناك جواب قرآني ، وهو أن الله عز وجل ذكر شبه القرآن ورد عليها ، ومن ذلك القول بتعدد الآلهة ، فقال الله عز وجل : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ، فلو كان هناك غير الله سبحانه وتعال لفسد هذا الكون ، بل كل شيء على ما خلقه الله عز وجل عليه ، ويسير وفق ما قدره الله عز وجل له ، يسير بأحسن مسير ، ومنتظم بأحسن نظام ، ومن ذلك من نسب الولد إلى الله ، فالله عز وجل رد عليه ، فقال : ( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة )، فبما أن الولد لا يكون إلا من صاحبة ... من زوجة ، لأنه لو خلق واصطفى هذا ما يكون ولد ... يكون عبد ، فلا بد أن يكون من زوجة ، وليس هناك لله زوجة ، نفى الله عز وجل عن نفسه الزوجة ( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) ، بل كما قال عز وجل : ( لم يلد ولم يولد ) سبحانه وتعالى .
هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
تمت
لا تنسونا من صالح دعائكم
أخوكم
أبو محمد الشمالي
(منبر الدين النصيحة)
(قسم التفريغ والتصحيح)(1/118)