أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفسه. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله
وكفى وصلاة وسلاماًعلى عباده الذين اصطفى اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على النبي محمد
-صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً ثم أما بعد:
إخواني وأحبائي في الله سيكون حديثي مع حضراتكم شارحاً لرسالة الإمام أبي محمد بن
أبي زيد القيرواني ولكني أحب قبل أن أدخل في الشرح أن أقدم مقدمة - وإن كانت طويلة
شيئاً ما- بين يدي هذا الشرح، هذه المقدمة تتناول العناصر الآتية:
النقطة الأولى: معنى الاعتقاد، فلابد للإنسان قبل أن يدرس شيئاً أن يفهم العنوان
العام الذي يندرج تحته ما يعلم أو ما يسمع.
النقطة الثانية: لماذا تدرس العقيدة؟ .
النقطة الثالثة: طرق التصنيف في العقيدة.
والنقطة الرابعة: ترجمة ميسرة للمصنف مع بيان سبب اختيار هذه الرسالة للدرس.
النقطة الخامسة: مقدمة الرسالة هذه المقدمة التي غفل عنها كثير من المعاصرين عندما
تعرضوا لشرح هذه الرسالة.
النقطة السادسة: نتعرض لفقرة من فقرات رسالة الإمام القيرواني بشرح وأسأل الله
تعالى التيسير والعون.
بداية الاعتقاد هذه كلمة دوارة نسمعها كثيراً ونقرؤها كثيراً في مصنفات أهل العلم
ولابد للإنسان المسلم أن تكون له عقيدة يعتقدها، والاعتقاد من الفعل اعتقد يقال:
اعتقد العسل إذا صلب واشتد، ومنه أيضاً: اعتقدت النواة إذا صلب حالها واشتد
وبالتالي فإن الاعتقاد فيه معنى القوة والصلابة والشدة، وأيضاً الاعتقاد بمعنى
الاتخاذ يقال: اعتقدت أخاً لي في الله أي اتخذته وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد
وهو حديث أبي قتادة عندما قتل رجلاً من المشركين فأخذ سلبه فاشترى به مخرفاً
والمخرف هو البستان قال: وإنه لأول مال اعتقدته أي وإنه لأول مال اتخذته.
إذن الاعتقاد لابد فيه من أمرين:
الأمر الأول: جمل صالحة ينبغي أن تتخذ اعتقاداً فتحب .(1/1)
والأمر الثاني: أن هذه الجمل الصالحة التي اتخذت وأحبت لابد للإنسان المسلم أن يجمع
عليها قلبه فتشتد هذه المعاني في قلبه وتصلب وتقوى فلا تتزعزع ولا تتضعضع ولا تضعف
بمر السنين ولا بمر الأيام.
إذن الاعتقاد: مجموعة من الجمل النافعة الثابتة من الكتاب وصحيح السنة وكذلك ما ثبت
صحيحاً في هذا الباب عن الصحابة والتابعين هذه الجمل الصحيحة تحب ويتحمس لها وتجعل
في القلب فتشتد في القلب وتنمو فيه فتصلب وتغلظ وتقوى، والاعتقاد يتناول المباحث
التالية:
أولاً: الاعتقاد في الله - عز وجل -
ثانياً: الاعتقاد في الأنبياء ومنهم الاعتقاد في النبي -صلى الله عليه وسلم-
ثالثاً: الاعتقاد في الغيب.
رابعاً: الاعتقاد في الصحابة.
خامساً: الاعتقاد فيما ينبغي أن تكون عليه في مرتبة العبودية.
فإذا اتخذت جملاً علمية نافعة في كل باب من هذه الأبواب من مجموع هذه الجمل تكون
قد اتخذت عقيدة تعتقدها، تجمع عليها قلبك، تحبها، تتحمس لها، تموت من أجلها، تعيش
وتحيا من أجلها. إذن هذا معنى الاعتقاد.
النقطة الثانية: لماذا تدرس العقيدة ؟ هل تدرس العقيدة كنوع من الترف العلمي؟ كنوع
من تربية العقول فتتسع بدراسة العقيدة على حساب القلوب؟
هل المقصود بالعقيدة ودراستها أن يكون الإنسان متكلماً لسناً في أمور العقيدة
يستطيع أن يجادل هذا وأن يرد هذا وأن يثبت حضوراً ووجوداً أبداً ؟
بدايةً لا بد أن نعلم أننا ندرس العقيدة للتقرب بها لله - عز وجل - إذن تدرس
العقيدة للتقرب بها إلى الله - عز وجل - فإن العلم بالعقيدة من العلم النافع الذي
هو عبادة لله - عز وجل - قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- «العبادة اسم
جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة» وأفضل
العلوم ما قربك إلى الله وما وصلك بالله، فالعقيدة دراستها عبادة لله - عز وجل -
لأن الله تعالى يرضى بدراستهاعن العبد إذا أصلح بها النية.(1/2)
إذن تدرس العقيدة للتقرب بها إلى الله - عز وجل - لأن في درسها عبادة وقربى وزلفى
إلى الله.
الأمر الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما دعا الناس في مكة دعاهم ثلاث
عشرة سنة بمكة يدعوهم فيها إلى " لا إله إلا الله " (قولوا: لا إله إلا الله
تفلحو) فهي دعوة إلى التوحيد دعوة إلى تركيز معاني الاعتقاد فكان النبي -صلى الله
عليه وسلم- يعلمهم لا إله إلا الله في الموقف مع الموقف وفي الوقت مع الوقت.
الأمر الثالث: سريعاً حتى لا أطيل أنه لا عزة لهذه الأمة إلا بإعداد جيل عقائدي،
جيل يقود هذه الأمة إلى الله - عز وجل - لا يتصور أبداً أن تقود الأمة نفسها إلى
الله ولكن لا بد من جيل يقود هذه الأمة بعد طول المدة إلى الله - عز وجل - وأعظم ما
يتصف به هذا الجيل أنه جيل مربى على العقيدة الصحيحة.
الأمر الرابع: تطلب العقيدة وتدرس العقيدة لتنقية مجتمعات المسلمين من صور الشرك
والبدع والخرافات والخزعبلات وهذا قصد شريف لا بد من التنويه عليه.
الأمر الخامس: أن العقيدة الصحيحة سبب في وحدة المسلمين ولا يخفى علينا ما وصل
الحال إليه في أفغانستان عندما تفرق المسلمون عن طلب العقيدة الصحيحة فقاتل الصوفي
بجوار الطرقي بجوار السني بجوار السني بجوار الشيعي ولم يحرروا مسائل الاعتقاد ولم
يرفعوا راية الاعتقاد الصحيحة ما الذي حدث بعد ذلك تفرقوا شذر مذر وكانت أسلحتهم في
صدور بعضهم بعضاً وتركوا الغاية الكبيرة التي من أجلها كان الجهاد فلا بد للمسلمين
أن يجتمعوا تحت راية الاعتقاد الصحيح لا يجتمعوا تحت راية غير واضحة من هنا أو
هناك، ولكن لابد أن يكون الاعتقاد الصحيح هو النهج المسيطر على حركتهم وعلى تجمعهم.
إذن عرفنا معنى الاعتقاد، ثانياً: لماذا تطلب العقيدة وتدرس؟
النقطة الثالثة: طرق التصنيف في العقيدة:
سريعاً بعض المناهج الموجودة في التصنيف تصنيف كتب الاعتقاد، نجد طريقة المحدثين(1/3)
الأوائل في كتبهم وهي دواوين الحديث الإمام البخاري مثلاً والإمام مسلم نجد الإمام
البخاري - عليه رحمة الله- في كتابه الصحيح يجعل كتاباً للتوحيد ويجعل كتاباً للقدر
ونجد الإمام مسلم -عليه رحمة الله- يجعل كتاباً للإيمان، إذن هذه محاولات للتصنيف
في الاعتقاد ولكن لم يفردوا مصنفاً لدراسة الاعتقاد، إذن هذه طريقة موجودة أن
دراسة الاعتقاد تكون في مجمل الأحاديث الموجودة في هذا الديوان، إذن هذا الديوان
يشمل أحاديث الدين في الاعتقاد في الشريعة في السلوك في المغازي.
الطريقة الثانية: وهي الطرق الحديثية المتخصصة ومن ذلك كتاب الإيمان لابن أبي شيبة
فالمصنف يسوق كل حديث في مسائل الإيمان أو التوحيد أو الصحابة أو القدر أو الغيب أو
الجنة أو النار أو ما قبل ذلك، القبر أو علامات الساعة يسوق كل حديث بإسناده
المتصل، إذن هذه طريقة ثانية في تصنيف كتب الاعتقاد الكتب المفردة لدارسة الاعتقاد
، نأتي بعد ذلك إلى كتب الردود، أهل السنة - جزاهم الله خيراً- قاموا بجهد كبير في
الدفاع عن حياض السنة والرد على المبتدعة كالجهمية والمعطلة والزنادقة والمعتزلة
ومن هذه الكتب السلفية العظيمة التي جردت هذه المسألة وهي مسألة الردود: كتاب "
الرد على المعتزلة " للإمام الدارني- عليه رحمة الله- طريقة رابعة وهو الكتب
المطولة التي تعنى بدارسة موضوع واحد ومن هذه الكتب كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن
تيمية كتاب " الإيمان" سواء الإيمان الكبير أو الإيمان الأوسط لشيخ الإسلام ابن
تيمية، فهو معني بدراسة قضية واحدة وهي قضية الإيمان. ومثل "توحيد الأسماء والصفات"
لإمام الأئمة ابن خزيمة محمد ابن خزيمة فهذا كتاب مفرد لقضية معينة وهي قضية
الأسماء والصفات. الطريقة الخامسة: الكتب المختصرة وهي الكتب التي تشتمل على مجملات
الاعتقاد سواء في مسألة الإلهيات أو النبوات أو الغيبيات أو مسألة القدر أو مسألة(1/4)
الصحابة أو مسألة العبودية، تشتمل على الجمل المختصرة النافعة البسيطة وهذه الجمل
المختصرة النافعة دراستها مفيدة لطلبة العلم لا سيما إذا كانوا مبتدئين، من هذه
الكتب المتقدمة " رسالة الإمام القيرواني" وهي التي سنقوم بشرحها - بإذن الله
تعالىومعونته - ومن هذه المختصرة النافعة " قطف الثمر" لصديق حسن خان -عليه رحمة
الله- قلت لكم: إن هذا المؤلَّف وهو رسالة الإمام أبي زيد القيراوان رسالة مختصرة
بسيطة وهذه الرسالة لم يفردها الإمام القيرواني أبي زيد في مسائل الاعتقاد فقط ولكن
شملت مسائل الاعتقاد كما شملت أيضاً مسائل الشريعة فتكلم فيها عن الصلاة وعن الزكاة
وعن الحج وعن الجنائز وعن الرمي وعن التجارة وتكلم فيها أيضاً عن الحدود وعن الربا
كما تكلم فيها أيضاً عن الآداب والسلوك كآداب التثاؤب ودخول الخلاء ونحو ذلك، وهذه
الرسالة حوت نحواً من أربعة آلاف مسألة.
وقد اخترنا هذه الرسالة لعدة أسباب: السبب الأول أن الإمام القيرواني من المتقدمين
فهو من علماء القرن الرابع الهجري ولد سنة 310هـ وتوفي سنة 386هـ عليه رحمة الله.
الأمر الثاني: أن هذه الرسالة رسالة مختصرة نافعة تلقاها العلماء بالقبول، فما زال
العلماء في بلاد المشرق وبلاد المغرب - ويقصد ببلاد المغرب بلاد الأندلس والمغرب
الكبير- ما زال العلماء يتلقون هذه الرسالة بالقبول ويشرحونها ومنهم من نظمها ومنهم
من شرح هذا النظم، وهناك أكثر من ثلاثة وخمسين شرحاً لهذه الرسالة.
الأمر الثاني: أن هذا الإمام القيرواني كان على طريقة السلف، يقول عنه الإمام
الذهبي -رحمه الله تعالى- " كان على طريقة السلف في الأصول" والمقصود بالأصول أي
مسائل الاعتقاد لا يقصد بالأصول هنا أصول الفقه ولكن يقصد بالأصول هنا مسائل
الاعتقاد.
الأمر الثالث: أن العصر الذي كان يعيش فيه إمامنا القيرواني كان شبيهاً بالعصر الذي(1/5)
نعيش فيه نحن هذه الأيام، كان القيرواني يعيش في الأندلس في عصر الخلافة الراشدة
فإن الخلافة الراشدة كانت موجودة في بلاد الأندلس واستمرت هذه الخلافة الأموية
نحواً من مائتي سنة ولم ينكسر ظل الإسلام في بلاد الأندلس إلا في سنة 1493هـ بسقوط
طليطلة وغرناطة بأيدي الفرنجة ، الإمام القيرواني- كما قلت - كان عصره شبيهاً بهذا
العصر الذي نعيش فيه كانت الفرنجة تتربص بديار الإسلام لا سيما بلاد الأندلس، فكان
الجرمان يتربصون ببلاد الأندلس ويشنون الغارات على بلاد الأندلس.
الأمر الثاني: كانت الدعوة العبيدية الفاطمية وهكذا تسمى في كتب التاريخ وللأسف في
التاريخ المعاصر تسمى بالدعوة الفاطمية نسبة إلى السيدة فاطمة بنت محمد -صلى الله
عليه وسلم- وهذه تسمية غير صحيحة، والتسمية الصحيحة أنها الدولة العبيدية
الإسماعيلية الباطنية دولة شيعية إسماعيلية باطنية خبيثة قامت في بلاد المغرب وهذه
الدولة الخبيثة التي قامت في بلاد المغرب كانت تتطلع إلى بلدين كانت تتطلع إلى بلاد
مصر كما كانت تتطلع إلى بلاد الأندلس، الشيعة الإسماعيلية الرافضة في المغرب عندما
كونوا دولة لهم أرادوا أن يتوسعوا فطمحوا إلى بلاد الأندلس كما طمحوا إلى بلاد مصر،
في ذلك الوقت كان للأندلس أمير أندلسي يسمى عبد الرحمن والملقب بالمستنصر الأموى
وهو أول من لقب بلقب أمير المؤمنين هذا الأمير الأموي كان صاحب همة عالية وصاحب علم
واجتهاد وجهاد فجعل من أولوياته أن يدفع عن ديار الأندلس خطر الشيعة الإسماعيلية
الزنادقة وكانت هناك حروب كثيرة بين الدولة الأندلسية وبين الشيعة وانتهت هذه
المنازلات بانتصار الدولة الأموية في الأندلس وتمكن أهل السنة من بلاد المغرب
واندحار الشيعة لاسيما بعد دخولهم مصر وتمركزهم في مصر ونحن نعيش هذه الأيام تربص
الكفرة بديار الإسلام كما نعيش في هذه الآنة تربص الشيعة بديار الإسلام فهذا الرجل(1/6)
عندما يتكلم عن الاعتقاد فإنما يتكلم بحثٍّ نحن في حاجة إليه لا يتكلم من برج عال
ولا يتكلم بمعزل عن واقعه وإنما يتكلم عارضاً عقيدته رابطاً بينها وبين واقعه، وهذا
من الأسباب التي جعلتنا نجتهد ونختار هذه العقيدة.
إذا طالعنا رسالة الإمام القيرواني سنجد أن هذه الرسالة تدل على ماهيته ودائماً
يقولون بأن الاختصار أصعب من الشرح، فلو أن هناك صفحة من كتاب وأردت أن تختصرها
لكان هذا الاختصار في جملة أصعب من شرح جملة يعني لو هناك صفحة اختصارها في جملة
أصعب من شرح جملة في صفحة. هذه العقيدة تدل على ذهن سيَّال وتدل على علم عظيم ولذلك
لن أطيل في ترجمة هذا الإمام ولكن أذكر إشارات سريعة لأن الوقت ضيق من هذه الإشارات
ما قاله اليافعي في كتابه " مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث
الزمان" واليافعي هذا من علماء القرن الثامن الهجري توفي سنة 768هـ يقول اليافعي:
توفي في هذه السنة سنة تسع وثمانين وثلاثمائة - وهذه رواية أخرى في سنة وفاته- تسع
وثمانين وثلاثمائة توفي الإمام الكبير أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني
المالكي شيخ المغرب- وعندما نقول: المغرب لا نقصد المملكة المغربية ولكن يقصد
المغرب الشمال الأفريقي من أول تونس والجزائر والمغرب الذي يسمى بالمغرب الكبير
وأحياناً يضاف إلى ذلك بلاد الأندلس فهو أندلسي ونشأ في القيروان- انتهت إليه رئاسة
المذهب - أي المذهب المالكي- قال القاضي عياض وهو مالكي " حاز رياسة الدنيا والدين
ورحل إليه من الأقطار وكثر الآخذون عنه وهو الذي لخص المذهب أي مذهب الإمام مالك
وملأ البلاد من تواليفه أي من تآليفه وكان يسمى مالكاً الأصغر، ونرى أيضا ترجمة له
في سير أعلام النبلاء في المجلد السابع عشر يمكن أن تراجعوها ونرى أيضاً بعض
التراجم التي يمكن أن تنفعنا في تراجم تلاميذه في المجلدات السابع عشر في أكثر من(1/7)
موطن فعندما تقرأ تراجم تلاميذه كابن العجوز المالكي وكذلك أبي عمران الفاسي
المالكي وابن غالب عندما تقرؤوا تراجم تلاميذه تعرفوا قدر هذا الشيخ، توفي الشيخ
-عليه رحمة الله- في سنة 386 وقيل 389هـ عليه رحمة الله.
نأتي بعد ذلك إلى مقدمة الرسالة وعندما أقول: الرسالة. الرسالة معناها الأكمل التي
اشتملت على الاعتقاد واشتملت أيضاً على أبواب الشريعة واشتملت أيضاً على أبواب من
أصول الفقه واشتملت أيضاً على أبواب من السلوك والآداب، هذه الرسالة قدم لها
بمقدمة رائعة يجدر بي أن أذكرها لحضراتكم.
قال الشيخ -عليه رحمة الله- (الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان وصوره في الأرحام
بحكمته)، والمرجو من إخواني الأحبة أن ينظروا إلى المعاني العقائدية الموجودة في
هذه المقدمة وأنا ذكرت هذه المقدمة مع أن كثيراً من الشروح لم يتناول هذه المقدمة
ولم يذكر هذه المقدمة لتعلقها بالعقيدة ونحن ندرس العقيدة ( الحمد لله الذي ابتدأ
الإنسان وصوره في الأرحام بحكمته وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه ) والمقصود
من رفقه أي أبرزه إلى رفق الله تعالى به فأنت تعيش وأنت تصاحب وتستصحب معاني رفق
الله تعالى بك (وأبرزه إلى رفقه وما ويسره له من رزقه وعلمه ما لم يكن يعلم وكان
فضل الله عليه عظيماً ونبأه بآثار صنعته )? وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ? [الروم: 22]، فهذه كلها
دالة على صنعة الله - عز وجل - وعلى قدرته - سبحانه وتعالى- (وأعذر إليه على ألسنة
المرسلين الخيرة من خلقه فهدى من وفقه بفضله وأضل من خذله بعدله ويسر المؤمنين
لليسرى وشرح صدورهم للذكرى فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين وبقلوبهم مخلصين وبما
أتتهم به رسله وكتبه عاملين وتعلموا ما علمهم ووقفوا عندما حد لهم واستغنوا بما أحل
الله عما حرم عليهم .... أما بعد:(1/8)
فقد أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه ) وهذه الرسالة ألفه الإمام القيرواني
نزولاً على رغبة صديق من أصدقائه كان يقوم بتعليم الصبيان والولدان، فكتب له هذه
الرسالة ليقوم صديقه المعلم المؤدب لصبيان المسلمين بتعليمهم هذه الرسالة وتلقينهم
إياها. يقول: (أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه فإنك
سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة مما تنطق به الألسنة وتعتقده
القلوب وتعمله الجوارج ) أي: الاعتقاد بالجنان والنطق باللسان والعمل بالأركان
أركان الإيمان (وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء
من الآداب وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس -رحمه الله
تعالى- ) والإمام مالك توفي سنة 179هـ (مع ما سهل) أي كتبت هذه الرسالة أريد بها
التيسير والتسهيل وبيان ما أشكل من ذلك(من تفسير الراسخين وبيان المتفقهة؛ لما رغبت
فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله
ما ترجى لهم بركته وتحمد لهم عاقبته فأجبتك إلى ذلك لما رجوته لنفسي ولك من ثواب من
علم دين الله أو دعى إليه، واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير وأرجى القلوب للخير ما
لم يسبق الشر إليه وأولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى
قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها وتنبيههم على معالم الديانة وحدود الشريعة ليراضوا
عليها ) أن يتعودوا عليها ( وماعليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم
فإنه روي (أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفيء غضب الله) ) وهذا الأثر منكر ولا يصح
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وحاول السيوطي أن يجمع له طرقاً لعله يحسن هذا
الأثر ولكن هيهات هيهات (وأن تعلم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر) وهذا أيضاً خبر
موضوع أخرجه الطبراني وغيره (وقد مثلت لك من ذلك ما ينتفعون - إن شاء الله- بحفظه(1/9)
ويشرفون بعلمه ويسعدون باعتقاده والعمل به وقد جاء أن يؤمروا بالصلاة لسبع سننين)
طبعاً هذا الأثر أثر في بعض السنن وهو أثر صحيح ( أن يؤمروا بالصلاة لسبع سننين
ويضربوا عليها لعشر ويفرق بينهم في المضاجع، فكذلك ينبغي أن يعلموا ما فرض الله على
العباد من قول وعمل قبل بلوغهم ) يعني يجب أن يعلم الصبيان في الصغر ما يجب عليهم
قبل بلوغهم (ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك من قلوبهم وسكنت إليه أنفسهم وأنست
بما يعملون به من ذلك جوارحهم، )سكنت أي اطمئنمت (وقد فرق الله -سبحانه وتعالى- على
القلب عملاً من الاعتقادات وعلى الجوارح الظهارة عملاً من الطاعات وسأفصل لك ما
شرطت لك ذكره باباً باباً ليقرب من فهم متعلميه - إن شاء الله- وإياه سبحانه وتعالى
نستخير وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا
محمد نبيه وآله وصحبه تسليماً كثيراً )ما رأيكم في هذه المقدمة؟ أريد واحداً من
الإخوة يقول ما رأيه في هذه المقدمة، يعني هل هذه المقدمة لها تعلق بالعقيدة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله، أرى أن هذه المقدمة أجادت
بجيد جداً - بعد فضل الله سبحانه وتعالى- فقد شرح الشيخ فيها -عليه رحمة الله ونسأل
الله أن يتغمده برحمته ويجمعنا وإياه في الجنة إن شاء الله- قد أجاد فيها الشيخ فقد
تناول أولاً العقيدة وشرح فيها بعض الأصول منها شرح الإيمان بالقلب وأجاب بتوضيحه
أنه سوف يشرح - بعد فضل الله سبحانه وتعالى- المسائل العقائدية ومسائل فقهية وبعض
السلوك والدين قائم أصلاً على العقيدة والعبادة والسلوك
هذا كلام جيد أنا أردت أن أعرف كنموذج هل هذه المقدمة عندما سمعتموها نقرت قلوبكم
وعرفتم أن هناك علاقة بينها وبين العقيدة، يعني أنا كنت أحب أن يقوم الشارحون للجزء
المتعلق بالعقيدة أن يقوموا بذكر هذه المقدمة لأن هذه المقدمة بينت خطورة العقيدة(1/10)
وأهمية تعليم العقيدة لناشئة المسلمين وعندما يقول الشيخ هنا للصغار فالمقصود
بالصغار أي صغار المسلمين أي صغار الأطفال من المسلمين يعني ينبغي أن نجتهد في
تعليم العقيدة لصغار الأطفال من المسلمين، الطفل الصغير هذا ننشئه على العقيدة
الصحيحة حتى عندما يشب ويكبر يبلغ عليها وقد عرفها وفهمها فهما جيداً هذا ما قصده
الشيخ.
وفقرة اليوم - بإذن الله تعالى- نتكلم فيها عن ما يجب على المكلف اعتقاده من
الإيمان بالله ووحدانيته في ذاته وأسمائه وصفاته وفي خلقه وفعله وفي طلبه وعبادته
وقصده، هذا مجمل وملخص ما سنقوم - بإذن الله تعالى- في شرحه اليوم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (قال أبو محمد عبد الله ابن أبي زيد القيرواني -رضي
الله عنه- باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات من ذلك:
الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره ولا شبيه له ولا نظير
له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له)
المصنف -رحمه الله تعالى- يقول: (باب ما تنطق به الألسنة) الباب: ما يدخل منه إلى
الشيء ومنه باب الدار، والمقصود هنا جملة المسائل التي بمعرفتها تكون قد دخلت
أمورالعقيدة وفهمتها قوله (باب ما تنطق به الألسنة ) النطق والمنطق بمعنى اللفظ،
وهل اللفظ هو الكلام وما العلاقة بين اللفظ والكلام؟ الكلام : القول الذي عليه
جماهير أهل اللغة أن اللفظ أعم من الكلام الكلام هو اللفظ المفيد أما مطلق اللفظ
فقد يكون مفيداً أو غير مفيد فعندما تقول: زيد. فزيد هذا كلمة مفيدة أو لفظ مفيد دل
على معين وعندما تقولك ديز ما معنى ديز ليس له معنى إذن لفظ ولكنه غير مفيد، إذن
هذا لفظ إذن اللفظ أعم من الكلام، قوله (ما تنطق به الألسنة ) والألسنة جمع لسان
وهذا معلوم (باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة ) تعتقده ما معناها؟ يعني
تتخذه وترتبط به وتحبه ويكون من أجلها الولاء والبراء وتعتقده الأفئدة.(1/11)
إذن تتعلمه وتحبه وتتخذه ويجمع عليها القلب فتثبت في القلب وتشتد في القلب وتقوى في
القلب، وهنا مسألة وهي: أنه بهذا المفهوم للاعتقاد يصح إيمان العالم لأن العالم
ينظر ويتأمل ويتدبر ويتخذ فيصح إيمانه، فما الحكم في إيمان المقلد؟ إنسان عامي بسيط
غير عالم لا يقرأ ولا يكتب ولكنه يظن خيراً في الشيخ الفلاني أو الإمام الفلاني
وعنه أخذ عقيدته في الله وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمع منه القرآن وعنه أحب
الصحابة وعرف الله - عز وجل - وعرف اليوم الآخر هل يصح إيمان هذا الملقد، القول
الحق في هذه المسألة أن إيمان المقلد يصح، وهذه المسألة قررها شيخ الإسلام ابن
تيمية كما قررها أيضاً الإمام النووي في شرحه لمسلم لأن الإيمان إذا لم يصح إلا من
خلال النظر لكان في ذلك عنت، وما زال المسلمون يفتحون ديار الناس شرقاً وغرباً،
ديار الروم وديار الفرس وديار البربر وديار الفرس ولم يطلبوا منهم أن يكونوا ناظرين
مُنظِّرين ولكن طلبوا منهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، وهذا دليل قوي على أن إيمان
المقلد يصح، إنه قد اتخذ عقيدة وقد أحبها وأخلص لها وأصبحت قوية في قلبه ولكن لا بد
للمقلد أن يجتهد في تقليلد من يقلد، إذن واجب على المقلد أن يجتهد ولكن يجتهد في
تقليد من يقلد.
الأفئدة، (وتعتقده الأفئدة) قال المصنف هنا الأفئدة، ما العلاقة بين الفؤاد
والقلب؟ هل الفؤاد هو القلب؟ هذا قول وقيل: إن الفؤاد ما بداخل القلب، فمعنى ذلك أن
العقيدة لابد أن تكون مغروزة في داخل القلب، تعتقده الأفئدة أي ما يكون مغروزاً في
داخل القلب.
يقول المصنف: ( وتعتقده الأفئدة، من واجب أمور الديانات) المقصود بالأمور أي شؤون
وأمور الديانات مقصود بها ما يجب على المكلف أن يعرفه في أمر دينه، (بأن الله إله
واحد لا إله غيره) أول واجب ينبغي على المكلف أن يعرفه أن يعرف الله - عز وجل -
فأول واجب على العبيد *** معرفة الرحمن بالتوحيد(1/12)
ولفظ الجلالة الله قيل: هو اسم مركب من الألف واللام بالإضافة إلى الإله وإله على
وزن فعال بمعنى مألوه فعال بمعنى مفعول ككتاب بمعنى مكتوب إذن إله بمعنى مألوه،
وهذا يسمى في اللغة بتبادل الصيغ أن تأتي صيغة بمعنى صيغة أخرى إذن إله تأتي بمعنى
مألوه، ومامعنى الإله؟ قيل: إن الإله مشتق من الفعل أله، يأله إلهة وألوهية بمعنى
العبادة فالإله بمعنى المعبود والألوهية بمعنى العبادة، ومنه قول الله - عز وجل - ?
أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ?
[الأعراف: 127]، في القراءة الأخرى ويذرك وإلاهتك قالوا ويذكر وإلاهتك أي ويذرك
وعبادتك وأخرج الطبري وغيره بإسناد فيه كلام من حديث عبد الله بن عباس أن فرعون كان
يُعبد ولا يَعبد،ومنه قول رئبة بن العجاج:
لله در الغانيات المدة سبحن واسترجعن من تألهي
لله در الغانيات: أي النساء اللاتي استغنت بجمالها عن التجمل أو استغنت بزوجها عن
النظر إلى غيره، المدة: مدهه كمدحه، أي المادحات لله در الغانيات المادحات، سبحن:
أي قلن سبحان الله واسترجعن: أي قلن إنا لله وإنا إليه راجعون، من تألهي: أي بسبب
عبادتي لله،
من: هنا فيها معنى السبب أي سبحن واسترجعن بسبب عبادتي لله - عز وجل -
إذن الله هو الإله المألوه المعبود بحق، الذي تعبده القلوب وتتوجه إليه الأفئدة،
الإله الذي تتوجه إليه القلوب محبة ورغبة وإنابة واستعانة واستغاثة فلا إله غيره،
(بأن الله إله واحد) كلمة واحد: صفة لإله فالله - تبارك وتعالى- واحد لا شريك له
والمعلوم بأن الصفة قيد (بأن الله إله واحد) والصفة قيد، (لا إله غيره )هذه الجملة
(لا إله غيره) تأكيد للجملة السابقة و"لا": هنا هي النافية للجنس، و(لا إله غيره)
هنا نفي عام وإثبات خاص، النفي العام لا إله نفي لجميع الآلهة نفي لجميع المعبودات،
ثم إثبات خاص إثبات للإلهية والعبادة للإله الواحد الحق، وقوله: لا إله غيره - كما(1/13)
قلت- تأكيد لمعنى التأكيد السابق، فعندما تقول: محمد صديقي ففيها إثبات للصداقة
لمحمد، لكن عندما تقول: لا صديق لي غيره فمعناها في إثبات الصداقة أعلى من مجرد
محمد صديقي، فكذلك قوله: بأن الله إله واحد لا إله غيره، وفي هذا المعنى أتت النصوص
لقد تعجب المشركون من دعوة النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- إلى التوحيد فقالوا: ?
أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ?5 ? ? [ص: 5]،
سبحان الله أجعل الآلهة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أكل هذه الآلهة التي
نعبدها يكفر بها محمد ويجعل إلهاً واحداً تصرف إليه أعمالنا وتتوجه إليه قلوبنا، إن
هذا لشيء عجاب وقال الله تعالى: ? اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ
القَيُّومُ ?[البقرة: 255] وقال الله تعالى? هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ ?[الحشر: 22].
إذن هذه الآيات تضمنت معنى الوحدانية هذا المعنى الذي أشار إليه المصنف - عليه رحمة
الله- قال: (ولا شبيه له ) الشبيه المماثل قال تعالى : ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ?11 ? ? [الشورى: 11] وقال تعالى: ? وَلَمْ يَكُن لَّهُ
كُفُواً أَحَدٌ ? [الإخلاص: 4]، والتقدير ولم يكن أحد كفواً له فأحد نكرة في سياق
النفي للدلالة على العموم أي ليس أحد أبداً كفواً لله -عز وجل- مثيلا لله - عز وجل
- شبيهاً لله -عز وجل- لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته - جل ربنا وتقدس- سبحانه لا
شبيه له ولا نظير له، النظير بمعنى المساوي أي لا مساويَ لله - عز وجل - في حقيقته
وذاته ولا في أسمائه وصفاته ولا في فعله وخلقه لا شبيه له (ولا ولد له ولا والد له)
لقوله سبحانه وتعالى: ? لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) ? [الإخلاص: 3] وقوله
تعالى: ? مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً(1/14)
لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ?[المؤمنون:
91]، فلا يمكن أبداً أن يكون له والد كما لا يمكن أبداً أن يكون له ولد - تعالى
ربنا سبحانه- (ولا صاحبة له) كقوله تعالى: ? وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا
اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً (3) ? [الجن: 3] فهو -سبحانه وتعالى- لا شبيه له
ولا نظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له ، له سبحانه وتعالى
الأمر، وقبل ذلك قال الإمام (ومن ذلك) من ذلك الاعتقاد المجمل (الإيمان بالقلب
والنطق باللسان) ما المقصود بالإيمان بالقلب؟ يقصد بالإٍيمان بالقلب: الاعتراف،
والإذعان المستلزم للانقياد و المحبة والرضا هذا معنى الإيمان وهذا المعنى هو معنى
الإقرار الذي أصله وشرحه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القيم الإيمان الأوسط،
وفارق بين الإقرار وبين التصديق وبيَّنَ شيخ الإسلام من وجوه كثيرة أن المعنى
الصحيح للإيمان ليس التصديق ولكنه الإقرار، ولذلك أردت أن أشرح معنى الإقرار فقلت:
الإيمان بالله أي الاعتراف والإذعان والتسليم المستلزم الانقياد والمحبة والرضا
وهذا هو الإيمان المزكى الممدوح،ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ذلك الإيمان، وأن
يجعل ألسنتنا لاهجة بلا إله إلا الله وأن نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون
أحسنه، وبإذن الله تعالى للحديث بقية ولكن نجعلها في حلقة قادمة.
يقول: سؤالي كما يلي: هل هناك فرق بين كتب العبادة والتوحيد؟ وإذا كان الجواب
بنعم، فلماذا؟ لأننا نحن نعلم أن التوحيد هو العقيدة الصحيحة؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، جرت عادة المصنفين أن يفرقوا
بين مسائل الاعتقاد عند التصنيف وبين مسائل الشريعة التي يسمونها بمسائل الفروع أو
الفقهيات وهذا الكلام موجود بكثرة، لكني رأيت هذا الإمام أبو زيد القيرواني صنع هذا(1/15)
الصنيع ليدلل على أن الفقه كي تلج إليه لا بد أن تطلب الفقه الأكبر وهو الاعتقاد،
الفقه الأكبر أن تفقه الطريق الموصلة إلى الله - عز وجل - بمعرفته ومعرفة رسله
ومعرفة الغيب والقدر ومعرفة الصحابة، هذا هو الفقه الأكبر فلن تسلك إلى الفقه
الأصغر إلا بمعرفة هذا الفقه الأكبر ولذلك جرت عادة بعض المصنفين أن يقدم بين يدي
مسائل التشريع والفقه بمسائل الاعتقاد هذا فعله مصنفنا القيرواني كما فعله أيضاً
ابن حزم في كتابه القيم "المحلى" هذه طريقة تصنيفية ليس لها أي بعد إلا مسألة
التصنيف.
يقول: ما الفرق بين العقيدة والتوحيد؟
عندما نقول العقيدة أو الاعتقاد فهذا وصف من الفعل عقد أو الفعل اعتقد فباب
الاعتقاد أو العقيدة أوسع من باب التوحيد، عندمانقول: التوحيد فنعني به توحيد الله
- عز وجل - في ذاته وأسمائه وصفاته وهو المعروف بتوحيد الأسماء والذات والصفات
وتوحيد الله - عز وجل - في خلقه وفعله هو توحيد الربوبية، والتوحيد الثالث: هو
توحيد الله تعالى بأفعال عباده وهو توحيد القصد والطلب والمسمى بتوحيد العبادة
أوتوحيد الألوهية.
إذن هذا هو التوحيد، عندما نقول: العقيدة أو الاعتقاد فإنها تشمل التوحيد وزيادة
تشمل ما يتعلق بالله - عز وجل - وما يتعلق بالأنبياء وما يتعلق بالغيب وما يتعلق
بالصحابة وما يتعلق بالقدر وما يتعلق بمقام العبودية، فبات واضحاً أمامكم أن مباحث
العقيدة والاعتقاد أوسع من مباحث التوحيد.
السلام عليكم ورحمة الله: ذكرتم- فضيلة الشيخ- أنه لا عز لهذه الأمة إلا إذا تعلمت
العقيدة الصحيحة واجتمعت الأمة تحت الاعتقاد الصحيح، فما العمل إذا كانت أغلب الكتب
الاعتقاد التي تدرس في الوطن العربي والإسلامي في المدارس والجامعات في المعاهد
الدينية فضلاً عن العلمية تخالف عقائد أهل السنة والجماعة والسلف الصالح -إلا من
رحم الله-؟ وما دور طالب العلم تجاه هذا الأمر إذا اضطر لدراسة مثل هذه العقائد ليس(1/16)
لتعلمها فقط بل لاعتقادها كعقيدة للمسلم؟
السلام عليكم ورحمة الله: قلتم يا شيخنا: إن هناك أكثر من خمسين شرحاً لهذه
الرسالة فنسأل عن شرح يكون جيداً ومطبوعاً ومتداولاً.
كان يعلق على قولكم لا عز لنا إلا بالعقيدة السليمة وماهو العمل إذا كانت كتب
الاعتقاد التي تدرس تخالف الاعتقاد السليم؟ وما دور طلاب العلم إذا اضطروا إلى
دراسة هذه المناهج الفاسدة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ينبغي على طالب العلم أن يكون
مستبصراً طريق الخير وطريق الحق وأعظم ما ينبغي أن يستبصره أن يستبصر عقيدة أهل
السنة والجماعة، عقيدة أهل الأثر، عقيدة أهل الحديث وهذه العقيدة هي العقيدة
الثابتة عن الصحابة وعن التابعين وعن تابعيهم وعن الأئمة الأعلام كالإمام مالك
والأوزاعي والشافعي والثوري، فإذا أراد أن يطلب هذه العقيدة فعليه بأمرين: الأمر
الأول: أن يطالع كلام الأئمة الكبار في مسائل الاعتقاد وأن يطالع كتبهم ومن ذلك
مثلا من المتقدمين كتب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فله كتاب في الرد على
الزنادقة والجهمية وكذلك الإمام البخاري له كتاب خلق أفعال العباد، وكذلك يطالع كتب
التوحيد والاعتقاد في كتب الحديث في صحيح مسلم وصحيح البخاري وعليه - بعد ذلك- أن
يطالع الكتب الحديثية الأثرية التي تكلمت عن الاعتقاد مثل شرح أصول السنة للكائي
والإبانة لابن بطة وكذلك أيضاً الشريعة للآزرِّي وكذلك كتاب الإيمان لابن أبي شيبة
وغير ذلك من الكتب المصنفة الحديثية التي اهتمت بشرح الاعتقاد وأن يطالع من كتب
المتأخرين كتب شيخ الإسلام ابن تيمية فهي كتب عظيمة النفع جداً ولا يمكن أن يتصور
طالب علم يريد أن يسلك طريق النجاة لا يطالع كتب هذا الإمام المبارك وأن يطالع كتب
تلاميذه من بعده ككتب ابن القيم وابن رجب وابن كثير ومن أفضل ما تراجعه لشيخ
الإسلام ابن تيمية من كتب: كتابه الإيمان الكبير أو الإيمان الأوسط والمجلد السابع(1/17)
من مجموع الفتاوى اسمه الإيمان، فلو قرأت هذا المجلد وكذلك قرأت له في مجموعة
الفتاوى مجمل اعتقاد السلف وكذلك مفصل اعتقاد السلف وقرأت له أيضاً مجلد السلوك
وقرأت له مجلد القرآن كلام الله هذه المجلدات لو قرأتها لشيخ الإسلام ابن تيمية
لوجدت الأمر أمامك متضحاً وكذلك تقرأ لتلميذه ابن القيم بعض الكتب ولا سيما كتابه
القيم الذي شرح فيه إياك نعبد وإياك نستعين "مدارج السالكين" وكذلك تقرأ لبعض
المتأخرين الذين تأخروا عن هذا الجيل: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتابه الجيد
الجليل "كتاب التوحيد" مع شروحه لأولاده وأحفاده وتلاميذه إذا قرأت ذلك وحضرت مجالس
العلم لمشايخ أهل السنة المشهود لهم والمعروف عنهم الخير دون أن تكون مرتدياً ثياب
السبابة أو الطاعنين على أهل العلم أبشرك بالخير وأبشرك بما تحب أن تسمعه بإذن الله
تعالى.
السؤال الثاني: وهو المتعلق بالشروح الكبيرة لهذه الرسالة أقول: هناك أكثر من ثلاثة
وخمسين شرحاً وهي الأسماء التي وقفت عليها، وإلا فهناك شروح أكثر من ذلك لقد ذكر
بعض المترجمين أن في كل سنة من السنين كان هناك شرح أو نظم لرسالة القيرواني فإذا
قلنا: إنه توفي في سنة 386هـ وانظر نحن الآن في أي سنة وانظر لعدد السنين لوجدت أن
هناك مئات الشروح ربما لهذه الرسالة كثير من هذه الشروح مخطوط وبعض هذه الشروح
مفقود لم يصل إلينا وهناك بعض هذه الشروح مطبوعة ولكنها قليلة غير متداولة في
الأسواق، وبإذن الله تعالى يمكن أن نخبركم ببعض التفصيلات في هذا الباب.
السلام عليكم ورحمة الله بالنسبة للعقيدة هل الأفضل أن نحفظ نظماً معيناً كما ذكرت
فضيلتكم: أن هناك نظماً للرسالة ممكن أن نحفظه أم كيف دراسة الأمر؟
مسألة الاعتقاد أفضل طريقة لتعلمها أن تسأل الله - عز وجل - أن يهديك وأن يشرح صدرك
وأن يسددك إلى اليسرى ثانياً إذا كان هناك من شيخ فاضل أريب نجيب له جهد في هذا(1/18)
الباب حاول أن تجالسه وأن تتعلم منه فإن هناك من مسائل الاعتقاد ما يتعلم بالممارسة
وبالمحاككة وبالتأدب أكثر من تعلمه من الكتب، فالإمام مالك -رحمه الله تعالى- عندما
جاءه المبتدع ليسأله عن الاستواء موقف الإمام مالك يعتبر درساً عقائدياً لمن؟
لجلسائه وأصحابه الذين جلسوا معه فعندما تلازم عالماً بالعقيدة أو تلازم رجلاً
فاضلاً عنده اعتقاد صحيح فإنه يعلمك العقيدة عملياً من خلال المواقف من خلال الآداب
من خلال السلوك كما أنه يعلمك السلوك كما أنه أيضا يعلمك الاعتقاد من خلال ما
يختاره لك وأفضل ما يختار لطالب العلم المبتدئ هذه النتف اليسيرة وهذه الجمل
الصالحة النافعة العقائدية من أمثلة ذلك هذا النظم كنظم القيرواني وكما قلت لكم
كنظم الصديق حسن خان وهو "قطف الثمر" إذن يبتدئ بالجمل الصغيرة البسيطة اليسيرة
النافعة فإذا وعاها وفهمها ورأى أستاذه أنه قد قدر على فهمها واستيعابها رقاه بعد
ذلك إلى مرحلة أعلى وهي الكتب المطولة أو الكتب المصنفة على المواضيع- كما قلت لكم
من قبل- فإذا رآه قد ارتقى بعد ذلك فلا بأس أن يناقشه وأن يقدمه وأن يدربه وأن
يطلب منه أن يعد أبحاثاً وأن يعد بعض التقارير في بعض المسائل ويرقي شأنه إلى أن
يصل إلى مستوى فاضل نرجوه لإخواننا جميعاً.
يقول: إذا عرف الناس صحيح عقيدتهم ثم تكاسلوا عن العمل وأداء العبادات فماذا نقول
لهم؟.
تطلب العقيدة للعمل فالعقيدة لا تطلب كعلم ولكن تطلب للعمل وقديماً كانوا يقولون:
العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل، وكانوا يقولون: علم بلا عمل كشجرة بلا
ثمر، فكيف تثمر شجرة العقيدة وصاحبها لا يعمل بها، رجل عرف في العقيدة الانكسار لله
- عز وجل - وعرف في العقيدة أن هناك أعمالاً للقلب من هذه الأعمال محبة الله - عز
وجل - والخوف من الله والإخبات والرغبة والرهبة والإنابة والاستعانة يعلم ذلك ثم(1/19)
بعد ذلك لا يطبق، هذا أمر عجيب من علم أمور العقيدة ولم يطبقها فقد نادى على نفسه
بالخسارة.
يقول: كيف السبيل إلى تصحيح العقيدة الإسلامية وسط هذه البدع التي ابتلي بها
المسلمون.؟
أسأل الله تعالى لأخي في بلاد المغرب أن يثبته وأن يسدده وأن يسدد إخواننا أهل
السنة في المغرب لأن هذه البلدة حالها كحال قرى كثيرة في مصرنا تعج بالبدع وبالتصوف
وبمخالفة التوحيد الصحيح فأرجو وأدعو الله - عز وجل - أن يوفق إخواننا بالمغرب وأن
يجتهدوا في طلب العلم النافع وأن يكونوا مترفقين بالناس وأن يكون الجهد كل الجهد
ليس في النقر والتفحير والبحث عن دقاق المسائل وفروعها وليكن جهدهم في المغرب
وغيرها الاجتهاد في دعوة الناس إلى الله - عز وجل - وفي تعريفهم دين الله - عز وجل
- وفي تحفيزهم بهذا الدين وأسأل الله تعالى أن يوفقهم.
يقول: ما رأي الشيخ في شرح حاشية العدوي على الرسالة؟
أنا لم أطلع على هذا الشرح.
ما هي الأسباب التي تعين على تربية الأولاد على العقيدة الصحيحة؟
من أعظم الأسباب أن يرى الولد والده على اعتقاد صحيح أقول: إن أول شيء يتأثر به
الأولاد في مسائل الاعتقاد السلوك والعمل. تصور مثلا أن هناك أباً كان يسير في شارع
مثلاً ومعه ولده ثم سقط شيء على رأسه فشج رأسه فصاح هذا الأب وأخذ يسب ويلعن، لو
تكلم مع ولده بعد ذلك في الإيمان بالقدر هل هذا الولد سيستجيب لوالده؟ أبداً إذن
هناك الاعتقاد بالممارسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة مكث ثلاث عشرة سنة يعلم
الناس الاعتقاد يعلمهم بالعمل فلابد للأب أن يعلم ولده الاعتقاد عملياً سلوكياً ثم
بعد ذلك يطلعه على نظم بسيط في الاعتقاد يقرره إياه، وكان الناس قديماً يعلمون
أبناءهم المتون الخفيفة اليسيرة في الاعتقاد كان العلماء والأمراء والوجهاء والناس
عموماً كانوا يحبون هذا الأمر ويعلمون هذا لأبنائهم فأنا أرى أنه لابد من تعليم
العقيدة سلوكاً للأولاد.(1/20)
الأمر الثاني: لابد من تعليم العقيدة نظماً يسيراً بسيطاً بعد هذه المرحلة أو
أثناء هذه المرحلة للأولاد والله سبحانه وتعالى هو الهادي للسبيل.
تقول: ما حكم تقليد العامي لشيخ من الرافضة هل يصح إيمانه؟
هذا العامي عندما يقلد شيخاً من شيوخ الرافضة هل يجوز له هذا التقليد؟ أبداً لا
يجوز له هذا التقليد لأني قلت لحضراتكم: إن العامي يجب عليه أن يجتهد في تقليد من
يقلد فإذا علم العامي أن هناك من يطعن في شيوخ الرفض ويتهمهم بالزندقة علم ذلك فكيف
يقلد هذا الشيخ؟ لا بد أن يجتهد في تقليد من يقلد إذا كنت مريض وأردت أن تذهب
إلى طبيب أنت لست بطبيب ولا تعرف تقييم الأطباء ولكن إذا عرفت أن هذا الطبيب أفضل
من هذا الطبيب فأنت تذهب للأفضل فكذلك ينبغي للعامي أن يجتهد في تقليلد من يقلد فلا
عذر للمقلد الذي يقلد شيوخ الرافضة، لا عذر له ولكن لا نخرجه من دائرة الإسلام.
يقول: هل صحيح أن عقيدة الشيخ أبو زيد القيرواني أشعرية؛ لأن من المعلوم أن عقيدة
المغاربة أشعرية؟ أفيدونا جزاكم الله خير
أبداً هناك بعض الطعون طعن بها أبو زيد القيرواني وبإذن الله تعالى سأبين لكم أن
هذه الطعون ليست في محلها وأن الرجل على العقيدة الصافية الصحيحة، على عقيدة أهل
السنة وأن هناك بعض الألفاظ قد يفهم منها ذلك ولكن ليس هذا على حقيقته وإن شاء
الله سيظهر لنا ذلك أثناء الشرح.
يقول: هل من بالإمكان التكرم بذكر طرق التصنيف في علم العقيدة ولو باختصار ؟
باختصار شديد: هناك طريقة أصحاب الدواوين كالبخاري ومسلم أنهم لا يفردون الاعتقاد
بمصنف ولكن يذكرون الاعتقاد كباب أو ككتاب من جملة كتب دواوينهم: في البخاري مثلاً
نجد كتاب التوحيد وفي مسلم نجد كتاب الإيمان هذه طريقة. طريقة ثانية الكتب التي
أفردت بالتصنيف لمسائل الاعتقاد وهي كتب أثرية حديثية وذلك ككتاب الإيمان لابن أبي
شيبة وكتاب الأسماء والصفات لابن خزيمة فهذه كتب سلفية أثرية حديثية تعنى بموضوع(1/21)
واحد.
هناك كتب بعد ذلك أكثر إيعاباً أي تشمل موضوعات متعددة وذلك ككتب شيخ الإسلام ابن
تيمية . وهناك كتب الردود كالرد على الزنادقة والجهمية وكالرد على الذين قالوا بخلق
القرآن. وهناك بعد ذلك الكتب المختصرة المفيدة الجامعة وذلك كرسالة أبي زيد
القيرواني.
السلام عليكم ورحمة الله : كنت أريد أن أسأل: كيف يجمع الإنسان بين العقيدة أن
يؤمن ويعتقد بأن كل شيء رزق من عند الله تعالى فقد قرأت للإمام الغزالي أن الرسول
-صلى الله عليه وسلم- قال: إنه حتى العقل هبة من عند الله -سبحانه وتعالى- وعلى قدر
العقل الإنسان يكون منزلته عند الله -سبحانه وتعالى- كيف أجمع بين هذا وبين العمل
فإذا اعتقدت أنه حتى العقل هبة من الله تعالى ولا دخل لي فيه فكيف أعمل ما يقربني
من الله وعقلي على قدر هذا؟
لا بد للمكلف أن يعلم أنه عبد لله - عز وجل - محتاج إلى الله - عز وجل - في أمور
الدنيا وأمور الدين، في أمور المعاش وفي أمور المعاد، إذن لا بد أن يعلم أنه عبد
مفتقر إلى الله - عز وجل - ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى
اللَّهِ ?[فاطر15]، ثانياً لابد أن يعلم أن الله تعالى غني عنه وعن عبادته، والله
-سبحانه وتعالى- عنده خزائن كل شيء ? وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا
خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) ?[الحجر: 21] فخزائن
العلم وخزائن التوفيق والرشاد والسداد والنجاح والبر والتقوى والعقل والأولاد
والزواج وكل ما على وجه الدنيا من خير وصلاح إنما خزائنه عند الله - عز وجل -
فالعقل ليس فقط رزق من الله بل إن النجاح والفهم والسداد والرشاد والتوفيق وكل هذه
الأشياء إنما هي من عند الله - عز وجل - من رزق الله - عز وجل - هذه الأمور أنت لا
تحصلها إلا ببركة الدعاء قال الله تعالى ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ(1/22)
لَكُمْ ?[غافر: 60] فإذا أراد العبد رزقاً من الله: فهماً أو علماً أو سداداً أو
رشاداً أو زوجةً أو ولداً أو نجاحاً فعليه أن يجتهد في دعاء الله - عز وجل - فإذا
كنت تريد أن تتقرب إلى الله تعالى بالاعتقاد إذن لابد أولاً: أن تعرف ربك وثانياً:
لا بد أن تعرف نفسك فإذا عرفت أن ربك بأنه الرب الغني القوي القادر وأنك أنت العبد
الذليل الفقير المحتاج إذا عرفت ذلك، هذه المعرفة لابد أن تكسر قلبك وأن ترزقك
الخشية وأن ترزقك العمل أما إذا لم تنكسر ولم تخشع لهذه المعرفة فاعلم أنها معرفة
ناقصة. إذن إذا كانت معرفتي بالعقيدة ستقربني من إلى الله وتدفعني إلى الله وتزيدني
عملاً على طريق الله إذن هذا علم نافع استبصرت به وإلا فلابد أن أراجع طريق العلم
الذي سلكت فيه.
هل هناك شروط لازمة يجب أن تتوافر فيمن تأخذ عنهم العقيدة؟
هذا سؤال جيد باختصار شديد هذا الشرط أو الشروط التي ينبغي أن تكون معلومة أن يكون
حسن الاعتقاد شهد له علماؤه وأترابه بالخير في هذا الباب، كما قلت لكم عندما قال
الذهبي عن أبي زيد القيرواني ماذا قال الذهبي على القيرواني؟ وكان على طريقة السلف
في الأصول فلما يقول الذهبي وهو رجل متمكن في هذا الباب وإن كان متأخراً يقول هذا
عن القيرواني فهذا مفيد في تلقي هذه العقيدة بالقبول، لما ينقل الإمام ابن القيم عن
القيرواني أكثر من عدة نُقُولٍ فهذه دلالة على أن هذا الرجل عقيدته مقبولة عند ابن
القيم وابن القيم هذا رجل اعتقاده معلوم لأنه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية فتأخذ
العقيدة عمن شهد له بالخيرية في هذا الباب.
يقول: مامعنى قولهم التخلية قبل التحلية في معنى التوحيد؟
هذا المصطلح - وإن كان في أصله من مصطلحات أهل السلوك وأهل التصوف- لكنه مصطلح صحيح
فالإنسان لن يتحلى بالإيمان إلا إذا تخلى عن الكفر والشرك فهذا أمر مقرر فلا يجتمع
الاثنان معاً بكفاءة واحدة أو بتمام واحد قال الله تعالى? فَمَن يَكْفُرْ(1/23)
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ? [البقرة: 256]، إذن قبل أن يؤمن بالله لابد أن
يكفر بالطاغوت ? فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى ? أي فقد استمسك بلا إله إلا الله فكلما عظم
تخليك عن صور الكفر والشرك كلما عظم تحليك بصور الإيمان والبر.
هل يمكن القول: إن أمور العقيدة واحدة ولكن تختلف شروحات الكتب فقط وأنا أرى في
مضمون الرسالة تشابها مع "لمعة الاعتقاد" فما رأي فضيلتكم؟
هذا كلام جميل "لمعة الاعتقاد" لابن قدامة هو من الكتب المختصرة يعني: إذا أردنا أن
ندرج "لمعة الاعتقاد" ضمن أنواع الكتب المصنفة في الاعتقاد فندرجه رقم كم؟ رقم
خمسة، الرقم الأخير وبالتالي ستجد التشابه قائماً.(1/24)
الدرس الثاني
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه إنه هو السميع العليم بسم الله
الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وأحبابه ومن
والاه . أما بعد:
فيحسن بي قبل أن أبدأ لقائي مع أحبتي وإخواني في الله أن أذكر بالعناوين والأفكار
العامة التي تناولها اللقاء الماضي، لقد تكلمت:
أولاً: عن معنى الاعتقاد وذكرت أن معناه القوة والصلابة وأن من معناه - أيضاً-
الاتخاذ.
وتكلمت عن الأسباب التي من أجلها تدرس العقيدة ومن أهم هذه الأسباب عبادة الله -
عز وجل- والتزلف إليه - أيضاً- من هذه الأسباب: إعداد هذا الجيل العقائدي الذي يكون
- بإذن الله عز وجل- معيناً لهذه الأمة في سيرها إلى الله.
ثم تكلمت بعد ذلك عن طرق التصنيف في الاعتقاد والعقيدة سواء الطريقة الحديثية
الأثرية أو طريقة الرد أو طريقة المطولات أو طريقة المختصرات اللطيفة أو طريقة
المواضيع المحددة التي تناولها علماء الاعتقاد بالبسط والشرح وقلت لكم: إن هذه
الرسالة رسالة ابن أبي زيد القيرواني - عليه رحمة الله -هي تندرج في النوع الخامس
من أنواع التصنيف ثم تكلمت بعد ذلك عن مقدمة رسالة القيرواني هذه المقدمة التي
أغفلها بعض شراح رسالته من الذين أخذوا الجزء المتعلق بالاعتقاد ومن خلال سماعكم
لهذه المقدمة علمتم أن هذه المقدمة لها تعلق كبير بالاعتقاد، وأن إثباتها أمر مهم
جداً ثم بعد ذلك استعرضت مع حضراتكم الفقرة الأولى من رسالة القيرواني - عليه رحمة
الله - وهو قوله باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من أمور الديانات ومن ذلك
- كما قال الشيخ- ( الإيمان بالقلب والنطق باللسان بأن الله إله واحد لا إله غيره
لا شبيه له، ولا نظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له - سبحانه
وتعالى-) و- بإذن الله - تعالى سيكون حديثنا اليوم في أمر جديد وفي فقرة جديدة ولكن(2/1)
أحب أن أسأل بعض الأسئلة على الدرس الفائت ولن أطيل على حضراتكم هذه الأسئلة ستكون
ثلاثة فقط لن أطيل.
السؤال الأول: من هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني؟
السؤال الثاني: لماذا اختيرت عقيدة القيرواني في مقدمة رسالته للدراسة؟
السؤال الثالث: ما معنى العقيدة وما العلاقة بينها وبين التوحيد؟
لو جعلنا السؤال الأول داخلاً في السؤال الثاني؛ لأن من أسباب اختيار عقيدة
القيرواني المعلومات المتوافرة عن أبي محمد القيرواني هذان سؤالان السؤال الأول:
لماذا اختيرت عقيدة القيرواني هذا سؤال وندخل السؤال الأول في الثاني هذا سؤال ثم
بعد ذلك نذكر السؤال الثالث وهو: ما وجه مجيء لا إله غيره بعد قوله بأن الله إله
واحد؟
درس اليوم يتكلم عن عناصر محددة هذه العناصر:
العنصر الأول: معنى الأول والآخر.
والعنصر الثاني: يتكلم عن حقيقة الصفة.
والعنصر الثالث: يتكلم عن مفهوم الماهية وخطورة التأويل الكلامي.
هذه بعض العناصر وهناك عناصر وأفكار أخر ستجدونها - بإذن الله تعالى.
نقرأ متن درس اليوم وأسأل الله تعالى أن يوفقكم وأن يوفقني لما يحبه ويرضاه.
قال المصنف - رحمه الله تعالى- ( ليس لأوليته ابتدا ولا لآخريته انقضا ولا يبلغ
كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في
ماهية ذاته)
بسم الله الرحمن الرحيم قول المصنف -عليه رحمة الله- ( ليس لأوليته ابتداء ولا
لآخريته انقضاء) هذا المعتقد مأخوذ من قول الله تعالى ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [الحديد: 3]، وبهذا -
أيضاً- أتت السنة في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان يدعو فكان يقول:(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء)
والأول: له معان فهو الذي لم يسبق، لا شيء قبله ولا خلق قبله فهو أول لم يسبق بغيره(2/2)
- سبحانه وتعالى- وقيل: الأول من آل يؤول أَوْلاً بمعنى رجع وصار ومعنى الأول الذي
يصير إليه الناس وينقلب إليه الخلق ويرجع إليه الخلق فالله - سبحانه وتعالى- يرجع
إليه الخلق في أمور إعدادهم و إمدادهم، يرجعون إليه في كل شؤونهم فكما أن المبتدأ
من الله - عز وجل- خلقا وأمراً فإن المنتهى والمرجع والمنقلب إلى الله - عز وجل-
سؤال وحساباً وجزاءً "هو الأول فليس قبله شيء وهو الآخر فليس بعده شيء هذا فيه"
معنى البقاء والديمومة فالله - سبحانه وتعالى- باقٍ بعد فناء خلقه ولك أن تقول: بأن
الله تعالى أخبر بأن بعض خلقه يكون - أيضاً- خالداً أبداً كحال الجنة والنار وكحال
أهل الجنة وأهل النار فقال الله تعالى في حال الجنة والنار وأهلها ? خَالِدِينَ
فِيهَ ? [البقرة: 162]، وورد في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:
(يرفع الموت في صورة كبش أملح أقرن يرفع بين الجنة والنار فيراه أهل الجنة كما يراه
أهل النار فيقال:يا أهل الجنة أتعرفون ما هذا؟ فيقولون: إنه الموت ويقال لأهل
النار: أتعرفون ما هذا؟ فيقولون: إنه الموت فيذبح بين الجنة والنار ويقالك يا أهل
الجنة خلود بلاموت وياأهل النار خلود بلا موت) فكما أن الله تعالى باقٍ لا يفنى
فكذلك الجنة والنار وأهل الجنة وأهل النار لا فناء لهم وهنا إشكال: أثبت الله تعالى
عدم فناء الجنة والنار وأثبت لنفسه البقاء وعدم الفناء فهل هذا شبيه بذلك؟ أو أن
شيئاً من الخلق كان كالله في هذا الأمر؟ كلا وحاشا فإن بقاء الجنة والنار وعدم
فنائهما متعلق بأمر الله - عز وجل- ليس متعلقاً بذاتهما وإنما هذا متعلق بأمر الله
- عز وجل- لهما إذن بقاء الجنة والنار ليس متعلقاً بذات الجنة والنار أي أن الجنة
والنار أوجدتا أنفسهما فصارتا على هذه الصورة من البقاء وعدم الفناء!!!! ولكن الله
- سبحانه وتعالى- هو الذي أمرهما بالبقاء فكان بقاؤهما بأمر الله ولو شاء الله غير(2/3)
ذلك لكان ولكن من جملة مشيئته أنه شاء بقاء الجنة وبقاء النار، أما بقاء ربنا –
سبحانه- فهو لازم لذاته، فلا يشبهه في ذلك شيء من خلقه فقال المصنف ( ليس لأوليته
ابتداء ولا لآخريته انقضاء) بعض الناس يعبر في قوله هو الأول فليس قبله شيء يعبر عن
معنى الأول بمعنى القدم وهذا التعبير ليس بالدقيق لعدة أمور:
الأمر الأول: أن هذا التعبير في باب الأسماء والصفات لم يرد.
الأمر الثاني: أن هذا اللفظ لفظ يشمل على أكثر من معنى فإن القديم ضد الجديد وإن
القديم - أيضاً- هو البالي، وكذلك القديم فيه معنى السبق، فلماذا نحيد عن اللفظ
الذي ورد في السنة كما ورد في الكتاب ونأتي إلى لفظ يحتمل المعاني المتعددة ؟.
الأمر الثالث: أن ذلك اللفظ لفظ القدم ليس من عبارات السلف في هذا السياق، نعم كان
النبي - صلى الله عليه وسلم- من جملة ما يدعو به عندما يدخل المسجد (وبسلطانه
القديم)، لكن أقول في هذا السياق سياق الأسماء والصفات، هذا اللفظ لم يكن من عبارات
السلف، ولذلك عبارة صاحبنا وإمامنا ابن أبي زيد القيرواني أشد وأولى من عبارة غيره
مثل عبارة الطحاوي - رحمه الله تعالى- [ قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] هذه
عبارة الطحاوي في عقيدته [قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] إذن هذه النقطة الأولى
فيها معنى الأول وفيها معنى الآخر، وأن لفظ الأول هو اللفظ الذي ينبغي أن يعض عليه
لكونه ورد في الكتاب والسنة وقلت لكم من قبل أن معنى الاعتقاد: الاتخاذ أن الإنسان
يتخذ الجمل النافعة الصالحة من الكتاب وصحيح السنة وأقوال الصحابة يتخذها فيحبها
ويتحمس لها وينشرح لها صدره، ويفرح لها قلبه فتثبت في هذا القلب وتقوى في هذا القلب
ويكون بذلك صاحب اعتقاد.
إذن من جملة اعتقادنا أن نعتقد: بأن الله تعالى أول لا شيء قبله وأن الله تعالى آخر
لا شيء بعده فهو أول بلا ابتداء آخر بلا انقضاء، هل هذه النقطة استوعبتموها جيدا.(2/4)
حدثْني أخي الحبيب هناك إشكال هذا الإشكال أن الله تعالى أثبت لنفسه البقاء وجعل
لبعض خلقه - أيضاً- صفة البقاء، فما هذا الخلق الذي أثبت الله له البقاء؟
بسم الله الرحمن الرحيم- الخلق الذي جعل الله له صفة البقاء هو الجنة والنار وكذلك
أهل الجنة وأهل النار.
قد يرد هنا إشكال أن شيئاً من الخلق قد شابه الله تعالى في صفة البقاء فكيف يرد على
هذا الإشكال؟
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يرد على هذا
الإشكار أن الله تعالى أراد لهما البقاء بأمره ولم يختارا ذلك بنفسهما إنما ذلك
بأمر الله وإن شاء لم يقدر لهما ذلك أما بقاؤه سبحانه أما بقاؤه - سبحانه وتعالى-
فهو دائم لا ينتهى جزاك الله خيراً.
"الأول" اسم من أسماء الله - عز وجل- وكذلك "الآخر" هذان الاثنان ما النصوص الدالة
عليهما؟
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله قول الله تعالى ? هُوَ
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ? وفي الحديث (اللهم أنت الأول
فلا قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء).
نأتي بعد ذلك إلى قول صاحبنا وإمامنا الشيخ الإمام ابن أبي زيد القيرواني - عليه
رحمة الله - (لا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون) لا يبلغ: أي
لايدرك أي لا يدرك كنه صفته: وكنه: مفعول به مقدم والتقدير لا يبلغ الواصفون كنه
صفته والكنه الحقيقة، والغاية وهناك فارق بين الصفة والوصف، فالصفة معنى قائم
بالموصوف، أما الوصف فهو كلام الواصف أو قول الواصف، إذن: قول الواصف هذا وصف أما
الصفة المعنى القائمة بالموصوف، عندما أقول: دخل العالم الجليل المسجد. يا ترى أين
الصفة هنا؟ دخل؟ لا. العالم؟ لا.. الجليل؟ هي هذه، المسجد هو المفعول به، عندما
نقول: الجليل يا ترى كلمة الجليل هذه اسم ذات أو اسم معنى؟ اسم معنى إذن كلمة
الجليل معنى يعنى ليس لها جرم ليس لها طول وحجم وارتفاع عندما نقول محمد يكون له(2/5)
عرض وطول وارتفاع يأخذ حيذاً في هذا الوجود لكن لما أقول: جليل، رحيم، خوف، رغبة،
رهبة، حب، هذه كلها معان أما عندما نقول: شجرة، محمد، سمكة، زهرة، كل هذه أسماء
ولكنها أسماء ذات.
فالاسم إما أن يكون اسم ذات وإما أن يكون اسم معنى فحينما يتعلق المعنى بشيء ما
فإن هذا المعنى يسمى صفة، إذن المعنى القائم المتعلق بالموصوف هذا هو الصفة، دخل
العالم الجليلَ أم الجليلُ؟ دخل العالم الجليلُ لأن العالم فاعل، إذن دخل العالم
الجليل المسجد عندما نقول: الجليل هذه صفة ، عندما أنا أتكلم وأقول: دخل العالم
الجليل المسجد إذن أنت تصف العالم، إذن هذا هو الوصف إذن هذا فرق بين الصفة وبين
الوصف. والواصف هو الذي يصف فهذا اسم فاعل والواصف الذي يصف فلا يبلغ كنه صفته
الواصفون، يعني المكلفون مهما أجهدوا أنفسهم في معرفة كنه أي حقيقة صفة الله - عز
وجل- من حيث الكيف فإنهم لن يستطيعوا ذلك أبدا فالمقصود لا يبلغ كنه صفته من حيث
الكيف فمهما بلغ المكلفون من علم فاء الله تعالى عليهم وأعطاهم إياه فإنهم لن
يستطيعوا أبدا أن يحيطوا وأن يدركوا حقيقة كيفية صفة الله - عز وجل .
إذن الاعتقاد الأثرى واعتقاد أهل السنة والجماعة في مسألة الصفات الربانية أنهم
يثبتون المعنى العظيم ولكن يفوضون الكيف، فهم مفوضة في الكيف فالله تعالى يثبتون
له استواء يليق بذاته وجلاله أما كيف استوى؟ ومتى استوى؟ وملابسات هذا الاستواء هذا
كله لا يخوضون فيه، بل إن الخوض في ذلك بدعة وضلالة والعياذ بالله، إذن السلف
يثبتون المعنى العظيم ولا يسألون عن الكيف ولا يجهدون أنفسهم في معرفة كنه هذا
الكيف فإنهم لن يدركونه أبدا والله - سبحانه وتعالى- إنما أعطى الناس ما عندهم من
علم لا ليستطيلوا به ولكن ليعلموا أن فوق كل ذي علم عليم ويعلم قول الله تعالى ?
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ? [الإسراء: 58]، وحسبنا أن نذكر(2/6)
أنفسنا لنعلم ضآلة ما حصلناه من علم وحقارة ما حصلناه من علم أن نذكر قول الملائكة
عندما قالت للرب الجليل سبحانه: ? سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا
عَلَّمْتَنَا ?[البقرة: 32]، فالمرء لا علم له إلا إذا فاء الله تعالى به عليه،
فإذا كنت لا تعلم كنه الصفة وكيفية الصفة لأن الله تعالى لم يعلم أحدا ذلك فكيف
تخوض في هذا الأمر، إذن من جملة الغيب الذي لا ينبغي الخوض فيه، أن تمسك عن الكلام
في كيفية الصفات ولكن اثبت المعنى العظيم ولا تسأل عن الكيف، دخل رجل إلى الإمام
مالك - رحمه الله تعالى- فسأله عن الاستواء ما معنى قول الله - عز وجل- ?
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? [طه: 5]، فنظر إليه الإمام مالك حتى علاه
العرق- سبحان الله- انظروا إلى أهل العلم قديماً كيف كانوا يتأثرون بالمواقف؟!!
وكيف كانوا يتفاعلون مع الناس؟!! وكيف كانوا ينفعلون مع الناس؟!! يعني ليسوا بهذه
الصورة من البلادة والبرود أبداً علاه الرحضاء العرق الشديد وقال له: الاستواء
معلوم أي معلوم في لغة العرب الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال
عنه بدعة وإني لأراك مبتدعا قم فقام الرجل.
إذن ينبغي للمكلف ألا يجهد نفسه إلا في الحيز الذي علمه الله تعالى إياه ولم يُعلم
الله تعالى الناس كيفية الصفات وإنما وقفهم على معاني الصفات. تقول: وهل الناس
كانوا يعلمون معاني الصفات؟ وهل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم الناس معاني
الصفات؟ الجواب: بأن الصفات والأسماء وردت في الكتاب والسنة ? اللَّهُ لا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? [البقرة: 255] الحي القيوم الحي: اسم، والصفة
الحياة، القيوم اسم والصفة القيومية ? وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [النحل: 60]،
العزيز اسم والصفة العزة . الحكيم اسم والصفة الحكمة، والصحابة كانوا يقرؤون القرآن(2/7)
وكانوا يسمعون النبي -صلى الله عليه وسلم- فهل يعقل أن يقرأ النبي -صلى الله عليه
وسلم- القرآن وأن يتكلم بالحديث مع صحابته وهو لا يعلم ما يتكلم؟ يعني النبي -صلى
الله عليه وسلم- عندما كان يقرأ القرآن كان يجهل معنى ما يتكلم أم كان يعلم معنى
القرآن الذي يتكلم به؟ نعم كان يعلم معنى القرآن الذي يتكلم به، الصحابة عندما
كانوا يسمعون القرآن من النبي -صلى الله عليه وسلم- هل كانوا يجهلون معنى ما يسمعون
أم كانوا يعلمون؟ ولو جهلوا لفظاً كانوا يسألون عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو
حدث لديهم لبس كانوا يسألون عنه النبي -صلى الله عليه وسلم . عندما سمع الصحابة قول
الله - عز وجل- في مسألة الظلم ? الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ? [الأنعام: 82]، قال
«الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟»، إذن هاهنا
سأل الصحابة، فهم الصحابة المعنى ولكن وجدوا أن هناك لبساً في هذا المعنى وأينا لم
يظلم نفسه إذن كلنا نظلم أنفسنا إذن لن نُحصِّل الأمن ولا الهداية لن نحصل الأمن في
الدنيا ولا في الآخرة ولن نحصل الهداية لا في الدنيا ولا في الآخرة فأينا لم يظلم
نفسه ولكم أن تتصوروا كيف سأل الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوه وهم خائفون
مذعورون إنها مسألة متعلقة بالمصير ليست متعلقة لا بالمرتب ولا الوظيفة متعلقة
بمصير الإنسان "وأينا لم يظلم نفسه" فبين لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك
المعنى ليس هو المعنى المقصود (ألم تسمعوا قول العبد الصالح وهو يعظ ولده ? يَا
بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ?؟) [لقمان: 13]
إذن الصحابة كانوا يعلمون معنى ما يسمعون من القرآن والسنة ومن جملة القرآن والسنة
الحديث عن الأسماء والصفات فكانوا يعلمون معاني الأسماء والصفات أما الكيف فكانوا(2/8)
لا يخوضون في ذلك أبداً ولا يسألون عنه أبداً لأنه من جملة الغيب الذي يجب عليك أن
تؤمن به.
قول المصنف ( ولا يحيط بأمره المتفكرون) الأمر: أمران:الأمر الأول: أمر ديني شرعي
والأمر الثاني: أمر كوني قدري، الأمر الديني الشرعي متعلق بمحاب الله تعالى
ومراضيه، إذن كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه ويأمر به إذن هذا أمر ديني شرعي كقول
الله - عز وجل- ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ
ذِي الْقُرْبَى ? يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى إذن هذه المأمورات متعلقة
بمحاب الله تعالى ومراضيه فالله تعالى يحب العدل ويحب الإحسان ويحب صلة الأرحام
وإيتاء ذي القربى يحب ذلك، إذن هذه المحبوبات متعلقة بالأمر الشرعي ولذلك أمر الله
تعالى بها والواجب على المسلم المكلف الأريب النجيب العاقل أن يجتهد في امتثال هذه
المأمورات الشرعية يطبق هذه المأمورات الشرعية فلا يمكن أبداً أن تزعم أنك تحب الله
- عز وجل- ولا تطيعه في محابه ومراضيه لا يمكن أبداً،أي أن الله - عز وجل- يحب
العدل ولا تكون عادلاً ولاتتصف بصفة العدل؟!! يحب الإحسان ولا تكون محسناً إلى نفسك
وإلى زوجك وأولادك وعشيرتك؟!! لا يمكن. ويحب أن تكون وصالاً للرحم وإيتاء ذي القربى
ثم تكون قاطعاً لذلك؟!! إذن الواجب على المكلف أن يمتثل الأمر الشرعي لأن امتثاله
هذا الأمر الشرعي يجلب عليه الخير والنعمة والرضا من الله سبحانه.الأمر الثاني:
الأمر الكوني القدري: وهذا متعلق بسلطان الله - عز وجل- وقهره لخلقه وجلاله وملكه
لهذا الكون فلا يكون شيء في هذا الكون متحركاً فيسكن أو ساكناً فيتحرك أو قائماً
فيرقد أو راقداً فيقوم لا يوجد شيء في هذا الكون إلا بإذن الله - عز وجل- إلا
بمشيئة الله - عز وجل- فهذا الكون كله متعلق بأمر الله - عز وجل- يستوي في ذلك
المسلم والكافر، المؤمن والمشرك، الصالح والطالح، العربي والعجمي، الإنسي والجني،(2/9)
الوحش والسبع، البحري والبري، الجماد ، الأوراق.... كل ما في هذا الكون إنما يتحرك
ويكون بإذن الله - عز وجل- وهذا قوله تعالى: ? إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? [يس: 82] فقوله (ولا يحيط بأمره
المتفكرون) هذه الآيات أو هذه الأمور الشرعية والكونية بها كثير من الحكم وما
يستطيع المتدبرون المتفكرون المتأملون أن يحيطوا بالحكم والأسرار المتعلقة بالأوامر
الشرعية والكونية نعم يمكن للمكلف أن يقف على بعض الحكم المتعلقة بالأوامر الدينية
يمكن؛ لأن الله تعالى أعلمه إياها يمكن ولكن ليس كل أمر شرعي بالضرورة يعرف المكلف
حكمته وسره، فلا يمكن للمكلف أن يحيط علماً بأسرار الأمر الشرعي والكوني قال: (ولا
يحيط بأمره - الكوني والشرعي- المتفكرون) ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(وما أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) أريد أن أنبه هنا إلى أن المقصود
بالاستطاعة هنا القدرة على الفعل لأن التكليف لا يكون إلا بالقدرة، والمشقة تجلب
التيسير ولا تكليف إلا بمقدور فما قدرت عليه كلفت به وما لم تقدر عليه لم تكلف به
وهذا من جمال الشرع ما تقدر عليه تكلف به وما لا تقدر عليه لا تكلف به - سبحان
الله- قال الله تعالى: ? لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَ ? [البقةرك
286] إذا كنت لا تستطيع القيام في الصلاة، القيام في الصلاة واجب ? وَقُومُوا
لِلَّهِ قَانِتِينَ ? [البقرة: 238] لم تستطع القيام في الصلاة، إذن لا يجب عليك
القيام صلِّ وأنت جالس لا أستطيع الجلوس صلِّ وأنت نائم وأنت مضطجع كما قال النبي -
صلى الله عليه وسلم- (صل قائماً فإن لم تستطع فصل قاعداً فإن لم تستطع فصل نائماً
أو مضطجعاً ) وهذا من حكمة الشرع أن التكليف متعلق بالقدرة فلا يأتِ إنسان يقول:
أنا لا أستطيع أن أصلى. هذا كاذب؛ لأنه يقدر على الصلاة يقول: لا أستطيع أن أصوم لا(2/10)
يقبل ذلك منه، يقول: لا أستطيع أن أحج بيت الله وعنده الزاد وعنده المال وعنده
الصحة فهذا لا يقبل منه. إذن التكليف مبني على القدرة فإذا ذهبت القدرة رفع التكليف
وما كان الحرج على مسلم في العبادات.
قال الإمام ( يعتبر المتفكرون بآياته ) الاعتبار: الاستدلال والاتعاظ ، ( يعتبر
المتفكرون بآياته) والمتفكرون: هم المتدبرون، والآيات تنقسم إلى قسمين: آيات دينية
شرعية وآيات كونية، الآيات الدينية القرآن الكريم كتاب الله - عز وجل- فالقرآن سور
والسور آيات وهذه الآيات آيات دينية شرعية، والقرآن كله كلام الله - عز وجل- ليس
بمخلوق منه بدأ وإليه يعود قال الله تبارك وتعالى ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ? [التوبة:
6]، ما المقصود بكلام الله؟ القرآن، الآيات إذن الآيات هي القرآن هي كلام الله - عز
وجل- هذه معنى الآيات الدينية، والآيات الأخرى: هي الآيات الكونية، الآيات الكونية
كخلق السماوات، خلق الأرض، خلق الإنسان ?وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ?
[الذاريات: 21]، ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ? [آل عمران: 190]، لآيات أي
لعلامات، ومنه قول الشاعر:
وفي كل شيء له أية *** تدل على أنه الواحد
إذن الآية بمعنى العلامة أو الأمارة، إذن المتفكرون المتدبرون يتدبرون الآيات
الدينية والآيات الكونية يتدبرون الآيات الكونية يقرؤون القرآن فيتدبرونه ويتعظون
بما فيه ويكون القرآن لهم حكماً وإليه أي إلى القرآن المرجع والمصير فالقرآن رسائل
من الله - عز وجل- إلى الناس ليزنوا أنفسهم بهذه الرسائل قال الله- تبارك وتعالى-
?أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ ? [محمد: 24]،
?أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ? والتدبر يكون بالقلب قال تعالى: ? إِنَّ فِي(2/11)
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
? [ق: 27] لمن كان له قلب فالمكلف لا بد أن ينظر في كتاب الله - عز وجل- ويتدبر
آيات الله - عز وجل- فلا يمكن أبداً أن يقول: إن المقصود بالمتفكرين العلماء والذين
يتدبرون القرآن هم العلماء هذا كلام غير صحيح، نعم العلماء هم أقدر الناس على تدبر
القرآن وعلى فهم القرآن؛ لما حازوه من الأدوات والعلوم التي بها ينظرون فيستنبطون
ويستدلون لكن التدبر المطلق هذا للناس كافة قال الله تعالى: ? وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ? [القمر: 17]، فلا بد للناس جميعاً
أن يجتهدوا في تدبر القرآن الكريم وأن يعلموا أنهم لن يصلوا إلى الله إلا بالتدبر
بتدبر القرآن ولذلك قال ( يعتبر المتفكرون بآياته ) بآياته ماذا؟ بآياته الدينية
وآياته الكونية ما من شيء مرتفع إلا يرتفع على عمد فأين العمد التي ارتفعت عليها
السماء؟ هذه الأرض مع اتساعها لا تميد ولا تضطرب ولا تتحرك فمن الذي أمسكها هذا
الإنسان عندما تنظر فيه وتتأمل- سبحان الله- تنظر إلى عينيه وإلى أنفه وإلى أذنيه
وإلى أسنانه وإلى فمه وإلى يديه وإلى رجليه هذا في الظاهر ثم تنظر إلى حركات
الأجهزة الداخلية هذه كلها آيات من الذي أحدث هذا؟!! ومن الذي أجرى هذا الإنسان إنه
هو من؟!! إنه الله فالإنسان يتدبر هذا جميعاً ليحب الله - عز وجل- ويستدل بهذا لا
أقول: على وجود الله ولكن ليستدل بذلك على أن الله تعالى لا إله معه ولا خالق غيره
فلا بد أن تنصرف إليه العبادة وأن تتجه إليه القلوب؛ لأن الناس جميعاً في حاجة
إليه، في وجودهم وإعدادهم وإمدادهم وهذه المعاني الفريدة الشريفة لن تكون إلا بتدبر
القرآن، أحبابي وإخواني القرآن ليس المقصود به أن نقرأه وأن نهزه كهز الشعر ولكن
لابد أن نتدبره وأن يكون لنا من القرآن أجزاء نقرؤها ونتأملها ونتدبرها ونجعلها(2/12)
كالقوانين التي نتحاكم إليها ( يعتبر المتفكرون) أي يستدلون ويتعظون بآياته، فإذا
فعلت ذلك ازدتَ إيماناً، كان الرجل من الصحابة يأخذ بيد صاحبه فيقول: هيا بنا نؤمن
ساعة فيجلسان فيقرآن القرآن ويذكران الله - عز وجل- ما شاء الله هذا الحديث أخرجه
البخاري تعليقاً وصله الإمام أحمد وابن أبي شيبة، من منا أخذ بيد أخيه وقال له:
هيا بنا نؤمن ساعة فيجلسان فيقرآن القرآن ويتدبران ويبكيان ويتأملان من منا يفعل
ذلك، حظنا من القرآن أن نجوده وهذا جميل ونريد أن نتعلم وجوه قراءاته وهذا جميل وأن
نتعلم العلوم المتعلقة به من الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد وأسباب النزول والمكي
والمدني والليلي والنهاري هذا كله جميل لكن أين قلبك من هذا جميعاً؟ ولذلك قال
الإمام العلامة صاحب الأدب والسلوك ( يعتبر المتفكرون بآياته) أخرج ابن أبي الدنيا
عن ابن أبي الحواري أن سفيان - رضي الله عنه - هو والفضيل باتا ليلة إلى الصباح
يتذاكران نعم الله - عز وجل- يتذاكران آيات الله يتذاكران نعم الله - عز وجل- يقول
أحدهما للآخر: ألم تر أن الله تعالى أحدث لنا كذا وكذا ألم تر أن الله تعالى فعل
لنا كذا وكذا ويقول الآخر له. إلى الصباح مجلس يتذاكران فيه آيات الله ونعم الله
وآيات الله فلابد أن يكون لنا مثل هذا الحظ الوافر حتى نُفَعِّل العقيدة ولا تكون
العقيدة مجرد معاني جامدة وأفكار صلبة أبداً لابد أن تكون العقيدة تمثل لنا روحاً
نسير به ونهجاً نقوم به - بإذن الله تعالى.
قال الإمام ( ولا يتفكرون في ماهية ذاته) هناك لفظ آخر للرسالة (ولا يتفكرون في
مائية ذاته) والمائية والماهية بمعنى واحد المائية متعلقة بـ "ما" نسبة إلى " ما "
فعندما تسأل تسأل بـ " ما " فالنسبة إلى" ما " مائية، وكذلك ماهية نسبة إلى " ما
هو " وهذان كلمتان منطقيتان يعني أهل المنطق والكلام هذان اللفظان يذكران كثيراً في(2/13)
كلامهم فقوله:( ولا يتفكرون في مائية أو ماهية ) والمقصود بذلك حقيقة ذاته، لا
يتفكرون في حقيقة ذاته، لم يقل المصنف: ولا يعلمون ماهية ذاته، لم يقل ذلك ولكن قال
( ولا يتفكرون في ماهية ذاته) لماذا؟ لأن السياق سياق تفكر ولا يحيط بأمره
المتفكرون فربما الإنسان وهو يفكر ينتهي به الأمر إلى أن يفكر في ماذا في ذات الله
- عز وجل ؟ يعني أنت تفكر في آلاء الله وتفكر في نعم الله وإحسان الله وغير ذلك
فربما زلف بك الشيطان وذلت قدمك ففكرت في ذات الله - عز وجل- فإذا وصلت إلى ذلك فلا
بد أن تمسك فكما ثبت في الحديث الصحيح (لا يزال الشيطان بالعبد إلى أن يقول: فمن
خلق الله؟ فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته) إذن لا يمكن أبداً ولا يجوز أبداً
للمكلف العبد العاجز الحقير الفقير أن يعمل عقله فيما في ذات الله - عز وجل- لأن
هذا أجل وأعظم أن يبلغه ذلك العقل البسيط عندما طلب موسى من ربه أن يراه قال له
الله - عز وجل- ? قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ? قال ربي سبحانه: ? فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ?ماذا حدث? جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا
أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ?[الأعراف: 143]، فإذا كان الإنسان لا
يستطيع أن يتحمل نظر الله تعالى إليه والجبل لم يستطع أن يتحمل نظر الله تعالى إليه
فكيف يمكن لعقلك البسيط الحقير الضعيف أن يحيط بذات الله - عز وجل ؟ هذا لا يمكن
أبداً ولذلك قال (ولا يتفكرون) الـ " لا " هنا هي لا النافية (ولا يتفكرون في ماهية
ذاته) - أيضاً- وجه ثان أن التفكر مرتبة تسبق العلم والإدارك فالإنسان قبل أن يعلم
الشيء فإنه يتفكر فيه ليتصوره فإذا تصوره وقف عليه علمه، فنفي التفكر وهو أدنى من
العلم والإدراك نفي لما هو أعلى من باب التنبيه وهذا أمر يعرفه الأصوليون، إذن نفي(2/14)
التفكر وهو أول الدرجات وأدنى الدرجات نفي لما هو أعلى فقال: (ولا يتفكرون في ماهية
ذاته) لا يمكن أبداً أن يتفكروا في ماهية ذاته أو أن يقفوا على ذلك الأمر ولذلك
كأنما سأل فرعون موسى ليحاججه قال له ? وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ? [الشعراء:23]،
يذكر الأصوليون أن " ما " وكذلك اللغويين يذكرون أن " ما " للسؤال عن غير العاقل
ولكن منهم من أجاز أن يسئل بها للعاقل والغالب على الاستعمال أن تستعمل ما لغير
العاقل قالوا ولذلك سأل فرعون فقال ? وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ? تحقيراً لموسى
ولرب موسى قال: ? وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ? إذن هذا السؤال بـ " ما " سؤال عن
مائية الله - عز وجل- بماذا أجاب موسى: ? قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ?[الشعراء: 14] إن كنتم توقنون وتؤمنون
أن السماوات مع اتساعها وأن الأرض مع انبساطها لها إله قادر هو الذي أوجدها فهذا
الإله القادر القوي الذي أوجد وخلق السماوات والأرض هو ربي الذي أدعو إليه، فرعون
لم ينتبه إلى الجواب، واستخف بموسى وكابر ولذلك قال لقومه ? أَلا تَسْتَمِعُونَ ?
ألا تستمعون لهذا الجواب العظيم؟ فرد موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ?
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ? أي ربي ربكم ورب آبائكم
الأولين، هل أنتم وجدتم هكذا خلقتم هكذا؟ من الذي أوجدكم ومن الذي أوجد آباءكم من
قبلكم؟ هذا إلزام من موسى لفرعون، عندها علم فرعون أنه مغلوب في هذه المناظرة وأنه
محجوج في هذه المناظرة، ولذلك شغب على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقال: ?
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ? [الشعراء: 27]،
وعند ذلك أراد موسى أن يبين له مائية الرب بياناً شافياً لا يمكن له أبداً أن يرده
أو أن يشغب فيه فقال: ? قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا(2/15)
إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ?[الشعراء: 28]، إذن لابد للمكلف ألا يجهد نفسه في البحث
عن كيفية الذات أو كيفية الصفة بل لابد له أن يؤمن بالله - عز وجل- وأن يؤمن
بأسمائه وصفاته ولا يبحث عن كيفية ذلك.
هذا هو المختصر وأنبه في نهاية هذا الشرح إلى خطورة التأويل الكلامي، هذه فقرة
أقرؤها على حضراتكم وحاولوا أن تتصوروا لو أن رجلاً مبتدأ الإيمان أو أن رجلاً في
مقتبل طريق الهداية ورزق برجل من المتكلمين يوضح له أمور الاعتقاد كيف يوضح متكلم
أمور الاعتقاد لهذا الرجل البسيط بهذه الصورة التي سأقرؤها عليكم؟ حتى تعلموا ما
منَّ الله تعالى عليكم من هذا المنهج السلفي الأثري الطيب الذي يميل إلى بيان
المجملات الاعتقادية بطريقة طيبة يقول:( فإذا سأل سائل) انظر سيدنا موسى عندما قال
له فرعون ? وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ? قال : ? قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ? وفي المرة الثانية قال: ?
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ? وفي المرة الثالثة قال ماذا؟ ?
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ ? إجابات موسى سهلة أم صعبة مفهومة يعني لو رجل على قارعة الطريق رجل
بسيط عامي وسمع هذه الآيات القرآنية يفهها أو لا يفهمها؟ يفهمها.
نسمع إلى طريقة المتكلمين على هذا السؤال لو سألنا رجلاً متكلماً فقلنا له: وما رب
العالمين؟ اسمع إجابات المتكلمين وقارن بين رد موسى ورد هذا المتكلم «فإذا سأل سائل
فقال أخبرني عن الباري ما هو؟ قسمنا عليه بما يحتمله سؤاله ) اسمع تصور لو أن موسى
قال هذا الكلام لفرعون قال له: ( قسمنا عليه بما يحتمله سؤاله فقلنا: إن أردت ما
جنسه ونوعه فليس بذي جنسه ولا نوعه وإن أردت ما اسمه فاسمه الله الرحمن الرحيم الحي
القيوم وإذا أردت ما صنيعه فالإنعام على عباده ) ما رأيكم في ذلك؟(2/16)
نقولها مرة ثانية: ( فإذا سأل سائل فقال أخبرني عن الباري ماهو؟ سؤال عن الماهية،
إذن هذا السؤال يشبه سؤال فرعون لموسى ? وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ? قسمنا عليه
بما يحتمله سؤاله فقلنا: إن أردت ما جنسه ونوعه؟ سبحان الله ما جنسه ونوعه؟ فليس
بذي جنس ولا نوع، فأي واحد بسيط سيقول: ما معنى الجنس والنوع؟ إذن دخلنا هنا في شرح
للشرح طريقة لا يمكن أبداً أفضل الطرق طريقة القرآن في بيان مسائل الاعتقاد والله
وما ضل الناس إلا بهجرهم بيان الله وبيان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبيان الصحابة
الكرام لمعاني الاعتقاد ما ضل الناس إلا بتركهم هذا البيان الشريف فقلنا:( إن أردت
جنسه ونوعه فليس بذي جنس ولا نوع وإن أردت ما اسمه فاسمه الله الرحمن الرحيم الحي
القيوم، وإن أردت ما صنيعه فالإنعام على عباده) إذن طريقة القرآن أفضل من هذه
الطريقة، نسأل الله تعالى أن يهدينا للقرآن وأن يجعلنا من أهل القرآن . نسأل بعضاً
من الأسئلة:
قول المصنف - عليه رحمة الله - ( لا يبلغ كنه صفته الواصفون) مامعنى الكنه؟ كلمة
واحدة
الكنه: الحقيقة
في قول المصنف ( لا يبلغ كنه صفته الواصفون ) ما المطلوب على المكلف تجاه صفات الله
- عز وجل-؟
بسم الله يدرك المعنى الصحيح أن يؤمن ويستدل على المعاني الصحيحة لله - عز وجل-
دون الكيفية دون أن يخوض في الكيفية أن يؤمن بالمعنى الشريف دون أن يسأل ويخوض في
الكيفية
وهنا عندما قال بعض الناس بأن مذهب السلف التفويض هذه الكلمة تحتاج إلى تفصيل فإن
أراد أو قصد بالتفويض تفويض المعنى فليس هذا مذهب السلف ليس مذهب السلف تفويض
المعنى بل لا بد من إثبات المعنى الشريف لأننا قلنا: إن تفويض المعنى معنى ذلك أن
النبي - صلى الله عليه وسلم- تكلم بكلام لم يفهمه وكذلك الصحابة تكلموا بكلام لم
يفهموه وإن قصد تفويض الكيف فهذا هو المعنى الصحيح.
إذن السلف مفوضون من حيث الكيف لا من حيث المعنى هذه مسألة مهمة، فلو إنسان ظن أنه(2/17)
أحاط علماً وأنه بمقتضى هذا العلم قد يستطيع أن يدرك ما لا يدركه غيره وأن يقف على
كنه الذات والصفات هل يمكن أن تذكره ببعض الآيات القرآنية؟
قول الله تعالى: ? وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ?[الإسراء:
58]،- ما شاء الله- هذه الآية ينبغي أن تكون عنواناً لنا مهما أوتيت من العلم فما
أوتيته من العلم إن هو إلا نذر يسير- نسأل الله تعالى أن يعلمنا.
وقوله تعالى: ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ?[يوسف: 76] نعم وقول الملائكة
? سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ? [البقرة: 32]،وهذه مسألة
مهمة جداً انظر الملائكة العباد المكرمون الذين يمتثلون أمر الله - عز وجل-
ويطيعونه ويخافونه ويرهبونه ويخشونه، وهم من أعظم الخلق خشية لله - عز وجل- يقولون
? سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ?
فيه كلمة يسيرة الآيات تنقسم إلى قسمين ما هما؟
آيات دينية مثل القرآن وآيات كونية مثل خلق السماوات والأرض
الأمر كذلك ينقسم إلى قسمين ما هما؟
الأمر ينقسم إلى قسمين: الأمر الكوني الأمر الشرعي الديني والأمر الكوني أكتفى
بهذا القدر من الأسئلة وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى وأن يفقهنا
ديننا وأن يجعلنا من عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وصلتنا إجابات: الأول: هو عبد الله أبو محمد بن أبي زيد واسم أبي زيد عبد الرحمن
سكن القيروان وكان إمام المالكية في وقته وقدوتهم وجامع مذهب مالك وشارح أقواله
وكان واسع العلم كثير الحفظ والرواية وكتبه تشهد له بذلك فصيح القلم ذا بيان ومعرفة
بما يقول بصير بالرد على أهل الأهواء يقول الشعر ويجيده ويجمع إلى ذلك صلاحاً تاماً
وورعاً وعفةً وحاز رئاسة الدين والدني وإليه كانت الرحلة من الأقطار ونجب أصحابه
وكثر الآخذون عنه.(2/18)
إجابة السؤال الثاني: هو كل ما يعتقده المسلم عن ربه وصفاته وأسمائه والفرق بينهما
أن العقيدة تتعلق بالأسماء والصفات أما التوحيد فيتعلق بالألوهية والربوبية
ما رأيكم يا إخواني في هذه الإجابة؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نقول: إن العقيدة أوسع من
التوحيد فإن التوحيد يتعلق بالربوبية والألوهية وأما العقيدة فتتعلق بالله - عز
وجل- وجل وتتعلق بالملائكة وتتعلق بالأنبياء والصحابة وتتعلق بكل شيء يعتقده
الإنسان المسلم المكلف.
قلت: بأن مفهوم الاعتقاد والعقيدة أوسع من التوحيد فالتوحيد عندما يطلق يطلق على ما
اصطلح عليه المتأخرون أنواع التوحيد الثلاثة أو الأنواع الاثنين توحيد الله - عز
وجل- بأفعاله من الخلق والتدبيروالإحياء والإماتة وهذا ما يسمى بتوحيد الربوبية
وتوحيد الله - عز وجل- في ذاته وأسمائه وصفاته وهذا ما يسمى بتوحيد الأسماء
والصفات، التوحيد الثالث هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد من النحر والنذر
والرجاء والدعاء والرغبة والرهبة والإنابة والاستعانة والاستغاثة والتوكل والحسب
إلى غير ذلك وهذا ما يسمى بتوحيد القصد والطلب أو توحيد الألوهية.
الاعتقاد أوسع يشمل هذا جميعاً كما يشمل - أيضاً- الإيمان بالملائكة، يشمل الإيمان
بالجنة والنار، يشمل كذلك الغيب، يشمل كذلك القدر، يشمل كذلك الإيمان بالرسل، يشمل
كذلك الإيمان بالصحابة، يشمل كذلك الإيمان بما يكون في آخر الزمان من علامات الساعة
وقرب انتهاء الزمان، يشمل كذلك ما يكون بين يدي الحساب وما بعد الحساب من البعث
والنشور و الحساب والوزن، ثم بعد ذلك الصراط والجنة والنار هذا كله يدخل في باب
الاعتقاد فباب الاعتقاد أوسع من باب التوحيد
إجابة السؤال الثالث: لأن هناك آلهة أخرى باطلة باطلة.
لا تسمي العرب الصنم إلهاً إلا إذا اعتقدت فيه،فكل الآلهة باطلة أي كل الآلهة أو كل(2/19)
الأصنام التي يعتقدها الكفار كلها باطلة أما الإله الحق المستحق للعبادة المتفرد
بالعبادة هو الله - سبحانه وتعالى- أما مجيء لا إله غيره بعد قوله الله إله واحد
نسمع الإجابة؟
قوله لا إله غيره بعد قوله الله إله واحد هو أن النهي للتأكيد وأن لا إله نفي عام
لإثبات الخاص لله - سبحانه وتعالى-
السلام عليكم ورحمة الله عندي سؤال يقول الشيخ قضية نفي الكيفية أو إثبات الكيفية
ذكر الشيخ أنه ليس تفويض المعنى وإنما تفويض الكيف فأنا أسأل سؤالاً بالنسبة لقول
الله - سبحانه وتعالى- ? نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ? [التوبة:67 ] ? وَجَاءَ
رَبُّكَ ?[الفجر: 22]نثبت أصل المجيء وأصل النسيان ثم نفوض الكيف أم ماذا؟
أسماء الله - عز وجل- هناك أسماء مطلقة لما فيها من معاني المدح المطلق كقول الله -
عز وجل- ? المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ ? [الحشر:
23]،وهناك أسماء لا تطلق على الله - تبارك وتعالى- إلا من باب المقابلة ولا يجوز
اشتقاق اسم ولا صفة منها مثل ? وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
المَاكِرِينَ (30) ?[الأنفال: 30] ? نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ? فلا يمكن أبداً
أن نقول: إن من أسماء الله تعالى الناسي أو نقول: إن من أسماء الله تعالى الماكر
وأن من صفات الله تعالى المكر ومن صفاته النسيان فهذه أسماء أو هذه ألفاظ وردت في
سياقات المقابلة ولا يمكن نزعها من هذه السياقات، ,هذا موجود في اللغة أن هناك
ألفاظاً لا تفهم إلا في سياقها وانتزاعها من هذه السياقات مفسد لهذه الألفاظ مثل
هذه الألفاظ التي ذكرت، بل أحياناً تكون العبارة بمجملها دالة لا بمفرداتها عندما
أقول دخل محمد المسجد فالعبارة هنا دالة بمفرداتها دخل مفهوم معناها ومحمد مفهوم
معناه والمسجد مفهوم معناه، وعندما أقول خذ الباب في يدك فلو فهمنا هذه الجملة(2/20)
باعتبار المفردات مادل ذلك على المقصود عندما أقول خذ الباب في يدك يعني أغلقه ولو
أخذناه باعتبار المفردات ما دل على هذا المعنى فإخراج الألفاظ عن سياقاتها مفسد
لهذه الألفاظ.
إذن النوع الثاني ألفاظ لا تطلق على الله تعالى إلا من باب المقابلة والجزاء نسوا
الله فالمقابلة والجزاء فنسيهم، يمكرون بالمؤمنين ويحيكون لهم المخططات ويدبرون لهم
ليل نهار ويريدون القضاء عليهم ما الذي يحدث لأن المسلمين في مكرهم لا يكافئون مكر
الكفار فالكفار أصحاب سطوة وقوة ومنعة والمؤمنون قد يكونون من الضعف والقلة وعدم
الإمكانيات ما لا يستطيعون مجابهة مكر الكافرين والله تعالى ولي المؤمنين فيمكر
بالكافرين ? وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ (30) ?
ويكون ذلك شبيهاً بقول الله تعالى ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ?فماذا يصنع الله تعالى بهم ?
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) ? [الأنفال: 36].
إذن ماذكرت أخي الحبيب هذه في سياقات ولا يمكن انتزاع الاسم منها ولا يمكن إفراد
المعنى عن سائر ألفاظه في هذا السياق. والله تعالى أعلى وأعلم.
أما الجملة الثانية في قول الله تعالى ? وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ
? فهي على حقيقتها إثبات صفة المجيء لله - عز وجل- لأننا لو قلنا: إن المقصود وجاءت
الملائكة لكان ذلك مفسداً للمعنى، لو قلنا: وجاء أمر ربك ، وجاء ربك المقصود
بالملائكة لكان ذلك مفسداً للمعنى ولو قلنا: وجاء أمر ربك لكان ذلك مفسداً للمعنى
ولكن الأمر على حقيقته والعبرة كما قال العلماء أن اللفظ إنما يحمل على ظاهره ولا
يعدل عن ذلك الظاهر إلا بنص أو قرينة قوية.
السلام عليكم ورحمة الله لم أفهم معنى المائية والماهية؟(2/21)
الماهية نسبة إلى " ما هو" والمائية نسبة إلى" ما " فالكلام مفهوم، والمقصود
بالمائية أو الماهية أي الحقيقة.
السلام عليكم ورحمة الله: قول فرعون لموسى - عليه السلام- ? وَمَا رَبُّ
العَالَمِينَ ?على سبيل أنه يقصد التحقير والتقليل سمعت في حديث أم زرع قول المرأة
عن زوجها زوجي مالك وما أدراك ما مالك. فهي كانت تصف به على سبيل التعظيم فهل بينت
لنا الإشكال يا شيخ؟
الكلمة تتفاوت معانيها بتفاوت السياق فقد تكون في سياق لها معنى وفي سياق آخر لها
معنى مختلف، سواء كانت هذه الكلمة اسماً أو كانت هذه الكلمة أداة أو كانت هذه
الكلمة حتى فعلاً، فعندما أقول: رأيت عيناً تتفجر من الصحراء فهذه العين تحمل على
عين البترول كما تحمل على عين الماء فإذا قلت: رأيت عينا تتفجر في الصحراء يشرب
منها الناس. لحمل ذلك على معنى العين النابعة،ولو قلت: ذهبت لأكشف على عيني. فإن
المقصود بالعين هي العين الجارحة وعندما أقول: أمسك جنودنا بعين العدو. فالمقصود
بالعين هنا العين الجاسة وكذلك عندما أقول: أذهب إلى الشهر العقاري لأسجل عيني.
فليس المقصود بالعين هنا الجارحة ولكن المقصود بالعين هنا العقار، الملك الذي تملكه
وعندما أقول: مررت بفلان عينه. فلا تقصد بالعين العين الجارحة ولكن بالعين هنا
الذات وكذلك قول أم زرع " وما أبو زرع " هي هنا تعظم زوجها لأن كل امرأة تفخم أمر
زوجها وتذكر من زوجها ما تذكر لا تستخف به وإنما تفخم زوجها فالسياق يدل على
التعظيم أما فرعون رجل يكفر بالرب وسبق أن ذكرت أن الطبري قد روى بإسناد فيه كلام
من حديث عبد الله بن عباس أن فرعون كان يُعبَد ولا يَعبد وكان فرعون كما قال ربنا:
قال ? مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ? [القصص: 38] وقال ? فَأَوْقِدْ لِي
يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ? فكان يريد أن يبني هامان له صرحاً لعله يبلغ أسباب(2/22)
السماوات والأرض حتى يطلع على إله موسى وإنه ليظنه كاذباً يعني كان يزعم بأن موسى
كاذباً فيريد أن يطلع إلى السماء ففرعون كان مكابراً و كان مستخفاً بدليل قول الله
- عز وجل- في سورة الإسراء إن موسى قال له: ? لَقَدْ عَلِمْتَ ? أي لقد علمت يا
فرعون ?مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ
وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ?[الإسراء: 102]، أي هالكاً إذن
فرعون كان يعلم الله - عز وجل- وكان يعلم أنه في السماء ولذلك قال ابن صرحاً لعلي
أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى إذن يعلم أن الله تعالى في السماء
ويعلم أن هناك إلهاً قوياً قادراً ويعلم أن هذا الإله هو المستحق للعبادة يعلم ذلك
ولكن يكابر ويستخف بذلك الإله حتى ينفر الناس من عبادته ولذلك قال: ? وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ ? وهذا الوجه ذكره بعض المفسرين والله أعلى وأعلم.
السلام عليكم ورحمة الله بالنسبة للقائلين بقدم العالم أرجو توضيح هذا المعنى
وتوضيح القدم الجنسي والقدم النوعي وهل يصح أن شيخ الإسلام قال بحوادث لا أول لها
أرجو توضيح هذه المسألة؟
أنا قرأت ما أستطيع قراءته من تراث شيخ الإسلام ابن تيمية لا أزعم أني أحطت بكل ما
قال شيخ الإسلام، ولكن أستطيع أن أزعم لنفسي- وأنا أحقر من أن أزعم لنفسي شيئاً
شريفاً- أني قرأت ما به أستشعر كلام شيخ الإسلام وأتذوق شيخ الإسلام، القول بقدم
العالم لم يقل بذلك شيخ الإٍسلام أبداً بل إن القول بقدم العالم ليس من كلام أهل
الإسلام أصلاً وإنما الذين ذكروا أن هناك موجودات قديمة غير الله تعالى هم الثانوية
وهذه الطائفة ملحدة كافرة قالت: بأن هناك إلهين إله الظلمة وإله النور فكانوا
يعبدون النور والظلام ويذكر أن المجوس كانوا يقولون كلاماً شبيهاً لذلك ولكن الثابت
أن القول بقدم الظلام وقدم النور قول الثانوية إذن هذا القول لم يقله أحد من أهل(2/23)
الإسلام فكيف يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية لعلهم فهموا ألفاظاً بالفهم الخاطئ وشيخ
الإسلام منها براء وشيخ الإسلام اتهم باتهامات هو منها بريء وذكر شيخ الإسلام في
مجموع الفتاوى بعض هذه الاتهامات ودافع عن نفسه كقول بعض المشاغبين قال بأن الله
تعالى استوى على عرشه كما أستوي أنا على ذلك الكرسي ثم جلس على كرسيه، هذه المقولة
ذكرها شيخ الإسلام أن المشاغبين والشانئين يذكرونها عنه وبرأ نفسه من هذه المقولة،
فشيخ الإسلام بريء من ذلك والله تعالى أعلى وأعلم ، أما مسألة النوع والجنس والكم
والعرض والوجود والعدم إلى غير ذلك من المصطلحات - بإذن الله - تعالى لن نخوض فيها
ولن نذكرها لإخواننا ولن نبينها لأنها من المصطلحات الكلامية التي جَهلُها في بيان
مسائل الاعتقاد على طريقة السلف أوفق وأفضل - بإذن الله - تعالى، كان الإمام أحمد -
عليه رحمة الله -إذا حوجج في مسألة الكلام كان يقول: والله لا أقول إلا كما قال
الله ? وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللَّهِ ?[التوبة: 6] فالأولى أن نرجع إلى الجمل الثابتة من الكتاب والسنة
وكلام الصحابة الكرام وتابعيهم والتابعين والأئمة الأعلام وبارك الله تعالى فيكم.
يقول: هل يدخل المتأول في باب من أبواب الكفر؟
أبداً المتأول لا يكون كافراً ولا يدخل في الكفر بل هو خارج من الكفر بالتأويل فإن
من العوارض التي بها لا يحكم على المكلف بالكفر من هذه العوارض: الجهل والخطأ
والنسيان وعدم الإدراك وكذلك التأويل فهذه كلها عوارض تعترض أهلية المكلف فلا يكون
بها مآخذاً لا سيما التكفير، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية مقتفياً أثر أسلافه من
الأئمة الفضلاء يقول: إن من أورع الناس من أن ينسب لمسلم فسقاً أو بدعةً أو نفاقاً
أو كفراً حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يكفر من خالفها. والمعلوم أن المتأول(2/24)
معذور ولذلك عندما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة لم يقاتلهم قتال الذين تركوا أصل
الدين أو ادعوا النبوة يعني لم يقاتل أبو بكر مالك ابن نويرة وبني اليربوع من بني
تميم كما قاتل أتباع مسيلمة الكذاب أبداً كان النوع مختلفاً قاتل مسيلمة الكذاب على
أنه كافر خارج عن الإسلام يفيء المال وتسبى النساء والذرية أما بالنسبة للذين
منعوا الزكاة لأنهم كانوا متأولين لقد جمعوا الزكاة وقالوا: نعطيها للنبي - صل الله
عليه وسلم- وكادوا أن يذهبوا بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي النبي -صلى
الله عليه وسلم- فقالوا: لا نعطيها لابن أبي قحافة كنا نعطيها للنبي- صلى الله
عليه وسلم- فيأخذها ويدعو لنا ويصلي علينا أما اليوم فلا نعطيها لغيره فتأولوا قول
الله - عز وجل- ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم
بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ? [التوبة: 103]، فقالوا:
هذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قاتلهم أبو بكر والصحابة قاتلهم على
أنهم متأولون فلم يقتلوا جريحاً ولم يسبوا نساء ولا ذرية ولم يفيئوا مالاً بل
قاتلوهم على أنهم مسلمون متأولون إذن التأويل عذر مانع من التكفير والله تعالى أعلى
وأعلم.
قلتم إن الأمر أمران: أمر ديني شرعي وهو يجب على كل مسلم مكلف عاقل أن يجتهد في
المأمورات الشرعية وأمر ثانٍ وهو الأمر الكوني القدري وهذا متعلق بسلطان الله
وقدرته وإذنه ومشيئته فكيف إذا قال قائل: مادام كل شيء بأمر الله فكيف أجتهد في
تحقيق الأمر الشرعي؟
اعلم بأن الله - تبارك وتعالى- يحب للعبد أن يأتي محابه ومراضيه والعبد اسمه عبد،
ما معنى عبد؟ أن له سيداً يا ترى من سيدك؟ هو ربك فإذا أمرك ربك وسيدك ومولاك فلابد
أن تقول: سمعت وأطعت ? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا(2/25)
?[النور: 51] إذن أنت في باب الأمر الشرعي الديني قل: سمعت وأطعت، وامتثل في باب
الأمر الكوني يجب عليك أن تتأمل وأن تسلم وأن ترضى هذا عموماً أما الاحتجاج بالقدر
على معصية الله - عز وجل- فهذا مما لا ينبغي ولا يجوز فالاحتجاج بالقدر إنما يكون
في المصائب لا في المعائب والمصائب هي النوازل والكوارث والأحداث التي تصيب المرء
والمعائب هي المعاصي فلا يحتج بالمشيئة أو بالقدر على معصية الله - عز وجل-
والاحتجاج بالقدر على المعصية فيه تشبه بالمشركين حينما احتجوا بمشيئة الله تعالى
على كفرهم وشركهم. والله تعالى أعلى وأعلم.(2/26)
الدرس الثالث
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وأحبابه ومن والاه ثم أما بعد:
تكلمت مع أحبتي الكرام - بارك الله تعالى فيهم - في الدرس الفائت عن بعض ما يتعلق
بذات الله تعالى وصفاته مما لا يستطيع المتفكرون أن يحيطوا به، واليوم - بإذن الله
تبارك وتعالى- نتكلم عن بعض المعاني والعناصر التي يشتمل عليها درس اليوم:
نتكلم- بإذن الله- عن:
1- إثبات بعض الصفات لله - سبحانه وتعالى- كصفة العلم والقدرة والتدبير والكبر
2- ونتحدث أيضاً عن إثبات الكرسي والعرش لله - سبحانه وتعالى- هذا ثاني
3- إثبات أن الله تعالى عالم فوق عرشه بذاته.
4- نتكلم عن إحاطته - سبحانه وتعالى- بخلقه.
والله تعالى أسأل أن يعيننا لمحابه ومراضيه تفضل يا أخي الحبيب.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه
السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم، العليم الخبير المدبر القدير
السميع البصير العلي الكبير وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه ، خلق
الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد وما تسقط من ورقة إلا
يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.)
- سبحانه وتعالى-، بسم الله الرحمن الرحيم قول ابن أبي زيد -رحمه الله تعالى- (
?وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ?
[البقرة: 255] ) هذه الجمل الأربع قطعة من آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب
الله - عز وجل- كما ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبيّ -رضي الله عنه . ومثلها من
آي القرآن في الاشتمال على عشر جمل قول الله - عز وجل- ? فَلِذَلِكَ فَادْعُ(3/1)
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ (15) ? [الشورى: 15]،
لو تأملت هذه الآية من سورة الشورة لوجدتها -أخي الحبيب- اشتملت على عدد عشر قطع أو
عشر جمل مثل ما اشتملت آية الكرسي، وهذه الآية من سورة الشورى تبين معالم الشريعة ،
وهذه الآية -آية الكرسي- تبين معالم الإيمان والتوحيد فمن عمل بهاتين الآيتين كان
قد عمل بالإيمان كما عمل بالشريعة - والله تعالى يوفقنا- وفي هذه الآية قول الله -
عز وجل- ? وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ? فيها
إثبات لصفة العلم وأنه الله تعالى علمه محيط بكل شيء وهذا كقوله ? لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْماً (12) ?[الطلاق: 12]، بكل شيء علماً أجمع اللغويون والأصوليون على أن
أبلغ صيغة من صيغ العموم صيغة" كل"، فهذه الآية فيها دليل على أن الله تعالى علمه
محيط بكل شيء، وعلم الله - سبحانه وتعالى- إما أن يكون علم ذات وصفة، أي علم يتعلق
بذاته وصفته أو أن يكون هذا العلم علماً متعلقاً بخلقه، فالله - تبارك وتعالى- كما
هو عليم بذاته وصفته هو عليم أيضاً بخلقه سواء كان هذا الخلق من الخلق العلوي أو
السفلي أوالبري أو المائي أو الجوي، فالله تعالى أحاط بكل شيء علماً، وقوله سبحانه:
? وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ? فما من أحد أوتي
علماً إلا وهذا العلم الذي حصله، حصله بمشيئة الله تعالى له، ولولا أن الله تعالى
شاء له أن يعلم هذا الشيء ما علمه، وما حصله ففيه دليل على أن الإنسان مهما بلغ من(3/2)
العلم فهو فقير إلى الله - عز وجل- كي يعلمه، وهو محتاج إلى الله - عز وجل- كي
يفهمه، فلا يظن إنسان أنه إذا حصل علماً صار بذلك متمكناً أبداً فإن الله تعالى
يفتح من باب علمه لعباده ما شاء لمن شاء- واللهَ تعالى أسأل أن يعلمنا ديننا- قوله
تعالى ? وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ? السماوات سبع وكذلك الأراضين
سبع فإذا كان الكرسي سعته أوسع من السماوات بعددها والأرضين بعددها فهذا دليل على
عظم الكرسي، وكرسي الله - عز وجل- ليس عرشه فالكرسي مخالف ومغاير للعرش وأخرج
الإمام الحاكم من حديث عبد الله بن عباس:(أن الكرسي موضع القدمين) وهذا الحديث
أخرجه الإمام الحاكم وقال على شرط الشيخين ولم يتعقبه الإمام الذهبي هذا الحديث
المرفوع منه هو الضعيف، أما الموقوف على عبد الله بن عباس فيمكن لهذا الإسناد أن
يمشى، وهذا شبيه أي إثبات الكرسي في قوله ? وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ ? شبيه بقول الإمام الطحاوي- عليه رحمة الله- «والعرش والكرسي حق»
وكلمة حق معناها: ثابت لا تردد فيه ولا اضطراب فكل أمر ثابت لا تردد فيه ولا اضطراب
يسمى حقاً ومن ذلك سمى الله تعالى نفسه حقاً في قوله ? وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
هُوَ الحَقُّ المُبِينُ (25) ?وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم من الليل فيثبت
أن الله تعالى حق وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة حق وأن النبيين حق وأن
محمداً -صلى الله عليه وسلم- حق، فالحق يقصد به الثابت الذي لا تردد فيه ولا
اضطراب إذن ? وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ? كرسي الله - عز وجل-
والإضافة هنا إضافة تشريف، هذا الكرسي عظيم جداً أوسع من سعة السماوات والأرض فلابد
من الإيمان بهذا الكرسي، والأمر- كما قال الطحاوي- عليه رحمة الله- «والعرش والكرسي
حق » قوله - سبحانه وتعالى- في الآي وقول ابن أبي زيد في عقيدته:( ولا يؤوده(3/3)
حفظهم) أي لا يشق عليه ولا يتعبه أن يقوم بحفظ والسماوات والأرض، انظر إلى
السماوات مع اتساعها وعددها ومن فيها، وإلى الأرض وعددها وسعتها ومن فيها، فالله
تعالى يحفظ كل هذه العوالم دون أن يتعب ودون أن تحدث له مشقة وهذ دليل على عظم
قدرة الله - سبحانه وتعالى- وفي قوله تعالى ? وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ?
وأيضاً في عقيدة ابن أبي زيد (وهو العلي العظيم) هذا اسمان- العلي العظيم - يدلان
على صفتين وهما: صفة العلو والعظمة.
وعلو الله - عز وجل- وجل على ثلاثة أنواع- إذا أطلق هذا الاسم وهو العلي أو أطلقت
هذه الصفة: العلو فيقصد بها هذه الأنواع مجتمعة:
الأول: علو الذات.
الثاني: علو القدر.
الثالث: علو القهر.
فهو - سبحانه وتعالى- عالٍ في ذاته، وهو - سبحانه وتعالى- عالٍ في قدره
وهو - سبحانه وتعالى- أيضاً عالٍ في قهره لخلقه - سبحانه وتعالى- وإذا تأملنا أسلوب
القرآن وسنن القرآن في مجيء الآيات لوجدنا أن الله - سبحانه وتعالى- يقرن مع اسمه
العلي يقرن ثلاثة أسماء:
الاسم الأول: العظيم. والاسم الثاني: الكبير. والاسم الثالث:
الحكيم.
وما العلاقة بين هذا جميعاً ؟ العلاقة أن العلي بذاته وبقدره وبقهره. العلي هذا
متعلق بالرب سبحانه، إذن هذا الاسم من الأسماء الدالة على ربوبيته سبحانه، وكذلك
العلو من الصفات الدالة على ربوبيته سبحانه، والرب: هو القائم على خلقه فهذا يقتضي
أن يكون الله - عز وجل- كبيراً وأن يكون عظمياً وأن يكون حكيماً، ولذلك قال: ?
وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ? وقال سبحانه: ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياًّ
كَبِيراً (34) ? [النساء: 34]، وقال الله تعالى في آخر سورة الشورى: ? إِنَّهُ
عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) ? [الشورى: 51]، فهذا كله للدلالة على تمام وكمال ربوبيته
المستلزمة لعبوديته والانقياد إليه سبحانه.
هذه القطعة من قول الشيخ ما رأيكم فيها؟ هذه القطعة اشتملت على عدة معان. ما هذه(3/4)
المعاني التي اشتملت عليها هذه القطعة؟
إثبات أن الله بكل شيء عليم عندما تتكلم عن العلم "فبكل شيء" عندما تتكلم عن
القدرة "على كل شيء" هذه فكرة وهذا معنى. أريد معنى ثان.
إثبات أن لله اسمين هما العلي العظيم وصفتين هما العلو والعظمة
أيضاً هناك فكرة أخرى في هذه القطعة، ما هي؟
إثبات أن الإنسان مهما بلغ من العلم فهو فقير إلى الله تعالى ليعلمه ما شاء الله
هل هناك من الآيات التي تستحضرها في هذا المعنى؟? وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ?
[طه: 110] ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، هل من فكرة أخرى؟
إثبات أن العلم يتعلق بذات الله وصفاته والعلم يتعلق بخلق الله علم الله لمخلوقاته
جميع إن علم الله تعالى منه ما يتعلق بذاته وصفته ومنه ما يتعلق بخلقه، فلاأحد
يستطيع أن يعلم شيئا من علوم الذات والصفة أو حتى من علوم الخلق إلا إذا شاء الله
له ذلك، يعني هذه الكاميرا التي تتحرك إنما تتحرك بمشيئة الله - عز وجل- ، وهذا
العلم المتعلق بالكيمياء أو الفيزياء أو الهندسة كل هذه العلوم إنما شاءها الله
تعالى للخلق فعلموها، لم يحصلوها بجهدهم واجتهادهم بانقطاع عن الله فهذا فهم
الملاحدة العلمانيين ولكن لما شاء الله تعالى للخلق أن يعلموا النظرية النسبية فتح
الله تعالى عليهم هذا العلم فعلموه، لما شاء الله تعالى لخلقه أن يعرفوا القوانين
الرياضية الحاكمة لمجريات الأمور علمهم الله تعالى ذلك، لما شاء الله لهم أن يوفقهم
لإطلاق الصواريخ علمهم المعادلات الرياضية الدقيقة التي يطلق بها هذا الصاروخ،
وهكذا في كل شأن، إذن لا يوجد علم على وجه الأرض منقطع عن الله بل إن كل العلوم
موصولة بالله - عز وجل- وبالتالي لا أحد يعلم إلا بإذن الله ومن هنا من شعر في نفسه
علماً أو أنه حصل معرفة فليتصاغر أمام علم الله - عز وجل- فما علم العالمين بجوار
علم الله - عز وجل- إلا كنقرة طائر نقر في بحر لجي فكيف يخرج بالماء؟ بكم سيخرج من(3/5)
الماء؟ وهذا المعنى أفاده النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث موسى والخضر والحديث
مخرج في الصحيحين، هذا كلام جميل.
في قول الله - عز وجل- ? وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ? ما هو المعنى الذي يمكن أن
نفهمه منها؟
أن الله - سبحانه وتعالى- مع عظم الله تعالى لخلقه السماوات والأرض فهذا لا يشقه
ولا يتعبه وهذا يدل على ماذا؟ على كمال قدرته وتمام ربوبيته - سبحانه وتعالى- إن
الإنسان مهما بلغ من القوة فلو عالج شيئاً يسيراً ربما يتعب أو يجهد، لله-تبارك
وتعالى- لا يجهد أبداً ولا يتعب أبداً، فهذا النفي متضمن كمال قدرته وتمام ربوبيته
سبحانه.
قول المصنف-عليه رحمة الله- (العليم الخبير) وفي لفظ آخر وفي رواية أخرى (العالم
الخبير) العليم الخبير: بعض الكتب بالفعل ذكرت: العالم الخبير.
فلماذا يحاد عن العالم إلى العليم لماذا ؟ لعدة أمور:
الأمر الأول: أن لفظ الخبير للدلالة على مطلق العلم وهو اللفظ الدوار في القرآن
يعني عندما يتكلم ربنا - سبحانه وتعالى- عن علمه الذي وسع كل شيء، لا يتكلم باسم
الفاعل وإنما يتكلم بلفظ الخبير، أما إذا تكلم باسم الفاعل الذي هو عالم فهذا متعلق
بعلم الغيب فقط كقول الله تعالى ? عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَداً (26) ? [الجن: 26]، والمصنف من أعظم الناس تعظيماً أو من أكثر الناس
تعظيماً للفظ القرآن فهو قاريء للقرآن متأثر بألفاظه فلما قرأ القرآن ووجد أن لفظ
العليم في إحاطته - سبحانه وتعالى- بخلقه أعظم قال: العليم الخبير وهذا كقول الله
تعالى أيضاً ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ (13) ?[الحجرات: 13]، فقوله العليم.
أمر ثانٍ: أن العليم أبلغ في الصفة من عالم أليس كذلك؟ بلى؛ لأن العليم على وزن
فعيل والفعيل إما أن تكون مبالغة من اسم الفاعل وإما أن تكون صفة مشبهة فالخبير
والعليم أوقع من قوله العالم كما هي أوقع من اسم الفاعل.(3/6)
قوله( المدبر القدير) المدبر القدير، القدير اسم من أسمائه سبحانه فكل شيء في هذا
الكون إنما كان بقدرة الله - عز وجل- قال الله - سبحانه وتعالى- ? لِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) ?
[المائدة : 120] فالله - سبحانه وتعالى- له الملك وهو أيضاً على كل شيء قدير، أما
المدبر فليس من أسماء الله - عز وجل- وإنما هذه اللفظة إخبار عن صفة فعلية لله - عز
وجل- وهي صفة التدبير وهذا كقول الله - عز وجل- ? إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ?[يونس: 3] إذن يدبر الأمر هذا فعل الله - عز وجل-
وكما يقول علماء الاعتقاد: بأن باب الإخبار أوسع من باب الأسماء، فالمدبر لعل
المصنف يقصد بذلك: الذي يقوم بالتدبير فهو أدخل في باب الصفة منه إلى باب الاسم
قوله أيضاً: (وأنه سميع بصير) السميع البصير: هذان اسمان، كثيراً ما يجيء القرآن
قارناً بينهما كقول الله - عز وجل- ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ ? [الشورى: 11]، والسمع والبصر متضمن أو دال على صفة الحياة فإن الحي لا
يكون تاماً إلا إذا تمت صفاته ومن هذه الصفات السمع والبصر، وما قال به بعض
المعتزلة: بأن السميع والبصير يقصد بهما الدلالة على العلم. هذا كلام غير صحيح فإن
الذي يسمع أفضل من الذي لا يسمع والذي يبصر أفضل من الذي لا يبصر، وصفات الله - عز
وجل- وأسماؤه كلها فضلى ليس فيها نقص، فإذا أثبت الله تعالى لنفسه الحياة فقال:
الحي القيوم وقال: السميع البصير فدل ذلك على أنه سميع بسمع حقيقي بصير ببصر حقيقي
وقال - سبحانه وتعالى-: ? مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ(3/7)
ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) ?[النساء:
134]، انظر إلى اقتران اسم البصير مع اسم السميع ? هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
(1) ?[الإسراء: 1]،? وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ? وعندما خاف موسى من ملاقاة
الفرعون قال له ربه سبحانه: لا تخافا أي لا تخف يا موسى ولا تخف يا هارون ?
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ?[طه: 46]، فهذا إثبات لصفة السمع وصفة البصر،
وقال الله - سبحانه وتعالى- أيضاً ? قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ
فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ?[المجادلة: 1]،انظر كيف أن الآية أتت بالفعل الماضي ?
قَدْ سَمِعَ ? وأتت بالفعل المضارع ? وَاللَّهُ يَسْمَعُ ? وأتت بالاسم ? اللَّهَ
سَمِيعٌ ? وهذا للدلالة على أن سمع الله تعالى في كل وقت وفي كل زمن- فسبحانه
وتعالى- سمعه محيط بكل المسموعات وبصره محيط بكل المرئيات، لا يشغله سمع عن سمع ولا
يشغله شكل عن شكل، بل هو - سبحانه وتعالى- سميع بصير.
قول المصنف- عليه رحمة الله- (السميع البصير العلي الكبير) سبق أن ذكرت لحضراتكم أن
العلي اسم لله - عز وجل- يتضمن صفة العلو وإثبات الاسم من غير إثبات الصفة هذا جمود
وخروج عن مقتضى الشريعة واللغة، فعندما نقول: نثبت الاسم من غير الصفة فهذا يحيل
ألفاظ القرآن إلى ألفاظ جامدة خالية من معانيها فعندما تكون جامدة خالية من معانيها
تكون أيضاً خالية من حكمها ففي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إن لله تسعة وتسعين
اسماً مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة ) فالقول الظاهر أن الإحصاء ليس معنى
الحفظ ولكن الإحصاء فيه معنى المعرفة والعمل، فإذا كانت أسماء الله تعالى خالية من
معانيها فكيف نعمل بها؟!! كيف نتدبرها؟!! كيف نعيها؟!! كيف نطبقها في حياتنا واقعاً(3/8)
مشاهداً ملموساً إذن هذا خلاف الشرع إثبات الاسم من غير الصفة هذا خلاف الشرع وهذا
أيضاً خلاف اللغة؛ لأن الاسم ما يدل على مسماه فالاسم هو المسمى قال الله تعالى: ?
وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ? [الأعراف: 180] لا أريد أن أدخل في مسألة الاسم
والمسمى فهذه قضية كلامية لا أدخل فيها ولكن أثبت الله تعالى أن هناك شيئاً تتعلق
به هذه الأسماء ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? فيا ترى هل
ندعوا الله تعالى بأسماء جامدة ليس لها معنى أم ندعوه بأسماء لها معنى؟!! إذن هذا
خلاف اللغة، وإذا نزلت مثلاً إلى السوق فقلت لرجلك هات لي كيلو طماطم عندما تقول
له: كيلو طماطم إن هذا اسم الطماطم هذا الاسم له معنى يترجم في ذهنه إلى ثمرة لها
شكل معين، تصور معين، معنى معين فإذا أتاك مثلاً بكيلو من البطاطس وقال لك: هذه
طماطم هل تصدق ذلك ؟ لا تصدق ذلك، ترفض وتقول ما أردت ذلك.
إذن الأسماء لها دلالة قصدية فإثبات الاسم من غير المعنى المقصود هذا إلحاد في
اللغة انحراف وابتعاد وباطل. إذن لابد من إثبات الاسم المتضمن للصفة. والصفات
الكلام عنها فرع عن الكلام في الذات فإذا كان الذات والكنه لا يدركه الواصفون ولا
يحيط به العالمون فكذلك أيضاً الصفات.
العلي: هذا اسم متضمن لصفة العلو هذه الصفة التي تدل على علو القدر وعلو الذات وعلو
القهر.
والكبير: قلت لكم- من قبل منذ دقائق- بأن اسم الكبير يقترن باسم العلي ? وهُوَ
العَلِيُّ الكَبِيرُ ?[الحج: 62]، السميع البصير العلي الكبير.
فالله -تبارك وتعالى- عليّ، عالٍ في ذاته وقدره وعالٍ على خلقه فمهما بلغ الخلق من
العظمة والعلو فإن الله تعالى عالٍ عليهم مهما تهيأ للمخلوق أن يكون عالياً في
درجته، في منصبه، في شرفه، في مقامه، في وجاهته الله تعالى عالٍ عليه وهو أيضاً
كبير فمهما بلغ من درجته وبلغت درجته وبلغ منصبه فإن الله تعالى أكبر منه، فما من(3/9)
كبير إلا والله تعالى أكبر منه فعندما تعلم ذلك بأن الله تعالى عليّ كبير تشعر
بالعزة بأنك متأيد بالعلي الكبير وأنك مع العلي الكبير وأن الله تعالى سيؤيدك
وسيعليك وسينصرك أرأيت إلى المؤمنين في غزوة أحد عندما كسروا وقتل منهم من قتل وجرح
منهم من جرح قال الله تعالى لهم ? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) ?[آل عمران: 193] فالإنسان إنما يكون
عالياً بإيمانه وتأيده بربه-سبحانه- فقوله (وهو السميع البصير العلي الكبير وأنه
فوق عرشه المجيد بذاته) أقف هنا وقفة يسيرة حدثت بيني وبين أحد الإخوة الأحبة- بارك
الله فيه- عندما قرأ هذا اللفظ قال: وهو فوق عرشه ثم سكت ثم قال: المجيد بذاته
طبعاً هو رجل متفنن في اللغة وهذا لغة يصح يعني هذا من جهة اللغة يصح ولكن هناك
بُعد عقائدي يجعلنا لا نوافق هذا الوجه اللغوي ما هو الوجه اللغوي؟ (وأنه فوق عرشه)
انتهت الجملة، ثم نبتدئ جملة جديدة نقول: المجيد بذاته فالمجيد خبر لمبتدأ محذوف
والتقدير: هو المجيد بذاته، إذن هذا لغة يصح ولكن هذا الأمر له بعد عقائدي يجعلنا
لا نوافق على هذا الوجه اللغوي وإن كان صحيحاً، ذلك أن بعض المؤولة أنكر على ابن
أبي زيد وأنكر على أهل السنة عموماً إثبات كلمة الذات وقال: بأن هذه الكلمة ليست
كلمة سلفية أنتم تزعمون أنكم تتأيدون بمنهج السلف وأنكم تتأيدون بكلام المتقدمين من
الصحابة والتابعين فدلونا هل أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم قال هذه الكلمة
كلمة ذات؟ وبالتالي هذه كلمة بدعية فكيف يكون هذا الرجل - وقد ترجم له الذهبي في
قوله وكان على منهج السلف في الأصول- كيف يتكلم بكلمة بدعية؟
وهذا الأمر أيضاً الإمام الذهبي في المجلد التاسع عشر في سير أعلام النبلاء قال:
«بأنهم عابوه على ابن أبي زيد يعني عابوا كلمة: الذات إثبات كلمة بذاته، عابوا ذلك(3/10)
ورموه بهذه الكلمة ويا ليته لم يقلها» هذا كلام الإمام الذهبي إذن الإمام الذهبي
معذور في ذلك لأن المذهب القائم في ذلك الوقت هو مذهب الأشاعرة، مذهب الأشاعرة هو
المنهج الرسمي القائم في ذلك الوقت والذي يخالف هذا المذهب ربما يسجن وربما يؤذى،
والإمام الذهبي -عليه رحمة الله- من باب درء المفاسد لا يريد أن تكون هذه الكلمة،
لكن من حيث التأصيل هذه الكلمة بالفعل هل هي بدعة؟ هل هي كلمة بدعية؟
الجواب:
الأمر الأول:إن الإمام ابن أبي زيد عندما قال:( وأنه فوق عرشه المجيد) فتصير كلمة
المجيد صفة للعرش والمجيد بمعنى القوي بذاته - سبحانه وتعالى- عندما قال كلمة بذاته
كان يقصدها بعينها لماذا لأن بعض المؤولة قالوا: بأن الله تعالى ليس على عرشه، ليس
على العرش؛
لأن إثبات أن الله تعالى فوق العرش إثبات لأمرين:
الأمر الأول: إثبات أن الله تعالى متحيز.
الأمر الثاني: أن الله تعالى له جهة.
فقالوا: لا.. لا نثبت أن الله تعالى فوق عرشه بذاته وإنما المقصود أن الله
تعالى استوى على العرش أي تمكن منه أو استولى عليه، فأراد المصنف -عليه رحمة الله-
أن ينفي هذا المعنى الفاسد ويقول: بأن الاستواء كان استواءً حقيقياً بذاته إذن لما
نفى المبتدعة استواء الله تعالى بذاته أراد المصنف أن يشاكلهم بإثبات أن الاستواء
كان بالذات. وسأضرب لكم مثالاً بسيطاً على ذلك أيضاً لو أتينا بدواوين السنة جميعها
وقرأنا القرآن من أوله إلى نهايته هل نجد جملة بأن القرآن ليس مخلوقاً هذه الجملة
موجودة في القرآن؟ ليست موجودة في القرآن وليست موجودة في السنة ولم يقلها أحد من
الصحابة ولا من التابعين وإنما كانت هذه الجملة في عهد الإمام أحمد لما خاض الناس
في مسألة خلق القرآن وبلوا الناس بخلق القرآن فمن قال: بأن القرآن مخلوق أفسحوا له
وعظموه وشرفوه وأعطوه ووصلوه وكان مقرباً معظماً ومن قال بأن القرآن كلام الله ليس(3/11)
بمخلوق منه بدأ وإليه يعود عذبوه وطعنوا عليه وشنعوا عليه وهمزوه ولمزوه وربما سجن،
بل ربما قتل، فقالوا: بأن القرآن مخلوق، كلام الرب كلام الباري الجليل قالوا: بأنه
مخلوق ما الذي حدث؟ تكلم بعض العلماء مثل الإمام أحمد فقال: بأن القرآن ليس بمخلوق
إذن لما قال: ليس بمخلوق قال ذلك لهذه المناسبة؛ لكي يرد على هؤلاء القوم الذين
قالوا بخلق القرآن، وكذلك ابن أبي زيد وكذلك من قال من أهل السنة: بأن الله - عز
وجل- مستوٍ على العرش إنما قال: بذاته، مع أن السلف لم يقولوها ليرد على الذين
قالوا: إن الله لم يستوِ على العرش بذاته، إذن كان إثبات هذه اللفظة مهماً جداً وله
بعد عقائدي.
الأمر الثاني: أن هناك بعض المتقدمين قالوا هذه اللفظة من هؤلاء الإمام سفيان
الثوري والفضيل بن عياض وإسحاق والإمام أحمد وسفيان بن عيينة كل هؤلاء كانوا يقولون
«بأنه مستوٍ على العرش بذاته وعلمه في كل مكان» وأثبت ذلك الهروي في عقيدته- أبو
إسماعيل الهروي المتوفى سنة أربعمائة وواحد وثمانين- أثبت ذلك في عقيدته وقال:
وبذلك قال علماء أهل السنة. إذن علماء السنة والسلف قالوا هذه العقيدة بأن الله
تعالى مستو على العرش بذاته وعرفتم أن هذه اللفظة مع أنها لم تكن متقدمة ولكن قيلت
ضرورة لما سمعتموه.
إذن لما يقول الشيخ (وإنه فوق عرشه المجيد بذاته) أيها أولى؟ ماذا نقول؟ وأنه فوق
عرشه المجيد بذاته أم نقول وأنه فوق عرشه ثم نقول: المجيد بذاته أيها أولى؟
الوصل أولى الوصل أولى من الفصل، والوصل والفصل هذه مباحث لغوية بلاغية دلالية
أرأيتم كيف أن الوصل والفصل كان مغيراً للمعنى؟!!
أيضاً مما يؤنس لذلك ويشهد له أن الله تعالى كان يصف عرشه بأنه عرش مجيد في سورة
البروج أثبت الله تعالى أن العرش مجيد في قوله تعالى: ? ذُو العَرْشِ المَجِيدِ
(15) ?[البروج: 15]، وأثبت أن القرآن مجيد في قوله تعالى: ? بَلْ هُوَ قُرْآنٌ(3/12)
مَّجِيدٌ (21)فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22) ? [البروج: 21: 22]،
إذن ليس هناك غضاضة وليس هناك إشكال في مسألة إثبات أن الله تعالى مستوٍ على العرش
بذاته.
قوله: (وهو في كل مكان بعلمه) نعم إثبات صفة العلم لله - عز وجل- وأن الله تعالى
علمه أحاط بكل شيء- كما قلت لكم من قبل- وقال الله تعالى: ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن
نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ
وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا
ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (7) ? [المجادلة: 7]، فابتدأ الله تعالى بالعلم وختم بالعلم للدلالة على أن
الدلالة الموجودة في هذه الآية معيّة عامة، إذن قوله:( إنه فوق عرشه المجيد) يشهد
لذلك قوله تعالى: ? ذُو العَرْشِ المَجِيدُ (15) ?[البروج: 15]، وهو في كل مكان
بعلمه هذه إحاطة العمل فالله -تبارك وتعالى- علمه محيط بكل شيء، والمعية الموجودة
في آية المجادلة هي معية العلم والإحاطة والقدرة، فالله تعالى له معيتان:
1- معية العلم والإحاطة والقدرة وهي المعية العامة.
2- وهناك المعية الخاصة وهي معيته لأوليائه بتأييدهم ونصرتهم وتوفيقهم وإرشادهم
وهدايتهم، قال الله تعالى لموسى وهارون: ? إِنَّنِي مَعَكُمَا ? وقال في عموم الشيء
كما في سورة الحديد ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ? [الحديد: ]، ولا يفهم
من ذلك أن الله تعالى حالٌّ في الأشياء أو أن الله تعالى متحد مع الأشياء لا يفهم
هذا ولا هذا لا يفهم من ذلك لا معنى الحلول ولا معنى الاتحاد أرأيت أنك تقول: سرت
مع القمر، كما تقول: سرت والقمر ، الواو هنا بمعنى مع والقمر يتعرب على أنها مفعول(3/13)
معه، أليس كذلك؟ سرت والقمر، القمر في السماء وعندما تقول: سرت والقمر فلا يقصد
بذلك أن القمر صار ملامساً لك أو أن القمر صار مختلطاً بك أو أن القمر صار حالاً
فيك هذا كلام لا يقبل ولا يعقل.
إذن قوله ? بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? دلالة على إحاطته - سبحانه وتعالى- بالمخلوقات
إحاطة علم وقدرة. أيضاً لا يتصور أن الله - سبحانه وتعالى- حالٌّ في هذه الأشياء أو
متحد في هذه الأشياء؛ لأنه هو الذي أوجدها وفي الحديث الصحيح (كان الله ولم يكن شيء
قبله) الله - سبحانه وتعالى- هو الذي أوجد الخلق فكيف يحل بالخلق أو يتحد
بالخلق؟!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فلما قال:( وهو في كل مكان بعلمه) كان بذلك مثبتاً لصفة العلم، إذن هو فوق عرشه
بذاته وهو في كل مكان بعلمه.
هنا إشكال بسيط:
بعض الناس أنكروا على ابن أبي زيد قوله:( فوق عرشه) من هؤلاء: ابن الفخار القرطبي
المالكي. ابن الفخار قال: «بأن هذا مما يهمز به ابن أبي زيد لماذا؟ لأن الله تعالى
قال: ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى (5) ? [طه: 5]، ولم يقل الرحمن فوق
العرش»، وهذا كلام عجيب من ابن الفخار؛ لأن على لها معان عدة ومعناها يتنوع بتنوع
السياق الذي وردت فيه، فعندما يقول الله - عز وجل- ? إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ? [القصص: 27
] على: هنا فيها معنى الشرط والتعليق، وعندما تقول زوجتك: ابنتي على ألف دينار
فأيضاً على هنا فيها معنى الشرط والتعليق، وعندما تقرأ قول الله- تبارك وتعالى: ?
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ?[الزخرف: 13]، إذن لتستووا على: استوى على بمعنى
ماذا؟ لترتفعوا عليها وتركبوها إذن ? الرَّحْمَنُ عَلَى ?، على أي فوق.
وثبت في البخاري أن أبا العالية -رضي الله عنه- فسر الاستواء بمعنى العلو استوى
بمعنى علا وارتفع ومعنى فوق عرشه أي على عرشه،وعلى هنا بمعنى فوق.(3/14)
أيضاً بعض المؤولة قالوا: ليس المقصود بفوق العلو ولكن المقصود بكلمة فوق الظفر
والظهور ومنه قول الله تعالى: ? وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ? [آل عمران: 55]، أي جاعل الذين اتبعوك يا عيسى
من الموحدين الأصفياء الأتقياء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، إذن تحمل الفوقية
بمعنى النصرة والغلبة والقهر والظهور وكذلك قالوا: إن المقصود بقول ابن أبي زيد
(وأنه فوق عرشه بذاته ) فوق عرشه أي ظاهر على العرش متملك لذلك العرش وهذا كلام
عجيب جداً؛ لأن الله تعالى أثبت الفوقية الحقيقية لنفسه ومن ذلك قول الله - سبحانه
وتعالى-: ? يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
(50) ? من فوقهم فهذا دليل على أن الله تعالى فوق، أما الذين قالوا إن الله تعالى
ليس فوقاً ولا تحتاً هذا كلام فارغ.
إذن الله تعالى فوق عرشه فوقية حقيقة بذاته ليست فوقية مجازية معنوية وأيضاً لا
يمكن أن ننفي الفوقية، إذن نفي الفوقية هذا انحراف عن الحق، وكون الفوقية معنوية
هذا انحراف عن الحق ولكن نثبت فوقية حقيقة على العرش بذاته سبحانه.
قال الشيخ (وهو في كل مكان بعلمه) هذه الفقرة هل استوعبتموها جيداً؟
س- لماذا قلنا: العليم الخبير ولم نقل العالم الخبير؟
لأن العليم تدل على كمال الإحاطة وكمال العلم والعالم جاءت في القرآن بمعنى علم
الغيب فقط أو خاصة بعلم الغيب.
جميل أنا أردت أن أسأل هذا السؤال حتى أعلم أنكم قد استوعبتم.
نأتي بعد ذلك إلى (خلق الإنسان وعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل
الوريد) أثبت أن الله تعالى أحاط بكل شيء علماً فمن جملة ما علم الله - عز وجل-
أنه علم الإنسان؛ لأنه خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه، الوسوسة: أصلها الكلام الخفي
والله - سبحانه وتعالى- يعلم السر وأخفى فيعلم ربنا - سبحانه وتعالى- ما تفكر فيه(3/15)
وما تحدث به نفسك ولكن لا يعاقبك ولا يحاسبك إلا إذا تكلمت أو عملت لقول النبي -صلى
الله عليه وسلم- (إن الله غفر لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تفعل)
والعلم -علم الله تعالى بخلقه- علمان:
علم سابق وهو العلم الأول وعلم لاحق وهو العلم الثاني، فعلم الله تعالى الخلق قبل
أن يوجدهم ثم بعد ذلك أوجدهم فعلم ما هم عاملون. العلم الأول متعلق بقدر الله - عز
وجل- والعلم الثاني متعلق بالجزاء الذي يجازي الله تعالى به عباده -فالله تبارك
وتعالى- يعلم الناس فيعلم المطيع فيدخله الجنة ويعلم المسيء فيدخل النار.
إذن قول الله - عز وجل-: ? وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا
إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ
?[البقرة: 143] إلا لنعلم: العلم هنا العلم الأول أم العلم الثاني؟
العلم الثاني. أي إلا لنعلم المطيع من المسيء لنجازي المطيع بالجنة ونجازي المسيء
بالنار.
وظاهر أن الشيخ متأثر بلفظ القرآن( خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب
إليه من حبل الوريد) هذا تأثر واضح بالقرآن وقال ابن عبد البر: وفيه فائدة نقل
القرآن بالمعنى. القرآن إذا نقل بالمعنى لا يكون قرآناً.
الوريد هل المقصود بالوريد هذان الوريدان الموجودان في صفحة العنق؟ هل المقصود
بالوريد هو وريد القلب الذي يسمى بالوتين؟ هل المقصود هذا أم هذا أم شيء آخر؟ هذا
كله ربما يكون محتملاً. والقول الثاني: هو وريد القلب الذي يسمى بالوتين لعل ذلك هو
القول الأصح.
قوله أيضاً: (خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه) - كما قلت لكم- هذا متأثر بقول
الله - سبحانه وتعالى-: ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ
بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ (16) ? [ق:
16]،كلمة? نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ (16) ? ما(3/16)
المقصود بنحن أقرب إليه: هل المقصود به الله أم الملائكة؟ هذان قولان، نحن أقرب
إليه علماً وقدرة وإحاطة هذا قول، والقول الثاني: ملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد
هذا قول ثانٍ.
وجرى نظم القرآن وعادة القرآن أن الضمير المجموع المعظم إذا أسند لغير الله –عز
وجل- فالمقصود به الملائكة ومن ذلك قول الله -تبارك وتعالى- ? فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) ?
[هود: 74]، لم يجادل الله - عز وجل- وإنما راجعَ في القول مَنْ ؟ الملائكة.
فالله -تبارك وتعالى- أعلم بالإنسان وأعلم بما توسوس به نفسه وهو أيضاً - سبحانه
وتعالى- كما قال المصنف (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) من هنا قد تكون زائدة وقد
تكون مثبتة فما من ورقة في أي حال في أي بلد في أي زمن في أي حال كانت خضراء، كانت
صفراء، كانت ذابلة، كانت يابسة، كانت ساقطة في أي وقت بالليل أو النهار في أي مكان
في العالم إلا ويعلمها الله - عز وجل- وقوله أيضاً (ولا حبة في ظلمات الأرض) عبر
بالشيء الحقير الضئيل اليسير بقوله: ولا حبة وقال: في ظلمات الأرض؛ لأن الأرض سابع
أرضين وما تحت الأرض ظلمات وكذلك أي مكان في الأرض إذا غاب عنه النور صار مظلماً
فما من شيء في ظلمة من ظلمات الأرض إلا يعلمه ربي – سبحانه- (ولا رطب )الرطب: ما
ينبت، فالرطب متعلق بالإنبات (ولا رطب ولا يابس)، أي ما لا ينبت النبت سواء كان
زرعاً أو كان نطفة إذن هناك زرع ينبت فيكبر ويترعرع ويخضر ويثمر وهناك زرع لا ينبت
وهناك أيضاً نطفة تنبت ذرية وهناك نطفة لا تنبت ذرية فهذا كله يعلمه ربي- سبحانه-(
ولا رطب ولا يابس) وكذلك قلب المؤمن ينبت خيراً، وأما قلب المنافق أو الكافر فلا
ينبت إلا شراً والعياذ بالله.
(ولا طب ولا يابس إلا في كتاب مبين) أي إلا في لوح محفوظ ? لاَّ يَضِلُّ رَبِّي(3/17)
وَلاَ يَنسَى ?[طه: 52]، أسأل الله - عز وجل- أن يقدر لنا الخير كله وأن يصرف عنا
الشر كله وأن يوفقنا إلى الخير كله وأن يوفقنا إلى محابه ومراضيه.
نأخذ اتصالات المستمعين
لي ملاحظة حول ما أثاره الشيخ في وصف العرش بأنه مجيد هذا يتأتى على القراءة التي
قرئت ذو العرش المجيد وهي قراءة حمزة والكسائي فقط كما في غاية النفع وكما في شروح
الشاطبية، أما رواية حفص وباقي العشرة ?ذو العرش المجيدُ ?فيكون المجيد خبر بعد خبر
لله - سبحانه وتعالى- وليس للعرش فأحببت أن أنبه لأن الأستاذ توقف بعض التوقف عند
وصف العرش بالمجيد فتكون على قراءة حمزة والكسائي أما باقي القراء فيقرؤون ?ذو
العرش المجيدُ ?.
جزاكم الله خيراً الأخ الحبيب تكلم عن نقطة هي نقطة قطع الصفة عن الموصوف وهذه
المسألة بالفعل الوجوه التي ذكرها وجوه صحيحة، مثل مثلاً دخل العالمُ الفاضلُ، فدخل
العالمُ الفاضلُ باعتبار أن الفاضل صفة للعالم. يمكن أن تكون كذلك ويمكن: دخل
العالمُ الفاضلَ. يعني: دخل العالمُ أعنى الفاضلَ، ويمكن: دخل العالمُ الفاضلُ ليس
باعتبار الصفة ولكن باعتبار القطع أي: دخل العالمُ هو الفاضلُ فهذا كله محتمل،
ولكني اخترت ذلك حتى لا يحدث التباس في جانب الاعتقاد ونحن نتحدث في الاعتقاد.
وجزاكم الله خيراً.
هل نستطيع أن نثبت لله صفة الفهم ؟
نحن لا نثبت صفة من غير نص؛ لأن الأصل في الصفات التوقيف.
ما الفرق بين العرش والكرسي وإذا كان ربنا -جل وعلا- مستوياً على عرشه بكيفية تليق
بجلال وجه ربنا -تبارك وتعالى- فماذا الكرسي وجزاكم الله خيراً؟
قلت لكم من قبل: بأن العلم الذي أعطاه البشر سواء كان ذلك البشر أنبياء أم غير
أنبياء إنما هو علم أذن الله تعالى به وما لم يأذن الله تعالى به فهذا من جملة
الغيب الذي يكون الخوض فيه ضرباً من الباطل فنحن نقف حيث وقف النص فليس عندنا من نص(3/18)
يبين لنا كيفية الكرسي وما حاله إلا هذا الأثر الذي ورد عن ابن عباس وهذا أثر حتى
بعض الناس تكلم في إسناده.
الأخ له سؤالان:الأول: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسيح الدجال: (إنه
أعور وإن ربكم ليس بأعور) فهل يمكن أن يعتبر هذا دليلاً على أن الله -جل جلاله- له
عينان؟
هذا أمر محتمل فإثبات صفة العين لله - عز وجل- ثابتة، لكن كون أن نقول: بأن الله
تعالى له عين واحدة أو عينان أو أكثر أو أقل هذا مما ينبغي أن نمسك عنه ولا نخوض
فيه.
سؤاله الثاني: ما تفسير قوله تعالى : ? وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ ?؟
إن شاء الله عندما نتعرض لمسألة العرش، لأن عقيدة ابن أبي زيد –حقيقة- تحتاج إلى
ترتيب وبإذن الله تعالى في المجلس القادم أو الذي بعده سنتكلم عن العرش بالتفصيل
بإذن الله .
يقول: السلام عليكم ورحمة الله: سمعت كلاماً لبعض العلماء -الذين نحسبهم كذلك
والله حسيبهم- أن معية الله -تبارك وتعالى- لعباده معية معية ذاتية. شيخنا كيف نوفق
بين هذا القول وبين القول الذي يقول: إن الله معنا بعلمه؟ أرشدونا جزاكم الله
خيراً.
عندما نقول: إن معية الله تعالى معية ذاتية فالمقصود بذلك الحمل على ما تقتضيه من
النصرة والتأييد والتوفيق والإلهام والرشد ليس المقصود بذلك بذاته أي بحقيقة ذاته
فيكون الله تعالى ملامساً لخلقه أو متلبساً بخلقه أو مخالطاً خلقه هذا هو الكلام
الذي عليه المحققون والله تعالى أعلى وأعلم.
شيخنا كان فيه سؤال في الحلقة الماضية معنى أسماء الله تعالى: الأول والآخر فأردنا
بعض التفصيل فيها -بارك الله فيك-
الكلمة المجملة وأفضل شيء الجمل المجملة؛ لأن الأمور إذا كانت واضحة وفصلت أكثر من
هذا الإجمال تزداد التباساً فهو أول بلا ابتداء آخر بلا انتهاء.
يقول: السلام عليكم ورحمة الله: هل القديم من أسماء الله الحسنى؟ وإن كان اسماً من
أسمائه فهل هناك دليل وجزاكم الله خيرا؟(3/19)
القديم ليس من أسمائه سبحانه أبداً وما ورد في ذلك إلا الأثر (وبسلطانه القديم)
والقدم هنا متعلق بسلطان الله - عز وجل- السلطان أي الملك أما أن يكون هذا اللفظ
القديم أن يكون اسماً من أسماء الله - عز وجل- فهذا لم يثبت، لا في القرآن ولا في
السنة - والله تعالى أعلى وأعلم.
ما حكم تفسير صفات الله تعالى بلوازمها دون ذكر حقائقها؟
لابد من ذكر الحقيقة مع اللازم عندما أقول: اليد فاليد لها حقيقة حقيقة معلومة لا
نقول أكثر من ذلك فنقول: اليد معلومة ولها حقيقة، ولوازم اليد كالقدرة وكالقوة
وكالمنزلة هذه كلها من لوازم إثبات اليد فلو قلت: إننا نثبت اللازم لكنت بذلك
مؤولاً إذا قلت: نثبت اللازم من غير إثبات المعنى أي حقيقة المعنى كنت بذلك مؤولاً
خرجت بذلك عن منهج ما كان عليه السلف الصالح لكن تثبت الحقيقة التي هي الماهية
المعنى ثم بعد ذلك تثبت اللازم لا ضير في ذلك.
الاستواء نثبت معناه حقيقة الاستواء نثبت الحقيقة ونثبت اللازم نثبت الحقيقة أن
الاستواء بالمعنى المعلوم المعروف المتبادر إلى ذهن العرب عندما سمعوها ونثبت
اللازم الذي هو القهر وما إلى ذلك، لكن لا نثبت اللازم دون الحقيقة.
دائماً السمع يسبق البصر لماذا؟
والله تعالى أعلى وأعلم بأن كقول الله - عز وجل- ? إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) ? [الإسراء: 36]،فالسمع
والبصر ? وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ? [النحل: 78]،
والله تعالى أعلى وأعلم لأن ما يسمع أكثر مما يبصر أي ما يدرك بالسمع أكثر مما يدرك
بالبصر والله تعالى أعلى وأعلم.
ذكرتم فضيلتكم أن الله يعلم ما يفكر فيه الإنسان وما تحدثه به نفسه ولا يحاسبه إلا
إذا فعل فماذا إذا كان الإنسان تحدثه نفسه بالشر وينوي عليه ولم تمنعه نفسه بل(3/20)
منعته ظروف أخرى لا دخل له بها فكيف حسابه إذن ؟
النية نيتان نية خاطرة ونية جازمة فالله - تبارك وتعالى- لا يحاسبك على الخاطرة
وإنما يحاسبك على الجازمة، فالخاطرة كقول ربنا - سبحانه وتعالى- في سورة يوسف عندما
أثبت الهم فقال : ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ َوهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ ? [يوسف: 24]،طبعاً هناك وصل وفصل كثير وهناك من قال: الأولى أن
يقال ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ?ثم يقال ? وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ ? إذن لم يهم يوسف أصلاً هذا قول وقال البعض ? وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ َوهَمَّ بِهَا ? فأثبت هماً للمرأة وهماً ليوسف، فهمُّ يوسف هو همُّ الخاطرة
وهمُّ المرأة هو همُّ العزيمة والإرادة؛ لأنها غلقت الأبواب وقالت: هيت لك والله-
تبارك وتعالى- لا يحاسبك على الخاطرة وإنما يحاسبك عليك على العزيمة والإرادة ومنه
قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إذا التقى المسلمان بسيفيها فالقاتل والمقتول في
النار قالوا: يا رسول الله هذا هو القاتل فما بال المقتول قال: كان حريصاً على قتل
صاحبه) كان حريصاً أي كانت عنده نية وإرادة وعزيمة قوية أن يقتل صاحبه فكان في
النار فمن كانت له إرادة جازمة في فعل الذنب فهذا قد يؤاخذ على هذا الأمر إلا أن
يتغمده الله تعالى برحمة منه فيفتح عليه من أبواب الخير والحسنات ما تغسل به هذه
النية الجازمة.
يقول السلام عليكم ورحمة الله : هل يكفي أن نرى المفسر يفسر اسماً أو صفة بما
تقتضيه أن نقول: إنه ل يثبتها أم لا بد أن نرى له تصريحاً بعقيدته؟ وجزاكم الله
عنا خيراً.
عقيدة المرء تظهر من عدة أمور تظهر من لفظه وتظهر من إشارته وهذا الأمر معلوم فلو
عبر وشرح عقيدته لفظاً فهذا أمر واضح وإذا أتى بالكلام الذي يدل على صحيح هذه
العقيدة فهذا صحيح يعني لو أن رجلاً قال: وهناك بعض المؤولة قالوا بأن الاستواء(3/21)
بمعنى الاسيتلاء وهذا فهم فاسد، بل لا بد من إثبات الإثم العظيم بمعناه العظيم. هذا
الرجل لم يصرح وإنما رد وبين فهذا يقبل منه والمعلوم بأن كتب الاعتقاد أول ما ظهرت
كتب الاعتقاد ظهرت كردود يعني الكتب المصنفة في الاعتقاد أول ما ظهرت ظهرت كردود
فكذلك لو أن إنساناً رد على مبتدع حتى ولو لم يصرح بعقيدته لكان هذا الرد علي
البدعي كفاية وبيان لعقيدته. والله تعالى أعلى وأعلم.
السلام عليكم ورحمة: الله كيف نجمع بين استواء الله - عز وجل- استواءً حقيقياً على
عرشه وبين معيته تعالى لخلقه وكيف نرد على من قال: بأن الاستواء هو الاستيلاء أو
التمكين كما يقول البعض والله الموفق.
أنا لي رغبة إن كل الأسئلة المتعلقة بالعرش نرجئها ولو أحببت أن أجيب عن هذا السؤال
لا بأس يعني يمكن أن أجيب بإجابة يسيرة وأترك التفصيل لما بعد ذلك، الأخ الحبيب
يقول كيف نثبت أن الله تعالى مستو على عرشه وهو مع خلقه؟ ليس في ذلك إشكال فأنت في
الأرض والقمر معك والقمر في السماء تقول: سرت والقمر- وقلت هذا- سرت والقمر أي سرت
مع القمر والقمر في السماء، فإثبات أن القمر في السماء لم ينافِ بأن القمر معك فهذا
أمر موجود وكذلك الله تعالى في السماء على عرشه ومستوٍ وهو أيضاً معك فإذا فهمت هذا
فهمت ذلك فسبحانه وتعالى عالٍ وهو في الوقت نفسه قريب من خلقه بعلمه وهو أيضاً -
سبحانه وتعالى- قريب من خلقه وعالً على عرشه.
السلام عليكم ورحمة الله: سؤالي يدور حول الذين يؤولون صفات الله تعالى والذين
يقولون: بأن الله تعالى بلا مكان والذين يقولون على شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى-
بأنه مجسم وكافر فهل هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام من أهل السنة أم من باقي الفرق
الضالة؟
الإشكال بأن الألفاظ الكلامية عندما دخلت ديار المسلمين استوحشتهم وبعدتهم عن
الألفاظ الربانية النبوية الشريفة وجعلوا لكل لفظ لازم كلامي رتبوه على ما رتبت به(3/22)
عقولهم فعندما يقولون: بأن الله تعالى مستوٍ على عرشه فوق السماء فقالوا بأن ذلك
يعني أن الله تعالى متحيز وأن الله تعالى في جهة وما معنى متحيز؟ أي أن الله تعالى
يشغل حيزاً من هذ الكون أي أن ربنا - سبحانه وتعالى- له طول وعرض وارتفاع وحجم
وحيز وكتلة ففهموا ذلك عن الله - عز وجل- وهذا ضلال وإفك وكذلك قالوا: بأنه فوق
العرش أي أن العرش قد حواه إذن أيضاً الله تعالى متحيز لأن العرش قد حواه فإذا كان
العرش مخلوق والله - سبحانه وتعالى- غير مخلوق وهو فوق العرش إذن قد حازه هذا
العرش. هذا فهمهم لأنهم رتبوا الكلام ترتبياً كلامياً منطقياً عقلياً على حسب ما
يفهمونه وهذا فاسد لماذا؟ لأن الله تعالى لا يدرك كنه صفته الواصفون ولا يقف على
حقيقة ذاته العارفون فلا بد لنا أن نسلم بما ورد في الكتاب وصحيح السنة دون أن نسأل
عن الكيف، استوى ربنا، نعم استوى ربنا استواءً حقيقياً يليق بذاته لكن كيف استوى؟
الله أعلم لأننا لو بحثنا عن الكيف لوردت إلينا هذه الإيرادات. كل هذه الإيرادات
كلها سترد إلينا كيف استوى؟ سترد كيف الحيز والحجم والكتلة والارتفاع ؟ هذا كله
سيرد في كيف؟ لكن لا كيف؛ لأننا لا ندري الكيف لأن الكيف من جملة ما استأثره الله
تعالى في علمه الله تعالى من جملة ما علم علم ناساً ومن جملة ما علم لم يعلم ناساً
وهناك من العلم ما استأثره الله تعالى بعلمه فلا ينبغي لنا أن نخوض في أمر لا نعلمه
هذه كلها أمور غيبية لا نعلمها ويعجبني ما كان يقوله الإمام أحمد في فتنة خلق
القرآن كانوا إذا ألزموه بعض اللوازم مثل هذا كان يقول: لا أدري ذلك وإنما أقول كما
قال الله ? وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ?[التوبة: 6]، فكلام الله هو القرآن.
فحسبنا ما ورد عن الله على مراد الله - عز وجل- وما ورد عن رسول الله -صلى الله(3/23)
عليه وسلم- على مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير تشبيه ولا تمثيل ولا
تعطيل ولا تكييف.
كل آيات القرآن قدمت السمع على البصر إلا في موضع واحد ? فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنظُرُونَ (68) ? [الزمر: 68]، فقدم البصر في مقام القيامة فقط وقدم السمع في
الدنيا في كل آيات القرآن قدم السمع فهل ذلك لتقديم الوظيفة السمع قدم في الحياة
والنظر قدم في البعث،
فإذا هم قيام ينظرون. أين السمع هنا؟ البصر قدم البصر في الآخرة والسمع في الدنيا
السمع عندما يخرج الجنين من بطن أمه يسمع ولا يرى كل آيات القرآن قدمت السمع إلا
النظر قدم في البعث فإذا هم قيام من أجداثهم ينظرون إذن هنا إثبات النظر أين
السمع؟ نقصد في هذه الآية أن كل آيات القرآن قدمت السمع إلا في هذه الآية عندما
نقول: قدمت فإذن هناك متقدم ومتقدم عليه فعندما أقول هنا ? فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنظُرُونَ (68) ? فقدم النظر على أي شيء؟ نعم جزاك الله خيراً.
يقول: هل السؤال عن استواء الله جل جلاله غير جائز ؟
إذا كان السؤال عن معنى الاستواء فلا بأس في ذلك لكن إذا كان السؤال عن كيفية
الاستواء وهذا ما أنكره الإمام مالك في وقت كثر فيه الخوض في هذا الأمر فهذا لا
يجوز.
يقول: هل من إشارة إلى المعاني القلبية المستفادة والتي يمكن أن يكتسبها العبد مما
حدثتنا به اليوم .
هذا جهدك أنت أنا أشرت إلى مثل هذه المعاني في تضاعيف الكلام وفي ثناياه ولا ينبغي
لي أن أقول: وهنا معنى قلبي هو كذا وكذا ولكن أنا آتي بالكلام في وسط الكلام
والمطلوب من الأخ الحبيب أن يأخذ من كل شيء ما يستفيد منه وما يحصله فمما لا شك
عندما تكلمت عن العليم وعن القدير وتكلمت عن كل هذا كانت هناك معاني قلبية ينبغي أن
تكون مغروزة في قلبك وأن يكون القلب قد التقطها - أسأل الله لي ولنا التوفيق.
بعض الناس يقولون: إن الأرض كروية وباعتبار كرويتها فإن الفوقية فيها تختلف من(3/24)
مكان إلى آخر وخصوصاً إذا كانت على الجانب الآخر من الأرض فكيف نرد على هؤلاء الناس
وعلى مثل هذه الأفكار؟
كما قلت لحضراتكم بأن كل هذا متعلق بالكيف فنثبت المعنى العظيم ولا نخوض في الكيف.
يقول: هل من الممكن أن يوضح لنا شيخنا الفاضل طريقته أو طريقة في طلب العلم؟
العلم ما أصلحك والعلم ما نفعك والعلم ما قربك وأفضل ما تبدأ به أن تبدأ بحفظ ما
تيسر لك من كتاب الله - عز وجل- حفظاً وفهماً وتدبراً وأن تحفظ من حديث النبي -صلى
الله عليه وسلم- المجملات التي تمثل الدين كله مجملات في الاعتقاد ومجملات في
الشريعة وأن تطالع مجملات يسيرة في السيرة وأن تطالع شيئاً يسيراً في اللغة ولا
أقصد باللغة النحو لأن بعض الناس يظنون أن اللغة هي النحو خطأ ولكن اللغة أوسع من
ذلك كل ما يتعلق بدراسة الأصوات أو الصيغ وهو الصرف أو التراكيب وهو النحو أو
الدلالة والمعجم هذا كله يسمى لغة، فللأخ أن تكون له بعض الاطلاعات اليسيرة في
مجملات نافعة في اللغة وأفضل ما تمرن عليه في هذا الباب أن يطالع شرح السنة وبعض
الدواوين البسيطة كمثل ديوان زهير بن أبي سلمة ديوان طرفة بن العبد - ينفعه الله عز
وجل-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم من طرح أسئلة هذه الحلقة حتى يتمكن الإخوة والأخوات طلبة
الأكاديمية من الإجابة عليها في الحلقة القادمة
هناك بعض الأسئلة أرجو من إخواني أن يكتبوها وأن يجهزوها للمرة القادمة:
السؤال الأول: اذكر آية اشتملت على ما اشتملت عليه آية الكرسي من عدد الجمل وبين
حكمة هذا.
وأرجو الإخوة عندما يجيبون عن هذا السؤال لو طالعوا تفسير ابن كثير لكان خيراً
تفسير ابن كثير المجلد الأول تفسير آية الكرسي،وكذلك محاسن التأويل للقاسمي لكان
خيراً.
السؤال الثاني : هات من عقيدة القيرواني ما يكافيء قول أبي جعفر الطحاوي وهو من
أعيان السنة وعلماء السلف «والعرش والكرسي حق» واشرح ذلك شرحاً مجملاً يعني ستأتي(3/25)
بالنص الخاص بأبي زيد القيرواني شبيه هذا النص واشرحه شرحاً مجملاً؟
السؤال الثالث: ما دلالة اقتران اسمه العلي بأسمائه: العظيم والكبير والحكيم؟
السؤال الرابع: كيف نرد على من نقم على ابن أبي زيد قوله «بذاته»؟
السؤال الخامس اذكر بعض المعاني الذي استفدتها من هذا الدرس وكيف تبلغها لغيرك؟
وجزاكم الله خيراً.(3/26)
الدرس الرابع
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله
وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى اللهم صلى وسلم وزد وبارك على النبي محمد
-صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ثم أما بعد:
قبل أن أبدأ حديثي مع حضراتك فإني أذكر بالدرس الفائت تذكيراً مجملاً ثم أجعل هذا
التذكير مدخلاً للحديث عن هذا الدرس الذي نتناوله في هذه الحلقة والتي سأقدم بين
يدي هذا الدرس بمقدمة أراها ضرورية، ثم بعد ذلك نختم بالأسئلة كما تعودنا ونسأل
الله تعالى التوفيق والتيسير.
تكلمت معكم في الحلقة الماضية عن بعض الصفات الربانية لا سيما صفة العلم، كما تكلمت
كلاماً مختصراً عن العرش والحديث عن الصفات ينبع من قيمة معينة هذه القيمة هي قيمة
إيمانية محضة فالإنسان عندما يدرس باب الأسماء والصفات لا يدرس هذا الباب باعتباره
ترفاً علمياً يتسع به عقله وإنما يدرس هذا الباب ليزداد معرفة بربه سبحانه، هذه
المعرفة التي تزيد إيمانه، فالإيمان يزداد بكثرة النظر وتواتر الأدلة، ألا ترى أن
المرء إذا كان جاهلاً شيئاً فإنه لا يتصوره أما إذا كان عالماً هذا الشيء فإنه
يتصوره؟ وكذلك نحن نريد أن نعرف ربنا ونعرف كل ما يمكن أن يتصل بالعلم الذي أتاحه
لنا ربنا، من باب الأسماء والصفات وما يتعلق بذلك؛ وليتثنى لنا بهذه المعرفة زيادة
الإيمان ومحبة ربنا -سبحانه وتعالى- فإذا كنا تحدثنا عن العرش حديثاً مجملاً فإننا
لا بد أن نتكلم عن هذا الخلق وهو العرش كلاماً مفصلاً في هذا اليوم، وعندما نتكلم
عن العرش بالكلام المفصل فإننا نقصد بذلك أمرين:
الأمر الأول: الرد على المخالفين وهذا أمر مهم جداً في تثبيت العقيدة، أن الإنسان
كي تثبت عقيدته فإنه يعرف أقوال المخالفين ويعرف بعضاً من شبههم ويعرف كيفية الخروج
من هذه الشبه بعد أن يعرف الأصول التي قامت عليها هذه الشبه.(4/1)
وقلت لكم من قبل: بأن من أوائل الكتب المصنفة في الاعتقاد كتب الردود.
الأمر الثاني: حتى نعرف هذا العرش الذي يستوي عليه ربنا هذه المعرفة التي تزيدنا
إيماناً بالعرش وإيماناً باستواء ربنا -سبحانه وتعالى- عليه وبالتالي كانت هناك
مقدمة ضرورية، هذه المقدمة الضرورية: لماذا رد كثير من المبتدعة مسألة الاستواء على
العرش؟ فقالوا: بأن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو قالوا: بأن الاستواء بمعنى الغلبة
و الظفر والقهر ولم يثبتوا هذه الصفة لله -عز وجل- مع أن القرآن تكلم على الاستواء
وعنه في أكثر من موضع في نحوٍ من سبع مواضع وكذلك أتت السنة لتثبت هذه الصفة، هذه
الصفة أثبتها القرآن كما أثبتتها السنة لماذا نفوها؟ الإشكال أنهم نسوا هذه الصفة
كما نسوا غيرها من الصفات كصفة النزول وصفة المجيء وصفة الضحك وصفة الغضب وصفة
الرضا، لم يثبتوا هذه الصفات ظناً منهم أن إثبات هذه الصفات يقتضي عجزاً ونقصاً لا
يليق بالله -عز وجل- وبالتالي أولوا هذه الصفات وصرفوها عن ظاهرها إلى معنى آخر،
وهذا ما يسمى بالمجاز، فقالوا: هذا الاستواء استواء مجازي، وصار المجاز عند
المتأخرين من الأشاعرة والكلابية والماتريدية وغيرهم باباً عظيماً يردون به النصوص
ويحرفون النص عن ظاهره إلى معانٍ ربما لا تكون محتملةً أصلاً، لقد حكموا عقولهم في
الأمور كلها.
وقال زعيم من زعمائهم وهو الرازي -عليه رحمة الله- «بأن دلالة العقل أشد من دلالة
النقل»أي: ما دل عليه العقل أقوى مما دل عليه الشرع - سبحان الله- وقال:[ إن دلالة
النص ربما تحتمل التخصيص وتحتمل التقييد، أما دلالة العقل فلا تحتمل ذلك ] يعني
عندما أقول: قال الله -عز وجل- كذا أو قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا فهذا
النص ربما يكون خاصاً، ربما يكون عاماً يحتاج إلى مخصص، ربما يكون مطلقاً يحتاج إلى
مقيد أما دلالة العقل فهي دلالة قوية لا تحتاج إلى ذلك أصلاً فتقدم دلالة العقول(4/2)
على دلالة النقول. وهذا كلام فاسد. لماذا؟ لأن العقل له مداخل بها يهتدي ومن أعظم
مداخل العقل الحس، فإذا كانت الحواس التي هي مداخل العقل في المعرفة ربما تفسد
وبالتالي تفسد أحكام العقول فإن فساد حكم العقل أعظم مما يتصورونه، فربما يكون
الماء زلالاً عذباً طيباً مباركاً، ولكن لمرض أصاب الإنسان إذا تذوقه وجده مراً
فحكم العقل؛ لأن اللسان لا يحكم وإنما يتذوق، فحكم العقل على الماء بأنه مرٌّ .
حكْم العقل هنا حكم صحيح أم حكم باطل؟
ماء طيب زلال - ما شاء الله- أتى به صديقك من بلاد الحجاز، من السعودية، ماء زمزم
-ما شاء الله لا قوة إلا بالله- ولكن شرب منه وجده مراً، الآفة في الماء أم في حاسة
التذوق؟ في حاسة التذوق فلما كانت الآفة في حاسة التذوق كان حكم العقل حكما قاصراً
باطلاً هذا هو حكم العقل.
أيضاً البصر ربما ترى إنساناً من بعيد، ولكن لضعف بصرك أو لبعد المسافة بينك وبين
ما رأيت ربما تقول: هذا الشخص هو زيد بينما الآخر لأن بصره أشد منك أو أفضل منك
قال: إنه عمرو فعندما يقترب تجدونه عمراً.
إذن ما حكم به فلان على أن المرئي هو زيد كان هذا الحكم باطلاً لماذا؟ لأن الآفة
كانت في العين فكان الحكم للعقل حكماً باطلاً فقولهم: بأن دلالة العقل أشد وأقوى من
دلالة النقل هذا كلام غير صحيح- واضح يا إخوانيمن هذه الأمثلة- هذا كلام غير صحيح
لا يمكن أن نسلم لهم بذلك أبداً، كيف يقدم العقل على النقل؟ فلما قدموا العقل على
النقل أبطلوا كثيراً من النصوص لأن عقولهم لم تتحمل هذه النصوص فمثلاً يقولون: لا
يوجد هناك ما يسمى بالوزن يوم القيامة قوله تعالى ? وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ
لِيَوْمِ القِيَامَةِ ?[الأنبياء:47] يقولون: هذا ميزان معنوي، المقصود به تقريب
المعاني فكيف توزن الحسنات والسيئات فإن الوزن لا يكون إلا لماذا؟ للمحسوسات-
الأشياء المحسوسة طماطم بطاطس خيار هذه أشياء محسوسة ملموسة- أما الأشياء المعنوية(4/3)
كيف توزن؟ حسنات سيئات حب بغض توكل استعانة فهذه الأمور المعنوية كيف توزن؟ فأبطلوا
الوزن لهذه الأمور وكل النصوص الواردة في إثبات الميزان حرفوها عن ظاهرها، مثل حديث
البطاقة عند الترمذي وغيره وهو حديث صحيح (الرجل الذي تمد له صحائفه تسعة وتسعين
صحيفة كل صحيفة مد البصر يقال له: هل لك من حسنة عندنا؟ فيقول: لا. كل هذه الصحف
ليس فيها حسنة فيقال له: إن لك عندنا بطاقة وإنه لا ظلم اليوم فتوضع البطاقة في كفة
وتوضع هذه الصحائف في كفة أخرى فترجح كفة لا إله إلا الله لتطيش بهذه الصحائف فيؤمر
به فيدخل الجنة).
إذن الميزان حق بهذا النص وله كفتان عبد الله بن مسعود والحديث صحيح (لما صعد شجرة
من شجر الأراك ليأتي بعود من السواك فهبت ريح فتكفأته وكان دقيق الساقين فضحك
الصحابة فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَ تضحكون؟ فقالوا: يا رسول الله
نضحك لدقة ساقه فقال: والذي نفسي بيده إنها أثقل عند الله من جبل أحد) سبحان الله ?
وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ ? وقال تعالى ? فَلاَ نُقِيمُ
لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً (105) ?[الكهف: 105]، وقال ? فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ
يَرَهُ (8) ? [الزلزلة 7، 8]، نفوا كل هذه النصوص لأن عقولهم القاصرة لم تتحمل هذه
الدلالات الشرعية الربانية التي أتت بها النصوص، أيضاً كمثال آخر: عندما أخبرناهم
بحديث الدجال حديث الجساس المشهور في مسلم وأحمد، أن الدجال في جزيرة في بحر المشرق
وأنه أخبر بعلامات لا يخرج إلا بظهورها قالوا: كيف يكون ذلك الأمر؟ ? وَمَا
جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ ? [الأنبياء: 34]، كيف يتثنى لرجل أن
يعيش هذه الآماد؟ هذا أمر لا يعقل ولا يتصور فنفوا هذا الحديث، أحاديث كثيرة حديث
الموت (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح أقرن يرفع بين الجنة والنار(4/4)
ليعرفه أهل الجنة وأهل النار، فيقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟
فيقولون: إنه الموت ويا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيقولون: إنه الموت فيذبح بين
الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت ) سبحان
الله يقولون: لا، لا نصدق هذا ولا نثبت هذا وإنما يقصد بذلك التقريب، فليس الأمر
على حقيقته. وانظر على هذه الوتيرة أخباراً كثيرة تم صرفها عن ظاهرها إلى معان أخرى
محتملة، هذه مسألة خطيرة جداً وهنا عدة قواعد لا بد من التنبيه عليها:
القاعدة الأولى: الأصل في الكلام الحقيقة: هذه قاعدة مهمة جداً عندما تقول: رأيت
أسداً إذن رأيت أسداً والمقصود بالحقيقة ما يتبادر إلى الذهن معرفته، وتعريف
الحقيقة عند العلماء تعريفات كثيرة وشيخ الإسلام ابن تيمية كرَّ على كل تعريفات
الحقيقة والمجاز فأفسدها جميعاً في كتابه الرائع الإيمان والمقصود بالإيمان هنا هو
الإيمان الكبير، مطبوع بمفرده وهذا المجلد وهو الإيمان الكبير موجود في المجلد
السابع من مجموع الفتاوى كتاب رائع جيد لابد لطالب العلم أن يقرأ هذا الكتاب- كتاب
الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله- أتى بكل تعريفات الحقيقة التي
حدها البلاغيون واللغويون فأبطلها جميعاً، لأن مسألة الحقيقة والمجاز لها تعلق
بمسألة أصل اللغة وهذه المسائل التي هي أصل اللغة والحقيقة والمجاز داخلة في علوم
كثيرة داخلة في علوم اللغة، داخلة في علم البلاغة، في أصول الفقه، في علوم القرآن
داخلة في علوم كثيرة وتكلم العلماء عنها كثيراً ولكن دعونا نختار تعريفاً من هذه
التعريفات دون أن نقول: بأنه أسد أو ليس بأسد من غيره فما تبادر إلى ذهنك من معنى
اللفظ هذا هو حقيقة اللفظ، عندما تقول: أسد إذن أسد الذي يمشى على أربع، له لبد، له
أظفار، له أنياب، له زئير، حيوان متوحش، من أكلة اللحوم، يهابه الإنسان، وله أخلاق(4/5)
هي الأخلاق السبعية، هذا الأسد عندما أقول: رأيت أسداً لأننا إذا لم نحمل الكلام
على الحقيقة، أي إنسان يتكلم أي كلام ستشعر أن كلامه هذا أنت تريد أن تجعل فيه
احترازات، عندما تقول: قابلته هل قابلت زيداً؟ نعم قابلته. احترز إذن: هل قابلته
اليوم؟ نعم. الساعة السادسة؟ نعم. في القاهرة؟ نعم. هذه كلها احترازات حتى يتأكد
أنك قد قابلته. تصور لو أنك تعاملت مع كل كلام أن هذا الكلام ليس على الحقيقة لكن
إذن هناك احتمالات أخر، لو أنك تعاملت مع الخلق بأن الكلام لا يحمل على حقيقته
فيمكن أن تجن، لن تقبل أي كلام ولكن كل كلام ستسمعه لا بد أن تورد عليه احترازات
وما إلى ذلك تجن لا يمكن أبداً ولذلك القاعدة المهمة جداً أن الأصل في الكلام
الحقيقة. وكلام البلاغيين أن أفضل الكلام وأعذب الكلام أكذبه ليس المقصود بالكذب
هنا الكذب القيمي الذي نعرفه ولكن المقصود بالكذب الذي هو خلاف الظاهر وهذا أمر له
وجوه بلاغية يعرفها البلاغيون.
القاعدة الثانية: أن كل ما أمكن حمله على الحقيقة لا يجوز صرفه عن هذه الحقيقة إلا
بقرينة: تأمل معي هاتين الجملتين عندما أقول: قابلت أسداً الجملة الثانية: رأيت
أسداً يصافح الناس، رأيت أسداً في الجملة الأولى قولاً واحداً هوالأسد الحيوان
السبع إذن الأسد في الجملة الثانية؟ هل هو الأسد الحيوان السبعي يعني هل ممكن مثلاً
أن نذهب إلى حديقة الحيوان في الجيزة ونصافح الأسد؟ هل يمكن؟ لا يمكن. إذن هذه
قرينة جملة يصافح الناس هذه جملة حالية بينت حال هذا الأسد فصرفت المعنى المتبادر
الذي قد يتبادر إلى المعنى الآخر إذن هذه القرينة بها تم صرف اللفظ إلى المعنى
الآخر وهو معنى صحيح، بل إن المجاز في هذا الوقت يكون حقيقة،كما قال بعض العلماء
ويسمى ذلك من سنن العربية من سنن أي من طرائق العرب في الكلام من عادات العرب في
الكلام، إذن هذه القاعدة: كل ما أمكن حمله على الحقيقة لايجوز حمله على المجاز إلا
بقرينة.(4/6)
مسألة المجاز مسألة خاضَ فيها الناس خوضاً عظيماً ويقصد بالمجاز: هو صرف اللفظ عن
ظاهره، والمجاز نوع من التأويل وباصطلاح علماء اللغة المعاصرين أن التأويل محاولة
لجبر الانكسار الدلالي في الجملة. يعني الجملة لها نسق دلالي فعندما ينكسر هذا
النسق الدلالي لا بد من محاولة جبر هذا الانكسار عندما أقول: ذبح نفسه ذبح لو قلنا:
ذبح العصفورَ جملة صحيحة تماماً ليس فيها أي إشكال لما أقول: ذبح الكرسي هي جملة
صحيحة نحوياً ولكن غير صحيحة دلالياً لأنه لا يعقل أن يذبح الكرسي لما نقول: ذبح
نفسه هي صحيحة تركيبياً على مستوى النحو لكن من جهة الدلالة يمكن أن نقول: ذبح نفسه
فانتحر ويقول ذبح نفسه من كثرة الهم أي حمل نفسه هماً عظيماً فشبه كثرة الهم الذي
ركبه بمن ذبح نفسه، إذن هذه محاولة للتأويل إذن هناك علاقة بين صرف اللفظ عن ظاهره
وبين التأويل وكل هذه المحاولات محاولات لجبر الكسر الدلالي على مستوى الجملة.
الجماعة أهل السنة -ما أعظمهم وما أفضلهم- عندما يسمعون القرآن ويسمعون الحديث
يضعون النصوص على العين والرأس ويجعلوها في القلب ويقولون: سمعنا وأطعنا يأتوا بنص
القرآن ونص الحديث ويضعونهما على العين والرأس ويجعلونهما في داخل القلب ويقولون:
سمعنا وأطعنا ? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ?[النور:
51]، أما كثير من الذين ابتلوا بأن خلطت عقيدتهم بمسالك المتكلمين هؤلاء الناس لا
يقبلون إلا ما مرروه على فلاتر عقولهم، هذه العقول القاصرة الناقصة فردوا كثيراً من
نصوص الكتاب والسنة، وما ردوه ردوه من باب ماذا؟ من باب المجاز مثلاً قالوا: دخول
الأعمال في الإيمان هذا دخول مجازي. رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة رؤية مجازية،
ذبح الموت ذبح مجازي، نعيم القبر وعذابه إنما هو أمر معنوي ليس بالحسي من باب
المجاز.(4/7)
إذن عذاب مجازي ونعيم مجازي، يقولون: بأن الدجال هذا أمر مجازي يقصد به التخويف
كما نخوف الأطفال بالسلعوة وما إلى ذلك فهذا من باب التخويف وهكذا على طول الخط.
إذن نفوا الصفات ونفوا الرؤية ونفوا عذاب القبر ونعيمه ونفوا كثيراً من المثبتات في
باب الأسماء والصفات وفي باب الأسماء والأحكام، عندنا بابان:
- عندما أقول الأسماء والصفات هذا متعلق بالله -عز وجل- إذن ما يتعلق بدارسة
الأسماء والصفات هذا أمر تعلقه بالله -عز وجل-
- عندما نقول الأسماء والأحكام فهذا تعلقه بالعباد مؤمن منافق زنديق مبتدع
فاسق إذن هذه كلها متعلقة بالعباد إذن الأسماء والأحكام متعلقة بالخلق والأسماء
والصفات متعلقة بالحق.
فكثير من مسائل الأسماء والصفات ومسائل الأسماء والأحكام تم إخراجها عن حقيقتها
بدعوى المجاز، بل إن كثيراً من النصوص الشريعة في باب التفسير تم صرفها أيضاً عن
ظاهرها مع احتماليتها للظاهر دون تكلف، تم صرفها من باب المجاز، أضرب مثالاً واحداً
على ذلك وأقول: بأن كتب التفسير تحتاج إلى تنقيح وليس كل ما يسطر في الكتب يكون
صحيحاً بالضرورة.
في قول الله -عز وجل- ? وَاسْأَلِ القَرْيَةَ الَتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ
الَتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) ?[يوسف: 82] قصة يوسف، لما
يوسف جعل صواع الملك في رحل أخيه ثم بعد ذلك قال له اشتالوا الرحل وانطلقوا فلما
انطلقوا أتت الرسل تقول: إنا نبحث عن صواع الملك ولا بد أن نبحث في متاعكم وفي
رواحلكم فقالوا لهم: ما جئنا لنسرق وليس هذا بخلقنا بل نحن قوم تجار جئنا من بلاد
الشام إلى مصر ليس للسرقة، نحن تجار شرفاء لنا اسم تجاري وغير ذلك فكيف نأتي، نضرب
كل هذه المسافة البعيدة لكي نسرق هذا لا يعقل- وكانت مصر قديماً هي سلة الغذاء
العالمي، كنا نصدر للعالم القمح ليس كما يحدث في بعض الأعاصير- الذي حدث أنهم بدءوا(4/8)
بالتفتيش وأخرجوا الصواع من رحل أخي يوسف وعند ذلك تم القبض على أخي يوسف وتم رفعه
إلى يوسف وكان الحكم آنذاك أن تضرب عليه العبودية. أخوهم الكبير تلمس العطف من يوسف
وبدلاً من أن يرقق قلبه يعني اعتذر باعتذار سييء فقال له: ? قَالُوا إِن يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ? لا إله إلا الله ? فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي
نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) ? [يوسف: 77، 78] استمرت القصة إلى أن قال أخوهم: ?
فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي
وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ (80) ? [يوسف: 80] اذهبوا بعد ذلك إلى أبيكم فقولوا له:
إن هذا الأخ الذي خرج معنا إن ابنك هذا سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب
حافظين ولو كنا نعرف أنه يسرق ما أخرجناه معنا وإذا لم تصدقنا يا أبانا أبوهم من؟
يعقوب من يعقوب هذا؟ نبي من أنبياء الله -عز وجل- إذا لم تصدقنا فاسأل القرية التي
كنا فيها البلاغيون والمفسرون واللغويون يكاد إجماعهم أن ينعقد أن هذا من باب
المجاز مجاز الحذف، وهنا حذف مضاف ?وَاسْأَلِ القَرْيَةَ ?أي واسأل أهل القرية
?وَالْعِيرَ ? أي أصحاب العير أي إذا لم تصدقنا يا أبانا فاسأل أهل القرية واسأل
أصحاب العير فإنا لسنا بكاذبين، بل نحن في هذه المرة صادقون لسنا كالمرة الأولى
عندما قلنا: بأن الذئب أكل يوسف كنا كاذبين آنذاك لكننا هنا صادقون، هذا قول
المفسرين على حذف مضاف إذن ما رأيكم لو قلنا: بأن المسألة على ظاهرها هذه ليست
ظاهرية مفرطة كظاهرية ابن حزم وداود بن علي أبداً ولكن هذا تعظيم للنص وإيمان
بالنبوة. يعقوب هذا نبي من أنبياء الله -عز وجل- والأنبياء يحدث الله تعالى لهم ما
لا يحدثه لغيرهم أليس كذلك؟ بلى.. يحدث الله تعالى لأنبيائه مالا يحدثه لغيرهم، لقد(4/9)
أنطق الله تعالى الحجر لنبيه محمد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (لقد كنت أعرف
حجراً بمكة كان يسلِّم علىّ) حجر يسلِّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- والجزع
حنَّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصل الحديث في البخاري ورواية البيهقي (حتى سمعنا
له أنيناً كبكاء الصبي فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليه فسكن أو
فسكت) عندما جعل المنبر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وثبت أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- جرت له معجزات كثيرات من باب الخوارق- العظيمات- للعادات وبعض المصنفين جمعها
في كتب كبيرة: كدلائل النبوة للحافظ البيهقي، ودلائل النبوة لأبي نعيم فهذه كتب
مفردة وهناك كتب كثيرة تكلمت عن هذا الباب فالله تعالى يحدث لأوليائه من الأنبياء
والصالحين من خوارق العادات ما به يزدادون إيماناً وما به تكون الحاجة ماسةً إلى
ذلك، فما الضير؟.
يا أبانا أنت نبي وإذا لم تصدقنا في هذه الدعوة فاسأل القرية، القرية تطلق على
أمرين: تطلق على القرية التي هي البنيان كما تطلق علي القرية أي أهل القرية هذا في
اللغة مثل النهر يطلق النهر على المجرى كما يطلق النهر أيضاً على الماء الذي يجري
في المجرى وإنما يتوجه اللفظ بالسياق الذي ورد فيه لو قلت: حفرت النهر إذن النهر هو
المجرى ولو قلت: شربت من النهر إذن النهر هو الماء الذي يجري إذن هذا اللفظ يحتمل
الحالّ كما يحتمل المحلّ يحتمل الشيء ويحتمل الشيء الذي يسكن فيه وأصل القرية
المكان الذي يجتمع فيه الناس.
إذن يطلق لفظ القرية على المكان كما يطلق لفظ القرية على أهل المكان كقول الله -عز
وجل- ? وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(4/10)
(112) ?[النحل: 112] إذن القرية هنا المقصود بها ماذا؟ المقصود بها الأهل- أهل
القرية- دون تكلف ودون تأويل ودون مجاز لأن اللغة هي التي دلت على ذلك فالقرية تطلق
على المكان كما تطلق على ساكني المكان، فقوله سبحانه تعالى ? وَاسْأَلِ القَرْيَةَ
? ليس هنا مجاز وليس هنا حذف فالقرية هنا أهل القرية ويكون هذا توجيه قول لغوياً لا
مجاز فيه ولا حذف، ولو قلنا بالمعنى الآخر الذي فيه البعد العقائدي أي المكان لا
ضير في ذلك لأن هذا نبي ولو أتى نبي إلى حجر وقال: يا حجر هل حدث كذا؟ لأمكن أن
ينطق الله تعالى هذا الحجر لنبيه أليس كذلك؟ بلى هذا نبي فلابد أن نعظم الأنبياء لا
تكون المسألة متعلقة بالعقول القاصرة، كيف نقول نؤمن بالأنبياء ولا نؤمن أن الله
تعالى ينطق حجراً لنبي وتقول بعد ذلك: أنا أؤمن بالأنبياء؟ كيف ذلك؟ أنت تقول بأن
الأنبياء عجزة وأن الأنبياء قاصرون لابد من تعديل بعض الأمور عندما نتناول النصوص.
وكثير من أقوال التفسير تحتاج إلى نظر ولا ينبغي التسليم لكل ما ورد في الكتب بل
لابد أن ينظر في الأمر نظرة متقنة.
إذن المجاز دخل في باب الأسماء والأحكام ودخل في باب الأسماء والصفات ودخل في تفسير
النصوص ولذلك كان لابد من سدِّ هذا الباب، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا المجاز
الذي به تصرف النصوص بدعة، قال ذلك من المتقدمين أبو عبدالله بن خوارزمنداد المالكي
قال ذلك من المتقدمين، ومن المتأخرين شيخ الإسلام ابن تيمية وكتابه الإيمان من أخطر
الكتب في هذا الباب، بل إن شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه: الصواعق المرسلة على
الجهمية والمعطلة عقد الباب الثالث في كسر طاغوت المجاز جعله طاغوتاً يعني يجب أن
يكسر وما قالوا بأن الإمام أحمد وكذلك صاحب مجاز القرآن كانا يثبتان المجاز وهذان
متقدمان من علماء القرن الثالث الهجري. الإمام أحمد وصاحب مجاز القرآن لا يقصدون(4/11)
بالمجاز ما يذهب إليه المتأخرون ولكن يقصد بالمجاز ما يجوز في اللغة فكتاب مجاز
القرآن هو كتاب من كتب التفسير ويتلمس الوجوه اللغوية التي أجازتها العرب عند تفسير
القرآن وهناك بعض من أثبت المجاز مطلقاً وهذا هو جمهور الأصوليين والبلاغيين
واللغويين والمفسرين.
وهناك من فصل فقال: يمكن أن يقع المجاز في اللغة ولكن يحترز من وقوع المجاز في
القرآن وأصَّل لذلك الشيخ العلامة محمد بن الأمين المختار الشنقيطي وله رسالة مفردة
في ذلك ولعل هذا القول قول جيد بأن المجاز يتصور وقوعه في اللغة نعم وقد يتصور
وقوعه في القرآن والسنة ولكن بضوابط.
كانت هذه المقدمة مهمة جداً لماذا؟ لأننا سنتكلم عن العرش واستواء ربنا -سبحانه
وتعالى- على العرش وبعد هذه المقدمة نبدأ في شرح الجملة المناسبة من قول العلامة
الإمام ابن أبي زيد القيرواني -عليه رحمة الله-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-(على العرش استوى وعلى الملك احتوى ) نعم الاستواء
من صفات الله تعالى الفعلية، وصفات الله تعالى الفعلية هي المتعلقة بمشيئته، فهناك
صفات ذاتية، وهناك صفات فعلية وهذه القسمة هي قسمة علمية للبيان والتوضيح، وصفة
ذاتية أي لا تنفك عن الله -عز وجل- أما الصفة الفعلية فهي المتعلقة -كما قلت-
بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-.
فالله -تبارك وتعالى- رحيم ومن صفاته الرحمة، فالرحمة متعلقة بذاته في كل وقت، في
كل حين، وكذلك من صفات الله -تبارك وتعالى- الملك والحكمة والقوة والحياة والسمع
والبصر واليد كل هذه من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله -عز وجل- ومن صفات
الفعل أي المتعلقة بمشيئته أي يحدثها ربنا -سبحانه وتعالى- كيف شاء إذا شاء، دون أن
ندري كيف هذه، من ذلك الضحك ومن ذلك الحب فالله -تبارك وتعالى- إذا أطعته أحبك،
وإذا عصيته أبغضك، فالحب والكره هاتان صفتان لله -عز وجل- ولكن متعلقتان بماذا؟(4/12)
بفعله -سبحانه وتعالى- وإن شاء الله عز وجل- هناك حديث موسع عن الصفات فنذكر ذلك
بالبيان و التوضيح في حينه.
قوله (على العرش استوى) الاستواء يأتي مطلقاً كما يأتي مقيداً، الاستواء عند العرب
وفي لغة القرآن وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي مطلقاً ما معنى مطلقاً؟
أي ليس مقيداً عندما تقول: أرسلني أي لا تقيدني بقيد، أطلقني أرسلني بمعنى أطلقني
أي لا تقيدني بقيد لا تمسكني عندما تمسك يدي إذن أنت قيدتني لا استطيع الحركة إلا
بمقدار ما تسمح أنت به فإذا قلت لك: أرسلني أي أطلقني أي اجعلني خارج هذا القيد إذن
الإطلاق ما ليس به قيد.
إذن الاستواء يأتي أحيانا، مطلقا، ويأتي أحيانا، مقيدا،، يأتي مقيداً، بأن يتعدى
بالأداة: إلى أو على أو الواو إذن استوى إذا أتى بعده الأداة: على أو الأداة إلى أو
الأداة الواو إذن هذا قيد لـ"استوى" إذن هذا اللفظ لفظ مقيد، ومن ذلك إذا قيد
الاستواء بالأداة إلى والأداة بمعنى الحرف ولكن كلمة الأداة لعلها أدق من كلمة
الحرف، قال تعالى: ? هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ?[البقرة: 29] استوى إلى بمعنى قصد، وأيضاً عندما يقول
ربنا -سبحانه وتعالى- انظر إلى هذا القيد ? وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ ?[هود:
44]، في سفينة نوح ? وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ ?أي استقرت على صفيحة الأرض،
استوت على الأرض استوت على الجودي استوت بمعنى: علت واستقرت، وكذلك القيد بالواو
مثل استوى الفضيل بن عياض وسفيان الثوري فاستوى زائد واو فيها معنى التماثل، إذن
استوى الفضيل وسفيان بمعنى ماثل هذا هذا شابه هذا هذا ساوى هذا هذا.
أذن استوى يمكن أن تقيد بالأداة إلى تتقيد بالأداة على تتقيد بالواو.
وأيضاً قد يأتي الاستواء مطلقاً غير مقيد وذلك كقول الله -عز وجل- في موسى ?
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ?[القصص: 14]،(4/13)
استوى بمعنى ماذا؟ بلغ وتم?آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ? إذن هذه الكلمة التي هي
الاستواء تتنوع معانيها بتنوع الإطلاق والتقييد فإذا أطلقت، لها معنى، وإذا قيدت
لها معنى فقوله -سبحانه وتعالى- ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى (5) ?[طه:
5] إذن على العرش استوى أي استوى على العرش وقلنا: استوى أي علا وارتفع وهذا ثابت
عن أبي العالية وهو من كبار التابعين -عليه رحمة الله- قلت: بأن الإشكال عند
المتكلمين أنهم يمررون الكلام عبر فلاتر العقل وأي عقل هذا العقل؟ أهو عقل نبي؟ هل
هو عقل ولي؟ أم هو عقل رجل خطؤه أكثر من صوابه إن كان له صواب؟ لأن كثيراً من
المتكلمين هؤلاء عاشوا طوال حياتهم في التيه، بل منهم من لم يرجع إلى طريقة الإسلام
وطريقة أهل السنة والجماعة إلا عند وفاته- سبحان الله- فهؤلاء عندما يقرءون مثل قول
الله تعالى ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى (5) ? يقولون: المقصود بـ"استوى"
هنا استولى. لماذا؟ يقولون: لأن من لوازم استوى -بمعنى علا وارتفع- أن العرش صاراً
له حيز فصار هو متحيزاً في العرش سبحان الله.
هناك قاعدة في باب الصفات -وإن شاء الله سأذكرها لكم بعد ذلك- الكلام عن الصفات
فرع عن الكلام في الذات، هذه القاعدة مهمة جداً، فإذا كنت تجهل الذات فبالضرورة أنت
تجهل الصفة كيفاً ليس معنى.
الإشكال أننا قلنا لهم: عندما تقولون: إن استوى بمعنى استولى هذا لفظ وهذا تأويل لم
تعرفه العرب ولم يأتِ به نص حاججونا بقول رجل نصراني مولد أي ليس عربي قحاً ليس من
العرب الأقحاح، من هو؟ الأخطل يقولون: قال الأخطل- رجل مولد شاعر نصراني كان كثير
الهمز واللمز بالإسلام هذا رجل كان يهمز بالصلاة والزكاة والصيام والحج وكان يقرض
الشعر في ذم الإسلام هذا الرجل حلا لهم أن يأخذوا منه بيتاً وهو قوله:
لما استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق(4/14)
قالوا: استوى بشر على العراق أي استولى بشر على العراق. بالله عليكم أيها المسلمون
هل نترك كلام رب العالمين وكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمين لكلام رجل عدو
للإسلام، عدو للمسلمين، يلمز ويهمز فيهم- سبحان الله-
أولاً: كلامه ليس بحجة حتى على مستوى اللغة، لأن الاحتجاج بالشعر له ضوابط فلا بد
أن يكون قائل هذا الشعر من الأعراب أو من العرب الأقحاح وهذا ليس صليبياً في
العروبة أو العربية فكيف نقبل احتجاجه بهذا البيت؟
الأمر الثاني: أنه إذا كان المقصود باستوى بمعنى الاستيلاء أو القدرة فإن الله
تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء فلو قلنا: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء أو
القدرة فإن الله تعالى قادر على كل شيء، قادر على البهائم وعلى البهائم وعلى الحشوش
-دورات المياه- فهل نقول: بأن الله تعالى مستوٍ على الإنسان مستوٍ على البهائم
مستوٍ على الحشوش هذا كلام لا يمكن ولا يتصور، فالله تعالى منزه عن هذه المعاني
الناقصة، ولكن لا بد من إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه لقد رد شيخ الإسلام ابن
القيم في كتابه: الصواعق المرسلة وهذا موجود في مختصر الصواعق للعلامة الموصلي،
مختصر الصواعق ليس لابن القيم ولكنه للعلامة الموصلي رد على هذه الفرية في أكثر من
أربعين وجهاً فليراجع هذا الكتاب من شاء.
أيضاً قالوا: بأن لفظ الاستواء من الألفاظ المتشابهة، أي لا يعلم معناه إلا الله.
هذا كلام فاسد؛ لأن اللفظ المتشابه هو ليس المحكم لفظ ليس محكماً أي لا يدرى معناه
عندما نقول: طس ما معنى طس؟ الله أعلم لا ندري إذن نترك هذا لمن؟ لله -عز وجل-
الكلام عن كيفيات الصفات وكيفيات الذات من المشابه الذي لا يعلمه إلا الله -عز وجل-
أما معاني الأسماء ومعاني الصفات ليست من المتشابه، بل هي من المحكم وقلت لكم من
قبل إن آيات وأحاديث الصفات والأسماء قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قرأها(4/15)
الصحابة وسمعوها فلا يعقل ان يسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يسمع الصحابة
وأن يقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقرأ الصحابة القرآن والحديث ويجهلون معاني
ما يقرءوه هذا لا يمكن أبداً.
الأمر الذي بعد ذلك: أن السلف مازالوا يثبتون الصفات لله -عز وجل- وقلت لكم: بأن
الإمام مالك -رحمه الله تعالى- عندما سئل عن الاستواء والسؤال عن كيفية الاستواء
قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب وإني لأراك
مبتدعاً. وثبت هذا عن غير واحد من السلف عندما قالوا: بأن الاستواء غير مجهول أي
غير مجهول المعنى. والكيف غير معقول، لا يمكن تصوره عقلاً ومن الله رسالة وعلى
الرسول -صلى الله عليه وسلم- البلاغ وعلينا التسليم.
إذن لا بد أن نسلم الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسالته وبين فيها الأسماء والصفات
والرسول -عليه الصلاة والسلام- بلغ ذلك وما يجب علينا إلا أن نسلم.
وقلت لكم من قبل: بأن إثبات هذا الأمر الذي هو إثبات معنى الاستواء أن الله تعالى
فوق عرشه وعلمه في كل مكان هذا: عقيدة الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والسفيانين-
سفيان الثوري وسفيان بن عيينة- وعندما نقول: السفيانان نقدم سفيان الثوري لأنه أسد
وأعلم وأسن وأكثر إمامة من سفيان بن عيينة وهكذا وورد ذلك أيضاً عن غير واحد من أهل
العلم والأئمة كأبي حنيفة والشافعي وماللك والترمذي قالوا جميعاً بأن الاستواء
معلوم أي معلوم المعنى ونقل ذلك اللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة كما
نقله ابن تيمية في فتواه الحموية.
بعض الناس يذكر بأن مذهب السلف التفويض وينقل ذلك عن الإمام الشافعي ومالك وعبد
الله بن المبارك قالوا: بأنهم قالوا: عندما سئلوا عن بعض أحاديث الصفات كأحاديث (إن
الله تعالى يقبل صدقة أحدكم ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم فلوه) الفلو
الذي هو المهر الصغير الخيل الصغير أرأيت كيف أن الإنسان يربي حصانه الصغير؟ فإن(4/16)
الله تعالى يربي لك صدقتك ويقبلها منك ويأخذها بيمينه وكانت عائشة أم المؤمنين -رضي
الله عنها- تطيب ما تتصدق به بالطيب من أجل هذا الحديث، فلما سئل بعض الأئمة عن هذا
الحديث كالشافعي ومالك وعبد الله بن المبارك قال: «أمروها كما جاءت» أي اجعلوا هذا
الحديث كما جاءت فقالوا هذا تفويض، وهذا الأمر ليس بالتفويض ولكن هذه العبارة بها
نقص «أمروها كما جاءت بلا كيف» أي مالك والشافعي وعبد الله بن المبارك قالوا
«أمروها كما جاءت بلا كيف» إذن لا بد من إثباتها في الأمر.
هناك أوصاف لعرش الرحمن أقولها سريعاً:
- فعرش الرحمن من أول المخلوقات
- وأيضاً عرش الرحمن على الماء
- أيضاً عرش الرحمن له قوائم.
- وصف الله تعالى عرشه بأنه مجيد وأنه عظيم.
- عرش الرحمن يتأثر ويشعر انظروا هذا المعنى الجميل عرش الرحمن يتأثر ويشعر
فقد اهتز العرش لموت سعد بن معاذ -رضي الله عنه-
- عرش الرحمن فوق جنة الفردوس.
- عرش الرحمن استوى عليه الرب –سبحانه- فشرفه باستوائه عليه، فهذه
بعض أوصاف عرش الرحمن.
- وهناك أوصاف أخرى كظل عرش الرحمن هذه أيضاً من صفات عرش ربنا
-سبحانه وتعالى-
- وأيضاً أن هذا العرش له حملة. هذا من صفات عرش ربنا سبحانه.
قال ابن أبي زيد (وعلى الملك احتوى ) قال:( على العرش استوى وعلى الملك احتوى)
فالله- تبارك وتعالى- مالك كل شيء وملكه نافذ في كل شيء، لا يعزب عنه شيء ولا يغيب
عنه شيء فسبحانه وتعالى قال: ? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ?[الملك: 1]، وقال سبحانه ? لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) ?[المائدة:
120]، فتأمل ملك ربك وانظر إلى ملك غيره لتعظم ربك وتزداد له حباً أسأل الله
–تعالى- أن يجعلنا من المعظمين له، المحبين له، المقدرين قدره، المتبعين له ولهدي(4/17)
نبيه -صلى الله عليه وسلم- وصلِّ اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابات الأسئلة:
إجابة السؤال الأول قال الله تعالى في سورة الشورى ? فَلِذَلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ (15) ?[الشورى: 15]،
وحكمة هذا كما قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- اشتملت هذه الآية الكريم على عشر
كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها قالوا: ولا نظير لها إلا آية الكرسي
فإنها أيضاً عشر فصول كهذه ومن ذلك أيضاً أن آية الكرسي اشتملت على معالم الإيمان
والتوحيد وآية الشوري اشتملت على معالم الشرائع فمن وعاهما فقد وعى معالم دين
الإسلام.
ما شاء الله، عظيم إجابى السؤال الثاني: قال القيرواني في عقيدته: وسع كرسيه
السماوات والأرض ومعناها: أنه على الرغم من أن السماوات سبع وأن الأراضين سبع بكل
ما فيهما فإذا كان كرسيه -عز وجل- قد وسع كل ذلك فدل ذلك على عظيم قدر هذا الكرسي
ودل ذلك على أن الكرسي حق.
إجابة السؤال الثالث: دلالة اقتران اسم الله العلي بأسمائه العظيم والكبير
والحكيم:
أن العلي اسم متعلق بربوبيته -سبحانه وتعالى- فهو دال على ربوبيته والرب هو القائم
على خلقه فقوامته على خلقه تقضي كونه عظيماً كبيراً حكيم
إجابة السؤال الرابع: نرد على من نقم على ابن أبي زيد بقوله: ذاته:
أولاً: أن ابن أبي زيد استخدم هذا اللفظ مضطراً للرد على المؤولة من أهل زمانه
الذين ادعوا أن استواء الله على عرشه بمعنى: أنه استولى عليه أو تمكن منه، فأراد
إثبات أن الاستواء كان بالذات دون تكييف لذلك، كما اضطر الإمام أحمد في عصره إلى(4/18)
قوله: إن القرآن ليس مخلوقاً رغم أن أحداً من الصحابة لم يكن قد قال ذلك من قبل.
ثانياً: أن هذه الكلمة ذكرها بعض المتقدمين مثل الإمام أحمد وسفيان الثوري والفضيل
بن عياض.
ثالثاً: قول الإمام الذهبي عن ابن أبي زيد القيرواني في سير أعلام النبلاء كان على
طريقة السلف في الأصول مما دل على صحة معتقده.
إجابة السؤال الخامس: بعض المعاني المستفادة:
أولاً: إثبات أن الله بكل شيء عليم وأن الإنسان مهما بلغ من العلم فهو فقير إلى
الله تعالى قال الله تعالى: ? وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ?[طه: 110] وأن كل
العلوم موصولة بالله -عز وجل- فمن حصل علماً فليتصاغر لله فعلمه في جنب الله لا شيء
ثانياً: أن الله مستوٍ على عرشه بذاته.
ثالثاً: أن الله سميع بصير قد أحاط بكل شيء علماً وسمعاً وبصراً.
رابعاً: المدبر ليس اسماً من أسماء الله ولكنه إخبار عن صفة فعلية لله -عز وجل- أن
الله يدبر أمر كل شيء في هذا الكون.
خامساً: علم الله بخلقه علمين: سابق وهو علم الأول متعلق بقدر الله، ولاحق وهو
العلم الثاني وهو متعلق بالجزاء الذي يجازى به العبد وأبلغها لغيري بمحاولة إعطاء
المتلقي أمثلة تقرب له المعنى مع التأكيد على أن الله ليس كمثله شيء وهو كما بين
فضيلتكم كيفية المعية بمثال القمر فالآن أصبح كثير من الناس -ولا حول ولا قوة إلا
بالله- لا يقتنعون إلا بالدليل العقلي الذي يقرب المعنى إلى أذهانهم
هناك سؤال: يقول: هل ردنا- على من يؤول استواء الله تعالى على العرش وأن الله
تعالى معنا في كل مكان: بأن الله خلق المكان والزمان وهو لا يخضع لقوانينهما كما
يخضع البشر لهما- جائز؟
الأوفق في باب الأسماء والصفات ألا نتكلم بكلام لم يتكلم به السلف، فالإمساك أولى
فمسألة لم يخضع أو يخضع أو ما إلى ذلك لا داعي له، إلا إذا كانت هناك ضرورة ملحة من
استخدام بعض الألفاظ التي لم يتكلم بها السلف مثل لفظ البائن أو لفظ التغير أو ما(4/19)
إلى ذلك الغيرية والبينية وما إلى ذلك هذه الألفاظ استخدمها المتقدمون أو بعض
المتقدمين للضرورة فكلما كانت ألفاظنا سلفية أثرية كلما كان ذلك أولى، ولا نستخدم
غيرها إلا عند الضرورة وبقدر الحاجة. والله تعالى أعلى وأعلم.
السؤال الثاني: لقد قلت يا شيخ: إن الله تعالى أثبت لنفسه العين فما هو الدليل؟
وهل إثبات الرؤية أفضل كدليل من دون إثبات العين؟
سأرجيء الكلام عن الصفات مطلقاً لدرس الصفات لأنه درس طويل سنتكلم فيه عن الصفات
كما أرجأت الحديث عن العرش لمجلس اليوم. وكنت أتمنى أن يفسح لي المجال ساعة أخرى
لأكمل الحديث عن العرش، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
هناك سؤال: يقول: ما معنى معلوم من الدين الإسلامي بالضرورة؟
المعلوم من الدين بالضرورة معناه: ما لا يسع المسلم أن يجهله. والمعلوم من الدين
بالضرورة يختلف ويتفاوت باختلاف الأزمنة والأمكنة والطوائف، فقد يكون الشيء معلوماً
من الدين بالضرورة في وقت دون وقت وفي عصر دون عصر وفي مصر دون آخر وعند طائفة دون
أخرى والدليل على هذا مثلاً أن أبا بكر -رضي الله عنه- عندما قاتل مانعي الزكاة
ولكم أن تراجعوا هذا في شرح مسلم للإمام النووي، ونقل الإمام النووي عن سابقيه
قولهم: بأنه قاتل مانعي الزكاة قتال المتأولين ولو أن غيرهم في هذه الأعصار منعوا
الزكاة وقوتلوا لقوتلوا قتال المرتدين أو كلاماً شبيهاً بذلك لماذا؟ لأنهم كانوا
حديثي عهد بجاهلية، حديثي عهد بإسلام فكانوا متأولين فلم تكن الزكاة معلومة عندهم
بالضرورة أما الآن فصارت الزكاة معلومة عندنا بالضرورة عندما تأتي بطفل صغير تقول
له: قل لي أركان الإسلام. سيقول لك: بني الإسلام على خمس ومنها إيتاء الزكاة أرأيت
كيف أن هذا الطفل الصغير يعلم فرضية الزكاة وأنها فرضية مطلقة غير مقيدة بشخص
أوبزمن؟ وكيف أن الأناسي الكبار من هؤلاء القوم في عصر الصحابة منعوا الزكاة فصار(4/20)
المعلوم من الدين بالضرورة في باب الزكاة مختلفاً باختلاف الأعصار.
أيضاً المعلوم من الدين بالضرورة قد يختلف باختلاف الأمصار فالمعلوم من الدين
بالضرورة مثلاً في بلاد الحجاز حيث فشا فيها العلم والأثر والحديث وكثر فيها
الفقهاء ليس كالمعلوم من الدين بالضرورة في بيئة كثرت فيها البدعة وقلَّ فيها العلم
واندرس فيها الفقه وليس فيها من يعلم الناس الدين فالأمر يكون مختلفاً باختلاف
البيئات.
أيضاً المعلوم من الدين بالضرورة قد يختلف باختلاف الأشخاص فالمعلوم من الدين
بالضرورة عند العالم ليس كالمعلوم من الدين بالضرورة عند من؟ عند الجاهل، فقد
يتصور- وهذا الأمر سمعته ورأيته -في بعض القرى، في بعض البلاد النساء لا تصلى لأنهن
يَرَيْنَ أن الصلاة إنما هي فريضة على الرجال دون النساء، هذا رأيته بنفسي هناك بعض
النساء لا يصلين ظناً منهم أن الصلاة فريضة على من؟ على الرجال دون النساء -سبحان
الله- هذا جهل. في بيئة أخرى يرون أن الصلاة فريضة على الرجال والنساء وهذا غالب
بيئات المسلمين. فلأنهن جاهلات فجهلن هذا المعلوم من الدين بالضرورة ولو أن شخصاً
رُبيَ في بيئة مسلمة إسلاماً بسيطاً لا إسلاماً جاهلاً لرأى أن ذلك الأمر أمراً
معلوم من الدين بالضرورة.
إذن المعلوم من الدين بالضرورة هو ما لا يسع المسلم أن يجهله وهذا متفاوت بتفاوت
الأعصار الأمصار الأشخاص. والله تعالى أعلى وأعلم .
ذكرتم أقوال العلماء في المجاز وقلتم: إن منهم من أثبت المجاز ومنهم من فصل في
المجاز ومنهم الإمام الشنقيطي وقلتم: ذهب البعض في التفصيل بأن المجاز يتصور وقوعه
في اللغة وقد يتصور وقوعه في القرآن والسنة ولكن بضوابط فما هي الضوابط؟
هذه الضوابط باختصار شديد جداً:
أن تدل القرينة عليه.
الضابط الثاني: ألا يكون داخلا في باب من أبواب الاعتقاد، سواء باب الإيمان أو باب
الأسماء والصفات أو باب الأسماء والأحكام. وهذا ضابط مهم جداً لأن الذين ردوا(4/21)
المجاز ردوه من أجل سيطرته على المتكلمين في هذه الأبواب. المتكلمون جعلوا هذه
الأبواب مرتعاً خصباً لمسألة المجاز، فسدوا عليهم الباب كما يقولون: الباب الذي
يأتي لك منه الريح عليك أن تغلقه وتستريح، فهذا الباب دخل منه المتكلمون في أبواب
الاعتقاد في الأسماء والأحكام والأسماء والصفات وباب الإيمان وباب القدر وكذا وكذا
فأغلقوه عليهم فلو روعي هذان الضابطان لكان ذلك خيراً.
لها ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: قلتم: إن علم الله علمان: سابق ولاحق فما معنى علم
الله اللاحق هل معناه الحدوث والتجدد ؟
لا نريد -كما قلت لكم- أن نتكلم بألفاظ لها مدلولات كلامية كثيرة وأفضل الألفاظ هي
الألفاظ الشرعية فمسألة الحدوث ومسألة التجدد ومسألة التحيز ومسألة البينونة أو
الإبانة وما إلا ذلك كل هذه ألفاظ تحاشيها أفضل وأسد. والله تعالى أعلى وأعلم.
سؤالها الثاني: هل يمكن أن نقول في قوله تعالى ? وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ
الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ..... ?[البقرة: 143]، أي ليظهر علم الله
للعباد أم هذا التفسير غير صحيح؟
قال: ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ ? لو قال: إلا لنُعلم لكان هذا متجهاً.
سؤالها الثالث: ما معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إن الله تعالى خلق آدم
على صورته؟
أترك هذا أيضاً في الحديث عن الصفات لأن هذا سيجرنا إلى باب واسع والله.
بالنسبة إلى بعض الناس يقولون كلمة: يا ساتر يا ستير يا ستار أيهما أصح في أسماء
الله وصفاته؟
الصحيح هو الستير(إن الله حيي ستير) والأصل في أسماء الله تعالى التوقيف.
السلام عليكم ورحمة الله: ذكرتم أن القول المختار بالنسبة لمسألة المجاز أنه قد
يكون في الكتاب والسنة مجاز فنريد من فضيلتكم توضيح ذلك بأمثلة حتى يتبين لنا الأمر
متى يصلح في القرآن ومتى لا يصلح؟
مثلا في قول الله تعالى ? وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ?[مريم: 4]، فهذه من(4/22)
الأمثلة التي عندما تكلم فيها بعض الذين منعوا المجاز حاموا فيها حوماً كثيراً وفي
النهاية قالوا: بأن الاشتعال حتى وإن كان ليس على حقيقته فهذه من سنن العربية فهذا
مثال بسيط ولك أن تراجع هذا المثال وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الإيمان حول هذا
المثال وتُقارن شرح شيخ الإسلام حول هذه الآية بما قاله الشنقيطي في الأضواء وبما
قال غيره كابن كثير والقرطبي.
تقول: نعلم أهمية شروط لا إله إلا الله ومكانتها من التوحيد، لكن ما صحت أن تدرس
هذا الشروط العامة كمادة لمدة ستة شهور وذلك اقتداء بفعل النبي -صلى الله عليه
وسلم- عندما دعا قومه إلى التوحيد ثلاثة عشر عاماً تدرس هذه المادة مع الإسهاب بشرح
أعمال القلوب وربطها بالواقع كثيراً وأيضاً أسأل عن تدريس العقيدة الواسطية لمدة
ثلاث سنوات مع التعمق أيضاً في شرح الأسماء والصفات حيث كل اسم يأخذ حلقة كاملة هذا
مع وجود كتب أخرى جديرة بالتدريس للعوام مثل كتاب التوحيد. ما صحة هذا الفعل؟ وما
الحد الذي يصل إليه الداعية في الكلام في أعمال القلوب وواقع الناس وذلك بقصد معرفة
الناس بالتعامل مع مشاكل الحياة ؟
السؤال صاحبه كأنه يحمل الجواب عنه حقيقة ينبغي أن يكون تدريس الشيء مرتبطاً
بالقصد، وعندما تدرس العلوم بعيدة عن الغاية والقصد يؤدي ذلك إلى الإشكال فما يدرس
للعامي غير ما يدرس لطالب العلم غير ما يدرس للطالب المتقدم غير ما يدرس للطالب
المحقق والمحرر غير ما يكون بين العلماء في بحوثاتهم وتحريراتهم فالأمر متنوع
ومختلف وأنا مع السائلة في أنه لابد من مراعاة الأنفع لعموم قلباً وعملاً.
السلام عليكم ورحمة الله بماذا نرد على من يقول بحديث: إن الله ينزل إلى السماء
الدنيا كل ليلة باختلاف الليل في دنيانا بماذا نرد عليه؟
هناك اتصال آخر: أريد أن أعرف عندنا قول نقول يا ساتر أو يا ستار فهل هذا من أسماء
الله الحسنى؟
الأخ كان يسأل عن الرد في حديث النزول باختلاف الليل والنهار(4/23)
سأرجيء الحديث في مسائل الصفات للمرة القادمة -وإن شاء الله- هناك بعض الأسئلة
سأراعي في الدرس المتعلق بالصفات أن أجيب عن كل هذه الأسئلة عند الحديث عليه إن شاء
الله.
مسألة السؤال الآخر ولن أعلق عن الملاحظة لأن هذه أيضاً فيها كلام، السؤال الأخر
ساتر وستار وستير عندنا في مصر العادة يا ساتر ياستار وهاتان كلمتان لم تثبتا عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- بل الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الستير (إن
الله حيي ستير) وإذا نظرنا إلى اللغة نجد أن ستير صفة مشبهة ويعجبني في باب الأسماء
أن أقول عما كان من باب المبالغة لا أقول: مبالغة لأن المبالغة لها حد ولكن أقول:
صفة مشبهة
يعني يعجبي ذلك وأحب ذلك في باب الأسماء أن أقول: صفة مشبهة؛ لأن الصفة المشبهة
تكون لازمة أليس كذلك؟ تكون لازمة، أما صيغة المبالغة نقول مثلاً: تم القبض على
سفاح الجيزة وقتل امرأتين فقط ويسمونه سفاحاً وسفاح على وزن فعَّال ولم يقتل إلا
امرأتين فقط، لكن أولى أن نقول: إنها صفة مشبهة فأخي الحبيب الصحيح أن تقول: يا
ستير.
السؤال الأول: هل يصح حديث( ما الأرض في السماء الأولى إلا كحلقة في فلاة) إلى أخر
الحديث (وما الأراضين السبع والسماوات السبع في عرش الرحمن إلا كحلقة في فلاة)؟
نعم صحيح.
السؤال الثاني: النساء اللاتي تركن الصلاة لعدم علمهن بالوجوب هل يعذرن بالجهل؟
نعم صحيح، يعذرن بالجهل فالعذر واسع: عذر بالجهل، وعذر بالتأويل، وعذر بعدم القصد
الذي هو الخطأ، وعذر بالنسيان، وعذر بعدم الإدراك برفع العقل كالجنون أو الصغر أو
النوم فهذه كلها أبواب فتحها الله –تعالى- رحمةً على لخلق وعذراً لهم.
تقول السلام عليكم ورحمة الله: هل نحكم على كل من أوَّل في باب الأسماء والصفات
بأنه مبتدع دون التمييز بين المجتهد والمعاند؟ وهل يدخل في هذا الحكم العامي الذي
مذهبه مذهب من يفتيه؟ وبارك الله فيكم؟(4/24)
بالنسبة للعامي قلت من قبل: بأن المقلد لابد له أن يجتهد في التقليد لأن الأصل في
الدين هو الاجتهاد فالعالم يجتهد في معرفة الأحكام الشرعية واستخراجها من أدلتها
التفصيلية والمقلد يجتهد في تقليد من يقلد. أرأيت لو أن رجلاً عامياً أصابه داء في
بطنه سيذهب إلى الأطباء هل هو طبيب حتى يميز بين الأطباء أم يجتهد في السؤال عن
الطبيب الحاذق الماهر؟ يجتهد ، ثم كيف يجتهد العامي في معرفة الطبيب الحاذق الماهر
ولا يجتهد في معرفة العالم الحاذق الماهر؟ إذن لا بد لهذا العامي أن يجتهد في معرفة
من يقلد فإذا اجتهد في معرفة من يقلد سيهديه الله تعالى للحاذق الذي يبين له معالم
الدين فإذا اجتهد العامي وبذل جهده في تقليد من يقلد فلم يجد إلا هذا الرجل الذي
يصرف الكلام عن ظاهره ويضله في هذه الأبواب فهذا المقلد معذور. والله تعالى أعلى
وأعلم.
يقول: بعض الدعاة عندما يتكلم عن حديث (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها
كيف شاء) ويشير بإصبعيه هل هذا تشبيه منهي عنه؟
هذا الحديث مع جملة الأحاديث كحديث الصورة وحديث المجيء وحديث النزول كل هذه كلها
سنتكلم عنها في حينها إن شاء الله.
السلام عليكم ورحمة الله شيخنا: هل تكون الصفات ذاتية وفعلية في نفس الوقت كالرحمة
مثلاً إذا وجد المرحوم وجدت الرحمة أي أنها متعلقة بالمشيئة أي أن الله -تبارك
وتعالى- يرحم إلا من يشاء؟ أفيدونا يرحمنا ويرحمكم الله؟
كلمة مجملة والتفصيل في حينه: أن بعض الصفات قد تكون ذاتيه من وجه فعلية من وجه آخر
كصفة الكلام. فالله -تبارك وتعالى- من صفته الذاتية الكلام وباعتبار أن الله تعالى
يتكلم وقتما شاء إذا شاء تكون صفة فعلية، الصفة قد يكون لها تعلق بالذات فتكون صفة
ذاتية وقد يكون لها تعلق أحياناً بالفعل فتكون صفة فعلية. وبسط ذلك في باب الصفات.
هل يصح القول بأن الله لا يحويه مكان؟(4/25)
لا نثبت هذا ولا ننفي والأوثق أن نكون متبعين للألفاظ السلفية الأثرية لأن فيها
النجاة «عليكم بالعتيق»كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
هل يصح أن يقال أن الله -جل وعلا- ليس لديه يد محسوسة فهل يصح مثل هذا القول؟ فقد
سمعت أحد الدعاة يقولها في محاضرة في بلاد الغرب والناس تجهل العلم بالأسماء
والصفات فصار في نفسي شيء من هذا التشبيه؟
نمسك عن الخوض في مسائل مثل هذه المسائل يعني إجابتي في هذا كالإجابة الأولى.
هلا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة؟
بداية أنا لم أستطع أن أتفاعل معكم هذه المحاضرة وأسألكم لأنه كان عندي كمٌّ كبير
أريد أن أخرجه وكنت أخشى أن تضيع الدقائق وتتفلت من بين أصابعي، ولكن قدر الله وما
شاء فعل.
هناك أسئلة بسيطة:
السؤال الأول: ماذا تعرف عن العرش؟
السؤال الثاني: اذكر بعض القواعد في مسألة الحقيقة والمجاز؟
السؤال الثالث: من أسماء الله تعالى الملك استدل على ذلك؟
وأكتفي بهذه الأسئلة وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.(4/26)
الدرس الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى،
اللهم صلِّ وسلم على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
كثيراً، ثم أمَّا بعد:
كان الحديث في الحلقة الماضية حول مسألة العرش والكرسي وما شاكل ذلك وما شابهه في
مسألة إثبات بعض الصفات لله ربنا- سبحانه- وبإذن الله تعالى- نواصل حديث اليوم وقول
أبي زيد - عليه رحمة الله- (وله الأسماء الحسنى والصفات العلى) وهذه الجملة من
الإمام ابن أبي زيد - عليه رحمة الله- إنما هي مستقاة من قول الله - تعالى- ?
وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ?[الأعراف: 180] وقوله - سبحانه
وتعالى- ? هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى ?[الحشر: 24] فالحسنى صفة للأسماء، ومن هنا فإن أسماء الله - تعالى-
كلها حسنى ليس فيها ما يكون محلاً للعجز أو النقص أو مساراً لما يتوهمه الإنسان من
أصول المشابهة أو الملامسة أو الحلول أو الاتحاد أو نحواً مما قد يتصوره بعض
المبتدعة.
وهنا - حقيقة - عدة قواعد لابد من إرسائها:
- وجرت عادة المصنفين في مسائل الاعتقاد لا سيما في مسألة الأسماء والصفات،
وقلت لكم من قبل: بأن الأسماء والصفات إذن: هذا متعلق بالله - عز وجل- ولو قلت:
الأسماء والأحكام لكان ذلك متعلقاً بالمخلوقين.
- جرت عادة المصنفين في مسائل الاعتقاد - لا سيما في مسألة الأسماء والصفات-
أن يذكروا بعض القواعد إما أن تكون موجودة مبثوثة في ثنايا حديثهم وكلامهم ونجد ذلك
عند شيخ الإسلام ابن تيمية - عليه رحمة الله- في مجلدين كبيرين في جملة أجزاء مجموع
الفتاوى هذان المجلدان بتحدثان عن الأسماء والصفات، المجلد الخامس والمجلد السادس
كلاهما عن الأسماء والصفات. لو راجعنا هذين المجلدين لوجدنا أن شيخ الإسلام - عليه(5/1)
رحمة الله- يؤصل لكثير من القواعد في ثنايا الحديث. والمقصود بالقواعد: هذه الجمل
العظيمة التي ينبني عليها غيرها، أو يتفرع عنها غيرها، هذه القواعد كان شيخ الإسلام
ابن تيمية - عليه رحمة الله- حفياً بذكرها وتأصيلها حتى تكون كالقيد الذي يرجع إليه
عندما يكثر الحديث وتتعدد أطرافه. ومن المحدثين الذين جروا على هذا النسق من تأصيل
القواعد وإبرازها، بل وإخراجها محددة محصورة شيخنا الشيخ محمد صالح العثيمين - عليه
رحمة الله- في كتابه: القواعد المثلى.
ولن نخرج عن هذه العادة الحميدة وسنلخص شيئاً من هذه القواعد شرحاً لهذه الجملة
المباركة (وله الأسماء الحسنى والصفات العلى )من هذه القواعد أيها الإخوة الكرام:
أن أسماء الله - تعالى- توقيفية. ما معنى توقيفية؟ أي: لا يجوز الخوض فيها إلا
بتوقيف من الشرع، لا يجوز خوض الحديث في هذه الأسماء إلا بتوقيف من الشرع إلا بنص
من الكتاب وصحيح سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فنحن ما علمناها إلا من جهة الشرع
ولولا أن الله - تعالى- أخبرنا بها كما أخبرنا بها نبينا -صلى الله عليه وسلم- ما
علمناها إذن: الأسماء الحسنى ما علمناها إلا بإخبار الله - تعالى- لنا بها وكذلك
أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- فطالما أن جهة العلم بالأسماء موقوفة على الشرع
فلابد أن نمسك حيث وقف الشرع، قال الله - تعالى- ? وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ?[الأعراف: 180]
والإلحاد معناه: الانحراف والذين انحرفوا في باب الأسماء: هم أهل التجهيل وأهل
التعطيل وأهل التأويل، هؤلاء صرفوا هذه الألفاظ عن مقاصدها وعما أراد بها الشرع
ليجعلوها وفق ما يريدون كأنهم يقولون بلسان حالهم: نحن أعلم من الله - عز وجل- ونحن
أعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركنان عظيمان دخل منهما المبتدعة في باب
الأسماء والصفات:(5/2)
الأول: متعلق بالتمثيل. والثاني: متعلق بالتكييف، لماذا قلت: التمثيل ولم أقل
التشبيه مع أن المعنى قريب؟ اختير لفظ التمثيل؛ لأن القرآن نطق به فقال - تعالى- ?
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ?[الشورى: 11] ثانياً: أن المماثلة معناها المساواة من كل
وجه، أما المشابهة فلا تعنى المساواة من كل وجه فعندما ننفي المماثلة فهذا في باب
التعظيم أولى من نفي المشابهة.
دخلوا من باب التمثيل فظنوا أن ما أثبت الله - تعالى- لنفسه من الأسماء وما أخبر
عن نفسه من الصفات وما أخبر عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الصفات، هذه الأسماء
وهذه الصفات تماثل أسماء كما تماثل صفات البشر هذا باب كبير من الضلال.
وأهل السنة يخالفون ذلك تماماً، مسألة الباب الثاني قلنا: الباب الأول: المماثلة
والباب الثاني: التكييف: أنهم حاولوا أن يكيفوا أسماء الله - عز وجل- على حسب
مايتصورون فلما وجدوا أن عقولهم لا تستطيع تحمل ذلك لجئوا إما إلى النفي المحض وهذا
حال المعتزلة والجهمية وإما إلى صرف ظاهر اللفظ إلى معنى آخر، وهذا حال المؤولة-
ففي الحقيقة - المعتزلة والجهمية في نفيهم للصفات إنما عبدوا إلهاً عدماً محضاً
قالوا: نعبد إلهاً عليماً بلا علم قديراً بلا قدرة سميعاً بلا سمع بصيراً بلا بصر
كيف يكون ذلك، فكل صفة من صفات الكمال تتصور للخلق فالله - تعالى- أولى أن يتصف بها
على الوجه اللائق له - سبحانه وتعالى- فالأسماء أصلها توقيفية لا يجوز لأحد أن
ينتزع اسماً أو أن يؤلف اسماً أو أن يزعم اسماً لله - عز وجل- ولذلك نحن نحفظ
الدعاء الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحفظه صحابته الكرام -رضي الله تعالى
عنهم جميعاً- الحديث أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح حديث عبد الله بن مسعود أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (ما أصاب أحداً قط هم ولاحزن.... ثم قال:
اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل(5/3)
اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به
في علم الغيب عندك )
إذن علمته أحداً من خلقك فيه دليل على أن علمنا لأسماء الله - تعالى- موقوف على
تعليم الله - عز وجل- لنا ولو أن الله - تعالى- شاء ألا يعلمنا هذا الباب ما علمنا
إياه، وبالتالي نمسك حيث أخبر الله - عز وجل- فلا نتعدى قول الله ولا قول رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى- ? وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ
قِيل ?[النساء: 122] ? وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا ?[النساء: 87] فالله -
تعالى- يخبر بنفسه عن نفسه فنقبل هذ الخبر، وأيضاً ليس أحد أصدق في الإخبار عن الله
- عز وجل- من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو نبيه وهو رسوله وهو الذي جعله الله -
تعالى- حجة على البشر فالله - تبارك وتعالى- علم نبيه وأخبر نبيه في القرآن وفي غير
القرآن أقول: في القرآن وهو الوحي المباشر وفي غير القرآن في سنة النبي -صلى الله
عليه وسلم- علمه أسماء كما علمه صفات ينبغي أن نقف عندها لا نتجاوز ذلك أبداً
(علمته أحداً من خلقك) فلا بد لنا في باب الأسماء والصفات أن ندخل هذا الباب ونحن
نستشعر عبوديتنا لله - عز وجل- نحن فقراء ونحن جهلة ونحن محتاجون إلى الله - عز
وجل- في شئون المعاد وفي شئون الدنيا فلا ينبغي لك أن تظن أنك عندما تدرس هذا الباب
أنك تدرسه كنوع من المسائل المتراكمة وكنوع من الردود ترد بهذا على هذا وتفند قول
هذا لترد به على قول هذا أبداً وإنما ندرس هذا الباب لنزداد قرباً إلى االله - عز
وجل- ندرس هذا الباب لنزداد إيماناً بالله - عز وجل- ندرس هذا الباب لنعمل بمقتضى
الأسماء والصفات كما سيأتي ذكره بعد قليل - بإذنه سبحانه وتعالى-.
القاعدة الأولى: أن الأصل في الأسماء أنها توقيفية إذن: لايجوز لأحد أنه يشتق اسماً
من أسماء الله - عز وجل- أو يخبر باسم من أسماء الله - عز وجل- لم يأت به نص. وهذا(5/4)
هو الخطأ الذي وقع فيه بعض المتفننة - لا سيما في بعض كتب التفسير- عندما نسبوا إلى
الله - عز وجل- أسماء لم يسمها ربنا - سبحانه وتعالى- لنفسه كما لم يخبر بها نبيه
-صلى الله عليه وسلم- عنه من ذلك مثلاً اسم الزارع في قول الله - عز وجل- ?
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ?[الواقعة: 64] قال: أم نحن
الزارعون إذن: من أسماء الله - تعالى- الزارع طبعاً هذا كلام ليس بالصواب؛ لأن هذا
ليس من أسماء الله - عز وجل- بل هذا إخبار عن فعل - عز وجل- في الخلق، وعلماء
الاعتقاد يقولون: بأن باب الصفات أوسع من باب الأسماء وباب الإخبار أوسع فينبغي- -
يا عبد الله- أن تقف حيث أوقفك الله - عز وجل- واعلم: أن من أعظم الأمور أن تتكلم
عن الله بما لم يأذن به الله - عز وجل- قال الله - تبارك وتعالى- ? قُلْ إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ?[الأعراف: 33] محل
الشاهد هنا ? وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ?، انظر - يا عبد
الله- كيف أن الله - تعالى- بدأ بما هو أخف وثنى بما هو أغلظ لينهي الآية بأشد شيء
وأعظمه وهو ? وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? فصار القول على
الله - تعالى- بغير علم؛ بنص الآية أعظم من الشرك، فإذا كنت تحترز الشركَ وتتجنبه
وحال لسانك ومقالك أن تقول: ? وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ
الأصْنَامَ ?[الرعد: 35] فينبغي أيضاً في باب الأسماء والصفات أن تحترز أو أن تخوض
في هذا الباب بغير برهان أو بغير علم، المقصود بالبرهان والمقصود بالعلم: ما أطلع
الله - تعالى- عليه الخلق لا ما فهمناه نحن لا ما قيدناه نحن، ولكن ما أخبر الله -(5/5)
تعالى- عنه وما أخبر عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القاعدة الثانية: أن
الكلام عن الصفات كالكلام عن الذات، فإذا كان الإنسان يجهل الذات كيفاً فكذلك الصفة
الإنسان يجهلها كيفاً إذا كانت الأسماء توقيفية فكذلك الصفات توقيفية فلا ينبغي
للإنسان أن يصف ربه بصفة لم يتصف بها ربنا - سبحانه وتعالى- كما لم يخبر عنها رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال الإمام أحمد: «لا يوصفُ اللهُ إلا بما وصفَ به نفسَه
أو وصفه به رسولُهُ -صلى الله عليه وسلم- لا يتجاوزُ القرآنَ والحديثَ» اضبط هذه
الجملة، لا يتجاوزُ القرآنَ والحديثَ.
إذن: الإنسان في باب الأسماء وفي باب الصفات لا يتجاوز ما أخبر الله وما أخبر به
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
إذن: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا
يتجاوز القرآنَ والحديثَ، من حفظ هذه الجملة؟ اقرأها.
لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-
لا يتجاوز القرآن والحديث هذه كلمة مَنْ؟ كلمة الإمام أحمد - عليه رحمة الله-.
القاعدة الثالثة: أن المماثلة في الاسم لا تعني المماثلة في المسمى هذه مسألة مهمة
جداً والمقصود بالمسمى أي: الحقائق والذوات، تفسير ذلك تفسيراً بسيطاً يسيراً أنت
تقول: الفيل له رجل وأنت لك رجل والنملة لها أيضاً أرجل وكذلك الذباب، فيا ترى أرجل
الذباب كأرجل الفيل، كأرجل الإنسان، كأرجل النمل؟ أبداً إذن: الاسم متفق، فلا يعني
المماثلة في الاسم- الذي هو إثبات الرجل لهذه المخلوقات- أن هذه المخلوقات هي هي
أليس كذلك؟ فلا يمكن أحد أن يقول: إن إثبات الرجل للفيل وإثبات الرجل للإنسان يعني
أن الإنسان فيل. لا يمكن هذا أبداً هذا لا يمكن قبوله لا شرعاً ولا طبعاً ولا ذوقاً
ولاعرفاً ولا عقلاً لا يمكن أبداً.
كذلك لو قلت: رأس الجبل ورأس الإنسان ورأس الأمر عندنا الأمر وعندنا الجبل وعندن(5/6)
الإنسان أثبتنا لكل واحد منهم رأساً فهل معنى هذا أن الجبل هو الإنسان هو الأمر؟
معنى ذلك هذا لا يمكن أبداً، لا يمكن قبول هذا أبداً ولذلك هنا مسألة مهمة جداً هذه
المسألة أن الألفاظ -وهذا مدخل عظيم ذل فيه من ذل في باب الأسماء والصفات- أن
الألفاظ المفردة لا وجود لها إلا في الأذهان وإنما الألفاظ توجد مؤانسة لغيرها من
الألفاظ. يعني: لو قلنا مثلاً: لفظ وليكن لفظ لواء كلمة لواء لوحدها فقط يذهب الذهن
عندها كل مذهب ويطير عندها كل مطار يا ترى لواء هل المقصود باللواء العلم؟ ربما. هل
المقصود باللواء قطعة من الجيش دون الفرقة وفوق الكتيبة؟ ربما. هل المقصود باللواء
رتبة عسكرية في الجيش؟ ربما. هل المقصود باللواء رتبة عسكرية في الداخلية؟ ربما.
إذن: هذه كلها أمور محتملة إذن: هذه الكلمة المفردة الذهن يتحير فيها ما المقصود
بها كذا أو كذا؟ وفي الوقت نفسه لا أستطيع أن أقول: إن الإطلاق الحقيقي لكلمة لواء
أن تطلق على الرتبة العسكرية أو الإطلاق الحقيقي للواء أن تطلق على العلم أو
الاستخدام الحقيقي للواء قطعة من الجيش، لا يمكن أبداً ذلك وإنما تتقيد الكلمة
وتتحدد من خلال الجملة ومن خلال التركيب فعندما أقول: رأيت لواء يقود طائرة إذن:
اللواء هذا لواء طيار قطعاً عندما أقول: رأيت لواء يدخل مديرية الأمن. إذن: هذا
لواء شرطة. عندما أقول: رأيت اللواء يرفرف فوق المبنى. إذن: اللواء هو العلم. عندما
أقول: تحرك اللواء بتشكيلاته وأفراده ومعداته. إذن: اللواء هو قطعة من الجيش.
إذن: إذا أخرجنا الكلمة عن سياقها فإنها لا تدل على معنى محدد المعاني كلها محتملة
لكنها عندما توضع في الجملة، في التركيب فإن المعنى هنا يتضح فلو قلت: رجلز يمكن
رجل الإنسان رجل فيل رجل طائر رجل عصفور كذا كذا قلت: لواء يمكن لواء كذا كذا لكن
عندما أجعلها في جملة فإن الجملة هي التي تحدد الكلمة. انتبه إلى هذا جيداً وذلك(5/7)
عندما نقول: بأن المماثلة في الاسم لا تعني المساواة في المسمى أي: في الذات. فافهم
هذا جيداً. فالله - تبارك وتعالى- قال: ? إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن
نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرً ?[الإنسان: 2]-
سبحان الله- إذن: الله - عز وجل- أثبت للإنسان السمع والبصر فقال: ?فَجَعَلْنَاهُ
سَمِيعاً بَصِير ?[الإِنسان: 2] من السميع البصير في هذه الآية؟ الإنسان، قال
الله - تعالى- ? إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ?[النساء: 58]- سبحان الله-
إذن: الله - عز وجل- سميع بصير والإنسان سميع بصير، لكن هل هذا كهذا ؟ لا.. سمع
الله - تعالى- ليس كسمع المخلوقين. وبصر الله - تعالى- ليس كبصر المخلوقين، فليست
المشابهة في الاسم تعني المشابهة في المسمى أليس كذلك يا إخواني؟ إذن: المشابهة في
الاسم لا تعني المشابهة في المسمى قال الله - تعالى-: ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?[التوبة: 128] -عليه الصلاة والسلام- وأثبت الله
- تعالى- لنفسه هذين الاسمين أنه رؤوف وأنه رحيم فهل معنى إثبات أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أنه رؤوف رحيم وأن الله - تعالى- رؤوف رحيم معنى ذلك أن الله - عز وجل-
هو النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ لا يعني هذا أبداً وهل يعني أن الإنسان هو الله؟
لا يعني هذا أبداً، إذن: ليس معنى المشابهة في الاسم المشابهة في ماذا ؟ في المسمى،
المشابهة في الذات، المشابهة في الحقائق هذا لا يمكن أبداً أن يتصوره الإنسان أو أن
يعقله وإنما مرد كل كلمة السياق الذي وردت فيه، إذن: المماثلة في الاسم لاتعني
المماثلة في المسمى. وعندما أقول: الاسم والمسمى لا أريد –وأكرر- لا أريد الخوض في
مسألة الاسم والمسمى هل الاسم هو المسمى أم الاسم غير المسمى أم كيف تكون المسألة؟(5/8)
أفضل هذه الأقوال ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن قال: إن هذه المسألة كلامية
قال: مسألة كلامية ولم يقل فيها السلف قال: ونقف حيث قال الله - عز وجل- ? وَللهِ
الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ?، فأفضل ما يمكن أن يقال في هذا الباب لو تكلمنا فيه: إن
الاسم للمسمى، إذن: هذه قاعدة وأدعو الله - عز وجل- أن يكون إخواني قد وفقوا لها.
القاعدة الرابعة: أن أسماء الله - عز وجل- كلها مشتقة تدل على معانٍ هي غاية في
التمام والكمال، أسماء الله - تعالى- كلها مشتقة فالله - تبارك وتعالى- الله: كما
قال المحققون من اللغويين: الألف واللام زائد إله[ال+إله] وإله: على وزن فعال
بمعنى: مألوه وهذا ما يسمى في اللغة بباب تبادل الصيغ يعني أن تأتي الصيغة بمعنى
صيغة أخرى كقول الله - تعالى- ? وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ?[الصافات: 107]
فالذبح على وزن فِعْل بمعنى مفعول أي مذبوح عظيم ، إذن: أتت فعل بمعنى مفعول وتأتي
فعل بمعنى مفعول ومنه قوله - سبحانه وتعالى- ? اللهُ الصَّمَدُ ?[الإخلاص: 2] الصمد
أي: الذي تصمد إليه الخلائق أي: تتجه إليه الخلائق ومنه الفلق بمعنى: المفلوق هل هو
الليل إذا فلق منه الصباح؟ هذا قول، هل هو الأرض إذا فلقت ليخرج منها النبت؟ هذا
قول وهناك من قال: بأن كل شيء إنما هو فلق أي مفلوق عن غيره.
إذن: وجدنا أن فعل بمعنى مفعول وكذلك فعيل بمعنى مفاعل ? هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّ ?[مريم: 65] فسميا على وزن فعيل بمعنى: مسامم أي مشابه ومماثل ومناظر وكذلك
نجد في فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وجريح بمعنى مجروح وهكذا أمر كثير نجده
في اللغة أن صيغة تأتي بمعنى صيغة أخرى، فإله على وزون فعال بمعنى مفعول ككتاب
بمعنى مكتوب والإله بمعنى: المعبود بحق الذي تعبده القلوب إخباتاً وإنابةً وحباً
وخوفاً ورجاءً ودعاءً وتوجهاً وقصداً وطلباً وكذلك العزير على وزن فعيل ويشتق من(5/9)
اسم العزيز صفة العزة والله - تبارك وتعالى- أثبت في القرآن عزتين عزة محمودة وعزة
مذمومة فالعزة إذا كانت مرتبطة بالديانة وصاحبها لصيق بالشرع معظم له فهو عزيز
بالله - عز وجل- متأيد بالله - عز وجل- وهذه عزة محمودة قال الله - تعالى- ? وَللهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ?[المنافقون: 8] أما إذا كان المرء غير
متأيد بالله - عز وجل- غير معتصم بالله - عز وجل- وكان عزيزاً بمنصبه أو بماله أو
بجاهه أو بسلطانه فهذه عزة مذمومة، فهي صنو للكبر والعجب -والعياذ بالله- قال الله
- تعالى- في الكافرين والمشركين: ? بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقَاقٍ ?[ص: 2] أي: في كبر وصلف وغرور -والعياذ بالله- عندما تنظر إلى معنى
العزة الموجودة في قول الله - عز وجل- ? وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? العزيز:
القوي الذي لا يغلب والعزيز: الذي لا يكسر، فمن كان الله - تعالى- معه لا يكسر ولا
يغلب؛ ولذلك كلما عظم إيمانك بالله وكلما قوي إيمانك بالله - عز وجل- وطالعت أسماءه
وصفاته وعملت بمقتضاها كلما أيدك الله - تعالى- بمعيته وتوفيقه ونصرته، أرأيت إلى
أصحاب موسى -عليه وعلى نبيه الصلاة والسلام- عندما خروجوا سراعاً خفافاً يبغون
الهرب من الفرعون الذي توعدهم بالقتل والصلب عندما خرجوا وفروا من وجهه وأرسل فرعون
في جنده وخرج الفرعون بجنده يطلبون هؤلاء الفارين حتى أدركوهم عند البحر نظر أصحاب
موسى أمامهم فوجدوا بحراً عظيماً تتلاطم أمواجه علموا أنهم إذا تقدموا هلكوا في هذا
البحر ولجته ونظروا خلفهم فوجدوا الفرعون راكباً أقفيتهم ومعه الجند والجيش الكثيف
الغزير ما الذي صنعوه؟ قالوا بألسنة لعلها مرتعشة وقلوب هي- في الحقيقة - مرتجفة
قالوا لموسى: إنا لمدركون، هنا "إن" الدالة على التوكيد واللام الدالة أيضاً على
التوكيد والتي يسمونها أحياناً باللام المزحلقة كلها دالة على التوكيد ماذا قال(5/10)
موسى؟ قال: ? قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?[الشعراء: 62] وهداه
ربه - سبحانه وتعالى- بأن أوحى إليه أن اضرب البحر فضربه فكان كل فرق كالطود العظيم
ونجى الله - تعالى- المؤمنين.
إذن: عندما تستشعر عزة الله - عز وجل- وقوة الله - عز وجل- وأن الله - تعالى- معك
يراك ويسمعك ويكلؤك وينصرك لن تجد أحداً أعظم منك ولن تجد أحداً أعز منك في تواضعك
إذن: أنت في تواضعك لله - تعالى- عزيز وأنت في فقرك لله - تعالى- غني وأنت في
انقطاعك بالله - تعالى- موصول وأنت في حاجتك بالله - تعالى- مكتف ومستغن، وأنت هكذا
تكون بالله ومع الله وهكذا في كل اسم من أسماء الله - عز وجل- اسم الغني، الغني على
وزن ماذا؟ من يعرف على زون فعيل الغني على وزن فعيل، ما الصفة التي تؤخذ من اسم
الغني؟ من يعرف؟ الغنى -ما شاء الله- الغنى ما معنى الغني؟ الغني: ألا تكون في
حاجة لأحد أن تكون مستغن عن غيرك، ألا تكون مفتقراً إلى أحد، لو نظرنا إلى البشر
نجد من البشر أصحاب المليارات، من البشر أصحاب السلطان والجاه، من البشر أصحاب
القوة البدنية، من البشر أصحاب القوة العلمية، من البشر أصحاب القوة العددية-
العشيرة والقبيلة والعائلة- هل هؤلاء أغنياء؟ نحن نسميهم: أغنياء لكن إذا دققت
وحققت تجد أنهم جميعاً فقراء كلهم فقراء، صاحب المليارات هو مفتقر إلى سكرتيره
الخاص الذي ينظم له المواعيد واللقاءات ويرتب له جدول الأعمال ويحدد له من سيزوره
ومواعيد الزيارات وأوقات الدخول والخروج ويطلعه على البوسطة ويقدم له المعلومات وما
إلى ذلك، لو أن صاحب المليارات هذا مات سكرتيره هذا هل سيكون مستغنٍ عن سكرتير أم
يجتهد في البحث عن سكرتير آخر؟ سيجتهد في البحث عن سكرتير آخر. لماذا؟ لأنه فقير
إليه كذلك لو أن رجلاً ملكاً أو سلطاناً نعم هو غني ولكنه في حاجة إلى غيره وهو في
حاجة إلى الحرس ليحرسوه إذن: هو مفتقر إلى الحرس ومفتقر أيضاً إلى الأعوان ومفتقر(5/11)
إلى المستشارين ومفتقر إلى الأولاد ومفتقر إلى الصاحبة ومفتقر إلى الخلان والأصدقاء
إذن: هو فقير مع غناه وسلطانه، بل هو مفتقر إلى غيره من أصحاب الحرف: من الذي سيقص
شعره؟ ومن الذي سيفصل ثيابه؟ ومن الذي سيمسح نعله؟ - سبحانه وتعالى- إذن: هو في
حاجة إلى أصحاب المهن إذن: هو مفتقر إلى أصحاب المهن. تصور لو أن كل عمال الصرف
الصحي قاموا بإضراب، مشكلة سيقع الأغنياء في مشكلة هذه القصور ستقع في مشكلة ربما
المجاري ستملؤها قطعاً إذن: أصحاب القصور في حاجة إلى أصحاب المهن البسيطة مفتقرون
إليهم مع الرغم أنهم في الشكل أغنياء ولا ينظرون إليهم ولا يلتفتون إليهم.
إذن: ما من إنسان إلا في حاجة إلى غيره حتى الطبيب، الطبيب في حاجة إلى المريض،
تصور لو أن طبيباً فتح عيادة وليس هناك من مرضى يطببهم أو يعالجهم من أين سيأكل؟
وكيف سيعيش؟ إذن: هذا الطبيب على الرغم من أنه يقوم برسالة سامية عالية لكنه في
حاجة إلى المريض؛ لكي يقوم بعلاجه ويأخذ منه المال؛ لكي يعيش وكذلك الصيدلي في حاجة
إلى المريض؛ لكي يذهب إليه فيصرف الروشتة وهكذا. هذا الكون كله مفتقر بعضه إلى بعض
وهذا الكون كله مفتقر إلى الله - عز وجل- سبحان الله - أنت إذا أصابك مكروه أو إذا
انقطع بك سبيل أو ذلت قدمك في معصية أو فعلت شيئاً إلى من تذهب؟ إنك تذهب إلى
الكريم الغني ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ
هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ?[فاطر: 15] إذن: الله هو الغني وأنتم الفقراء انظر إلى
المثبت والمثبت - يا أيها الناس أنتم الفقراء- وفي مجال الحديث عن الله - تعالى-
قال ? وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ?، إذن: نحن مهما أوتينا فنحن فقراء والله
- تبارك وتعالى- هو الغني؛ لأنه في- الحقيقة - مستغن عنا وعن عبادتنا قال الله -
تعالى- ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ?56 ? مَا أُرِيدُ(5/12)
مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ?57 ?إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ?[الذاريات: ] إذن: الله - تعالى- غني عنا
وعن عبادتنا ونحن الفقراء إلى الله - عز وجل- في كل شئوننا وهكذا في كل حال إذا
نظرت إلى أسماء الله - عز وجل- في كلها تجد أنها جميعاً أسماء مشتقة تؤخذ منها
الصفات وأنها في دلالتها تدل على معنى التمام والكمال والجلال الذي يناسب ربنا -
سبحانه وتعالى- أما الأسماء الجامدة فلا يجوز أن نسمي الله - تعالى- بها ولا يصح أن
نسمي الله - تعالى- بها من هذه الأسماء الدهر هل الدهر من أسماء الله - عز وجل-
لا.. ليس من أسماء الله - عز وجل- لأنه ليس مشتقاً.
الأمر الثاني: أننا لا نأخذ منه صفة ، ما الصفة التي نأخذها من اسم الدهر؟ لا توجد
إذن: ليس هذا من أسماء الله - عز وجل- قولاً واحداً وأيضاً لا يصح أن نصف الله - عز
وجل- بغير ما وصف به نفسه في كتابه أو ما سماه به نبيه -عليه الصلاة والسلام- أو
وصفه به نبيه -عليه الصلاة والسلام-.
من الأسماء الكلامية الفلسفية التي لا أصل لها في دين الله - عز وجل- كأن نقول: بأن
الله - تعالى- واجب الوجود ما معنى واجب الوجود؟ يقسمون الأشياء إلى ممكن الوجود
وواجب الوجود هذه القسمة لا تلزمنا، ومسألة واجب الوجود هذه ليست من أسماء الله -
عز وجل- وليست أيضاً من صفاته - سبحانه وتعالى-.
القاعدة الخامسة: أن من أسماء الله - تعالى- ما يسمى به مطلقاً من غير قيد، وهي
الأسماء المشتقة الدالة على معاني الجلال والكمال إذن: الأسماء المشتقة الدالة على
معاني الجمال والكمال والجلال هذه تطلق على الله - تعالى- مطلقاً أو يسمى الله -
تعالى- بها مطلقاً مثل: الرزاق، الخالق، الباريء، المصور، العزيز، الحكيم، الرحمن،
الرحيم، السميع، البصير، القوي، فهذه كلها أسماء تطلق على الله - عز وجل- من غير
قيد أو شرط.(5/13)
النوع الثاني من الأسماء: مايطلق على الله - عز وجل- بالقيد، والقيد هنا قد يكون
قيد الإضافة أو يكون قيد الجزاء والمقابلة، قيد الإضافة كقول الله - عز وجل-: ?
وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ?[آل عمران: 4].
إذن: عندما سمينا الله - عز وجل- وقلنا: الله عزيز وقلنا: ذو انتقام، فالاسم هنا
إنما أتى بقيد الإضافة ذو انتقام.
أو المقابلة والجزاء: والمقابلة والجزاء متضمنة تمام القدرة وكمال القوة ومن ذلك
قوله - تعالى- ? وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ ?[الأنفال: 30] إذن: مكر الله - تعالى- بهم لما مكروا، ولا يجوز في
الأسماء التي تطلق بالقيد أن يؤخذ منها اسم مطلقاً، فـ "ذو انتقام" لا يصح أن نقول:
من أسمائه المنتقم، لا يصح ولم يثبت هذا، لا عن الله ولا عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أن من أسماء الله - عز وجل- المنتقم ليس هذا من أسماء الله - عز وجل-
وإنما ورد ذلك مقيداً بالإضافة فقلنا: ذوانتقام وكذلك الأسماء التي هي من قبيل
المقابلة والجزاء ? وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ ?، ? وَمَكَرُوا مَكْرًا
وَمَكَرْنَا مَكْرًا ?[النمل: 50] هذا أيضاً لا يجوز أن تؤخذ منها أسماء مطلقة
فنقول: إن من أسماء الله - عز وجل- الماكر أو المكَّار هذا ليس من أسماء الله - عز
وجل- ولا يجوز أن نسمي الله - عز وجل- بشيء من ذلك.
و كذلك الأسماء التي قد يتوهم فيها أو منها العجز أو النقص أو العيب فالله - تعالى-
منزه عنها، انظر في قول الله - تعالى-: ? وَإِن يُّرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ
خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ?[الأنفال:71 ] اسمع هذه الآية، وإذا
أراد المشركون من أهل مكة بعد أن سالموك وصالحوك إن أرادوا بالمصالحة والمسالمة
الخيانة فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم، ويصح أن تكون ذلك في المنافقين لم يقل
المولى - عز وجل- وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فخانهم الله، لا.. هذا(5/14)
لا يصح أبداً. لماذا؟ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان واحد ائتمنك على أمانة
فيكف يجوز لك أن تخدعه وأن تستولي على أمانته؟!! فهذه خيانة والمسلم ليس بالخؤون،
بل إن الخيانة من صفات المنافقين والله - تبارك وتعالى- لا يصف نفسه أبداً بصفة من
صفات المنافقين ولا يسمي نفسه أبداً باسم من أسماء المنافقين.
إذن: لا يجوز أن ننسب ربنا - سبحانه وتعالى- إلى أمر أو صفة يتوهم منها العجز أو
النقص أو العيب فالله - تبارك وتعالى- منزه عن هذا جميعاً.
القاعدة السادسة: أن الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ذات، وصفات فعل. ما معنى صفات
الذات؟ هي الصفات اللازمة، وليس معنى كلمة لازمة أننا ألزمنا الله - تعالى- بها،
ولكن معنى لازمة: أنها ثابتة لله - عز وجل- أبداً أزلاً، فالله - تبارك وتعالى-
رحمن رحيم عزيز حكيم إذن: عزة الله - تعالى- وحكمة الله - تعالى- وقوة الله -
تعالى- وعلم الله - تعالى- وحياة الله - تعالى- وقدرة الله - تعالى- وسمع الله -
تعالى- وبصر الله - تعالى- كان أزلاً، ليس في وقت دون وقت وليس في حال دون حال، بل
هذا مطلقاً أزلاً ثابتاً وكما يسميه المتكلمون صفات قديمة ولا نريد أن نقول: كلمة
قديمة هذه.
إذن: صفات الذات هي الصفات الثابتة لله - عز وجل- أزلاً أي: ما زال الله - تعالى-
ولم يزل متصفاً بهذه الصفات، لم تنفك عن الله - عز وجل- لا في وقت ولا في حال.
النوع الثاني: هي الصفات الفعلية مثل: صفة الضحك (يضحك ربنا لرجلين يقتل أحدهما
الآخر فيأخذ أحدهما بيد أخيه فيدخلان الجنة) إذن: الضحك ليس دائماً في كل وقت وفي
كل حال أبداً ولكن في هذا الحال فقط إذن: نثبت الضحك لله - عز وجل- في المواطن التي
أثبتها ربنا - تعالى- لنفسه من ذلك: المقت (إن الله - تعالى- نظر إلى أهل الأرض
فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ) والمقت: شدة الغضب إذن: المقت الكره(5/15)
الشديد، لماذا؟ لأنهم بدلوا ما أمر الله - تعالى- به فلما كانوا صالحين أحبهم الله
- عز وجل- إذن: هذه صفات فعل. من صفات الفعل أيضاً: صفة النزول (ينزل ربنا - سبحانه
وتعالى- في الثلث الأخير من الليل أو في الليل الأخير إذا انتصف ) إذن: النزول هذه
صفة فعل لله - عز وجل- وكما قلت لكم: ينزل ربنا - سبحانه وتعالى- ولا يخلو عرشه منه
- سبحانه وتعالى- نزولاً يليق بجلاله لا نؤوله ولا نصرفه عن ظاهره بل نثبته ونقف
عند الكيفية فلا نخوض فيها، وقد توجد صفة ذاتية فعلية: ذاتية باعتبار فعلية
باعتبار، كالكلام فالله - تبارك وتعالى- لم يزل متكلماً وما زال متكلماً يتكلم
وقتما شاء إذا شاء كيفما شاء ومن جملة كلامه - سبحانه وتعالى- القرآن ومن جملة
كلامه ما تكلم به مع ملائكته ومايتكلم به مع أهل الجنة وما يتكلم به مع العباد عند
الفصل يوم الحساب- نسأل الله - تعالى- أن يسترنا وأن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله
فهذا كله ثابت صحيح.
القاعدة السابعة: أن أسماء الله - تعالى- ليست محصورة، ليست في عدد محدد ومنه
الحديث الذي قلناه منذ قريب حديث عبد الله بن مسعود: (سميت به نفسك أو علمته أحداً
من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ).
إذن: أسماء الله - تعالى- لسيت محصورة في التسعة والتسعين اسماً التي ثبت بها
الحديث في الصحيح: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)
أما حديث أبي هريرة التي وردت فيه الأسماء التسعة والتسعون فهذا الحديث لا يصح
ولذلك اجتهد العلماء في عد هذه الأسماء ولم يجعل أحد من العلماء ما عده مثل ما عد
الآخر، يعني لو نظرنا إلى الإمام ابن حجر في فتح الباري عد تسعة وتسعين اسماً ونجد
إن غيره مثلاً مثل الحافظ بن أحمد الحكمي عد تسعة وتسعين اسماً ونجد أن الشيخ ابن
عثيمين عد تسعة وتسعين اسماً وهناك من المتقدمين والمتأخرين من عد التسعة وتسعين(5/16)
اسماً لو أتينا في صحائف بكل هذه الأعداد وحاولنا أن نقارن بين التسعة وتسعين اسماً
التي قيدها كل عالم لوجدنا أن هذا المحصور غير هذا المحصور غير هذا المحصور والأولى
أن نقول: إن هذه الأسماء مبثوثة في الكتاب والسنة من وقف على شيء منها، أحصاها
فعرفها وفهم معناها وعمل بمقتضاها فيكون الأمر بذلك حسناً جيداً فلا يكون المقصود
بالإحصاء مجرد الحفظ والعد؛ لأنها أولاً غير محددة والذين حصروها اختلف حصرهم بعضهم
عن البعض الآخر، الأمر الثاني: أنه يمكن أن يكون الرجل فاضلاً ولكنه لا يحفظ هذه
الأسماء التسعة والتسعين ويمكن أن نجد فاسقاً عربيداً مغنياً مبتدعاً يحفظ التسعة
وتسعين اسماً بعض الفرق الموسيقية تقدم قبل الغناء بالتسعة وتسعين اسماً ويمكن أن
تجد أخاً طالبَ علم لا يحفظ تسعة وتسعين اسماً فنقول: إن هذا يدخل الجنة لأنه
أحصاها وهذا لا يدخل الجنة؟!! أبداً.. إذن: المقصود بالإحصاء العلم، الفهم، العمل
بالمتقضى إذن: عندما تقرأ القرآن حاول أن تقف عند الأسماء تفهم معناها، تدبر
معناها، حاول أن توجد معنى طيباً في حياتك لهذه الأسماء حتى تكون عاملاً بمقتضاها.
القاعدة الثامنة: أن الصفات منها الثبوتية ومنها السلبية، الثبوتية: وهي دالة على
تمام المعنى وجلاله، قوة الله إذن: قوة كاملة تامة. غنى الله: غنى تام جليل كامل.
حياة الله: حياة تامة جليلة كاملة وهكذا.
إذن: كل الصفات الثبوتية هي دالة على التمام والكمال وكذلك الأسماء دالة على التمام
والكمال ? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ?[الملك: 1] عندما ننظر إلى المعاني السلبية انظر إلى آية الكرسي: ? اللهُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ
?[البقرة: 255] واسمع قول الله - تعالى- ? قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ?1 ?اللهُ(5/17)
الصَّمَدُ?2 ?لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ?3 ?وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ?[سورة
الإخلاص] كفوا أي مثيلاً أو شبيهاً أو نظيراً أو مساوياً ? وَلَمْ يَكُن لَّهُ
كُفُوًا أَحَدٌ ? وقال الله - تعالى- ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ?[الشورى: 11].
إذن: هذه بعض الجمل التي أظنها نافعة فيما يتعلق بكلمة الإمام الشيخ ابن أبي زيد
وقوله (وله الأسماء الحسنى والصفات العلى )
نسأل الله - سبحانه وتعالى- أن يفقهنا ديننا، وأن يوقفنا على محابه ومراضيه، وصلِّ
اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كان السؤال الأول ماذا تعرف عن العرش؟ وكانت الإجابة: العرش من مخلوقات الله - عز
وجل- وهو من أول مخلوقاته وهو على الماء لقوله - تعالى- ? وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْمَاءِ ?[هود: 7] وهو سقف الفردوس الأعلى- كما ورد في الحديث الشريف (وسقفه عرش
الرحمن) له قوائم وهو فوق المخلوقات ومحيط بها وقد وصفه الله - عز وجل- بأنه مجيد
في سورة البروج فقال - عز وجل-: ? ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ?[البروج: 15] ووصفه
بأنه عظيم في سورة التوبة فقال - عز وجل-: ? وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ ?[التوبة: 129] وهذا العرش يتأثر ويشعر فقد اهتز لموت سعد بن معاذ -رضي
الله عنه- وقد استوى عليه ربنا - عز وجل- فشرفه باستوائه عليه قال الله - تعالى- ?
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ?[طه: 5] وأيضاً له ظل وله حملة من الملائكة
قال الله - تعالى- ? وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
?[الحاقة: 17].
هذه إجابة موفقة، لكن فيه ملحوظة يسيرة بسيطة أريد أن تعدل العبارة[ أنه أول ما خلق
الله - عز وجل-] إلى أنه من أول ما خلق الله؛ لأن هناك نزاعاً بين أهل السنة في
مسألة: أول ما خلق الله هل هو القلم أم هو العرش؟ وقيد ذلك الإمام ابن القيم فقال:
والناس مختلفون في القلم ال ـذي كتب القضا به من الديان(5/18)
هل كان قبل العرش أم هو بعده قولان عند أبي العلا الهمداني
والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان
فهذه المسألة فيها نزاع والأولى: الخروج من مسائل النزاع.
السؤال الثاني: اذكر بعض القواعد في مسألة الحقيقة والمجاز؟
من القواعد في مسألة الحقيقة والمجاز: أولاً: كل ما يمكن حمله على الحقيقة لا يمكن
حمله على المجاز إلا بقرنة. ثانياً: يمكن وقوع المجاز في اللغة العربية أما في
القرآن فلا يقع إلا بضوابط منها:
- أن تدل القرينة عليه. - وألا يكون داخلاً في باب من أبواب الاعتقاد.
ما شاء الله كلام معقول.
السؤال الثالث: من أسماء الله - تبارك وتعالى- الملك استدل على ذلك؟
الإجابة: من أسماء الله - تعالى- الملك والدليل قوله - تعالى- ? هُوَ اللهُ الَّذِي
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ ?[الحشر: 23] وقوله -
تعالى- ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ
وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ?[آل عمران: 26] وقوله أيضاً: ? تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ?[الملك: 1] وفي الحديث الشريف: (يقبض الله الأرض يوم
القيامة فيطوي السماء بيمنيه ثم يقول: أنا الملك أين الملوك؟) والله أعلم وجزاكم
الله خير.
يا ليتنا عندما نتناول الأدلة في باب الأسماء والصفات لا يكن حظنا منها مجرد الحفظ
والسرد ولكن ليكن حظنا منها حظ التدبر والتأثر هذه جملة اعتراضية أريد أن أنبه
عليها حتى تكون منكم على ذكر.
يقول: ما العلاقة بين الألفاظ والمعاني؟
بالنسبة للفظ: اللفظ قد يقصد به: الملفوظ فكل ما خرج من فيك يسمى لفظاً سواء دل على
معنى أم لم يدل على معنى- وسبق أن أشرت إلى هذا المعنى من قبل- والألفاظ عندما تدل
على معنى فإن هذه المعاني التي تحملها: معاني قصدية وليست معاني اعتباطية وبالتالي
كل الألفظ الواردة في الكتاب والسنة لها معان قصدية هذه المعاني القصدية نطلبها(5/19)
طالما أنها في الكتاب والسنة نطلبها أولاً من الكتاب والسنة فإن بدت لنا المعاني من
الكتاب والسنة فلا بد أن نقف عند هذا المعنى الذي ظهر من الكتاب والسنة إذا لم يظهر
لنا المعنى من الكتاب والسنة بادياً يجب حمل هذا المعنى على المعنى اللغوي المعروف
عند العرب، وهنا تظهر قضية لطيفة أنبه إخواني عليها وهي نافعة جداً في مسائل
الاعتقاد وفي مسائل الأصول: هذه المسألة أنه إذا تعارضت حقيقة شرعية وأخرى لغوية أو
تعارضت حقيقة لغوية وأخرى عرفية ماذا نصنع؟ كيف يكون الحل؟ عندنا لفظان وهذا اللفظ
يمكن أن يحمل على المعنى الشرعي ويمكن أن يحمل على المعنى اللغوي نحمله على أي
معنى؟ إذا كان للفظ معنيان أحدهما لغوي والآخر شرعي فإن المعول عليه هو المعني
الشرعي دون اللغوي لو المعنى اللغوي أتى بموافقة المعنى الشرعي فهذا خير وبركة وإلا
فالأصل هو المعنى الشرعي، مثال ذلك لفظ الصلاة، فلفظ الصلاة يأتي في اللغة بمعنى
الدعاء كقول الله - عز وجل- ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ?[التوبة:
103] إذن: وصل عليهم: ليس المقصود الصلاة المعروفة شرعاً ولكن المقصود وصل عليهم:
أي ادع لهم واستفاد العلماء من ذلك أن الذي يأخذ الصدقات عندما يأخذها جاز له أو
شرع له أن يدعو لمن أخذ منه الصدقة- اللهم بارك فيك اللهم بارك في أهلك وفي زوجك
وفي ولدك اللهم اغفر له وارحمه اللهم.. اللهم..- يدعو له هذا الدعاء يسمى ماذا؟
يسمى صلاة هذا معنى لغوي أما الصلاة في الشرع: هيئات وحركات وأقوال وأفعال تبتدأ
بالتكبير وتنتهي بالتسليم والوضوء شرط في صحتها، والنبي-صلى الله عليه وسلم- عندما
علم المسيء في صلاته الصلاة قال له:( كبر أو استقبل قبلتك فكبر) فبدأ يعلمه من أول
استقبال القبلة والتكبير إلى التسليم وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- (أن الصلاة(5/20)
مفتاحها التكبير) يعني الصلاة مفتاحها التكبير (وتحليلها التسليم) إذن: لو واحد قال
لك: إني قد صليت هل صليت العصر؟ قال لك: إني قد صليت ويقصد بالصلاة هنا الدعاء يقبل
ذلك منه؟ نحن الآن نريد أن نقوم لصلاة العصر ثم بعد ذلك قلت له: هيا قم للصلاة قال:
الحمد لله قد صليت يارجل لقد كنت معنا أين صليت؟ وكيف صليت؟ متى وكيف وأين وأنت لم
تبرحنا؟!! فقال لك: لقد دعوت الله - عز وجل- والدعاء صلاة يقبل ذلك منه؟ لا يقبل
ذلك منه إذن: إذا كان للفظ معنيان: أحدهما شرعي والآخر لغوي. المعنى اللغوي إذا كان
خادما للمعنى الشرعي فبها ونعمت وإلا قدم الشرعي، والذين قرمطوا في باب الألفاظ-
قرمطوا بمعنى: استعملوا الألفاظ الباطنية- وصرفوا الألفاظ عن حقائقها الشرعية إنما
استعملوا اللغة في ذلك الأمر.
الزكاة كذلك. الحج في اللغة: كل قصد يسمى حجاً لو نظرنا لباب الكليات في فقه اللغة
للثعالبي باب يسمى: بباب الكليات الذي ما أتى في تفسيره بلفظة "كل" كل ما علاك
فأظلك يسمى: سماء. كل أرض مستوية تسمى: صعيداً. كل بناء مربع عالٍ في السماء يسمى:
كعبة. كل قصد يسمى حجاً. لو واحد قال لك: أنت رجل كبرت في السن وعندك مال كثير
وعريض لماذا لا تحج؟ يقول: الحمد لله لقد حججت. ويقصد: أنه قصد المسجد للصلاة هل
قصده المسجد للصلاة يسمى حجاً في الشرع؟ لا يسمى حجاً؛ لأن الحج في الشرع معروف
مناسك، الطواف السعي ومناسك من جملتها ومن أعظمها الوقوف بعرفة كما قال النبي -صلى
الله عليه وسلم- (الحج عرفة) إذن: الذي أراد أن يصرف الألفاظ الشرعية عن مقاصدها
الشرعية هذا يعتبر ذندقة في دين الله - عز وجل- هذا إلحاد في دين الله - عز وجل-
إذا كان هذا في في لفظ الصلاة وفي لفظ الحج فما بالك بأسماء الله - عز وجل-؟!! فإذا
قلنا: بأن الألفاظ لها معانٍ ثانياً: هذه المعاني قصدية.
ثالثاً أن الألفاظ الشرعية معانيها قصدية أي يقصدها الشرع فلايجوز الحيد عنها.(5/21)
الرابع: قلنا: إن اللفظ إذا كان له معنيان أحدهما شرعي والثاني لغوي لا يجوز تقديم
المعنى اللغوي على المعنى الشرعي.
إذا فهمت ذلك فلا بد أن تطبق ذلك في باب الأسماء والصفات.
فدلالات الأسماء على معانيها دلالة قصدية.
الثاني: أن هذه الدلالة القصدية معلومة معروفة غير مجهولة.
الثالث: لا يجوز الحيد عن هذه الدلالات الشرعية القصدية لمعانٍ لغوية، وإلا فإن هذا
لا يجوز.
كذلك أيضاً إذا تعارضت دلالتان أحدهما لغوية والثانية عرفية تقدم الدلالة العرفية
على الدلالة اللغوية وهذه مسألةٌ الباب والحديث فيها واسع.
مثال ذلك مثال بسيط جداً: كلمة مثل كلمة عفش كلمة عفش- نسأل الله - تعالى- أن
يزوجكم جميعاً الحضور من الشباب- كلمة عفش لما نقول كلمة عفش معناها: الأثاث الجديد
الذي يؤتى به للزواج هذا عفش فلان ذهب لشراء العفش هذا معنى عرفي لو نظرنا في بعض
المعاجم في أصل هذه الكلمة لوجدنا أن كل شيء ركيك مسترق يطلق عليه: عفش وعفش وما
إلى ذلك إذن: هذه الكلمة لها دلالتان: إحداها لغوية والثانية عرفية، بل إن الدلالات
العرفية تتغير بتغير الأزمان والأعصار، بتغير الطوائف لو نظرنا مثلاً في الدولة
الأندلسية -والحقيقة - أنا أحب القراءة في التاريخ الأندلسي وأحزن عندما أقرأ في
التاريخ الأندلسي - سبحانه وتعالى- الاثنين معاً أحب القراءة فيه ويدمي القلب عند
القراءة فيه، كان هناك وظيفة في الدولة الأندلسية تسمى الحجابة الحاجب في الدولة
الأندلسية يساوي رئيس الوزراء، منصب سياسي حساس خطير رفيع في الدولة الأندلسية
يعادل منصب رئيس الوزراء أو يعادل منصب الوزير الأول في المصطلح السياسي المعاصر في
بلاد تونس والمغرب يقال: فلان الوزير الأول يعني: رئيس الوزراء ، فكلمة "حاجب" الآن
عندنا كلمة حاجب: موظف على الدرجة الخامسة أو السادسة في قاعة المحكمة يقول: محكمة.
حتى تنعقد المحكمة. و يقول: محكمة. حتى تنفض المحكمة- سبحان الله- انظر كيف صار(5/22)
الحال من كلمة كانت لها دلالة سياسية واجتماعية مرموقة إلى كلمة يعني دون، فانظر
إلى هذه الكلمة كيف تدنى حالها عبر الأزمان. فكذلك الدلالات العرفية وكذلك أيضاً
الألفاظ اللغوية الشرعية لا نخضعها أبداً للدلالات التاريخية، بعض الناس يقولون:
نحن نريد أن نخضع ألفاظ القرآن على حسب كل عصر يعني: إذا كان الصحابة فهموه بعصرهم
نريد أن نفهم نحن القرآن بعصرنا فنلبس الألفاظ مدلولات عصرية وعرفية. هذا كلام فاسد
جداً وقد يؤدي إلى ضلالات شديدة.
فلابد أن نجعل لكل لفظ شرعي معناه الشرعي الذي كان عليه السلف الصالح؛ لأن
الدلالات العرفية تختلف باختلاف الأعصار فلو أننا فهمنا القرآن بالفهم المعاصر
وأسقطنا الدلالات العصرية العلمية وغيرها على القرآن يمكن بعد عصر،،، بعد مائة سنة،
قوم آخرون يأتون ليفهموا القرآن بفهم آخر مخالف ويقولون: بأن القوم السابقين لم
يفهموا القرآن وأن القرآن كان عياً وما إلى ذلك فلابد أن نحرز القرآن، إذن: انتهينا
إلى أن اللفظ والمعنى إشكالية اللفظ والمعنى لا بد أن نرفعها بإن اللفظ له معنى وأن
هذا المعنى معنى قصدي لابد أن يكون معلوماً معروفاً وأن الألفاظ الشرعية معناها
قصدية معلومة معروفة افتح القرآن واقرأ أي لفظ في القرآن معانيه معروفة -بفضل الله
- عز وجل- نعرف الألفاظ الشرعية إما بالكتاب وإما بالسنة وإما بأقوال الصحابة
والتابعين؛ لأنهم الأعراب أو لأنهم عرب أقحاح وإما أن نعرف ذلك من دواوين العرب
ولغتها.
أما بالنسبة للعلاقة بين اللفظ والمعنى: فإذا كان اللفظ حاملاً المعنى فهناك ألفاظ
تسمى بالألفاظ المترادفة وهناك ألفاظ تسمى بالألفاظ المتباينة وهناك ألفاظ تسمى
بالألفاظ المتواطئة وهناك ألفاظ تسمى بالألفاظ الأضداد، وتوضيح بسيط لهذا الأمر:
الألفاظ المتباينة كأحمد وزيد هل أحمد هو زيد؟ أبداً إذن: هذا غير هذا أقول: قابلت(5/23)
زيداً قابلت عمرواً إذن: عمرو غير زيد. الألفاظ المترادفة يقصد بالترادف معنيان:
المعنى الأول: الترادف التام أن كلمة تأتي بمعنى كلمة من كل وجه.
النوع الثاني: الترادف الناقص وهو مايسمى بالتقارب الدلالي، عندما نقول: ? يَوْمَ
تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرً ?[الطور: 9] ونقول: بأن المور الحركة ثم بعد ذلك نقول:
بأن المور والحركة كلمتان مترادفتان ليس هذا بالسديد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية
-رحمه الله - تعالى- كما ذهب غيره من المتقدمين والمتأخرين إلى أنه لا ترادف تام في
اللغة، فالمور هو الحركة الخفيفة السريعة المتلاحقة. إذن: ليس المور بالحركة ولكنها
حركة موصوفة بصفات، بمجموع هذه الصفات كانت الحركة.
إذن: عندما نقول: إن المور بمعنى الحركة هذا تقارب في المعنى ليس أن هذا بمعنى هذا
من كل وجه.
نأتي بعد ذلك إلى ما يسمى بالمشترك اللفظي أو الألفاظ المتواطئة أو الألفاظ
المشككة ما معنى هذه الألفاظ؟ معنى هذه الألفاظ أن هناك مسميات ولها اسم واحد، هناك
واحد يسمى: سهيل بن عمرو وهناك نجم في السماء يسمى: سهيل إذن هذا يسمى بماذا؟
بالألفاظ المتواطئة، وكذلك تتعدد المسميات لاسم واحد إذن: تعدد المسميات لاسم واحد
كسهيل، وكعين: عين الماء والعين النابعة والعين الجارحة والعين الجاسوس إذن: هذه
كلها أسماء، أسماء لمسمى واحد أم مسميات لاسم واحد من يخبرني؟
مسميات لاسم واحد أحسنت هذا يسمى بالتواطؤ ومنه قول الله - سبحانه وتعالى-: ?
وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ?، فإطلاق الأسماء على الله - عز وجل- هي من باب
التواطؤ ومنه أسماء يوم القيامة: أسماء كثيرة ليوم القيامة: يوم القيامة والحاقة
والصاخة هذه كلها أسماء ليوم القيامة فهذه الأسماء تطلق بالتواطؤ على اليوم الذي
يسمى بيوم القيامة، أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنا أحمد ومحمد والحاشر
والماحي والمعقب ) هذه كلها تطلق على النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب التواطؤ،(5/24)
الأسماء التي تطلق من باب التواطؤ في إطلاقها هل فيها مجاز؟ لا.. ليس فيها مجاز
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمى أحمد حقيقة ويسمى محمد حقيقة ويسمى الماحي حقيقة
الذي محا الله - تعالى- به الشرك و الكفر الله - تعالى- عندما يسمى بالعزيز الحكيم
الحي القيوم كلها أسماء لله - تعالى حقيقة.
أما النوع الذي بعد ذلك ويسمى: التضاد أن الاسم يطلق على معناه وعلى ضده مثل
السليم فلان هذا سليم. سليم يطلق على الخالي من الآفة كما يطلق على اللديغ الذي لدغ
يسمى سليم. الحيض والطهر هذا اسمان يطلق عليهما لفظ القرء فالقرء يطلق على الحيض
كما يطلق على الطهر، هذه كلمة مجملة وهناك تفصيل أوسع- أسأل الله - تعالى- أن
يعينني عليه في مرة أخرى بإذن الله - تعالى-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه الحلقة؟
بسم الله الرحمن الرحيم هناك سؤالان فقط وهما يسيران - بإذن الله تعالى-:
السؤال الأول: اذكر بعض القواعد الضابطة لمسألة الأسماء والصفات؟
السؤال الثاني: هاتِ بعض المعاني التي وقفت عليها من تأملك وتدبرك لهذا الباب؟(5/25)
الدرس السادس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وأحبابه ومن والاه ثم أما بعد.
تكلمت مع حضراتكم في اللقاء الفائت عن الأسماء والصفات وبعض القواعد الحاكمة
والضابطة لهذه المسألة مثل: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. وكذلك تكلمت
عن بعض المسائل العلمية التي بينتها في اللقاء الفائت مثل: معنى الإحصاء في قول
النبي -عليه الصلاة والسلام-: (من أحصاها دخل الجنة) وكذلك قضية العلاقة بين اللفظ
والمعنى وبيان أثر ذلك في قضية الأسماء والصفات. واليوم - بإذن الله –تعالى-
ومشيئته وعونه وفضله سيكون الحديث حول عدة نقاط:
النقطة الأولى: أسماؤه وصفاته أزلية، وهذا هو العنصر الأول أو النقطة الأولى.
العنصر الثاني: إثبات صفة الكلام لله -عز وجل- طبعاً.
أما العنصر الثالث: فهو أن القرآن كلام الله –تعالى- حقيقة منه بدأ وإليه يعود.
ولنسمع - بإذن الله –تعالى- وتوفيقه- إلى ما قاله العلامة الإمام ابن أبي زيد
وبسطه لهذه العناصر:
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ( لم يزل بجميع صفاته وأسمائه، تعالى أن تكون
صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة، كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه
وتجلى للجبل فصار دكاً من جلاله، وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة
لمخلوق فينفد).
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
قال ابن أبي زيد - عليه رحمة الله-: (لم يزل) أي: لم يزل ربنا - سبحانه وتعالى-
(بجميع صفاته وأسمائه) فأسماء الله –تعالى- وصفاته أبدية لا بداية لها، والمقصود
بالصفات هنا: صفات الذات؛ لأن صفات الفعل هناك كلام لبعض أهل العلم في هذه المسألة
فأسماء الله –تعالى- أذلية أي: لا بداية لها وكذلك صفاته -سبحانه وتعالى- أذلية أي:(6/1)
لا بداية لها، فالكلام في الذات أمر عظيم وكذلك الكلام في الصفات، إذ الصفة فرع عن
الذات، فقوله( لم يزل بجميع صفاته وأسمائه تعالى) أي: تقدس وتنزه (أن تكون صفاته
مخلوقة) أي: تقدس ربنا -سبحانه وتعالى- أن تكون صفاته مشابهة لصفات خلقه- تعالى
الله عن ذلك- فكما قلت وسيكون هذا القول مركوزاً في أفئدتكم- بإذن الله تعالى- بأن
الكلام عن الصفات فرع عن الكلام عن الذات، فلابد لنا ألا نتصور كيفية معينة لهذه
الصفة، فتقدس ربنا -سبحانه وتعالى- وتنزه أن تكون صفته مشابهة لصفة خلقه من حيث
الخلق تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وتعالى أيضاً أن تكون أسماؤه محدثة والمحدثة أي:
المبتدعة وأسماؤه -سبحانه وتعالى- ليست مخلوقة إذ لو كانت مخلوقة لكانت محلاً
للعوارض والحوادث كما يقول المتكلمون- وحاشا لله تعالى أن يكون الأمر كذلك- إذن:
أسماؤه وصفاته -سبحانه وتعالى- أذلية، أذلية ما معنى أذلية؟ أي لا بداية له أذلية
أبداً، وهذا باختصار العنصر الأول أو الفكرة الأولى التي تدور حول أن أسماء الله
–تعالى- وصفاته أذلية أي أبدية أي: لا أول لها ولا منتهى.
كذلك قال ابن زيد- وهذا في العنصر الثاني الذي يثبت عنصر الكلام- قال:( كلم موسى
بكلامه الذي هو صفة ذاته) كلم موسى أي: كلم الله – تعالى- موسى فموسى هنا
مفعول،(كلم الله موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه) أي: ليس كلام الله
-عز وجل- خلقاً من خلقه (وتجلى ربنا -سبحانه وتعالى- للجبل) تجلى أي: ظهر (فجعله
دكاً من جلاله) وإليكم بسط هذا الكلام.
لما كان الله – تعالى- هو الأول الذي لا ابتداء له وهو الآخر الذي لا انتهاء له
كانت كذلك أسماؤه وصفاته، الجملة هذه مرة ثانية: لما كان الله أول لا بداية له وهو
آخر لا نهاية له فكذلك أسماؤه وصفاته، فأسماء الله –تعالى- وصفاته لا بداية لها ولا
نهاية لها، ومن جملة صفات الله -عز وجل-: الكلام، وصفة الكلام صفة ذاتية أثبتها أهل(6/2)
السنة مع اختلاف أضباطهم يعني أهل السنة: سواء أهل الأثر والحديث، سواء كان منهم
المتشبهون بالمتسننين من الأشاعرة والكلابية، كل هؤلاء يثبتون صفة الكلام لله -عز
وجل- فكلام الله -سبحانه وتعالى- لا بداية له وكذلك لا نهاية له ؟ لأن الكلام على
الصفات فرع عن الكلام في الذات، فإذا كان الله -عز وجل- لا أول له ولا آخر فكذلك
صفاته لا أول لها ولا آخر، ومن هذه الصفات: الكلام.. هذا من حيث النوع، من حيث
الإجمال، لكن الله -سبحانه وتعالى- أثبت أنه يتكلم وقتما شاء، إذا شاء، كيف شاء،
فيتكلم في وقت دون وقت، ويتكلم مع بعض عباده دون البعض وهذا كله ثابت فقد ثبت أن
الله –تعالى- كلم آدم -عليه السلام- وكلم الملائكة وكلم بعضاً من النبيين وكلم موسى
-عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وكلم نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كلم الله
–تعالى- الملائكة في قوله تعالى: ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ? [البقرة: 30]، والقول: كلام ?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ ? قال ماذا؟ ?إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ? فجملة"إني"
?إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ? جملة مقول القول، إذن: حدث القول ووقع
القول وهو كلام ربنا -سبحانه وتعالى- للملائكة والملائكة خاطبت ربها -سبحانه
وتعالى- وسياق هذه القصة موجود في سورة البقرة، أيضاً كلم الله –تعالى- آدم في قوله
تعالى: ?وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ ? [الأعراف: 19]، يعني:
هذا نداء من الله -عز وجل- وخطاب من الله –تعالى- لمن؟ لآدم -عليه السلام- أيضاً
كلم الله –تعالى- إبليس وذلك في قول الله -عز وجل- عندما قال ربنا لإبليس: ?قَالَ
مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ? [الأعراف: 12] لماذا لم تسجد إذ
أمرتك؟ فرد عليه إبليس فقال: ?أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ(6/3)
وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ? [الأعراف: 12]، إذن: كلم الله –تعالى- إبليس، كلم الله-
تعالى- موسى ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيم ? [النساء: 164]، بضم لفظ الجلالة
ليس وكلم اللهَ ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيم ? فثبت أن الله كلم موسى
تكليماً وسيأتي الحديث حول هذه الآية لاحقاً -إن شاء الله عز وجل- وكلم ربنا
-سبحانه وتعالى- نبينا ومصطفانا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- وحديث الإسراء
والمعراج ثابت في هذا الشأن أخرجه الإمام البخاري وغيره:( أن النبي -عليه الصلاة
والسلام- عندما عُرج به إلى السماء الدنيا ثم الثانية ثم الثالثة، ثم الرابعة،
والخامسة والسادسة ثم عُرج به بعد ذلك إلى السابعة ثم بعد ذلك إلى سدرة المنتهى
ورقي به بعد ذلك وفرض الله –تعالى- عليه خمسين صلاة، ثم بعد ذلك خففها عليه إلى خمس
صلوات فلما طلب النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يخفف الله -عز وجل- عنه هذه الصلوات
ناداه ربه فقال: يا محمد فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: لبيك وسعديك، فقال الله
-عز وجل-: إني لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب كل حسنة بعشرِ أمثالها
فهي خمس صلوات ولكن بخمسين ضعف) إذن: هذا خطاب الله -عز وجل- للنبي -صلى الله
عليه وسلم- هذا كلام واضح ومعلوم، إذن: هذا كلام كلم الله- تعالى- الملائكة وكلم
النبيين وكلم الله -عز وجل- محمداً وكلم إبليس وقال الله –تعالى- ?تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ? [البقرة: 253]
إذن: من النبيين من كافحه الله -عز وجل- وكلمه فهذا أمر ثابت والآية التي قلناها
منذ قليل: ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيم ? [النساء: 164] كلمة: تكليماً مصدر
فهذا تأكيد بالمصدر، وكما يقول الأصوليون: بأن التأكيد بالمصدر قد يكون آكد من
التأكيد بالفعل، فهذا تأكيد بالمصدر؛ حتى لا يظن الظان أن هذا كلام مجازي، هذا كلام(6/4)
نفساني أو كلام معنوي أو يحمل الكلام على معنى وإن وجد اللغة لكن لا تحتمله هذه
الآية كأن يقول: ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيم ? أي جرحه تجريحاً أي: جرحه
بنور الحكمة، ومنه: لا يقال: فلان شهيد فالله أعلم بمن يكلم في سبيله. يكلم أي:
يجرح أو يقتل في سبيله وعلى ذلك يؤولون قول الله -عز وجل- ?وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيم ? هذا كلام فيه تكلف شديد والأصل -كما قلت لكم في الحلقة قبل
الماضية-: إن الأصل أن يجرى الكلام على ظاهره ولا يحاد عن هذا الظاهر إلا بقرينة،
هذا كلام واضح قلته لكم من قبل وأكرره اليوم - بإذن الله عز وجل-.
كلمات الله -عز وجل- منها الشرعي ومنها الكوني، فكلمات الله –تعالى- الشرعية كأمره
-سبحانه وتعالى- بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، فهذا كله من جملة الكلمات
الشرعية المحبوبة لدى الله -عز وجل- ومن كلمات الله –تعالى- الكونية: أنه -سبحانه
وتعالى- ?إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? [يس: 82] حركة يدك
إنما حدثت بكلمة الله -عز وجل- كن، كتابتك بالقلم حدثت بأمر الله -عز وجل- كن، حركة
النملة إنما هي بكلمة الله كن فتحركت، حركة الصاروخ في الفضاء إنما هي بأمر الله
-عز وجل- بكلمته كن فتحرك الصاروخ، حركة الجنين في بطن الأم إنما هي بكلمة الله كن
فتحرك الجنين، فكل هذا الكون إنما يتحرك ساكنه ويسكن متحركه وكل شيء فيه إنما هي
بأمر الله -عز وجل- ?كُن ? ومن هنا فكلمات الله- تعالى- الكونية لا تنفد ولا تنتهي
قال الله -عز وجل-: ?قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاد ? [الكهف: 109] المداد
بمعنى: الحبر الذي يكتب به ?قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ
رَبِّي ? [الكهف: 109] لو أن هذا البحر جعل مداداً تكتب به كلمات الله -عز وجل-
?لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ(6/5)
مَدَد ? [الكهف: 109] لو أن الله –تعالى- جعل هذا البحر المحيط، والبحر يمثل أربعة
أخماس المعمورة، المعمورة إنما تسكن على خمسها، والأخماس الباقية بحر فلو أن هذا
البحر الكبير هذا جعل مداداً، ثم سجلنا كلمات الله -عز وجل- في هذا الكون بتحريك
النملة وتطيير الطائر وتحريك كذا وتسكين كذا لنفد هذا البحر قبل أن تنفد هذه
الكلمات، ولو جئنا ببحور مثله تمده مداداً هذا يدل على ماذا؟ على سعة ملك الله -عز
وجل- وعلى كثرة كلمات الله -عز وجل- ومن ذلك أيضاً قوله- سبحانه-: ?وَلَوْ أَنَّمَا
فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ? [لقمان: 27] لو أن أشجار الأرض جعلت أقلامًا
?وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ? [لقمان: 27]، أي: ما
انتهت كلمات الله ?وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَد ? [الكهف: 109]- سبحان الله-
فكلمات الله -عز وجل- كثيرة ?وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [لقمان: 27] هذه عزة الله -عز وجل- وهذا
ملك الله -عز وجل- وهذه حكمة الله -عز وجل- إذن: نثبت أن لله –تعالى- كلاماً وهذا
الكلام صفة ذاتية لله -عز وجل- لا بداية لها ولا نهاية باعتبار نوع الكلام، باعتبار
أصل هذا الكلام أما أفراد هذا الكلام، فإن الله –تعالى- يكلم بعض خلقه كما كلم
النبيين كما كلم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كما كلم آدم كما كلم إبليس كما كلم
الملائكة ومعلوم أن هذا الكلام يكون في وقت دون وقت أي الوقت الذي كلم الله –تعالى-
فيه موسى ليس هو الوقت الذي كلم فيه النبي محمداً -صلى الله عليه وسلم- والوقت الذي
نادى الله- تعالى- فيه آدم ليس هو الوقت الذي كلم فيه موسى فدل ذلك على أن الكلام(6/6)
من حيث النوع أذلي ذاتي فالكلام من حيث النوع صفة ذاتية ولكن باعتبار أن هذا الكلام
يحدث في وقت دون وقت لفرد دون فرد لطائفة دون أخرى، فهذه صفة فعل إذن: الكلام صفة
ذات باعتبار وصفة فعل باعتبار آخر.
وكلام الله –تعالى- حقيقة ليس مخلوقًا كما قالت الجهمية والمعتزلة، الجهمية: نسبة
إلى الجهم بن صفوان وأصل مذهبه ينتهي إلى اليهود - عليهم لعائن الله- والمعتزلة: هم
الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري وخالفوه في مسائل الاعتقاد -لاسيما مسألة الأسماء
والأحكام- خالفوه في مسألة مرتكب الكبيرة واعتزلوا مجلسه فسموا بالمعتزلة. الجهمية
قالت: بأن كلام الله –تعالى- مخلوق ليس حقيقة إنما هو مخلوق شأنه في ذلك شأن كل
المخلوقات وإنما يخلقه الله –تعالى- في المحل الذي يحدث فيه الصوت يعني: إذا أراد
الله –تعالى- أن يكلم موسى في الوادي خلق الله –تعالى- الكلام في الشجرة وأحدث في
الشجرة صوتاً فسمع موسى كلام الشجرة، إذن: كلام الله تعالى مخلوق وهذا كلام فاسد
جدًا وقالوا: بأن الله تعالى عندما سمى كلامه كلاماً ?حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ
اللَّهِ ? [التوبة: 6]، فليست هذه إضافة تدل على شيء أكثر من دلالته على التشريف
مجرد تشريف، كقوله تعالى: ?نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَ ? [الشمس: 13]، وكقولنا:
هذا بيت الله، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من بنا لله بيت) إذن: هذا بيت الله ،
الإضافة هنا إضافة تشريف ليس إلا... فيرد عليهم برد بسيط جداً: أن الله -تبارك
وتعالى- خاطب موسى في الوادي أليس كذلك؟ وقال له الله: ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ? [طه: 14]، أعيروني
قلوبكم وأسماعكم وأفهامكم عباد الله انتبهوا معي.
لو أن الله -عز وجل- خلق الكلام في شجرة فصارت الشجرة هي التي تكلمت بالصوت هل
تقول الشجرة: ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ? فيكون موسى عابداً لشجرة هل يمكن أن يتصور(6/7)
هذا؟ ينفع هذا؟ - يا رجل يا طيب- لا ينفع أبداً ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ? - سبحان
الله- هذه الآية ترتعش منها القلوب ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
أَنَ ? بالله عليكم هل مخلوق يقول هذا الكلام؟ ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ? ويقول:
?لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَ ? وبعد ذلك يقول: ?فَاعْبُدْنِي ? وبعد ذلك يقول: ?وَأَقِمِ
الصَّلاةَ لِذِكْرِي ? هذا كله من مخلوق ?وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ
كَبِير ? [الإسراء: 43] إذن: يرد عليهم بهذه الآية فحسب ولا داعي أن نتكلف ردوداً
عقلية على هؤلاء؛ لأن كثرة الردود العقلية في الأمر الواضح البين قد يشكل الأمر
ويلبسه عندما يكون الأمر بيناً واضحاً لا ترد لأن الأمر بين واضح إنما ترد عند حصول
الإشكال أو حدوث اللبس أمر واضح جداً ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ? [طه: 14].
أيضاً كلام الله –تعالى- حقيقة ليس معنى شأنه شأن العلم يعني: لا نقول: بأن القرآن
أو بأن كلام الله –تعالى- كالعلم أو أن كلام الله –تعالى- كالإرادة، لأن الإرادة لا
يتصور فيها أفرادًا لا يتصور في الإرادة أو في العلم ما يتصور في الكلام فالكلام
إذا قلنا: بأنه أذلي وذاتي باعتبار النوع، أما باعتبار الأفراد فهو صفة فعل فهذا لا
يتصور في باب العلم ولا في باب الإرادة ولا في باب القوة ولا في باب الحياة، فيتصور
بأن الله –تعالى- في الأصل هو حي ولكن ربما لا يكون حياً في بعض المواطن لا يتصور
هذا، لا يتصور هذا فالحياة صفة ذات ليس لها أفراد، صفة ذات وأفرادها ينزه عنها الله
-عز وجل- وكذلك صفة الكلام لا تشابه صفة الحياة أو صفة الإرادة أو صفة القوة،
فالكلام - كما قلت- من حيث النوع هو ذاتي أذلي من حيث الأفراد كلم الله –تعالى-
خلقاً دون خلق كلم ناساً في زمن دون زمن فهذا خلاف بين بين الصفة التي هي ذاتية(6/8)
وبين الصفة التي هي فعلية وإن كانت في أصلها ذاتية، فهؤلاء القوم ومنهم الكلابية
وهذا هو النطق الصحيح الكلابية، الكلابية قالوا هذا الكلام: بأن كلام الله -عز وجل-
صفة معنوية، صفة معنى شأنها في ذلك شأن الصفات المعنوية التي يثبتونها لله -عز وجل-
لأنهم قسموا صفات الله -عز وجل- إلى صفات معنوية وصفات خبرية، الصفات المعنوية
قالوا: هي الصفات العقلية، وجعلوها سبع صفات، منها: العلم والحياة والقوة والسمع
والبصر والإرادة والكلام، هذه سبع صفات ومنهم من زادها ثمانية: قال: هي ثمانية فزاد
عليها صفة البقاء؛ فجعلها ثمانية ومنهم من زادها صفة تاسعة وهي صفة الإدراك فقالوا:
هذه الصفات المعنوية وسموها: صفات عقلية الصفات الأخرى جعلوها صفات نقلية، أو
خبرية، فقالوا: بأن الكلام صفة معنوية أو صفة عقلية شأنها في ذلك شأن العلم، وهذا
كلام لا يصح لماذا؟ لأن النصوص أتت متضافرة متعاضدة مبينة: أن الله –تعالى- كلم
خلقاً دون خلق وكلم خلقاً في وقت دون وقت فهذا يجعل صفة الكلام تفارق غيرها من
الصفات.
أيضاً كلم الله –تعالى- خلقه بصوت وحرف هذه مسألة مهمة جداً كلم الله –تعالى- من
كلمه بصوت وحرف، وهذا الصوت يناسب جلاله، وقدره، وكماله بكيف نحن لا ندركه، ولا
نتصوره، ولكن نثبته إذن: تكلم الله –تعالى- بصوت نثبت ذلك، كيفية هذا؟ الله أعلم لا
ندري لأن كل شيء ثابت لابد أن تكون له كيفية- هذه قاعدة مهمة جداً- كل أمر ثابت له
كيفية، ولكن نحن نجهل هذه الكيفية وإنما يعلمها من؟ عالم الغيب، انتبه لهذه
المسألة، إذن: الله -عز وجل- ينزل وهذا النزول له كيفية، ولكن نحن نجهلها. ربي
-سبحانه وتعالى- يعلمها، يتكلم ربي -عز وجل- وله كيفية، الصوت يشبه صوت من بالضبط؟
وعندما تكلم هل هناك أحبال صوتية؟ وهل وهل وهل؟؟؟ إلى غير ذلك الله أعلم، نمسك،
نمسك لا نتكلم، نمسك، فالكلام لابد أن تكون له كيفية نحن نجهلها ولكن نرد علمها(6/9)
لمن؟ لله -عز وجل- يضحك ربنا -عز وجل- ولكن كيف يضحك؟ الضحك له كيفية ولكن نحن
نجهلها يعملها من؟ يعلمها الله -عز وجل- الله -عز وجل- له قدم وهذه القدم لها
كيفية، ولكن نحن نجهلها فنقول: الله أعلم بهذه الكيفية، ولكن قدم حقيقية، الله -عز
وجل- استوى وهذا الاستواء له كيفية، ولكن هذه الكيفية نحن لا نعلمها، نجهلها وهكذا
في كل نظير، فكل أمر ثابت لابد أن تكون له كيفية نحن نجهل هذه الكيفية ونرد علمها
لمن؟ لله -عز وجل-.
ومما يدل على أن كلام الله – تعالى- بصوت: لازم ما ذكرنا من قبل في مناداته
للملائكة لآدم، في كلامه مع إبليس، في كلامه لموسى، للنبي -عليه الصلاة والسلام-
فلا يعقل أن يكون هذا الكلام من غير صوت، فلازم الحق حق، فهذا كلام حقيقة وهذا
الكلام سمعه من سمعه فلا يمكن أن يكونوا سمعوا تخييلاً أو سمعوا تمويهاً أو سمعوا
معنى يسيح في الهواء وإنما سمعوا كلاماً حقيقة بصوت الله -عز وجل- ليس بصوت غيره،
ومما يدل على إثبات الصوت أيضاً لله -عز وجل- قول الله- تعالى- في موسى:
?وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِي ? [مريم:
52]، وأيضاً ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه-:( أن الله –
تعالى- يقول لآدم: يا آدم، فيقول آدم: لبيك وسعديك) لبيك وسعديك أي: إجابة بعد
إجابة وطاعة بعد طاعة، وهذا دلالة على المسارعة في الإجابة، عندما واحد ينادي عليك
فتقول له: لبيك وسعديك، معناه: سأسارع في إجابة ما تقول، فنادى الله تعالى: (يا
آدم، فقال آدم: لبيك وسعديك، فقال الله –تعالى- [بصوت]: يا آدم أخرج بعث النار)
إذن: نادى الله –تعالى- آدم بصوت والحديث موجود في البخاري.
أيضاً ما أخرجه البخاري تعليقاً، ووصله الإمام أحمد وإسناده صحيح من حديث عبد الله
بن أنيس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (يحشر الله(6/10)
–تعالى- الخلائق يوم القيامة فينادي بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قرب فيقول:
أنا الملك، أنا الملك، أنا الديان)، (فينادي الله -عز وجل- بصوت يسمعه من بعد كما
يسمعه من قرب) فهذا نص واضح على إثبات الصوت لله -عز وجل-.
والقرآن أو كلام الله -عز وجل- حروف فالصوت إنما يكون صوتاً منبئاً عن حرف، ولذلك
أخرج ابن أبي شيبة عن علي -رضي الله تعالى عنه- وهذا الأثر من طريق إبراهيم النخعي
قال: « من كفر بحرف منه فقد كفر بكلامه كله » من كفر بحرف منه أي: بحرف من كلام
الله -عز وجل- من القرآن الكريم فقد كفر به كله أي فقد كفر بالقرآن كله.
وأيضاً نقل ابن قدامة الإجماع على أن من جحد حرفاً من القرآن فقد كفر، لماذا؟ لأن
القرآن كلام الله فمن جحد حرفاً في القرآن أي: من جحد شيئاً من كلام الله فقد كفر.
إذن: محصلة هذا القول- وهو العنصر الثاني- أن الكلام صفة ثابتة لله -عز وجل- وهي
صفة ذاتية باعتبار ماذا؟ من يذكرني، صفة ذاتية باعتبار؟ باعتبار النوع
باعتبار النوع نعم، هذا كلام جميل وهي صفة فعل باعتبار؟ تفضل؟
باعتبار الأفراد.
باعتبار المواضع أو المواطن التي تكلم فيها الله -عز وجل-
هذا جيد، وتتميم ذلك قول ابن زيد - عليه رحمة الله- ( وتجلى للجبل) تجلى للجبل أي:
تجلى ربنا -سبحانه وتعالى- للجبل فصار دكاً من جلاله " من" هنا بمعنى السبب أي:
بجلاله بسبب جلاله وهذا مشهور في لغة العرب، تقول: دفعت هذا المال من أجل فلان، أي
بسبب فلان، وهذه الجملة وتجلى للجبل فصار دكاً من جلاله، هذه الجملة من قول الله
-عز وجل-: ?وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ? [الأعراف:
143] ذات الكلام هذا، وكلمه ربه أنا أريد أن تنتبهوا إلى كلام الله -عز وجل- وعندما
تسمعون آية أو حديثاً فعوها جيداً ?وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ? قال الله الجليل: ?لَن(6/11)
تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ ? هذا الجبل - ما شاء الله- جبل شامخ صلب
أصم انظر إلى هذا الجبل الأصم الشامخ، متناهي السموق والعلو وكما يقولون: إن كل جبل
طوله في الهواء مقداره وأكثر عمق في الأرض، يعني: كل جبل يتطاول في الهواء بمقدار
هذا الطول وبمقدار هذا الارتفاع بمقدار العمق في الأرض، هذا الجبل ?لَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ ? جعله أي: صيره ?دَك ? دكاً أي: مدكوكاً الدك هنا
مصدر، بمعنى مفعول دكاً أي: مدكوكاً والمدكوك كالمدقوق والمدقوق أي التراب فالكاف
كالقاف، تشابهتا لقرب المخرج، واقتراب الدلالة، -سبحان الله- الدك بمعنى الدق،
والدك: مصدر دك دكاً، مثل مشى مشياً وأكل أكلاً ودك دكاً إذن: دك مصدر والمصدر هنا
بمعنى المفعول وهذا من باب تبادل الصيغ وقلت ذلك من قبل: تأتي الصيغة بمعنى صيغة
أخرى: فاعل تأتي بمعنى كذا وفعيل تأتي بمعنى كذا وفعل تأتي بمعنى كذا، وفعل تأتي
بمعنى كذا، قلت لكم بعض الأمثلة على هذا الأمر، ?جَعَلَهُ دَك ? أي مدكوكاً أي
مدقوقاً أي جعله كالتراب وهذه قراءة والقراءة الثانية: جعله دكاء، بإثبات الهمزة،
أي: جعله مستوياً، لا ارتفاع فيه، انظر إلى هذا الجبل العالي عندما تجلى، وتجلى أي:
ظهر ربنا له وبرز لما ظهر ربنا – تعالى- للجبل ومنه انجلى الأمر أي: انكشف وظهر أي:
فلما ظهر ربنا للجبل ?جَعَلَهُ دَك ? جعله مدكوكاً كالتراب وعند ذلك ?وَخَرَّ
مُوسَى صَعِق ? وقع مغشياً عليه فلما أفاق من غشيته قال: ?سُبْحَانَكَ ? تقدست
وتعاليت ?إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ? من إساءتي الأدب معك يا مولاي ?إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ ? من إساءتي الأدب ومن تجاوزي الحد فكيف أطلب أن أراك؟ ?إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ? هنا قال: وتجلى للجبل فصار دكاً من جلاله
-سبحانه- إذن: ما نستفيده من هذه الفقرة؟ أنه كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته(6/12)
انظر، صفة ذاته، إذن: الكلام صفة ذاته لا خلق من خلقه أي: ليس الكلام خلقاً من
خلقه، وربنا-سبحانه وتعالى- في عليائه لما تجلى للجبل صار دكاً وخرَّ موسى صعقاً
وهذا كله من جلاله -سبحانه وتعالى-.
الفقرة الثالثة: وهي متعلقة بأن القرآن كلام الله -تعالى- حقيقة منه بدأ وإليه
يعود، وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، وعندما نقول: أهل السنة والجماعة فيقصد بهم
أهل الحديث الذين يعظمون الحديث ويصيرون إلى حيث انتهى الحديث لا يتجاوزون قول الله
ولا قول رسول الله ولا قول السلف من الصحابة والتابعين، لا يتجاوزون ذلك أبداً،
فكلامهم منعقد على أن القرآن كلام الله -تعالى- حقيقة، ليس مجازاً وليس معنوياً
وليس نفسانياً وليس مخلوقاً حقيقة منه بدأ أي تكلم الله -تعالى- بالكلام فكان مبتدأ
الكلام من الله -عز وجل- وإليه يعود في آخر الزمان عندما يرفع الله -تعالى- القرآن
من على الأرض يعود القرآن إلى الله -عز وجل- كيف يعود؟ ومتى يعود؟ هذا كله أمر غيبي
لا يعلمه إلا ربه سبحانه.
فالقرآن كلام الله حقيقة منه بدأ وإليه يعود، قال المصنف - عليه رحمة الله-: « وأن
القرآن كلام الله » إذن: هذا القرآن كلام الله -تعالى- كلم الله –تعالى- موسى
تكليماً وكلم الله -تعالى- نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وتكلم الله -تعالى-
حقيقة بهذا القرآن، ولذلك عندما تقرأ القرآن لابد أن يكون هذا المعنى ثابتاً عندك
في قلبك يعني: هذا المعنى لابد أن يكون من الثبوت عندك بمكان فالقرآن كلام الله -عز
وجل- (ليس بمخلوق فيبيد) يبيد: من الفعل باد يبيد، بمعنى: ينتهي وينقرض فالقرآن لا
ينتهي ولا ينقرض، سبحانه، لا ينتهي ولا ينقرض، فكلام البشر ينقرض وينتهي، أين كلام
الله البشر مثلاً منذ ألفي سنة؟ خلاص انتهى ونحن بعد ألف سنة كلامنا ينتهي أما كلام
الله -عز وجل- لا ينتهي لأنه لا يبيد أي لا يهلك ولا ينتهي ويقول المصنف: « ولا صفة(6/13)
-أي: ليس صفة- ولا صفة لمخلوق فينفد » ينفد: من نفد الشيء بمعنى ذهب وفني، إذن:
القرآن لا يذهب ولا يفنى ولا يطرأ عليه ما يطرأ على كلام البشر أبدًا، جماعة
الشعراء يحتمل أن يكون شعرهم هذا منحولاً أليس كذلك؟ يحتمل. انظر إلى امرئ القيس أو
زهير بن أبي سلمة أو طرفة بن العبد أو غيره كل هؤلاء الشعراء هناك أناس تكلموا على
مسألة الانتحال في أشعارهم وشككوا في مصداقية هذا الشعر الذي وصل إلينا من الشعراء
القدماء وهذه المسألة فيها كلام كثير، نعم هذا كلام يحتاج إلى دراسة والحق أن
كثيراً من الشعر الجاهلي وصل إلينا حقيقة دون انتحال لأن علم العرب كان متعلقاً
بالسمع وكانوا إذا سمعوا شيئاً ضبطوه ضبطاً متقنناً والذين أرادوا أن يطعنوا في
الشعر الجاهلي إنما أرادوا أن يطعنوا في الشعر الجاهلي ليتوسلوا بذلك إلى الطعن في
القرآن والحديث، وهيهات له ذلك، وإذا تنزلنا معهم وقلنا: بإمكانية أن توجد بعد
القصائد المنحولة، وأن بعض الرواة كخلف الأحمر وغيره تعملوا في هذه المرويات زادوا
ونقصوا فهذا لا يمكن أبداً مع كتاب الله -عز وجل- قال الله -تعالى-: ?إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [الحجر: 9]، انظر لهذه الجملة
?إِنَّ ? يعني: الجملة فيها ضمائر التأكيد كثيرة مع الرغم من أنها جملة صغيرة جداً
?إِنَّ ? وبعد ذلك انظر إلى- نحن- ?إِنَّا نَحْنُ ? وبعد ذلك ?نَزَّلْنَ ? وبعد ذلك
النون في نزلنا والنون الثانية في آخر نزلنا ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَ ? وبعدها
قال: الذكر؛ ليذكر فلا يغفل عنه، انتبه لهذه الدلالة. لم يقل: إنا نحن نزلنا القرآن
ولكن قال: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ? ليذكر لا ليغفل ولا ليلعب به، ولا
ليطعن فين وقال بعد هذا: ?وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?-سبحان الله- من الذي يستطيع
بعد ذلك أن يطعن في القرآن هذا كلام ربنا -عز وجل- لا أحد يستطيع بعد ذلك أن يطعن
في كلام ربه- سبحانه-.(6/14)
إذن: القرآن كلام الله -تعالى- حقيقة، حقيقة، حقيقة، هذا الكلام لا ينفد ولا يبيد
ولا يطرأ عليه ما يطرأ على كلام البشر من الاضطراب والتناقض والتعاكس وإقامة الأمور
التي يحتاج من أجلها إلى الاحتراز أبداً أبداً قال الله -تعالى-: ?وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِير ? [النساء: 82]،
إذن: أي كلام ليس من عند الله يمكن أن تجد فيه اختلافاً كثيرا، وما عند الله
-تعالى- الوحي، والوحي وحي بالمباشرة والقرآن والثاني بالواسطة وهي سنة النبي -عليه
الصلاة والسلام- إذن: القرآن والسنة ليس فيها اضطراب وليس فيهما تناقض وإنما
الإشكال إشكال المكلف الذي لا يعي ما يقرأ والذي يضع التناقضات أثناء النص عند
قراءته وإلا لا تناقض ?رَّبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ? [المزمل: 9]، عندما أثبت
المشرق والمغرب، أن هناك مشرق وهناك مغرب ?رَبُّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
المَغْرِبَيْنِ ? [الرحمن: 17]، نعم الشمس عندنا تزول من عندنا تشرق في بلد أخرى
فهناك مشرقان وعندما تغرب الشمس هنا تشرق في أخرى فهناك مغربان ?رَبِّ المَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ ? [المعارج: 40] - سبحان الله- هل صلاة العشاء اليوم كصلاة العشاء
منذ أسبوع؟ صلاة الفجر الآن كصلاة الفجر منذ يومين أو ثلاثة أيام والذي يختلف
الميقات؟ يختلف الميقات إذن: هناك مشارق كثيرة وهناك مغارب كثيرة وبناء على كثرة
المشارق تتعدد المواقيت وتتفاوت المواقيت أين الاضطراب في ذلك؟ يقول القرآن مضطرب،
مرة يقول: ?رَّبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ? ?رَبُّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
المَغْرِبَيْنِ ? ?رَبِّ المَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ? فالقرآن متناقض. وليس القرآن
بالمتناقض، فالقرآن كلام الله -تعالى- قال الله تعالى: ?وَإِنْ أَحَدٌ ? [التوبة: 6]
إن أي إنسان، أحد هنا: نكرة أتت في سياق الشرط للدلالة على العموم ?وَإِنْ أَحَدٌ(6/15)
مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ?
[التوبة: 6]، حتى يسمع ماذا؟ كلام الله وحتى هنا بمعنى الغاية بمعنى: لغاية ما يسمع
كلام الله -عز وجل- والقرآن له سحر - كما يقولون- له سلطان على القلب، ما من امرئٍ
يسمع القرآن بقلبه إلا تحرك هذا القلب للقرآن؛ ولذلك كان المطلوب أن نسمع الناس
القرآن، إلى الآن نحن لا نُسمع الناس القرآن ولا يَسمَع الناس القرآن إلا في
المناسبات في المآتم وبعض الناس في الأفراح في البداية كذا يعني بعض الدقائق من باب
البركة فقط، أما القرآن كلام الله، فلا يسمعه الناس ولا يتوافرون على سماعه، (كان
الواحد من الصحابة يأخذ بيد أخيه فيقول: هيا بنا نؤمن ساعة فيجلسان فيقرآن القرآن
ويذكران الله -عز وجل-) هذا الحديث أخرجه البخاري تعليقاً ووصله غيره، من منا أخذ
بيد أخ له في الله وقال: هيا بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيقرآن القرآن، فأنت تجد الأخ
مع أخيه يمكن أن يجلسا الوقت الطويل لدراسة مسألة لغوية، مسألة أصولية، قراءة قصة،
قراءة مسألة في كذا وكذا، لكن يجلسان ليقرآ القرآن الكريم ويفهما القرآن الكريم هذه
أمور صارت قليلة في هذه الأزمان- وإلى الله تعالى المشتكى-.
والقرآن – حقيقة- نزل من الله -عز وجل- تكلم الله -تعالى- بالقرآن حقيقة ولما كان
الله -تعالى- في السماء أي: على السماء "في" بمعنى: على، لما كان الله -تعالى- على
عرشه فوق خلقه، وتكلم بالقرآن، سمع جبرائيل القرآن من الله -عز وجل- انتبه؛؛؛ لأن –
للأسف- بعض كتب علوم القرآن تقول: بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- سمع القرآن من
السماء الدنيا. كلام عجيب. لا يمكن، هذا الكلام موجود في بعض الكتب، لكن هذا الكلام
فيه نظر؛ لأن الله -تعالى- أثبت في القرآن أن جبريل هو الذي نزل بالقرآن بعد سماعه
من الله -عز وجل- فقال الله -عز وجل- ?نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ?193 ? عَلَى(6/16)
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ?194 ? بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ?195 ? ?
[الشعراء: 193- 195]، إذن: هذه الآيات أفادت عدة أمور أولاً: أن القرآن منزل،
ثانياً: أن القرآن أتت به الواسطة الملائكية هو جبريل من الله إلى النبي -عليه
الصلاة والسلام- الأمر الثالث: أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ليس بلسان أعجمي،
وليس بلسان مختلط ولكن بلسان عربي مبين، وكلمة مبين صفة لم يقل: ?بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ ? ولكن قال: ?مُّبِينٍ ?، ومبين صفة والصفة قيد للدلالة على أن القرآن
إنما نزل فصيحاً, لا اختلاط فيه ولا عجمة فيه، وقال الله –تعالى-: ?تَبَارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ? [الفرقان: 1]، إذن: نزل الفرقان على
عبده؟ من الذي نزل الفرقان؟ إذن: تبارك الله الذي نزل الفرقان على عبده، والفرقان:
هو القرآن وسمي القرآن فرقاناً؛ لأن الله- تعالى- فرق فيه بين الحق والباطل، إذن:
هذا أيضاً نص ودليل على ذلك، قال الله –تعالى-: ?اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم
مِّن رَّبِّكُمْ ? [الأعراف: 3] اسمع هذه الآية, نصت المسألة ?اتَّبِعُوا مَا
أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ? من هنا بمعنى الابتداء عندما تقول: سافرت من
القاهرة إذن: بداية السفر من أين؟ من القاهرة، لا يتصور أبداً، أن تقول: سافرت من
القاهرة تكون بداية السفر، مثلاً بلدة أخرى، إذن: "من" هنا للابتداء، فلما يقول:
?اتَّبِعُو ? هذا أمر من الله -عز وجل- ?اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ ? "ما" هنا بمعنى
الموصولية بمعنى: الذي- اتبعوا الذي أنزل إليكم أيها المكلفون- ?مِّن رَّبِّكُمْ ?
?وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ? إذن: لا
بد أن نؤمن بأن القرآن نزل من الله تكلم الله –تعالى- بالقرآن ونزل به الروح الأمين
ليبلغه إلى النبي الحبيب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وقال الله -تبارك(6/17)
وتعالى-: ?وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ? [البقرة: 23]إذن: من الذي نزل؟ الله -عز وجل- فهذه مسألة
مهمة جدأ أن تؤمن إيماناً راسخاً أن الله تعالى تكلم بالقرآن حقيقة، وأن جبرائيل
سمع الكلام من ربه وأبلغه للنبي -عليه الصلاة والسلام- تؤمن بذلك.
ويسر الله –تعالى- القرآن: ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ ? [القمر:
17]، وجعله عربياً: ?بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ? [الشعراء: 195]، ?إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِي ? [الزخرف: 3]، وكذلك أيضاً جعله بيناً قال: ?بَلْ
هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ? [العنكبوت: 49]،
وتحدى الله به الإنس والجن: تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يقدروا، تحداهم أن
يأتوا بسورة من سور القرآن فلم يقدروا، تحداهم أن يأتوا بآية واحدة من آيات القرآن
فلم يقدروا، أبلسوا وعجزوا تماماً وليس التحدي هنا وليس الإعجاز في القرآن من جهة
نظمه فقط، ولا من جهة أسلوبه فقط، ولكن الإعجاز أنه كلام الله فحسب، ولك أن تضع بعد
ذلك ما شئت من المعاني والكلمات.
هنا قاعدة يسيرة بسيطة أقولها - سريعاً- هذه القاعدة: أن الكلام إنما يكون لمن
ابتداه لا إلى من بلغه وأداه، بمعنى أنك إذا سمعت قول الشاعر مثلاً:
لخولة أطلال ببرقة فاهمدي تلوح كباقي الوشم من ظاهر اليد
مثلاً هذا البيت بيت من؟ طرفة بن العبد أليس كذلك؟ بيت طرفة أنا قلت هذا البيت هل
عندما أقول هذا البيت هل ينسب لي أنا؟ لا.. وإنما ينسب هذ البيت لمن؟ لمن ابتداه،
عندما أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل
امرئ ما نوى) الحديث، هل عندما أقول هذا الحديث إذن: أنسب هذا الحديث لنفسي أم إني
أنقله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أنقله، إذن: نحن عندما نقرأ القرآن لا ينسب(6/18)
إلينا القرآن وإنما القرآن كلام الله -عز وجل- ولذلك كانت الكلمة الجامعة التي
قالها السلف: بأن القرآن كلام الله -تعالى- حقيقة من قال؟ هذا الكلام ثابت عن
الإمام أحمد وعن غير الإمام أحمد ولكن هذا الكلام ثبت عن الإمام أحمد بكثرة لأنه هو
الذي بلي وابتلي بهذه المسالة بمسألة خلق القرآن على يد ثلاثة خلفاء، الخليفة الأول
كان المأمون - سامحه الله- والثاني: هو المعتصم الذي انشغل بالحرب فلم يكن على
دراية بالعلم ولا بفهم النص والثالث: كان هو الخليفة الواثق- سامحه الله- ولم يفك
هذا الأمر إلا في أيام الخليفة المتوكل الخليفة العباسي الذي كان محباً للسنة
مدافعًا عنها إذن: ثلاثة خلفاء كانوا متوافرين على ابتلاء الناس في مسألة خلق
القرآن فكان كلام العلماء في ذلك الوقت وعلى رأسهم إمام السنة الإمام أحمد - عليه
رحمة الله- قال: من قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر؛ لأن القرآن كلام الله -تعالى-
حقيقة فلو قال: بأنه مخلوق يكون كافرًا ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع أريد
أن أفصل هذه الجملة في دقيقة واحدة لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع لماذا كان
مبتدعًا؟ لعدة أمور:
الأمر الأول: أن هذه الكلمة لم تثبت عن أسلافه من الصحابة والتابعين والإمام أحمد
عاصر القرن الثاني والثالث.
الأمر الثاني: أن كلمة "لفظ" يمكن أن تأتي بمعنى المصدر ويمكن أن تأتي بمعنى
المفعول يعني يمكن أن تأتي بمعنى المصدر الذي هو الكلام بالفعل، ويمكن أن تأتي
بمعنى المفعول أي ما خرج من الفم بمعنى الملفوظ إذن: هذه الكلمة صارت كلمة ملبسة،
والأصل في العقيدة: عدم استعمال الألفاظ الملبسة، فكل لفظ ملبس محتمل الأصل أن تحيد
عنه ولا تستعمله لأنه ليس معقولاً أن كل واحد يقول لفظاً ملبساً نقعد نفصل معه ماذا
تقصد؟ وماذا تعني؟ وماذا تريد؟ فالأوفق: الابتعاد عن الألفاظ المجملة الملبسة، ليست(6/19)
المجملة فقط لا.. الملبسة، ولذلك قالوا: ومن قال: بأن لفظي بالقرآن مخلوق فهو
مبتدع. نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا أهلاً للقرآن وأن يجعلنا من عباده الصالحين
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كنت أريد أن أسأل فضيلة الشيخ في شبهتين كانتا
قد عرضتا علي بالنسبة لمسألة استواء الله -عز وجل- على العرش:
الشبهة الأولى: نقطة التنزل- تنزل الله -عز وجل- إلى السماء الدنيا- يوجد أحد
المشايخ طلع على المنبر أظن أنه أشعري قال: إن الله -عز وجل- إذا كان يتنزل من
السماء إذن: يتنزل في الثلث الأخير من الليل، والكرة الأرضية يختلف فيها الثلث
الأخير من بلد إلى بلد، فالثلث الأخير عندنا في مصر غيره في أمريكا غيره في الصين
غيره في اليابان، إذن: الله -عز وجل- متنزل في السماء الدنيا طول اليوم؛ لأن الثلث
الأخير موجود في جميع البلاد على مدار اليوم؟ هذه الشبهة الأولى كنت أريد أن أعرف
الرد عليها؟
أما الشبهة الثانية: فهي مسألة أن الله -عز وجل- وهذه تكلم فيها ابن تيمية وأنا لم
أستطع أن أفهم كلامه – صراحة- وهي نقطة أن الله -عز وجل- يتنزل من السماء الدنيا
إذن: يترك عرشه -سبحانه وتعالى- فهل يخلو العرش منه والكرسي طبعاً بالتالي؟ أنا لم
أفهم هذه النقطة.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من مصر كان سؤاله الأول: عن الشبهة شبهة التنزل واختلاف
الثلث الأخير وأن الله يكون متنزلاً طوال اليوم
بسم الله الرحمن الرحيم، أنا قلت كلمة مجملة في هذه المسألة: إن كل أمر ثابت له
كيفية ولكن هذه الكيفية لا ندركها نحن, فلو حاولنا أن نستفصل كيفية معينة لا ندركها
لوقعنا في الخطأ، وقلت لكم من قبل: إن الله -سبحانه وتعالى- ? أَحَاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْم ? [الطلاق: 12] ونحن نعلم لو أن هذه القاعة ملئت رجالاً وكل واحد(6/20)
منهم تكلم بكلام لاقتضى أني لن أفهم كلام أي واحد منهم أبداً يعني: لو أن هذه
القاعدة فيها مثلاً ألف إنسان وكل إنسان تكلم بجملة يطلب مني طلباً إذن: هناك ألف
طلب في وقت واحد يطلب مني هل أسمع طلباً واحداً؟ لن أسمع طلباً واحداً هذا بمقتضى
العقل، فالله -تبارك وتعالى- لا يسمع لألف وإنما يسمع للخلائق كلها إنسها وجنها
وملكها وبرها وجوها وبحرها وصالحها وطالحها ومؤمنها وكافرها وشجرها كل هذه العوالم
وكل هذا الخلق يسمعه الله -تعالى- في وقت واحد. كيف ذلك؟ بمقتضى عقولنا لا نصدق هذا
ولا نسلم بهذا ولكن دائماً نقول: نثبت المعنى وأما الكيف فنترك أمره لله -عز وجل-
فلو كنت مؤمناً إيماناً جازماً بأن الله -تعالى- استوى على عرشه استواءً حقيقياً
وأن استواءه هذا استواء حق لا مرية فيه إذا كنت تؤمن بذلك. ثانيًا تؤمن بأن الله
-تعالى- يتنزل في الثلث الأخير من الليل فينادي ويدعو الناس إذا كنت تؤمن بذلك فإنه
لا يمكن أن يكون التنزل هنا تنزل أمر الله -عز وجل- ينزل ربنا في الثلث الأخير من
الليل فالمقصود: ينزل أمر ربنا؛ لأنه لو كان يقصد أمر ربنا يعني ينزل أمر ربنا فكيف
أن أمر ربنا ينادي الناس؟ ألا من داع فأستجيب له؟ ألا من تائب فأتوب عليه؟ ألا من
مستغفر فأغفر له؟ هل أمر الله ينادي؟ -سبحان الله- فهذا أمر لا يمكن أبداً فإذا كنت
مؤمناً بالتنزل ومؤمناً باستواء الله على عرشه فحسبك ولا تخض في الكيفية.
أما مسألة التنزل معناها أن العرش يخلو منه. لا.. هذا ليس اعتقاد أهل السلف، أهل
السلف يؤمنون بالنزول نزولاً حقيقياً يليق بجلاله -سبحانه وتعالى- ولا يخلو منه
عرشه-والله تعالى أعلى وأعلم.
إجابات الحلقة السابقة:
كانت إجابة السؤال الأول:
القاعدة الأولى:أسماء الله توقيفية.
القاعدة الثانية:الكلام عن الصفات كالكلام عن الذات.
القاعدة الثالثة: المماثلة في الإثم لا تقتضي المماثلة في المسمى.(6/21)
القاعدة الرابعة: أسماء الله كلها مشتقة تدل على معان غاية في الكمال.
القاعدة الخامسة: من أسماء الله ما يسمي به نفسه مطلقاً من غير قيد ومنها ما يُطلق
على الله -عز وجل- بالقيد وهو إما يكون قيد إضافة أو قيد جزاء ومقابلة.
القاعدة السادسة: الصفات تنقسم إلى قسمين:صفات ذات وصفات فعل.
القاعدة السابعة: أسماء الله ليست محصورة.
القاعدة الثامنة: الصفات منها الثبوتية، ومنها السلبية
ما شاء الله.
إجابة السؤال الثاني:
من المعاني التي وقفت عليها:عظم وخطورة القول على الله بغير علم.
ما شاء الله.
من كان مع الله وعلم أسماءه وصفاته وعمل بمقتضاها كان الله معه يؤيده وينصره
والله معاني طيبة نسأل الله تعالى أن نكون أهلا لهذه المعاني.
هناك سؤال يا فضيلة الشيخ من الأخ الكريم من الكويت: أرجو توضيح هذا الإشكال الذي
لدي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) أخرجه
مسلم في الصحيح من حديث هشام بن حسان، كيف نوفق بين ذلك وبين أن الله -تعالى- لا
يسمى بالدهر، وكيف إذا وجدنا آية أو حديث فيه مثل ذلك أن نعرف أن هذا من أسماء الله
أم لا؟ وجزاكم الله خيرا
الجواب: باختصار شديد، من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن الدهر اسم ليس بمشتق وقلنا: إن الأصل أن أسماء الله -تعالى- مشتقة،
فهذا هو الجواب الأول، الجواب الثاني: أن في النص ما يدل على أن هذا ليس من أسماء
الله -عز وجل- قال: (لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر أقلب الليل والنهار) فجملة أقلب
الليل والنهار تفسير لمعنى كلمة الدهر، لمعنى كلمة الدهر فليس في النص ما يدل على
أنها من أسماء الله -سبحانه وتعالى- وعليه فلا يجوز لأحد أن يسمي نفسه: عبد الدهر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الدعاء بـ" يا مسهل" ؟ هل يجوز؟
سؤال آخر: إن لله تسعة وتسعين اسماً، هي المفروض شكلاً أنها للحصر، لماذا هي ليست
للحصر؟(6/22)
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، سؤالي الأول: ما حكم من جحد أو عطل أو أول أو مثل
أو كيس بعض الأسماء والصفات، هل يخرج بذلك من الملة أو يعتبر من المبتدعة؟
السؤال الثاني: كما هو معلوم من عقيدة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته: أن
لله تعالى يدين اثنتين وكلتا يديه يمين ويؤيده قوله تعالى: ?بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ ? [المائدة: 64]، فكيف نجمع بين هذه الآية والآية الأخرى في سورة
الذاريات ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ? [الذاريات: 47] الآية حيث أنها دليل
على الجمع فهل كلمة بأيد تدخل في صفة اليد لله أم لا؟ وجزاكم الله خيراً
الأخت الكريمة من مصر تقول: الدعاء بكلمة: يا مسهل. هل يجوز؟
إذا كانت تقصد الاسم فليس هذا من أسماء الله -عز وجل- وإن كانت تقصد بذلك الإخبار
يعني مثلاً: تقول: يا مقلب القلوب والأبصار، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(يا مقلب القلوب والأبصار) فليس من أسماء الله -عز وجل- المقلب، فهذا يجوز لا بأس.
وكان سؤالها الثاني عن حديث أن لله تسعة وتسعين اسماً وأنها ليست للحصر؟
ما مقصودها بالحصر؟ إن كان مقصودها: المقصود البلاغي البياني، فطبعاً ليس في اللغة
والبيان ما يدل على ما تقول، وإن كانت تقصد الإحصاء إن هذه تدل على الإحصاء إن لله
تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة فتسأل عن معنى الإحصاء فذكرت لكم أن معنى
الإحصاء ليس هو مجرد العلم والحفظ، ولكن المقصود بالإحصاء العلم والفهم والعمل،
والله تعالى أعلى وأعلم، وإذا كانت تقصد إن هذا النص ليس فيه ما يدل على الإحصاء
فأنا أؤيدها في ذلك وهذا اعتقاد أهل السنة أن أسماء الله -عز وجل- ليست محصورة
بتسعة وتسعين اسما والله تعالى أعلى وأعلم.
الأخ الكريم من مصر كان سؤال الأول: ما حكم من عطل أو شبه أو كيس أو أول في
الأسماء والصفات، هل يخرج بذلك من الملة أو يعتبر من المبتدعة؟(6/23)
كثير من الذين ركبوا هذا المركب مركب التأويل بالذات أو مركب التشبيه يعني يغلب
عليهم الجهل ويغلب عليهم أنهم لا يريدون إلا أن يصلوا إلى الحق فهؤلاء لا أستطيع أن
أكفرهم حتى تقام على أبعاضهم مما يتكلمون بالكلام الشديد الحجة النبوية التي يكفر
من خالفها، فمثلا لو أن إنساناً أوَّل اسماً أو صفة ليس حاله كحال الذي جحد صفة من
صفات الله -عز وجل- يعني: ليس الكلابي كالجهمي فالأخ كان ينبغي أن يفصل في سؤاله
فجمع كل الأصناف كلها في سؤال واحد فلكي أجيب على كل هذه الأصناف فلابد أن أفصل كل
حاجة وحدها، الممثل كيف يكون وضعه؟ والمشبه كيف يكون وضعه؟ والمكيف كيف يكون وضعه؟
والمؤمل كيف يكون وضعه؟ والمعطل كيف يكون وضعه؟ فهذا سؤال واسع لكن من حيث العموم
لا ينسب مسلم إلى بدعة أو إلى كفر أو إلى فسق أو إلى زندقة أو ما إلى ذلك حتى تقام
عليه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، والحجة معناها ماذا ؟ إن هناك شروطاً
وهناك موانع الشروط لابد أن تستوفى والموانع لابد أن تنتفى فلو استوفيت الشروط وتمت
هذه الشروط، وانتفت هذه الموانع وقام بها العالم الخبير الذي يقيم الحجة فقد وقع
الأمر وحكم على هذا المعين إما بالكفر وإما بالفسق وإما بالدعة وإما بالزندقة وإما
وإما إلى غير ذلك، ولا أظن أن طلبة العلم مع بساطتتهم وبداية طلبهم أن يكونوا
قادرين على إقامة الحجة في المسائل العقائدية الدقيقة التي هي مثل هذا- والله تعالى
أعلى وأعلم-.
كان سؤاله الثاني: (إن لله يدين وكلتا يديه يمين) كما في الحديث كيف نجمع بينها
وبين قول الله تعالى: ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ? [الذاريات: 47]
هذه الآية ليست من آيات الصفات، لأن المقصود بالأيدي هنا: القوة القوة ومنه قول
الله -عز وجل- في إبراهيم وأولاده قال: ?أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ? [ص: 45]،
فالمقصود بأولي الأيدي والأبصار أي: أصحاب القوة والأفهام والعلم- والله تعالى أعلى(6/24)
وأعلم- فلا تعارض أصلاً.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: شيخنا الفاضل قرأت في بعض الكتب التي تتحدث عن
أسماء الله وصفاته ما نصه: " للتسعة والتسعين خواص عجيبة لاسيما حين تقرؤها قبل
النوم في خلوة منتظمة راتبة وتكرر كل اسم بضع مرات على حدة ترى عجباً في نومك
ويقظتك، ثم ذكر بعض ذلك، تقرؤها مستشعراً مثول روحك بين يدي مولاك متيقظاً لعظمتك
وأنه محيط بك وبالسماوات والأرض وسائر الخلائق متحققاً باسمه ممتزجاً بمعناه في نفس
الوقت، سؤالي- شيخنا الفاضل-: ما معنى ممتزجاً بمعناه في العبارة السابقة، هل يعني
ذلك مستشعراً ؟ أفدنا فتح الله عليك؟
يعني نحن لا نصحح عبارة في جملة لا نوافق عليها أصلاً لأن هذه الجملة في معناها ومن
مبناها ليست جملة أثرية ولا سلفية ، لا في المبتدأ ولا في المنتهى ولا في المبنى
ولا في المعنى بل هي جملة المتأخرين من أهل الذوق؛ لأن المتقدمين من أهل الذوق
كانوا متسننة كأبي محمد الجنيد سيد الطائفة كما كان يطلق عليه شيخ الإسلام ابن
تيمية - عليه رحمة الله- كان متسننا وكان يعرض ما يأتيه من الخوطر ونحوها على
الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة قبله وما كان غير موافق رده أما المتأخرون من
أهل الوجد والذوق فإنهم يأتون بمثل هذه الطامات فبداية التسع وتسعين اسماً قلت لكم:
بأننا لو أتينا بأهل العلم الذين حصروا التسعة وتسعين سنجد أن كل حصر لعالم يخالف
الحصر الآخر للعالم الآخر فيا ترى بأي حصر هي ستقرأ التسع وتسعين اسماً هذا أولاً..
ثانيًا: هذه الطريقة من أين أتت بها؟ أو من أين أتوا بها ؟ هل هي طريقة أتى بها
النبي -عليه الصلاة والسلام- أم لم يأت بها النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لو أتى
بها النبي -عليه الصلاة والسلام- لبلغها الصحابة ولبلغها عن الصحابة التابعون
ولبلغها عن التابعين تابعو التابعين وهكذا إلى أن تصل إلينا، فلما لم نجد طريقاً(6/25)
صحيحة لهذا الكلام فهذه بدعة صلعاء، لا أصل لها في دين الله -عز وجل- والأصل
الاتباع لا الابتداع، وقال الله -تعالى-: ?لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا
إِلَيْهِ ? [الأحقاف: 11]، وقول عبد الله بن مسعود: عليك بالعتيق، فإن الإنسان ينبغي
عليه أن يتبع ما ثبت عن الله -عز وجل- وما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- وما ثبت
عن الصحابة الكرام فهذه جملة بدعية وأنصح بعدم فعلها.
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل من إشارة إلى اسم
الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وكيفية تعلمه والتعبد به وهل هو
الحي القيوم أم هو غير ذلك؟ وجزاكم الله خيرا
هذه المسألة مما تنوع فيها كلام أهل العلم فمنهم بالفعل من قال: هو ?الحَيُّ
القَيُّومُ ? [البقرة: 255]، ومنهم من قال: غير ذلك ولعل عدم العلم بهذا الاسم
الأعظم مدعاة إلى أن تعظم أسماء الله –تعالى- جميعاً وتؤمن بقول الله -عز وجل-
?وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ ? [الأعراف: 180]، وقول المولى
-سبحانه وتعالى-: ?قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا
تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ? [الإسراء: 110]، فاجعل جهدك في الوقوف على
الأسماء الثابتة في القرآن والسنة وادعُ ربك بها لعل الله -تعالى- أن يوفقك إلى
اسمه الأعظم في وقت إذا دعوت به أجابك والله المستعان.
الأخ الكريم من الأردن له ثلاثة أسئلة: يقول: شيخنا- بارك الله فيكم- أصلتم في
المحاضرة السابقة أن هناك صفات ذاتية وصفات فعلية هل نستطيع القول: إن كل الصفات هي
صفات ذاتية في نوعها لأن أصل الضحك موجود لكن أفراده ليست دائمة أم ماذا؟ أرجو ذكر
مثال توضيحي؟
هذه القولة يعني دائماً الإنسان عندما يقول يقول الكلمة المجملة الثابتة عن السلف
وجملة إن الصفات الفعلية في أصلها ذاتية أو ذاتية النوع ولكنها حادثة أو فعلية(6/26)
الآحاد هذه الكلمة قالها المتأخرون لاسيما من الحنابلة، ثم بعد ذلك وردت إلينا،
وهي كلمة أو هذه الجملة جملة ليست أثرية ليست سلفية (كلمة غير مفهوم) النوع
والأفراد ليست سلفية ولكن اضطررنا إليها اضطرارا للبيان والتوضيح ولولا ذلك ما
تكلمنا بها أصلا، فالأصل الإمساك عما لم يرد به خبر ولا جمل صحيحة عن السلف, والله
تعالى أعلى وأعلم.
سؤاله الثاني: أرجو ذكر ضوابط اشتقاق الاسم من الصفة مثلاً، معلوم أن من صفات
الله تعالى أنه يمحو ما يشاء ويثبت فهل نستطيع القول: إنه من أسماء الله الماحي، مع
أن الماحي من أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
جيد ما شاء الله. إذا أردت أن تشتق فأنت تشتق الصفة من الاسم لا تشتق الاسم من
الصفة، ولا يجوز أيضاً أن تشتق الاسم من الخبر فلابد أن تنتبه فهو تقريباً عكس
الأمر، فيمحو الله ما يشاء ويثبت هذا إخبار فأنت لا تشتق من الخبر مثلاً اسمًا يعني
قول المولى -عز وجل-: ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ? [الأنفال: 30]، هذا خبر،
فلا يجوز أن تشتق من ذلك اسما.
الأخ الكريم من ألمانيا يقول: متى يكون الكلام على صفات الله بمثابة التشبيه؟
إذا شبهت صفة من صفاته كصفة خلقه قلت: بأن الله -تبارك وتعالى- يسمع بأذن كأذني
مثلاً، إذن: هذا تشبيه أو تقول: بأن الله- تعالى- إنما ينهض على رجليه كما ينهض
الناس على أرجلهم يعني الله -عز وجل- قائم، وهو قائم على رجله كما أقوم على رجلي،
فهذا كله تشبيه مقيت وتجسيم فظ لا يجوز.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بعرض أسئلة هذه الحلقة؟
هناك سؤالان يسيران بسيطان:
السؤال الأول: اثبت أن كلام الله –تعالى- حقيقة بصوت وحرف؟
السؤال الثاني: دلل على أن القرآن منزل من عند الله –تعالى- ليس بمخلوق؟
أسأل الله تعالى أن يوفقكم وأن يعينكم(6/27)
الدرس السابع
الإعتقاد بالقدر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه
وأحبابه وأتباعه ومن اتبع هداه ثم أما بعد.
فمجلس اليوم - بإذن الله تعالى- يتعرض لقضية عظيمة وأصل كبير من أصول الإسلام وهو
الاعتقاد بالقدر و- بإذن الله تعالى- سنحاول أن نستعرض هذه القضية في مقدمة ثم بعد
ذلك أصول لابد من معرفتها، ثم بعد ذلك نتعرض لكلام الإمام العلامة ابن أبي زيد
-عليه رحمة الله- ونسأل الله – تعالى- أن يوفقني إلى توضيح ما قد يكون فيه مُشكلاً.
فبداية: الإيمان بالقضاء والقدر لابد أن نعلم أنه ركن كبير من أركان الإسلام، يدل
على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر -رضي الله تعالى عنه- وهو حديث
جبريل المشهور من طريق عبد الله بن عمر وهذا الحديث أصله أيضًا مُخَرَّج في
الصحيحين وفي غيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أعني: حديث جبريل
المشهور، لكن سأتعرض لهذا السياق الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث عمر بن الخطاب
-رضي الله تعالى عنه- وفيه: (أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري أتيا عبد
الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه- ليسألاه عما أحدث هؤلاء في شأن القدر فوجدا عبد
الله بن عمر خارجاً من المسجد فيقول عبد الرحمن: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن
يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه
قد ظهر قِبلنا ناس بالبصرة- ويقصد بهؤلاء الناس مَعبد الجهمي- يزعمون ألا قدر وأن
الأمر أُنف) وذكر من صفتهم أنهم يتقعرون العلم، أو يتقفون العلم أو يتفقهون العلم-
وكل واحدة من هذه الألفاظ وغيرها لها معنى. يتقعرون العلم، أي: يطلبون قَعر العلم،
وهذا فيه تشبيه رائق جميل لأن قعر الآبار لا تكون صافية، وإنما قعرها يكون مَشُوباً
بالأكدار والعُكارات ومنه قول الشاعر:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً *** ويشرب غيرنا كدراً وطين(7/1)
فالآبار علوها يكون صافيًا نقيًا فهذه الطائفة النابتة في البصرة التي تطلب العلم
لا تطلبه من العلم الناقي منه والصافي والمُجمع عليه وإنما تُنقر في هذه المسائل
التي لا يترتب عليها عظيم اعتقاد ويخوضون فيها من غير آلة ولا برهان فيكون الفساد
حليفًا لهم، وهذا أيضًا قريب من معنى يتقفرون العلم، ويتقفرون: من القِفَار وهي
الصحراء، فعندما يسيرون لا يسيرون في الطرق الآهلة المزروعة المباركة، وإنما يسلكون
الطرق الوعرة الضيقة التي لا تسلكها السابلة، أي: الذين لا يمشون فيها، فهم متكلفون
في طلب العلم، مُتقاعرون في طلبه غير مستفيرين في طلبه، فطلبهم للعلم لا يحور عليهم
إلا بالندامة والخزي وهذه طائفة من أهل الأهواء لا يزدادون بطلب العلم إلا فجوراً
أو كبراً- والعياذ بالله- لماذا؟ لأنه لم يطلب العلم للعمل وقديمًا قالوا: «من طلب
العلم للعمل كسره علمه، ومن طلب العلم لغير ذلك لم يزدد به إلا فخرًا أو فجورًا».
أيضًا هؤلاء القوم يزدادون بالعلم بعداً عن الله -عز وجل- فتدك معاني القلوب من
قلوبهم، فيكون حالهم كحال هذا الجبل عندما ينزل عليه المطر فإنه يدك دكاً، كما يقول
الشاعر:
والعلم حرب للفتى المتعالي *** كالسيل حرب للمكان العالي
فهذه نابتة السوء التي نبتت في البصرة هذه النابتة مع أنهم يزعمون أنهم يطلبون
العلم ويتلمسون مسالكه إلا أنهم قالوا مقالة عظيمة أو قالوا مقولة عظيمة هذه
المقولة: أنه لا قدر، وأن الأمر أُنف، أنف بمعنى: مستأنف، أي: إن الله –تعالى- لا
يعلم الأمور إلا عند حصولها، أي إن الله –تعالى- لا يعلم أني سآتي إلى هذا المكان
إلا عندما أتيت، - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وربي- سبحانه- وهو الجليل
لا يعلم أن إنساناً سيتزوج امرأة ما إلا عندما يتقدم ويحدث هناك العقد والبناء،
فينفون علم الله –تعالى- الأول عن الله -سبحانه وتعالى- فقال عبد الله بن عمر: (إذا(7/2)
لقيتم أولئك فأخبروهم أني بريء مني وأنهم برءاء مني ووالذي يحلف به عبد الله بن عمر
لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبًا ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر سمعت عمر بن الخطاب)
ثم ساق حديث جبريل المشهور.
هنا فائدة عظيمة في قوله: إنه لن يُقبل به حتى يؤمن بالقدر ثم ساق حديث جبريل وفيه
سؤال جبريل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: (ما الإيمان؟ فقال للنبي -عليه الصلاة
والسلام-: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره
وشره) إذن: الإيمان بالقدر أصل من أصول الدين وركن ركين من أصول الاعتقاد إن اهتز
أو اختل يختل هذا البنيان الاعتقادي العظيم. أرأيتم كيف أن الصحابي الجليل عبد الله
بن عمر -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- كَفَّرَ هؤلاء القدرية الأُول الذين نفوا علم
الله -عز وجل-؟! فهذا دليل واضح على أن هدم هذا الركن هدم للإيمان، إذن: الإيمان
بالقدر ركن من أركان الدين.
النقطة الثانية: قبل أن أخوض فيها، أريد أن أبين مسألة ربما تلتبس على أذهان بعض
إخواني الفضلاء، مسألة القضاء والقدر، والعلاقة بين القضاء والقدر هل القضاء هو
القدر أم أن هناك الفارق بين القضاء والقدر؟ هذان قولان موجودان، فهناك من سوى بين
القضاء والقدر بأن الكل بمعنى واحد ويقصد بالقضاء كما يقصد بالقدر: حكم الله -عز
وجل- وتقديره أو تقدير الله -سبحانه وتعالى- وحكمه على عباده. فالله -تبارك وتعالى-
قدر شيئًا ما على عباده وحكم به عليهم فهذا قضاء وهذا أيضًا قدر، وهذا المفهوم هو
ما يمكن أن نتلمسه ونقف عليه جليًا في كتاب القضاء والقدر للحافظ البيهقي- عليه
رحمة الله- وكذلك يمكن أن نتلمسه في غير موضع في كتاب العلامة ابن القيم- عليه رحمة
الله- وكتابه: شفاء العليل.
المعنى الثاني: أن القضاء أسبق، فالقضاء هو الحكم العام المتعلق بعلم الله -عز
وجل- إذن: الحكم العام الإجمالي المتعلق بعلم الله -عز وجل- هذا هو القضاء، أما(7/3)
القدر هذا متعلق بمشيئة الله -عز وجل- فإيجاد أفراد هذا الحكم العام بإذن الله
وبمشيئة الله هذا يسمى القدر، وهذا الكلام نقله ابن حجر في الفتح ويمكن أن نتلمس
مثل هذه المعاني في رسالة أبي بكر الإسماعيلي وهي رسالة في الاعتقاد أرسلها إلى أهل
الجبل وهي رسالة مشهورة معلومة، إذن: الحكم العام المجمل الذي يندرج تحته الأفراد
والأنواع والأجناس هذا مُتعلق بالعلم ويسمى قضاءً. أفراد هذا الحكم أو أعيان هذا
الحكم أو الموجودات في هذا الكون المتعلقة بهذا الحكم هذا يسمى القدر. وهذه مسألة
مسألة علمية ليس لها أثر كبير في أمور الاعتقاد يعني: من قال القضاء هو القدر أو
القدر هو القضاء هذا الأمر لن يفيد كثيراً فهي مسألة علمية ولكن أردت التنويه
عليها.
القدر مثبت في الكتاب والسنة، هذه هي النقطة الثانية أن القدر مثبت في الكتاب
والسنة قال الله -عز وجل-: ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ? [القمر:
49]، وقال الأصوليون واللغويون بأن لفظة "كل" أبلغ صيغ العموم، فقوله تعالى:
?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ? فكل شيء خلقه الله –تعالى- بقدر وقال
تعالى: ?مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ? [التغابن: 11]، قال بعض السلف هو الرجل تنزل عليه
المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسَلِّم، وقال الله -سبحانه وتعالى- أيضًا
?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ? [الأنبياء: 105]، نسأل الله –تعالى- أن يورث
الأرض عباده الصالحين ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ?
قيل: الزبور وهو الكتاب، كتاب داود، وقيل: الزبور الكتب التي أنزلها الله –تعالى-
على أنبيائه، هذه تسمى الزبور: ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ ? وقراءة حمزة(7/4)
?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزُّبُورِ ?، والمقصود بالزبور الكتب المُنَزلة، فهي جمع
زِبْر والزبر هو الكتاب، ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ
الذِّكْرِ ? الذكر هو اللوح المحفوظ أم الكتاب كما أخبر ربنا -سبحانه وتعالى- فالذكر
هو أم الكتاب، الذي عند الله -عز وجل- في السماء ?لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ
يَنسَى ? [طه: 52]، وفي صحيح مسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (المؤمن
القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) اسمع هذا الحديث: المؤمن
القوي والمؤمن الضعيف، فالمؤمن القوي خير وأحب خير من صيغة تفضيل، ولكن لا تُصاغ
إلا على هذه الصيغة: (المؤمن القوي خير وأحب) والمقصود بالقوة هنا هي القوة القلبية
والعملية لا يقصد بذلك مجرد القوة البدنية قال بعض السلف: « قوة المؤمن في قلبه
وقوة المنافق في بدنه»، وليس معنى ذلك أن المؤمن بالضرورة لابد أن يكون ضعيف البدن
كليلاً مريضًا، حتى يكون أحب إلى الله –تعالى- وأرضى، أبدًا، فلو جمع مع قوة قلبه
وقوة عمله القوة البدنية التي بها يستطيع أن يقوم ويجاهد ويدعو ويتحرك لكان ذلك
خيراً له وأسد، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وفي كل خير) وأنتم تعرفون حديث
عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- عندما صعد إلى شجرة ليجتني عوداً من أراك
فتكفأته الريح فتعجب الصحابة من دقة ساقيه وكان ضعيفاً دقيق الساقين فقال النبي
-عليه الصلاة والسلام-: (أتعجبون من دقة ساقيه؟!! والذي نفسي بيده إنهما عند الله
–تعالى- لأثقل من جبل أحد)، إذن: ليست المسألة متعلقة بضعف البدن أو قوة البدن،
وإنما القوة المقصودة قوة القلب وقوة العمل، فـ (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله –
تعالى- من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (احرص على
ما ينفعك) وهذا منهج حياة (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)، لابد أن يكون(7/5)
ديدنك وأن تكون سنتك في الحياة (احرص على ما ينفعك) فكل ما فيه حرص أنت تتمسك به
لابد أن يكون هذا الحرص متوجهاً إلى النفع (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا
تعجز)، لا تعجز، لا تفتر، ولا تهدأ ولا تكل، ولا تمل، ولابد أن تمارس وتعالج
الأسباب لتفضي بذلك إلى النتائج التي تريدها- بإذن الله عز وجل- ولا تعجز (واستعن
بالله ولا تعجز)، هذا حديث رائق لابد أن يكون عُمدة لنا في ذلك الباب، وعند الترمذي
بإسناد صحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لعبد الله بن عباس: (واعلم أن
الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن
اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) إذن: كل الأمور من
النفع وغير النفع مقدرة مكتوبة.
إذن: محصلة القول بأن القدر ركن من أركان الإسلام الأمر الثاني: أن النصوص أتت
متوافرة على إثبات القدر.
ماذا يُعنى بالقدر؟
يُعنى بالقدر: إثبات عدة أمور:
الأمر الأول: إثبات علم الله –تعالى- الأول، التام، المحيط.
الأمر الثاني: كتابة الله –تعالى- مقادير الخلق.
الأمر الثالث: بعد ذلك: مشيئة الله –تعالى- وإرادته.
الأمر الرابع: خلق الله –تعالى- لكل شيء.
إذن: العلم- والكتابة- والمشيئة- والخلق.
قال الله –تعالى- في مسألة العلم: ?أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْم ? [الطلاق: 12]،
والآن سمعتم كيف أن الصحابة كفَّروا الذين أنكروا علم الله –تعالى- الأول، وهم
القدرية الأُول، عندما أنكروا علم الله –تعالى- الأول، كفَّرهم عبد الله بن عمر،
فلابد أن تثبت أن لله -تعالى- علماً أحاط به كلَّ شيء وهذا العلم علم تام، عَلِمَ
الله –تعالى- به الخلائق قبل خلقها، وعلم به الخلائق قبل وجودها، هذا أولاً.
الأمر الثاني: -عُجالات يسيرة سريعة- كتابة الله – تعالى- مقادير الخلق، وفي حديث
عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- والحديث في الصحيح: أن النبي -عليه(7/6)
الصلاة والسلام- قال: (إن الله –تعالى- كتب مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض
بخمسين ألف سنة)، يعني: المقادير الخلائق كتبت قبل إيجادها بخمسين ألف سنة -سبحان
الله- يعني: حركة يدك هذه كتبها الله –تعالى- في الزبور قبل خلق السماوات والأرض
بخمسين ألف سنة، -سبحان الله- كل شيء كتبه الله –تعالى- في كتاب ?لاَّ يَضِلُّ
رَبِّي وَلاَ يَنسَى ? [طه: 52].
المرتبة الثالثة: مشيئة الله –تعالى- وإرادته، والمشيئة هنا هي المشيئة النافذة،
التامة المشيئة النافذة وهي مشيئة كونية تحيط بكل شيء، قال تعالى: ?وَمَا
تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ? [الإنسان: 30]، فما من شيء في هذا الكون
إلا - بإذن الله تعالى- ومشيئته، قال سبحانه: ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? [يس: 82]، أما إرادته فهي على قسمين:
إرادة دينية وإرادة كونية.
الإرادة الدينية: هي المتعلقة بمحاب الله ومراضيه، إذن: كل ما يحبه الله –تعالى-
ويرضاه فهي متعلقة بماذا؟ بإرادته الشرعية الدينية فالله- تعالى- عندما تصلي أراد
لك الصلاة لأنه أمرك بالصلاة فأحبك عندما صليت فالصلاة محبوبة إلى الله -عز وجل-
فمن صلى فإنما صلى بإرادة الله -عز وجل- الدينية الشرعية.
ثم هناك الإرادة الكونية: وهي المتعلقة بسلطان الله -عز وجل- وملك الله -عز وجل-
وقيوميته على هذا الكون كله فلا يحدث شيء في هذا الكون إلا بإرادة الله -عز وجل-
إذن: الأكل والشرب وطاعة المطيع ومعصية العاصي وكفر الكافر وجحد الجاحد وإيمان
المؤمن هذا كله بماذا؟ بإرادة الله –تعالى- الكونية العامة، ومن هنا فإن الإرادة
الكونية هي المشيئة الكونية، فكل ما تعلق بسلطانه وقيوميته، فما ينسب إلى ذلك كله
قريب يعني: الأمر الكوني والإذن الكوني والإرادة الكونية والمشيئة الكونية هذا كله
بمعنى واحد، لماذا؟ لأن الكل يرجع لملك الله -عز وجل- وسلطانه على هذا الكون، لأنه(7/7)
لا يمكن أن يحدث شيء في هذا الكون من غير إرادة الله، من غير مشيئة الله, من غير أن
يأذن الله –تعالى- به، من غير أن يأمر الله –تعالى- به أمراً كونياً حركات السحاب
ووقع الرمال وطاعة المطيعين وكفر العاصين والكافرين هذا كله متعلق بأمر الله الكوني
بمشيئته الكونية, بإذنه الكوني, بأمره الكوني, بقضائه الكوني هذا كله لابد أن يعلم،
أما ما كان متعلقاً بطاعة المكلفين وطاعة المكلفين محبوبة إلى الله -عز وجل- يرضى
الله –تعالى- عنها فهذا مما أذن الله –تعالى- فيه دينا، فالدين والشرع ما يحبه الله
–تعالى- فبالتالي كل من فعل شيئًا يحبه الله –تعالى- ويرضاه فقد أتى بالمراد
الديني، ولذلك نحاول أن نتأمل هذه الآيات ونحاول أن نسألكم في هذه الآيات: هذه
الآية يا ترى يمكن أن حملها على أي وجه الوجه الشرعي أم الوجه الكوني في قول الله
-عز وجل- ?يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ? [النساء: 28]، يريد الله، إذن:
هذه إرادة ?يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيف ?،
يا ترى هذه الآية إذا أردنا أن نجعلها نجعلها تحت الإرادة الكونية أم الشرعية؟
ولماذا؟ من يعرف.
تندرج تحت الإرادة الدينية الشرعية
نعم، لماذا؟
لأنها تتعلق بالدين والشرع بما يحبه الله -عز وجل
فمن محاب الله -عز وجل- إرادة اليسر للمكلفين، ولذلك قال بعض الأصوليين: « حيثما
كان اليسر كانت المصلحة، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله » إذن هذه آية متعلقة
بالإرادة الدينية، طيب، في قول الله -عز وجل- ?فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ? [الأنعام: 125]، انظر كلمة يشرح الحاء كذا يعني:
تشعر بأن هناك بحبوحة عندما تقرؤها، وهناك أريحية، وكذلك الهداية، ?فَمَن يُرِدِ
اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ? ومن يرد أن يضله ?وَمَن(7/8)
يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّمَاءِ ? [الأنعام: 125]، يا ترى هذه الآية يعني ما نوع الإرادة هنا؟ تفضل:
بسم الله الرحمن الرحيم. هي المقصود هنا إرادة كونية
في قوله؟
? فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ?
طب كونية بأي اعتبار؟
لا.. آسف، هي إرادة دينية شرعية،
هي إرادة دينية ويمكن أن تكون إرادة كونية باعتبار أنها حدثت في الكون أو تحدث في
الكون، لكنها - في الأصل- إرادة دينية، أما قوله: يضله ?وَمَن يُرِدْ أَن
يُضِلَّهُ ? هذه إرادة كونية، لأنه لا يمكن أن يحدث في ملك الله ما لا يريده الله،
لا يمكن، فما يحدث في هذا الملك إنما هو بإرادة الله -عز وجل- ولكنها الإرادة
الكونية.
ثم بعد ذلك المرتبة الرابعة: أن الله -تعالى- خلق كل شيء، إما ابتداءً، وإما
توفيقاً وابتلاءً، خلقنا الله -عز وجل- ?هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ? [فاطر:
3]، عندما ذكر الله -عز وجل- خلق السماوات والأرض وما إلى ذلك في سورة لقمان قال:
?هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ? [لقمان:
11]، ماذا خلق الذين من دونه؟ لم يخلقوا شيئاً وتحدى الله –تعالى- الخلق جميعاً أن
يخلقوا ذباباً فلم يقدروا على ذلك الأمر, فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق الخلق
وأوجدهم، ولم يخلقهم غيره، كما خلق من الخلق خلقاً غير البشر كالإنسي والجني
والملكي والجبلي والسهلي والوحشي والعوالم التي تجري في الماء إلى غير ذلك، هذا كله
خلق الله -عز وجل- ابتداءً، وهناك خلق الله -عز وجل- توفيقاً وابتلاءً، الإنسان
عندما صنع الثلاجة، من الذي وفقه إلى صناعة الثلاجة؟ الله -عز وجل- إذن: في الحقيقة
الذي أوجد الثلاجة وأعان الإنسان على صنعها وإيجادها هو الله -عز وجل- إذن: الله
-عز وجل- خلق الثلاجة توفيقاً، ولو أن الله -عز وجل- قطع توفيقه عن العبد ما صنع(7/9)
هذه الثلاجة، هذه الطائرة التي تحمل أطناطاً وتطير فوق المدن، هذه الطائرة صنعها
الإنسان لكن هل صنعها الإنسان بفكره وعلمه ولباقته وما إلى ذلك أم صنعها الإنسان
بتوفيق الله -عز وجل- له؟
بتوفيق الله -عز وجل- له.. فلا يحدث شيء في هذا الكون إلا بالله -عز وجل- فالله
تعالى هو الذي خلق الطائرة. خلقها ماذا؟ توفيقاً أن وفق صانعها إلى صنع الطائرة
ولولا هذا التوفيق لما كانت الطائرة, وهكذا في كل نظير فما من شيء في هذا الكون إلا
خلقه الله –تعالى- ابتداءً وإما توفيقاً وهذا التوفيق فيه معنى الابتلاء لأن
الإنسان عندما يصنع كل شيء ويقدر على كل شيء هذا فيه الابتلاء ?حَتَّى إِذَا
أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَ ? [يونس: 24]، ماذا يحدث بعد هذا؟ ?أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً
أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ? [يونس: 24]، قال الله –تعالى-
?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ? [الرعد: 16]، بكل شيء إذن: الطائرة شيء خلقها الله
-عز وجل- وأنت شيء خلقك الله -عز وجل- والقلم والورقة والسماء والجبال والوحش
والسهل والجبل والشجرة كل هذا من جملة الأشياء التي خلقها الله -عز وجل.
كما خلق الله -عز وجل- مع الماديات المعنويات، الحب خلقه الله -عز وجل- والخوف من
خلق الله -عز وجل- والذل من خلق الله -عز وجل- فكل شيء سواء كان مادياً أو معنوياً
فهو خلق خلقه الله -عز وجل- وقال تعالى: ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ?
[الصافات: 96]، إذن: ما تعملونه إنما هو منسوب أيضًا إلى الله -عز وجل.
هناك أصول لابد أن نذكرها بعد هذه المقدمة، وبعد هذه الأصول لو قرأنا كلام ابن أبي
زيد فقط مجرد قراءة لكان الكلام واضحاً بإذن الله -عز وجل.(7/10)
الأصل الأول: القدر سر من أسرار الله وغيب من جملة غيبه، فكما أن الله –تعالى- لا
يطلع على غيبه أحدًا، فإن الله –تعالى- لا يطلع على حكمة القدر إلا من شاء، وهذه
مسألة لابد أن تفهمها وأن تعيها جيداً، فالقدر غيب من غيب الله -عز وجل- ولا يطلعه
إلا على من يشاء من عباده، في الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يخطب وكان
بجواره ابن ابنته الحسن، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إن ابني هذا سيد)
ويشير إلى الحسن، (إن ابني هذا سيد) الحسن بن علي، -رضي الله تعالى عنه- (وسيصلح
الله –تعالى- على يديه بين طائفتين عظيمتين من أمتي)، هذا كلام النبي -عليه الصلاة
والسلام- العجيب في سنة واحد وأربعين من الهجرة أتى معاوية في جند كثيف من أهل
الشام، وخرج الحسن بن علي في جند كثيف من أهل العراق وما حولها، في ساحة المعركة
عشرات الآلاف أكثر من مائة وخمسين ألفاً مثلا، عندما نظر الحسن بن علي وكان أميراً
لمؤمنين بايعه أهل العراق وأهل مصر وأهل الجزيرة وأهل اليمن وأهل إفريقيا هؤلاء
كلهم بايعوا من؟ بايعوا الحسن بن علي، ومعاوية ليس معه إلا الشام فقط، لكن عندما
نظر الحسن بن علي، فوجد أن دماء المسلمين ستسفك من أجل الإمارة ماذا حصل؟ راسل
معاوية وتنازل له عن إمرة المؤمنين وسمي هذا العام بعام الجماعة، وصدق ما قال النبي
-عليه الصلاة والسلام.
الغيب غيبان وسأذكر هذا في محله مرة أخرى: غيب مطلق وغيب نسبي.
الغيب المطلق: لا يعلمه أحد إلا الله، قال الله -عز وجل- ?وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ
الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ? [الأعراف: 188]،
فالله -عز وجل- لم يطلع أحداً على غيبه أحداً أبداً ?إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن
رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَد ? [الجن:
27]، فالله- تعالى- قد يطلع على بعض غيبه من شاء من خلقه، فهذا هو الغيب المطلق هذا(7/11)
غيب مطلق، من جملة هذا الغيب:
القبر، علامات الساعة، ما يكون بعد لحظة أمور المستقبل كلها من أمور الغيب، كلها
أمور مستقبلة لا يعلمها أحد.
أما الغيب النسبي ما تفاوت الناس في دركه، اليوم ماذا أكلت قبل أن آتيكم؟ هل أكلت
أم لم آكل؟ أنتم لا تعلمون شيئًا، لكن أنا أعلم من نفسي، إذن: ما غاب عنكم من حالي
هو بالنسبة لي شهادة، ولكن بالنسبة لكم غيب، أخي الحبيب ماذا صنعت قبل أن تأتي هنا؟
أنا لا أدري ولكن أنت تعلم، أنت تعلم لكن أنا لا أعلم، فأنا لا أعلم فهذا غيب
بالنسبة لي، ولكن هذا شهادة بالنسبة لك، هذا يسمى بالغيب النسبي وهنا الكهان
والعرافون إنما يتحركون في هذه الدائرة دائرة الغيب النسبي يأتي الرجل إلى الكاهن
يدق عليه الباب يقول له: ادخل يا محمد، كيف علم أن اسمي محمد؟ يقول: تعالَ ادخل
زوجتك اسمها كذا وأولادك أسماؤهم كذا وكذا وكنت تفعل كذا، كل هذه المعلومات حصلت،
عرفها الجن وأبلغها لهذا الكاهن، لكن هل هذا الدجال يعلم شيئًا في الغيب؟ لا يعلم
شيئًا في الغيب؟ فالقدر من جملة الغيب المطلق الذي لا يعمله إلا الله -عز وجل- هذا
هو الأصل أول.
الأصل الثاني: أن الله تعالى لا يظلم أحداً ?وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ
لِّلْعَبِيدِ ? [فصلت: 46]، الله –تعالى- ليس بظلام للعبيد، ?وَمَا ظَلَمُونَا
وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ? [البقرة: 57]، فالله- تعالى- لا يظلم
أحداً، فالله -سبحانه وتعالى- في قدره وحكمه وأمره وجزائه هو -سبحانه وتعالى- لا
يظلم أحداً.
الأصل الثالث: لا يحتج بالقدر في المعائب وإنما يحتج في القدر في المصائب، ما الفرق
بين المصائب والمعائب؟ المعائب من جنس الذنوب والمعاصي. أما المصائب فهي الأمور
التي تنزل عليك اضراراً دون دخل منك، رجل ماشٍ في الشارع وقع عليه قطعة من الحديد
فشجت رأسه يا ترى هذا ذنب أم مصيبة؟ مصيبة، إذن: يرضى بهذه المصيبة، وهكذا في كل(7/12)
حال، وكما قلت لكم: إن بعض السلف قالوا: إن الرجل لتنزل عليه المصيبة فيعلم أنها من
عند الله فيرضى ويسلم، وهذا باب عظيم والكلام فيه واسع، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر
في ذنب أو معصية يشرب سجائر أو مثلا يشرب حشيشاً أو يزني أو ما إلى ذلك يقول: هذا
بأمر الله لما ربنا يشاء أترك هذه المعصية. لا يقبل منه ذلك، لأن هذا من جنس احتجاج
المشركين بمشيئة الله -عز وجل- على الشرك ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَ ? [الأنعام: 148]، فهذا لا يجوز شرعاً وهذا المحتج
بالقدر بمشيئة الله وإرادة الله -عز وجل- على فعل المعصية لو أنا أمسكت قطعة من
حديد وضربت بها رأسه وتألم إيلاماً شديداً فقلت: اصبر فهذا قدر الله هل يقبل ذلك
مني؟! -سبحان الله- إذن: كيف يفرق بين هذا وذاك؟! إذن: لا يجوز الاحتجاج بالقدر إلا
عند المصائب، أي مصيبة، مثلا- لا نريد أن نمثل أمثلة قريبة جداً -، أي مصيبة تنزل
عليك اعلم أنها من عند الله فارضَ حتى يرضى الله عنك.
الأمر الرابع: أن الله – تعالى- ?لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ? [الأنبياء:
23]،أليس القدر سراً من أسرار الله, ومن جملة غيب الله ونرى القدر في الصفحات
المنشورة والمرئية, نرى اثنين يسيران في سيارة واحدة تنقلب بهما السيارة أحدهما
يموت والثاني لا يخدش- سبحان الله- هذا كله بقدر الله -عز وجل- نشاهد ذلك، نشاهد
أموراً عجيبة جداً في هذا الكون بقدر الله -عز وجل- مثلا نقرأ في القرآن قصة يوسف
تصور لو أن يوسف لم يخطفه إخوته، ولم يرموه في البئر وكان لصيقاً بوالده يا ترى هل
كانت هذه القصة ستبلغ مداها كما قص ربنا -عز وجل- وأخبر؟ أبداً، فمشاهدة القدر تعطي
الإنسان قوة وأماناً وطمأنينة وراحة وتعطيه- بإذن الله تبارك وتعالى- معاني لو
تأملها ما ترك هذا التأمل, فسبحانه وتعالى ?لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ(7/13)
يُسْأَلُونَ ? [الأنبياء: 23]، لمَ تعمل ذلك يا رب؟!! هذا خطأ لا يجوز أن تسأل عن
شيء فعله الله -عز وجل- فكل شيء في هذا الكون إنما خلقه الله, إنما أوجده الله,
إنما أنشأه الله فلا تسأل ربك شيئًا شاءه هذه أصول لابد أن تكون بينة.
بعد هذه المقدمة وبعد هذه الأصول التي هي شرح لما قاله ابن أبي زيد، نحاول أن نقرأ
ما قاله العلامة ابن أبي زيد القيرواني- عليه رحمة الله- ونحاول أن نربط بين ما
سمعناه وبين ما قاله- عليه رحمة الله-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره كل ذلك قد
قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه علم كل شيء قبل كونه فجرى على
قدره لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به، قال الله –تعالى-:
?أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ? [الملك: 14]، يضل من
يشاء فيخذله بعدله ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه
وقدره من شقي أو سعيد تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد أو يكون لأحد عنه غنى أو
يكون خالقاً لشيء إلا هو, رب العباد، ورب أعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم ).
سبحانه- سبحانه- سبحانه ربي الجليل، يقول ابن أبي زيد- عليه رحمة الله-: (والإيمان
بالقدر خيره وشره ) هذه الجملة المنصوص عليها في حديث جبريل المشهور المُخَّرَج في
صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي
غيرهما وقوله: (حلوه ومره ) هذه رواية موجودة عند الترمذي من حديث أنس -رضي الله
تعالى عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقول: (لا يجد العبد حلاوة الإيمان
حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره) وكان يقبض بعد ذلك -عليه الصلاة والسلام- على
لحيته، قال أنس وهو راوي الحديث ورأيت النبي -عليه الصلاة والسلام- ( قبض على(7/14)
لحيته)، هذا الحديث أخرجه الترمذي ولكنه ضعيف، لأن يزيد الرقاشي وهو راوي الحديث عن
أنس ضعيف.
وهنا مسألة خيره وشره، هل القدر فيه شر؟ الجواب: أن القدر كله خير، لا شر فيه،
وإنما الشر سمي شراً، لانقطاعه عن الله، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي قدر هذا
القدر، وهو الذي أذن فيه، فالخير فيما أذن الله –تعالى- فيه فالخير إلى الله
-سبحانه وتعالى- والشر لا ينسب إليه - سبحانه وتعالى- وما قد يتصور من شر فلا يوجد
شر تام من كل وجه، وإنما هو شر في وقت دون وقت، في حال دون حال في عين دون آخر، فما
قد تجده شراً قد يكون خيرًا بالنسبة لك في وقت آخر، وما تجده شراً لك قد يكون خيراً
لغيرك، ومثال ذلك: لو قلت لك: إن قوماً أخذوا أخاً لهم ليقتلوه فجعلوه في جب عميق
مظلم، وتركوه وانصرفوا ماذا تقول في هؤلاء الإخوة ؟ تقول: ما أظلمهم ما أفظ
أخلاقهم، وما أقسى قلوبهم، لو قلت لك بأن هذا الشر بالنسبة لهذا الغلام كان خيراً
له، يعني: هذا الشر بالنسبة لهذا الغلام كان خيراً له، ماذا حدث؟ أتت قافلة التقطته
ثم بعد ذلك باعته، طيب، أيضًا كونه يكون عبداً بعد أن كان حراً هذا شر ولكنه بعد
ذلك سيكون خيراً، ماذا حدث بعد ذلك؟ راودته امرأة العزيز, تأبى, دخل السجن ثم فتح
الله عليه بتأويل الرؤى، ماذا حدث بعد ذلك؟ عرف الملك بحاله ثم استدعاه ثم قربه ثم
صار عزيز مصر، ثم بعد ذلك أرسل إلى أبيه وإخوته فأدخلهم مصر وأقام العدل ونشره إذن:
هذا الخير كله إنما أتى بعد ماذا؟ بعد ما يتوهم أنه شر، لكن ليس هناك شر مطلق، لو
قلت لك: إن هناك امرأة أخذت وليدها, رضيعها فجعلته في صندوق فرمت به في الماء،
-سبحان الله- لا يمكن, امرأة تأخذ صغيرها وتجعله في صندوق وترمي به في الماء، كيف
يكون ذلك الأمر؟!! طب ربما أي إنسان يأخذه هذا الأمر لا يمكن هذا الأمر الذي يتصور
أنه شر بالنسبة للغلام، لهذا الرضيع، هو في عينه تمام الخير، ماذا حدث؟ ?(7/15)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ? [القصص: 8]، ، فلما التقطه آل فرعون ربي هذا الغلام
في قصر الفرعون وكانت نهاية الفرعون على يديه -سبحان الله- المرض يؤلمك وينهكك
ولكنه خير لك فهو شر لك من جهة الألم من جهة النفقة من جهة الضعف من جهة الخور،
ولكنه خير لك قربة إلى الله -عز وجل- ودرجات وحسنات وسيئات تمحى إذن: هذه كلها
خيرات، حتى الدجال، وهو أعظم شر أوجده الله –تعالى- على الأرض، أعظم شر الدجال،
وجود الدجال مع أنه شر إلا أنه أيضًا خير، لأن وجود الدجال فيه امتحان للخلق فيثبت
المؤمن على إيمانه ويرتكس الكافر بكفره، فهذه الفتنة العظيمة لم تكن شراً من كل
وجه، وهكذا كل الأمور ربما وهذه أمور أنت تجدها حتى مع نفسك، أنت تذهب إلى الامتحان
لكي تمتحن ثم بعد ذلك تتعطل السيارة تفوت عليك هذه المادة، تفويت هذه المادة شر
بالنسبة لك، ستضطر أن تمتحن- دور ثاني- ثم بعد ذلك يحدث خير عظيم، ينزل إعلان نريد
حديث التخرج ومواصفات كذا وكذا، وهذه المواصفات لا تنطبق إلا عليك، فيفتح الله
–تعالى- باباً لك من أبواب الرزق، لأنك تأخرت في هذه المادة، التي ظننت أنها شر
وهكذا في كل حال، فعندما يقول:( خيره وشره) فالخير هو الخير المطلق والشر هو الشر
النسبي، فالخير هنا والخير مطلق والشر هنا والشر نسبي، الشر النسبي المتفاوت بتفاوت
الأحوال الأشخاص الأوقات الأوضاع، إلى غير ذلك، لكن أن يكون الشر مطلقاً، لا... ليس
هناك شر مطلقاً، وعلى قوله: ( حلوه ومره ) الحلاوة والمرارة لا تتعلق بالعاقبة
وإنما تتعلق بالمبتدأ تتعلق بمباشرة الأسباب فالعاقبة عند الله -عز وجل- وهي أعظم
من أن توصف بالحلاوة أو المرارة وإنما الحلاوة والمرارة إنما هي عند معالجة الأسباب
قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام
ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسول)، ذاق طعم الإيمان إذن: هذا التذوق إنما(7/16)
كان نتيجة بذل السبب الذي هو أنه رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله
عليه وسلم- نبيا، فالمرارة والحلاوة إنما تكون بمباشرة الأسباب وهذا فيه مَلْمَح
عظيم كأن الشيخ يريد أن يشير إليه، أنه لابد للمكلف ألا يدفع الأسباب ولكن لابد أن
يباشر الأسباب.
قوله: ( قدر الله -تبارك وتعالى- كل شيء، فكتبه في اللوح المحفوظ) اللوح المحفوظ
كتب الله –تعالى- فيه كل شيء ?مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي
أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَ ? [الحديد: 22]، كل شيء
موجود في كتاب وكون كل شيء موجود في الكتاب ليس معناه أن الإنسان يترك العمل ولقد
فهم الصحابة شيئًا من ذلك، فقال لهم النبي -عليه الصلاة والسلام-: (اعملوا فكل ميسر
لما خُلق له)، ولا يعارض نصوص إثبات القدر قول النبي -عليه الصلاة والسلام- عند
الترمذي وهو حديث حسن: ( لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) لا
يرد القضاء إلا الدعاء: ليس هناك تعارض لأن المقصود بالقضاء المقضي أي ما قضى الله
–تعالى- به أي المقدر أي لا يرد المقدر إلا الدعاء، فالدعاء مقدر ولا يرد مقدر إلا
بمقدر فلا تعارض في ذلك الأمر وهذا ما يسميه العلماء بتدافع الأسباب أو معالجة
الأقدار بالأقدار، أي أنك تدفع قدراً بقدر ليثبت ما أراد الله -عز وجل- تدفع قدراً
بقدر ليثبت ما أراد الله، لو أن اليهود أرادوا أن يحاربونا وتحركت جيوش اليهود نحو
مصر إذن: هذا الأمر بقدر الله -عز وجل- ماذا نقول؟ نقول: نرضى ونؤمن بالقدر ونتركهم
يدخلون بلادنا ليقتلونا ويستولون على ديارنا وأموالنا؟ أبداً، ماذا نصنع؟ نعد العدة
لقتالهم، إذن: قتالهم من جملة القدر، وقتالهم لنا من جملة القدر، فندفع هذا القدر
بالقدر ليحدث ما أراد الله -عز وجل-، المرض قدر، إذا مرضت المرض قدر هل عندما تمرض
تقول: هذا قدر استسلم لهذا القدر أم تدفع هذا القدر بالدعاء بالرقية الشرعية(7/17)
بالذهاب إلى الأطباء ؟ فهذه كلها أقدار فتدفع هذا القدر بالقدر فلا يرد القضاء الذي
هو المقدر إلا الدعاء لأنه أيضًا مقدر ليتم ما أراد الله -عز وجل- والإنسان المسلم
إذا لم يدافع الأقدار بالأقدار يهدم الدين، فإنما يتم الدين قوة وعزاً وشرفاً
بمدافعة الأقدار، بعد هذا يكون كلام الإمام القيرواني واضحًا، ولا يحتاج إلى تعليق
بفضل الله -عز وجل- إذن: الجملة التي علقت عليها مسألة: حلوه ومره والجملة الثانية:
هي جملة مدافعة الأقدار وبذلك يكون كلام الإمام القيرواني كلاماً واضحًا تامًا
شافياً كافيًا يطابق ما قال إخوته الأئمة من قبله وصل الله وسلم على النبي محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سؤالي للشيخ عندما قال: من اتهم الله -عز وجل-
بأن قدره سيء كفر، أو قال يكون كافراً، فهذه كلمة كافر، هل من عمل بذلك من الأعمال
هذه أو من اعتقد يقال له: كافر؟ أم هناك قيود يجب أن يعلمها أو يجهلها أو من هذا
القبيل؟
الأخت الكريمة من مصر تقول: أسأل بعض الأسئلة الخاصة بموضوع القدر:
أولاً: سؤال بالنسبة للعبارة التي قالها: ليس هناك شر مطلق، طيب: بالنسبة للكافر
أليس كفره هذا شراً له؟ أي نعم هو يمكن يكون بالنسبة لوجوده في البشرة كفر بيفرق
الكفر والإيمان والجنة النار؟
السؤال الثاني: حديث: (لا يرد القضاء إلا القدر)هل الإنسان مكتوب له في اللوح
المحفوظ أنه لو مرض بمرض معين إنه سيرد هذا القدر بأن يدعو الله -عز وجل- أنه يشفى
من هذا المرض؟
السؤال الثالث: ما الفرق بين القضاء وبين القدر؟ وفي الحديث:( لا يرد القضاء إلا
الدعاء) هل الدعاء أيضًا يرد القدر؟
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤالي الأول: كما هو معلوم فضيلة الشيخ أن الإيمان بالقضاء والقدر واجب وهو ركن من
أركان الإيمان ولكن إذا حصل في النفس بغض أو كره وعدم رضا بالمقدور مع الإيمان بأن(7/18)
ذلك من عند الله هل يقدح ذلك في أصل الإيمان؟
سؤالي الثاني: ذكرتم فضيلة الشيخ أنه لا يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر في المعائب
فكيف نرد بالحجة والدليل على من يحتج على فعل المعاصي بأن هذا مقدر ومكتوب عليه
ويحتج بقوله تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُو ? [الأنعام: 107]، حيث إن
هذا السؤال يتردد كثيرا من تاركي الصلاة وغيرهم من أهل الضلال والعصاة؟
الأخ الكريم من الإمارات كان يسأل عن حديث عبد الله- من اتهام القدرية أو قوله
بالكفر فما هي قيود التكفير من مسألة الاعتقاد؟
بسم الله الرحمن الرحيم.
ينبغي للمسلم بداية ألا يجزم في مسائل رمي أعيان المسلمين بشيء من الكفر أو النفاق
أو البدعة أو الفسق أو نحواً من ذلك حتى تقام عليه الحجة الرسالية التي يؤاخذ من
تركها يؤاخذ بتكفيره أو تفسيقه أو تبديعه من تركها. وأقول: الحجة الرسالية فهي حجة
إذن: متعلقة بالعلم هناك علم وهناك برهان ورسالية لأنها شافية كافية كأن الذي
يقيمها يقوم مقام النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالذي كفر القدرية الأول هو عبد
الله بن عمر، وعبد الله بن عمر هذا من سادات الصحابة ومن أوعية العلم فيهم -رضي
الله تعالى عنه- فعندما كفرهم ليس معنى ذلك أن ينفتح الباب واسعاً في مسألة التكفير
ولكن كما قلت دائماً أنه لا يجوز تكفير أي معين أي مسلم إلا بعد استيفاء الشروط
وامتناع الموانع قد يكون جاهلاً فيعلم قد يكون متأولاً فيوقف على وجه الحق في
المسألة قد يكون مكرهاً قد يكون مخطئاً قد يكون غير قاصد قد يكون ناسياً قد يكون
نائماً قد يكون مريضاً قد يكون ذاهلاً فهذه كلها أعذار تمنع من وقوع التكفير-والله
تعالى أعلى وأعلم-.
الأخت الكريمة من مصر كان لها سؤالين: الأول: ليس هناك شر مطلق، مقولة: ليس هناك
شر مطلق، وكفر الكافر أليس الكفر شراً مطلقاً؟
جميل هذا سؤال وجيه.
الكافر هل هو بمفرده في هذا الكون أم إن هذا الكافر معه من المؤمنين ما معه؟ وكانت(7/19)
حكمة الله -سبحانه وتعالى- أن الصراع لا يكون بين جنس ونظيره وإنما الصراع بين جنس
وضده ، فالصراع بين الإيمان والكفر, بين الكفار والمؤمنين فعندما يكون الرجل كافراً
هذا شر بالنسبة له لكن خير بالنسبة للمؤمن كيف ذلك؟ أن المؤمن سيدعوه إلى الله -عز
وجل- إذن: هذا خير لهذا المؤمن فالمؤمن يقوم بمقام الدعوة إلى الله -عز وجل-
والإرشاد والتوضيح وما إلى ذلك وهذا خير للمؤمن. الأمر الثاني: أن هذا الكفار قد
يتأثر بهذه الدعوة فيكون بعد ذلك مؤمناً. الأمر الثالث: أن هذا الكافر قد لا يتأثر
بالدعوة وقد يكون هذا المؤمن من القوة بمكان بحيث يقاتل هذا الكافر فإذا قوتل هذا
الكافر كان ماله وكان ولده وكان ما يملكه خيراً للإسلام والمسلمين فيكون ذلك من
جملة الخير، وقال النبي-عليه الصلاة والسلام-: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) فكيف يكون
الرزق تحت ظل الرمح دون أن يوجد حرب مع الكفار؟!! فهذه مسألة موجودة، فهذه كلها
وجوه من وجوه الخير قد تكون موجودة في وجود الكافر، فالكافر إن كان كفره شراً له
لكن قد يكون خيراً بالنسبة لغيره- والله تعالى أعلى وأعلم- وهذه بعض الوجوه.
سؤالها الثاني فضيلة الشيخ عن حديث: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) هل كل هذا مكتوب
في اللوح المحفوظ؟
أي نعم، الكتابة هناك كتابة أولى موجودة في أم الكتاب في اللوح المحفوظ في كتاب عند
ربي ?لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ? [طه: 52]، فهو فوق السماء هذا الكتاب،
وهناك كتابة عمرية فالله -تبارك وتعالى- قبل أن توجد وعندما دُبت فيك الروح أمر
الملك أن يكتب جملة أشياء من هذه الأشياء أن يكتب أجلك وأن يكتب عمرك وأن يكتب شقي
أو سعيد، ثم هناك الكتابة السنوية، وهذه الكتابة تكتب في ليلة القدر، وهناك الكتابة
اليومية، فإذن: هناك كتابة يومية وهناك كتابة حولية وهناك كتابة عمرية وهناك كتابة
أولى، فعندما يقول: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) ربما يكون ذلك فيما دون الكتابة(7/20)
الأولى- كما رجح بعض أهل العلم والله تعالى أعلى وأعلم-.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من مصر كان سؤاله الأول: الإيمان بالقضاء والقدر واجب ولكن
النفس قد يصيبها عدم رضا بالقضاء والقدر هل يقدح ذلك في صلب الإيمان؟
أخرج الإمام أحمد بإسناد رجاله ثقات والحديث حديث صحيح: (أن عبادة بن الصامت لما
مرض قال لولده: أي بني أجلسني، فأجلسه، ثم قال له: أي بني إنك لن تذوق طعم الإيمان
ولن تبلغ حقيقته حتى تؤمن بالقدر فقال: أي أبتِ وكيف أومن بالقدر؟ قال: أن تعلم ما
أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام-
يقول: (أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)،
أي بني إنك إن مت على غير هذا دخلت النار) والمقصود أن الإنسان إذا تسخط بالقدر مع
إيمانه به، هذا قادح في الإيمان بالقدر ولا يكون بذلك كافراً، ولكن هذا قادح يحتاج
هذا الرجل إلى أن يجدد عهده بالإيمان مرة ثانية وألا يحدث في هذا الباب إلا ما يحبه
ربنا – تعالى- ويرضاه.
كان سؤال الثالث: فضيلة الشيخ على من يحتج بالقضاء والقدر بالمعاصي ويحتج بقول
الله تعالى: ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُو ? [الأنعام: 107]؟
هذا الاحتجاج من جنس احتجاج المشركين، لا يجوز للمسلم أن يحتج بالقدر في باب
المعاصي، لا يجوز لماذا؟ لأن المعصية تجرؤ على الله -عز وجل- والله -تبارك وتعالى-
لا يرضى عن المعصية وإنما يرضى عن شكره لطاعته كما قال الله -عز وجل-: ?وَإِن
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ? [الزمر: 7]، يعني: ?وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ? [الزمر: 7]، إذن: لا يرضى الكفر، وأصل
المشكلة أن الناس يخلطون بين إرادة الله -عز وجل- الكونية وبين محابه ورضاه، فيظنون
أن كل ما أوجده الله –تعالى- في الكون بالضرورة يكون الله –تعالى- قد أحبه ورضي(7/21)
عنه، لا أبدًا، فالله- تعالى- لا يحب الزنا ولا يحب القتل ولا يحب شرب الخمر، ولا
يحب الاعتداء على الآمنين ولا يحب هذه الأشياء لماذا يحب هذه الأمور؟ طيب من فعل
ذلك، فعلها رغماً عن الله أم بإرادة الله؟ بإرادة الله -عز وجل- طيب، فعلها بإرادة
الله -عز وجل- الإرادة الكونية، ولكن لا يرضى الله –تعالى- عنها، ولا يحبها الله
-عز وجل- طيب لو أنك دخلت المسجد فتوضأت وصليت وقرأت القرآن هذه الأشياء فُعلت
بإرادة الله أم بغير إرادة الله؟ بإرادة الله، طيب هذه الأشياء موجودة في الكون أم
غير موجودة في الكون؟ إذن: عندما تصلي إذن: أنت تصلي لأن الله –تعالى- أراد لك ذلك
في كونه، ثم بعد ذلك الصلاة يحبها الله –تعالى- ويرضاها؟ نعم يحبها الله –تعالى-
ويرضاها، إذن: هي من الشرع، إذن: هي من محاب الله ومراضيه إذن: هذه إرادة دينية،
إذن: المطيع عندما يطيع تجتمع فيه إرادتان الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، أما
العاصي فليس له إلا إرادة واحدة وهي الإرادة الكونية، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر في
مسألة الذنوب والمعاصي.
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف نفهم احتجاج سيدنا
آدم بالقدر في الحديث المشهور مع سيدنا موسى؟
السؤال الثاني: الشيخ ذكر في الدرس أنه من ضمن أسباب دفع المرض هو الذهاب إلى
الطبيب، يعني: التداوي، كنا سمعنا أحد المشايخ في شرح حديث الـ (سبعين ألفاً يدخلون
الجنة بلا حساب ولا عذاب، منهم الذين لا يسترقون) ففسر الشيخ الذين لا يسترقون:
الذين لا يأخذون دواءً، وقال: إن التداوي منافٍ لتمام الإيمان وليس منافياً للإيمان
ولكن منافٍ لتمام الإيمان فكيف نفهم ذلك؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم سؤاله الأول كيف نفهم احتجاج سيدنا آدم مع سيدنا موسى
بالقدر؟
هذه الحديث حديث ثابت صحيح،أن ( موسى -عليه السلام- قال لآدم: أنت أبونا ضيعتنا(7/22)
وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى كليم الله -عز وجل- ألم تجد أن الله
–تعالى- قد كتب ذلك عنده، فحاجَّ آدم موسى)، وأصل المسألة أن ليس فيها احتجاج
بالقدر، موسى يقول لآدم: يا آدم أنت خلقك الله –تعالى- بيده ونفخ فيك من روحه، ثم
ضيعتنا وأخرجتنا من الجنة، إذن: هنا يحتج عليه بماذا؟ بمصيبة، يعني: تصور لو أنك
مثلاً كنت في الجنة تتنعم فيها وتأكل من أكلها وشربها وملاذها نعمة سابغة، وبعد ذلك
خرجت منها إلى الدنيا، إذن: هذه مصيبة أم ليست مصيبة؟ إذن: مصيبة فحاجه آدم بالقدر،
فاحتج بالقدر على المصيبة فليس هناك من ذنب، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له. والله
-تبارك وتعالى- تاب عن آدم عندما عصى آدم ربه ?فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ? [طه:
122]، فكيف بعد أن يتوب عليه ويهديه إلى التوبة بعد ذلك يكون أيضًا عاصياً؟ كيف
يكون ذلك؟ فلو أن رجلاً من عصاة الناس تاب ما جاز لأحد أن يعيره بمعصيته، فكيف
بنبيٍّ من أنبياء الله -عز وجل-، فليس هذا من باب الاحتجاج بالمعصية، ولكن هذا من
باب الاحتجاج بالقدر على المصيبة - بإذن الله تعالى- واضح يا إخواني.
سؤاله الثاني: فضيلة الشيخ، عن قولكم دفع المرض بالتداوي، وحديث (السبعين ألفاً
يدخلون الجنة ومنهم الذين لا يسترقون)؟
هذا الحديث حديث ثابت صحيح وهو حديث عكاشة بن محصن -رضي الله تعالى عنه- عندما رفع
سواد عظيم فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هؤلاء أمتي) حديث عبد الله بن عباس،
(هؤلاء أمتي فقيل: لا، ثم رفع سواد أعظم منهم حتى قيل: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفا
يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، فقام رجل يسمى عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله
ادعُ الله أن أكون منهم، فقال: أنت منهم ثم بعد ذلك قام آخر فقال: يا رسول الله
ادعُ الله أن أكون منهم، فقال: سبقك بها عكاشة) هذا الحديث أما الصحابة عندما قال
النبي -عليه الصلاة والسلام- (ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب،(7/23)
بات الصحابة يلوكون بينهم: من هؤلاء؟ هل هؤلاء؟ الذين لم يشركوا أصلاً؟ هؤلاء هم
ذريتنا الذين لم يدركوا الجاهلية؟ من هؤلاء؟ فخرج عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) الاسترقاء هو
طلب الرقية، والاكتواء طلب الكي، والتطير معلوم، وهو نوع من التشاؤم الإشكال في
الأمرينك اللذين هما الاكتواء والاسترقاء، لأن الكي والرقية اختلف العلماء في هذه
المسألة اختلافاً بيناً لو قلنا بأن الرقية من باب التداوي هل تركها هو الأصل أم
فعلها هو الأصل؟ فعلها الأصل أو تركها الأصل؟ لقد ثبت أن النبي -عليه الصلاة
والسلام- كان يرقي نفسه، فلما مرض كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ترقيه عائشة -رضي
الله تعالى عنها- وثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رقى الحسن والحسين فالمشكلة
ليست في الرقية ولكنها في طلب الرقية، فالرقية صحيحة ثابتة، ولكن الإشكال في طلب
الرقية، إن الإنسان يكون مريضاً ويطلب من الآخر أن يرقيه، الكلام الصحيح- والله
تعالى أعلى وأعلم- أن طلب الرقية بالفعل مناف لكمال الإيمان لا لأصل الإيمان يعني:
لا يقدح في أصل الإيمان ولكنه مناف لكمال الإيمان لماذا؟ لأن القلب عندها يلتفت
لغير الله -عز وجل- يعني: واحد مثلاً مريض يقول للآخر: أنا مريض ضع يدك هنا
وارقيني، كأنه بذلك يكون ملتفتاً بقلبه عن الله -عز وجل- ولو عرض فقال إني مريض
ادعُ الله -عز وجل- أن يشفيني، فتحرك الآخر ورقاه لكان ذلك أوفق وأحسن، وأحسن من
الاثنين ألا يعرض ولا يستشرف وأن يترك الأمر لله -عز وجل- ولذلك قال النبي -صلى
الله عليه وسلم- في آخر الحديث: (وعلى ربهم يتوكلون) لكن هل يؤسس على ذلك قياس
التداوي على الرقية؟ هذه مسألة أخرى، يعني: نحن قلنا إن الرقية مشروعة، والإشكال في
طلب الرقية، وإن طلب الرقية مناف ليس لأصل إيمان ولكن لكمال الإيمان وفيه هناك(7/24)
ثلاثة حاجات حتى أبين كلمة يسيرة فيه هناك أصل إيمان وهناك الإيمان الواجب وهناك
الإيمان المستحب أو كمال الإيمان، أصل الإيمان كالرأس بالنسبة للجسد إذا انتفى
انتفى الجسد وهو شهادة الحق، عندنا بعد ذلك الإيمان الواجب ، كالمباني الأربعة
والصلاة فيها نزاع وحالها بالنسبة لبقية الدين، كحال اليد بالنسبة للبدن فاليد لو
قطعت لكان البدن قائماً ولكنه مع العجز والنقص أما بالنسبة للإيمان المستحب فحاله
كحال شعر الرأس مثلاً بالنسبة للبدن، فيكمل الإنسان بشعر رأسه ويجمل، ولذلك يحلق
هذا الشعر ذلاً لله -عز وجل- عند المشاعر فطلب الرقية ليس قادحاً في أصل الإيمان
وليس قادحاً في الإيمان الواجب وإنما هو قادح في ماذا؟ في الإيمان المستحب أو كمال
الإيمان.
المسألة التي أثارها الأخ وهي قياس التداوي على الرقية، أظن أن هذا القياس يحتاج
إلى تأمل لأن التداوي يا ترى هل هو من جنس المشروع أم هو من جنس المباح؟ المسألة
هذه فيها نزاع، فلا نريد أن نحسم مسألة وقع فيها نزاع، والذي أميل إليه أن التداوي
مباح، فمن تداوى جاز له ذلك، ومن ترك التداوي لم ينكر عليه، وقال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (تداووا عباد الله)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (شفاء أمتي في
ثلاث: في شرطة محجم وكية نار، وشربة عسل) وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر
بالحجام فاحتجم النبي -عليه الصلاة والسلام- كما ثبت أن النبي -عليه الصلاة
والسلام- أمر بعض الصحابة أن يكوي غيره حسمًا لجرح أو طلباً لشفاء أو نحواً من ذلك،
هذا كله ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالتداوي أصله مباح، وقياس التداوي
على الرقية هذا يحتاج إلى تأمل- والله تعالى وأعلم-.
إجابات الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: اثبت أن كلام الله حقيقة بصوت وحرف؟
وكانت الإجابة:
مما يدل على أن كلام الله بصوت وحرف أنه تعالى كلم الملائكة: ?وَإِذْ قَالَ(7/25)
رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ? [البقرة: 30]، وأنه
كلم آدم -عليه السلام-: ?وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ ?
[الأعراف: 19]، وأنه كلم إبليس: ?مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ?
[الأعراف: 12]، وأنه كلم موسى: ?وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ
رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ
إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ? [الأعراف: 143]،
وأنه كلم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج.
السؤال الثاني: دلل على أن القرآن منزل من عند الله ليس بمخلوق؟
وكانت الإجابة: مما يدل على أن القرآن منزل من عند الله ليس بمخلوق كلام أهل السنة
والجماعة: « القرآن كلام الله حقيقة منه بدء وإليه يعود فكلم الله موسى وكلم نبيه
سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والقرآن ليس بمخلوق فيبيد أي لا ينتهي وينقرض،
ولا صفة لمخلوق فينفد، القرآن محفوظ من الله -عز وجل- قال الله –تعالى-: ?إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [الحجر: 9]، القرآن نزل
به جبريل من عند الله على نبينا محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- بلسان عربي مبين،
قال الله –تعالى-: ?وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ ?192 ? نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الأَمِينُ ?193 ? ? [الشعراء: 192، 193]، إلى آخر الآيات.
معنا سؤال فضيلة الشيخ من الأخت الكريمة من مصر تقول: السلام عليكم ورحمه الله
وبركاته قرأت في تفسير الآية: ?لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا
آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ? [المجادلة: 22]، أنها رد على القدرية، أرجو توضيح
ذلك؟
هذه الآية ?لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ(7/26)
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ? [المجادلة: 22]، هنا موضع الاحتجاج ?أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ?، فالكتابة لا تكون إلا بعلم فلما علم الله - تعالى- فيهم
الإيمان كتبه فهذا هو موضع الشاهد ليس صدر الآية- والله تعالى أعلى وأعلم.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: هل هذه الجملة صحيحة
أن الله يقضي في كل ليلة برد الأنفس أو إمساكها وهي من قوله تعالى: ?فَيُمْسِكُ
الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ ? [الزمر: 42]، إلى نهاية الآية فهل الله -عز وجل-
يقضي في الليلة ذاتها أم أنه قد قضي وانتهى الأمر؟
لا تعارض بين الاثنين لأن هناك القضاء الذي قضى الله -تعالى- به وهو القضاء الأول،
ثم هناك الكتابة اليومية- والله تعالى أعلى وأعلم.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من المغرب يقول: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، ما
معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وهل هذا يعني
أن أهل الشقاء ميسرون لعمل أهل الشقاء وعكس ذلك صحيح؟
المقصود من ذلك ألا تفكر إلا فيما يصلحك وينفعك فأنت عبد فافعل كما يفعل العبيد,
أمرك سيدك أن تؤدي عملاً فلا تفكر عندما أؤدي هذا العمل ماذا أصنع ولكن يكن كل
تفكيرك أن ترضي سيدك بإنجاز هذا العمل حتى يوفقك الله -تعالى.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة:
هناك سؤال واحد فقط.
هذا السؤال: تصور مناظرة بين مؤمن بالقدر ومنكر له أو مشكك فيه؟
فقط هذا هو السؤال.(7/27)
الدرس الثامن
الإيمان بالرسل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى, اللهم
صلِّ وسلم وزد وبارك على النبي محمد المجتبى وعلى آله وأصحابه وأحبابه ومن اهتدى ثم
أما بعد.
فهذا لقاء متجدد, نسأل الله- تعالى- أن يجدد بالخير قلوبنا وأن يهدينا إلى صراطه
المستقيم, صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقاً.
وهذا اللقاء سيكون حول الإيمان بالرسل. والإيمان بالرسل أصل من أصول الدين قال
المصنف - عليه رحمة الله-: ( الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم ثم ختم الرسالة
والنذارة والنبوة بمحمد نبيه -صلى الله عليه وسلم ) فهنا عدة أصول:
الأصل الأول: أن الإيمان بالرسل من أصول الإيمان، يدل على ذلك الحديث الصحيح الذي
فيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما أجاب جبريل فقال: (أن تؤمن بالله،
وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) فدل ذلك على أن الإيمان
بالرسل أصل من أصول الإيمان وقال الله - تبارك وتعالى- أيضًا ?آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ?
[البقرة: 285]، فإيمان النبي -عليه الصلاة والسلام- وإيمان المؤمنين أنهم يؤمنون
بالله وملائكته وكتبه ورسله ولا يفرقون بين رسل الله -عز وجل- وقال الله - تعالى-
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن
يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيد ? [النساء: 136]، إذن: هذا بيان أيضًا أن الإيمان
بالرسل أصل أصيل من أصول الإيمان.(8/1)
إذن: الأصل الأول وهو العنصر الأول من عناصر لقاء اليوم المبارك: أن الإيمان بالرسل
أصل من أصول الإيمان.
الأصل الثاني: الإيمان بالرسل يكون مجملاً ومفصلاً، يكون مجملاً أي: من غير تعيين،
ومفصلاً أي بتعيين الأشخاص ومعرفة الأحوال، فالإيمان المجمل: أن تؤمن بأن الله -
تعالى- أرسل رسلاً وهؤلاء الرسل أرسلهم إلى الإنس والجن وأمر الله - تعالى- رسله أن
يبلغوا الناس دينهم وأن يوقفوهم على طريق الهداية والنجاة، إذن: أنت تؤمن بذلك
إيمانًا جازمًا وتؤمن بأن الرسول ذكر, بالغ, عاقل, يُوحى إليه، ذكر: لابد أن يكون
النبي رجلاً، النبي لابد أن يكون رجلاً، فلا يصح أن تتصور النبوة في حق امرأة فما
أرسل الله - تعالى- نبية ولا رسولة، وإنما جعل المرسلين والأنبياء من الرجال.
الأمر الثاني: لا تُتَصور النبوة والرسالة إلا في بني آدم، فليس في الجن رسول ولا
نبي وليس في البهائم رسول ولا نبي؛ لأن بعض الذين تدنت آرائهم في بعض مسائل
الاعتقاد وبالتحديد رجل معتزلي يسمى أحمد بن حابط ذكر أن الرسالة جعلها الله -
تعالى- في الأمم كلها فأمة النمل لها رسول وأمة النحل لها رسول وأمة الضفادع لها
رسول وأمة البهائم لها رسول، وهكذا، واستدل على ذلك بقول الله - تعالى-: ?وَإِن
مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ? [فاطر: 24]، فدلل بذلك على مقولته
الفاسدة، وهذه مقولة حابطة، قالها أحمد بن حابط.
فالرسالة لا تكون إلا من بني البشر، فلابد أن يكون رجلاً, ذكرًا ولك أن تقول: هل
الجن لا يُتصور أن يوجد لهم الرسل أو أن يوجد من بينهم رسل؟ لا.. الجن يوجد من
بينهم النذر، الذين يُنذرون ويبينون ويوضحون فالنذر بين الجن كالعلماء بين الإنس،
ويدل على ذلك قول الله -عز وجل-: ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ(8/2)
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ? [الأحقاف: 29]، إذن: النذارة كانت عندهم
فالجني الذي سمع القرآن وآمن بالله -عز وجل- وآمن بالرسول -صلى الله عليه وسلم-
ينقلب إلى قومه بعد إيمانه منذرًا فيبين لهم معالم الدين ويبين لهم الأمر والنهي
كما يفعل العالم من بني الإنسان، ?قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ
مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ?1 ? يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ?2 ? ? [الجن: 1، 2]، فهذا دلالة على أن الجن سمعوا القرآن
وسمعوا النبي -عليه الصلاة والسلام- وتأثروا بالقرآن وآمن طائفة منهم بكتاب الله
-عز وجل- وبالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إذن: الإيمان المُجمل بأن
تعلم بأن الله - تبارك وتعالى- أرسل رسلاً من بني الإنسان، بالغين عاقلين كلفهم
بهذا الوحي ليبلغوه للناس، هذا الإيمان المجمل.
الإيمان المفصل: هناك أسماء ذكرها الله -عز وجل- كما قال- سبحانه-: ?وَرُسُلاً
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ?
[النساء: 164]، إذن: هناك رسل كثر أرسلهم الله -عز وجل- إلى البشر، ولما أقول:
البشر يدخل مع البشر الجن؛ لأن الجن مُكلفون أيضًا؛ لأن الجن أمة تكليف، فأرسل الله
- تعالى- رسلاً كثراً منهم من قص الله - تعالى- علينا خبره من اسمه وحاله ومنهم من
لم يقصص علينا شيئًا من ذكره، اجتهد بعض المفسرين في عدد الرسل. هناك من أبلغهم إلى
عدة عشرات من الآلاف وهناك من أبلغهم إلى عدة مئات من الآلاف وهذه كلها أقوال مرسلة
ليس عليها دليل ولا برهان، ولكن الثابت في كتاب الله -عز وجل- أن الله - تعالى- ذكر
خمسة وعشرين رسولاً ونبياً خمسة وعشرين نبياً ورسولاً ذكرهم الله - تعالى- في
كتابه- سبحانه- فالواجب علينا عندما نسمع اسم رسول أو نبي نؤمن به، كيف نؤمن به؟(8/3)
أولاً: نعتقد أن الله - تعالى- أرسله ، أو أن الله - تعالى- أوحى إليه، هذا أولاً.
الأمر الثاني: أن نحب هذا الرسول.
الأمر الثالث: إذا ذكر الله - تعالى- لنا طرفًا من قصته، أو من حاله، تمثلنا هذا
الحال، واستشعرنا أن لو أن الله - تعالى- جعلنا في هذا المقام لكنا من أنصاره وكنا
من أعوانه وكنا من مؤيديه ومعزريه ومتبعي النور الذي أتى به، إذن: المعرفة والمحبة
والنُصرة، هذا ما ينبغي أن يكون في حق كل نبي، ننصره علميًا وننصره قلبيًا وندفع
عنه ولو أن إنساناً شكك فيه أو همزه أو لمزه فإنا نجتهد في الدفع عن هذا النبي.
فالإيمان مُجمل ومفصل، الإيمان بالرسول مُجمل ومفصل، المجمل أن الله - تعالى- أرسل
رسلاً وهؤلاء الرسل من بني البشر وأرسلهم إلى أقوامهم منهم من أرسل إلى قومه خاصة
ومنهم من أرسل للناس كافة كالنبي -عليه الصلاة والسلام- هذا إيمان مجمل ومن الإيمان
المجمل أيضًا: الإيمان بعدد الأنبياء الذين ذكر الله - تعالى- لنا أسماءهم، وهذه
الحيثية من الإيمان المجمل قد يكون مفصلاً إذا فصل الله - تعالى- لنا أحوالهم فقد
ذكر الله - تعالى- آدم وقصته وذكر الله - تعالى- نوحًا وقصته وذكر الله - تعالى-
أيضًا إبراهيم وقصته، وذكر الله - تعالى- أيضًا لوطًا وقصته وموسى وقصته وعيسى
وقصته ومحمد -صلى الله عليه وسلم- وطرفًا كثيراً مما حصل له ومعه، وكذلك عيسى- عليه
وعلى نبينا الصلاة والسلام- وقص علينا طرفًا من قصة ذي النون، وهكذا في كل نظير
فعندما يُفَصَّل الذكر مع نبي فلابد أن نؤمن بما ذكر الله -عز وجل.
لابد أن ننتبه إلى أن بعض المغرضين قالوا: بأن القرآن الكريم لا يُعد وثيقة تطمئن
القلوب إلى الأحداث والأخبار التي حواها هذا الكتاب، بعضهم قال هذا الكلام وهذا
كلام فاسد فالله - تبارك وتعالى- إذا قص طرفًا أو قص خبرًا، عن رسول أو نبي فقد وقع
ذلك حقًا ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيل ? [النساء: 122]، ?وَمَنْ أَصْدَقُ(8/4)
مِنَ اللَّهِ حَدِيث ? [النساء: 78].
الأصل الثالث: وهو العنصر الثالث في لقاء اليوم: أن الإيمان برسول يستلزم الإيمان
بكل الرسل، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وكان الرسول يُبعث إلى القوم خاصة
وبعثت إلى الناس عامة) فكل قوم أرسل الله - تعالى- إليهم رسولاً وهذا قوله -
تعالى-: ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول ? [الإسراء: 15]،
فالله - تعالى- لا يُعذب قومًا إلا بعد أن يبين لهم ما يتقون، إلا بعد أن يبين لهم
طريق الخير وطريق الشر، فهذا البيان وهذه النذارة، إنما يتأتى على يد من يُرسله
الله -سبحانه وتعالى- فأرسل الله - تعالى- نوحًا إلى قومه وأرسل الله - تعالى-
هودًا إلى قومه، وأرسل صالحًا إلى قومه وأرسل موسى إلى قومه وأرسل لوطًا إلى قومه،
طيب عندما كذب قوم نوح نوحًا، هل كذبوا نوحًا فقط؟ لا.. قال الله -سبحانه وتعالى-:
?كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ ? [الشعراء: 105] -سبحان الله- مع أن نوح أول
المرسلين، آدم أول الأنبياء ونوح أول المرسلين وما بين آدم ونوح عشرة قرون كما قال
عبد الله بن عباس: (كلها على التوحيد) فلما ظهر الشرك على الأرض وانتشر أرسل الله -
تعالى- عبده نوحًا ليدعو إلى الله -عز وجل- ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً،
ودعاهم ليلاً ونهارًا، فلم يزدهم دعاء هذا الرسول لهم إلا فرارًا، وقصة نوح مذكورة
بتمامها في أكثر من موطن، ستجدها مثلاً مبسوطة في سورة هود، وتجدها أيضًا مبسوطة في
سورة سميت باسمه وهي سورة نوح، قال الله -عز وجل- عندما بين أن قوم نوح كذبوه فقال:
?كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ ? [الشعراء: 105]، فلأنهم كذبوا نوحًا فقد
كذبوا بجميع المرسلين، فقد كذبوا بجميع المرسلين، وكذلك ?كَذَّبَتْ عَادٌ
المُرْسَلِينَ ? [الشعراء: 123]، من الذي أرسل إلى عاد؟ هود -عليه وعلى نبينا الصلاة(8/5)
والسلام- هم لم يكذبوا محمدًا ولم يكذبوا موسى ولا عيسى وإنما كذبوا هودًا فلما
كذبوا هودًا كانوا مكذبين بكل الأنبياء السابقين واللاحقين، وكذلك- أيضًا- قال ربي-
سبحانه-: ?كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ ? [الشعراء: 141]، من الذي أرسل إلى
ثمود؟ الذي أرسل إليهم صالح، ومع ذلك قال: ?كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ ? فمن
كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين وقال -سبحانه وتعالى- أيضًا: ?كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ المُرْسَلِينَ ? [الشعراء: 160]، فمن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين وقال
النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم: (والذي نفسي بيده
ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن إلا أدخله الله النار)- سبحان الله-
إذن: ينبغي أن نعلم أن كل إنسان بلغته دعوة رسول ينبغي أن يؤمن بهذا الرسول لاسيما
إذا كان هذا الرسول هو الرسول الخاتم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - فمن
بلغته دعوة هذا الرسول يجب عليه أن يدخل في هذه الدعوة وأن يُسارع مُنقاداً محباً
مختارًا الدخول في دين هذا الرسول فإن لم يفعل فقد كذب بموسى وكذب بعيسى وكذب
بإبراهيم وكذب بداود وكذب بسليمان وكذب بالرسل جميعًا، لأن الذي يقول: أنا أؤمن
بموسى ولكن لا أؤمن بمحمد فهو كاذب في دعواه، فمن كذب بمحمد فقد كذب بموسى حتى لو
كان زاعمًا بأنه يؤمن بموسى، ومن قال: إني أؤمن بعيسى ولكن لا أؤمن بمحمد -صلى الله
عليه وسلم- فهو كاذب في دعواه لأن من آمن بعيسى يجب عليه أيضًا أن يؤمن بمحمد -صلى
الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الأصل الرابع: هو الفارق بين الرسول والنبي: هذه المسألة كثر كلام الناس فيها وكان
التفريق تفريقًا هشًا كأن يقال: بأن الرسول أوحى الله - تعالى- إليه بشرع أُمر
بإبلاغه, أما النبي فلم يؤمر بإبلاغ هذا الشرع -سبحان الله- نبي لم يؤمر بإبلاغ شرع(8/6)
الله -عز وجل- إذن: هذا شرع لهذا النبي، طيب إذا وجد أحدًا يخالف هذا الشرع الذي
يعلمه هل يتركه؟ أم يأمره وينهاه؟ لو أمره ونهاه لكان بذلك مبلغًا هذا الشرع، هذه
أو هذا تفريق ليس بالسديد.
بداية ما معنى النبي؟ النبي والنبيء هو المخبر عن الله -عز وجل- ولذلك عندما نبحث
في المعاجم كي نعرف معنى كلمة "نبي" نبحث عن هذه الكلمة في مادة ماذا ؟ من الذي
يعلم؟
في مادة نب
في مادة نبأ، النون والباء والهمزة، إذن: النبي مُخبِر؛ لأنه من الفعل أنبأ، فهو
مخبِر عن الله -عز وجل- فكل من أوحى إليه الله -عز وجل- فهو نبي، والنبي هو
المُخبِر عن الله، لكن ما الفارق بين النبي والرسول؟ باختصار شديد جدًا:
- أن الرسول من بعثه الله -عز وجل- إلى المخالفين ليبين لهم ما يتقون، إذن: التفريق
بين النبي والرسول سيكون باعتبار المرسَل أو المُبعَث إليهم، ليس باعتبار المُبعَث
ولكن باعتبار المُبعَث إليهم, فلو كان المُبعَث إليهم من المخالفين المكذبين إذن:
المبعث يسمى رسولاً، وإذا كان المبعث إليهم من الموافقين أهلَ الدين فالمُبعث إليهم
نبي، أهل الدين لو حرفوا الدين وغيروا الدين وتركوا الدين فإنهم يحتاجون إلى من؟
إلى رسول، انتبه، إذن: طالما أهل الدين هم مقيمون على الدين مطيعون فيحتاجون إلى
نبي، فيكون النبي بينهم كالعالم بين المسلمين، يأمرهم وينهاهم ويعظهم ويذكرهم،
ولذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (العلماء ورثة الأنبياء) لم يقل: العلماء
ورثة الرسل، لماذا؟ لأن الرسل إنما تبعث إلى المخالفين، قال الله -عز وجل-: ?حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُو ? انتبه وظنوا أنهم
ماذا؟ قد كذبوا ?جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ? [يوسف: 110]، إذن:
?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُو ? فالرسول(8/7)
إنما يبعث إلى المخالف ليبين له الدين, ليقيم عليه الحجة ليبين له طريق الهداية،
ليزيل عنه الغِشاوة والضلالة فهذا كله أمر واضح.
أما القول: بأن الرسول من كان معه شرع جديد والنبي من ليس معه شرع جديد، هذا كلام
غير دقيق أرأيتم قول مؤمن آل فرعون عندما قال لقومه: ?وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ
مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى
إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُول ?؟ [غافر: 34]،
إذن: يوسف رسول وقال الله -عز وجل- عنه: ?وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي ? [يوسف:
38]، إذن: هو على ملة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب، فهو على ملة آبائه وعلى شرعة
آبائه ومع ذلك سماه الله - تعالى- رسولاً، سماه الله - تعالى- رسولاً لماذا؟ لأنه
كان مع المخالفين في الدين، فلما كان مع المخالفين في الدين كان بينهم ماذا؟ كان
بينهم رسولاً، إذن: هذا فارق دقيق بين الرسول وبين النبي.
وهذا الفارق بينه ربنا -سبحانه وتعالى- في قوله- سبحانه-: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ ? [الحج: 52]، ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ
وَلاَ نَبِيٍّ ? العطف- كما يقول الأصوليون- يقتضي المغايرة، عندما يقول: أكلت خبزا
ولحما، فالخبز غير اللحم ضرورة، أقول: كتبت بالقلم الأسود والأزرق، إذن: الأسود غير
الأزرق، قولاً واحداً، فكذلك في قول الله -عز وجل-: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ ? فهذا يقتضي أن الرسول غير النبي لو قلنا: من
جهة التكليف بالوحي فإن النبوة أوسع، فالرسول نبي لأنه يُوحى إليه وأن الله -
تعالى- ينبئه وأن الله - تعالى- يخبره فهو نبي من هذه الحيثية ولكن من حيثية أنه
أرسل إلى المخالفين المكذبين المعاندين فهو رسول.(8/8)
أيضًا عندما ننظر إلى داود وسليمان ذكر الله - تعالى- أنهم أنبياء، وأنهم أيضًا رسل
وكانوا على شريعة موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، إذن: هذا تفريق باعتبار
المبعث إليهم، وهذا الكلام أفاده- بعناية- شيخ الإسلام ابن تيمية وله في ذلك كتاب
رائق يسمى النبوات فليراجعه من شاء.
الأصل الخامس أو النقطة الخامسة: وهي أن الأنبياء معصومون:
وعصمة الأنبياء مجمع عليها، والصحيح أن الأنبياء معصومون من الوقوع في الشرك
والكبائر لا يُتصور أن يقع نبي في شرك لا قبل البعثة ولا بعدها، فالله - تبارك
وتعالى- عصمهم من الوقوع في الشرك قبل وبعد البعثة، وكذلك الكبائر فالأنبياء لا
يأتون الكبائر، أما بالنسبة إلى الصغائر فهذه مسألة فيها كلام والصحيح أن النبي قد
يقع في الصغيرة ولكن هنا قيدان:
- القيد الأول: يقع فيها دون قصد تأويلاً.
- الأمر الثاني: أنه يتوب إلى الله -عز وجل- مما صنع فيكون مقامُه بعد الذنب
أفضل من مقامه قبل الذنب. إذن: عندنا ثلاث جمل، الجملة الأولى: أن الأنبياء معصومون
من الشرك قبل وبعد البعثة الجملة الثانية: أن الأنبياء معصومون من الكبائر.
الجملة الثالثة: أن الأنبياء يتصور أن يقع بعضهم في الصغائر، وإذا وقعوا في
الصغائر لا يقعون فيها عمدًا ولكن يقعون فيها خطأً بالتأويل ونحوه ثم لا يقرون على
ذلك الذنب، بل يتوبون منه فيكون مقامهم وحالهم بعد الذنب أفضل من حالهم ومقامهم قبل
الذنب، تفصيل ذلك ما يلي:
الأنبياء معصومون من الوقوع في الشرك، لا يُتصور أن يقع نبي في الشرك لكن بعض الناس
توهم ذلك، بعض الناس توهم إمكانية وقوع الأنبياء في الشرك قبل البعث، واستدل على
ذلك بقول الله -عز وجل-: ?قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ ?
انتبهوا معي وتأملوا: ?قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ
لَنُخْرِجَنَّكَ ? اسمع هذا: ?يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن(8/9)
قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَ ? أو لتعودن: اسمع، أو لتعودن في
ملتنا، ?قَالَ ?: أي قال شعيب: ?أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ? [الأعراف: 88]، أي:
كنا كارهين أن نعود في ملتكم، إذن:?قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن
قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ?88 ? قَدِ
افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ
نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ?89 ? ? [الأعراف: 88، 89]، فقالوا: هذا نص في أن شعيب كان
على ملة قومه ولذلك قال: ?وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَ ? فهذا نص في هذه المسألة. هذه شبهة، ليست دليلاً لأن
الدليل ما يستضاء به أو ما يتوصل به للوصول إلى المطلوب الذي هو الحق، لكن عندما
تتلبس عليك الأمور ببعض المسائل العلمية فهذا الأمر الذي لُبِّس عليك بسببه هذا
السبب يسمى شبهة، يمكن أن يُسَّلك هذا الأمر على نحوين، النحو الأول: أن يقال: بأن
عاد بمعنى صار، إذن: قال: الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين
آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن في ملتنا، وتحمل معنى العود إلى معنى الصيرورة في
تمام الآية هذا قول، القول الثاني: أوجه من هذ القول وأنا أميل إليه، القول الثاني:
أن يقال: إن هذا الخطاب وإن كان موجهًا لشعيب وإن كان شعيب هو الذي باشر هذا الخطاب
إلا أن المقصود غير شعيب ولكن لما كان هذا النبي مخالطاً أصحابه وأتباعه، فكان هو
المتكلم بلسانهم فلم يشأ أن يخرج عن جملتهم إذن: هو ليس معنياً ليس هو بالمعني في
هذا الخطاب، وهذا له نظائر في كتاب الله -عز وجل- كقوله الله - تعالى-: ?لَئِنْ(8/10)
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ? [الزمر: 65]،
هل يتصور أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يشرك بالله وبالتالي يهدده الله -عز وجل-
?لَئِنْ أَشْرَكْتَ ?؟ كيف يكون ذلك؟ أبدًا، فهذا خطاب للنبي -عليه الصلاة والسلام-
والمقصود به غير النبي -عليه الصلاة والسلام- كذلك قول الله -عز وجل-: ?فَإِن كُنتَ
فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ
مِن قَبْلِكَ ? [يونس: 94]، هل يُتصور أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يكون في شك
مما أنزله الله - تعالى- عليه؟ كلا وحاشا، كيف ذلك؟ لا يمكن أبدًا لا يتصور أبداً،
إذن: هذا الخطاب لمن؟ للنبي؟ أبدًا، وإنما هو لغير النبي -صلى الله عليه وسلم- إذن:
عندما قال شعيب: ?وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّنَ ? هذا الخطاب ليس معنيًا به وإنما يقصد به غيره.
أيضًا قالوا: في قصة إبراهيم عندما نظر إلى الكوكب ?قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ ?76 ? فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ
هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ
القَوْمِ الضَّالِّينَ ?77 ? فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً ? يعني: انظر: الشمس
بارغة لم يقل في القمر: بازغًا لكن في الشمس: بازغة ?قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا
أَكْبَرُ ? أكبر من الكوكب وأكبر من القمر ?فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ?78 ? إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ?79 ? ?
[الأنعام: 76- 79]. فقالوا: هذا سياق فيه دلالة على أنه لم يكن مناظرًا وإنما كان
ناظرًا، هذا كلام- وإن قاله بعض أهل العلم- لكن هذا الكلام يحتاج إلى تأمل. ما(8/11)
الفارق بين كون إبراهيم ناظرًا وبين كونه مناظرًا؟ الفارق بين الاثنين أن ناظرًا
كان تائهًا، حائرًا، غير مهتد يريد أن يهتدي يريد أن يعرف الحقيقة، فأراد أن ينظر
وكان قومه يعبدون الكواكب من دون الله فأراد أن ينظر إلى هذه المعبودات التي تعبد
من دون الله فعندما نظر وجد الكوكب قال: هذا رب، ثم بعد ذلك قال على القمر عندما
أفل الكوكب: هذا رب، ثم بعد ذلك قال للشمس: هذا رب، هذا كلام لا يمكن أن يكون
مقبولاً، لماذا؟ لأن لو قلنا: بأن إبراهيم كان تائهًا حائرًا غير مهتد، هذا طعن في
عصمة الأنبياء. الأمر الثاني: أن الله - تعالى- قال: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا
إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ? [الأنبياء: 51]،
والصحيح أن إبراهيم كان مناظرًا- سياق الآيات يدل على أنه كان مناظرًا- كان يناظر
قومه، فكأنه يقول: أنتم تعبدون الكواكب من دون الله، تعبدون الكوكب وتعبدون القمر
وتعبدون الشمس، فهيا أتنازل معكم إذا كنتم تعبدون الكوكب فإنه يأفل فكيف يكون رب
قيوم قائم على هذا الكون يغيب عن كونه؟ كيف يكون ذلك؟ إذن: لا يصح أن يكون هذا
بالإله، لا يصلح، ?فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ ?، قال: هذا هو ربكم بزعمكم ؟ ?
فَلَمَّا أَفَلَ ? قال: لا يصح أن يكون ذلك إلهًا رباً تصرف إليه القلوب وتتجه إليه
الخلائق بأعمالها ? فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً ? قال: هذا ربي، ليقيم الحجة
عليهم ويبين لهم فساد ما يعبدون، إذن: ليس في ذلك دلالة أبدًا على أنه كان ناظرًا
يريد أن يهتدي كان ضالاً كان حائرًا يريد أن يعرف. حاشا وكلا بدليل الكلمات التي
أتت بعد ذلك كلمات لا يقولها من كان تائهًا منذ لحظة، ?قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ?78 ? إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ?79 ? وَحَاجَّهُ(8/12)
قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ?80 ? ? [الأنعام: 78-
80]، أي: هدانِ إلى الحق وجعلني عليه وصيرني إليه فهذا سياق لا يدل على ما زعموا أن
إبراهيم كان تائهٍاً كان ضالاً قبل البعثة والله - تبارك وتعالى- هداه بعدها، هذا
كلام لا يصح، فإجماع أهل السنة على أن الأنبياء معصومون من الوقوع في الشرك والصحيح
أن هذه العصمة عصمة مطلقة متصلة من الصغر إلى الممات.
نأتي بعد ذلك إلى مسألة الأنبياء والكبائر:
بعض الناس يظن أن النبي قد يقع في الكبيرة ويمثلون على ذلك بقصة ذي النون: ?وَذَا
النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي
الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ ? [الأنبياء: 87]، نقول لهم: رويدًا حسبكم، ?وَذَا النُّونِ إِذ
ذَّهَبَ مُغَاضِب ? مغاضب: على وزن مُفاعل من الفعل غَاضب فالفعل غَاضب فيه معنى
المُفاعلة غاضبت فلانًا إذن: هو غاضبني وأنا غاضبته, فحصلت بيننا مُغاضبة، هذا
دلالة اللغة، يا ترى يونس بن متى غاضب من؟ غاضب ربه أم غاضب قومه؟ قومه. إذن: ليس
في الآية ما يدل على ما ذهبوا، ?وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِب ? أي: ذهب
مغاضبًا لقومه، فليس في ذلك ما يُشار إليه من جنس ما يظنون.
نأتي إلى مسألة النبي والذنب:
أولاً: ليس هناك من نبي يقع في الذنب اختيارًا، قصدًا, عمدًا, وإنما يقع النبي في
الذنب- الصغيرة- ظنًا أنه ليس بذنب، إذن: وقوعه في الذنب بالتأويل بدون قصد خطأً،
يقع في الذنب خطأً دون تأويل، يقع في الذنب خطأً بتأويل دون قصد.
ثانيًا: أن النبي إذا وقع في ذلك يُحدث من التوبة والإنابة والإخبات والرجوع ما به
ينفتح عليه أبواب كثيرة من الخيرات فيكون حاله بعد التوبة وبعد التوب والرشاد خير
من حاله قبل ذلك، نضرب عدة أمثلة على ذلك:(8/13)
المثال الأول: آدم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- آدم أخبر ربنا -سبحانه وتعالى-
عنه: ?وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ?121 ? ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ
عَلَيْهِ وَهَدَى ?122 ? ? [طه: 121، 122]، -سبحان الله- وأشرت قبل ذلك إلى هذه
المسألة في اللقاء الفائت، كيف وقع آدم في الذنب؟ الذي حدث أن الله - تبارك وتعالى-
أطلق له الجنة يأكل منها حيث شاء، وكيف شاء ولكن حذره أن يأكل من شجرة بعينها، كما
حذره من إبليس، فأتى إليه إبليس وقال يا آدم: ?هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ
الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ? [طه: 120] إذن: عندما أكل آدم من الشجرة كان يريد
الخير لنفسه، وجد الجنة وجد فيها النعيم والنَعْمة والسِتر والخير والكرم والجود
وما إلى ذلك، فوسوس إليه إبليس وأغراه إبليس فظن آدم أنه لو أكل من هذه الشجرة
سيتأبد خلوده في هذه الجنة فكانت هذه معصية من آدم -عليه وعلى نبينا الصلاة
والسلام- وبيَّن ربنا -سبحانه وتعالى- في سورة طه، أنه عندما أكل من الشجرة أكل
منها نسيانًا في قوله - تعالى-: ?فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْم ? [طه: 115]،
أليس كذلك في القرآن؟ إذن: النسيان ?وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْم ? إذن: قلبه لم يقصد
الوقوع في الذنب قلبه لم يلتفت إلى الذنب فإن التفات القلب إلى الذنب أعظم من
الوقوع في الذنب، لماذا؟ لأن القلب إذا التفت إلى الذنب تحجب عنه التوبة وتتأخر
عنه، إذا لم تُحجب عنه تتأخر عنه فيترد ويتردى ويتردى، أما إذا وقع في الذنب فقد
يتوب سريعًا ويؤوب ويفيء سريعًا ويحدث من التوبة والإنابة والاستعاذة والاستغفار
والإخبات والعمل الصالح ما يرفعه الله - تعالى- فيكون ذلك الذنب خيراً له، ولذلك
قالوا: «رب طاعة أدخلت صاحبها النار ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة، فقيل: كيف ذلك؟
قال: رب طاعة أورثت صاحبها عزًا واستكبارًا يستكبر في طاعة الله -عز وجل- ورب معصية(8/14)
أورثت صاحبها ذلاً وانكسارًا»، إذن: يمكن للإنسان إذا فعل الذنب ينكسر قلبه وينذل
فيفتح الله - تعالى- عليه أبوابًا كثيرة من الخيرات، طيب إذا عاد إلى الذنب مرة
ثانية يعود إلى التوبة وثالثة يعود إلى التوبة، ورابعة وخامسة وسادسة، إلى متى؟ إلى
أن ييأس الشيطان منه، قال رجل للحسن البصري: «أبا سعيد: الرجل يذنب ويتوب، فإلى
متى؟ قال: إلى أن ييأس الشيطان منه»، ومصداق ذلك ودليله حديث النبي -عليه الصلاة
والسلام-: (إن العبد يذنب الذنب فيقول: أي رب، أذنبت ذنبًا فاغفر لي) إذن: أذنب
ذنبًا فقال: أي رب اغفر لي، فيقول الرب الجليل: (علم عبدي أن له ربًا يأخذ بالذنب
ويجازي به قد غفرت لعبدي، ثم يذنب ذنبًا، أي ربي قد أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فيقول
الرب الكريم الجليل: علم عبدي أن له ربًا يأخذ بالذنب ويجازي به قد غفرت لعبدي، في
الثالثة أو ما بعدها قال: قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)، قوله: (قد غفرت لعبدي
فليفعل ما شاء) ليس معناها أن يذهب إلى حيث شاء ويعربد ولكن معناها طالما أنه يحدث
توبة بعد الذنب فهو في بحبوحة من الخير. آدم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-
أذنب؟ نعم، ولكن الله - تبارك وتعالى- فتح عليه باب التوبة ?قَالا رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الخَاسِرِينَ ? [الأعراف: 23]، فقبل الله - تعالى- توبته، وهداه وسدده وفتح عليه من
الخير ما فتح وجعله أبا للبشرية جميعًا، أما ما يقال بأن آدم توبته أنه توسل إلى
الله -عز وجل- بالنبي محمد فهذا لا يصح وما يستدلون به بما أخرجه الإمام الحاكم أن
آدم -عليه السلام- لما أخطأ قال يا رب: «إني أتوسل إليك بنبيك محمد أن تغفر لي،
فقال الله -سبحانه وتعالى-: يا آدم، وكيف عرفت أن لي نبياً اسمه محمد؟ فقال: يا رب
نظرت إلى قوائم عرشك فوجدت لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لا تقرن اسمك(8/15)
إلا بأحب الناس إليك، فقال الله - تعالى- له: يا آدم قد غفرت لك»، إذن: غفر الله -
تعالى- لآدم ببركة من؟ ببركة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- طبعًا القوم، الله
أكبر! نعم، هذا الحديث لا يصح وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض والإنسان لا ينبغي له أن
يستدل في أمور الشريعة والاعتقاد إلا بما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلم.
مثال آخر: النبي -عليه الصلاة والسلام- في قصة الأعمى: ?عَبَسَ وَتَوَلَّى ?1 ? أَن
جَاءَهُ الأَعْمَى ?2 ? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ?3 ? أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ?4 ? ? [عبس: 1- 4 ] عاتبه ربه -عز وجل- في قصة الأعمى، طيب
لماذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما فعل؟ لماذا أشاح عن الأعمى، وانصرف إلى
علية القوم؟ لماذا؟ هل لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يكره رائحة العرق التي فاحت
من هذا الأعمى هل لأنه يتأفف منه ويتقزز؟ هل لأنه من سقط القوم؟ هل لأنه من أراذل
القوم؟ أبداً، الذي حصل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تأول هذا يعني ما معنى تأول
هذا؟ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الأعمى هذا مؤمن بي وبرسالتي فإذا تركته
في هذا المقام ولم أجبه في هذا المقام وانصرفت إلى المكذبين الضالين المنحرفين
المستكبرين فهذا أولى لعل الله - تعالى- أن يهديهم فانصرف النبي -صلى الله عليه
وسلم- إليهم متأولاً، فعاتبه ربه وكان من جملة ما قال: ?وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ
لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ?74 ? إِذاً لأَذَقْنَاكَ
ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ?75 ? ? [الإسراء: 74، 75]، وتاب النبي -صلى
الله عليه وسلم- من ذلك ولم يكن ليقصد أن يؤذي هذا الصحابي الجليل.
نأتي بعد ذلك إلى الكلام المجمل المبارك الذي قاله الشيخ العلامة الإمام القيرواني
في عقيدته:
قال المصنف -رحمه الله - تعالى-: (الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم ثم ختم(8/16)
الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه -صلى الله عليه وسلم- فجعله آخر المرسلين
بشيًرا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنزل عليه كتابه الحكيم
وشرح به دينه القويم وهدى به الصراط المستقيم).
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، هذه الفقرة كثير منها مأخوذ من قول الله -عز
وجل-: ? أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً
وَنَذِيراً ?45 ? وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ?46 ? ?
[الأحزاب: 45، 46]، شاهدًا قيل: شاهدًا على أمته بإبلاغهم دين الله -عز وجل-
وشاهدًا على الأمم بأن الأنبياء قد أبلغت أممها وجعله -سبحانه وتعالى- آخر المرسلين
وذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى
دارًا فكملها وأجملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلون ويقولون: لولا موضع هذه
اللبنة. فكنت أنا هذه اللبنة فأنا خاتم الأنبياء) -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
وسلم- وأيضًا تأتي الخلائق في حديث الشفاعة الطويل في البخاري ومسلم يأتون إلى آدم
فيوجههم إلى نوح ثم بعد ذلك إلى إبراهيم ثم بعد ذلك إلى موسى ثم بعد ذلك إلى عيسى
إلى أن يصيروا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سيد
الناس يوم القيامة، فيقول الناس له: أنت محمد -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم
وآخر الأنبياء، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- آخر الأنبياء، ودعا إلى الله - تعالى-
بإذنه وكان -صلى الله عليه وسلم- سراجًا والسراج هو المصباح، ووجه الدلالة أن
المصباح كما يُضيء للناس طريقهم فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- يُضيء للناس
طريقهم إلى الله -عز وجل- فنسأل الله - تعالى- أن يوفقنا إلى طريقه -صلى الله عليه
وسلم- وهو الطريق الموصولة إلى الله- سبحانه- كما نسأله- سبحانه- أن يُطهر قلوبنا
وأن يوفقنا إلى محابه ومراضيه وصلى اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم(8/17)
تسليمًا كثيرًا.
الأخ الكريم من السودان يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نسأل فضيلة الشيخ
في قصة يوسف -عليه السلام- ?وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَ ? [يوسف: 24]، فقد
أشكلت على كثير من الناس؟
الأخت الكريمة من مصر تقول: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، ممكن أسأل سؤالاً
بالنسبة للقدر: ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن القلب ليحزن وإن العين
لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا) يعني هل يكون الإنسان غير راضٍ عن القدر وهو
صابر؟ أليس الصبر هو الواجب والرضا مندوب إليه؟ يعني: لا يأثم؟
ما الفرق بين النبي والرسول؟
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، هل يمكن الرد على شبهة
أن شعيب -عليه السلام- كان على ملة قومه، استدلالاً بقوله - تعالى-: ?أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَ ? بأن يقال: إن شعيبًا وجميع الأنبياء كانوا موحدين قبل
أن يبعثهم الله ولكنهم كانوا يكتمون هذا التوحيد، وبمعنى أصح لا يصدعون به على رؤوس
الأشهاد كما أمرهم الله أن يفعلوا فلذلك ظن المشركون أنهم- عليهم السلام- كانوا على
ملتهم قبل البعث ولم يكونوا على التوحيد؟
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من مصر تسأل عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مات
ولده إبراهيم (إن القلب ليحزن) إلى آخر الحديث هل هذا عدم رضا بالقدر؟
بسم الله الرحمن الرحيم. حزن القلب هو عدم فرحته أو ذهاب فرحته إما لحصول مكروه أو
فوات محبوب ومعلوم أن الولد بالنسبة لوالده محبوب فعندما يموت هذا المحبوب فمن
الأمور الجبلية أن يحزن القلب على فراقه ولذلك جاز الدمع ولم يجز الهجر، الهجر: أن
يتكلم الإنسان بما لا يجوز شرعًا، فالأمر واضح والله - تعالى- أعلى وأعلم.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من السودان كان يسأل عن قول الله -عز وجل-: ?وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَ ? من ناحية العصمة؟(8/18)
بالنسبة لقول الله - تعالى-: ?وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَ ? هناك كلام كثير
للمفسرين في هذه الآية وسؤال الأخ سؤال في موضوعنا- جزاه الله خيرًا- لأنه قد يفهم
أن يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- همّ بها فيكون ذلك من جنس الذنوب ويكون
ذلك دلالة لمن قال بأن الأنبياء ليسوا بمعصومين، ولكن هذا كلام ليس بالصحيح، لعدة
أمور:
الأمر الأول: أننا لو قلنا في قول الله - تعالى-: ?وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ? ووقفنا،
ثم ابتدأنا ?وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? [يوسف: 24]، إذن:
?وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ? ونقف، ثم لنبتدئ نقول: ?وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ ? إذن: نحن نثبت هما وننفي آخر نُثبت هما وننفي آخر الهم المثبت
هو هَم امرأة العزيز والهَم المنفي هو هَم من؟ هو هَم يوسف فلم يهِم يوسف أصلاً،
مثل عندما أقول: لولا محمد -صلى الله عليه وسلم- ما عرفنا الله، وأوضح من ذلك لولا
مذاكرتك لرسبت، هل الرسوب وقع؟ أنت لم ترسب، ولكن"لولا" يسمونها أداة امتناع لوجود
فقوله - تعالى-: ?وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? فلأن البرهان
موجود فلم يَهِم بها، والبرهان هو العلم الذي جعله الله - تعالى- في قلبه، البرهان
يأتي في القرآن بمعنى العلم فقد جعل الله - تعالى- في قلبه علمًا وفي فؤاده علمًا
حجزه عن الوقوع في مثل ذلك، هذا قول وهذا قول طيب لا بأس به.
القول الثاني: ?وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَ ? [يوسف: 24]، وترى هنا
الأعاجيب، يقول نعم، ولقد همت به هم معصية وهم بها أي: هم أن يضربها، أو هم أن
يدفعها، فهذا إثبات للهم ولكن هم مخالف للهَم الأول، وهذا القول فائدة أن صاحبه
يريد أن يحافظ على مقام الرسالة، من أن يلوث بشائب تصور أن يقع الرسول في الذنب
فقال ما قال.
الوجه الثالث: أن يقال ?وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَ ? [يوسف: 24]، ويكون(8/19)
هذا هَم عزيمة وقصد وإرادة وهذا هم خاطرة، فهم العزيمة والإرادة هو الهَم الذي قصد
الإنسان فيه شيئًا ما، وجمع أسبابه وتوافر عليه ليفعله، فهذا حتى ولو لم يواقع
مقصوده فإنه يُثاب أو يأثم، ودليله في ذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إذا
التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا هو
القاتل، فما بال المقتول؟ قال: كان حريصًا على قتل صاحبه)، حريصًا، إذن: نية وإرادة
جازمة وعزيمة صادقة أن يقتل صاحبه، فكان بذلك في النار، فَهَمُ امرأة العزيز كان من
هذا الجنس, هم العزيمة والإرادة، ولذلك غَلَقت الأبواب وغلق على وزن فعَّل التي تدل
على التكثير والتشديد الاثنين مع بعض إذن: هناك أبواب كثيرة وغلقتها بإحكام،
?وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ? [يوسف: 23]، فلما أقول: كَسَّرت الأطباق وأقول كَسَرت
الأطباق، لما أقول كَسَرت الأطباق يمكن أن يكون فيها خدش أو كَسر بسيط، لكن عندما
آتي بها وأجعلها دكًا، يبقى هنا تَكْثير التكسير كذلك ?وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ?
إذن: هناك أبواب كثيرة عندما غلقتها غلقتها بإحكام وأوصدتها بإتقان ثم بعد ذلك
قالت: ?وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? تهيأت لك، وتزينت فاقضِ ما أنت تريد، ?قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ ? معاذ الله، الذي هو الله، معاذ الله، قوله: ?إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ ? ربي هنا تعود على الزوج، وهذا من أسلوب القرآن أن تجد الشيء والالتفات
الذي بعده، كقصة ملكة سبأ: ?قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ? [النمل: 34]، انتهى
كلامها، ?وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ? وكذلك يفعلون ليس من كلامها ولكنه كلام الله -عز
وجل- يذيل كلامها تأييدًا وتقريرًا لمقولة هذه المرأة الكافرة وهذا من باب الإنصاف،
أرأيت أن الله - تعالى- ينصف هذه الملكة الكافرة فيوافقها على ما تقول، فالإنصاف أن(8/20)
توافق الحق وأن تثبته حتى ولو كان على لسان المخالف، فليست هذه الآية مما يُستدل
بها، ويستفاد، أن هم يوسف كان ذنبًا وكان معصيًا بل هذا مجرد خاطرة والخاطرة إذا
دفعها الإنسان لله كانت من جملة حسناته لا من جملة سيئاته، ومنها قول النبي -صلى
الله عليه وسلم-: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل
به).
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة كانت ترجو من فضيلتكم توضيح الفرق بين الرسول والنبي؟
باختصار شديد الرسول من بعثه الله - تعالى- إلى أمة مخالفة، حادت عن الكتاب أو كفرت
بالكتاب، والنبي من أرسله الله -عز وجل- أو بعثه الله -عز وجل- إلى أمة الموافقة
ليذكرهم وليعظهم وليجدد عهدهم بالأمر والنهي الشرعي، فمقام النبي في أمة الموافقة
كمقام العالم بين المسلمين، والله - تعالى- أعلى وأعلم.
الأخ الكريم من مصر كان يسأل عن سيدنا شعيب وهل كان على ملة قومه؟ وهل يمكن
الاستدلال بقوله: أن الأنبياء كانوا موحدين ويكتمون هذا التوحيد قبل البعثة؟
هذه المسألة غير مقررة بمعنى، أنا لا أستطيع أن أوافق على ذلك، أو أنفي ذلك، وربما
يكون ذلك قائمًا وربما يكون ذلك غير قائم، ولكن الثابت حتى من هدي النبي -صلى الله
عليه وسلم- ومن حال النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قبل البعثة كان على الحنيفية،
وكان قومه يعلمون ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-، كان قومه يعلمون ذلك منه -صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فتحنثه في الغار كان على مرأى ومَسمع من أهله وقومه لم
يكن بالأمر السر وما جرى للنبي -عليه الصلاة والسلام- من إرهاصات وما إلى ذلك كان
على مرأى ومسمع من قومه، فلم يكن ذلك بالأمر السر، ولكن الإشكال أن النبي طالما أنه
لم يمارس دعوته فإنه لا يمثل خطرًا على الكفار، الخطورة على الكفار أو على
المخالفين تكون عند ممارسة الدعوة هناك فارق بين المعرفة والممارسة، فارق بين أن(8/21)
تعرف العقيدة وأن تمارس العقيدة، فارق بين أن تعرف دين الله وأن تدعو بدين الله
وإلى دين الله -عز وجل- فإذا كنت على الحق وحدك فلا بأس لا تثريب عليك، لا ضير في
ذلك الأمر أما إذا تحركت بالحق الذي أنت عليه لتوصله إلى غيرك يكون هنا الإشكال،
يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- لو كان في نفسه، يصلي ويعبد ويوحد وإلى غير ذلك،
ما أنكر عليه المشركون، المشركون قالوا: إن هذا الرجل ساحر يفرق بين الرجل وولده
وبين السيد وعبده، هذا رجل عجيب فالمشكلة عندهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
اجتهد في إيصال دين الله -عز وجل- إلى الناس ومن هنا كانت المصادمة وكان الإشكال.
وعندما تنظر أيضًا إلى قصة الراهب والغلام، الراهب قال للغلام: إنك أفضل مني، وإنك
ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي. لماذا قال: أنت أفضل مني؟ لماذا؟ لأنه يعبد الله
-عز وجل- ويعرفه ويوحده ويعتقد الاعتقاد الصحيح بمفرده أما الغلام فإنه حمل هذا
الاعتقاد ونشره بين الناس ولذلك عندما أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن فاجأه
الوحي إلى ورقة بن نوفل، فقال: يا ليتني كنت جذعًا إذ يخرجني قومك، فقال: (أو
مُخرجي هم)، قال: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عود وأوذي وإن يدركني يومك أنصرك
نصرًا مؤذرًا، إذن: أي نبي سيأتي بما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- من
التوحيد الخالص ومحاربة الشركيات وإقامة الدين والدعوة إلى الله -عز وجل- بذلك لابد
أن يُحارب وأن يُعادى، فيمكن أن يكون المشركون على عِلم بشعيب، يعرفون أنه ليس على
دينهم, على ملتهم ولكن يرتضونه على هذه الحال، فعندما اجتهدت الدعوة وعندما بدأ
الناس يدخلون في دينه بدت هنا المشاكسة وبدأ هنا الحرب ولذلك الخطاب ?قَالَ المَلأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَكَ ? فهذا دلالة على أن المصادمة كانت بعد دخول المؤمنين دين الله -عز(8/22)
وجل- أما قبل ذلك هل كانوا يعلمون أن شعيبًا كان على الحق؟ ربما، هل كانوا لا
يعلمون؟ ربما، فهذا أمر لا أستطيع أن أجزم فيه بقول والله - تعالى- أعلى وأعلم.
إجابات الحلقة الماضية
فضيل الشيخ وردتنا إجابات سؤال الحلقة الماضية:
وكان السؤال تصور مناظرة بين مؤمن بالقدر ومنكر له أو مشكك فيه؟
استأذنكم في طرق إجابة تكون أدبية إلى حد ما:
الإجابة:
كان أحمد وسامي يدرسان في جامعة واحدة وخرجت نتائج الفصل الدراسي لكن كانت نتيجة
أحمد لا تسر، الرسوب- لا حول ولا قوة إلا بالله- وسامي نجح بتوفيق الله له فسخط
أحمد وقال: لماذا يا ربي فعلت بي هكذا؟ ألم أدرس ألم أجتهد؟ لماذا من سواي نجح وأنا
لم أنجح؟ هذا مستحيل، قال سامي: هون عليك يا أحمد إن ما تقوله حرام، حرام في حق
الله - تعالى- فالله يفعل ما يريد والله لا يسأل عما يفعل قال سامي: قل: إن لله
وإنا إليه راجعون، وقَدَّرَ الله وما شاء فعل، قال أحمد: ماذا قَدَّرَ علي؟ ما هذا
القدر الذي تقوله؟ أنا درست جيدًا ويجب أن أنجح ما هذا الهراء الذي تتكلم به؟ قال
سامي: حرام عليك يا أحمد ولا يجوز ذلك فالله خلق كل شيء بقدر فحركاتك وسكناتك كلها
بقدر الله فهو النظام الحكيم والقانون الذي وضعه الله أحكم الحاكمين بعلمه وإرادته
وحكمته ليسير على أحكامه كل شيء في هذا الوجود من السماء وما فيها وما عليها فلا
راد لقضاء الله وقدره قال الله - تعالى-: ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ ? [القمر: 49]، وقال - تعالى-: ?وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً
مَّقْدُور ? [الأحزاب: 38]، فنظراتك وأنفاسك وكل ما فيك بقدر من الله، فقدر الله
هو القانون الأذلي الذي لا يعتريه تغير ولا تحول ولو اجتمعت قوى العالم كله
السماوية والأرضية على أن تغير مثقال ذرة من قدر الله ما وجدت إلى ذلك سبلاً، قال
سامي: يا أحمد قال - تعالى-: ?وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ(8/23)
لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ? [البقرة: 216]، فالله
يُقدر على الإنسان أمور حياته كلها بحكمته -سبحانه - وبإرادته ويجب عليك يا أحمد أن
تؤمن بالقضاء والقدر، فلا يجوز لك أن تنكره لأنه من أركان الإيمان التي لا يصح
إيمان فرد إلا باكتمالها وتصديقها في قلبه والعمل بذلك فأرجوك يا أحمد استغفر الله
قال -صلى الله عليه وسلم-: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن حصل شيء
فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل) فلعل الخير كله
في رسوبك يا أحمد ويجب على الإنسان أن يدعو الله ويقول: اللهم ارزقنا الرضا بعد
القضاء اللهم واجعل عاقبة أمرنا رشدًا، قال أحمد: جزاك الله خيرًا يا سامي لقد طرقت
كلماتك قلبي وسكنت جوارحي، نعم يا سامي لن أقول من بعد اليوم إلا قدر الله وما شاء
فعل، وأسأل الله أن يتوب علي. جزاك الله خيراً يا سامي
ما شاء الله.
الأخ الكريم من فلسطين يقول: هل اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسول الله محمد
-صلى الله عليه وسلم- يكونون غير مؤمنين بموسى وعيسى؟
في الحقيقة نعم، لأنهم لو آمنوا بموسى وعيسى حقيقة لأفضى بهم ذلك الإيمان أن يؤمنوا
بالنبي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ولابد أن يكون إيمان أهل الكتاب
بالنبي -عليه الصلاة والسلام- هو الإيمان الحق بمعنى: لا يقولون بأن النبي -صلى
الله عليه وسلم- نبي ولكنه نبي إلى الأعراب خاصة، يعني لو قال رجل بأن النبي -عليه
الصلاة والسلام- نبي إلى العرب فقط أو هو نبي الجزيرة العربية فقط، لم يكن بذلك
مؤمناً بالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وكان النبي
يرسل إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) وقال الله - تعالى-: ?وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ? [سبأ: 28]، فالله - تعالى- أرسل النبي(8/24)
-صلى الله عليه وسلم- للناس كافة، ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ ? [الأنبياء: 107]، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ? [الأعراف: 158]،
فهذه النصوص تدل على أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أُرسل إلى الناس كافة إلى
أبيضهم وأحمرهم وأسودهم وإلى العرب منهم وإلى الأعجام أو الأعاجم، فينبغي للناس أن
يؤمنوا بذلك فمن قال بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو نبي الجزيرة العربية فقط،
وحصر الجزيرة فيما بين الخليج العربي والبحر الأحمر وبلاد الشام شمالاً، وبلاد
اليمن جنوباً، فيكون النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المنطقة فقط، هذا كفر بالله
وكفر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يُقبل منه شهادة لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله حتى يقر بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- رسول إلى الناس كافة.
الأخ الكريم من الإمارات يقول: السلام عليكم، سؤاله الأول: ما معنى قوله - تعالى-:
?لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ? [آل عمران: 84]؟
أي: لا نفرق بين رسول ورسول فلا نؤمن بعيسى ونكفر بموسى أو نؤمن بموسى ونكفر بعيسى.
كان سؤاله الثاني: ما معنى كفر التكذيب والجهل وما الفرق بين وبين كفر الجحود؟
كفر التكذيب وكفر الجهل وكفر الجُحود، هذه الأنواع من أنواع الكفر المُخرجة من
الملة، لو قلنا بأن إنسانًا وصَلَه علم عن النبي -عليه الصلاة والسلام- يعني علم أن
هناك نبيًا اسمه محمد -صلى الله عليه وسلم- وتكلم بالقرآن وهذا القرآن يزعم أنه وحي
من عند الله، وأن هذا النبي أتى بأوامر وبنواهِ من جملة ما أمر به أمر بصلة الأرحام
ومساعدة الفقراء والمساكين وكما نهى عن شرب الخمر والقتل وقطع الأرحام سمع ذلك، ثم(8/25)
بعد ذلك قال: إن هذا لا يلزمني، لكان بذلك جاحدًا لما وصله، فالجحود بمعنى تغطية،
فجحد الشيء إذا غطاه، قال الله - تعالى-: ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُو ? [النمل: 14]، وصله العلم وصله اليقين وصله الخير
ومع ذلك رده، رده من باب الظلم والعلو والكبر- والعياذ بالله- إذن: هذا كفر الجحود.
إذا واقع الشك، فهذا كفر التكذيب ومنه كفر فرعون، ففرعون كذب موسى، فرعون كذب موسى
وتكذيبه كان تكذيب مُدعى بدليل أنه لما ألجمه الغرق قال: ?آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ ? [يونس: 90]، وكذلك قوم شعيب عندما قالوا لنبيهم: ?مَا نَفْقَهُ
كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ
لَرَجَمْنَاكَ ? [هود: 91]، فهم في ذلك هم كذبة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو
الذي يبين عن ربه وقال الله - تعالى- ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ? [إبراهيم: 4]،إذن: أفضل من يبين عن الله
-عز وجل- هو الرسول الذي أرسله الله فكونهم قالوا للرسول: لا نفقه كثيرًا مما تقول
كانوا كاذبين وكان كفرهم في هذا الباب كفر تكذيب- والعياذ بالله- كفر الجهل: مثل ما
وقع فيه كفار قريش، عندما جَهِلُوا النبي -عليه الصلاة والسلام- جهلوا أنه رسول
إذن: وصل لهم الحق، ووصل لهم الخير وسمعوا القرآن وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
?أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ? [الأعراف: 158]، ولكن لأنهم لم يتصوروه
رسولاً، واستعظموا أن يكون رسولاً جهلوا رسالته فكذبوه وحاربوه وكفروا به والله -
تعالى- أعلى وأعلم.
الأخ الكريم من المغرب يقول: هل من سمع بالنبي دون أن تبلغه الدعوة تكون الحجة قد
قامت عليه؟
تكون الحجة قد قامت عليه إجمالاً، يعني من سمع أن هناك رسولاً يسمى محمدًا وهذا
الرسول أتى بدين يسمى الإسلام وجب عليه أن يجتهد في البحث عن الحق ليصل إليه- بإذن(8/26)
الله تعالى- ولو مات قبل الوصول إلى الحق وفي طريقه لهذا الحق فهو معذور عند الله
-عز وجل- والإمام ابن القيم له كلام جيد في هذه المسألة في طريق الهجرتين عندما ذكر
أن من طبقات المقلدين أن إنسان يقول: «يا ربي أنا على هذا الطريق ولو أعلم خيرًا هو
أحب إليك مما أنا عليه لصرت إليه فهذا معذور عند الله -عز وجل-» فهذا الرجل الذي
سمع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتى بالقرآن ليقرأه وجهز التجهيز وأخذ العدة
لكي يسافر إلى ديار المسلمين أو لكي يذهب إلى المركز الإسلامي في بلدته لكي يسمع عن
الإسلام ويؤمن به وقال: يا رب اشرح صدري لهذا الدين وإني مقبل على هذا الدين ثم مات
دون ذلك أرجو أن يكون معذورًا، والله - تعالى- أعلى وأعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
هناك ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: كيف نؤمن بالرسل مجملاً؟
السؤال الثاني: فرِّق بين الرسول والنبي؟
السؤال الثالث: تكلم عن عِصمة الأنبياء؟
والحمد لله.(8/27)
الدرس التاسع
إثبات الساعة والبعث والجزاء
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله وكفى, وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على النبي المجتبى, وعلى آله وأصحابه وأحبابه ومن اهتدى، ثم أما بعد.
نواصل شرح مقدمة الإمام القيرواني، وهي المقدمة التي جعلها في بيان العقيدة الأثرية السلفية شأنه في ذلك شأن بعض المصنفين لاسيما في بلاد المغرب، وموعدنا اليوم - بإذن الله تعالى- أن نتحدث في موضوع يختص بإثبات الساعة والبعث والجزاء وبالتالي ستكون عناصر أو أفكار هذا اللقاء ثلاثة:
العنصر الأول: إثبات الساعة ووجوب الإيمان بها.
والثاني: إثبات البعث ووجوب الإيمان به.
والثالث: إثبات الجزاء ووجوب الإيمان به.
فهيا بنا نسمع وننصت بإمعان وننظر ما قاله الإمام القدوة القيرواني - عليه رحمة الله تعالى-. تفضل أخي الحبيب.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون وأن الله- سبحانه- ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر، وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته قال الله – تعالى-: ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ? [النساء: 48]).
جزاكم الله خيرًا،
بسم الله الرحمن الرحيم، قال المصنف عليه رحمة الله: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت) الساعة تطلق ويراد بها أحد معنيين:(9/1)
المعنى الأول: الموت عند النفخ، كما في صحيح مسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (لا تقوم الساعة إلا على شِرار الخلق عند الله –تعالى-) فلا تقوم الساعة أي: لا يُنفخ في الصور لتصعق الخلائق ويموتون، إلا وهم شر الخلق عند ذلك عند الله –تعالى- فالساعة يقصد بها الانتقال من دار التكليف, من دار العمل إلى دار البعث والجزاء والحساب، وبهذا المعنى أي معنى الانتقال من دار التكليف إلى دار الجزاء والحساب يسمى موت كل امرئ قيامة بل وساعة، فإذا مات الإنسان حانت ساعته وقامت قيامته بهذا المعنى وهذا المفهوم. المعنى الثاني للساعة: يقصد بالساعة البعث كما قال ربي -سبحانه وتعالى- في آل فرعون: ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ? [غافر: 46]، وهذه الآية من الآيات العظيمة التي يُحتج بها على إثبات عذاب القبر، ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَ ? آل فرعون والآل يُقصد بها عِلية الناس والأشراف، ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِي ? في أول النهار وآخره ?وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ? وهذا المقصود به البعث، أي: وعندما يبعثون فيحاسبون ويجازون يأمر الله –تعالى- بهم فيدخلون أشد العذاب- والعياذ بالله- والمعنى الثاني هو المقصود، يعني في قول المصنف: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت) هذا شبيه بقول الله –تعالى-: ?وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ ? [الحج: 7]، فالمقصود بالساعة هنا: البعث؛ ولذلك ذكر الله –تعالى- عن الكفار في قوله -سبحانه وتعالى-: ?زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ? [التغابن: 7]، إذن: شك الكفار إنما كان متوجهًا لا إلى الموت فإنهم كانوا يعرفون(9/2)
الموت، يعني كان الكفار يعلمون الموت ويؤمنون أن حياتهم تنتهي بالموت، فلم تكن قضية الموت فيها الإشكال وإنما كان الإشكال في ماذا؟ في البعث بعد الموت، وهذا قوله تعالى: ?زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُو ?إذن: المقصود بالساعة: البعث يقصد بالساعة: البعث.
الأمر الثاني: الذي ينبغي أن يعرف: أن الله –تعالى- أثبت الساعة نصًا في قوله تعالى: ?أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَ ? [الحج: 7]، وقال- تعالى-: ?وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَ ? [الكهف: 21]، فالساعة لا ريب فيها، أي: لا شك فيها لا مرية فيها، فهذه نصوص تثبت أن الساعة حق، كذلك الساعة من جملة الغيب، فقال -سبحانه وتعالى-: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَ ? [النازعات: 42]، يسألونك من الذين يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ قيل: هم اليهود، وقيل: هم كفار قريش، يسألونك يا محمد عن الساعة أيان مُرساها؟ أيان مُرساها يقصد بِمُرساها أي: وقت ثبوتها وحين قِيامتها فكان الجواب قل: ?إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَ ? أي: لا يُظهرها ?لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ? [الأعراف: 187]، ثقلت في السماوات والأرض أي: ثَقُل وخفي علمها في أهل السماء كما خفي علمها في أهل الأرض، ?يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَ ? [الأعراف: 187]، حفيٌّ أي: عالم مستقصٍ أخبارها وأحوالها، ?يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? [الأعراف: 187]، فالساعة من جملة الغيب وفي البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ومن هذه الخمس وآخر(9/3)
هذه الخمس عِلم الساعة) إذن من جملة الغيب الذي استأثره الله –تعالى- في عمله عِلم الساعة أي متى يُبعث الناس من قبورهم؟ لا ندري، وإن كان النبي -عليه الصلاة والسلام- ثبت عنه في النص الصحيح أن يوم الجمعة هذا هو اليوم الذي تكون فيه الساعة، في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (خير يوم طَلُعَت عليه الشمس يوم الجمعة ذلك يوم خلق الله –تعالى- فيه آدم وأنزله الله –تعالى- من الجنة، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)، فمحاولة التكهن بمعرفة هذا اليوم، هذا أمر لا سبيل لأحد إليه ومحاولة بعض المنجمين وبعض الفلكيين عن طريق الحسابات والأرقام معرفة هذا الأمر، هذا الأمر لا يصح ولا يمكن أن يكون، إذن: هذا هو قول المصنف: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت)، وهنا لفتة بسيطة قبل الانتقال إلى الجملة الثانية، وهو قوله: (وأن الله يبعث من يموت)، لماذا لم يقل: وأن الله يبعث من في القبور؟ لأن القبور هي التي تحوي أجداث الناس، وعندما قال ربنا -عز وجل-: ?وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ ? [الحج: 7]، قال ذلك باعتبار أن غالب الموتى إنما يُدفنون في القبور باعتبار الغالب، إذن: خرج هذا الخطاب مَخرج الغالب، وإلا فإن ناسًا ربما لا توجد قبور تحوي أجداثهم ولا تشمل رُفاتِهم، شأنهم في ذلك شأن الرجل في صحيح البخاري ومسلم وفي غيرهما، الذي أسرف على نفسه: (فقال لأولاده عندما اقترب موته: انظروا يومًا عاصفًا مطيرًا فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروا نصفي في الهواء ونصفي في الماء لئن قَدَرَ الله علي ليُعذبنّي عذابًا ما عذبه أحدًا من خلقه، فأمر الله –تعالى- البر فأخرج ما به وأمر البحر فأخرج ما به، فسأله ربه لِمَ صنعت ذلك؟ قال: خشيتك يا رب)، فهذا الرجل لم يكن له قبر، وإنما ذُرِّيَ رماده في البحر كما ذُرِّيَ رماده في الهواء العاصف، فكل ذرة من ذراته انتقلت إلى مكان دون الآخر، ومع ذلك قَدَرَ الله –تعالى- عليه، وجمعه(9/4)
وسأله بعد أن بعثه فكل ذلك لا يغيب على ربنا ولا يعذب عن ربنا ولا يعجز عنه ربنا، ولذلك قال المصنف: (وأن الله يبعث من يموت) سواء كان مقبورًا أو لم يكن مقبورًا.
العنصر الثاني: إثبات البعث ووجوب الإيمان به:
في ذلك يقول المصنف- عليه رحمة الله-: (وأن الله يبعث من يموت، كما بدأهم يعودون) فالله -سبحانه وتعالى- بدأ الخلق ثم أنهى الخلق فكما بدأ الخلق يُعيد الخلق قال- تعالى-: ?أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ ? [ق: 15]، هل -سبحانه وتعالى- وهو قادر على كل شيء يكون عاجزًا أو يكون عييًا أن يعيد الخلق الذي بدأه أول مرة؟!- سبحان الله- هذا أمر عجيب وربنا -سبحانه وتعالى- بين مسألة البعث نصًا واعتبارًا أثبت الله –تعالى- بالبعث وبينه في القرآن نصًا واعتبارًا: نصًا واضحًا قاطعًا لا شبهة فيه ولا مرية، واعتبارًا لما فيه من النظر والتفكر والتأمل والتنبيه، وجدنا ذلك عندما نبه الله –تعالى- على قدرته في إعادة الخلق بماذا؟ بإحياء الأرض، وكذلك بخلق السماوات والأرض، فهذا كله موجود وكذلك بخلق الإنسان أول مرة، إذن: الاعتبار بخلق الإنسان أول مرة, الاعتبار بخلق السماوات والأرض, الاعتبار بإحياء الأرض وهي ميتة، بين ربنا -سبحانه وتعالى- البعث ودل عليه نصًا، وذلك في قول الله –تعالى- ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?6 ? وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ?7 ? ? [الحج: 6، 7]، إذن: هذا نص واضح أن الله –تعالى- يبعث من في القبور، ومَنْ هنا هي الموصولية، بمعنى: الذين. وأن الله يبعث الذين في القبور أي: حوتهم القبور، أما الذين لم تحوهم قبورهم فإن الله –تعالى- قادر عليهم.
أيضًا بيَّن ربنا -سبحانه وتعالى- البعث بالتنبيه والتأمل والاعتبار وذلك في عدة مشاهد في عدة مواقف في عدة سياقات:(9/5)
السياق الأول: سياق خَلْق الإنسان الأول، قال الله –تعالى-: ?أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ?77 ? وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ?78 ? قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ?79 ? ? [يس: 77- 79]، ?الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ?، أتى المشركون بعظام رميم نخرة وتعجبوا: إن محمدًا يزعم أن ربه يبعث الموتى بعد موتهم وأنه يجمع أشلاءهم وأشتاتهم فتعجبوا من هذه العظام النخرة التي إذا قبضوا عليها فركت بين أصابعهم، وسحقت بين أيديهم، هل الله الذي تزعم يا محمد قادر على إحيائنا بعد أن صرنا عظاماً نخرة؟ فقال ربي -سبحانه وتعالى-: ?أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ?77 ? وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ? نسي خلقه أي الخلق الأول ?قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ?78 ? قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ?79 ? ? [يس: 77- 79]، -سبحانه وتعالى- وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ? [الحج: 5]، فبين الله -تعالى- هنا أصل الإنسان الطينيّ والرحميّ، فأصل الإنسان الطينيّ أنه خلق من تراب، وأصل الإنسان الرحمي أن أصله ماء مهين ثم بعد ذلك صار نطفة، أي ماءً متجمدًا أو قطعة دم متجمدة ثم هذه النطفة المتجمدة علقت بعد ذلك بجدار الرحم فصارت علقة، فهذا أصل الإنسان فالذي خلقك أيها الإنسان من تراب والذي خلقك أيها الإنسان من ماء مهين، أليس بقادر على أن يبعثك بعد(9/6)
أن يجعلك ترابًا؟! لقد خلقك من تراب ثم بعد ذلك يميتك ويجعلك ترابًا أليس الذي خلقك من تراب أليس بقادر على أن يخلقك مرة ثانية من تراب؟! وأن يبعثك بعد أن أماتك؟! إنه قادر على كل شيء، ولذلك قال الله -عز وجل-: ?أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ? [القيامة: 36]، سدى أي: هملاً لا يجازى ولا يحاسب، يقول: ?وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ ? [الجاثية: 24]، فإذا ما متنا انتهى الأمر ليس هناك من حساب ولا جزاء ولا بعث ولا نشور، كيف يكون ذلك الأمر؟ فقال الله -عز وجل-: ?أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ ? الهمزة هنا للاستفهام الذي يقصد به الإنكار والتعجب، أيها الإنسان أتحسب أن تترك سدى؟!! -سبحان الله- ?أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ?37 ? ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ?38 ? ? اسمع الكلام الجميل: ?فَخَلَقَ فَسَوَّى ?38 ? فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ?39 ? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى ?40 ? ? [القيامة: 37- 40]، -سبحانه وتعالى- إنه قادر على كل شيء، طبعًا لا نقول: نعم، أو نقول: بلى، إنه قادر على كل شيء في الصلاة، فهذه الآيات بَيَّنت أن الله -تعالى- كما خلق الإنسان أول مرة من تراب من ماء مهين ثم يميته فيصيره ترابًا قادر أيضًا على أن يعيده مرة ثانية، وأن يبعثه مرة ثانية.(9/7)
التنبيه الثاني: التنبيه بإحياء الأرض على بعث الناس، الأرض جامدة هامدة لا ترى فيها نبتًا ولا شجرة ولا شيئًا متحركًا, أرض -سبحان الله- ما الذي يحدث؟ يأمر الله -تعالى- الريح أن تحمل الماء لتسقط على هذه الأرض فيسقط الماء بأمر الله -عز وجل- على هذه الأرض اليابسة الجامدة الهامدة ما الذي يحدث؟ الذي يحدث جزيئات هذه الأرض تهتز بأمر الله -عز وجل- ثم بعد ذلك تخرج ما بها من خير ونماء وعشب وخضرة ونبت بأمر الله -عز وجل- من الذي أذن لهذا النبت أن يخرج من هذه الأرض اليابسة؟ أرض يابسة، وهذا نبت حي من الذي أمر هذا النبت أن يخرج من هذه الأرض؟ إنه الله -عز وجل- إذن: هذا أمر يحتاج إلى تأمل فقال الله -تعالى-: ?وَمِنْ آيَاتِهِ ?، إذن: هناك آيات كثيرة لله -عز وجل- آيات كثيرة ومن آيات الله -عز وجل- التي تستحق أن تتدبر وأن تنظر وأن تفهم وأن تتأثر بها أيها العبد: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ? [فصلت: 39]، فانظر كيف أن الله -تعالى- صوَّر الأرض الساكنة الخاملة غير المتحركة بالخشوع ?فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المُوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [فصلت: 39] إذن: الذي أحيا الأرض يحيي الإنسان ويبعثه مرة ثانية إذن: هذا هو التدبر الثاني والتنبيه الثاني: التنبيه بإحياء الأرض على بعث الإنسان مرة ثانية.(9/8)
التنبيه بخلق السماوات والأرض على بعث الإنسان: بعد موته قال الله -تعالى-: ?لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ? [غافر: 57] أيهما أعظم خلقك أنت أيها الإنسان أم خلق السماء؟ خلقك أنت أيها الإنسان أم خلق الأرض؟ فالذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، -سبحانه وتعالى- قال الله -تعالى-: ?أَوَ لَمْ يَرَوْ ? أو لم يرَ المشركون أو لم يرَ المكذبون ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادرٌ ? [الإسراء: 99]، خلق السماوات من غير عمد وبسط الأرض ومهدها قادر على أن يخلق مثلهم، ألا يرون ذلك؟! ألا ينظرون في ذلك الأمر ألا يعتبرون؟ وقال- تعالى-: ?أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ?27 ? ? -سبحانه وتعالى- ?رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ?28 ? وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ?29 ? ? [النازعات: 37- 39]، ودلت النصوص على أن البعث بعد الموت إنما يكون بعثًا لأجساد الناس التي كانت في الحياة إذن: هذا الجسد الذي كان في الحياة نفسه هو الذي يبعث بعد الموت، انتبه لهذه المسألة، يعني هذا الجسد جسدك هذا بيديك برجليك بأذنيك بعينيك بسمعك ببصرك بأنفك بشعرك بجلدك هذا الجسد هو الذي تبعث عليه عندما تنشر من قبرك، فليست هناك أجسادًا جديدة تبعث عليها وإنما هو جسدك الذي متَّ عليه يبعثك الله -تعالى- عليه -سبحانه وتعالى- ولذلك عَجِب المشركون فقالوا: ?بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ? [ق: 2]، عندما ذَكّرَهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بالبعث ?أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ? [ق: 3]، قال الله -تعالى-: ?قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ? [ق: 4]، ?مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ ? أي: ما تأخذ من أجسادهم، فإن الناس(9/9)
عندما يُقبرون ينتفخون ثم ينفجرون ثم تأكلهم الأكلة ثم تأكلهم الأرض فلا يبقى منهم إلا ما أذن الله -تعالى- فيه، فالإنسان تأكله الأرض شيئًا بعد شيء ?قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ ? -سبحانه وتعالى- فالمشركون تعجبوا عندما يصيرون ترابًا وعظاماً يُبعثون مرة ثانية، أي هذا العظام وهذا التراب يجعل الله -تعالى- منه خلقًا آخر على نفس الخلق الذي كانوا عليه هذا أمر عجيب ?بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ? [ق: 2] وذكر ربنا -سبحانه وتعالى- أنهم يُحشرون يوم القيامة فقال: ?وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ?19 ? حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا ? بما كانوا ماذا؟ ?بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?20 ? وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?21 ? ? [فصلت: 19- 21]، إذن: لجلودهم، لجلودهم التي يعرفونها، يا أيتها الجلود كيف تَشهدِين علينا؟ فتنطق هذه الجلود فتقول: ?أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?21 ? وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ ?22 ? ? [فصلت: 21، 22]، إذن: هذا نص قوي أن هذه الأبصار وأن هذه الأرجل وأن هذه الأيدي وأن هذه الجلود التي كانوا يعرفونها في الدنيا هي التي تشهد عليهم يوم القيامة، فنسأل الله -تعالى- العافية.(9/10)
وكذلك الحديث الذي قلته لكم منذ قريب حديث أبي هريرة في البخاري ومسلم في شأن الرجل الذي أسرف على نفسه ولم يعمل حسنة قط: (وقال لأولاده: انظروا يومًا مطيرًا عاصفًا ثم أحرقوني واسحقوني وذروا نصفي في الماء ونصفي في الهواء) الحديث، فيه أن الله -عز وجل- أمر البر والبحر بأن يخرج ما فيه وأن الجسد عاد كما كان، إذن: هذا دليل على أن الله -تعالى- عندما يبعث الناس فإنما يبعثهم على أجسامهم التي كانوا عليها في الدنيا وهذا بخلاف عندما يدخلون الجنة ويتنعمون فيها، فإنهم يدخلون فيها على أطوال كثيرة وردت في الحديث وهذا سيأتي عندما نتكلم عن الجنة وعن أهلها.
إذن: الفكرة الثانية والعنصر الثاني: هو أن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون، كما بدأهم في خلقهم ثم بعد ذلك يتوفاهم يعودون مرة ثانية بأجسادهم التي كانوا عليها في الدنيا.
الفكرة الثالثة: إثبات الجزاء ووجوب الإيمان به:
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن الله -سبحانه وتعالى- ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات) إلى آخر ما قال، قوله: (وأن الله -سبحانه وتعالى- ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات) هذا قيد لعباده من؟ المؤمنين، والصفة قيد، لعباده المؤمنين فالمؤمنين صفة لعباد منصوبة أم ماذا؟ لعباده المؤمنين صفة منصوبة أم مرفوعة أم مجرورة؟ من يعرف؟ تفضل؟
صفة مجرورة
والموصوف وأن الله -تعالى- ضاعف لعباده المؤمنين؟
اللام حرف جر، وعباد اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة والهاء مضاف إليه والمؤمنين صفة لعباد مجرور وعلامة الجر الياء
أحسنت، ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، الصفة- كما يقول الأصوليون- قيد، فيها تخصيص فالله -تبارك وتعالى- لا يُضاعف لعباده الحسنات إلا بقيد الإسلام، وهنا قال: المؤمنين فليس معنى ذلك أن المسلمين لا يدخلون تحت هذا الخطاب ولكنهم يدخلون أيضًا تحت هذا الخطاب وسيأتي الحديث في مسألة الإسلام والإيمان في حينه -إن شاء الله-.(9/11)
وهذا فيه بيان على كرم الله -عز وجل- وجوده وإحسانه وسعة عطاياه فالعبد يأتي بالشيء الحسن يجازيه الله -تبارك وتعالى- به بالحسنة يجازيه بها عشرة أمثالها إلى أضعاف كثيرة كما قال الله -سبحانه وتعالى-: ?مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ ? [البقرة: 261] معنى ذلك: أن الحسنة تصل إلى سبعمائة حسنة تصل إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء، إذن: ليس هناك حد أعلى أو سقف أعلى، لجُود الله -عز وجل- مكافأة الله -عز وجل- لعباده الصالحين أو لعباده المؤمنين أو لعباده المسلمين ليس لها حد وليس لها سقف، بل هي واسعة عظيمة، قال الله -عز وجل-: ?مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? [الأنعام: 160] وهذا من جوده- سبحانه- أن السيئة بمثلها والحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف مضاعفة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء، وقال الله -عز وجل-: ?مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ? [البقرة: 245]، اسمع ?أَضْعَافاً كَثِيرَةً ? إذن: ائتِ بالخير وافعل الخير وستجد العاقبة عظيمة عند الله -سبحانه وتعالى- ?مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ? [البقرة: 245].(9/12)
لو أننا حاولنا أن نقرأ القرآن ونأتي بالألفاظ التي تبين علاقة المكلف بربه ولكن بصيغ التجارة: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ? [التوبة: 111]، قال الله -تبارك وتعالى- ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم ? [الصف: 10]، ?يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ? [فاطر: 29]، ?مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَن ? [الحديد: 11]، -سبحان الله- إذن: هذه الآيات وأمثالها تبين أن الله -تعالى- واسع العطاء.
وكذلك في البخاري ومسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يروي عن ربه: (إن الله كتب الحسنات وكتب السيئات، فمن هَمَّ بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، وإن فعلها كُتبت له عشرُ حسنات، إلى أضعاف كثيرة، فإن هَمَّ بسيئة فلم يَعملها كتبت له حسنة، فإن علمها كُتبت له سيئة واحدة) هذا جوده وهذا كرمه -سبحانه وتعالى-.(9/13)
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات) ما المقصود بالكبائر؟ الكبائر: جمع كبيرة والكبيرة كل ذنب جُعِل له حد في الدنيا، أو وعيد يسمى كبيرة، الوعيد أي: توعد صاحبه باللعنة بالغضب بالسَخَط بالمقت بالنار بعدم دخول الجنة، فهذا كله يسمى كبيرة، حد كالزنى: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ? [النور: 2]، إذن: هذا حد ?السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَ ? [المائدة: 38]، القتل: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، ومنها: قاتل النفس) فقاتل النفس هذا يقتل؛ لأن الشريعة أتت للمحافظة على كليات اعتبرتها, من هذه الكليات: الدم، فالأصل أن دم المسلم معصوم لا يجوز سفكه إلا ببرهان ونص، لكن أن يقتل المسلمون بالظنة والتخمين فهذا كله لا يجوز، إذن: قتل القاتل وقطع السارق وجلد الزاني هذه كلها حدود, فمعنى ذلك أن الزنى والقتل والسرقة ونحوًا من ذلك تسمى ماذا؟ تسمى كبائر، أو كان عليها وعيد كعدم دخول الجنة: (لا يدخل الجنة ديوث) ديوث الذي يرى العيب في أهله ثم لا ينكر، لا يدخل الجنة، إذن: هذا وعيد، هذا تهديد، فهذا يدل على أن الدياثة كبيرة من الكبائر، الكذب قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار) فهذا دليل على أن الكذب من الكبائر وهكذا، وهناك من الأئمة من جمع الكبائر وصنف فيها مثل الإمام الذهبي فأوصلها عدة عشرات من الكبائر.(9/14)
قال المصنف: (وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات) التوبة: يُكفِّر الله -تعالى- بها عن السيئات، كبيرها وصغيرها، قال الله -تعالى- ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيع ? [الزمر: 53]، كلمة جميعًا تأكيد للذنوب، والألف واللام في الذنوب هي الألف واللام الجنسية، فجنس الذنوب يغفره الله -عز وجل- كبر أو صغر، عظم أو دق، فالله -تبارك وتعالى- ? يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [الزمر: 53]، وذكر الله -تعالى- في شأن المتقين أنهم: ? إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ?135 ? أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ?136 ? ? [آل عمران: 135، 136]، وأمر الله -تعالى- بالتوبة فقال: ?وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? [النور: 31]، فالله -تبارك وتعالى- أمر بالتوبة, فالتوبة مما يكفر الله -تعالى- بها عن كبائر الذنوب، والتوبة لها أركان يعني حتى تكون التوبة توبة نافعة لصاحبها ويكون حاله كحال التائب من الذنب الذي لا ذنب له بل يكون حاله بعد التوبة أفضل من حاله قبل التوبة لابد من عدة أمور:
الأمر الأول: الإقلاع عن الذنب دون تسويف، يعني عندما يعلم أن الخمر حرام، لا يقول: أمكث الليلة في شرب الخمر وأبدأ التوبة من غدٍ، أو هو يوم الثلاثاء أو يوم الأربعاء، يقول: أبدأ التوبة من يوم السبت، من أول الأسبوع، هذا كله لا يجوز، ولكن لا بد من الفور عند التوبة، فلابد أن يقلع عن الذنب فورًا دون تسويف هذا أول أمر.(9/15)
الأمر الثاني: لابد من الندم على الذنب، فلا تنظر إلى الذنب سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، ولكن انظر إلى ربك، كيف أنك عاديت ربك، وكيف أنك بفعلك لهذا الذنب تجرأت عليه -سبحانه- فلابد أن تراعي هذا المعنى وأن ترجع إلى ربك وألا تكون من هؤلاء الذين لا يوقرون الله -تعالى- ولا يعظمونه - نسأل الله تعالى العافية وأن يغفر لنا ذنوبنا كلها، عظيمها وقليها-.
الأمر الثالث: النية الصادقة ألا يعود إلى الذنب مرة ثانية، نية صادقة عزيمة وإرادة جازمة ألا يعود إلى ذلك الذنب مرة ثانية.
الأمر الرابع: إن كان هناك حق من حقوق الآدميين فيجب عليه أن يستوفي هذا الحق، برده إلى صاحبه أو أن يُعفى عنه، فهذا كله من الأمور التي تكون نافعة في مسألة التوبة، فحتى تكون توبتك توبة صادقة صالحة لابد أن تراعي هذه الأمور.
هناك أسباب أخر للتوبة في قول الشيخ: (وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات)
1- التوبة:
لا.. كبائر السيئات لا يُصفح عنها بالتوبة فقط، ولكن هناك أسباب أُخر، غير ما ذكر الشيخ -عليه رحمة الله- من ذلك:
2- الاستغفار: كقول الله -عز وجل-: ?فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ?10 ? يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً ?11 ? ? [نوح: 10، 11]، وفي البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أذنب العبد ذنبًا، قال: أي ربي أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فيقول ربي: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويجازي به، قد غفرت لعبدي، ففي الثالثة أو الرابعة يقول الرب الجليل -سبحانه-: قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء) وسبق أن علقت على هذا الحديث، إذن: الاستغفار، لابد من الاستغفار،إذن: الاستغفار من الأسباب التي بها تُكفر الكبائر(9/16)
3- الحسنات الماحية: في قول الله -تعالى-: ?إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ? [هود: 114]، والنبي -عليه الصلاة والسلام- في قصة حاطب بن أبي بلتعة هذه القصة موجودة في الصحيح عندما نقل خبر المسلمين إلى نفر من قريش، فعندما أُوتي بالكتاب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (والله يا رسول الله ما فعلت ذلك ردة عن ديني ولا رضىً بالكفر بعد الإسلام) إلى آخر ما قال، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قَبِل عذره وقال: (إنه قد شهد بدرًا وإن الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) فحاطب بن أبي بلتعة فعل ذنبًا عظيمًا وهو ذنب التجسس ونقل أخبار المسلمين إلى الكفار، هذا ذنب أعظم من القتل وأعظم من الزنى وأعظم من السرقة؛ لأنه بنقل هذا الخبر، قد تحدث مقتلة عظيمة للمسلمين ومع ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر أنه قد غُفر له لماذا؟ لأنه شهد بدراً، فمشاهدة بدر حسنة ونقله لهذا الخبر كبيرة فهذا دليل على أن الحسنات العظيمة تُمحى بها السيئات، وهل من الشرط أن تكون الحسنة عظيمة لتمحى بها السيئة العظيمة؟ ليس شرطًا أن تكون الحسنة عظيمة لتمحى بها السيئة العظيمة فقد ثبت في الصحيح أن امرأة بغيًا سقت كلبًا فغفر الله لها بسقيا هذا الكلب، وبغي على وزن فعيل صفة مشبهة أي كثيرة البغاء ومع ذلك سقي الكلب كان حسنة بسبب هذه الحسنة كفر الله -تعالى- عن هذه الكبائر التي فعلتها، الحسنات الماحية.
4- كذلك من هذه الأسباب دون استقصاء، المصائب التي تحل بالمرء، وهذا قول النبي -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا غم ولا حزن) هذا كله (حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله بها من خطاياه).(9/17)
قال المصنف: يعني بعد أن ذكر المصنف أن الله -تبارك وتعالى- يصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات وأن هناك أسباب أُخر غير التوبة كالاستغفار كالحسنات الماحية كالمصائب كشفاعة المؤمنين بالصلاة عليه في الجنازة كشفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، كأعمال البر التي تصنع له، كضغطة القبر وهوله كل هذه من الأسباب التي يكفر الله -تعالى- بها كبائر المسلم، قال المصنف: (وغفر لهم الصغار باجتناب الكبائر) فإذا ما اجتنب المسلم الكبائر غفر الله -تعالى- له الصغائر، والصغائر ما دون الكبيرة، قال الله -تعالى-: ?إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيم ? [النساء: 31]، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- والحديث مُخرج في صحيح مسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مُكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).(9/18)
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته) التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن كانت له حسنات ماحية أو كانت له مصائب أو ما إلى ذلك من الأسباب نفعته هذه الأسباب، فمن لم يكن له مُكفر يكفر عن كبيرته، أو من مات ولم يتب في علمنا ولم يتب من ذنبه كما نعلم، فهذا الرجل نجعل أمره إلى الله -عز وجل- فأهل الكبائر نرد أمرهم إلى الله -عز وجل- إن شاء عفا عنهم ابتداءً فأدخلهم الجنة، وإن شاء حاسبهم فعاقبهم بقدر ما فعلوا من ذنب أو خطيئة أو كبيرة أو جُرم، وهذا كله متعلق بمشيئته- سبحانه- ولكن لا نتوعدهم بنار، لا نقول: بأن أهل الكبائر الذين ماتوا دون توبة متوعدون بالنار فالذين يقولون بذلك هم الوعيدية، ولكن نقول: هم صائرون إلى الله -تعالى- إن شاء عفا عنهم برحمته وجوده وإحسانه, وإن شاء عاقبهم وذلك بعدله وفضله، نسأل الله -تعالى- أن يعاملنا بجوده وإحسانه وأن ييسر أمورنا وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وحتى يكون الأمر واضحًا فإن هذا دل عليه النص قال الله -تعالى-: ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ? [النساء: 48]، إذن: كل الذنوب دون الشرك موكول أمرها إلى الله -عز وجل- إن شاء ربي -سبحانه وتعالى- أن يغفر لأصحابها وإن شاء عذبهم كما شاء، قال- تعالى-: ?وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ? [التوبة: 106]، فنرجو من الله -عز وجل- أن يتغمدنا بفضله وأن يرحمنا وأن يتوب علينا وأن يتجاوز عن سيئاتنا وأن يجعل عاقبتنا خيرًا وبركة، وصلي اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات لأسئلة الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: كيف تؤمن بالرسل مجملاً؟(9/19)
وكانت الإجابة: الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان فالإيمان بالرسل يكون مجملاً ومفصلاً، ومجملاً من غير تعيين، يجب أن نؤمن بأن الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسلاً إلى الجن وإلى الإنس ليبلغوا الناس دينهم، فقد ذكر الله –تعالى- في القرآن الكريم خمسة وعشرين نبيًا ورسولاً يجب أن نؤمن بهم جميعًا مجملاً ومفصلاً أما فيما يخص" مجملاً": أرسل الله -سبحانه وتعالى- رسلاً وأرسلهم إلى أقوامهم ومن المجمل أيضًا: الإيمان بعدد الأنبياء الذين ذكر الله لنا أسماءهم فمن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلزم الإيمان بكل الرسل
هذا جيد- ما شاء الله لا قوة إلا بالله- لكن الإيمان بأعيان الرسل الخمسة والعشرين الذين ذكروا هذا يدخل في المجمل من جانب كما يدخل في المفصل من جانب آخر.
كان السؤال الثاني فضيلة الشيخ: فرق بين الرسول والنبي؟
وكانت الإجابة: الرسول: هو من بعثه الله -عز وجل- إلى المخالفين ليبين لهم الدين والنبي: هو المخبر عن الله -عز وجل- فكل من أوحى إليه الله، فهو نبي بُعث إلى أهل الدين يحتاجون إلى النبي يأمرهم وينهاهم ويذكرهم لذا قال -سبحانه وتعالى-، وذكرت الأخت مقولة النبي -صلى الله عليه وسلم-: قالت: قال الله -سبحانه وتعالى-: (العلماء وثة الأنيباء) وهذا خطأ من عندها
هذا طبعًا ليس هذه آية ولكن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العلماء ورثة الأنبياء).
السؤال الثالث: تكلم عن عصمة الأنيباء؟(9/20)
كانت الإجابة: الأنبياء معصومون مجمع عليها والصحيح أن الأنيباء معصومون من الوقوع في الشرك والكبائر لا قبل البعث ولا بعد البعث، قد يقع النبي في الصغيرة لكن دون تأويل بمعنى: لا يقعون فيها عمدًا ثم يتوبون ويكون حالهم أفضل بعد التوبة، الناس يظنون أن الأنبياء لهم كبائر مثل نبي الله شعيب -عليه السلام-، وقصة إبراهيم -عليه السلام- وقصة نبي الله ذي النون -عليه السلام- وقصة آدم -عليه السلام- وقصة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- محمد مع الأعمى لكن ليس هناك نبي يقع في الذنب قصدًا وعمدًا لكن يقع فيه ظنًا أنه ليس بذنب، وإذا وقع فيه يتوب إلى الله –تعالى-.
هذا جيد، لكن هناك جملة مضت قبل التي متعلقة بالتأويل فتحتاج إلى ضبط فقط، الجملة.
قد يقع النبي في الصغيرة لكن دون تأويل بمعنى لا يقعون فيها عمدً.
لا.. كيف ذلك يعني يقعون في الصغيرة دون تأويل أم بتأويل؟ لا.. بتأويل، نعم فلو تُصور وقوع النبي في الصغيرة فإنه يقع فيها متأولاً، أي لا يقصدها كقول الله -عز وجل-: ?فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْم ? [طه: 115]، ولكنه لا يقصدها قصدًا، ثم إذا فعلها لا يُقَّر عليها بل إنه يسارع في التوبة ويكون حاله بعدها أفضل من حاله قبلها والله تعالى أعلى وأعلم.
الأخت الكريم من المغرب يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يستنبط من قوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيب ? [النساء: 1]، اطلاعه- تعالى- وعلمه وفوقيته واستوائه وجزاكم الله خيرًا؟
الآية واضحة، وأسأل الله –تعالى- أن يزيدك توفيقًا وهداية ورشادًا.
الأخت الكريمة من الأردن تقول: آكل الربا الذي يتخبطه الشيطان من المس في الدنيا، ماذا نسميه؟ هل هو عذاب في الدنيا فيُخفف عن صاحبه في الآخرة؟(9/21)
هذا من عاجل عقوبة الله -عز وجل- أن يأخذ المرابي ليعاقبه: ?الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ? [البقرة: 275] ذلك بأن الله أحل لهم شيئًا وهو البيع وحرم عليهم شيئًا وهو الربا فأبوا إلا أن يحاربوا الله -عز وجل- فهؤلاء القوم الذين يتقلبون في المصائب بسبب الربا إنما هذا جراء ما صنعوا وأزعم أن ليس هذا من تكفير الذنب ولكن هذا من عاجل عقوبة ثم هناك الذي ينتظرهم يوم القيامة فنسأل الله –تعالى- أن يأخذ بأيدينا إلى محابه ومراضيه.
الأخ الكريم من مصر يقول: بعض الناس ينكر عذاب القبر فكيف نرد عليه؟(9/22)
هذه المسألة خاض فيها بعض الذين ينبغي لهم أن يتعلموا دين الله -عز وجل- فقالوا: بأن عذاب القبر ليس عذابًا حقيقيًا ولكنه أمر نفساني، وقالوا: بأنه لا يوجد من النصوص ما يدل استقلالاً على عذاب القبر وهذا كلام في قمة الفساد فقد ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث عائشة كان يتعوذ بالله -عز وجل- في كل صلاة في نهايتها من عذاب القبر: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال، ومن المغرم والمأثم)، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- من جملة ما يتعوذ به عذاب القبر، ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا فوجد امرأة يهودية تذكر عائشة بعذاب القبر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعوذوا بالله من عذاب القبر)، والنبي -عليه الصلاة والسلام- النصوص الثابتة عنه في إثبات عذاب القبر ونعيمه كحديث البراء وهو حديث طويل نصوص كثيرة بحيث صار هذا الأمر أي: إثبات عذاب القبر من جملة اعتقاد أهل السنة والجماعة وقال الله -عز وجل-: ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ? [غافر: 46]، فصار هناك عدة أمور، ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِي ? آل فرعون أغرقوا فماتوا، فيا تُرى ما هي الحال التي يكون فيها الغدو والعشي؟ هل يكون ذلك في الدنيا أم يكون ذلك بعد البعث ويوم الساعة، وعند الفصل بين الناس ثم بعد ذلك الجنة والنار؟ الجنة والنار ليس هناك زمن انتهى الزمن في هذه الدور ليس هناك نهار ولا ليل ليس هناك قيظ ولا شتاء، هناك الأمور مختلفة تمامًا ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِي ? هذا متعلق بالقبر، فهم يعذبون ليلَ نهار في القبر، والقول ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِي ? أي يعرضون عليها دائمًا في كل وقت فإن هذا يسمى من الظروف المركبة، والظروف المركبة(9/23)
تدل على العموم، كأن تقول: قابلته ليلَ نهار، صبح مساء، أي: قابلته في كل وقت، وكذلك ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِي ? أي: النار يعرضون عليها في كل وقت لا يكون ذلك إلا في القبر، فإثبات القبر ثابت- وإن شاء الله- لنا حديث في مسألة القبر وإثباته وبيان بعض الشبهات في هذه المسألة والرد عليها - بإذن الله سبحانه وتعالى-.
فضيلتكم ذكرتم المقصود بالكبائر: كل ذنب جعل له حد في الدنيا أو وعيد، ثم ذكرتم في نهاية الحديث: لا ينبغي علينا أن نكون من الوعيدية، أن نتوعد أحد بالنار؟ فكيف نفرق في ذلك؟
الوعيدية عندما تطلق يقصد بها طائفتان: الطائفة الأولى: الخوارج، والطائفة الثانية: المعتزلة، الخوارج الذين توعدوا العصاة من أهل القبلة بالخلود في النار على أنهم كفروا بهذه الذنوب، إذن: الخوارج كفروا عصاة المسلمين وتوعدوهم بالخلود في النار، المعتزلة قالوا: بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا وليس بكافر وسموه فاسقًا، ولكنهم توعدوه بالخلود في النار، الفارق بين المعتزلة والخوراج أن الخوارج كفروا مرتكب الكبيرة والمعتزلة لم يكفروه وإنما فسقوه، ووجه الاتفاق أن الخوارج جعلت مآل مرتكب الكبيرة الخلود في النار وكذلك المعتزلة، فاختلفوا في الاسم واتفقوا في المآل، فكلاهما توعد مرتكب الكبيرة بالخلود في النار، مع اختلافهم في الاسم يا ترى كافر أم فاسق؟ وهاتان الفرقتان، فرقتان ضالتان خارجتان عن منهج أهل السنة والجماعة، فعندما نقول: بأن هناك بعض الذنوب كان الوعيد لأصحابها فالوعيد ليس معناه التخليد في النار، ولكن الوعيد معناه هنا التهديد كاللعن كالغضب كالسخط كالمقت كالخروج من الجنة كدخول النار من غير خلود، وما إلى ذلك، فهذا كله من جملة الأشياء التي نقصدها.(9/24)
الأمر الثاني: أن الكبائر تتفاوت بتفاوت الكبيرة نفسها، كما تتفاوت بتفاوت فاعلها، فالشرك بالله كبيرة والقتل كبيرة وقطع الرحم كبيرة, ولكن ما هي أشد هذه الكبائر؟ الشرك بالله، أليس كذلك؟ إذن كلهم كبائر ولكن تتفاوت الكبائر من حيث الأعيان، من حيث عينها، أيضًا تتفاوت الكبائر من حيث فاعلها، فلو أن رجلاً عالمًا شرب الخمر، ورجلاً جاهلاً سفيهًا شرب الخمر، لكان كلاهما شارباً الخمر، وكان كلاهما فاعلاً كبيرة ولكن الكبيرة فيها عند هذا تغلظ وتعظم وتشتد ليكون إثمها عليه أعظم من هذا الآخر فالكبيرة تتفاوت بتفاوت فاعليها كما تتفاوت بتفاوت أفرادها، فهذه مسألة مهمة جدًا وأرجو أن تكون واضحة.
الأمر الثالث: أن الصغيرة قد تنقلب إلى كبيرة، وذلك بالإصرار، الصغائر تنقلب إلى كبائر بالإصرار والإصرار غير الاستحلال، الإصرار كأن يقول: نعم أعلم أني مذنب ولكن سآتي الذنب مرة ثانية، إذن: هذا إصرار لكن لو قال: إن هذا الذنب حلال وأنا سأفعله؛ لأني لا أقتنع بأنه حرام إذن: هذا كفر- والعياذ بالله- فالمصر على الذنب هذا عاصٍ أما مستحل الذنب كافر- نسأل الله تعالى العافية- يعني لو واحد قال: بأن الزنا حلال ولا بأس بأن الناس تستحل فروج بعض، هذا كافر، كما حدثت مع طائفة القرامطة, فالقرامطة كانوا يستبيحون فروج بعضهم البعض، فكان الرجل يستبيح فرج ابنته فيقول: كيف لي أن أُربي ابنتي حتى يستبيحها رجل أجنبي، فأنا أولى بابنتي من غيري، -انتبه لهذا- فهذا كفر بالله العظيم؛ لأنه يستحل ما حرم الله ليس هذا من جنس الذنب هذا كفر، لكن الذي يأتي بالذنب- الزنا أو القتل أو شرب الخمر- ويعلم أنه ذنب ويعلم أنه مخالف ويعلم أنه عاصٍ فإنه بذلك يكون مذنبًا يكون عاصيًا والخير فيه مأمول، قال الله –تعالى-: ?وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? [آل عمران: 135].
واضح يا أخي هذا الحديث؟
نعم
لو سألتكم ماذا فهمتم تجيبوني؟
إن شاء الله.(9/25)
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندي سؤالان لو سمحت:
السؤال الأول: ذكرتم فضيلة الشيخ، أن أدلة إمكان البعث ثلاثة: أولاً: الاعتبار بخلق الإنسان أول مرة، ثانيًا: الاعتبار بخلق السماوات والأرض، ثالثًا: الاعتبار بإحياء الأرض وهي ميتة فهل يمكن الاستدلال بآية النوم والاستيقاظ في قوله- تعالى-: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَ ? [الزمر: 42]، الآية، وفي الحديث ما معناه: (إنكم ستموتون كما تنامون وتبعثون كما تستيقظون)؟
السؤال الثاني: ذكرتم فضيلة الشيخ أن للتوبة شروطاً، ومنها: إذا كان هناك حق من حقوق الآدميين يستوفي الحق برده لصاحبه أو يعفو عنه فإذا كان الحق غِيبة لمسلم والوقوع في عِرضه، فهل الأفضل أن يستسمحه في ذلك أو يدعو له خاصة إذا ترتب على إعلامه بذلك زيادة عداوة أو حقد أو غير ذلك؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم كان له سؤلان:
سؤاله الأول: عن قولكم في أدلة إمكان البعث هل يمكن الاستدلال بآية النوم: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ?؟
هذا جيد، والإشكال أننا عندما تكلمنا عن البعث تكلمنا عن بعث أنكره المشركون ولم يستوعبوا صورته، وبعث التراب والعظام الرميم فكلام الأخ جيد ومعتبر- جزاه الله خيرًا-.
سؤاله الثاني فضيلة الشيخ: عن شروط التوبة في استيفاء الحق للغير ومثل بالغيبة الاستسماح أو الدعاء له وأن الاستسماح قد يورث الحقد في قلب المستسمح؟(9/26)
-والله- إن كنت تعلم إن هذا الرجل عنده من سعة القلب وسعة الصدر والمعروف والبر والإحسان ما به ينفسح لقبول توبتك، والعفو عنك، فلابد أن تصارحه وأن تقص عليه تقول له: والله صنعت كذا وكذا وكذا وإني أستسمحك فيما صنعت معك أو فيك، وإن كنت تعلم أنه ضنين بذلك، وأنه قد يترتب على ذلك ما لا يحمد عقباه فالأولى أن تستر ذلك الأمر وأن تكثر من الدعاء له لعل الله –تعالى- أن يغفر لك بذلك، والله تعالى أعلى وأعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندي إضافة بسيطة بخصوص شروط التوبة وعندي سؤالان: أولاً الإضافة يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: «ينسى الناس شرطًا هامًا من شروط التوبة وهو الإخلاص»، وإن كان في كل عمل، لكن يقول ينساه كثير من الناس ومثل بشارب الدخان الذي يمرض ثم يتوب من أجل المرض لا من أجل الله،
السؤالان: السؤال الأول: حديث الرجل الذي قال لأولاده: (لئن قدر الله علي) أريد توجيهاً لقوله: (لئن قدر)، هل معناه التضيق أم هناك توجيه آخر؟
السؤال الثاني: ما معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وإن الله كتب الحسنات والسيئات)؟ .
فضيلة الشيخ الأخ الكريم سؤاله الثاني: عن حديث الرجل الذي قال لابنيه:( لئن قدر الله علي) إلى نهاية الحديث، يريد توجيهاً في قوله: (لئن قدر)؟(9/27)
هذا الحديث من الأحاديث التي كثر الخوض فيها، هل المقصود (لئن قدر الله علي) من التقدير بمعنى التضييق، ومنه قوله -سبحانه وتعالى- ?وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ? [سبأ: 11]، أي ضيق في السر حتى يكون بقدر أجساد من يلبسون هذا الحديد؟ هذا الوجه ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وأفسده من وجوه عديدة، وقال: «إن السياق يدل على فساد هذا القول؛ لأن الرجل كان مسرفًا على نفسه وهذا الرجل ظن أنه إن فعل ذلك أن الله –تعالى- لن يقدر عليه»، فالمسألة ليست متعلقة بالتضييق ولكنها متعلقة بالقدرة فهذا الرجل كان جاهلاً قدرة الله -عز وجل- على البعث، كان جاهلاً ليس منكرًا وفارق بين الجهل والإنكار فهذا الرجل كان جاهلاً قدرة الله –تعالى- على البعث، وكان يتصور أن الله –تعالى- لو قدر عليه، يعني هو كان جاهلاً هذه القدرة، ويتصور أنها لو حدثت فإن الله –تعالى- سيعذبه عذابًا شديدًا فكان مشفقًا على نفسه أن لو حصلت هذه القدرة أن يعذبه الله -عز وجل- فلما قدر الله عليه، فجمع جسده وسأله: ما حملك على هذا؟ قال: (خشيتك يا رب) وفيه دليل لأهل السنة أن الرجل قد تجتمع فيه شُعَب الإيمان كما تجتمع فيه شعب الكفر، أيضًا فيه دليل على من ذهب إلى مسألة الإعذار بالجهل فهذا رجل كان جاهلاً قدرة الله -عز وجل- ومع ذلك كان عنده من قوة الإيمان ومن الخوف من الله -عز وجل- وهذه أعمال قلبية ما جعل الله –تعالى- يغفر له ذلك الجهل ويأمر به فيدخل الجنة وتمام ذلك يراجع مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله-.
كان سؤاله الثاني فضيلة الشيخ: ما معنى (إن الله كتب الحسنات وكتب السيئات)؟
الكتابة هنا هي الكتابة التي عند ربي -عز وجل- في كتاب فهي عنده على العرش فوق السماء ?لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ? [طه: 52].(9/28)
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من السعودية تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الربا من الكبائر فهل المرابي وآكل الربا وموكله حد أم أن عليه وعيدًا فقط؟
اللعن في صحيح مسلم وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبيه وشاهديه، وقال: هم سواء)، فهذا لعن شديد واللعن معناه: الطرد من رحمة الله -عز وجل- وإمام المسلمين إذا وجد الرجل يرابي ولا يقلع عن الربا جاز له أن يعاقبه العقوبة البالغة التي يكون فيها ردع له ولأمثاله من المخالفين لشرع الله -عز وجل- والعقوبة تكون من باب التعزير لا من باب الحدود- والله تعالى أعلى وأعلم-.
قال الله –تعالى-: ?وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ ? [الحج: 7]، وقال المصنف -رحمه الله-: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت)، فهنا عن عدم اقتدائه بقول الله -سبحانه وتعالى- حينما قلت فضيلتكم:( إن قوله أراد به أن الله -سبحانه وتعالى- يبعث جميع الأموات وليس الذين لهم قبور فقط، فهل قصد الله -سبحانه وتعالى- معنى غير ذلك؟
أنا ذكرت في سياق التعليق على كلام المصنف، أن عبارة المصنف عبارة تفسيرية، وأن نص الآية نص تقريبي؛ لأن معظم الموتى إنما يقبرون- والله تعالى أعلى وأعلم-.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ذكرت في كلامك أن قتل النفس يترتب عليه حد، والديوث يترتب عليه وعيد أليس يترتب على قتل النفس حد ووعيد في الآخرة أيضًا؟
نعم، نعم.
ما الحكم فيمن أنكر عذاب القبر جهلاً وليس تأويلاً؟
الجهل كالتأويل، كلاهما مانع من إيقاع الحكم بالتكفير، فلا ينسب الحكم بالتكفير لا إلى جاهل ولا إلا مؤول، وأسأل الله –تعالى- أن يمد لنا وقتًا بحيث نتكلم في بعض هذه المسائل عندما نتعرض لها - بإذن الله تعالى-.(9/29)
الأخت الكريمة من الأردن تقول: يقول بعضهم: إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار؟ ما مدى صحة هذا القول؟ مع شعورنا دائمًا بالتقصير؟
أي والله هذا قول سديد، قول صحيح؛ لأن الاستغفار يحتاج كي يُقبل إلى قلب، وقلوبنا تحتاج إلى طهارة، حتى يقبل الله –تعالى- منها هذا الاستغفار فنسأل الله –تعالى- أن يطهر قلوبنا، وألا يجعلنا من الذين قال فيهم: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ? [المائدة: 41]- نسأل الله تعالى العافية-.
ذكرتم في الإيمان بالرسل أنه يجب أن يكون الإيمان بالرسول أنه ذكرًا عاقلاً بالغًا مكلفًا ولا يتصور أن تكون النبوة في أنثى، ولكن قرأت في كتاب التذكرة في أحوال الموتى، للإمام القرطبي أنه ذكر أنه هناك خلاف بين العلماء: هل السيدة مريم نبية أم لا؟ وبعض العلماء استدلوا بقول الله –تعالى-: ?وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ ? [آل عمران: 42]، وذكر أيضًا قول الله –تعالى-: ?فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَ ? [مريم: 17]، فما وجه استدلال العلماء بهذه الأدلة وكيف ردوا عليها؟
باختصار شديد لم يذهب على- ما أعلم- هذا المذهب إلا القرطبي وابن حزم، وكلاهما من أهل المغرب، يعني: هذا الأمر إنما كان له رواج أو له أرضية في بلاد المغرب والأندلس، واستدلالهم في ذلك ليس بسديد، فكون أن الملائكة كلمت مريم ليس هذا نصًا بأنها نبية ويوحى إليها، فإن الملائكة ربما تؤثر في بعض الأشياء في الكون بمعطيات وبأمور- وبإذن الله تعالى- أحاول أن أجيب على هذا السؤال بشيء من التفصيل، بعد هذا المجلس لانتهاء الوقت- والله تعالى أعلى وأعلم-.
هلا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة
هناك سؤالان صغيران:
السؤال الأول: اذكر أدلة إثبات الساعة والبعث؟
السؤال الثاني: أسباب تكفير الذنوب؟
وجزاكم الله خيرًا(9/30)
المحاضرة العاشرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى اللهم صلي وسلم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ثم أما بعد.
سيكون حديثنا - إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء المبارك نسأل الله –تعالى- أن يجعله ثقلاً في ميزان حسناتنا وأن يكفر به عن كثير سيئاتنا سيكون متركزًا في نقطتين اثنتين:
النقطة الأولى: عدل الله –تعالى- وفضله.
النقطة الثانية: إثبات الشفاعة التي منها شفاعة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
فهيا بنا نسمع إلى ما قاله المصنف- عليه رحمة الله-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (ومن عاقبه الله بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله به جنته قال الله – تعالى-: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ?7?? [الزلزلة: 7]، ويُخرج منها بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- من شَفَعَ له من أهل الكبائر من أمته)
جزاكم الله خيرًا.(10/1)
بسم الله الرحمن الرحيم، قول المصنف -عليه رحمة الله-: (ومن عاقبه الله –تعالى- بناره أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به)أي: أدخله بإيمانه (جنته قال –تعالى-: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ?7?? [الزلزلة: 7]) الكلام هنا على مسألة الفاسق الملي وهو مرتكب الكبيرة الذي مات دون أن يتوب منها، فمذهب أهل السنة، وهو المذهب الأثري الصحيح الذي عليه أهل الأثر، والسلف الصالح- رضي الله تعالى عنهم جميعًا- من الصحابة والتابعين وتابعيهم وكان عليه الأئمة الأعلام وجرى عليه أهل الخير والصلاح والعلم والهداية والتوفيق من هذا الزمن إلى زمننا هذا إلى أن يشاء الله -عز وجل-: أن مرتكب الكبيرة متروك أمره إلى الله -عز وجل- إن شاء عفا عنه ابتداءً وهذا بفضله وجوده وإحسانه، وإن شاء ربنا -سبحانه وتعالى- آخذه بذنبه ثم بعد ذلك يخرجه من النار بفضله ومنته وجوده. فهذا المذنب مرتكب الكبيرة عندما يُعاقب فإن الله –تعالى- لا يظلمه، فإن ربك ليس بظلام للعبيد، ?وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ? ?76?? [الزخرف: 76]، فربك -سبحانه وتعالى- عندما يعاقبهم إنما يعاقبهم بذنوبهم ?فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ? [العنكبوت: 40]، فعقاب الله –تعالى- للمذنبين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم إنما هذا عدله- سبحانه- وتفضله عليهم بعد ذلك بإدخالهم الجنة وإنجائهم من النار إنما هذا جوده وإحسانه ورحمته، فإن أحداً لن يدخل الجنة بعمله، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- وإنما يدخل الناس الجنة برحمة ربهم -سبحانه- كما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- والجنة لن يدخلها إلا نفس مؤمنة أو نفس مسلمة، كما صح بذلك الخبر عن رسول -صلى الله عليه وسلم- وقال الله –تعالى-: ?إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ? [المائدة: 72] أما المسلم فإن(10/2)
مآله إلى الجنة، قال الله –تعالى- ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ? [النساء: 48]، وهذا هو الاعتقاد السلفي أن صاحب التوحيد الذي مات عليه حتى لو أتى من الكبائر ما أتى فإنه موكول أمره إلى الله -عز وجل- إن شاء عفا عنه ابتداءً وإن شاء عاقبه ثم أدخله الجنة انتهاءً هذا بعدله وهذا برحمته وفضله، هذا هو الاعتقاد السلفي في هذه المسألة.
وهذا الاعتقاد اعتقاد وسط بين اعتقاد الوعيدية وبين اعتقاد المرجئة ونحوهم:
- فالوعيدية من الخوارج والمعتزلة يتوعدون مرتكب الكبيرة بالخلود التام في النار، مرتكب الكبيرة متوعد بالخلود التام الذي لا يخرج من النار بسببه أبداً، فصاحب الكبيرة مخلد في النار أبدًا شأنه في ذلك شأن الكافر سواءً بسواء، هذا اعتقاد الخوارج والمعتزلة، وقلت لكم من قبل: بأن الخوارج والمعتزلة اختلفوا في الاسم ولكنهم اتفقوا في ماذا؟ في المآل والمنتهى، المعتزلة قالوا: بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا، قلنا: إذن: هو كافر؟ قالوا: ليس بكافر، إذن: هو ماذا؟ قالوا: هو فاسق، إذن: هو فاسق، أيكون في الجنة؟ قالوا: لا، أيكون في النار؟ قالوا: نعم، إذن: يدخل النار ثم يخرج؟ قالوا: لا يخرج منها شأنه في ذلك شأن المخلدين أبداً، فاتفقوا مع الخوارج في ماذا؟ في الحكم والنهاية، ولكنهم اختلفوا مع الخوارج في الاسم، فالخوارج جعلوه كافرًا والمعتزلة جعلوه فاسقاً ولكن النهاية واحدة.
- وأيضًا المرجئة ومن كان نحوهم قالوا: بأنه لا يضر من الإيمان ذنب فإن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، إيمانه تام، فالكبير لا تؤثر في الإيمان ولا تنقص منه. هذا اعتقادهم، هذا اعتقاد ليس بالصواب، وهذا اعتقاد ليس بالصواب.(10/3)
- أما اعتقاد أهل السنة والجماعة، الاعتقاد القصد، اعتقاد أهل الأثر، اعتقاد السلف الصالح، -رضي الله تعالى عنهم جميعًا- أنه مؤمن بما معه من إيمان، وأنه فاسق بكبيرته، وأنه مُتوعد ولكنه في هذا الوعيد داخل في مشيئة الله -عز وجل- إن شاء الله تعالى أمضى ذلك الوعيد وإن شاء عفا عنه، وإن أدخله النار، نفعه ما معه من الإيمان فكان مآله إلى الرضوان والجنان، نسأل الله –تعالى- أن نكون من أهل الجنة.
وأهل الكبائر عندما يعاقبهم الله –تعالى- بناره كما قال المصنف: (ومن عاقبه الله بناره) وهذا بسبب جرمه، بسبب كبيرته، فإن الله –تعالى- يخرجه منها بإيمانه، فلا يتساوى أن يكون الرجل مرتكباً للكبيرة فلا يتساوى مع الذي نبذ الإيمان كليًا وكان كافرًا برب العالمين، كلاهما في النار، ولكن هذا خالد مخلد فيها أبداً وهذا يخرجه ربنا -سبحانه وتعالى- فيشفع الله –تعالى- فيهم، يشفع الله –تعالى- في العصاة يشفع الله –تعالى- في هؤلاء العصاة، برحمته -سبحانه وتعالى- يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد والدارمي، وابن خزيمة وسنده صحيح على شرط الشيخين من حديث أنس: (أن أهل النار يقولون لمن دخل النار من العصاة: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا، فيقول الرب الجبار: فبعزتي لأعتقنهم من النار) العصاة يكونون مع أهل النار في النار، فيقول الكفار لهؤلاء العصاة: ما أغنى عنكم عبادتكم لله -عز وجل- ما أغنى عنكم توحيدكم، وهنا يشفع الله –تعالى- فيهم، فيقول- سبحانه-: (فبعزتي لأعتقنهم إلى النار فيرسل إليهم فيخرجون وقد امتحشو) امتحشوا أي: صاروا سودًا فحمًا- والعياذ بالله- (فيدخلون في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في جانب السيل)، الحبة: البقلة عندما تنبت في جانب السيل فإنها تنبت يخرج منها الفسيل الصغير منها، أو يخرج منها مجموعها الخضري ثم بعد ذلك تنتفش وتنتعش حتى تكون مباركة، (ويكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء الله -عز وجل- فيذهب بهم(10/4)
فيدخلون الجنة، فيقول لهم أهل الجنة هؤلاء الجهنميون، فيقول الجبار: بل هؤلاء عتقاء الجبار -عز وجل-) أهل الجنة يقولون: هؤلاء الجهنميون فيقول الله -عز وجل-: بل هؤلاء عتقاء الجبار -عز وجل-.
إذن: هذا الحديث الصحيح نصٌ أن الله -تبارك وتعالى- يخرج المذنبين العصاة من النار فيدخلهم الجنة برحمته وجوده -سبحانه وتعالى- وهذا الحديث له طريق أخرى عند الطبراني من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- وعند ابن أبي عاصم وصححه الألباني من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أخرج الله أهل النار من النار)، والمقصود بأهل النار هنا: الذين يخرجون من النار، الموحدون من العصاة، أو قل: العصاة من الموحدين، (إذا أخرج الله أهل النار من النار، بشهادة أن لا إله إلا الله، تمنى الآخرون لو كانوا مسلمين) وهذه الآية ?رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ? [الحجر: 2]، تأولها أنس -رضي الله تعالى عنه- كما تأولها عبد الله بن عباس أن الكفار يعايرون أهل الجنة، ما أغنى عنكم توحيدكم ما أغنى عنكم عبادتكم لله -عز وجل- فيأمر الله –تعالى- هؤلاء العصاة فيخرجون من النار إلى الجنة وعند ذلك يتمنى الكفار أن لو كانوا مسلمين. وعند ابن أبي عاصم في السنة وهذا الحديث أصله في البخاري وعند الإمام أحمد وابن خزيمة من حديث أنس أن نبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليصيبن أقوامًا سفع) أي: وهج ولفع وحر (من النار عقوبة بذنوب أصابوها ثم يدخلهم الله -عز وجل- الجنة بفضل رحمته) إذن: هناك شفاعة ربنا -سبحانه وتعالى- للعصاة المذنبين من المسلمين وهذه الشفاعة ينكرها المعتزلة كما ينكرها أيضًا الخوارج أي شفاعة الله –تعالى, عز وجل- بإخراج مرتكبي الكبيرة من النار هذه شفاعة ينفيها المعتزلة كما ينفيها أيضًا الخوارج.(10/5)
وإن شاء الله -عز وجل- لنا كلام في مسألة الذين يردون الشفاعة في نهاية الحلقة. فنسأل الله –تعالى- التوفيق والتيسير.
من الذين يشفع لهم ربنا -سبحانه وتعالى- فيخرجون من النار؟ من هؤلاء؟ هؤلاء هم أصحاب "لا إله إلا الله" هم العصاة من الموحدين هم العصاة من الموحدين وحتى لا يظن ظانٌّ أن المقصود بأصحاب لا إله إلا الله، كل من قال: لا إله إلا الله، حتى ولو كان منافقًا فإن هناك نصوص وردت وبينت أن لا إله إلا الله مقيدة بقيد هذا القيد هو أن يوجد مع لا إله إلا الله شيء في القلب، شيء من الحب من الخوف من الرجاء أن يوجد في القلب شيء من عمله ولابد من وجود هذا القيد، فالمنافقون كانوا يقولون: لا إله إلا الله، وهم من أعدى أعداء الإسلام بل هم في الدرك الأسفل من النار كما قال ربنا -عز وجل- وقال الله -عز وجل-: ?وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? [التوبة: 84]، فالمنافقون كفار، وهم أشد في الآخرة عذابًا ونكالاً ووبالاً من الكفار الأصليين، فـ "لا إله إلا الله" لن تنفعهم في شيء, هم في الدنيا مسلمون، من أهل لا إله إلا الله في الدنيا من أهل القبلة في الدنيا؛ لأننا نراهم أحيانًا يصلون، وأحيانًا يقولون: لا إله إلا الله فيلزمنا أن نثبت إسلامهم في الدنيا أما هم عند الله -عز وجل-هم كفار وهم عند الله -عز وجل- متوعدون بالنار التي هي أشد من نار الكفار- والعياذ بالله- قال- تعالى-: ?إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ? [النساء: 145]، فـ"لا إله إلا الله" لن تنفعهم لأنه ليس في قلوبهم شيء يتوجهون به إلى الله قلوبهم خاوية تمامًا ليس فيها ذرة ولا شعيرة ولا خردلة ولا حبة ولا برة ولا ذرة من إيمان إذن: قلوبهم خواء قلوبهم مظلمة، ليس فيها شيء من خير إذن: لا إله إلا الله تنفع من كان في قلبه شيء من الخير حتى ولو كان(10/6)
شعيرة حتى ولو كان ذرة حتى ولو كان خردلة حتى ولو كان حبة حتى لو كان برة، أي شيء ولو كان صغيرًا من الخير، ينفعك عند الله -عز وجل- إذن: لو أن إنسانًا لم يأتِ بعمل قط، وهذه مسألة بسطها- بإذن الله تعالى في قضية الإيمان عندما يأتي محلها- لو أن إنسان ليس في صحيفته عمل قط، إلا ما كان من شأن قلبه فإن قلبه أتى بشيء قليل ووضيس قليل من نور الخير هذا الشيء القليل ينفعه عند الله -عز وجل- يدل على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة من طرق وأصله في الصحيحين ولكن من غير ذكر جملة الإيمان- كما سيأتي- من حديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن شعيرةً من إيمان أو شُعيرةً من إيمان)- سبحان الله- إذن: من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه، اسمع وكان في قلبه ما يزن شعيرة من إيمان تنفعه هذه الشعيرة القليلة البسيطة التي لا يؤبه لها، إذن: هذا نص في هذه المسألة.
أيضًا ما أخرجه البخاري ومسلم، هذه كلها نصوص تدل على أن لا إله إلا الله التي تنفع صاحبها مقيدة بقيد، أن يكون القلب فيه شيء ولو يسير من الخير، يدل على ذلك أيضًا ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه والطيالسي والترمذي وغيرهم من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة).(10/7)
وأيضًا أخرج ابن أبي عاصم وأحمد وابن خزيمة، وهذا الحديث جود إسناده العلامة الألباني- عليه رحمة الله- والحديث أيضًا في البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال:( قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد غيرك، لما أرى من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة) وهذا هو الشاهد، (أسعد الناس بشفاعني يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله مخلصًا من نفسه) هذا أسعد الناس بشفاعة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
إذن: شفاعة الله –تعالى- لا تكون لأي أحد وإنما تكون لأهل لا إله إلا الله، وهي لا تكون لأهل لا إله إلا الله هكذا مطلقًا، وإنما تكون لأهل لا إله إلا الله الذين قيدوا هذا القول بشيء في القلب.
وهنا ملحوظة: أن شفاعة الله -عز وجل- إنما تكون شفاعة متأخرة عن شفاعة الشافعين، شفاعة الشافعين وشفاعة الملائكة وشفاعة النبيين وشفاعة المؤمنين وشفاعة الأهل والأقربين-لاسيما من الشهداء- وشفاعة الغلمان الذين يموتون دون سن الحنث. هذه كلها شفاعات صحيحة مثبتة وأتت بها النصوص وشفاعة ربنا -عز وجل- للعصاة من الموحدين من أهل لا إله إلا الله إنما تأتي بعد شفاعة الشافعين، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه- وفيه: (أن الله -عز وجل- يقول: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبقَ إلا أرحم الراحمين) -سبحانه وتعالى-(فيقبض قبضة من نار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حُمم) يعني: عادوا كالفحم المتفحم -والعياذ بالله-.(10/8)
إذن: هذه قبضة قبضها الله -عز وجل- من النار، وهذه القبضة تكون لقوم لم يعملوا خيرًا قط، فيحمل هذا على ما سبق من الحديث أنهم لم يعملوا خيرًا قط ولكنهم من أهل لا إله إلا الله، وفي قلبهم شيء من الخير، فيحمل هذا على هذا، وتجمع الأحاديث جميعها في نسق واحد، فالطريقة السلفية الصحيحة العلمية أن الأحاديث الواردة الباب تجمع جميعًا في نسق واحد ثم تفهم فهماً واحداً ويدل على ذلك أيضًا ما أخرجه مسلم بتمامه والبخاري مختصراً من حديث أنس وفيه: (أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يشفع إلى الله -عز وجل- ويشفع النبي -عليه الصلاة والسلام- ويشفع النبي -عليه الصلاة والسلام-) يعني: يشفع فيقبل الله –تعالى- شفاعته ثم يعود فيشفع فيقبل الله –تعالى- شفاعته ثم يعود فيشفع فيقبل الله –تعالى- شفاعته، (ثم يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في المرة الأخيرة: ربي ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول الله –تعالى-: ليس ذاك أو ليس ذلك لك أو إليك، ولكن وعزتي وجلالي وعظمتي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله).
إذن: إخراج القبضة من النار وشفاعة ربنا فيهم إنما يكون ذلك بعد شفاعة من؟ بعد شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبعد شفاعة الملائكة وبعد شفاعة من أذن الله –تعالى- له في شفاعته، إذن: (ومن عاقبه الله –تعالى- بناره أخرجه منها بإيمانه) حتى ولو كان هذا الإيمان شيئًا قليلاًً لا يذكر، حتى ولو كان هذا الإيمان مثقال ذرة، أو كان هذا الإيمان مثقال خردلة، أو حبة أو برة أو شعيرة، طالما أن شيئًا ولو كان قليلاً في القلب من الإيمان فإن الله –تعالى- يخرج صاحبه ما كان يقول: لا إله إلا الله.(10/9)
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (ويخرج منها بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- من شفع له من أهل الكبائر من أمته) إذن: نتكلم هنا عن شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولك أن تقول: لماذا قدمت شفاعة الله -عز وجل- على شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشفاعة الله –تعالى- يوم القيامة متأخرة عن شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
فالجواب:
الأمر الأول: أن هذا الأمر كان اضطرارياً لسياق المصنف.
الأمر الثاني: أنه يمكن أن يقال: هذا من باب التشريف، فلا يذكر أحد قبل ربنا -سبحانه وتعالى-.
شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- شفاعتان:
الشفاعة الأولى: شفاعة عامة---- والشفاعة الثانية: شفاعة خاصة:(10/10)
الشفاعة العامة: هي شفاعة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يوم القيامة للخليقة كلها، وهذا هو المقام المحمود الذي عناه ربنا -سبحانه وتعالى- في قوله: ?عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُود? [الإسراء: 79] فسر النبي -عليه الصلاة والسلام- المقام المحمود بالشفاعة، وصح الخبر بذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه ابن أبي عاصم بإسناد حسن، أن النبي -عليه الصلاة والسلام- فسر المقام المحمود بالشفاعة، والحديث أخرجه ابن أبي عاصم بإسناد حسن من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- وهذا السياق وهو سياق معروف: (أن الله –تعالى- عندما يجمع الناس وتقترب الشمس من رؤوس الخلائق، حتى لا يكونوا بينها وبينهم إلا مقدار ميل، والميل قد يقصد به: الميل الذي هو أكبر من الكيلو وقد يقصد به: الميل الذي هو الشيء اليسير الذي تجعله المرأة في مكحلتها لتتكحل به، شيء يعني عدة سنتيمترات، تصور لو أن الشمس بين رأسك وبينها عدة سنتمترات، كيف يكون حالك؟ ولذلك يعرق الناس عرقاً عظيماً في الحديث الطويل الذي فيه تذهب الخلائق إلى آدم ليشفع لها عند الله -عز وجل- أن يفصل بينها ولو إلى النار، الخلائق ترجوا وتدعوا الله -عز وجل- أن يقضي بينها وأن يُعجل هذا اليوم ولو إلى النار، ولو إلى النار، وهذا اليوم مقداره خمسون ألف سنة، هذا اليوم تقفه الخلائق، تقفه الخلائق بمقدار خمسون ألف سنة، يوم عظيم يوم مهول- نسأل الله تعالى فيه العافية يا رب العالمين وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله- هذا اليوم العظيم تذهب فيه الخلائق إلى آدم يحيلهم بعد ذلك إلى نوح، ثم بعد ذلك إلى إبراهيم ثم بعد ذلك إلى يذهبون إلى موسى ثم بعد ذلك إلى عيسى ثم يذهبون إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فيقول النبي: أنا لها أنا لها، فيذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسجد تحت عرش الرحمن، فيأمره ربه -سبحانه وتعالى- أن يرفع رأسه ويقول له(10/11)
الرب: ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطَ) ثم الحديث بتمامه، هذه هي الشفاعة العظمى المثبتة للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ولذلك أخرج ابن أبي عاصم بإسناد حسن أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام الناس ولا فخر)، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إمام الناس، وكان خطيبهم, وكان صاحب شفاعتهم ولا فخر، إذن: الإمام والخطيب وصاحب الشفاعة يوم القيامة هو النبي -عليه الصلاة والسلام- إذن: هذه هي الشفاعة العظمى المثبتة للنبي -عليه الصلاة والسلام- هذه الشفاعة لم ينفها أحد يعني: المعتزلة والمرجئة والخوارج وأهل السنة كل الناس أثبتوا هذه الشفاعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- إذن: هذه شفاعة مثبتة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكل الفرق أثبتتها للنبي -صلى الله عليه وسلم-.(10/12)
الشافعة الثانية: هي الشفاعة الخاصة، وهي شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- لأمته، للعصاة من أمته، لأهل الكبائر من أمته -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كما أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: (لكل نبي دعوة) أي: دعوة مستجابة (وإني استخبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة) وإني استخبأت دعوتي أي: طلبت ربي أن يخبئ دعوتي استخبأت: أي طلبت من الله- تعالى- أن يخبئ دعوتي وأن يؤخر دعوتي لأمتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، انظروا إلى حب النبي -عليه الصلاة والسلام- لهذه الأمة، انظروا إلى حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأمة، (لكل نبي دعوة مستجابة) يدعوها يستجيب له ربه -عز وجل- أما النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يدعها في الدنيا، كل نبي: سيدنا نوح وموسى وعيسى وإبراهيم قبل ذلك، ما من نبي إلا ودعا ربه دعوة ورجا ربه أن يجيبها، فهذه دعوته التي جعلها الله –تعالى- له أما النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه طلب من الله أن يخبئ دعوته، دعا ربه أن يؤخر دعوته لماذا؟ لمن؟ حتى تكون شفاعة لأمته يوم القيامة -عليه الصلاة والسلام-.
وأيضًا عند أبي عاصم من حديث أنس أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، إذن: شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابتة وهي نائلة من مات وهو يقول: لا إله إلا الله كما ثبت في غير نص.(10/13)
العجيب أن نابتة سوء من المتأخرين أنكروا شفاعة النبي الأمين -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وقالوا: بأن هذه الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وعند أحمد وأصحاب السنن وفي الموطأ وفي غيره، القاضية بإثبات شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- بإخراج العصاة من النار، بل أحاديث الشفاعة القاضية بإخراج العصاة عموماً من النار، سواء شفاعة الله –تعالى- لهم أو شفاعة الملائكة أو شفاعة النبيين، هذه الأحاديث أنكروها، هذا حال المعتزلة والخوارج قديماً، أنهم أنكروا الشفاعة وأنكروا أحاديث الشفاعة، المشكلة أن العقلانيين أصحاب الهوى في هذه العصور المتأخرة لم ينكروا أحاديث الشفاعة هكذا وإنما أصلوا أصولاً بها أنكروا أحاديث الشفاعة، ماذا قالوا؟ قالوا: بأن هذه الأحاديث إنما دُوِّنت في عصر الدولة العباسية في عصر العباسيين، بينها وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- مئات السنين فحصل هناك انقطاع زمني بين حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- وبين تدوين وكتابة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالتالي نحن لا نطمئن إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنكروا جملة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان من جملة ما أنكروه أحايث الشفاعة، إذن: هم أنكروا الحديث مطلقاً، ليس أحاديث الشفاعة فقط، لا كل الأحاديث مطلقاً أنكروها، أنكروها مطلقاً وقالوا: لا يثبت من الحديث إلا ما كان به العمل، يعني ماذا؟ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- عمله والصحابة عملوه والتابعين عملوه وتابعوهم عملوه، وهكذا حتى وصل إلينا عملاً هذا ما نثبته، أما الأحاديث القولية لا نثبتها، بل ينكرونها مطلقاً. وألفوا في ذلك كتباً هي ثقل في ميزان سيئاتهم - إن شاء الله تعالى- عند الله، هذه مسألة فظيعة, بل إن بعضهم قال: بأن الصحابة كانوا من أشد الناس حرصاً على حرق أحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- فكيف وصلت لنا أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟ قالوا: قال(10/14)
بعضهم: وكتب ذلك في الصحف وكتب ذلك في الكتب، قال: ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ أن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- أمر بصحف كتبها عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر بهذه الصحف أن تجمع ثم حرقها، قال: وهذا دليل على أن الصحابة كانوا يحرقون الأحاديث التي كتبوها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: وفي البخاري الذي أنتم تستدلون به، أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه) إذن: هذا خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا فعل أبي بكر، النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بمحو ما كتب عنه وأبو بكر يحرق الأحاديث التي جمعها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف وصلت لنا هذه الأحاديث؟ قالوا: هذه أحاديث مفبركة مكذوبة مدسوسة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنها أحاديث الشفاعة، هذا كلام فظيع وهذه كذبة صلعاء، هؤلاء القوم من أشر الناس كذباً لماذا؟ عندما رجعنا إلى تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي ماذا وجدنا؟ وجدنا هذا الأثر بالفعل موجود في تذكرة الحفاظ، ولكن بعد أن ذكره الإمام الذهبي قالوا: هذا أثر لا يصح. فذكروا الأثر، وتركوا كلام الإمام الذهبي على هذا الأثر، هل هذا منهج علمي؟ لا.. هذا كذب، وهذا تضليل للقراء الكرام، القارئ عندما يقرأ كتاباً فإنه يقتنع بما تقول، فكيف تنقل أثراً ثم لا تنقل حكم صاحب هذا الكتاب على هذا الأثر، إذن: أنت تريد أن تلبس على الناس وأن تضللهم.(10/15)
الأمر الثاني: حديث: (من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه) هذا الحديث حديث صحيح أخرجه البخاري وغيره، ولكن ما القول في هذا الحديث؟ القول في هذا الحديث، أن هناك أحاديث كثيرة نسخت هذا الحديث، فكان العمل بذلك في أول الأمر وهناك أحاديث أُخر نسخت هذا الحديث من هذه الأحاديث: ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: لم يكن أحد أكثر مني حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب)، وأبو هريرة كان إسلامه متأخراً وكانت وفاته متأخرة، فيقول: (كنت أكثر الصحابة رواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص) -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- أنا عندما أقول عبد الله بن عمر بن العاص، أقول: -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- (إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص) -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه-( فإنه كان يكتب ولا أكتب) كان يكتب ماذا؟ كان يكتب الحديث؛ لأن السياق في سياق رواية الحديث أي: فإنه كان يكتب الحديث ولا أكتب الحديث.
في الصحيح أن أبا شاه أتى للنبي -صلى الله عليه وسلم- واستأذنه أن تكتب له خطبته، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (اكتبوها لأبي شاه) وخطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا حديثه, فحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلق على قول النبي -عليه الصلاة والسلام- ثانيًا: يطلق على فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثالثًا: يطلق على تقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- أو على إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحياناً يطلق هذا على وصف النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يطلق على النبي -صلى الله عليه وسلم- السنة.(10/16)
أيضًا أخرج الإمام أحمد بإسناد رجاله ثقات (أن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- سُئل أي المدينتين تفتح أولاً؟ فدعا عبد الله بن عمرو بن العاص بصندوق له حلق ففتحه فأخرج منه صحيفة، فقال: بينما كنا نكتب الحديث عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ سئل أي المدينتين تفتح أولاً؟ فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: مدينة هرقل) أي المدينتين تفتح أولاً، القسطنطينية أم رومية؟ فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (القسطنطينية أي: مدينة هرقل) وقد وقع ما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- ففتحت القسطنطينية وهي الآن عاصمة تركيا، ولم يبقَ إلا فتح رومية، لم يبقَ إلا هذا الأمر فنسأل الله –تعالى- أن يجعله على أيدي المسلمين المتوضئين المتوجهين بقلوبهم ووجوههم إلى رب العالمين، إذن: هذا دليل على أن الصحابة كانوا يكتبون حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والنبي -عليه الصلاة والسلام- يأذن لهم في ذلك - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- والأحاديث والنصوص في ذلك كثيرة لو استقصيناها لأخذنا وقتاً طويلاً فالعلماء قالوا: إن هذه نصوص قاضية وحاكمة على النص الذي فيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه) هذا أول طريق طريق النسخ.(10/17)
الطريق الثاني: لأهل العلم وهذا هو الأحب، وهذا هو الأليق، وهذا هو الأوثق، أن نقول: بأن هذا الحديث ثابت، وهذه الأحاديث أيضًا ثابتة لأن النسخ معناه الإزالة أي إزالة الحكم فلا يجوز أن يثبت بعد ذلك مطلقاً، ولا يجوز أن يعمل به مطلقاً بعد ذلك، هذا معنى النسخ معنى الإزالة، ولذلك العلماء قالوا: بأن النسخ إهمال، أي: إهمال حكمه، والأولى إذا أمكن الجمع بين النصوص فهذا أولى وأفضل؛ لأن الجمع إعمال، فالإعمال مقدم على الإهمال, لو أن هناك نصين ظاهرهما التعارض هل يقال: بأن هذا ينسخ هذا، يمكن أن نقول ذلك إذا كان أحدهما متأخراً فالمتأخر ناسخ للمتقدم، أو أتى صحابي فنص على أن هذا النص ناسخ لهذا النص، نعم، نصير إلى النسخ.(10/18)
المسلك الثاني: أنه إذا أمكن الجمع بين النصوص دون أن نقول بالنسخ يكون ذلك أولى وأفضل فإن النسخ إهمال وإن الجمع إعمال والإعمال مقدم على الإهمال، فمثلاً عائشة قالت: (من حدثكم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بال قائماً فكذبوه لم يبل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا قاعداً أو جالس) هذا حديث, نص، يأتي حذيفة -رضي الله تعالى عنه- فيحدث: (أنه رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يبول قائماً في حائط لبعض الأنصار) إذن: هذا نص، وكلا الخبرين صحيح، هل نقول: بأن هذا نسخ هذا أو هذا نسخ هذا؟ لا.. الأولى أن يُقال: بأن الخبرين كلاهما صحيح، والجمع بينهما أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أخبرت بما سمعت ورأت وحذيفة أخبر بما رأى والكل صحيح فعائشة لما كانت هي الملازمة للنبي -عليه الصلاة والسلام- في غالب حاله، فأخبرت بغالب حال النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يبول قاعداً أو جالساً، إذن: غالب حال النبي البول جالساً أو قاعداً، ولكن يجوز البول قائماً عند الضرورة أو الحاجة، كذلك يجوز الجمع بين الحديثين: (من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه) وأحاديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهم، الجمع أن يقال: بأن هذا الخبر كان في أول الأمر ثم نسخ إذن هذا مسلك النسخ.(10/19)
أو أن يقال: بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (من كتب عني شيئًا غير القرآن) في صحيفة واحدة( فليمحه) الصحابة كانوا يكتبون القرآن وكانوا يكتبون أيضًا حديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فالنبي -عليه الصلاة والسلام- خشي أن يختلط الحديث بالقرآن، فإذا كان الصحابة يستطيعون التمييز بين الحديث والقرآن فربما يأتي أقوام لا يستطيعون التمييز بين الحديث والقرآن، هناك أقوام ربما يقولون ذلك، يعني من الطرائف كنت أصحح كراسة في الجامعة فأحد الطلاب كتب: قال الله -عز وجل-: اسعَ يا عبد وأنا أسعى معاك، قال ذلك وهذا طالب جامعي, فيمكن أن يأتي وقت إذا كتب الحديث مع القرآن أن يأتي وقت لا يميز الناس فيه بين القرآن والحديث، انظروا إلى هذا الطالب الجامعي كيف يكتب، فالنهي هنا لعله متوجه إلى المنع من الجمع بين كتابة القرآن والحديث في صحيفة واحدة فقال: (من كتب عني شيئًا غير القرآن في صحيفة واحدة فليمحه)، فلا يثبت في الصحيفة إلا ماذا؟ إلا القرآن، لعل هذا هو الجمع بين الحديثين ولعل ذلك هو الأليق، فالصحيح أن يقال: بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن ذلك الأمر حتى لا يختلط القرآن بالحديث.(10/20)
إذن: كتب الحديث زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهناك فارق بين كتابة الحديث وجمع الحديث، انتبهوا فارق بين كتابة الحديث وجمع الحديث، بين كتابة الحديث أي تدوين الحديث وبين جمع الحديث يمكن أن أكتب هذا الحديث في هذه الورقة، والحديث الثاني أكتبه في ورقة ثانية والثالثة في ورقة ثالثة ورابعة وخامسة، إذن: عندي مجموعة من الأحاديث ولكنها في مجموعة من الأوراق، إذن: هذا هو كتابة الحديث، فإذا ما كتبت هذه الأحاديث في صحيفة واحدة كان ذلك ماذا؟ كان ذلك جمعًا لهذه الأحاديث، فالأحاديث كانت مكتوبة ولكنها متفرقة، هناك صحيفة عند أبي هريرة وهناك صحيفة عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهناك صحيفة ثالثة عن عبد الله بن مسعود، وهناك صحيفة من الأحاديث الموجودة عند فلان، وعند آخر... صحف موجودة، ما الذي حدث؟ تفرق الصحابة في الأمصار، وحدث كل صحابي بما سمع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان الحال مستمراً حتى سنة واحد وتسعين تقريباً في خلافة عمر بن عبد العزيز، هذه الخلافة الراشدة، نظر عمر فوجد أن رقعة الدولة الإسلامية دولة عريضة، من بلاد الهند وقريب من بلاد الصين شرقاً، الدولة الإسلامية هذه كلها- يا إخواني أيها المسلمون- الدولة الإسلامية من أول الهند، يعني: الهند كانت داخلة معنا وحتى حدود الصين كانت داخلة معنا، وشمالاً الجبال الفاصلة بين الشام وتركيا كانت داخلة معنا وجنوباً أدغال إفريقيا، وغرباً المحيط الأطلسي، وشمالاً جبال البرانس، وداخلة معنا جزر رودس وصقلية ومالطة، وتكريت وجنوب إيطاليا، يعني: اليونان وجنوب إيطاليا وقبرص وجنوب تركيا، كل هذه الجزر الموجودة في البحر المتوسط، هذه كلها كانت داخلة في الدولة الإسلامية، كانت دولة مترامية الأطراف والصحابة وصلوا إلى كل هذه البلاد، يعني قبر أبي أيوب الأنصاري، أين يوجد؟ تحت أسوار القسطنطينية، انظروا إلى الصحابة كيف حملوا دينهم وانطلقوا في هذه الديار ونشروا دين(10/21)
الله -عز وجل-!! الذي حدث أن عمر بن عبد العزيز خاف وخشي أن تندرس سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاف من ضياع السنة هي موجودة في الكتب في الصحف، ولكن هذه الصحف منتشرة، ماذا حدث؟ أمر عمر بن عبد العزيز الإمامين الجهبذين الجبلين العالمين محمد بن الشهاب الزهري، وأبا بكر بن حزم أمرهما أن يجمعا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجمعت السنة في عهد عمر بن عبد العزيز، وهناك أول صحيفة مكتوبة مثبتة بعد عصر الصحابة وهي صحيفة همام بن منبه، وهذه الصحيفة موجودة بتمامها في مسند الإمام أحمد، إذن: جمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عصر عمر بن عبد العزيز، في عصر التابعين الذين أخذوا الحديث من الصحابة إذن: ليس هناك قول لهؤلاء النابتة الذين زعموا أن الحديث لم يكتب إلا في زمن متأخر.
نسأل الله –تعالى- أن يوفقنا وأن يهدينا وأن يسددنا وأن يرحمنا وأن يجعلنا من المستمسكين بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والحمد لله أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً.
الأخ الكريم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ذكر فضيلة الشيخ في الحلقة السابقة أن الجهل والتأويل مانعان من موانع التكفير وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية بفتوى رقم تسعة آلاف ومائتين وستين عن العذر بالجهل؟ فأجابت أن المكلف بعبادته لا يعذر بالجهل لعبادته غير الله واستدلت بحديث مسلم عن حديث أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحداً من هذه الأمة يهودياً ولا نصرانياً ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)، فقالت: فلم يعذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من سمع به ومن يعيش في بلاد إسلامية قد سمع بالرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا يعذر في أصول الإيمان بجهله فنرجو توضيح هذه المسألة يا شيخ لعدم الإشكالية في هذا؟(10/22)
بسم الله الرحمن الرحيم، أولاً: بالنسبة لهذه المسألة فلابد أن نقول: بأن الأحكام لابد أن تكون مثبتة يعني فارق بين الحكم والفتوى، وعندما نتكلم في مسألة تكفير المعينين فالمقصود هنا هم المسلمون الذين تلبسوا بأمر كفر، واللجنة الدائمة تكلمت عن الكفار الأصليين، فالكفار الأصليون الذين علموا عن الإسلام هم يجهلون الإسلام ولكن سمعوا عنه، فهل جهلهم عن هذا الإسلام يكون عذراً لهم؟ ليس عذرا لهم؛ لأنهم كفار أصليون فكلام اللجنة الدائمة كلام مسدد في وجهه- والله تعالى أعلى وأعلم- أما نحن فإننا نتكلم عن الكفر الطارئ، أي أن رجلاً يكون مسلماً يشهد شهادة الحق وقلبه متجه إلى الله –تعالى- يحب الله –تعالى- يحب النبي -عليه الصلاة والسلام- يخاف الله, يخاف اليوم الآخر، يؤمن بالبعث والنشور، يؤمن بالملائكة والكتاب والنبيين يؤمن بالقدر، يؤمن بالملائكة, أصول الإيمان كلها موجودة عنده، ولكن تلبس بكفر، هل يكون بذلك كافراً؟ الجواب، أما الكفر الطارئ على المسلم الأصلي هذا الكفر الطارئ لا نحكم به إذا كان جاهلاً أنه كفر أو كان متأولاً لوجهه هذا هو الكلام الذي ذكرت- والله تعالى أعلى وأعلم-.(10/23)
الأمر الثاني: أن الفتوى بالتكفير تتفاوت أحيانًا من مكان إلى آخر, من شخص لآخر، من حال لآخر يعني لو أن رجلاً مثلاً أتى بأمر كفري وهو يعلم أن هذا الأمر أمر كفري فهذا الرجل حاله غير ذلك العامي الجاهل الذي لا يعلم أنه كفري، مثلاً في المملكة السعودية ينشأ الأولاد منذ الصغر على التوحيد، هذه مسألة معلومة، تجد الأولاد من الحضانة يحفظون الأصول الثلاثة للشيخ: محمد بن عبد الوهاب -عليه رحمة الله- وعندما يكبرون يأخذون متن كتاب التوحيد للشيخ: محمد بن عبد الوهاب ويأخذون شروح الأحفاد سواء فتح المجيد أو تيسير العزيز الحميد أو ما إلى ذلك، أو القول السديد يأخذون ذلك ويتعلمونه يمكن أن تجد الرجل في السعودية قد يأتي بالمعصية، قد يأتي بأمر فيه مخالفة شرعية ولكن مسألة التوحيد عنده مضبوطة لا يأتي بأمر يخرجه عن التوحيد، أما عندنا في مصر مثلاً فالأمر قد يكون مختلفاً، عندنا الموالي وعندنا مشايخ الموالد وعندنا الأضرحة وعندنا كذا وكذا، وهناك من يؤصل ويقعد لزيارة الأضرحة والتوسل بالأموات وطلبهم، فلو أتينا برجل عامي بسيط سمع شيوخ تأصيل الموالد والأضرحة سمع كلامهم ورآهم بأنهم علماؤه وتأثر بهذا الكلام، هل يكون ذلك الرجل كافراً بما يصنع؟ لو قال مثلاً: مدد يا حسين أو مدد يا سيد يا بلدي أو ما إلى ذلك هل يكون بذلك كافراً بما يذكر؟ لا.. لا يكون كافراً؛ لأنه قد يكون جاهلاً وشيخه قد يكون متأولاً فما نجده عندنا قد لا تجدوه عندكم فهذه المسائل متفاوتة من بيئة لأخرى- والله تعالى أعلى وأعلم-.
الأخ الكريم من مصر يقول: عندي سؤالان لو سمحت:(10/24)
السؤال الأول: كما هو معلوم فضيلة الشيخ أن الحديث في الشفاعة يفتح باباً عظيماً من الرجاء برحمة الله، لكن للأسف الشديد بعض الناس يتساهلون في فعل المعاصي والسيئات ويتركون المفروضات والواجبات بحجة أنه مكتفٍ بقول: لا إله إلا الله، ويرجو الشفاعة يوم القيامة ويستدلون بأحاديث الشفاعة على معاصيهم، فكيف نرد عليهم؟
السؤال الثاني: ذكرتم فضيلة الشيخ في الدرس الماضي قصة حاطب بن أبي بلتعة وأن الله –تعالى- غفر له اللاحق من الذنوب؛ لأنه شهد بدراً, فهل هذه خصوصية له أم لكل من عمل أعمالاً صالحة كبيرة؟ حيث إنه من المعلوم أن الذنوب تُكفر بما بعدها من أعمال صالحة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (واتبع السيئة الحسنة تمحه) وإذا قلنا: بأن الذنوب اللاحقة تكفر بالحسنات السابقة، ألا يدعو ذلك إلى التساهل في فعل المعاصي نرجو التوضيح. وجزاكم الله خيراً؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من مصر كان له سؤالان سؤاله الأول: الحديث عن الشفاعة وبعض الناس يستدلون بأحاديث الشفاعة على وقوعهم في المعاصي؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ الكريم- جزاه الله خيرًا- وأنا معجب حقيقة بلغته وأسلوبه، فأسأل الله –تعالى- أن يوفقه وأن يسدده.(10/25)
الذين يستدلون بشفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- ويقولون: نحن من أهل شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيتجرأون على الله –تعالى- بفعل الذنوب والمعاصي يقال لهم: إنكم لو دخلتم النار ولو يوماً واحداً من أيامها أو مستكم النار بفحيحها أو بلفحها لكان الأمر عظيماً فهؤلاء القوم يذكرون بالأحاديث الواردة في شأن النار وتهويلها وتفخيم أمرها ويُعلّمون أنهم بفعلهم هذه المعاصي يكونون متعرضين للنار حتى ولو شفع فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن هذه الشفاعة تكون بعد أن يأخذوا نصيبهم من النار، فهل يقدرون على ذلك الأمر؟ هو لو وضع نفسه أو لو وضع أصبعه على عود من الكبريت أشعله ثم جعل أصبعه على النار التي توقد بعود الكبريت، هل يتحمل هذه النار؟ لا يتحملها، فما بالك لو دخل النار بذنبه، نعم سيخرج من النار بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو سيخرج من النار بشفاعة ربنا -عز وجل- أو قبل ذلك بشفاعة الشافعين، ولكن إذا عامله ربنا -عز وجل- بعدله وأدخله النار بذنبه فقبل أن يخرج بالشفاعة فإنه يكون حمماً يصير متفحماً هل يقبل ذلك؟ هل يرضى بذلك؟ هل يقدر على ذلك؟ أين عقله؟ فهذا الرجل الذي ينظر إلى المآل لماذا لا ينظر إلى ما قد يصيبه من النار؟ فنسأل الله –تعالى- أن يرزقنا العقل فالعاقل هو الذي يحرص على نفسه، نسأل الله –تعالى- العافية.
سؤاله الثاني: عن قصة سيدنا حاطب بن أبي بلتعة، هل هي خاصة له أم لكل الأمة؟
هذه القصة أو هذا سؤال الأخ الثاني فيه عدة جوانب: الجانب الأول: هل هي خاصة ليست بخاصة، ودعوى الخصوصية تحتاج إلى نص، ولا نص، غاية ما في الأمر، أنه قال: (إنه شهد بدراً وإن الله نظر إلى أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم) فهذه ليست خصوصية لحاطب، وإن شئت فقل: هل يمكن أن تدرس كأنها خصوصية لأهل بدر، وهو من جملتهم؟ نعم ممكن يكون هنا مناقشة ولكن مناقشة الخصوصية تحتاج إلى نص مستقل- والله تعالى أعلى وأعلم-.(10/26)
هناك جوانب أخرى من السؤال: مسألة الذنوب تُكفر بما بعدها لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (وأتبع السيئة الحسنة تمحه) أبداً، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وأتبع السيئة الحسنة تمحه) فيه معنى الحث على المبادرة بفعل الحسنات بعد فعل السيئات، ليس معناه أن السيئة لا تكفر إلا بالحسنة بعدها أبداً بدليل المرأة التي سقت كلباً: (أن امرأة بغياً وجدت كلباً يكاد أن يموت من شدة العطش، فنزلت إلى بئر فجعلت في موقها أي في حذائها ماء فسقت الكلب، فغفر الله لها ذنبه) إذن: فسقي الكلب كان ماذا؟ كان بعد الزنا، وامرأة بغي على وزن فعيل صفة مشبهة، كثيرة الزنا والبغاء إذن: كثرة الزنا والبغاء كان ماذا؟ كان قبل سقيى الكلب، فلما سقت الكلب غفر الله –تعالى- لها ذنبها هل سقيى الكلب كان حسنة عظيمة كفرت هذه السيئات العظيمة؟ أبداً فقد يكفر الذنب العظيم بالحسنة القليلة، وقد يكفر الذنب العظيم بالأمر الذي لا يؤبه له وقد تكون الحسنة قبل الذنب أو بعده، وهذه المسألة تكلم فيها شيخ الإسلام في الإيمان فليراجعه من شاء.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات على أسئلة الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول: اذكر أدلة إثبات الساعة والبعث؟
وكانت الإجابة: من أدلة إثبات الساعة: قول الله –تعالى-: ?إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى? [طه: 15]، وقوله- تعالى-: ?إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ?59?? [غافر: 59] وقوله- تعالى-: ?وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ ?7?? [الحج: 7] وقوله- تعالى-: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ?42?? [النازعات: 42](10/27)
ومن الأحاديث قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة) وأدلة البعث، قوله- تعالى-: ?وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ? [الروم: 27]، وقوله-تعالى-:? ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ? [الزمر: 68]، وقوله تعالى: ?وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ?7?? [الحج: 7]، ومن الأدلة العقلية خلق الله للإنسان من العدم، وإحياء الأرض الميتة وخلق السماوات والأرض.
السؤال الثاني: اذكر أسباب تكفير الذنوب؟
وكانت الإجابة: من أسباب تفكير الذنوب: التوبة الصادقة من الذنب، الحدود، الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة، ما اجتنبت الكبائر، فعل الحسنات قال- تعالى-: ?إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ? [هود: 114]، شفاعة الصالحين، المصائب، فتنة القبر والفزع يوم القيامة، التمحيص في النار، قبل دخول الجنة.
هذا كلام جيد
هناك سؤال- فضيلة الشيخ- من الأخ الكريم من سوريا يقول: قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فهل لهذا الحديث علاقة بحديث: (إنما أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة … الحديث)، وهل يكون الرجل مؤمناً ويصلي ويصوم ومن عباد الله لكن إصراره على معصية أو كبيرة كان سبباً في أن ختم الله له بالكفر تفسيراً للأحاديث السابقة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
فعل المرء الذنبَ لا يجعله بذلك كافراً وربك -سبحانه وتعالى- ليس بظلام للعبيد.(10/28)
الأمر الثاني: أن الله -سبحانه وتعالى- خلقك وأوجدك لعبادته قال- تعالى-: ?وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات: 56]، فإذا آمنت أنك عبد لله -عز وجل- مخلوق لعبادته وامتثال أمره. ثانيًا: آمنت بأن الله – تعالى- هو الرب الجليل المتفضل عليك الذي لا يظلمك، الذي يعينك على الخير ويجازيك عليه خيرًا بعد خير، والذي لا يرضى عن الشر الذي أنت تفعله ويعاقبك عليه إذا آمنت بهذا وذاك ينبغي عليك ألا تُدخل نفسك في أمر أنت لن تستفيد منه، فينبغي للمرء أن يحرص على ما ينفعه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) فأنصح نفسي وأنصح كل أخ مسلم ألا يخوض في مسائل القدر وأن يأخذ من القدر ما يدفعه إلى ربه كما فعل الصحابة عندما سمعوا أحاديث القدر فكانوا أكثر نشاطاً وأكثر طاعة لله -عز وجل- ثم أقول بعد ذلك بالنسبة لهذا السؤال: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فالمطلوب أن تعمل وأن ترضي ربك وأسأله- سبحانه- أن يوفقني وإياك إلى محابه ومراضيه.
الأخ الكريم من المغرب يقول: السلام عليكم، استشكل عليّ أمر ألا وهو قولك: في تفسير( إليه يعود) قلتم: كيف يعود؟ متى يعود؟ هذا كله أمر غيبي لا يعلمه إلا ربه- سبحانه- موضع الإشكال هو ربه؟ أرجو بيان ذلك؟ حشرنا الله وإياك مع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
لا.. (إلا ربه) لا.. قد يكون ذلك فلتة لسان، فنسأل الله –تعالى- المغفرة والمسامحة.
الأخ الكريم من الكويت يقول: هل يكون تارك الصلاة ممن تدركهم شفاعة الله؟ أم ما هو الرابط؟
هذه المسألة مسألة تارك الصلاة من المسائل التي فيها نزاع عظيم ولكن أنا ما أدين به الله -عز وجل- أرجو أن تنالهم شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- بإذن الله –تعالى-.(10/29)
الأخ الكريم من الجزائر يقول: عندي سؤال قد أشكل علي، وهو أهل لا إله إلا الله، لكنهم يزورون ويدعون الأولياء، وكذلك أهل السحر هل يخلدون أم لا؟
هؤلاء القوم من حيث الجملة ما يفعلونه كفر، وكفرهم هذا كفر أكبر، يكونون به كفاراً خارجين عن جملة أهل الإسلام هذا من حيث العموم, أما من حيث التعيين فإنه لابد أن تقام الحجة على أعيانهم ليعرفوا الحق في هذه المسائل وتندفع عنهم الشبهة ويكون الأمر لهم جلياً فإن أصر بعد قيام الحجة النبوية الرسالية المباركة فإنه يكون بذلك كافراًز ونسأل الله –تعالى- أن يشرح صدور الجميع إلى دينه المستقيم.
الأخت الكريمة من الأردن تقول: يا فضيلة الشيخ: لا يخفى على علمكم في الآونة الأخيرة ما ظهر من الخوارج ومن أهل التكفير وهلم جراً، وأرجوك أن تقدم لي الجواب الكافي في أنه إذا جاء رجل ليخطب فتاة مسلمة، كيف تعرف أنه من أهل السنة والجماعة؟ لاسيما أن أصحاب الفكر الضال والمنحرف، لا يتميزون في كثير من الأحيان في المظهر الخارجي عن أهل السنة هل هناك أسئلة معينة إذا طرحناها نعلم ما هي عقيدته لأن هذا الأمر في غاية الخطورة بالنسبة لي ولكثير من فتيات المسلمين؟
هي من باب الطرفة، إجابة طريفة بسيطة دون أن أستفيض؛ لأنها تطلب مسألة علمية ولكن سأرشدها، هذا عريس يجهزون له دجاجة، يقدمون له الدجاجة المذبوحة وبجنبها المرقة وينظرون فإن أكل من الدجاج وشرب منها، فإنه بذلك يكون على منهجنا؛ لأن من شرط منهجنا أن يأكل من ذبيحتنا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا لم يأكل من ذبيحتنا إذن: ليس على منهجنا فيخرجوه من الباب أو من الشباك كما يريدون- إن شاء الله- إذن: كمسألة عملية هذا رجل عريس يقدمون له الذبيحة، فرخة من فرخة لما هو فوق، المهم أن يأكل منها من الذبيحة فإن أكل من ذبيحتهم، أجازوه، وإلا فإنهم يطرحوه.(10/30)
الأخت الكريم من الجزائر تقول: ما معنى من قال: لا إله إلا الله يخرج من النار، قد يقولها كافر أو مستهزئ، فهل يدخل في هذا الحديث؟
لا.. أبداً، أنا قلت: إن هذا مقيد أن يكون في قلبه شيء من خير، إن شاء الله.
الأخ الكريم من المغرب يقول: هل يجوز أن يستدل بقبضته- تعالى- من النار على صفة اليدين له -جل وعلا-؟
إثبات صفة اليد لله -عز وجل- ثابتة فلا نحتاج أن نستدل بهذا اللازم على صفة اليدين وهي ثابتة، لكن يمكن أن نقول: هل يقبض الله -عز وجل-؟ نعم، يقبض الله –تعالى- بيده ما شاء, كيف شاء، نعم.
الأخت الكريمة من المغرب تقول: هل هناك أشياء يقوم بها العبد حتى ينال شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشفاعة رب العالمين؟
نعم. أن يكون مطيعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، فقالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فمن أطاعني دخل الجنة ابتداءً أو انتهاءً ومن عصاني فقد أبى أي قد أبى أن يدخل الجنة ابتداءً أو انتهاءً.
الأخ الكريم من الأردن يقول: جاءت الروايات في الأحاديث الصحيحة: (أن الموحدين من أهل النار يخرجون من النار وقد امتحشوا إلا موضع السجود منهم)، فهذا يدل على أنهم كانوا يصلون وهذا الذي قرره عدد من العلماء مثل الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى- وغيره، وكذلك فهمت من كلامكم أن جنس عمل الجوارح ليس شرطاً لصحة الإيمان، فهل ما فهمته صحيحاً؟ أرجو الإجابة.
هذه المسألة بتمامها وكليتها سيكون الحديث عنها في محلها- إن شاء الله-.
الأخ الكريم من الإمارات يقول: عند سؤالان:
السؤال الأول: هل كفر الإعراض يشمل من ترك عمل الجوارح مع حصول الإيمان القلبي عنده؟
سنلحق هذا السؤال بصاحبه -إن شاء الله-.(10/31)
سؤاله الثاني: ما معنى الإصرار؟ وهل من قال: أنا أعلم أن الله -عز وجل- حرم الخمر، ولكني أشربه، فهل هذا كافر باعتبار أنه مُصِّر؟ وهل يعد بذلك مستحلاً؟
أبداً, هناك فارق بين الاستحلال وبين الإصرار.
الأخت الكريمة من المغرب تقول: هناك بعض الناس يستغربون رواية عائشة -رضي الله عنها- للحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي في سن صغيرة، فكيف نرد عليهم؟
هذا سؤال جيد- حقيقة- المشكلة أن الناس في هذه الأزمان يحكمون مجريات الأمور الماضية بمعايير الزمن، يعني: نحن عندما نسمع بالأمور الماضية نريد أن نحاكمها بمعايير هذا العصر الذي نعيش فيه، هذا العصر الذي نعيش فيه، أنك لو سمعت اسم صاحبك، ويقول لك مثلاً: اسمي محمد محمود عبد السميع علي. عندما يصل إلى علي تنسى الكلمة الأولى وهي كلمة محمد فتحتاج أن يعيد الاسم أكثر من مرة حتى يثبت لحظياً في ذهنك، فإن ثقافتنا ليست ثقافة أذن، ولكن الآن ثقافة هي ثقافة الهشاشة وثقافة ضبابية، لا تؤثر لا في عقل ولا في قلب، هذا هو الموجود الآن، معارف العرب قديماً كانت معارف تعتمد على الأذن، فما تسمعه الأذن يثبت ثبوتاً قوياً، وبالتالي كان ما زال العرب يسمعون الأشعار والكلام ويتناقلونه دون أن يخرموا حرفاً واحداً مما سمعوه، هذه مسألة فالجواب المختصر: أن هذا الأمر يعد ليس بالمستغرب لأن هذا كان مشهوراً أن صغار الأمس ليسوا كصغار اليوم فقد كانوا صغاراً ولكن يتقنون ما يسمعون ويتقنون ما ينقلون ويضبطون ذلك جميعًا فلا يخرم منه حرفاً واحداً وهذا السؤال أرجو أن يكون هناك وقت أكثر اتساعاً لأن في ذهني إجابة واسعة عنه متعلقة بالتراث ونقل الرواية للإجابة الواسعة على هذا السؤال أرجو وأدعو الله –تعالى- أن يوفقنا لوقت أوسع، إن شاء الله.
هلا تفضلتم فضيلة الشيخ بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
نعم هناك سؤالان يسيران:(10/32)
السؤال الأول: وجه "من يدخله الله الجنة، يدخله بفضله ومن يدخله النار يدخله بعدله". المطلوب هذه الجملة وجهّا يعني بين معناها وكيف يكون هذا المعنى منضبطاً؟
السؤال الثاني: اذكر الشفاعة المثبتة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؟
وجزاكم الله خير(10/33)
الدرس الحادي عشر
الإعتقاد في الجنة والنار والبرزخ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله, وكفى وصلاة وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى, اللهم صلي وسلم وزد وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا ثم أما بعد.
لا زال اللقاء في مسائل الإيمان والاعتقاد ورسالة الإمام ابن أبي زيد القيرواني -عليه رحمة الله- وحديثي مع حضراتكم في هذا اللقاء يشمل ثلاثة عناصر:
العنصر الأول: الاعتقاد في الجنة.
العنصر الثاني: الاعتقاد في النار.
العنصر الثالث: الاعتقاد في البرزخ.
وهذه المسائل التي ستثار في هذا اللقاء في جوانبها وفي أثنائها مسائل أخر, فأسأل الله- تعالى- أن يوفقنا جميعًا وأن ييسر لنا الخير حيثما كان وأن يجعلنا من أهله وأتباعه.
تفضل يا أخي الحبيب.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأن الله- سبحانه- قد خلق الجنة، فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم، وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه، وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به، وألحد في آياته، وكتبه، ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته)
بسم الله الرحمن الرحيم, قال المصنف -رحمة الله تعالى عليه-: (وأن الله -سبحانه وتعالى- قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم، وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه) هذه هي الفكرة الأولى والعنصر الأول وهو الاعتقاد في الجنة، وكما قلت لكم في ثنايا هذا الاعتقاد ستبدو لنا بعض المسائل الأُخر التي سنناقشها, ونسأل وندعو الله –تعالى- أن ييسر لنا الأمور كلها.(11/1)
الجنة في اللغة: بمعنى المكان الواسع كثير الأشجار ملتف الأغصان وهو المُسمى بالبستان، والبستان: كلمة ليست عربية ولكن لعل معرفة الناس بها أكثر من معرفتهم بالجنة، وسميت الجنة جنةً لأن من بها لا يرى من بخارجها- إلا إذا شاء الله- فكل شيء سُتر عن الغير إنما يشتق من هذه المادة الجيم والميم والنون، ومنه سمي المجنون مجنوناً لاستتار عقله، وسمي الجن جناً لاستتاره عن الخلق، وسميت الجنة جنةً لاستتار من دخل فيها عمن لم يدخل فيها.
والجنة شرعاً: هي هذه الدار التي أعدها الله –تعالى- لأهل طاعته ورضوانه من المؤمنين، نسأل الله –تعالى- أن نكون منهم.(11/2)
قال المصنف: (وأن الله- سبحانه- قد خلق الجنة)، فالجنة مخلوقة، لا تبيد ولا تفنى، (وأعدها دار خلود لأوليائه) الأولياء جمع والمفرد ولي, وولي على وزن فعيل والولي هو المطيع القريب النصير، فولي الله: هو العامل بطاعة الله -عز وجل- القريب من الله وإلى الله، الذي ينصر ربه وينصر دينه هذا هو ولي الله- سبحانه- قال الله- سبحانه-: ?أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?62?? [يونس: 62]، فسر الله –تعالى- الولي فقال: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ?63?? [يونس: 63]، بشرهم ربنا -عز وجل- بالجنة ?لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ? [يونس: 64]، فنسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من العاملين بطاعته، وسادة الأولياء هم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون، يدل على ذلك قوله- سبحانه-: ?وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ?69? ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً ?70?? [النساء: 69، 70]، ومن أئمة أولياء الله -عز وجل-: المهاجرون والأنصار، وأيضًا الذين يسيرون على نهجهم، وينتهجون أثرهم، قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ?100?? [التوبة: 100]، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن المذكور فيه ?تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ? كل المواضع ?تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ? هذا هو الموضع الذي قال: ?تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا(11/3)
أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ?100?? [التوبة: 100]، وأولياء الله ليس كما شهر عند بعض الناس، هم أصحاب الأضرحة، والمشايخ الذين يطيرون بعد موتهم، ويجري الناس خلفهم، أبداً ويقولون: إن الشيخ قد طار، وعندما ننظر إلى بعضهم نجد أن بعضهم كان ربما لا يقترب من المسجد، لا أقول: كان لا يصلي، كان ربما لا يقترب من المسجد، بل كان بعضهم أحيانًا يشرب الخمر ويأتي بالموبقات، وهؤلاء بسبب ما يراه بعض العامة مما يظنونه خارقاً يظنونه من أولياء الله، وفي الحقيقة ليسوا بأولياء لله -عز وجل- وإنما هم أولياء الشياطين؛ فإن الأولياء إما أن يكون ولياً لله وإما أن يكون ولياً للشيطان، فهناك أولياء الله أولياء الرحمن وهناك أولياء الشيطان، فالشيطان يؤذهم ويهيجهم وأحياناً يكون في طاعتهم ونصرتهم وأولياء الرحمن يعينهم ويوفقهم ويهديهم ويسددهم ويؤمنهم في الدنيا ويجعل لهم طريقهم إلى الجنة طريقاُ مستقيماً فنسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من أوليائه، لا أن يجعلنا من أعدائه.
والخوارق التي يحدثها الله –تعالى- لأوليائه، هي من باب ما يجب على المؤمن أن يؤمن به، فنحن نؤمن بكرامات الأولياء كما نؤمن بمعجزات الأنبياء، ومعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء كلاهما يندرج تحت خوارق العادات، فالله- تعالى- يخرق العادة وهي السنة الكونية التي أجراها في كونه، يخرق الله –تعالى- هذه السنة الكونية لأهل طاعته، إما لحاجة وإما لضرورة، إذن: ولي الله هو الذي يعمل بطاعته، هذا أولاً. ثانيًا: أن ولي الله لا ينادي على الخارق الذي أحدثه الله –تعالى- له، يعني لا يعرف أن نبياً أو أن صالحاً قال: يا أيها الناس تعالوا حتى أريكم هذا الخارق، إلا أن يكون نبياً يريد أن يُري الناس هذا الخارق، ليزدادوا إيماناً به، فيكون هذا الأمر من باب الحاجة والضرورة، فأولاً: ولي الله هو الذي يعمل بطاعة الله -عز وجل- الأمر الثاني: ولي الله لا ينادي على كرامته.(11/4)
الأمر الثالث: أن الكرامة للولي إنما تكون لحاجة أو ضرورة، ولي الله هو العامل بطاعته وبينت ذلك، الأمر الثاني: أن ولي الله لا ينادي على كرامته، ولذلك قال بعض السلف: «كن طالباً للاستقامة ولا تكن طالباً للكرامة»، فبعض الذي يريد أن تظهر الكرامات على يديه هذا الذي يريد ذلك ويريد أن يظهر ذلك، لابد أن يراجع إيمانه من جديد فإن ولي الله يجتهد اجتهاداً بيناً في إخفاء ما من الله –تعالى- به عليه من الكرامة.
الأمر الثالث: أن هذه الكرامة لا تظهر إلا لضرورة أو حاجة، فالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أظهر الله –تعالى- المعجزات على يديه وهذا لسبب أو حاجة، ما هذا السبب؟ ما هذه الحاجة؟ ما هذه الضرورة؟ حتى يؤمن الناس به، -صلى الله عليه وسلم-، فما من نبي أرسله الله إلا وآتاه من المعجزات ما بمثلها يؤمن البشر، فمعجزات الأنبياء إنما هي من باب الضرورات التي آتاها الله –تعالى- لهم وأحدثها لهم ليؤمن الناس بهم، فلا يشككون في بعثتهم، ومن هذه المعجزات والكرامات ما هو مثبوت في الكتب الصحيحة مثال ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان: (أن الصحابة لما اشتد بهم الجوع في يوم تبوك استأذنوا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يذبحوا بعضاً من الإبل، فأذن لهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فأتى عمر -رضي الله تعالى عنه- وقال: يا رسول الله إنك إن فعلت قل الظهر)، أي قل الإبل الذي يركبه الناس، (ولكن ادعُ الناس بفضل أزواده) -والزاد ما يتزود به المرء من الطعام ونحوه- (ثم ادعُ الله لعل الله أن يجعل في ذلك) أي خيراً ونماءً وبركةً (فدعا النبي -عليه الصلاة والسلام- بنطع ثم وسطه، ثم دعا الناس بفضل أزوداهم فكان الرجل يجيء ومعه كف من بر، قالوا: ويجيء الآخر ومعه كف من تمر قالوا: ويجيء الثالث ومعه كسرة من خبز، حتى اجتمع شيء يسير على هذا النطع، ثم قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: خذوا في أوعيتكم) وهذا يوم تبوك(11/5)
وكان الصحابة أكثر من ثلاثين ألفاً كانوا أكثر من ثلاثين ألفاً قال:( خذوا في أوعيتكم قال الراوي: فوالله ما تركوا في المعسكر وعاءً إلا ملئوه، وفضلت فضلة فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة)، فهذا أمر عجيب، هذه عشرات الآلاف تأكل من هذا الطعام اليسير الذي يجتمع على النطع، نطع مفرش من الجلد، شيء يسير من هذا الطعام يكفي هذا الجيش الكبير الذي يضرب في الصحراء، يشتد به الجوع، ويكاد كبده أن يذهب من شدة العطش، هذا الشيء اليسير من الطعام يكفيه؟!! نعم يكفيه فهذا خارق للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وأيضًا للصحابة الكرام وهذا الخراق حدث لحاجة وضرورة، أن الصحابة في حاجة إلى هذا الخارق، فهم في جهاد وهم متلبسون بطاعة الله -عز وجل- وهكذا يكون الأمر دائماً وأبداً، وكذلك عندما أرسل عمر -رضي الله تعالى عنه- أميراً على بعض جيوشه، وهو سارية، وأرسله لقتال الفرس، والفرس أهل غدر وأهل مكر, الفرس أهل غدر وأهل مكر وأهل شدة في القتال، فتظاهر الفرس بهزيمتهم ودخل جيش المسلمين خلفهم، ما الذي حدث بعد ذلك؟ كان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- في المدينة، وهؤلاء في بلاد فارس بين بلاد المدينة وفارس، مئات الأميال، وإن شئت فقل: آلاف الأميال، فقال عمر -رضي الله تعالى عنه-: «يا ساريةُ الجبلَ يا ساريةُ الجبلَ»، تعجب الناس من ذلك، وبعد فترة أتى رسول سارية ودخل على عمر، فسأله عمر الخبر، فقال: يا أمير المؤمنين لقد كدنا أن نهلك لولا أن سمعنا صوتاً هو أشبه الأصوات بصوتك يقول: يا سارية الجبل، فلما التجأنا إلى الجبل أظهرنا الله وهزمهم الله. فما الذي حدث لعمر؟ إن الله –تعالى- أحدث ما حدث ليكون معيناً للمؤمنين في قتالهم وليكون دليلاً على ما يحدثه الله –تعالى- لأوليائه وأحبائه من خوارق العادات، وإذا تركنا لأنفسنا العنان في هذا الباب-(11/6)
إثبات الكرامة للأولياء- وأن هذا من معتقد أهل السنة لكان الأمر واسعاً يحتاج إلى أكثر من لقاء، ولكن هذه إشارة أظنها كافية.
أما ما يحدثه الله –تعالى- للعصاة والمبتدعين والكفار من خوارق العادات فإن هذا من باب فتنة الخلق، أعظم فتنة هي فتنة الدجال، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يتعوذ دبر كل صلاة من أربع, من هذه الأشياء، (ومن فتنة المسيح الدجال) إن هذا الدجال يمر على الأرض الجرداء فيأمرها فتخرج خيرها كيعاسيل النحل، أي: النحل المجتمع، يمر على الأرض الجرداء فيأمر السماء أن تنزل القطر، فينزل القطر من السماء، ويخرج النبت من الأرض، -سبحان الله- أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا رب العزة، إنما أحدثها الله –تعالى- لهذا الدجال فتنة لمن؟ فتنة للخلق، ولذلك يؤمن به خلق كثير، ولا يثبت الله –تعالى- في هذه الفتنة إلا من ثبته من المؤمنين, فنسأل الله –تعالى- أن يثبتنا في الدارين.(11/7)
فما يحدثه الله –تعالى- للعصاة والمبتدعين والكفار هذا من باب الفتنة، أخرج الإمام مسلم، في صحيحه وهذا حديث أسماء والعجيب أن أسماء بن أبي بكر حدثت بهذا الحديث الحجاج بعد مقتل ولدها، يعني: بعد أن قتل عبد الله بن الزبير دخلت- وقد أسنت وعميت- على الحجاج الذي قتل ولدها، فقالت له: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (سيخرج من هذه القرية كذاب ومُبِيرٌ) (سيخرج من هذه القرية) أي: ثقيف، (كذاب ومبير) المبير: أي المهلك، المفسد، هذا هو المبير، (أما المبير فلا إخاله إلا أنت)، الذي يفسد الأرض والناس (لا أخاله إلا أنت، وأما الكذاب هو المختار بن عبيد الله الثقفي)، هذا رجل دجال ظهر في الدولة الأموية وبلغ من شأنه أنه ادعى أنه نبي وأن الملائكة تنزل عليه، وكان يخرج الناس معه إلى الفلوات والفضاءات فيقول لهم: انظروا فينظر الناس فيجدون فرساناً يركبون الخيل فيقول لهم: هذه الفرسان إنما هي الملائكة أتت لنصرتي. الناس تنظر في السماء فتجد خيلاً تجري في السماء، فيخدع الناس به، -سبحان الله- وقاتل الدولة الأموية قتالاً شديداً إلى أن غلب وأتي به إلى الخليفة، فلما أمر به أن يقتل، ضربه الطاعن فلم يصل الرمح إليه، فقال الخليفة له: سمِّ الله ثم اطعنه، فقال: بسم الله فضربه فطعنه، من الذي حماه في المرة الأولى إنما هو الشيطان- بإذن الله عز وجل- ليكون فتنة للناس، فنحن لا ننخدع بطيران نعش بميت ولا ننخدع أن رجلاً يمشي في الهواء أو يطير في الهواء أو يمشي على الماء وإنما لابد أن ننظر إلى الأعمال كما قال الإمام الشافعي: «إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء، فلا تصدقوه حتى تنظروا عمله»، فنسأل الله –تعالى- أن يحسن أعمالنا.(11/8)
فأولياء الله -عز وجل- هم المطيعون المؤمنون، هؤلاء هم الذين يحدث الله –تعالى- على أيديهم من خوارق العادات ما يحدث تثبيتاً لهم وتثبيتاً لمتبعيهم من المؤمنين وأيضًا إظهاراً لقوتهم وإظهارا لمعية الله –تعالى- لهم.
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن الله -سبحانه وتعالى- قد خلق الجنة وأعدها لأوليائه، وأكرمهم فيها، وأعدها دار خلد لأوليائه) ذكر الله –تعالى- في القرآن في غير آية أن الجنة هي دار الخلد التي لا يخرج منها المؤمنون أبداً من ذلك قول الله -عز وجل-: ?وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?25?? [البقرة: 25]، وهذه جملة اسمية حالية، فحالهم في الجنة أنهم خالدون لا يخرجون منها أبداً، وقال الله -عز وجل- أيضًا: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً ?107? خَالِدِينَ فِيهَا ?108? [الكهف: 107، 108]، إذن فالجنة يخلد فيها المؤمنون المطيعون وقال الله -سبحانه وتعالى-: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ ?7? جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ?8?? [البينة: 7، 8]، والخلود- كما قلت لكم- هو عدم الخروج من الجنة، وهذا تفضل من الله- تعالى- عليهم وجوداً من الله –تعالى- عليهم، فنسأل الله –تعالى- أن يجود علينا, وأن يتلطف بنا وأن يعاملنا بما هو أهله هو أهل الخير وأهل البر -سبحانه وتعالى-، يدل على أن الجنة دار(11/9)
خلود، لا يخرج المؤمنون منها أبداً قول الله -سبحانه وتعالى- ?إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?45? ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ?46? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ?47? لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ?48?? [الحجر: 45- 48] -سبحانه وتعالى- عندما تتأمل هذه الآيات تجد أن فيها بمفهوم المخالفة تعريض بالدنيا، فالدنيا يميزها أمران: الأمر الأول: أنها دار نصب، الأمر الثاني: أن الناس يخرجون منها، لا يَخْرجون منها وإنما يُخرجون منها، -سبحانه وتعالى- الذي جعل الجنة دار خلود وجعل الدنيا دار فناء ونهاء, فالجنة يدخلها المطيعون لا يخرجون منها أبداً بخلاف الدنيا فإنهم يُخرجون منها، والجنة يتنعمون فيها بخلاف الدنيا فإنهم ينصبون فيها، دار نصب، فالرجل لا يبلغ مراده مما يحب إلا بالنصب والتعب:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله*** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر(11/10)
دار الصبر ودار التكليف ودار التعب هذا كله في الدنيا، دار المرض، ودار الوهن، ودار العجز، ودار الحاجة ودار العوذ، ودار السؤال ودار النقص هذا كله هي الدنيا، فما من نقص في الدنيا إلا وتجده تاماً أي تجد ما كنت تطلبه ولكن كان ناقصاً في الدنيا إلا تجده تاماً عند الله -عز وجل- في الجنة، فنسأل الله –تعالى- أن يرزقنا الجنة، والجنة موجودة، فالجنة خلقها الله –تعالى- وهي موجودة الآن الجنة ، ليست الجنة مخلوقة عندما يدخل الناس الجنة، ولكن الجنة موجودة الآن، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم: (أن النبي -عليه الصلاة والسلام- في صلاة الكسوف قالوا له: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك ثم رأيناك كعكعت) الكعكعة بمعنى الرجوع والإمساك، كأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يريد أن يمسك شيئًا ثم بعد ذلك تركه ولم يمسكه (فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً ولو أصبته -أي أمسكت به-، لأكلتم منه ما بقيت الدني)، يعني: العنقود الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- لو أمسكه وأصابه لأكلتم منه ومكث هذا العنقود ما بقيت الدنيا -سبحانه وتعالى- إذن: رأى الجنة حقيقة، فالجنة موجودة خلقها الله -عز وجل- ولكن متى خلقها بالضبط؟ هذا أمر لا يعلمه إلا ربي -سبحانه وتعالى-.(11/11)
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن الله- سبحانه- قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، لا يخرجون منها أبداً، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم)، ما شاء الله، (وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم)، هذه نعمة سابغة، بل إن أفضل نعمة ينعم الله –تعالى- بها على أهل نعمته في الجنة، أن ينظر إليهم، فيرى المؤمنون وجه الله -سبحانه وتعالى-، وإثبات الوجه لله- تعالى- ثابت قال الله –تعالى-: ?إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً ?9?? [الإنسان: 9]، وليس المقصود بالوجه هنا الجنة، أو التأويلات التي ربما تكون موجودة وإنما يقصد بها الوجه حقيقة، فالوجه يثبت لله -سبحانه وتعالى- حقيقة، وقال- تعالى-: ?وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ?22? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?23?? [القيامة: 22، 23]، ناضرة: أي جميلة، ناعمة، حسنة، والإنسان وجهه لا يكون نضراً متلألئاً حسناً إلا إذا كان آمناً مطمئناً، أما إذا كان خائفاً مذعوراً حتى ولو كان جميلاً فإن نضرة وجهه تذهب، ?وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ? جميلة حسنة ناعمة، ?إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? أي: تبصر الله -عز وجل- وتشاهده وهذا أحد التأويلات الواردة عن السلف، التأول الثاني الوارد عن السلف: ?إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? أي تنتظر ثواب ربها، وذكر التأويلان الإمام الطبري -عليه رحمة الله- في تفسيره، ولكنه رجح التأويل الأول، أي: ?وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ? أي تشاهد ربها وتبصره وتنظر إليه قال: وهذا هو ما أتت به الآثار، ويقصد بذلك الآثر الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البخاري ومسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته)، فهذا أثر يدل على أن المؤمنين في الآخرة يرون ربهم -سبحانه وتعالى-، ورؤية الله -عز وجل- لا تكون في الدنيا، ولذلك موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- عندما طلب من(11/12)
ربه أن يراه فإن الله –تعالى- لم يمكنه من ذلك، ولكن قال: ?وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِق? [الأعراف: 143]، وقال- سبحانه-: ?لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ? [الأنعام: 103]، أي لا تدركه الأبصار في الدنيا، فإن بصراً لأحد لا يدرك الله -عز وجل- في الدنيا، أما ما ثبت عن بعض الصحابة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رأى ربه في رحلة المعراج، فإن هذا قول مرجوح والراجح: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (نور أنى أراه) كما ثبت في الصحيح عنه -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، أيضًا ما ذكرته بعض الكتب أن الإمام أحمد -عليه رحمة الله- رأى ربه في المنام، فقال له ربه -سبحانه وتعالى-: يا أحمد هل تعلم ما أعظم ما يتقرب به إلي المتقربون؟ قال: ما هو يا رب؟ قال: قراءة القرآن، فهذا الأثر ينبغي أن يحقق وأن ينظر إلى صحته، ثم بعد ذلك، مسألة الرؤية المنامية، الراجح أنها لا تثبت، وهناك بعض الآثار، أن الله –تعالى- ربما يكلم بعض عباده في المنام، أما الرؤية فهي لا تثبت في الدنيا وإنما تكون ثابتة يوم القيامة.(11/13)
وقال الله -تبارك وتعالى-: ?لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ? [يونس: 26]، الحسنى: دخول الجنة، فليس هناك شيء أعظم ولا أحسن من دخول الجنة، فنسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من أهلها، والزيادة: ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- فسرها بأنها النظر إلى وجه الله -سبحانه وتعالى-، ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح عند ابن أبي عاصم وعند غيره، وثبت ذلك أيضًا عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- كما ثبت عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عن الجميع- وهذا هو الاعتقاد الصحيح الذي عليه أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الدار الآخرة، كما يرون الشمس وقت الظهيرة وكما يرون القمر ليلة البدر، فإنهم يرون الله -عز وجل- في الآخرة، هذا هو اعتقاد الصحابة واعتقاد السلف جميعًا، إلى أن نبتت نابتة السوء من المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة الذين لم يؤمنوا بذلك أصلاً، وتأولوا آي القرآن فتأولوا قول الله -عز وجل-: ?وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ?22? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ?23?? [القيامة: 22، 23]، أن "إلى" مفرد آلاء، و? نَاظِرَةٌ? بمعنى منتظرة، فـ ?إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? أي: تنتظر ثواب ربها، نعم، هذا تأويل ثابت عن بعض السلف، ولكن بعض السلف الذين قالوا ذلك لم ينفوا رؤية المؤمنين ربهم -سبحانه وتعالى- في الآخرة.(11/14)
أيضًا جمع الدارقطني طرق الأحاديث الثابتة في الرؤية فزادت عنده على العشرين طريقاً، وكذلك فعل الإمام ابن القيم -عليه رحمة الله- في كتابه حادي الأرواح فبلغت عنده الثلاثين طريقاً كثير من هذه الأحاديث أحاديث صحاح، وجياد، وكذلك وقع للإمام يحيى بن معين، حيث ذكر أسند الدارقطني له أنه وقع له أكثر من سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها أحاديث صحيحة، فقول المصنف: (وأكرمهم فيه)، أي أكرمهم في الجنة بالنظر إلى وجهه الكريم، وهذه هي الزيادة التي ينعم الله –تعالى- بها على عباده المؤمنين، نسأل الله –تعالى- أن يوفقنا إلى الخير جميعًا.
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وهي) هذا الضمير يعود إلى ماذا؟ يعود إلى الجنة، وهي أي: الجنة (وهي التي أهبط منها آدمَ ) آدم مفعول به، (وهي التي أهبط الله –تعالى- منها آدمَ نبيه) بدل (نبيه وخليلفته إلى أرضه) نبيه النبي- كما قلت لكم من قبل-: من أوحى إليه الله -عز وجل-، فكل من أوحى إليه الله فهو نبي، وآدم -عليه وعلى نبينا السلام- أمره الله –تعالى- ونهاه، فهو نبي؛ لأن الله –تعالى- كلمه، وأوحى إليه ربه فأمره ونهاه، فمن جملة ما أمره الله -عز وجل- أمره أن يطيعه، وأمره أن يسكن الجنة، ومن جملة ما نهى الله –تعالى- أو ما نهى عنه آدم أو ما نُهي عنه آدم، نُهي آدم عن أكل الشجرة، فأُمر آدم ونُهي فكان نبياً بهذه الحيثية.(11/15)
وكذلك قول المصنف: (نبيه أو نبيه وخليفته) كلمة "خليفته" هذه الكلمة تحتاج إلى وقفة يسيرة؛ لأن الخليفة في اللغة على وزن فعيلة، وفعيل، أو فعيلة، تأتي بمعنى فاعل كما تأتي بمعنى مفعول، مثل قول الله -عز وجل-: ?الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ? [النحل: 98]، الرجيم على وزن فعيل، فيأتي بمعنى فاعل، أي راجم، فالشيطان رجيم، بمعنى راجم، يرجم غيره بالوسوسة والإغواء، يرجم غيره فهو راجم، وكذلك رجيم بمعنى مرجوم، مرجوم أي مرمي فكما يرمي غيره فيكون فاعلاً يُرمى هو، فيرمى بالرمي السماوي من الشهب، كما يُرمى بالرمي الأرضي من الذكر والاستغفار، فهو مرجوم بهذه الحيثية، فكذلك أيضاً خليفة تأتي بمعنى خالف كما تأتي بمعنى ماذا؟ مخلوف، والخالف الذي يُخلف غيره فيقوم مقامه في شأنه وفي أمره عن غيابه. هذا هو الخليفة، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا خرج من المدينة في غَزاة أو سفر استخلف ماذا؟ استخلف خليفةً، يخلفه على المدينة في مغيبه، فالخليفة هو خليفة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وبهذه الحيثية لا يمكن أن نجعل آدم خليفةً لله -عز وجل- فالله -سبحانه وتعالى- ليس بغائبٍ حتى يحتاج إلى من يكون خليفة بعده ليقوم بأمره في خلقه، فهذا معنى لا يكون لائقاً، أيضاً المعنى الثاني: أن خليفة بمعنى مخلوف، أي: يخلفه غيره، كما هو يخلف غيره، فإنه أيضاً يخلفه غيره، والله -عز وجل- لا يخلفه أحد أبداً من خلقه، بل هو الذي يُخلف غيره من خلقه، ولذلك عندما تسافر تقول: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل والولد، فالله- تعالى- خليفة لك؛ لأنه هو الذي يخلفك، يخلفك في نفسك بعد وفاتك يخلفك في مالك وأهلك وولدك، أما أن تكون أنت خليفة لله، فهذا لا يكون أبداً، وبهذا فإن هذه العبارة تحتاج إلى تحرير، تحتاج إلى نظر، قول المصنف: (وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه) هذه الجملة تحتاج إلى تحرير ولو قال المصنف: وهي(11/16)
التي أهبط منها آدمَ نبيهُ إلى أرضه وجعل ذريته خلائف في أرضه، لكان ذلك حسناً وجيداً وأخشى أن يكون ذلك من باب تصريف النساخ الذين ربما يتصرفون في بعض النصوص، أخشى أن يكون ذلك من هذا الباب، وإن كان ذلك من العبارة فهي وهلة لا تنقص، أو لا تجعل هذا المصنف خارجاً من نطاق أهل السنة، ولا تجعله منكوساً في إمامته بل هو إمام وجهبذ علم تتقبل عقيدته؛ لأن بعض الناس يأخذون الناس بأفراد الزلات ويبحثون عن الزلات ومنهجهم طي الحسنات وفضح السيئات، فمن وقع في زلة فضح ومن كثرت حسناته تطوى هذه الحسنات -سبحان الله- يعني يفتشون عن مساوئ الناس ووهلاتهم وما يظنونه من سيئاتهم فإذا ما وجدوا شيئًا طاروا به وإذا ما وجدوا حسنة ستروها وأخفوها، فهذا ليس بالإنصاف وليس هذا بالعدل، فالله- تعالى- يحب العدل والإنصاف، ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ? [النحل: 90]، بل إن ذلك هو منهج البغي بعينه، فنعوذ بالله -سبحانه وتعالى- من ذلك، ويؤيد ذلك أن الله –تعالى- جعل ذرية آدم خلائف يخلف بعضهم بعضاً، وهذا قوله- سبحانه-: ?ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ? [يونس: 14]، فجعل الله –تعالى- الناس خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، وهذا هو المعنى المتجه. والله تعالى أعلى وأعلم.
قول الإمام -عليه رحمة الله-: (وهي التي أهبط منها آدم)، الجنة التي سكنها آدم ما حالها؟ هناك ثلاثة أقوال في هذا الباب:
القول الأول: أنها جنة الخلد.
القول الثاني: أنها جنة مخصوصة، مكان عالٍ مرتفع في الأرض جعله الله –تعالى- لآدم فهي جنة في الأرض وليست في السماء.
القول الثالث: الله أعلم. التوقف، ولكن ليس التوقف والتبين، ولكن الله أعلم، نتوقف في هذه المسألة فلا ندري أين هذه الجنة هل كانت في السماء، جنة الخلد؟ أم هي جنة مخصوصة؟ الله أعلم.(11/17)
قص هذه الأقوال وذكرها الإمام ابن القيم، ومال ورجح القول الأول أنها ماذا؟ أنها جنة الخلد.
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وهي التي أهبط منها آدم نبيه إلى أرضه بما سبق في سابق علمه) الوجود أو الموجودات تنقسم إلى عدة أقسام: هناك وجود علمي، وهناك وجود ذهني، وهناك وجود عيني، إذن: هناك وجود علمي والوجود العلمي هو الوجود السابق لكل وجود، نتكلم عن المخلوقات فالوجود العلمي للمخلوقات سابق لوجودها عيناً، ولذلك من الأشياء الطريفة أن الناس عند العامة، يقولون لك: لما يكون هناك مشكلة بين أبيك وبين إخوته في الميراث ثم مات أبوك، فتقول: وأنت في علم الله اعتدى أعمامك على أبيك وصنعوا به كذا وكذا وقالوا له: كذا وكذا، وأنت في ماذا؟ في علم الله، -سبحانه وتعالى- وأنت في علم الله إذن: كنت موجوداً في علم الله -عز وجل- وهذا هو قول الله -عز وجل- ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى? [الأعراف: 172]، إذن: هذا هو الميثاق الأول عندما جمع الله الخلائق قبل خلقها، وأشهدهم على نفسه وقال لهم: ?ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ?172? أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ ?173?? [الأعراف: 172- 173]، فهذا هو الميثاق الأول الذي آخذه الله –تعالى- على الناس وهم في عالم العلم. طيب هم في عالم العلم كان موجودين؟ نعم كانوا موجودين إذن هناك وجود علمي, وهذا الوجود العلمي الأول وهذا الإشهاد الأول وهذا الميثاق الأول هو ميثاق عالم الذر، فمن آمن بالرسول وبما جاء به الرسول نفعه هذا الميثاق الأول ولذلك قال الله -عز وجل-: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا(11/18)
فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ? [الروم: 30]، فالناس جميعًا مفطورون على التوحيد, على معرفة الله, على التوجه بقلوبهم إلى الله، على تعظيم الله -عز وجل- مفطورون على ذلك الأمر وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة)، أي يولد على الإسلام, يولد على التوحيد, يولد على تعظيم الله -عز وجل-، (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي جميعًا حنفاء فاجتالتهم الشياطين)،إذن: (إني خلقت عبادي جميعًا حنفاء) فقد أخذ الله –تعالى- العهد والميثاق على الناس قبل خلقهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، إذن كان الناس موجودين وكان هذا الوجود هو الوجود الأول وهو الوجود العلمي.
الوجود الثاني: هو الوجود الذهني هذا الوجود هو الوجود المطلق، الموجودات المطلقة وفي الحقيقة أن الموجودات المطلقة لا توجد إلا في الأذهان، والموجودات المطلقة هي غير المقيدة، هي غير المحددة، عندما تقول- وهذا المثال ضربته ولكن في غير هذا الموضع-: اللواء، كلمة لواء فإن ذهنك يطير فيه كل مطار ماذا يقصد بكلمة اللواء؟ غير محددة، غير مقيدة، طيب ولذلك هنا الذهن يتحرك ويتصور كل المعاني لكلمة اللواء، العَلَم الذي يرفرف، القطعة من الجيش التي تتحرك، الرتبة العسكرية في الجيش، الرتبة العسكرية في الشرطة، في الداخلية، كل هذه المعاني يتجه إليها ماذا؟ الذهن، هذه المعاني لهذه الكلمة موجودة في الذهن، وإنما تتحدد عندما تتعين تقول: رأيت اللواء يرفرف فوق المبنى، إذن: تحدد المعنى، إذن: الكلمات المطلقة الكلمات المرسلة الكلمات الغير محددة لا وجود لها إلا في الأذهان.(11/19)
الأمر الثالث: الموجودات العينية: وهي الموجودات التي قدر الله –تعالى- أن تخرج إلى الدنيا، وجعل لها جسداً وروحاً وإرادةً وشأناً، (وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه)، ثم قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكُتبه ورسله وجعلهم محجوبون عن رؤيته)، قال الله -عز وجل- في ذلك: ?إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ?74? لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ?75?? [الزخرف: 74، 75]، أي: في هذا العذاب، فيه الضمير هنا يعود على العذاب، وقال- تعالى-: ?وَاتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ?131?? [آل عمران: 131]، ومن رحمة الله -عز وجل- أنه لا يجعل أهل الجنة يخرجون منها، ولكن يجعل بعض أهل النار يخرجون منها- وقد تكلمت عن هذه القضية في المجلس السابق- والإلحاد: التغيير، والتحريف ومنه قول الله -عز وجل-: ?وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ? [الأعراف: 180]، والجنة والنار لا تفنيان ولا تبيدان كما أن أهل الجنة ولا يخرجون منها، وكذلك أهل النار لا يخرجون منها إلا من أذن الله له، يدل على ذلك الحديث: (يؤتى بالموت في صورة كبش أملح أقترن فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت)، فأهل النار- إلا من شاء الله- يكونون في النار خالدين فيها، وأيضًا الكفار كما أنهم في النار خالدون في النار، فهم في الدنيا أيضًا لا يتنعمون في الدنيا، فهم ليسوا بآمنين في الدنيا، بل هم خائفون مذعورون- والعياذ بالله- وما يحدث لهم من بعض الخوارق في الدنيا إنما هذا من باب البلاء، طرفة يسيرة ذكرها بعض أهل العلم، وهذه الطرفة موجودة في كتاب "الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة" لبعض آل الشيخ ومن أراد أن أذكره بهذه الطرفة أذكره في مقام آخر لأني أشعر بأن الوقت قد أزف،(11/20)
قال الله -عز وجل-: ?كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ? [المطففين: 15]، هذا في أهل النار، ?كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ? أي: يوم القيامة, في الآخرة ?لَّمَحْجُوبُونَ?، لمحجوبون: هناك تأويلان:
التأويل الأول: محجوبون عن رؤية الله -عز وجل-.
والتأويل الثاني: محجوبون عن ثواب الله -عز وجل- وعن إكرامه ونعمائه وذهب الإمام الطبري إلى أن القولين صحيحان، وليس أحدهما بأولى من الثاني، وذهب القاسمي في محاسن التأويل إلى أن قوله- تعالى-: ?لَّمَحْجُوبُونَ?، كلمة عامة فتشمل التأويلين، فأهل النار- والعياذ بالله- محجوبون عن رؤية الله –تعالى- وأيضًا هم محجوبون عن ثواب الله -عز وجل- وعن كرمه وعن نعمه وإحسانه، فنسأل الله –تعالى- أن يجعلنا أهلاً للجنة، وأن يجعلنا أهلاً لنعمائه وصلي الله وسلم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ورتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية، وكان السؤال الأول: وجه جملة من يدخله الله الجنة يدخله بفضله ومن يدخله النار يدخله بعدله؟
وكانت الإجابة: توجيه جملة من يدخله الله الجنة يدخله بفضله ومن يدخله النار يدخله بعدله، المقصود به هنا هو مرتكب الكبيرة الذي مات ولم يتب من ذنبه فمذهب أهل السنة والجماعة- وهو المذهب الصحيح- أن مرتكب الكبيرة متروك أمره إلى الله –تعالى- إن شاء عفا عنه ابتداءً وهذا بفضله وجوده وإحسانه وإن شاء عاقبه بذنبه ثم يخرجه من النار بفضله ومنته فمرتكب الكبيرة عندما يُعاقب فإن الله لا يظلمه؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد، فالله -سبحانه- يعاقبهم بذنوبهم وهذا عدله- سبحانه- وإن أدخلهم الجنة فهذا بمنه وجوده وإحسانه فإن أحداً لن يدخل الجنة بعمله، وإنما برحمة الله –تعالى- كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.(11/21)
ما شاء الله هذا جيد، ولو ذكرنا زيادة بسيطة أن الله -سبحانه وتعالى- يضع ?وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ?47?? [الأنبياء: 47]، أن يذكر بأن مرتكب الكبيرة قد تكون له حسنات أو أن يكون الله- تعالى- قد ابتلاه بمرض أو مصاب أو هم أو نصب أو نحو ذلك من المكفرات التي ذكرتوها فقد تكون هذه الأشياء أيضًا سبباً في تكفير هذه الذنب الذي فعل، وهذا مرده أيضًا إلى من إلى الله -عز وجل-، هذا كلام جيد نعم.
السؤال الثاني: أذكر الشفاعة المثبتة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؟
وكانت الإجابة الشفاعة المثبتة للنبي -صلى الله عليه وسلم- هي شفاعتان:
الأولى: الشفاعة العامة لجميع الخلائق ليفصل الله –تعالى- بينهم وهي المقام المحمود، الثانية: الشفاعة الخاصة وهي للعصاة من المسلمين.
ما شاء الله، جيد.
الأخ الكريم من مصر يقول: عندي سؤالان:
السؤال الأول : بالنسبة للسؤال الخاص بهذه الحلقة وهو مسألة خروج بعض أهل النار من النار كنت سمعت حديثاً ( أن أربعة سيخرجون من النار وربنا -سبحانه وتعالى- سيأذن لهم بالرجوع مرة ثانية، فيبقى واحد ينظر إلى الخلف، فيسأله الله -عز وجل- ما الذي يجعلك يا عبدي تنظر إلى الخلف؟ فيقول: ظني أنك إذ أخرجتني منها أنك لن تعيدني فيها، فيقول له الله -عز وجل-: ادخل الجنة بحسن ظنك بي) أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
هذا الحديث سمعت أنه صحيح، أريد أن أعرف مدى صحته وما معناه؟ ولماذا خرجت هذه الناس من النار ولماذا دخلت ثانية؟(11/22)
السؤال الثاني: بالنسبة للإلحاد في أسماء الله -عز وجل- كنت سمعت من أحد الشيوخ الأفاضل: إن نطق أسماء الله -عز وجل- بغير اللغة العربية الفصحى قد يؤدي ذلك إلى الإلحاد، مثل أن يقول: عبد الخالئ بدل عبد الخالق، عبوهاب، بدل عبد الوهاب، عَبْدَ الله بدل عَبْدُ الله، ما مدى صحة هذا القول؟ والناحية الثانية: ما مدى الذنب لو فيه ذنب؟ وما قدر هذا الذنب؟ بالنسبة للعوام كيف نصلح لهم هذا الأمر، مع أنهم يقولون: نحن لا نعتقد في هذا الأمر؟ وليست نيتي أن أخطأ في أسماء الله -عز وجل-؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم له سؤالان سؤاله الأول عن خروج بعض أهل النار وذكر حديث الأربعة فيبقى منهم واحد ينظر إلى الخلف؟
هذه المسألة تحتاج إلى مراجعة مني.
سؤاله الثاني، كان عن الإلحاد في أسماء الله –تعالى- والنطق بغير العربية الفصحى هل يؤدي ذلك إلى الإلحاد؟ وما هو قدر هذا الذنب؟(11/23)
والله هذا الكلام كلام لم أره لأحد من المتقدمين من أهل العلم، فما زال العامة يتكلمون ولم أرَ ولم أسمع ولم أقرأ أن أحداً من المتقدمين من أهل العلم قال: بأن نطق أسماء الله -عز وجل- بغير اللغة العربية الفصحى يعد ذلك إلحاداً في أسمائه- سبحانه- بل بالعكس الذين يتكلمون باللغة العربية من الأعاجم، عندما يتكلمون هناك حروف بتمامها لا يستطيعون أن يقولوها يعني مثلاً حرف مثل الضاد، لا يستطيع أن يقول أي اسم فيه ضاد، لا يستطيع أن يقول ذلك، بل حرف القاف، يعني الخالق، يقوم مثلاً يقول: الخالك، هكذا هو أعجمي، وأحياناً الخاء لا يستطيعون إخراجها، فيمكن أن يقولها قريبة من الهاء، فالخالق يقولها: الهالك، عبد الهالك، قرابة من الهاء، فهؤلاء الأعاجم نقول لهم: لا تقولوا ذلك وهذا كفر بالله ولا يجوز لكم، هم يقولون هذه الأسماء ولا يقصدون المعاني التي تبادرت إلى أذهاننا، لكن الأوفق طبعًا والأسلم والأجود أن يتعلم الناس اللغة الفصحى، وأن يتكلموا بها تكلماً صحيحاً ومن بركة كلامهم بالفصحى، أن يقرؤوا القرآن قراءة صحيحة وأن يقرؤوا السنة قراءة صحيحة وأن يقرؤوا أسماء الله -عز وجل- قراءة صحيحة، لكن من زلَّ في ذلك أو أخرج حرفاً مكان حرف، أو صوتاً مكان صوت، لا يمكن أن نخرجه من الدائرة، أو نقول بأن ذلك إلحاد في أسماء الله -عز وجل- ونطبق عليه الآية أظن أن هذا الأمر فيه تكلف، والله تعالى أعلى وأعلم.
الأخت الكريمة من مصر تقول: السلام عليكم، أقوم بإلقاء محاضرات لبعض الأخوات، وبعض الأخوات تسأل: هل يجب زرع العقيدة في نفوس الأخوات قبل إلقاء المحاضرات بحجة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظل في مكة ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً يزرع العقيدة في نفوس المسلمين، أنا أقول: هؤلاء كانوا يعبدون الأصنام وبعيدين كل البعد عن التوحيد الخالص لله -عز وجل-. فلا أعرف ما هو رأي حضرتك بالنسبة لحجة بعض الأخوات اليوم أننا لابد أن نزرع العقيدة أولاً؟(11/24)
السؤال الثاني: بالنسبة للعمل بالخواتيم، هناك حديث ورد في صحيح البخاري: (أن رجلاً ظل يعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما كان بيبنه وبين الجنة ذراع, الذي كان في عزوة مع غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما رُمِيَ بسهم قتل نفسه) فيما معنى الحديث، بعض الأخوات عندما نشرح هذا الحديث يحصل في صدرهن خوف شديد جدًا, هل بعد استقامتهن على الحجاب والالتزام وغير ذلك، هذا الحديث فعلاً يسبب خوفاً للأخوات. لا أعرف ما هو رأي حضرتك؟ وما الذي تنصحنا به؟
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم، حقيقة ما يروى في بعض الأحاديث- والله أعلم بصحتها- (أن بين كل فرض وفرض أو بين كل صلاة وصلاة توقد نار للمؤمن حتى إذا توضأ وصلى انطفأت النار)، ما مدى صحة هذا الحديث؟
السؤال الثاني: إمام وخطيب يدخن ما مدى قبول الفرض منه؟ وهل التدخين من الكبائر؟ وهل إذا توفته المنية هل له توبة عند الله أم سيكون من المصرين؟
الأخ الكريم من السعودية يقول: أريد التفصيل في رؤية الله -سبحانه وتعالى- في المنام؟ ويحضرني في هذا حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( حتى وجد برد يدي الله -سبحانه وتعالى- على كتفيه أو على صدره)؟
السؤال الثاني: تعبير المؤلف لقوله: (خليفة) ألا يكون مأخوذاً من آية البقرة: ?إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً? [البقرة: 30]؟
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من مصر كانت تقول: إنها تعطي محاضرات للأخوات وهناك أخوات قلن لها: إنها لابد أن تتكلم في العقيدة أولاً قبل أي حديث فما هو رأيكم في زرع العقيدة أولاً؟(11/25)
بسم الله الرحمن الرحيم, لو نحن نظرنا إلى الوضع الذي كان عليه طلب العلم أولاً: لوجدنا أن الأمور ليست بهذه الصورة التي نطلبها، فهناك الفقه وهناك الأصول وهناك اللغة وهناك كذا وكذا، لكن كان الأمر محصوراً بين الشيخ والأستاذ والأستاذ يعطي مع العلم أمرين: الأمر الأول: يُعطي الاعتقاد الأمر الثاني: يعطي الأدب، إذن: أي مادة علمية، سواء كانت في الفقه أو في اللغة أو كانت في التفسير أو ما إلى ذلك كان الأستاذ أو الشيخ يعطي مع مادته العقيدة كما يعطي معها ماذا ؟ يعطي معها الأدب، والاعتقاد هو هذا المحرك الذي يحرك صورة العلم لو نظرنا إلى اللغة لوجدنا أن أثر الاعتقاد الاعتزالي يظهر عند أئمة اللغة من المعتزلة، وكذلك إذا نظرنا إلى العقيدة نجد أثر العقيدة الاعتزالية عند المفسرين بل وعند الفقهاء، بل وعند الأصوليين، فالعقيدة خطيرة جداً في مسائل العلوم، ومن هنا أنا أتكلم عن المسائل كمسائل علمية، يجب على طالب العلم أن يطلب العقيدة الصحيحة التي بطلبها يكون رجلاً عقائدياً يطلب العقيدة المتمثلة في الإله، الذي يعبده، والنبي الذي يتبعه ثم بعد ذلك في الغيب الذي يؤمن به والقدر والصحابة، هذه المسائل لابد أن تكون له فيها تصورات صحيحة، فأنا مع هؤلاء القوم الذين يقولون: لابد من تصحيح العقيدة أولاً، ولكن أنا أُخالف في مسألة كيفية تدريس العقيدة، ينبغي في الدروس المستفيضة المتسعة التي يرتبط فيها الشيخ مع تلاميذه أن تُدَرس العقيدة بطريقة أخرى بخلاف الطريقة المدرسية الجامدة الجافة، لابد أن تدرس العقيدة بطريقة سهلة وبسيطة، تراعى فيها كثرة الأمثلة, يراعى فيها السير والتاريخ واللطائف، يراعى فيها تقريب الناس من المفاهيم العقائدية يراعى فيها تدريب الناس على هذه المفاهيم لابد من ذلك الأمر، فأنا في جملة الذين يقولون: لابد من العقيدة أولاً، ولكن لابد من تحرير كيفية الاعتقاد، أو كيفية دراسة العقيدة.(11/26)
الأخ الكريم من مصر كان يسأل عن صحة الحديث: بين كل فرضين؟
الله أعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: يريد تفصيل في رؤية الله في المنام، وذكر حديث: (حتى وجد برد أصابعه)؟
هي (برد أنامله أو برد كفه)، وهذا الحديث هو حديث صحيح ثابت، في بعض السنن، وعند ابن أبي عاصم، وهذا الأمر( رأيت ربي في أحسن صورة)، وهذه رؤية منامية، وقالوا: بأن هذا خاص بالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
كان سؤال الثاني: عن تعبير المؤلف (خليفة أو خليفته) ألا يمكن أن يكون هذا مأخوذ من قول الله –تعالى- في سورة البقرة: ?إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً? [البقرة: 30]؟
أبداً، كلمة ?خَلِيفَةً? في سورة البقرة، يقصد بها يخلف بعضهم بعضاً من بني آدم أو خليفة، أي: قد خلفوا غيرهم من الذين سكنوا الأرض قبلهم، وهذا يدل على أن خلقاً قبل آدم سكن الأرض- والله تعالى أعلى وأعلم-.
الأخ الكريم من المغرب يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ما قولكم فيمن ينسب القول بفناء الجنة والنار وأنهما غير خالدتين إلى شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-؟
هذا كلام لا يصح أبداً.
كان له سؤال آخر: هل الجنة والنار مخلوقتان، المخلوقتان والموجودتان الآن هما على الخلقة التي سيكونان عليهما يوم القيامة؟
-والله تعالى أعلى وأعلم- نعم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما رأى الجنة رآها ورأى عنقوداً وكاد أن يمسكه، وقال: (لو أصبته فأكلتم منه لكان في الدنيا إلى أن تزول) فهذا دليل على أنها الجنة التي أعدها الله –تعالى- والله تعالى أعلى وأعلم؟
فضيلة الشيخ، هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
هناك ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: تكلم عن الاعتقاد في الأولياء: من هم؟ وماذا أعد الله لهم في الآخرة؟
السؤال الثاني: ناقش عبارة المصنف: (وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه)؟
السؤال الثالث: اذكر اعتقادك في البرزخ؟(11/27)
ملحوظة: يسيرة لإثبات البرزخ إثبات الجنة النار وهذه الفكرة أو العنصر الثالث؟ إثبات الجنة والنار يقتضي أن تكون هناك مرحلة وسطى بين الدنيا والدار الآخرة، هذه المرحلة هي مرحلة البرزخ، ويدل عليها قول الله -عز وجل-: ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ?46?? [غافر: 46]، وأيضًا ما أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن حديث البراء بن عازب الحديث الطويل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال موعظة من هذه الموعظة أن قال عن المؤمن: (فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة) فهذا يدل على أن القبر كان في هذه الحالة روضة من رياض الجنة حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له قبره مُد بصره) أما الكافر فإن الأمر يختلف فيقال له: (أفرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومه) فنعوذ بالله أن نكون من أهل النار.
والحمد لله أولاً وآخراً.(11/28)
الدرس الثاني عشر
كان الحديث قبل عن الجنة وعن النار وأنهما مخلوقتان، والحقيقة أن متن الإمام القيرواني يحتاج إلى نوع يسير من الترتيب، فقد ذكر -عليه رحمة الله- مجيء الرب -تبارك وتعالى- للفصل بين العباد, وذكر الحوض والصراط وغير ذلك مما هو موجود في ذلك اليوم الرهيب، ذكر ذلك كله بعد ذكر الجنة والنار، ومعلوم أن الجنة والنار إنما هي تلي هذا اليوم العظيم الذي ينزل فيه ربنا ويجيء ربنا -سبحانه وتعالى- للفصل بين العباد، فبإذن الله -سبحانه وتعالى- في هذا اللقاء سيكون حديثنا عن نزول أو عن مجيء الرب -سبحانه وتعالى- للفصل والحساب بين الناس، إلى نهاية هذا اليوم عندما يتجه الناس إما إلى الجنة وإما إلى النار. فنسأل الله –تعالى- أن يحسن بنا القرار، وأن يجعل خاتمتنا في طاعته فإنه -سبحانه وتعالى- القدير على كل شيء. تفضل أخي الحبيب.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأن الله -تبارك وتعالى- يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً، لعرض الأمم وحسابها وعقوبتها وثوابها، وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد، قال الله –تعالى-: ?فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?102 ? ? [المؤمنون: 102]، ويؤتون صحائفهم بأعمالهم فمن أوتي كتابه بيميه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يُصلون سعير)
بسم الله الرحمن الرحيم(12/1)
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن الله -تبارك وتعالى- يجيء يوم القيامة والمَلَك صفاً صفاً، لعرض الأمم وحسابها وعقوبتها وثوابه)، مجيء الرب -سبحانه وتعالى- للفصل بين العباد: لا يكون ذلك إلا بعد البعث والحشر، والبعث: هو القيام من القبور عند سماع النفخة، البعث قيام الناس من قبورهم عند سماع النفخة، قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجْدَاثِ ? أي: القبور ?إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ?51 ? ? [يس: 51]، ينسلون أي: يسرعون، ?قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَ ? أي: من قبورنا ?هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ ? هذا الجواب عليهم ?هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ?52 ? ? [يس: 52]، وفي صحيح مسلم أن نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: (يُبعث كل عبد على ما مات عليه)، فهذا هو البعث، فعندما يسمع أهل القبور الصيحة فإنهم يقومون سراعاً لله رب العالمين, بعد أن يكون البعث يكون الحشر، والحشر جمع الخلائق بعد بعثها أحياءً في ساحة واحدة تدعى بعرصة يوم القيامة، فالعرصة في اللغة بمعنى: الساحة، ومنها عرصة الدار، أي باحته، وساحته، فكذلك عرصات يوم القيامة، هي الساحات العظيمة التي يُجمع فيها الناس للفصل فيما بينهم، قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ?97 ? ? [الإسراء: 97]،(12/2)
وبعض الصحابة عندما سمع هذه الآية تعجب من حشر الكافرعلى وجهه، ففي البخاري ومسلم من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه-: (أن رجلاً قال: يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادراً على أن يُمَشيه على وجهه يوم القيامة؟!) قال قتادة- وهو راوي الحديث عن أنس -رضي الله تعالى عنه-: [بلى وعزة ربن]، أي: أن ربنا -سبحانه وتعالى- قادر على كل شيء، فكما أقدرنا على المشي على أرجلنا في الدنيا، وجعل أهل الدنيا يسيرون منتصبين أي: ناصبي أقدامهم، فكذلك الله -سبحانه وتعالى- قادر على أن يُمَشِيّ الكافر على وجهه في النار يوم القيامة- والعياذ بالله- إذن: فتمشية الكافر على وجهه يوم القيامة: هذا خبر حق ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصدق به ما أخبر به ربنا- سبحانه- في سورة الإسراء.(12/3)
وبعد حشر الناس يوم القيامة، يأتي ربنا -عز وجل- إذن: يُبعث الناس من القبور, يَهرَعُ الناس إلى ساحة الموقف، ليحتشد الناس جميعاً في ساحة الموقف وهذه الساحة أرض أعدها الله -عز وجل- للفصل بين الناس, فليست الأرض كالأرض التي نعيش عليها، ?يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ?48 ? ? [الرعد: 48]، فالأرض غير الأرض والسماوات غير السماوات فعندما يبدل الله –تعالى- الأرض ويجعل أرضاً مخصوصة يجتمع عليها الناس للفصل فيما بينهم يأتي ربنا -سبحانه وتعالى- والملك صفاً صفاً، فقول المصنف: (وأن الله -تبارك وتعالى- يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً، هذا مصداق قول ربنا -سبحانه وتعالى-: ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ ? [الفجر: 22]، وهذا مجيء حقيقي وإثبات لصفة حقيقية لله -عز وجل- وهي صفة المجيء، وليس المقصود كما قال بعض الناس- سامحهم الله- أن المجيء هنا عائد على الأمر والتقدير وجاء أمر ربك، هذا كلام لا يصح؛ لأنه ورد في ذلك اليوم أن الله –تعالى- يخاطب الناس ويكلمهم ويحكم بينهم فياترى من ذا الذي سيحكم بين الناس ويحدثهم ويناقشهم أهو أمر الله أم الله؟!! -سبحان الله- إذن: ?وَجَاءَ رَبُّكَ ? هذا على حقيقته لا تحتمل تأويلاً واللفظ ظاهر لا يحتاج أن نصرفه على غير وجهه، وأيضاً قال ربنا -سبحانه وتعالى-: ?هَلْ يَنْظُرُونَ ? هل ينظر الكفار والمكذبون باليوم الآخر والمنكرون له ?هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ?210 ? ? [البقرة: 210]، هنا تقدير لطيف ?هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ?، الظلل كالسحاب، والغمام نحوه، والله -تبارك وتعالى- لا يأتي في السحاب، ولكن التقدير هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله(12/4)
والملائكة في ظلل من الغمام، فظلل الغمام عائدة على من؟ على الملائكة، لا تعود على الله -عز وجل- وهذا التأويل ثابت عن أبي العالية التابعي الجليل -رضي الله تعالى عنه- إذن: التقدير أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، إذن: في ظلل من الغمام عائدة على من؟ ومتعلقة بمن؟ بالملائكة ليست متعلقة الله -عز وجل- وهذا تفسير أبي العالية، هذا اليوم الجليل المهول يُسمى بيوم القيام لماذا سمي بيوم القيامة؟ سمي هذا اليوم بيوم القيام؛ لأن الناس يقومون فيه لله رب العالمين قال الله -عز وجل-: ?يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ? [المطففين: 6]، يوم يقوم الناس يقومون من أي مكان؟ يقوم الناس من رقدتهم, من قبورهم يقومون لمن؟ لله رب العالمين، ?يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?، وهم في فزع شديد، وهلع وخوف، فزع وهلع وخوف، قال الله -تبارك وتعالى- في شأن الناس وهم يشخصون بأبصارهم إلى الله -عز وجل- خائفين مذعورين قال ربي- سبحانه-: ?وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ?42 ? ? [الرعد: 42]، هذا هو يوم القيامة، ?مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ ? رؤوسهم مطأطأة عليها ذلة وندامة ?لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ?، الطرف بمعنى: النظر، فنظرهم لا يستقر بل هو تائه مضطرب ثم قال- تعالى-: ?وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ?، هذه الواو أجمل ما يقال فيها: أنها واو القطع, واو الاستئناف ?وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ?، جملة جديدة، والأفئدة هي القلوب والهواء أي: ضعيفة غير مستقرة، ?وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ?، قلوبهم ضعيفة غير ثابتة من شدة الخوف- والعياذ بالله- وقال- تعالى-: ?يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ? من قبورهم ?يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ? فالله -تبارك وتعالى- لا يشغله زيد عن عمر، ولا عمر(12/5)
عن زيد، ولا مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم، ?لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ? والألف واللام هنا للعهد أي في ذلك اليوم المعهود المعروف، وكما هو معلوم بأن العهد يقتضي التخصيص، فهذا اليوم ليس ككل يوم، بل هو يوم شأنه عظيم، مقداره خمسون ألف سنة، كما صح الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أرأيت أن الناس يقومون من قبورهم يقفون على أرجلهم خمسين ألف سنة حتى يفصل الله –تعالى- بينهم) فنسال الله –تعالى- أن يرحمنا برحمته، ?لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ?16 ? الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ?17 ? ?، [غافر: 16، 17]، فلا ظلم اليوم، ?وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً ? [الكهف: 49] فنسأل الله –تعالى- أن يعافينا.
في هذا اليوم تقترب الشمس من رؤوس الخلائق، حتى يعرق الناس عرقاً شديداً ويبلغ العرق من كل واحد قدر ما كان من عمله، وصح الخبر في ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي صحيح مسلم من حديث المقداد -رضي الله تعالى عنه- قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يقول: تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل)، والميل: إما أن يكون الميل المسافة وإما أن يكون ميل المكحلة، ومعلوم حاله، (فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه)، والكعبين أسفل القدمين (منهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون) أي: العرق (إلى ركبتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجام) وأشار النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى فيه)، يعني: يأتي العرق إلى فيه -سبحان الله- هذا أمر مهول. فنسأل الله –تعالى- العافية.(12/6)
أيضاً هذا اليوم يود الناس أن يفصل بينهم ولو إلى النار، فنسأل الله –تعالى- أن يحسن إلينا في ذلك اليوم. قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن الله -تبارك وتعالى- يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً، لعرض الأمم وحسابها، وعقوبتها وثوابه)، هذا الأمر يكون في ذلك اليوم( لعرض الأمم) العرض (وحسابه) الحساب، (وعقوبتها وثوابه)، فالناس يعرضون على الله -عز وجل- صفاً صفاً، كما قال: ?وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّ ? [الكهف: 48]، ويحاسب الله -عز وجل- كل واحد بمفرده، ?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? [الأنعام: 94]، إذن: الناس يعرضون على الله -عز وجل- صفوفاً صفوفاً صفوفاً، هناك نظام وترتيب صفوفاً صفوفاً، ثم إن الله –تعالى- يحاسب كل واحد بمفرده، ليست هناك لجنة حساب, يدخل فيها الجماعة ليحاسبهم الله مجموعة واحدة، بل يحاسبون فرداً فرداً، وفي هذا اليوم المهول هناك عدة أمور تحدث فيه، من هذه الأمور التي تحدث في هذا اليوم: الحساب، وقراءة الكتب ومناقشة بعض الناس أعمالهم، هذا أول شيء يحدث في ذلك اليوم، بعد أن يحشر الناس في أرض الموقف، ويأتي ربنا -سبحانه وتعالى- والملك صفاً صفاً للعرض على الله أي: الملائكة بين يدي الله -عز وجل- صفاً صفاً، لتأتمر بأمره في ذلك اليوم وكذلك أرض الموقف, الملك صفاً صفاً تحوطها. في هذا اليوم تحدث عدة أمور: الأمر الأول: الحساب وقراءة الكتب ومناقشة بعض الناس أعمالهم، قال الله -عز وجل-: ?وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً?49 ? ? [الكهف: 49]، إذن: هناك حساب وهناك كتب تطير ليلتقفها الناس، فهناك من يقرأ كتابه بيمينه وهناك من يقرأ كتابه بشماله، قال(12/7)
الله- تعالى-: ?يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ? أي: تعرضون على الله -عز وجل- ?يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ? أي: على الله للحساب، ?يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ? فالله -تبارك وتعالى- يعلم السر وأخفى، فلا أحد يُضمر شيئًا ولا يُخفي شيئًا إلا والله- تعالى- يعلمه، ?لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ?18 ? فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ ?19 ? إِنِّي ظَنَنْتُ ?20 ? ? أي: تأكدت واعتقدت ووثقت ?أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ?20 ? فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ?21 ? فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ?22 ? قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ?23 ? كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ?24 ? ? [الحاقة: 18، 24] إذن: الذين قضوا أعمارهم طاعةً لله -عز وجل- ونصرةً لسنة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وحباً لهذا الدين، وبذلاً لهذا الدين, بذلوا من أموالهم لهذا الدين ومن أوقاتهم ومن دمائهم لهذا الدين يكافئهم ربنا -سبحانه وتعالى- بأن يأخذوا كتابهم بأيمانهم. ويجدون خيراً عظيماً في ذلك اليوم، فهم ?فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ?21 ? فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ?22 ? قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ?23 ? كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا ?24 ? ? [الحاقة: 22- 24]، الباء هنا للسبب، ?كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ ?24 ? وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ?25 ? ? [الحاقة: 24، 24]، هذا هو الصنف الثاني ?وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ?25 ? وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ?26 ? يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ?27 ? ? [الحاقة: 25- 27]، يعني: يا ليتني عندما مت لم أبعث مرة ثانية، ?يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ?27 ? مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ?28(12/8)
? هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ?29 ? خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ?30 ? ? [الحاقة: 27- 30]، فأصحاب الدنيا الذين عبدوا الدنيا من دون الله وعبدوا السلطان من دون الله ولم يعبدوا الله رب العباد، فإن الله –تعالى- يخزيهم في ذلك اليوم الذي كان نبي الله –تعالى- إبراهيم يدعو ربه ويسأله ألا يخزيه في ذلك اليوم، والناس جميعاً يُعرضون على الله –تعالى- يوم الحساب، (فمن نوقش الحساب عُذِّب وأهلك)، ومناقشة الحساب أي: التدقيق في السؤال، والمقصود بإهلاك من نوقش العذاب أن الله –تعالى- لا يرحمه بعد المناقشة، إذن: هناك من يناقشه الله أي: يدقق في حسابه ويراجع أعماله يراجع سيئاته ويناقش سيئاته ويقرره بذنوبه، ثم يرحمه الله -عز وجل- برحمته وفضله، ويدخله الجنة، وهناك من يُعامله الله –تعالى- بعدله فلا يرحمه ربنا -عز وجل- فهذا هو الهالك لا محالة- فنسأل الله –تعالى- العافية- إذن: المناقشة هي الحساب المحاسبة فلو كانت المحاسبة مع المسامحة فهذه هي رحمة الله -عز وجل- أما المحاسبة مع ترك المسامحة فهذه هي الهلكة وهذا هو العذاب.(12/9)
يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة: يا رسول الله ألم يقل الله -عز وجل-: ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ?7 ? فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ?8 ? ?؟ [الانشقاق: 7، 8])، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: من حوسب يوم القيامة هلك، فعائشة استشكل عليها ذلك الأمر فقالت: (يا رسول الله ألم يقل ربنا سبحانه: ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ?7 ? فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ?8 ? ? فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما ذلك العرض، من نوقش العذاب عُذِّب) وفي لفظ (هلك)، من نوقش الحساب عذب أو هلك، أي: من نوقش الحساب فلم يسامحه ربنا -عز وجل- لم يسامحه ربنا -عز وجل- إذن: مناقشة الحساب مع ترك المسامحة يؤدي ذلك إلى الهلكة لماذا؟ لأن الإنسان مهما صنع من الحسنات فإنه مقصر، ومهما أتى من أعمال البر فإنها ناقصة، بجناب نعم الله -عز وجل- وآلائه ومعروفه، فمن ناقشه ربنا -سبحانه وتعالى- حسابه فقرره بذنوبه ولم يسامحه ربنا -سبحانه وتعالى- ولم يحسن إليه ربنا- سبحانه- فهذا مرذول هالك- والعياذ بالله- يدل ذلك على أن مناقشة الحساب مع المسامحة تؤدي إلى النجاة ما أخرجه الإمام مسلم وقبله البخاري من حديث ابن عمر: (أن رجلاً قال له: كيف سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النجوى؟ فقال ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-: سمعته يقول: يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه -عز وجل- حتى يضع عليه ربنا كَنَفَهُ)، والكَنَف بمعنى: الستر، أي: إن الله –تعالى- يستره يوم القيامة -نسأل الله تعالى أن يسترنا في الآخرة كما سترنا في الدنيا- (فيقرره بذنوبه)، الله –تعالى- يستر ذلك العبد ويقرره بذنوبه، (يقول الله -عز وجل-: هل تعرف؟) أي: هل تعرف ذلك الذنب؟ (فيقول: أي ربي أعرف)، أي(12/10)
أعرف هذا الذنب، (فيقول الله -عز وجل-: قد سترتها عليك -أي هذه الذنوب- في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته بيمينه)، إذن: هذا رجل حاسبه ربنا وناقشه وقرره ذنوبه، ومع ذلك سامحه الرب، وأحسن إليه، وتجاوز عنه. فنسأل الله -عز وجل- أن يتجاوز عنا.
وكذلك العبد يسأل عن كل نِعم الله -عز وجل- في هذا اليوم يوم القيامة تسأل عن كل النعم التي أعطاها لك ربنا -سبحانه وتعالى- ما من نعمة أنعم بها الرب عليك إلا ستسأل عن هذه النعم، ومن جملة هذه النعم، أن تسأل عن شبابك وعن عمرك وعن مالك وعن علمك، كما صح الحديث بذلك عند الترمذي وغيره، وهو حديث أبي بردة الأسلمي -رضي الله تعالى عنه- فأبو بردة الأسلمي -رضي الله تعالى عنه- قال: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل فيه، وكذلك عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)، إذن: الجسم والمال والعمر والشباب هذا كله من جملة ما ستسأل عنه يوم القيامة، إذن: أول شيء سيحدث في ذلك اليوم، الحساب وقراءة الكتب ومناقشة بعض الناس أعمالهم.(12/11)
الأمر الثاني: الوزن والميزان، الميزان: الذي توزن به الأعمال والوزن: هي العملية التي توزن بها الأعمال كما يوزن بها الناس وأعمالهم، قال الله -تبارك وتعالى-: ?فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ ?101 ? فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?102 ? وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ? -والعياذ بالله- ?وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ?103 ? ? [المؤمنون: 101- 103]، إذن: هناك ميزان وهناك وزن، وهناك ناس تثقل موازينهم فيفلحون وناس تخف وتكون موازينهم خفيفة فيرذلون وينتكسون- والعياذ بالله- قال الله -عز وجل-: ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ?47 ? ? الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ?فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ?7 ? فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ?8 ? وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ?8 ? ? قال تعالى: ?وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ?8 ? فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ?9 ? وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ?10 ? نَارٌ حَامِيَةٌ ?11 ? ? [القارعة: 7- 11]-والعياذ بالله- إذن: هذه نصوص تدل على أن هناك ميزاناً وأن هناك وزناً وفي الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: عندما تعجب الصحابة من دقة ساقي عبد الله بن مسعود: (والذي نفسي بيده لهي أثقل عند الله من جبل أحد)، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد بإسناد قوي.(12/12)
والميزان له كفتان، ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وغيره وهذا الحديث إسناده صحيح من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- أحب أن أقول دائماً عندما أقول عبد الله بن عمرو بن العاص أن أقول: -رضي الله عنه وعن أبيه- من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله -عز وجل- يُخلِّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجل) والسجل الكتاب والصحيفة، (كل سجل مَدُّ البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟) وفي بعض الألفاظ: (ليس فيها حسنة قط) ، في بعض الألفاظ؛ لأن هذا الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وابن أبي عاصم وغير ذلك، (أتنكر شيئًا من هذا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ يقول: لا يا رب)، عندما أقرأ هذا العبد الخائف المذعور الموقوف بين يدي الله -عز وجل- والرب الجليل يقرره ويقول: (ألك شيء عندنا؟ هل ظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب)، تستشعر أن هذه الكلمة لها ظلال ومعاني (لا يا رب) لك أن تتصور، كيف يقول هذه الكلمة؟ (لا يا رب، فيقول الله -عز وجل-: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الرب: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فَتُخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل لا إله إلا الله)، إذن: هذا يدل على أن الميزان حق، وأن الميزان له كفتان، وأن الحسنات والسيئات توزن، وأن الناس يوزنون كما ثبت من حديث عبد الله بن مسعود، فالأعمال توزن والناس يوزنون، ويوزن الناس بأعمالهم أيضاً، ودليل ذلك ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ? [الأنبياء: 47]، فكلمة الموازين قد تعني هذا الأمر، تعني: الناس وأعمالهم.(12/13)
الأمر الثالث: نحن قلنا: الحساب وقراءة الكت، ومناقشة الحساب هذا أولاً، ثانيًا: قلنا: الميزان ثالثًا: هناك القصاص، الحساب عندما يحاسب الله –تعالى- الناس ليقررهم بهذه الذنوب والسيئات التي فعلوها في قِبَله -سبحانه- أما القصاص فهذا يكون أو هو القضاء والفصل بين العباد فيما حصل بينهم وبين بعضهم البعض، هذا قتل هذا هذا أخذ مال هذا فالله -سبحانه وتعالى- يقضي بينهم وهو -سبحانه وتعالى- خير القاضين، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: وهذا الحديث أخرجه مسلم وأحمد وغيره، من حديث أبي هريرة، قال -عليه الصلاة والسلام-: (لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) الشاة الجلحاء: التي لا قرن لها، والشاة القرناء: التي لها قرون، فعندما تأتي الشاة القرناء تضرب الشاة الجلحاء بقرونها فالله -تبارك وتعالى- يؤدي هذه الشاة حقها، وفيه دليل على أن القصاص كما يكون بين الناس، فإنه يكون بين غير الآدميين، ويدل على ذلك قول الله -عز وجل-: ?وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ? [التكوير: 5]، والقصاص على نوعين قصاص يكون بين المكلفين، وهو قصاص التكليف، والنوع الثاني: قصاص بين غير المكلفين، وهو قصاص المقابلة، إذن: هناك قصاص التكليف بين المكلفين وهناك قصاص المقابلة، كما ثبت في هذا الحديث والعدل يجمعها كقول الله -سبحانه وتعالى-: ?وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً ? [الكهف: 49]، وفي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود قال: (أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء)، إذن: هناك حساب وهناك قضاء، القضاء فيه معنى القصاص، إذن: أول ما يقضى بين الناس يقضى في الدماء وأول ما يحاسب عليه الناس يوم القيامة يحاسبون على الصلاة، ومن صور القصاص ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال للصحابة: (أتدرون من المفلس؟ فقال الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-: المفلس(12/14)
فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه ثم طرح في النار) -والعياذ بالله- إذن: هذه صورة من صور القصاص.
أيضاً حديث عبد الله بن أنيس -رضي الله تعالى عنه- وهذا الحديث أخرجه البخاري تعليقاً، ووصله غير واحد، فهذا الحديث قال فيه عبد الله بن أنيس -رضي الله تعالى عنه- قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يحشر الناس يوم القيامة أو قال: يحشر العباد يوم القيامة، عراة غرلاً بهماً، ليس معهم شيء يناديهم الله -عز وجل- بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُبْ، فيقول الملك -سبحانه وتعالى-: أنا الملك أنا الديان ثم قال الله: لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصَّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله حق عند أحد من أهل النار حتى أقصَّه منه حتى اللطمة)، فينبغي للعبد أن يتقي الله -عز وجل- وألا يظلم أحداً شيئًا حتى يكون حسابه عند ربه حساباً يسيراً. نسأل الله –تعالى- أن ييسر حسابنا وأن يهدينا أمورنا.
ثم نأتي بعد ذلك الأمر إلى أمر آخر وهو الحوض: إذن: ذكرنا ثلاثة أمور: الأمر الأول ماذا؟ الأمر الأول في ذلك اليوم؟ تفضل.
الحساب وقراءة الكتب ومناقشة بعض الناس أعمالهم
الأمر الثاني؟
الميزان، وكيفية الميزان حسي له كفتان، والأدلة حضرتك ذكرتها، وما يوزن الأعمال والأجسام
الأعمال والأجسام ولا بأس أن توزن الأجسام بأعمال أصحابها.
الأمر الثالث الذي قلناه: القصاص، القصاص نوعان:
قصاص مقابلة وقصاص تكليف
قصاص المقابلة يكون بين من؟
قصاص المقابلة يكون بين العباد
قصاص المقابلة يكون بين المكلفين أم غير المكلفين؟
المكلفين(12/15)
لا.. قصاص المقابلة يكون بين غير المكلفين، طيب والقصاص الآخر؟
القصاص الآخر ما بين المكلفين
ما بين المكلفين، إذن:
قصاص المقابلة: يكون بين غير المكلفين من الحيوانات والعجماوات وغيرها.
قصاص التكليف: يكون بين المكلفين.
الأمر الرابع: الذي يحدث في ذلك اليوم وهو الصراط: تفضل يا أخي.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأن الصراط حق, يجوزه العباد بقدر أعماله فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم، والإيمان بحوض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من بَدَّلَ وغير).(12/16)
-جزاكم الله خيراً- الأمر الذي بعد ذلك هو الصراط: والصراط كما قال المصنف وسمعتم: أنه في اعتقاد أهل السنة والجماعة أنه حق، والصراط: هو الجسر المنصوب على جهنم يمر به المسلمون ليجتازوه للدخول إلى الجنة، إذن: لن يدخل المسلمون الجنة إلا بعد أن يجتازوا الصراط، والأحاديث فيه كثيرة وكلها صحيحة، من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم -عليه رحمة الله- من حدث أبي هريرة وحذيفة -رضي الله تعالى عنهما-وفيه (وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي) -جنبتي أي: على جانبي- (الصراط يمينناً وشمال)، سبحان الله، الأمانة والرحم، كل واحدة منهم تكون واقفة على جنب من جوانب الصراط، هذه الأمانة وهذه هي الرحم، أو هذه هي الرحم وهذه هي الأمانة- سبحان الله- الرحم صلة الرحم، والأمانة، أقول: في هذه الأيام التي ضاعت فيها الحقوق وقلت فيها الأمانة، وانقطع الناس عن صلة أرحامهم، (تأتي الرحم وتأتي الأمانة فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً ويمر أولكم) يمر الناس المسلمون ( كالبرق الخاطف) كخطفة البصر، (كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كالطير كمر الطير، ثم كشد الرجال) شد الرجال: عندما يأتي الرجل ويجري جرياً شديد( تجري بهم أعمالهم) أي هؤلاء بقدر أعمالهم، (ونبيكم -صلى الله عليه وسلم- قائم على الصراط)، واللهِ كلما أقرأ الأحاديث شيئًا بعد شيء يزداد حبي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبحان الله يعني أتينا في شفاعة قال: (إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة أهل الكبائر من أمتي) انظر إلى ذلك الأمر، ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?128 ? ? [التوبة: 128]، هذا في الدنيا، حتى في الآخرة شفاعته، حتى يقف على رأس الصراط، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- (يقول: ربي) أي يا رب (سلم سلم)، يعني: يرى أمته يجتازون الصراط، إذن: هو يرى(12/17)
أمته يا رب الأمة كلها تجتاز الصراط من أول الصحابة إلى أن يرث الله –تعالى- الأرض ومن عليها كل أمة الإسلام تجتاز الصراط، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قائم على رأس الصراط، يرى اجتياز أمته لهذا الصراط ويقول: (ربي سلم سلم، وعلى جنبتي الصراط الأمانة والرحم، حتى تعجز أعمال العباد)، إذن: هناك الذي يمر مر البرق ثم الريح ثم الطير ثم بعد ذلك شد الرجال أو الرحال الشديدة، ثم بعد ذلك كل إنسان على حسب عمله، حتى تعجز أو( حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحف) نعم سيسير، هذا الصراط الذي هو أحد من السيف وأدق من الشعرة أدق من الشعرة وأحد من السيف يمشي عليه ويزحف، ولكنه يجتهد حتى يجتاز هذا الصراط، قال -صلى الله عليه وسلم-: (وعلى حافتي الصراط كلاليب معلقة -خطاطيف معلقة- مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج) الرجل الذي يزحف هذا هو ناج ولكن سينجى بعد ماذا؟ سينجى بعد أن يخدش تخديشاً شديداً (فمخدوش ناج ومكدوس في النار)- والعياذ بالله- الذي يُكدس في النار ويسقط في النار لك أن تتصور نار جهنم وفوقها جِسر فمن سقط من هذا الجسر سقط أين؟ في النار- والعياذ بالله- وهؤلاء العصاة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين يدخلون النار ويكون حالهم، ما حالهم, وقد تكلمنا عن أحوالم من قبل، إذن: هذا قول المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن الصراط حق يجوزه العباد بقدر أعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم) طبعاً الذي ينجو عليه هذا ناجٍ من نار جهنم، (وقوم أوبقتهم فيه) أي في هذه النيران، (أعمالهم)، فنسأل الله –تعالى- العافية، قال الله -عز وجل- ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ? [فاطر: 32]، فالظالم لنفسه هذا هو المكدوس المعرض للعذاب والمقتصد: الذي يأتي المأمورات(12/18)
ويجتنب المنهيات، ثم هذا السابق الذي يأتي بجنس المحبوبات أي يأتي بجنس المأمورات كلها، ما استطاع إلى ذلك من سبيل، فجنس المأمورات كلها يشمل الواجب كما يشمل المستحب، وتجنب المنهيات سواء ذلك المنهي هو الحرام أو هو المكروه، هذا هو السابق بأمر الله -عز وجل- إذن: هذا رابعًا الصراط، الكتاب أولاً: الحساب، وقراءة الكتب، ومناقشة بعض الناس أعمالهم، ثانيًا: الميزان ثالثًا: القصاص، رابعًا: الصراط، خامسًا: الحوض، حوض النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وأحاديث الحوض أحاديث ثابتة متواترة، جمع ابن كثير -رضي الله تعالى عنه- روايات الحوض عن أربع وثلاثين صحابياً يذكر الأحاديث ويأتي بالكتب الصحيحة وكتب الصحيحين والمسانيد والسنن التي روت هذه الأحاديث ويسند كل حديث إلى الكتاب الذي خُرِّجَ فيه. وحوض النبي -عليه الصلاة والسلام- غير الكوثر، قال الله -عز وجل-: ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ? [الكوثر: 1]، والكوثر فيه قولان:
القول الأول: معناه الخير الكثير العميم الذي لا حد له ولا وصف.
القول الثاني: أنه نهر في الجنة، وهذا النهر يُصَب في حوض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذن هذا النهر مصبه في حوض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذان قولان.(12/19)
القول الأول: تحتمله اللغة. والقول الثاني: أتى به النص، وإذا أتى النص تفسيراً لكلمة في القرآن فينبغي أن يكون المُعَوَّل على النص، وثبت في مسند الإمام أحمد وإسناده حسن من حديث حذيفة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: (إن ربي أعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي) إذن: هذا حوض رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ومن الأشياء التي ينبغي أن تعلم: أن لكل نبي حوضاً، وكل نبي يقف على حوضه، يعرف أمته، أي: يعرف الصالحين من أمته ليسقيهم من حوضه، فالصالحون من بني إسرائيل لا يشربون من حوض محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنما يشربون من حوض موسى وعيسى، وهكذا، والصالحون من أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إنما تشرب من حوض النبي محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وحوض النبي -عليه الصلاة والسلام- ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وريحه أزكى من ريح المسك، وورد في ذلك الحديث الثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: (حوضي مسيرة شهر) إذن: الحجم والمساحة (حوضي مسيرة شهر) وأنا اخترت هذه الرواية وقدمتها على الروايات التي ذكرت فيها أسماء البلدان، (حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه) الكيزان هي: الكئوس التي لها عُرى، لَمَّا يكون الكوب له عُرى تُمسك منه، الذي نسميه عندنا في مصر: "له ودان"، الكوب الذي له عُرى هذا يُسمى كوزاً، وهذا في اللغة، إذن: كلمة "كوز" الموجودة عندنا في بعض قرى مصر هذه كلمة صحيحة لغة، "الكوز" الزير وفوقه الكوز، فهذه كلمة لها أصل في اللغة، (وكيزانه)، أي الأكواب التي يَشرب فيها الناس منه (وكيزانه كنجوم السماء) كثرة ولألأةً، إذن: هذه الأكواب ليست أكواباً من زجاج،(12/20)
ولكنها أكواب جميلة متلألئة لألأة النجوم، وهذه الأكواب كثيرة كثرة مفرطة، فلا أحد يستطيع أن يحصيها فمثالها في الكثرة مثل النجوم التي هي في السماء، (وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه فلا يظمأ أبد) فنسأل الله –تعالى- أن نكون من أهل الحوض الذي يسيقينا منه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ويدل على أن لكل نبي حوضاً يعرف أمته الصالحين منهم ليسقهم منه، ما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث الحسن البصري وهو حديث مُرسل وهذا الحديث حسنه ابن كثير ونقل تحسينه عن يحيى والقطان والحافظ المِزِّيّ، وهذا الحديث جمع له الإمام الألباني طرقاً كثيرة وَجَوَّدَهُ بمجموع طرقه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن لكل نبي حوضاً، وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته) تقول: وكيف يعرف النبي -عليه الصلاة والسلام- أمته، يعرفهم بسيماهم، هناك سيما كثيرة فمن هذه السيما (تأتون يوم القيامة غُراً مُحجلين من آثار الوضوء) فمثلاً قد يعرفون من هذا الأثر، هناك آثار يعرف النبي بها قومه (ألا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبع) أي: الأنبياء يباهي بعضهم بعضاً أيهم أكثر تبعاً، أي موسى وعيسى وإبراهيم ونوح وزكريا كل هؤلاء الأنبياء كل واحد منهم يباهي الآخر أيهم أكثر تبعاً، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (والذي نفسي بيده إني لأرجو أن أكون أكثرهم تبع) -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وفي البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: (أنا فرطكم على الحوض)، ينتظرنا ويقف على الحوض (من ورد شرب) من ورد في هذا الحوض شرب منه، من ورد شرب، وعلى فكرة أن كلمة الورد في الأصل معناها: الإتيان إلى موارد أو مواطن الشرب، ثم سُمِيَّ بعد ذلك كل إتيان ورداً، من ورد شرب، (ومن شرب لم يظمأ أبداً وليردنَّ علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم) نسأل الله –تعالى- ألا يجعلنا منهم، ونسأله -سبحانه وتعالى-(12/21)
أن ييسر أمورنا وأن يخفف حسابنا، وألا يجعل حسابنا مناقشةً وأن يوفقنا إلى كل عمل صالح وأن يحسن خاتمتنا بالأعمال الطيبة وأن يرضى عنا ويُرضِّي علينا وصلي اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابات الحلقة الماضية:
وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية، كان السؤال الأول: تكلم عن الاعتقاد في الأولياء مَن هُم؟ وماذا أعد الله لهم في الآخرة؟
كانت إجابة السؤال الأول: الأولياء جمع ولي مفرد ولي على وزن فعيل والولي هو المطيع القريب النصير فولي الله هو العامل بطاعة الله -عز وجل- القريب من الله وإلى الله الذي ينصر ربه وينصر دينه، هذا هو ولي الله -سبحانه وتعالى- قال الله تعالى: ?أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?62 ? ? [يونس: 62]، وأعد الله لهم في الآخرة بشرهم بالجنة فقال الله -عز وجل-: ?لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ ? [يونس: 64]، وذكر في القرآن في غير آية أن الجنة هي دار الخلد التي لا يخرج منها المؤمنون أبداً، فقال الله- تعالى-: ?إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَّعُيُونٍ ?45 ? ? [الحجر: 45]، وأفضل نِعمة ينعم بها الله -عز وجل- على أهل نعمته في الجنة أن ينظر إليهم فيرى المؤمنون وجه الله -سبحانه وتعالى- ففي الأثر الثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في البخاري ومسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، انتهت إجابة السؤال الأول.
ما شاء الله.(12/22)
السؤال الثاني: ناقش عبارة المصنف:( وهي التي أهبط منها آدم نبيه وخليفته في أرضه أو إلى أرضه) (وهي) أي الجنة، (التي أهبط منها آدم) آدم مفعول به، (نبيه) بدل (نبيه وخليفته إلى أرضه) النبي: من أوحى الله إليه -عز وجل- وآدم -عليه السلام- أمره الله –تعالى- ونهاه فهو نبي، الخليفة: هو الذي يخلف غيره فيقوم مقامه في شأنه وأمره إذا غاب، وبهذه الحيثية لا يمكن أن نجعل آدم خليفة لله -عز وجل- فالله- سبحانه- ليس بغائب حتى يحتاج إلى من يكون خليفته بعده، ليقوم بأمره في خلقه فالله لا يخلفه أحد من خلقه، بل هو الذي يخلف غيره من خلقه، ولذلك عندما تسافر تقول: اللهم أنت الصاحب في السفر والخلفية في المال والأهل والولد، فلو قال المصنف: (وهي التي أهبط منها آدم نبيه إلى أرضه وجعل ذريته خلائف في أرضه) لكان ذلك حسناً ويُخشى أن يكون ذلك من باب تصريف النساخ الذين ربما يتصرفون في بعض النصوص وإن كان ذلك من العبارة فهي وهلة لا تنقص ولا تجعل هذا المصنف خارجاً من نطاق أهل السنة والجماعة ولا تجعله منكوساً في إمامته بل هو إمام وجهبذ عَلَم تقبل عقيدته، هذا هو المعنى والله أعلم.
ما شاء الله، يعني: كأني أتكلم, ما شاء الله.
السؤال الثالث: اذكر اعتقادك في البرزخ؟(12/23)
وكانت الإجابة: يكون هناك مرحلة وسطى بين الدنيا والدار الآخرة وهذه المرحلة هي مرحلة البرزخ، ويدل عليها قول الله –تعالى-: ?النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ?46 ? ? [غافر: 46]، وما أخرجه الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب الحديث الطويل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال موعظة من هذه الموعظة أن قال للمؤمن: (فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة) فهذا يدل على أن القبر كان روضة من رياض الجنة، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره)، أما الكافر فيقال له: (أفرشوه من النار وافتحوا له باباً من النار فيأتيه من حرِّها وسمومه) والله أعلم.
ما شاء الله جزاهم الله خيراً.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة لانتهاء الوقت؟
هي سؤال واحد هذا السؤال: تكلم عن اليوم الآخر من البعث إلى الجنة أو إلى النار؟
نسأل الله –تعالى- العافية وحسن القرار والحمد لله.(12/24)
الدرس الثالث عشر
حقيقة الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله وكفى, وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى,
اللهم صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
ثم أما بعد.
أيها الأحباب الكرام, السلام عليكم ورحمة الله –تعالى- وبركاته، فالله- تعالى- أسأل
أن ييسر أمورنا وأن يهدينا سبيل الخير وأن يصرف عنا الشر كله ظاهره وباطنه، وحلقة
اليوم حلقة مليئة بالأفكار وبها كثير من المسائل فمن هذه القضايا والمسائل والأصول
التي سنستعرضها هذه الحلقة:
الفكرة الأولى: حقيقة الإيمان.
الفكرة الثانية: أن المسلم لا يكفر إلا بيقين.
والفكرة الثالثة: فضيلة الشهادة في سبيل الله -عز وجل-.
والفكرة الرابعة: الإيمان بالبرزخ.
والفكرة الخامسة: الإيمان بالملائكة.
فهيا بنا نسمع ما قال الإمام ابن أبي زيد القيرواني في بسط هذه الأفكار- وجزاكم
الله خيراً-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل
بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصانها فيكون فيها النقص وبها الزيادة ولا
يكمل قول الإيمان إلا بالعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية ولا قول ولا عمل ونية إلا
بموافقة السنة، وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة، وأن الشهداء أحياء عند ربهم
يرزقون وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون وأرواح أهل الشقاوة معذبة
إلى يوم الدين، وأن المؤمنين يفتنون في قبولهم ويسألون، قال الله –تعالى-:
?يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ? [الرعد: 27] وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم ولا
يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم وأن مَلَكَ الموت يقبض الأرواح بإذن ربه).
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه وبعد:
قال المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل(13/1)
بالجوارح) يشير الإمام ابن أبي زيد إلى مجمل اعتقاد أهل السنة في مسألة الإيمان هذا
الاعتقاد الذي ساقه غير واحد من أئمة الهدى ونقله الإمام النووي في شرحه الممتع على
صحيح مسلم: أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان. والإمام ابن أبي
زيد عندما قال: (وإخلاص بالقول) هذه إشارة إلى عمل من أعمال القلب، فليس المطلوب أن
يكون القلب في عمله خالصاً فقط، بل إن للقلب أعمالاً كثيرة كالخوف والرجاء والرغبة
والرهبة إلى غير ذلك من أعمال القلوب، ومسألة الإيمان ذهب جمهور المفسرين وجمهور
اللغويين والأصوليين والفقهاء إلى أن الإيمان لغة بمعنى التصديق، وأتوا بقول الله
-عز وجل-: ?وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? [يوسف: 17]
وهذه في قصة نبي الله –تعالى- يوسف عندما كاد له إخوته ثم أتوا على قميصه بدم كذب
وقال: ?بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ? [يوسف: 18]
ثم توالت الأحداث وقالوا هذه المقولة، ولكن هذا الأمر أي تفسير الإيمان بمعنى
التصديق أنكره غير واحد من المحققين المحررين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وقالوا
بأن الإيمان ليس بمعنى التصديق ولا يرادفه التصديق؛ لأن في اللغة ليس هناك كلمة
بمعنى كلمة أخرى من كل وجه هذا أولاً، في اللغة ليس هناك كلمة بمعنى كلمة أخرى من
كل وجه، يعني لا نقول مثلاً بأن الإيمان بمعنى التصديق هكذا من كل وجه، فهذا غير
موجود أصلاً في اللغة، الأمر الثاني: عندما ننظر إلى الاستعمالات اللغوية لكلمة
الإيمان والاستعمالات اللغوية لكلمة التصديق نجد أن هناك فروقاً كثيرة أثبتها شيخ
الإسلام في أكثر من ثمانية أوجه جمعها في كتابه القيم: "الإيمان الأوسط"، فمن هذه
الفروق أن التصديق يتعدى بنفسه كما يتعدى بالأداة، فتقول: صدقته، وتقول: صدقت به،
صدقته فتعدى هنا بنفسه، وصدقت به تعدى بحرف الباء، أما الإيمان فإنه لا يتعدى بنفسه(13/2)
أبداً فلا تقول: آمنته، وإنما لا يتعدى إلا بماذا؟ إلا بالأداة، تقول: آمنت به
وآمنت له، ومنه قول الله -عز وجل-: ?أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ?
[الشعراء: 111] وقول الله -عز وجل- في النبي -عليه الصلاة والسلام-: ?يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ? [التوبة: 61] فالإيمان يتعدى بالباء كما يتعدى
أيضاً باللام، فلفظ الإيمان لا يأتي إلا متعدياً بالأداة، أما لفظ التصديق فإنه قد
يتعدى بنفسه وقد يتعدى بالأداة، ففارق هنا لفظ التصديق لفظَ الإيمان من حيث
الاستعمال اللغوي حتى، وهناك وجوه كثيرة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة
الله- من ذلك مثلاً: أن التصديق إنما يكون في الأخبار وأما الإيمان فإنه أوسع من
ذلك، ليشمل الأمور الثابتة المقررة، وبالتالي يميل شيخ الإسلام إلى تفسير الإيمان
لغة بمعنى الإقرار، يميل شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله- لغة أن يفسر
الإيمان بمعنى الإقرار؛ لأن الإقرار معناه: الرضا المستلزم الانقياد والطاعة، هذا
معنى الإقرار إذن الإقرار معناه الرضا المستلزم الانقياد والطاعة، ولذلك قال شيخ
الإسلام -عليه رحمة الله- بأن تفسير الإيمان بمعنى الإقرار أولى من تفسيره بمعنى
التصديق، أيضاً قول المصنف -عليه رحمة الله-: (الإيمان قول باللسان) ما المقصود
بقول اللسان؟ المقصود بقول اللسان شهادة الوقت، أو فريضة الوقت، ما هي فريضة الوقت؟
أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن كان كافراً أصلياً كالذين يعبدون
الأوثان والمشركين الأصليين فقال: "لا إله إلا الله" فالراجح عند كثير من أهل العلم
أن هذه الكلمة تنفعه، ثم يطالب بالشهادة الثانية التي هي: "وأن محمداً رسول الله"
فإن قال الشهادة الثانية انتفع بالشهادة الأولى وصار بذلك على إسلامه قائماً ومن لم
يقل الشهادة الثانية، أي من أبى أن يقول: إن محمداً رسول الله لم تنفعه الشهادة(13/3)
الأولى وصار مرتدًا يجب قتله، ولذلك في قصة إسلام أبي سفيان عندما حبس عند فم
الشعب، ومرت جيوش المسلمين في فتح مكة، وقال أبو سفيان للعباس: لقد بلغ ملك ابن
أخيك مبلغاً ثم أخذه وانطلق به إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- في قصة طريفة فلما
دخل أبو سفيان على النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له النبي -عليه الصلاة
والسلام-: (هيه يا أبا سفيان، أما آن لك أن تسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله،
قال: وأني رسول الله؟ قال: أما هذه ففي النفس منها شيء) إذن: قُبِلَت منه الشهادة
الأولى، (فقيل له: إذا لم تقلها رميت رأسك بين رجليك، أو كما قيل له، فقال: وأن
محمداً رسول الله)، ثم حسن إسلامه بعد ذلك -رضي الله تعالى عنه-، ولذلك في حديث
المقداد بن الأسود وهذا الحديث في صحيح مسلم: (عندما قال: يا رسول الله: أرأيت لو
أن رجلاً من المشركين قاتلني وقاتلته فضرب يدي فأصنه) أي قطعها (ثم لاذ بشجرة فلما
قدرت عليه قال: أشهد أن لا إله إلا الله أرأيت لو قتلته يا رسول الله؟ فقال النبي
-عليه الصلاة والسلام-: لو قتلته لكنت مكانه قبل أن يقوله) أي من حيث إباحة الدم؛
لأن هذا المشرك الأصلي عندما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، صار بذلك ماذا؟ صار
بذلك مسلماً، إذن صار دمه بذلك حرام، عصم دمه بلا إله إلا الله فمن قتله بعد أن قال
هذه الكلمة فالقاتل له يقتل، وهذا ما يسمونه بفريضة الوقت، إذن: قول اللسان هو
فريضة الوقت التي بها يدخل الإسلام ظاهراً أقول: ظاهراً؛ لأن المنافق قد يقول
بلسانه ما لا يبطن في قلبه وفؤاده، ?يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ? [الفتح: 11] ربما أن تنزلق ألسنتهم بقول لا إله إلا الله، لكن لم
تجتمع قلوبهم على معانيها ولا العمل بمقتضاها وهذا حال المنافقين، إذن: (وأن
الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب) والأحب أن نقول: وعمل بالقلب لماذا- كما قلت(13/4)
في صدر حديثي-؟ لأن عمل القلب أوسع من إخلاص القلب، نعم من أعظم أعمال القلوب
الإخلاص، والإخلاص تعني هذه الكلمة عند كثير من الفقهاء معنى النية، والإمام
القيرواني بعد ذلك تكلم أن الإيمان قول وعمل ونية وسنة، فلماذا نكرر إذن الإخلاص
والنية، ولو قلنا الاعتقاد على ما ذهب إليه جماهير أهل السنة بأن الإيمان قول وعمل،
ليشمل القول قول اللسان والقلب وليشمل العمل عمل القلب والجوارح، لو قلنا ذلك لكان
ذلك أعم، وهذه العبارة هي العبارة الدوارة عند علماء الاعتقاد (وعمل بالجوارح) أي:
عمل بالظاهر، كالصلاة وغيرها من الأعمال الظاهرة.
يقول المصنف -عليه رحمة الله-: (يزيد) -أي هذا الإيمان- (يزيد بزيادة الأعمال،
وينقص بنقصها، فيكون فيها النقص وبها الزيادة ) هنا عدة ملحوظات يسيرة:
الملحوظة الأولى: بأن المقصود بالأعمال أعمال الظاهر والباطن، والسلف عندما يقولون:
إن الإيمان قول وعمل هكذا مطلقاً فيقصدون بالقول: القول الظاهر والباطن، ويقصدون
بالعمل: العمل الظاهر والباطن، هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله-
أن عبارة السلف بإطلاق القول والعمل في مسائل الإيمان يعنون بالقول: القول الظاهر
والباطن، ويعنون بالعمل: العمل الظاهر والباطن، القول الظاهر: لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله؛ لأن من قالها كان مسلماً وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإن قالوا: لا إله إلا الله
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)، هذا القول الظاهر، القول الباطن: الذي
هو التصديق عند الجمهور والإقرار عند البعض كما ذكرت الآن، التصديق عند البعض
والإقرار عند البعض كما ذكرت الآن، وهنا مسألة: هل الإيمان اللغوي الذي هو بمعنى
التصديق أو بمعنى الإقرار يزيد وينقص؟ هذه مسألة فيها نزاع، والمتكلمون من غير(13/5)
المتسنين لا يثبتون زيادة ولا نقصاناً لماذا؟ قالوا: لأن الإيمان إذا كان يزيد فإنه
قبل الزيادة كان نقصاً، ومتى كان نقصاً كان شكاً، ومتى كان شكاً، كان كفراً، هكذا،
إذن: الإيمان الذي أصله تصديق أو المعرفة أو ما إلى ذلك هذا عندهم لا يزيد ولا ينقص
بل هو حالة واحدة، وهذا من الفساد، يجعلونه حالة واحدة، لا يثبتون له زيادة ولا
نقصاناً، لماذا؟ لأنه إذا كان يزيد وينقص فإنه قبل الزيادة كان ناقصاً ومتى كان
ناقصاً كان شكاً كان كفراً، وهذا كلام غير مسلَّم بل المقرر أن الإيمان الذي هو
التصديق عند البعض أو هو الإقرار عند الآخرين كما ذكرت الآن يزيد أيضاً وينقص؛ يزيد
بكثرة النظر وتواتر الأدلة, البراهين والشواهد والأدلة النظرية والعلمية مفيدة في
زيادة الإيمان ونقصانه، ولذلك لا نستطيع أن نقول بأن إيمان النبي -عليه الصلاة
والسلام- كإيمان أحد الصحابة أو بأن إيمان أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- كإيمان
أحدنا، هذا لا يمكن أبداً أن نسلم به،.
إذن الإيمان الذي أصله التصديق أو أصله الإقرار كما ذكرت الآن يزيد وينقص، يزيد
بكثرة النظر وتظاهر أو تواتر الأدلة والبراهين الدالة عليه، ومسألة زيادة الإيمان
ونقصانه مسألة أتت بها النصوص من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والأئمة -رضي الله
تعالى عنهم جميعاً- فمن ذلك قول الله -عز وجل-: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?2? الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ?3? أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقًّا ?4?? [الأنفال: 2- 4] إذن: الإيمان يزيد يزيد، فطالما أنه يزيد إذن هو ماذا؟
ينقص أيضاً، وقال الله -عز وجل-: ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ(13/6)
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ?173?? [آل عمران: 173] و?النَّاسُ? الأولى ليست
ك?النَّاسَ? الثانية ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ? الذين قال لهم: العين، عين
المشركين أو المخبر الذي يخبر عن المشركين ?إِنَّ النَّاسَ? أي: إن جند المشركين
?قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ? فقالوا: أي قال المسلمون: ?حَسْبُنَا اللهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ?.
أيضاً من ذلك قول الله -عز وجل-: ?نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ? في
قصة أصحاب الكهف ?نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ
آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ?13?? [الكهف: 13] وقال- تعالى-: ?وَإِذَا
مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ
إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ ?124?? [التوبة: 124] إذن: الذين آمنوا يزداد إيمانهم، يزداد
إيمانهم بالذكر وسماع القرآن، وقال- تعالى-: ?وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ
الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ
وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ?22?? [الأحزاب: 22]
إذن: هذا أيضاً دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وقال الله -سبحانه وتعالى-: ?هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا
مَّعَ إِيمَانِهِمْ? [الفتح: 4] إذن: السكينة والطمأنينة والهداية والسداد والتوفيق
والرشاد هذا مما يجعل الإيمان يزداد في قلب الؤمن فيزاد الإيمان ويزداد ويزداد.
وكذلك مما يدل على زيادة الإيمان ونقصانه قول النبي -عليه الصلاة والسلام-:
(الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة(13/7)
الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)، فهذا دليل على عدة أمور:
أولاً: على أن الإيمان يزيد وينقص.
ثانيًا: على دخول العمل في مسمى الإيمان.
ثالثًا: دليل على تشعب الإيمان وتبعضه وتجزئه، فليس الإيمان هيئة واحدة، لا تتبعض
ولا تتشعب ولا تتجزأ، بل إن الإيمان يتشعب ويتجزأ ويتبعض فقد يصيبك بعضه الكثير
وينقص منه القليل، وقد ينقص لك منه الكثير ولا يتوفر لك إلا القليل، وهكذا، فنسأل
الله –تعالى- الزيادة في الإيمان.
أخرج ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات والحديث في الصحيح: (أن بعض الصحابة قال: كنا مع
النبي -عليه الصلاة والسلام- ونحن فتيان، فتعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فلما
تعلمنا القرآن ازددنا به إيمان)، إذن: تعلم الإيمان, تعلم معرفة الله وحب الله
والانقياد لله -عز وجل- وتعظيم أمر الله تعلم ذلك، ثم بعد ذلك تعلم القرآن، فلما
تعلم القرآن, وسمع القرآن وتدبر القرآن وانفعل بالقرآن وعاش بالقرآن قلباً وانفعل
به ذاتاً ووجداناً وعملاً الذي حصل ازداد الإيمان- بحمد الله سبحانه- وروى ابن أبي
شيبة والآجري في كتابه: "الشريعة" أن الصحابي الجليل عمير بن حبيب الخطمي -رضي الله
تعالى عنه- قال: (إن الإيمان يزيد وينقص) -هذا صحابي جليل- (إن الإيمان يزيد
وينقص)، وهذا الحديث حسن - إن شاء الله تعالى-، (فقيل له ما زيادته وما نقصانه؟
قال: إنا إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا نسينا وغفلنا وقصرنا
فذلك نقصانه) إذن: النسيان والتضييع والغفلة تسبب نقصان الإيمان والنبي -عليه
الصلاة والسلام- أيضاً في وصف النساء قال: (إنهن ناقصات -ماذا؟- عقل ودين)، إذن:
الدين ماذا؟ ينقص، الدين ينقص، والحديث مخرج في الصحيحيين وفي غيرهما، وأيضاً في
حديث الشفاعة: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة خردل من إيمان)، فهذا
دلالة على أن إيمانه قليل بسيط، مما يدل على أن إيمان غيره كان كثيرًا كبيراً(13/8)
فالناس يتفاوتون في الإيمان صغراً وكبراً عظماً وحقارةً, فنسأل الله –تعالى- أن
يربط على قلوبنا بالإيمان وأن يحبب الإيمان وأن يزينه في قلوبنا.
وأيضاً النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك -ماذا؟- أضعف الإيمان) إذن: مرة قال:
(ناقصات عقل ودين)، إذن: أثبت نقصان الدين نقصان الإيمان ومرة قال: (وذلك أضعف
الإيمان) إذن: هناك ضعف في الإيمان وقال: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال
ذرة خردل من إيمان) وفي لفظ: (وأدنى من ذلك)، فهذا دلالة على أن الإيمان يزيد
وينقص، يقوى ويضعف، وهذا مقرر عند الأئمة -رضي الله تعالى عنهم جميعاً- فذكر ذلك
الإمام مالك والإمام البخاري والإمام عبد الله بن المبارك وغيرهم كثير -رضي الله
تعالى عنهم جميعاً-.
إذن قول المصنف: (يزيد بزيادة الأعمال) المقصود بالأعمال: أعمال الظاهر وبالباطن،
أعمال الظاهر مثل ماذا؟ الجهاد في سبيل الله، مثل الصدقة، مثل بناء المستشفيات،
مثل.. هذه كلها أعمال للظاهر، قراءة القرآن أعمال للظاهر، أعمال الباطن، مثل ماذا؟
مثل المحبة والخوف والرجاء والرغبة والرهبة فهذه كلها أعمال للباطن، فالإيمان كلما
عظمت أعمالك الظاهرة وعظمت أعمالك الباطنة كلما عظم هذا الإيمان، قال شيخ الإسلام
بأن الإيمان في القلب، يعني: أصل الإيمان موجود في القلب، والعمل الظاهر دليل عليه،
فعدم الظاهر دليل على عدم الباطن أو ضعفه، انتبهوا.. دليل على عدم الباطن أو ضعفه،
لو أن إنساناً ترك طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أمر، يعني: ترك
الصلاة والصيام والزكاة والحج وصلة الرحم، وترك السنة الظاهرة وترك عيادة المريض
وترك الجهاد في سبيل الله وأتى بكل الموبقات من الزنا ونكاح المحارم والسرقة والقتل
وموالاة غير المؤمنين, بل عادى الله ورسوله ونصر الكفار على المسلمين وتقرب إلى(13/9)
الله -عز وجل- بهمز المسلمين وشتمهم وتقرب إلى الله -عز وجل- بالتنكيل لهذا الدين
والتشويه لهذا الدين والتشكيك في هذا الدين فعل ذلك كله لو قال بعد ذلك: إنه مسلم
فإنا نشك في ذلك الأمر؛ لأن إيمان الباطن يورث شيئًا في الظاهر، فعدم وجود شيء في
الظاهر أصلاً ليست هناك قرينة تدل على الإسلام أصلاً فهذا يدل على انعدام الباطن أو
على ضعف الباطن، ضعف الباطن عند البعض وانعدام الباطن عند البعض، فلو أن رجلاً حاله
ما صنعت بألا يأتي طاعة أصلاً وأن يأتي بكل حرام أصلاً هذا دليل على انتفاء الباطن،
لا يوجد هناك إيمان في الباطن، وإذا ضعف العمل في الظاهر، كان هذا دليلاً على ضعف
العمل في الباطن، وهذا القول حققه ودندن حوله كثيرًا شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه
رحمة الله- في كتابه الإيمان فليراجعه من شاء حتى يجد أمراً طيباً.
ثم قال الشيخ -عليه رحمة الله-: (ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل) المقصود بالكمال
هنا ليس ما أثير هل يا ترى دخول الأعمال شرط كمال أم شرط صحة في الإيمان؟ هذه
القضية لم تثر عند السلف بهذه الأبعاد التي أثيرت بها هذه الأيام. مسألة هل العمل
شرط كمال أم شرط صحة؟ هذه المسألة بهذه الصورة بهذه الكيفية بهذه الحيثية لم تثر
عند السلف كما أثيرت في هذه الأزمان حتى صارت قضية ولاء وبراء، لا.. فإن الذين
يقولون بأنه شرط كمال، يقسمون الكمال إلى قسمين: إلى شرط كمال مستحب وشرط كمال
واجب، فصار كلامهم أنذاك قريباً من الذين قالوا بالصحة في جانب من الجوانب، هذا
أولاً. ثانيًا: أن الأعمال تتفاوت وتتفاضل من حيث الظاهر والباطن، ومن هنا كان لابد
من التفصيل فيما يعنى بكلمة عمل فمثلاً قراءة القرآن عمل، ومثلاً نصرة رسول الله
-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عمل، فلو أن رجلاً يستطيع أن ينصر النبي -عليه
الصلاة والسلام- ثم يتقاعس عن نصرته ورجل يستطيع أن يقرأ القرآن ولكن يتقاعس عن(13/10)
قراءة القرآن هل هذا كهذا؟ رجل لم يقرأ القرآن في يومه مع قدرته على ذلك، ورجل رأى
رجلاً يسب النبي -عليه الصلاة والسلام- ويهمزه، ويتهكم عليه، وعلى زوجاته ويتهكم في
هديه -عليه الصلاة والسلام- ويشكك في سنته -عليه الصلاة والسلام- والسامع هذا يقدر
على الدفع ولكنه تكاسل عن ذلك، هل المتكاسل عن قراءة القرآن كالمتكاسل عن نصرة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-؟ لا يختلفان مع الرغم أن هذا عمل وهذا عمل، ولكن هذا
العمل يكمل به الإيمان أما هذا العمل فهو شرط في صحة الإيمان، فتارة يكون العمل
شرطاً في صحة الإيمان وتارة يكون العمل شرطاً في وجوب الإيمان، الإيمان الواجب،
وأحياناً يكون هذا العمل مكملاً للإيمان، وإذا أردنا أن نضرب عدة أمثلة توضيحية
لبيان ذلك الأمر: أرأيت جسد الإنسان, الإنسان رأس وجسد وهناك بعض المكملات، بعض
المكملات الموجودة لاسيما مثلاً شعر الرأس لو أنك أتيت لإنسان فقطعت رأسه أصلاً
أتيت بسيف وقطعت رأسه، هل يكون بذلك إنساناً سوياً مستقيماً صالحاً؟ لا.. انتفت عنه
هذه الصفة كذلك من لم يأتِ بالتوحيد ويأتِ بأصل الدين من محبة الرسول -عليه الصلاة
والسلام- والإيمان بكليات الاعتقاد بمسألة الإله والنبي والقدر والغيب من لم يأتِ
بذلك فإن إيمانه مقتول، فإن إيمانه غير صحيح، ولذلك قال الله -عز وجل-: ?فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً?65??
[النساء: 65] إذن: المنفي هنا هو أصل الإيمان، لماذا؟ لأن الرضا بحكم الله والرضا
هذا عمل والانقياد لحكم الله والانقياد هذا عمل، والتسليم بحكم الله والتسليم منه
عمل, هذه الأعمال شرط في صحة الإيمان فلما لم يأتِ بها المكلف كان إيمانه بذلك
مرتفعاً, انتهى, ليس هناك إيمان، وأحياناً يكون الإيمان المنفي من جنس ما يقطع من(13/11)
البدن، لو أن إنساناً قطعت يده، هو إنسان أم انتفت عنه صفة الإنسانية؟ هو إنسان، لو
قطعت رجله إنسان أم انتفت عنه صفة الإنسانية؟ هو إنسان ولكنه ناقص، وكذلك المكلف،
إذا أتى بكبيرة أو فرط في واجب، دون التوحيد؛ لأن التوحيد واجب فأول واجب على
العبيد معرفة الرحمن بالتوحيد، فإذا فرط في واجب دون التوحيد أو أتى بكبيرة فإن
حاله في ذلك كحال هذا البدن الذي جدع شيء منه، أو بتر طرف من أطرافه، فإنه لا ينتفي
عنه الاسم الكلي ولكنه ناقص بما قطع منه، فكذلك هو، فمن أتى بكبيرة أو فرط في واجب
فإنه مؤمن بما معه من إيمان، لا نقول: مؤمن هكذا، ولكنه مؤمن بما معه من إيمان،
وفاسق بما أتى من عصيان، فهو مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته وعصيانه، وهذا الصنف مرده
إلى الله -عز وجل- كما سيأتي إن شاء عفا عنه ابتداءً وإن شاء عذبه ثم بعد ذلك أدخله
الجنة انتهاءً مثل ماذا؟ مثل ترك الصلاة على أحد القولين؛ لأن هذه مسألة نزاع عظيمة
وتنازع السابقون فيها كما تنازع اللاحقون وترك بعض الواجبات، فمن ترك صلة الرحم كان
معرضاً لهذا الأمر، ومن ترك الصلاة تكاسلاً- على أحد القولين- كان معرضا لهذا
الأمر، أما من ترك بعض الإيمان المستحب مثل ماذا؟ مثل أذى ولكنه لا يؤذي إيذاءً
فاحشاً لو أن هناك أذى في طريق المسلمين ولكنه لا يقطع الطريق عليه يعني ماذا؟ هناك
حجر طوب كبير جداً, وتركه وانصرف يمكن للسيارات أن تمشي وللسابلة أن تسير لا يقطع
السبيل فمن أزاح هذا الحجر عن الطريق أثيب على ذلك الأمر ومن لم يفعل ذلك لم يكن
آثماً إلا إذا كان الأذى مما يقطع على الناس طريقهم، فقد يكون آثماً إن لم يزحه عن
الطريق، ومنه النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: (رأى رجلاً يتقلب في
الجنة لغصن نحاه عن طريق المسلمين) إذن: إماطة الأذى هذه من الأمور المستحبة, وإذا
لم تأتِ بها فاتك خير لكن لا تكون بذلك آثماً في بعض الأحيان كما لا تكون بذلك(13/12)
كافراً ولكن فَوَّت خيراً وبذلك لم يكمل لك الإيمان المستحب، فيكون حالك كحال الذي
حلق رأسه ولم يترك شيئًا في رأسه، حلق الرأس، فحلق الرأس هذا قد يكون طاعة وقربة
وزلفى إلى الله -عز وجل- الأمر الثاني: أن حلق الرأس قد يكون معصية أو شركاً، الأمر
الثالث: قد يكون هذا الأمر معصية، الأمر الرابع: قد يكون مباحاً، فمن حلق رأسه
تنسكاً لله -عز وجل- نسكاً، اعتمر أو حج فأراد أن يتحلل فحلق رأسه، فإن الله
–تعالى- قال: ?لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ? [الفتح: 27] وقال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (رحم الله المحلِّقين ثلاث) فحلق الرأس هنا صار ماذا؟ صار طاعة وعبادة لله
-عز وجل-، وقد يكون شركاً مثل ماذا؟ أن يحلق الرأس عند الأضرحة، رجل يذهب للسيد أو
للحسين أو يذهب للأضرحة أو الأولياء ويظن أن أصحاب القبور هؤلاء لهم مقام عند الله
–تعالى- رفيع، وأنهم لهم حركة تأثيرية في هذا الكون، فلهذا الخوف الذي ملأ قلبه
يريد أن يظهر الذل بين يدي هذا المقبور، فيحلق رأسه هذا شرك بالله -عز وجل- هذا شرك
وكفر بالله -عز وجل- انظر حلق الرأس شرك وكفر بالله -عز وجل-. وقد يكون معصية كما
يحدث في بعض شباب المسلمين هذه الأيام عندما يرى الإفرنج الكفار يحلقون شعورهم، مرة
يحلقون الشعر كله، فلا يبقون إلا شيئًا يسيراً في طرفه، كنيدو، الذي يأتي على علب
اللبن، فيفعلون كذلك، وتارة يتركون شعورهم ويجعلونه كعرف الديك، وتارة يجدعون
شعورهم، فتجد أن الشعر مجعد مجعد مجعد هكذا، وتارة يجعلون الشعر خصلاً خصلة
يثبتونها وأخرى يحلقونها، فتكون كالسبت المكسور- سبحان الله- وهكذا فهذا كله بدعة،
وهذا كله من باب العصيان؛ لأن هذا تشبه بالكفار ولكنه ليس بالتشبه الكفري، وقد يكون
ذلك الأمر مباحاً وذلك عندما يشتد الحر، فإن الناس يذهبون حر رؤوسهم بماذا؟ بتقليل(13/13)
هذا الشعر، فحلق الشعر حلقاً تاماً هذا لا يجعل الإنسان ناقصاً في إنسانيته ولكن
هذا منقص من كماله وشكله، ولكن نجد أحيانًا عندما يكدرون أحداً يفعلون ماذا؟ يحلقون
رأسه، في التكدير يحلقون رأسه ويتركونه هكذا بين الناس، فيكون ذلك تكديراً عظيماً؛
لأنه ينقص بذلك لكن لا يكون بذلك منعدم البشرية وهكذا، فكذلك الإيمان هناك أصل
إيمان وهناك الإيمان الواجب وهناك الإيمان المستحب، أصل الإيمان إذا انتفى كان
المرء كافراً، الإيمان الواجب إذا انتفى أو انتفى منه شيء كان الإنسان آثماً أما
الإيمان المستحب فإنك لا تأثم ولا تكفر، ولكن يفوتك خير، فقول اللسان وهذه النقطة
التي قالها الشيخ: (ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل) لابد من العمل، وكما قلت
القول عندما يطلق يشمل ماذا؟ يشمل قول الظاهر والباطن، والعمل عندما يطلق يشمل
الظاهر والباطن، فقول المصنف -عليه رحمة الله-: (ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل)،
أي إلا بالعمل الظاهر أو الباطن، (ولا قول وعمل إلا بنية)، لما ظن بعض الناس أن
الأقوال والأعمال لا صلة لها بالنية فأراد أن يؤكد المصنف على أهمية النية, والنية
أمرها عظيم جليل، قال الله -عز وجل-: ?وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ? [البينة: 5].
أيضاً قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إنما الأعمال بالنيات) هل المقصود
بالأعمال الأعمال الشرعية؟ فتكون الألف واللام هنا للعهد، أم المقصود بالأعمال كل
الأعمال فتكون الألف واللام للجنس؟ هذان قولان قالهما أهل العلم، إنما الأعمال
بالنية، فالنية شرط للعمل، وشرطها هنا شرط صحة، قال بعض أصحاب النظم:
والنية شرط لسائر العمل *** فبها الصلاح والفساد للعمل
ولما ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- ذلك الجيش الذي يذهب للمهدي ليحاصره بالمسجد
الحرام قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم(13/14)
وآخرهم، قيل: يا رسول الله إن فيهم من ليس منهم، قال: يموتون جميعاً ثم يبعثون على
نياتهم)، رُبَّ عمل قليل تعظمه النية، ورب عمل عظيم تحقره النية، فالنية هي التي
توجه العمل وتقلب العمل وتقلب العمل، فتجعل المباح عبادة كما تميز بين الطاعة
والطاعة، وتميز بين المباح والطاعة، فلو أنك اغتسلت طلباً للتبرد واغتسلت رفعاً
للحدث كان طلبك للتبرد مباحاً وفعك للحدث عبادة والغسل واحد، ما الذي سيفرق بين
الاثنين؟ النية، الذي يفرق بين الاثنين، النية، عندما تجري أنت تجري حتى تبني جسدك
وتكون رجلاً رياضياً فتياً قوياً، هذه نيتك فقط، وأنت تجري حتى تقوي جسدك لتكون
عوناً للمسلمين على أعدائهم، فهذه نية وهذه نية، فالذي يميز بين هذين النوعين من
الجري النية، فالنية تميز بين ما هو مباح وبين ما هو عبادة, كما تميز بين الطاعة
والطاعة، فلو أن إنساناً صام صوماً للقضاء أو صوم كفارة أو صوماً مستحباً ما الذي
يميز بين المستحب والكفارة والقضاء؟ ما الذي سيميز؟ النية، إذن: النية تميز بين
الطاعات كما تميز بين الطاعات والمباحات، والنية تجعل الأعمال ببركة التوجه عظيمة
الأثر، جليلة القدر موفورة الثواب، ويحضرني في هذا المقام ما أخرجه الإمام مسلم
-عليه رحمة الله-: (أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسل أبا موسى الأشعري ومعاذ بن
جبل إلى اليمن وأمرها أن يجتمعا ولا يتفرقا وأن ييسرا ولا يعسرا وأن يبشرا وألا
ينفرا فنزل معاذ بن جبل ذات يوم على أخيه في الله أبي موسى الأشعري) وهذا الحديث
أهديه للذين ينكرون حد الردة (فوجد قوماً يجتمعون على رجل اجتمعت يداه إلى عنقه،
فقال معاذ: ما بال الرجل قالوا: ارتد بعد إسلامه، أو تنصر بعد إسلامه، قال: اقتلوه)
الحديث في صحيح مسلم، وهذا معاذ بن جبل، ويقول ذلك في حضرة صاحبه وأخيه في الله أبي
موسى الأشعري، (اقتلوه، قالوا: ما جئنا به إلا ليقتل انزل قال: الله لا أنزل حتى(13/15)
يقتل فقتلوه، فلما نزل قال: يا عبد الله بن قيس)، من هو عبد الله بن قيس؟ أبو موسى
الأشعري، هذا اسمه، اسمه عبد الله بن قيس، (يا عبد الله بن قيس: كيف تقرأ القرآن؟
قال: أفوقه تفويقاً -أي أجزئه أجزاءً- فأقرأه جزءاً بعد جزء، فقال له أبو موسى:
وأنت يا معاذ كيف تقرأ القرآن؟ قال: أنام من الليل فآخذ حظي من النوم ثم أقوم
بالقرآن فأصلي به ما شاء الله أن أصلي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)، إذن: هو
ينام وفي نيته أنه يتقوى بهذا النوم على ماذا؟ على صلاة الليل، ينام ليتقوى بهذا
النوم على طلب العلم، هذا نوم، ولكنه يتحول بالنية إلى ماذا؟ إلى طاعة وعبادة، إذن:
الأقوال الطيبة الصالحة والأعمال النافعة المباركة هي في حاجة إلى ماذا؟ إلى نية،
ولذلك الإسلام بُني على عدة أصول عدة أحاديث منها حديث النية، ولذلك النية داخلة في
كل باب من أبواب العلم، كل باب من أبواب العلم النية داخلة فيه، ولذلك ما أظرف وما
ألطف وما أفقه ما فعل الإمام البخاري عندما صَدَّرَ كتابه الصحيح بماذا؟ بحديث
النيات، نقول: أول باب في الصحيح هو ماذا؟ بدء الوحي، طيب ما العلاقة بين النية
وبدء الوحي؟ هذه الإشارة إلى أن الأقوال والأعمال لا ترفع ولا تقبل إلا بماذا؟ إلا
بالنية فأراد أن يحدث نية صالحة بين يدي عمله لعل الله –تعالى- أن يقبل منه، والله-
تعالى- قَبِلَ منه، فكان صحيحه من أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل-.
في هذا الأمر طرفة أيضاً: هناك ابن أبي ذئب ألف موطأ، الموطأ كتاب حديثي لا يقتصر
صاحبه فيه على الأحاديث المرفوعة، بل ربما أتى بالمرفوع وأتى بأقوال الصحابة وربما
أتى بأقوال التابعين وفيه بعض البلاغات فألف الإمام مالك موطأه بعد ابن أبي ذئب،
فسئل لماذا ألفت موطأك وقد سبقك به ابن أبي ذئب؟ فقال: «إنما صنعته لله»، هذه مسألة
مهمة جداً، «إنما صنعته لله» أي: ألف هذا الكتاب لله، ولذلك هل نسمع عن موطأ ابن(13/16)
أبي ذئب؟ فإذا قيل: وفي الموطأ إذن: ليس هناك موطأ في الدنيا إلا موطأ الإمام مالك-
سبحان الله- لعله قال هذه الكلمة بصدق فاستجاب الله –تعالى- له وقبل منه صنيعه،
(فلا قول ولا عمل إلا بنية) وكذلك الأقوال والأعمال والنوايا لابد أن تكون موافقة
لهدي الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- فلابد كما أنك توحد الله -عز وجل- في
ألوهيته وربوبيته وأسمائه وذاته وصفاته لابد أن توحد نبيه محمد -صلى الله عليه
وسلم- في ماذا؟ في الانقياد، فحق النبي عليك -عليه الصلاة والسلام-:
أولاً: أن تعرف سنته.
ثانيًا: أن تحب سنته.
ثالثًا: أن تنصر سنته.
رابعًا: أن تنشر سنته.
إذن: هذه أربعة حقوق لابد أن تقوم بها مع سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-:
معرفة السنة قدر الاستطاعة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، معرفة السنة.
الأمر الثاني: محبة السنة.
الأمر الثالث: نصرة السنة.
والأمر الرابع: نشر السنة بالعمل بها والدعوة إليها.
إذن: الإيمان قول وعمل ونية وسنة.
قال المصنف -عليه رحمة الله- وهذه هي الفكرة الثانية: أنه لا يكفر مسلم إلا بيقين
قال المصنف: (وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة) نحن عندنا عدة مصطلحات عندنا
أهل القبلة وعندنا أهل السنة، لو قلنا بأن أهل القبلة دائرة واسعة فإن أهل السنة
دائرة أخص، والناس في هذه الدائرة الأخص متفاوتون في تسننهم، ومتفاوتون بحسب قربهم
أو بعدهم من نور محمد -صلى الله عليه وسلم-، أي من نور الوحي، ليس من نور ذاته، فإن
النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخلق من نور كما تقول الصوفية، فإن الناس يزيدون
ويتفاوتون على حسب مراتبهم قرباً وبعداً من سنة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-
فكل من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا وصلى إلى قبلتنا فهو مسلم، إذن أهل القبلة الذي هم
بمعنى الإسلام، أهل القبلة أي المسلمون، يدخل فيهم كل من اتصف بالإسلام، حتى ولو(13/17)
كان مبتدعاً حتى ولو كان منافقاً؛ لأننا نحكم بمقتضى الظاهر، حتى لو كان منافقاً،
فهو من أهل القبلة، فهو مسلم، ولذلك في قول الله -عز وجل-: ?قَالَتِ الأعْرَابُ
آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ? [الحجرات: 14] اختلف أهل العلم في المقصود بهؤلاء على
قسمين:
القسم الأول: أنهم منافقون، يظهرون ما لا يبطنون، وهذا قول الإمام البخاري وغير
واحد، القول الثاني: أنهم مسلمون حقاً يبتغى منهم الإيمان ويرتجى الإيمان منهم،
ويترقب الإيمان منهم، وهذا قول بعض أهل العلم ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ويميل
العبد الفقير إلى هذا القول لماذا؟ لأن الأدلة قائمة على هذا القول، من هذه الأدلة
قول الله -عز وجل-: ?وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ? [الحجرات: 14]
كلمة ?وَلَمَّ? فيها نفي مع انتظار المنفي هل أتى الأستاذ؟ لما يأتي، إذن أنت تنفي
مجيئة ولكن ينتظر مجيئه، وليس المقصود بالنفي هنا هو النفي المؤبد أو النفي المطلق
ولكنه نفي في زمن الخطاب، نفي في زمن الخطاب، ولكن ينتظر حصول المنفي بعد هذا
الزمن، وقد وقع فإن هؤلاء الأعراب هم الذين جاهدوا ونصروا وقاتلوا المرتدين وقاتلوا
الفرس والروم، واستشهد منهم من استشهد فكان ذلك القول هو القوي، الدليل الثاني: قول
الله -عز وجل-: ?وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ
أَعْمَالِكُمْ شَيْئً? [الحجرات: 14] من أعمالكم التقدير من ثواب أعمالكم،
والمنافق لا ثواب على عمله، و?لاَ يَلِتْكُم? أي: لا ينقصكم فهذا دليل على أنهم
ليسوا بمنافقين؛ لأن المنافق لا ثواب له على عمله، فأعماله- والله تعالى أعلى
وأعلم-.
(فلا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة) إذا أتى بذنب دون الكفر فإنا لا نكفره بل ندع
أمره إلى الله -عز وجل- إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه كما ذكرت قبل، كذلك الأشياء(13/18)
الكفرية نذهب فيها إلى التكفير العام، فنقول مثلاً: من حَلَفَ بغير الله فقد كفر،
فهذا عام، ونقول: من طاف بالضريح فقد كفر، فهذا كله من باب التكفير العام، ولكن لا
يكفر معين إلا بعد استيفاء الشروط وامتناع الموانع، وذكر النبي -عليه الصلاة
والسلام- أن هناك كفراً دون كفر، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (ويحكم لا
ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وكان ذلك كفراً أي القتل، أن يقتل المسلم
أخاه المسلم سماه النبي -عليه الصلاة والسلام- كفراً ولكن ليس هذا هو الكفر الناقل
عن الملة بدليل قول الله -عز وجل-: ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُو? [الحجرات: 9] فهم طائفتان من المؤمنين حصل بينهما اقتتال فهذا دليل
على أن الاقتتال هذا لم يكن مكفراً، وهذا دليل على أن هذا الكفر ليس بالكفر الناقل
من الملة؟ إذا نحن نثبت التكفير العام، ولكن لا نسقط على معين إلا بعد إقامة الحجة
النبوية التي يكفر من خالفها.
قال الإمام -عليه رحمة الله-: (وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون) هذا شبيه بقول
الله -عز وجل-: ?وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ?169? فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم
مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ?170?? [آل
عمران: 169، 170] وقال الله -عز وجل-: ?وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُّقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ?154?? [البقرة:
154].
قال المصنف -عليه رحمة الله- وهذه هي الفكرة الرابعة وهي الإيمان بالبرزخ أي
الإيمان بالقبر: (وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون) أي: إلى يوم
الدين (وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين، وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم(13/19)
ويسألون قال الله- تعالى-: ?يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ? [الرعد: 27]) هذه الفكرة
هي الإيمان بالبرزخ وما يكون في البرزخ من سؤال ومن عذاب ومن نعيم –نسأل الله
تعالى- أن يلطف بنا، وقد ذكرت لكم من قبل حديث البراء بن عازب في مسند الإمام أحمد
وإسناده صحيح: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر حال المؤمن عندما يقبض
فيقال: أفرشوا له من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً من الجنة، فيأتيه من
روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره) –نسأل الله تعالى- أن يفسح لنا في قبورنا،
أما الكافر فيقال له: (أفرشوا له من النار وافتحوا له باباً من النار، فيأتيه من
حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه) وكذلك بالنسبة إلى سؤال القبر،
فهذا حق نسبته وهذا ما قال الإمام القيرواني: (وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم)، أي:
يسألون في قبورهم، وهذا قول الله -عز وجل-: ?يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ? [الرعد: 27]
في البخاري من حديث البراء بن عازب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا
سئل المسلم في القبر فإنه يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, فذلك قوله-
سبحانه-: ?يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ? [الرعد: 27])، وفي مسند الإمام أحمد
بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب: (أن المؤمن يأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه من
ربك؟ فيقول: ربي الله، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، من ذلك الرجل الذي بعث فيك؟
فيقول: هو محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أما الكافر فعندما يجلسانه
فيسألانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، وكذلك عندما يسأل عن دينه(13/20)
وعن رسوله)، ولذلك هذا المقام مقام صعب شديد، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام-
يتعوذ بالله عند التشهد من عذاب القبر.
الفكرة الخامسة: هي الإيمان بالملائكة, والإيمان بالملائكة نجعلها بإذن الله
–تعالى- في الحلقة القادمة حتى لا يضيق بنا المقام والحمد لله تعالى أولاً وآخراً
ظاهراً وباطناً.
الأخ الكريم من الجزائر يقول: ما هو جوابنا على من يستدلون بحديث النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)
وأمثال هذا الحديث مثل حديث البطاقة وغيره على إخراج أعمال الجوارح من الإيمان؟
بسم الله الرحمن الرحيم
دخول الأعمال في مسمى الإيمان هذا مذهب أهل السنة والجماعة وعليه دلت النصوص قال
الله -عز وجل-: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ
جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُل?107?? [الكهف: 107] وقال- تعالى-: ?إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ
عَمَل?30?? [الكهف: 30] وهذا بخلاف مذهب المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى
الإيمان وبخلاف الذين قالوا بدخول الأعمال مسمى الإيمان دخولاً مجازياً فإن هذه
الأقوال أقوال مخالفة والذين قالوا بخروج العمل عن مسمى الإيمان لم يقصدوا أعمال
الباطن، وإنما قصدوا بذلك أعمال الظاهر ومن قصد إخراج أعمال الباطن عن مسمى الإيمان
فهذا ضال، هذا ما حققه وقرره شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذين قالوا بإخراج العمل لا
يقصدون بذلك العمل الباطن وإنما يقصدون بذلك العمل الظاهر ومن ذهب بإخراج العمل
الباطن عن مسمى الإيمان فهو ضال في هذه المسألة.
هل ما قاله الأخ يستدل به على إخراج العمل؟ أبداً؛ لأن قول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (يبتغي بها وجه الله)، أي خالصاً والإخلاص من أعمال القلوب، فدخل العمل(13/21)
آنذاك في المقصود، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أشهد أن لا إله إلا الله
وأني رسول الله، لا يقولها عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة) إذن: كانت أيضاً
مقيدة بماذا؟ باليقين واليقين عمل قلبي، كذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من
مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة) فصارت مقيدة بالعلم، فهذا دليل على أن
الإيمان إنما ينفع صاحبه إذا قيد بشيء من العمل، والله تعالى أعلى وأعلم.
الأخ الكريم من الجزائر يقول: ألا ترى يا شيخنا أن القول بأن الإيمان قول وعمل
واعتقاد أن ذلك يعني أنه بلا اعتقاد لا يكون إيمان وكذا بغير عمل لا يكون إيمان ثم
إن الإيمان بغير عمل ينجو صاحبه ألا يقول في التناقض؟ لأن تعريف الإيمان المنجي
حينئذ لا يصدق عليه تعريف أهل السنة والجماعة في قولهم: قول وعمل واعتقاد؛ لأن
العمل حينذاك مفقود؟
المقصود بالعمل، العمل الألف واللام هنا، الألف واللام للعهد، أم الألف واللام
للجنس؟ إن كان المقصود الألف واللام للعهد أي الإيمان قول وعمل أي عمل ظاهر وباطن،
فلابد للمكلف أن يأتي بما يدل على هذا الباطل، ولا يتصور أن يأتي مسلم بإيمان
وظاهره لا يدل على هذا الإيمان الذي هو في الباطن، لا يتصور ذلك أبداً، وهذه
المسألة بسطها شيخ الإسلام ابن تيمة والمشكلة أن الناس ينقلون عبارات مبتكرة
ومجتزأة عما قاله أو عن مقولات شيخ الإسلام ابن تيمية يعني: هناك أقوال لابن تيمية
فينقلون منها ما يريدون والذي يقرأ الكلام بكليته يعلم أن العمل هو عمل ظاهر وباطن،
والعمل المنجي هو العمل الباطن، والعمل الظاهر هل هو منجٍ أم لا؟ هذا فيه النزاع،
العمل الظاهر منجٍ أم لا؟ هذا فيه النزاع، لكن الصحيح لو أن مكلفاً لم يأتِ بشيء
أصلاً من عمل الظاهر هل يكون ناجياً، لا أظنه ناجياً، لم يأتِ بشيء أصلاً من العمل
الظاهر، لا نصرة الله والرسول ولا الانقياد الباطن، يعني كما قلت لكم الآن رجل لا(13/22)
ينصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتهكم على النبي -عليه الصلاة والسلام- ورجل
ينكح المحرمات ويزني بمحرماته ورجل لا يؤمن بالحلال والحرام أصلاً فلا يأتي حلالاً
ولا يحرم حراماً أصلاً فهذا رجل دليل على ضعف الباطن أو عدمه كما قال شيخ الإسلام.
الأخت الكريمة من الجزائر تقول: سؤال يهمني جداً: هل يعقل ويصدق أن يترك المرء
أركان الإسلام العظمى- مع ما يعلم من التشديد فيها- ثم يعمل أعمالاً أخرى كزيارة
المرضى أو نحوها وتكون هذه الأعمال من الإيمان والدافع لها الإيمان، وعادة ما يحمل
الناس الذين هذا حالهم أن الدافع مجموعة أعراف وعادات ومجاملات أو دوافع أخرى؟
الثواب لا يترتب إلا على القصد والنية, يعني: لو أن إنساناً مشى وراء جنازة حتى
توضع وتلحد وكان يقصد بذلك الواجب العرفي فإنه لا يؤجر على ذلك الأمر، أما من صلى
على جنازة وتبعها حتى لحدت ويقصد بذلك الأجر أجر على ذلك ولذلك قال النبي -عليه
الصلاة والسلام-: (من صلى على جنازة إيماناً واحتساباً رجع وله من الأجر كجبل أحد،
فإن مشى خلفها رجع من الأجر وله قيراطان كل قيراط كجبل أحد)، إذن هناك صلاة على
الجنازة ومشي خلفها كعادة كالواجب كما نسميه نحن هنا في مصر واجب، واجب هيا نؤدي
الواجب ولكن لا يأتي ذلك من باب القربة والطاعة والعبادة والمشروعية فهذا لا يؤجر
على ذلك الأمر، وكذلك مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قام ليلة القدر
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فيمكن أن يقوم هذه الليلة كنوع من العرف
يعني جرت العادة أنهم يأتون بالأرز واللبن والمشروبات الساخنة والبادرة والبرطمانات
ويأتون بالكراسي يسندونها في جوانب المساجد ويأكلون ويشربون وكل فترة يقومون يصلون
ركعتين وهكذا إلى أن تنتهي الليلة بهذه الصورة عادة وتقليد وهناك من قام هذه الليلة
إيماناً واحتساباً، فإن الأجر لا يكون إلا بالنية، فمن أتى هذه الأعمال كما تقولين(13/23)
ولا يأتيها من باب نية صالحة فإنه لا يؤجر على ذلك- والله تعالى أعلى وأعلم-.
الأخ الكريم من المغرب يقول: إذا جاء نفي الإيمان في القرآن أو السنة مثل قول الله
-عز وجل-: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ? [النساء: 65] هل يكون النفي متجهاً لمطلق الإيمان أم للإيمان المطلق؟
هذا النفي متوجه إلى أصل الإيمان، كما قلت لكم، هناك أصل للإيمان وهناك الإيمان
الواجب وهناك الإيمان المستحب، فالذي لا يرضى بحكم الله ولا ينقاد لحكم الله ولا
يستسلم ظاهراً وباطناً لحكم الله فهذا قد انتفى عنه أصل الإيمان- والعياذ بالله-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
سؤالان يسيران:
السؤال الأول: تكلم عن الإيمان من حيث: معناه. زيادته. ونقصانه. دخول العمل فيه.
السؤال الثاني متعلق بالمسألة التي أجلناها فنكتفي بالسؤال الأول حتى لا يكون الأمر
ضيقاً.
وجزاكم الله خير(13/24)
الدرس الرابع عشر
الملائكة ـ الصحابة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وأحبابه ومن اتبع هداه ثم أما بعد، فاللهَ -تعالى- أسأل أن يوفقنا في هذا اللقاء وأن يعيننا على إيصال هذه المادة التي تتعلق بفكرتين عظيمتين:
الفكرة الأولى: الإيمان بالملائكة ومن جملتهم الحفظة وملك الموت.
أما الفكرة الثانية: فمتعلقة بالصحابة وأعني بها حُبَّ الصحابة واعتقاد فضلهم وعدالتهم، فهيا بنا نسمع ما قال الإمام ابن أبي زيد القيرواني -عليه رحمة الله تعالى-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (وأن على العباد حفظةً يكتبون أعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم، وأن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه، وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي -رضي الله عنهم أجمعين- وألا يذكر أحد من صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويُظن بهم أحسن المذاهب)
بسم الله الرحمن الرحيم(14/1)
قال المصنف -عليه رحمة الله تعالى-: (وأن على العباد حفظةً يكتبون أعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك) أي: مما يكتبون عن علم ربهم فالله- تعالى- هو المحيط بهم العليم بما يكتبون، (وأن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه) الإيمان بالملائكة من أركان الإيمان التي أمر الله –تعالى- بها ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ? [البقرة: 285] وفي حديث جبريل المشهور -عليه السلام- عندما أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- ليسأله عن الإيمان فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره) إذن: الإيمان أصل أو ركن من أركان الإيمان والعلاقة بين أركان الإيمان هي علاقة التلازم، فلا يتصور أن يدعي مدعٍ أنه يؤمن بالله ويكون كافراً بالملائكة، أو يكون مؤمناً بالله والملائكة كافراً بالرسل، أو مؤمناً بالله والملائكة والرسل كافراً بالكتب، أو يكون مؤمناً بذلك كلِّه ولكنه يكفر بالقدر، فمن كفر بواحد من أركان الإيمان بطل إيمانه وصار كافراً- والعياذ بالله- فلابد لكل مُكلَّف أن ينظر في إيمانه هل من جملة ما يؤمن أنه يؤمن بالملائكة؟ فإن كان ذلك من جملة إيمانه فليحمد ربه -سبحانه وتعالى- على ما وفقه إليه.(14/2)
والملائكة: أجسام نورانية خلقت من نور ولكن أي نور خلقت منه هذه الأجسام؟ الله -تعالى- أعلى وأعلم، فذلك من جملة الغيب، ففي الحديث الصحيح الذي أخبر فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- عن خلق الخلق قال: (خُلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار) والمارج من نار: هي النار الشديدة التي لا دخان لها، نار شديدة لا دخان لها؛ لأن النار إذا كانت لها دخان فإن هذا مؤذن بقرب انتهائها فالنار التي خلقت منها الجان نار شديدة تلظى مشتعلة، (وخُلِقَ آدم مما وُصف لكم) وأيضاً هذه الملائكة لها أجنحة مثنى وثلاثة ورباع وهناك من الملائكة كجبريل من له عدة مئات من الأجنحة كما صَحَّ الخبر بذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال الله -تبارك وتعالى-: ?الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ? [فاطر: 1] فالملائكة إذن لها أجنحة، لكن ما صورة هذه الأجنحة؟ ومما تتركب هذه الأجنحة؟ وما هيئة هذه الأجنحة؟ وكيف يطيرون بهذه الأجنحة؟ هذا كله ما لا علم لنا به، والإمساك عن ذلك هو إمساك عن جُمَل من الغيب ليس عندنا فيها خبر.(14/3)
أيضاً هذه الملائكة تتشكل وتأتي في صورة الأناسيّ، صورة الإنسان ويدل على ذلك حديث جبريل المشهور: (بينما كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أتى رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يبدو عليه أثر السفر ولا يعرف منا أحد) أمر عجيب جداً وهم في المدينة في وسط الصحراء القاحلة هناك رمال وهناك غبار والمسافر يعلوه الغبار كما أن الشعثة تظهر عليه فهذا رجل مسافر لا يبدو عليه شيء من ذلك، وهو مع ذلك شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، وفي نهاية الحديث: (أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: التمسوه، فالتمسناه فلم نجده، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمور دينكم) إذن: تشكل جبريل في صورة هذا الرجل الذي رآه الصحابة جميعاً حتى تعجبوا من حسنه مع أنه ليس من جملة أهل المدينة، وكثيراً ما كان يَتَشَكَّلُ جبرائيل -عليه السلام- في صورة دحية الكلبي، دحية بن خليفة الكلبي، هذا صحابي جليل.
أيضاً في سورة مريم يُخبر ربنا -سبحانه وتعالى- أنه أرسل إلى مريم بشراً سوياً ?فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّ? [مريم: 17] ?فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ? أي: تشكل وأتى في مثل الروح البشرية السوية.
وكذلك أيضاً أضياف إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- عندما أتو إليه فأوجس منهم خيفة قالوا: لا تخف، ?فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ? [الذاريات: 28] في قصة طويلة نثرها الله -عز وجل- في غير موضع من القرآن فتشكل الملائكة في صورة الأناسي هذا أمر مقرر وعليه الاتفاق وبه أتت النصوص والحمد لله رب العالمين.(14/4)
أيضاً الملائكة خَلْقٌ كثير لا يعلم عددهم إلا الله -سبحانه وتعالى- ففي حديث البخاري ومسلم: (أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر البيت المعمور في السماء السابعة وأن سبعين ألف ملك يدخلون فيه فلا يعودون) -سبحانه وتعالى- سبعين ألف مَلَك يدخلون البيت المعمور لا يعودون إليه مرة ثانية فهذا دليل على كثرة الملك، ويدل على ذلك أيضاً في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود: (أن جهنم يؤتى بها في سبعين ألف زمام كل زمام يجره سبعون ألف مَلَك) فنسأل الله -تعالى- الستر والعافية.
وهؤلاء الملائكة لهم أعمال كثيرة يُوكلون بها، فهناك مَلَك للقِطر الذي ينزل من السماء، وهناك مَلَك للريح وهناك مَلَك للمطر وهناك ملك للجبال، وهناك ملك للأرض، هناك ملائكة كثيرة وكل مَلَك له عمل وظيفي مُوكل به من قِبَلِ الله -عز وجل-.(14/5)
ومن هذه الأعمال التي تقوم بها الملائكة الحفظ والكتابة، فالملائكة تحفظ الإنسان ?لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ? [الرعد: 11] فالحفظ هذا إنما هو قَدَر قَدَّرَهُ الله –تعالى- على العبد بدليل أن الله -تعالى- إذا أراد إيصال شر لهذا العبد لحكمة يراها، فإن الملك لا يحفظ ذلك العبد في هذه اللحظة، إذا قَدَّرَ الله -سبحانه وتعالى- أن يصيبك مكروه في رأسك فإن الملك يتنحى حتى تُصاب بذلك المكروه الذي قدره الله -عز وجل- وإلا فإن الحفظة يحفظونك في كل وقت في ليلك وفي نهارك، وكذلك يكتبون كل شيء، ويحصون عليك كل شيء، حتى الهمّ الذي تَهَمُّ به فإنهم يحصونه عليك ويسترونه، فيكتبون ما شاء الله لهم أن يكتبوا ثم بعد ذلك يأمر الله -تعالى- بإثبات ما شاء كما يأمر بنسخ وإزالة ما شاء، قال الله -تعالى-: ?يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ?39?? [الرعد: 39] فجميع ما يكتبه الملك منه ما يأذن الله –تعالى- بأن يكتب ومنه من يشأ الله -سبحانه وتعالى- أن يُمحى وهذا كله بأمره- سبحانه-.
قال الله- تعالى-: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ?16? إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ?17? مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ?18?? [ق: 16- 18] ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ? و"ما" هنا هي النافية ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? فهنا نفي واستثناء للدلالة على الحصر فما تقول من قول حتى ولو كان صغيراً وما تفعل من فعل حتى ولو كان حقيراً إلا وملك يكتبه عليك ويستره حتى تلقى ربك وأنت تنظر ما قلت وما فعلت.(14/6)
وقال- تعالى-: ?وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ?10? كِرَامًا كَاتِبِينَ ?11? يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ?12?? [الانفطار: 10- 12] ?كِرَامًا كَاتِبِينَ? يكتبون ماذا؟ يكتبون أقوالك, ويسطرون أفعالك وهم في الوقت نفسه يحفظونك من كل مكروه قد يصيبك - بأمر الله عز وجل-، وأيضاً من جملة الوظائف التي يقوم بها الملك ولا أقصد بالملك الملك الواحد ولكن أقصد بالملك الجنس من هذه الوظائف قبض الأرواح، قال الله- تعالى-: ?قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ?11?? [السجدة: 11]- سبحان الله- ?مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ? ينتشر عند العامة أن ملك الموت اسمه: عزرائيل وهذا لا يصح، لا في كتاب ولا في سنة ولم يرد في ذلك خبر صحيح عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغاية ما في الأمر أن الناس يتناقلون أشياء وبكثرة التناقل تصير هذه الأشياء المنقولة في حكم الاعتقاد، فيتناقلونها كأنها عقيدة مُسَلَّمَة، وهذا الأمر لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن الصحابة الكرام.
وقال الله -عز وجل-: ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ? [الأنعام: 61] إذن: هناك ملك الموت وهناك ملائكة الموت، وهم لا يقصرون في شيء من ذلك، يدل على هذا الأمر وهذا موقفان, هنا موقفان أحدهما لنفس مؤمنة والموقف الآخر لنفس كافرة، نسأل الله -عز وجل- أن يتوفانا على الإيمان، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يعاملنا بعفوه وجوده ولطفه وإحسانه فإنه -سبحانه وتعالى- هو البر الرحيم.(14/7)
أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن وهو حديث البراء بن عازب وهو حديث مشهور وسبق أن ذكرت شيئاً منه، وفي ذلك الحديث: (أن المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملائكة الموت بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، بيض الثياب فيجلسون منه مد بصره، حتى يأتي ملك الموت فيقول: أيتها الروح المؤمنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان, فتخرج روح المؤمن كما تسيل القطرة من فِي السقاء) الكوب عندما تصب الماء منه يسير, تخرج الروح بيسر، هذه روح المؤمن عندما تخرج من هذا الجسد الذي طالما كان مطيعاً لله -عز وجل- ناصراً دين الله عاملاً بهذا الدين محباً هذا الدين يحيى ويموت من أجل هذا الدين، هذه الروح الطيبة المباركة تخرج من جسدها الطاهر كما تسيل القطرة من فِي السقاء.(14/8)
أما الصورة الثانية فهي صورة الكافر الذي طالما كان معانداً لشرع الله باغضاً دين الله -عز وجل- معادياً أولياء الله يتلبس في ليله ونهاره بالكفر والعصيان والنفاق والإلحاد، هذا النوع يأتي إليه ملائكة الموت في ثياب سوداء, معهم المسوح التي سيكفن فيها ثم يجلسون منه مد البصر وهو فارق وجِل مذعور حتى إذا أتى ملك الموت قال: اخرجي أيتها الروح الخبيثة إلى سخط من الله –تعالى- وغضب، فتتفرق في جسده فينزعها نزعاً شديداً كما ينتزع السفود من الصوف المبتدل) السفود كالمشط أو كحبات الحديد, انظر إلى حبات الحديد أو إلى أسنان الحديد إذا مشط بها صوف ملبد بالماء هل يكون ذلك الأمر يسيراً أم صعباً وهكذا تخرج روح الكافر مسخوط عليها، مغضوب عليها، وتخرج في شدة وعنت, فنسأل الله -تعالى- العافية. إذن: هذه هي الفكرة الأولى، الإيمان بالملائكة، أجسام نورانية تتشكل, لها أجنحة، هؤلاء الملائكة يطيعون الله -عز وجل- لا يفعلون إلا ما يؤمرون لا يتصور منهم معصية ولا تتصور منهم مخالفة وهذه الملائكة موكلة بأعمال أعمال يقومون بها يؤدون هذه الأعمال لا يقصرون ولا يفرطون فيما وُكِلَ إليهم.
مسألة لطيفة:
هنا مسألة لطيفة: أيهما أفضل، الملك أم صالح البشر؟ هذه المسألة تنازع فيها الناس نزاعاً شديداً وهي مسألة نظرية, مَن جهلها فلا تثريب عليه، ولا يكون مدخول الاعتقاد, عقيدته ليست فاسدة ولا ناقصة إذا لم يعلمها ولكن أذكرها من باب الفائدة:(14/9)
تنازع الناس في ذلك تنازعاً عريضاً والصواب في هذه المسألة: أن الملك أفضل باعتبار البداية وأن صالح البشر أفضل باعتبار النهاية، هذا هو القول الطيب الذي تميل إليه النفس، أن الملك أفضل باعتبار البداية، وأن صالح البشر أفضل باعتبار النهاية؛ إذا نظرنا للبداية نجد أن الإنسان في دنياه يقصر، مقصر مهما بلغ من الطاعة فهو مقصر، ومهما بلغ من البر فهو أيضاً مقصر فإن التقصير والذنب والعجز والإفراط كل ذلك منا في ظاهرنا وباطننا, فنسأل الله -تعالى- أن يعاملنا بستره في الآخرة كما عاملنا بستره في الدنيا، فالإنسان مقصر وهو أيضاً مذنب حتى ولو كان مطيعاً؛ لأن طاعته ليس طاعة كاملة ولا تامة فما من أحد يستفيد بطاعته الفريضة إلا النبي -عليه الصلاة والسلام- فكل الناس يقصر وكل الناس مقصر فنحتاج إلى النوافل حتى نتمم بهذه النوافل ما قَصُرَ من واجباتنا وفرائضنا. إذن: الطاعات النوافل السنن المستحبات نحن في الحقيقة لا نهنأ بها استقلالاً لماذا؟ لأنها توضع مع الفرائض وتوضع مع الواجبات لتتم الواجبات وتتم الفرائض بالنوافل، من الذي هنأ بطاعته وسنته ونافلته استقلالاً من هو؟ النبي -عليه الصلاة والسلام-، أفضل الخلق استفادةً بالنوافل والرغائب والهدي والزوائد والسنن هو النبي -عليه الصلاة والسلام- مع كماله في طاعته وفرائضه، فالإنسان مُقصر وناقص في الدنيا حتى لو بلغ من الطاعة ما بلغ، وعندها تكون الملائكة أفضل من العبد في الدنيا؛ لأنهم يطيعون الله -عز وجل- يمتثلون أمره عباد مكرون، وهم بأمره يعملون، لا يخالفون أمره لا يزيغون عن أمره، أما الإنسان فقد يزيغ قد ينحرف قد يقصر أما في الآخرة وهي النهاية فإن صالح البشر أفضل من الملائكة بل إن الملائكة تكون خدماً لصالح البشر ?وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ? [الرعد: 23] فالملائكة يدخلون عليهم: ?سَلاَمٌ عَلَيْكُم? [الرعد: 24] سلام عليكم يسلمون عليهم ويبشرونهم(14/10)
بعقبى الدار وهي الجنة، فنسأل الله –تعالى- أن يعيننا على طاعته وأن يهيأ لنا من أمرنا رشداً وأن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها.
أيضاً من الاعتقاد أن تعتقد حب الصحابة وأن تعتقد فضلهم وعدالتهم, صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول المصنف -عليه رحمة الله-: (وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) القرن ما المقصود بالقرن؟ يقصد بالقرن أمران:
الأمر الأول: المائة عام، المائة عام قرن.
الأمر الثاني: الجيل من الناس، يسمى هذا قرناً كما يسمى هذا قرناً فقول النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذا الحديث مخرج في الصحيحين: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)إذن: (خير الناس قرني) يحمل هذا على المائة سنة التي كان فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- كما يحمل ذلك أيضاً على الجيل الذي كان فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- (خير الناس قرني) وهم الصحابة (ثم الذين يلونهم) وهم التابعون (ثم الذين يلونهم) وهم تابعوا التابعين -رضي الله تعالى عنهم جميعاً-.(14/11)
الأمر الثاني: ما المقصود بالصحابي؟ التعريف الصحيح للصحابي: أنه من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً وتوفي على الإسلام، هذا هو التعريف الصحيح للصحابي: من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً، مؤمناً ولابد من هذا الشرط، لماذا؟ أبو جهل عمرو بن هشام ألم يلقَ النبي -عليه الصلاة والسلام-؟! بلى, لقد لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- ورآه وشافهه وخاطبه وحدثه، وأبو جهل بن هشام مات كافراً في غزوة بدر في قصة طويلة معروفة، هل يكون أبو جهل آنذاك صحابياً؟!! لا، لماذا؟ لأنه عندما قابل النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يقابله على الإيمان، كذلك اليهود الذين لقوا النبي -عليه الصلاة والسلام- هؤلاء ليسوا بصحابة لقد لقوه وحدثوه وشافهوه وناظروه وناقشوه وكانوا مؤمنين أنه هو الرسول ولكن هذا الإيمان لم يتجاوز حدود القلب، قال الله -عز وجل-: ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ? [النمل: 14] فكانوا يتيقنون أن هذا رسول الله قال الله -تعالى-: ?فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ? [البقرة: 89] حيي بن أخطب هذا من أعيان اليهود وأحبارها عندما أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة ما الذي حدث؟ خرج هو وابن عم له لملاقاة النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل حيي بن أخطب على النبي -عليه الصلاة والسلام- ومكث ابن عمه في الخارج بعد فترة خرج حيي بن أخطب قال ابن عمه: أهو؟ أهو؟ أي هذا هو الرسول الموجود عندنا في التوراة والإنجيل؟ فقال حيي بن أخطب: نعم هو هو، هذا تأكيد هو هو، فقال ابن عمه: وما أنت صانع؟ قال: سأناصبه العداء، ?فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ?89?? [البقرة: 89] هل نقول بأن حيي بن أخطب كان صحابياً؟ أبداً، إذن: مع الرغم أنه آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن هذا إيمان المعرفة، ليس هذا هو الإيمان الذي يترتب عليه(14/12)
الأثر الشرعي من رضوان الله -عز وجل- ومن الجنان ومن المغفرة والرحمة أبداً، هذا من جنس إيمان إبليس وبالتالي الذين قالوا: بأن الإيمان هو المعرفة، هذا باطل وهذا فساد بل إن الإيمان كما ذكرت من قبل: هو الإقرار المستلزم الانقياد والمحبة والطاعة.
أيضاً المنافقون لقوا النبي -عليه الصلاة والسلام- وصلوا معه وبعضهم غزا معه فهم في الجملة من جملة الصحابة ظاهراً لكن عند التحقيق ليسوا من هؤلاء الصحابة الذين قال الله -تعالى- فيهم: ?رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? [المائدة: 119] فهل الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك عندما ننظر إلى صنيع الإمام ابن حجر -عليه رحمة الله- في "الإصابة" وهذا ديوان حافل في ذكر أسماء الصحابة وكذلك ننظر إلى ابن الأثير في كتابه القيم: "أسد الغابة" في ذكر أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- لا نجد ذكراً لأسماء المنافقين الذين عرفوا وتخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذه مسألة مهمة جداً. إذن: الصحابي هو من؟ من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- مؤمناً ومات على الإسلام، طيب هل هناك شرط أن يحدث عن رسول الله؟ لا.. ليس شرطاً أن يحدث عن رسول الله يمكن أن يلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن لم يحدث عنه بحديث, يمكن وهناك بعض الصحابة لا يعرف أنهم حدثوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثاً واحداً هذا موجود، طيب هل يشترط أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعينه، طبعاً من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- فإنه يراه بعينه إلا إذا كان أعمى فمن كان أعمى فهو صحابي أيضاً كعبد الله بن مكتوم -رضي الله تعالى عنه- لقد كان أعمى وكان يتحسس طريقه إلى المسجد وروى حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-. أما من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- وآمن به ثم بعد ذلك ارتد نقف هنا وقفة من ارتد بعد إيمان ثم آمن بعد الارتداد وحسن إسلامه فهذا قد(14/13)
تاب الله -تعالى- عليه، مثل من؟ مثل عبد الله بن أبي السرح، عبد الله بن أبي السرح هذا كان صحابياً وكان يكتب الوحي ثم بعد ذلك التبس عليه وارتج عليه فلحق بالمشركين وارتد وكان أحد الذين أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بإهدار دمهم عند دخول مكة ولكن عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه ورحمه الله- أخذه وأتى به إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخذ الأمان له حتى إن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقول للصحابة: (أليس منكم رجل رشيد يقوم إلى ذلك الرجل فيقتله؟ فقال الصحابة: والله يا رسول الله لو أومأت لنا لصنعنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين) يعني: ليس هناك نبي يحرك عينيه وشفتيه ومناخيره وما إلى ذلك (ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين) فعبد الله بن أبي السرح بعد أن ارتد أسلم وحسن إسلامه، ولكم أن تعلموا أن أول معركة بحرية بين المسلمين وبين الروم كان بقيادة من؟ كانت بقيادة عبد الله بن أبي السرح، معركة ذات الصواري البحرية، واشترك فيها لفيف من الصحابة وقتل فيها من قتل، كانت بقيادة هذا الصحابي الذي حَسُنَ إسلامه وجاهد في سبيل الله حق الجهاد كما كان عَامِلَ مصر وإفريقيا فقاد جيوش المسلمين في شمال إفريقية وفتح بلاداً كثيرة وكان سبباً في إسلام أناس كثيرين- فرضي الله تعالى عنه- ومن أمثلة هؤلاء الذين ارتدوا ثم أسلموا وحسن إسلامهم فيما بعد: الأحنف بن قيس، كان حكيم العرب حسن إسلامه وكان له قدم راسخة في فتوحات المسلمين- فنسأل الله –تعالى- أن يرحم المسلمين جميعاً- أما من ارتد ومات وهو مرتد فهو كافر- والعياذ بالله- إذن لا نقول: أنه من جملة الصحابة. لا.. فهذا كافر، هذا كافر ومن أمثلة هؤلاء عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة، أم حبيبة التي تزوجها النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد هلاكه في الحبشة، ما الذي حدث؟ عبيد الله بن جحش كان صحابياً ثم لما هاجر المسلمون إلى الحبشة ارتج(14/14)
أيضاً عليه وحُبِّبَ إليه وهذا من باب البلاء حُبِّبَ إليه دين عبدة الصليب وعبدَ الصليب من دون الله وتنصَّر فلما فعل ذلك بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى النجاشي وتزوج النبي -عليه الصلاة والسلام- بأم حبيبة وانتقلت إليه وهاجرت بعد ذلك من الحبشة إلى المدينة -رضي الله تعالى عنها-.
ومن أمثلة هؤلاء: عبد الله بن خطل هذا الرجل أيضاً أسلم ثم بعد ذلك انتكث على عقبيه وهجا النبي -عليه الصلاة والسلام- وهجا أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يقتل عند دخول مكة حتى ولو تعلق بأستار الكعبة فلما دخل جيش المسلمين مكة هَرَعَ إلى بيت الله الحرام وتعلق بأستار الكعبة فلحقه المسلمون وقتلوه، وهو متعلق بأستار الكعبة.
إذن الصحابي: من لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- على الإيمان ومات على الإسلام، فخرج من ذلك اليهود والمشركون والمرتدون والمنافقون الذين عُلِمَ نفاقهم، خرجوا من هذا القيد المبارك.
قول المصنف: (وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) رأوا رسول الله كلمة "رأوا" ضمير الجمع هل يعود على الصحابة من البشر فقط؟ أم قد يعود على البشر من الصحابة وغيرهم؟ هذا ضمير الجمع للعاقلين، للعقلاء الذكور المكلفين فيدخل في خطاب التكليف وألفاظ التكليف الجن مع البشر، وهل معنى ذلك أن من الجن صحابة؟ ربما يكون هذا القول متوجهاً فإن بعضاً من الجن لقي النبي -عليه الصلاة والسلام- وسمع منه القرآن وآمن بالقرآن كما آمن بالنبي -عليه الصلاة والسلام-.
وهناك آيات كثيرة في فضل الصحابة من المهاجرين والأنصار.
المهاجرون: هم أهل مكة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة باذلين أموالهم وأوطانهم وعشيرتهم في سبيل الله هؤلاء هم المهاجرون.(14/15)
والأنصار: هم الذين تَبَوَّؤوا دار الإيمان وهي المدينة فسكنوها وعاشوا فيها فما أتى المسلمون والنبي -عليه الصلاة والسلام- المدينة نصروهم وأيدوهم واتبعوهم وكانوا عوناً لهم فجزى الله المهاجرين والأنصار خير الجزاء، قال الله- تعالى-: ?وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? كلهم ? رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?100?? [التوبة: 100] ?وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ? بمفهوم المخالفة إذن: السابقون غير الأولين هم أقل درجة من السابقين الأولين.(14/16)
وقال الله -عز وجل-: ?مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ? [الفتح: 29] -عليه الصلاة والسلام- ولكن عندما نصلي لا نقول: -عليه الصلاة والسلام- بل الإنصات هو الواجب، أحيانًا بعض المصلين عندما نقول: ?مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ? [الفتح: 29] تجد المسجد: "عليه الصلاة والسلام" فهذا لا يصح ?مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ?29?? [الفتح: 29] إذن: هذه صفات لصحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في التوراة والإنجيل هناك صفات سلوكية وهناك صفات علنية، من الصفات السلوكية: رحماء فيما بينهم، هناك الرحمة فيما بينهم، صفات مفقودة في دنيا المسلمين هذه الأيام الرحمة فيما بين المسلمين، وإذا كانت شدة أو غلظة فإنها على الكافرين، وهناك صفات متعلقة بالظاهر وهي غالباً ما تدل على طاعتهم وعبادتهم لله -عز وجل-.(14/17)
وقال الله -عز وجل-: ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ? الصدقة التي الفيء والغنيمة يكون ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانً? [الحشر: 8] ثم بعد ذلك قال: ?وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ? [الحشر: 9] ثم بعد ذلك قال: الطائفة الثالثة وهي: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?10?? [الحشر: 10] فذكر الله –تعالى- المهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم، ولم يحدد من الذين جاءوا من بعدهم، أهم التابعون؟ أم تابعوهم؟ فهذا لفظ عام يشمل كل من تَرَضَّى وترحم على الصحابة -رضي الله تعالى عنهم جميعاً- فكل من أحب الصحابة ورضي عنهم وترحم وأحبهم ووالاهم وأمسك عما شَجَرَ بينهم وسَلِمَ لسانه كما سَلِمَ صدره من الوقوع فيهم، بل هو دائم الذكر لهم، هو دائم الثناء عليهم لا يذكر إلا محامدهم، ويمسك عما شَجَرَ بينهم هذا فيه نصيب من قول الله -عز وجل-: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?10?? [الحشر: 10].(14/18)
قال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) هذا في البخاري ومسلم وهذا اللفظ للبخاري، وفي حديث عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (خير أمتي القرن الذي كنت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقال: عمران ثم لا أدري هل قال: ثم الذين يلونهم) إذن: هناك الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ويؤيد أن الفضيلة تلحق بالضرْب الثالث الذين لحقوا بالصحابة الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يأتي على الناس زمان فيخرج فئام من الناس يقاتلون في سبيل الله فيقال: هل منكم من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقال: نعم فيفتح عليهم، ثم يغزو فئام من أمتي فيقال: هل منكم من صحب من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقال: نعم، فيفتح عليهم، ففي الثالثة: هل منكم من رأى من صحب من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فيفتح عليهم) فهذا دليل على أن الخيرية والفضل والبر إنما هي في القرون الفاضلة, جيل الصحابة ثم جيل التابعين ثم جيل تابعيهم -رضي الله تعالى عنهم جميعاً-.
قال النبي -عليه الصلاة والسلام- والحديث أيضاً في الصحيح: (النجوم أَمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أَمَنَة لأصحابي) أي أنا حفظ وحراسة لأصحابي (فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أَمَنَة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) ولذلك نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن سبِّ الصحابة فقال -عليه الصلاة والسلام-: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيْفه) هذه لغة في النصف، وقيل النصيف بمعنى الخِمَار.(14/19)
الصحابة -رضي الله تعالى عنهم جميعاً- متفاوتون في الدرجات فأفضل الصحابة بعد الخلفاء الراشدين هم بقية المبشرين، ثم بعد ذلك الذين شهدوا بدراً، ثم الذين شهدوا المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا أمر مقرر، ومما يدل على أن هناك تفاضلاً بين الصحابة أن الله -عز وجل- قال: ?وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى? [الحديد: 10] فَفَرَّقَ الله -سبحانه وتعالى- بين الذين أنفقوا وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللهِ قبل الفتح والذين فعلوا ذلك بعد الفتح، وذكر الله المهاجرين كما ذكر الأنصار، فأفضل الخلق بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم صحابته الأربعة الخلفاء الذين أثنى النبي -عليه الصلاة والسلام- عليهم، فأخرج أبو داود والترمذي أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وفي الصحيح: (أن محمد بن الحنفية قال: قلت يا أبي من خير الناس بعد رسول الله؟ فقال: عليُّ -رضي الله تعالى عنه-: أبو بكر، قلت ثم من؟ قال: ثم عمر؟ فخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت يا أبي؟ قال: ما أبوك إلا رجل من المسلمين) -رضي الله تعالى عنهم جميعاً- وفي الصحيح من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- أنه قال: (كنا نُخَيِّرُ بين الصحابة والنبي -عليه الصلاة والسلام- حيٌّ فنقول: خير الناس بعد رسول الله كنا نقول: أبو بكر ثم عمر ثم نُمْسِك) فرضي الله -تعالى- عنهم جميعاً.(14/20)
والواجب أن نحب الصحابة وأن نتولاهم وأن نترضى عليهم وألا نذكرهم إلا بخير فمن وقع في الصحابة كان مبتدعاً وأشر أهل البدع الرافضة من الشيعة- عليهم من الله تعالى ما يستحقون- فما رأينا قوماً أشر أو أشد شراً من هؤلاء الناس، فاليهود إذا سألت اليهود فقلت لهم: من أفضل الناس في ملتكم؟ قال: خير الناس في ملتنا أصحاب موسى، إذا سألت النصارى من هم خير الناس في ملتكم؟ قالت النصارى: خير الناس في ملتنا أصحاب عيسى، فإذا سألت الشيعة الرافضة الخبثاء المنافقين: من أشر الناس في ملتكم؟ قالوا: أشر الناس في ملة الإسلام هم صحابة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- سبحان الله، كان الإمام مالك -عليه رحمة الله- إذا ذكر قوله- سبحانه-: ?مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? الآية. [الفتح: 29] قال: من احتمل غلاً أو ذكر أحداً من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوء فإن هذه الآية له منها نصيب، وذكر شبيه من ذلك عن البخاري وعن الرازي وعن الإمام أحمد -رضي الله تعالى عنهم جميعاً-.
فالواجب كما قال ابن أبي زيد القيرواني: (ألا يذكر أحد من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بخير وأن نمسك عما شَجَرَ بينهم وأن نَتلمَّس لهم الخير جميع)، نسأل الله -تعالى- أن يجزيهم عنا خير الجزاء، وأن نكون بالنسبة لهم خير خَلَفٍ لخيرِ سَلَف، والحمد لله أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على سؤال الحلقة الماضية:
وكان السؤال: تكلم عن الإيمان من حيث معناه زيادته ونقصانه ودخول العمل فيه.
كانت الإجابة:
الإيمان من حيث معناه زيادته ونقصانه ودخول العمل فيه على قولين:
القول الأول: قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو قول من لم يجعل الأعمال من ضمن الإيمان إذ قالوا: إن التصديق القلبي إذا بلغ حد الجزم والإذعان لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، واستدلوا على ذلك:(14/21)
أولاً: أن الله -تبارك وتعالى- قد أطلق الإيمان على من عمل المعاصي في كثير من الآيات وهذا دليل على أن الأعمال لا أثر لها في الإيمان.
ثانيًا: أن الله -تعالى- عطف العمل على الإيمان والعطف دليل المغايرة كقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? [البروج: 11] وعلى هذا فإن الأعمال الصالحة لا تدخل في الإيمان فلا تؤثر عليه زيادة ولا نقصاناً.
ثالثًا: جَعْلُ الإيمان شرطاً لقبول العمل في قوله- تعالى-: ?فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ? [الأنبياء: 94] دليل على أن العمل غير الإيمان إذ المشروط لا يدخل في الشرط.(14/22)
أما القول الثاني: أن الإيمان يزيد وينقص وهو قول من اعتبر الأعمال ركناً للإيمان الكامل وهو القول الصحيح فقد استدلوا من الكتاب والسنة الشريفة المطهرة ومن أقول الصحابة -رضوان الله عليهم- فمن الكتاب قوله- تعالى-: ?فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ? [التوبة: 124] وقوله- تعالى-: ?وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانً? [الأنفال: 2] وقوله- تعالى- حاكياً قول سيدنا إبراهيم -على نبينا محمد وعليه أفضل الصلاة والتسليم-: ?وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? [البقرة: 260] وأخبر الله -تبارك وتعالى- عن أصحاب أهل الكهف قوله- تعالى-: ?نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ?13?? [الكهف: 13] ومن السنة المطهرة قال رسول الله- صلوات ربي وسلامه عليه-: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) واستدلوا أيضاً بأن هناك فرق بين إيمان النبي- صلوات ربي وسلامه عليه- وإيمان آحاد الأمة لقوله- صلوات ربي وسلامه عليه-: (لو وزن إيمان أبي بكر -رضي الله عنه- مع إيمان الخلائق لرجح إيمان أبي بكر) أما أقول الصحابة -رضوان الله عنهم جميعاً- فقد أخرج ابن ماجه ورجاله ثقات: (كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فلما تعلمنا القرآن ازددنا به إيمان).
نستدل من هذه الأدلة على أن الإيمان يدل على عدة أمور:
أولاً: الإيمان يزيد وينقص.
ثانيًا: دخول العمل في مسمى الإيمان.
ثالثًا: دليل على أن الإيمان يتشعب ويتجزأ ويتبعض، فليس الإيمان هيئة واحدة لا يتبعض ولا يتجزأ ولكن قد يصيبنا الكثير منه وينقص منه القليل.(14/23)
إذن: الإيمان يزيد وينقص بحسب ثمرة الإيمان وكما قال سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
جزاكم الله خيراً، لكن هناك عدة ملاحظات نبتدئ من النهاية حتى لا تخونني الذاكرة بأن الإيمان يتفاوت بحسب ثمرة الإيمان.
الإيمان يزيد وينقص بحسب ثمرة الإيمان.
نعم يتفاوت، يعني العبارة يتفاوت أو يتفاضل أو يزيد وينقص هذه كلها بمعنى واحد، كون الإيمان يتفاضل أو يتفاوت أو يزيد وينقص بحسب ثمرة الإيمان هذا كلام فيه نظر: الإيمان في ذاته يزيد وينقص، ليس بحسب ثمراته؛ لأنه لو قلنا بأن الإيمان بحسب ثمراته يزيد وينقص، إذن: نحن لا نقول بأن الإيمان في ذاته يزيد وينقص، لكن نحن نقول: الإيمان في ذاته يزيد وينقص كما أن الإيمان من حيث كليته ومن حيث آثاره أيضاً يزيد وينقص هذه واحدة.
الأمر الثاني: عندما تكلمنا أو عندما تكلم الإخوة- جزاهم الله خيراً- فذكروا بأن العمل ركن من أركان الإيمان، هذه مسألة فيها كلام وفيها أشياء ولكن أنا أسلك كلامهم على أن المقصود بالعمل هنا هو العمل مطلقاً الذي يدخل فيه عمل الباطن، يعني العمل الباطن من حب الله -عز وجل- والخوف منه والتوكل عليه إلى غير ذلك من أعمال الباطن نعم هي بالفعل ركن من أركان الإيمان، تفضل يا أخي جزاكم الله خيراً.
هناك سؤال من الأخ الكريم من السعودية يقول: رجحتم فضيلة الشيخ الحبيب أن النبي هو المبعوث إلى الموافق وأشكل علي ذلك مع الحديث الصحيح: (سيأتي النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد) وهنا الشاهد فما قولكم؟(14/24)
نعم. ليس هناك بأس، أن النبي عندما يبعث فإنه يبعث للموافق ويمكن أن يبعث هذا النبي أيضاً لجملة المطيعين الذين ربما يفعلون بعض المعاصي، وعندما يذكر النبي هنا فإن علاقة النبي إذا أطلقت قد تكون كعلاقة الإسلام بالإيمان، فلو قلنا: نبي يحتمل أن يكون معناه أيضاً ماذا؟ رسول، لو قلنا: نبي ورسول إذن النبي له معنى والرسول له معنى، ولو قلنا: نبي فقط، فإن النبي معناها المنبئ المخبر، فلا ضَيْرَ أن نفهم من ذلك أن يكون النبي بمعنى الرسول، يعني: المقصود أن النبي في هذا الحديث بمعنى الرسول، نعم.
الأخ الكريم من مصر يقول: فضيلتكم أفاد في درس سابق بأن آدم حاج موسى بالقدر واستشكل علي في أن الاحتجاج بالقدر يكون في المصائب وقول ربنا -جل وعلا-: ?وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى? [طه: 121] ذلك على أنها خطيئة أي له دخل مباشر في فعلها فكيف يكون ذلك؟
جزاكم الله خيراً، ?وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى? [طه: 121]؛ لأنه خالف الأمر عندما أمره به -عز وجل- أن يدخل هو وزوجه الجنة، ولكن لا يقربا هذه الشجرة، فلما قرب الشجرة وأكلا منها كانت هذه معصية، المحاجة لم تكن في المعصية, ولكن قال موسى: (أنت آدم أخرجتنا من الجنة) إذن: لم يقل له: إنك عصيت الله -عز وجل-، ولم يقل له: بأنك خالفت أمر الله، لكن كانت المسألة (أنك أخرجتنا وذريتك من الجنة، فقال له آدم: أنت نبي الله موسى كتب لك التوراة بيده وكلمك ألم تجد أن ذلك في قدر الله -عز وجل-؟!! أن ذلك الخروج أو أن هذا الإخراج كان في قدر الله -عز وجل-؟ فحاج آدم موسى) فكلاهما كان يتحاجان في مسألة إخراج الذرية من الجنة ليس في مسألة المعصية إذن: المناظرة والمحاججة ليست في المعصية وإنما كانت في ماذا؟ في إخراج الذرية من الجنة، وكما هو معلوم بأن إخراج آدم من الجنة مما استوجبه واستتبعه إخراج الذرية من الجنة هذه مصيبة فكان الاحتجاج في المصائب لا في المعائب.(14/25)
الأخ الكريم من سوريا يقول: أرجوا بيان من هم الأشاعرة؟ وهل هم من أول الأسماء والصفات فهم يطعنون بعقيدة شيخ الإسلام ويدعون أنهم هم أهل السنة والجماعة ويبثون جراثيمهم في مواقع الإنترنت فقد كدت أن أميل إلى هؤلاء لولا رحمة الله بي فما الخلاف بيننا وبينهم؟
أسأل الله -تعالى- أن يثبتك، وأن يثبت جميع إخواني الذين يطالعون شبكات النت في هذه الأيام فهي ملئى بالغث وما أكثره، ينبغي أولاً أخي الحبيب قبل أن تعرف من هم الأشاعرة ينبغي أن تعرف من هم أهل السنة؟ وما هي صفاتهم؟ وما هو اعتقادهم؟ وما هي سماتهم؟ ومن هم شيوخهم؟ وما هي الكتب التي يرجعون إليها؟ ولا أقصد بالكتب الكتب الحديثة التي تسود بها الصحف هذه الأيام، زيداً وعمراً يشب فيقرأ كلمتين ثم يأتي إلى الكمبيوتر فيأمر الكمبيوتر فيأمر الكمبيوتر أن يجمع مادة تتكلم عن الجنة وخلال أسبوع يؤلف كتاب عن الجنة، أبداً كان المصنفون القدامى يؤلفون كتبهم في عشرات السنين، لا يخرجون الكتاب إلا بعد أن ينظروا فيه ويحققوه ويجازوا فيه من قبل مشايخهم، وكان أحدهم لا يكتب ولا يصنف إلا بعد أن يتضلع في العلم، وأن يشهد له أساتذته بالعلم والتفوق، أما ناشئة هذه الأيام فقد تزببوا قبل أن يتحصرموا أي صاروا زبيباً قبل أن ينضجوا، ولم يأخذوا من العلم جمله ولم يقفوا من العلم على مقتصراته النافعة الطيبة، فلم يأخذوا شيئًا ولكن أقصد بالكتب النافعة كتب المتقدمين الصالحة، فمنهج أهل السنة والجماعة منهج السلف الصالح يقوم على ركائز:
الركيزة الأولى: ركيزة الاعتقاد.
والركيزة الثانية: هي ركيزة الفهم.
والركيزة الثالثة: هي ركيزة السلوك.(14/26)
فلابد أن تتعلم منهج السلف في الاعتقاد ومنهج السلف في الفهم ومنهج السلف في السلوك، ثم بعد أن تتعلم ذلك جميعاً يمكن لك أن تعاير بما تعلمت مناهج المبتدعة لأنك إذا قلت لك الآن: منهج الأشاعرة وما يفارقون به أهل السنة سيأتيني سؤالاً من ثانٍ ويحدثني عن الخوارج وثالث يحدثني عن المعتزلة ورابع يحدثني عن المتكلمين، فيضيع الجواب بين هؤلاء جميعاً، فاعرف الحق تعرف أهله أخي الحبيب.
الأخ الكريم من السعودية يقول: هل يجوز تسمية ملك الموت بعزرائيل كما نسمع من بعض الناس؟ وهل له اسم آخر؟
لا.. هو ملك الموت، وعندنا حديث موسى عندما أتى ملك الموت إليه وفقؤ موسى -عليه السلام- عين ملك الموت، فليس اسمه عزرائيل.
الأخ الكريم من السعودية تقول: هل "هاروت وماروت" من الملائكة وكيف أصبح معلمين للسحر، هل هناك قصة صحيحة حولهما؟ وجزاكم الله خير
الحقيقة أن كل الآثار الواردة في تفسير هاروت وماروت لا يصح منها شيء، وقد جمع الإمام الطبري في كتابه الماتع: "التفسير" كل الآثار والأخبار المروية في قصة "هاروت وماروت" وكلها لا تسلم، كلها لا يصح منها شيء، ولعل ما تميل إليه نفسي أن "هاروت وماروت" من جنس الشياطين- والله تعالى أعلى وأعلم-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
جزاكم الله خيراً. هناك سؤالان:
السؤال الأول: من هو الصحابي؟ وهل الصحابة درجة واحدة في الفضل أم متفاوتون؟
السؤال الثاني: ما حق المسلم تجاه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم جميعاً-؟
أسأل الله -تعالى- أن يتقبل مني ومنكم وأن يجعل هذه الدقائق كفارة لذنوبنا- وما أكثرها- وثقلاُ في ميزان حسناتنا- وما أقله-.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله(14/27)
الدرس الخامس عشر
طاعة أولي الأمر/ اتباع السلف الصالح/ النهي عن المراء والجدل
النهي عن الابتداع في الدين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه ومن اتبع هداه, ثم أما بعد.
فهذه هي الحلقة الأخيرة ندعو الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وأن يعيننا وأن يلهمنا الخير والرشاد، وهذه الحلقة لعلها تتناول أفكاراً محددة:
الفكرة الأولى: مشروعية طاعة أولي الأمر.
الفكرة الثانية: اتباع السلف الصالح.
الفكرة الثالثة: النهي عن المراء والجدال والابتداع في الدين.
فهيا بنا نسمع ما قاله الإمام ابن أبي زيد -عليه رحمة الله-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم، واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم، وترك المراء والجدال في الدين وترك ما أحدثه المحدثون وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم تسليمًا كثيرً).
طاعة أولي الأمر:(15/1)
بسم الله الرحمن الرحيم, قال المصنف: (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم) أصل هذا قول الله- تعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ? [النساء: 59] وهذه الآية تكلم فيها العلماء كلاماً واضحاً, فذكر بعض أهل العلم كالإمام الشافعي أن هذه الآية فيها دليل على أن طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكون استقلالاً كطاعة الله -عز وجل- استقلالاً، أما طاعة أولي الأمر فإنها طاعة بالتبعية ليست طاعة مستقلة، فلو أمروا بمعروف كان من المعروف طاعتهم، ولو أمروا بمعصية كان من المعروف مخالفتهم، ثم تنازع أهل العلم في المقصود بـ ?أُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ? وهذا التركيب ?مِنْكُمْ? يوحي بأن أولي الأمر من المسلمين، فهذه الآية تتعلق بالمسلمين أما غير المسلمين فلا نتكلم عنهم، وأما الذين ارتدوا عن الإسلام فلا نتكلم عنهم، فهذه الآية متعلقة بالمسلمين، فمنهم من قال: بأن المقصود ب?أُولِي الأمْرِ? هم: العلماء من أهل الدين والقرآن، وهذا قول مجاهد وقول مالك -عليهما رحمة الله- وقول غير واحد من أهل العلم.(15/2)
والقول الثاني: هم الأمراء لاسيما أمراء السرايا والبعوث الذين كان يرسلهم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ويدل على الأول- أنهم هم العلماء علماء الدين- يدل على ذلك قول الله -عز وجل-: ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ?43? بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ?44?? [النحل: 43، 44] فالعالم يسأل عن الحكم في المسألة فإذا أخبر بالحكم مدعماً بالدليل كان قبول ما قال من شرع الله -عز وجل-، ومما يُدعِّمُ القول الثاني أن المقصود ب?وَأُولِي الأمْرِ? هم الأمراء، قول النبي -عليه الصلاة والسلام- في البخاري ومسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وفي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإن أُمِرَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
وفي مسلم عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: (أوصاني خليلي) يقصد النبي -عليه الصلاة والسلام- (أن أسمع وأطيع) أي: للأمير (وإن كان عبداً مُجدَّعَ الأطرافِ)، أي مقطع اليدين والرجلين.
وقيل: هم العلماء والأمراء معاً، أي هذا قول ثالث يشمل الصنفين معاً، وهذا اختيار القرطبي وابن كثير -عليهما رحمة الله-، وهناك قول جيد ذكره بعض المتأخيرن كالشوكاني في "فتح القدير" أنه قال: «المقصود ب?أُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ? من ولي ولاية شرعية لا طاغوتية»، فبهذا المفهوم اتسعت معاني الولاية لتشمل الأب في بيته ومدير المدرسة في مدرسته وعميد الكلية في كليته، ورئيس الحي في حيه، فكل من ولي ولاية شرعية صارت طاعته طاعة لله إن كان آمراً بالمعروف.(15/3)
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في المسائل النجدية:« وأهل العلم متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف» أي: لو أن رجلاً تغلب على طائفة من الناس وَنَصَّب من نفسه أميراً أو ملكاً فيجب عليهم أن يطيعوه في المعروف، « يرون نفوذ أحكامه وصحة إمامته لا يختلف في ذلك اثنان ويرون» أي يرى أهل السنة «المنع من الخروج عليهم بالسيف» أي: لا يجوز أن يُخرج على حكام المسلمين الذين ثبت إسلامهم بالسيف،« وإن كان الأئمة فساقاً ما لم يروا كفراً بواحاً».
وأثر عن عمر -رضي الله تعالى عنه- كما أخرجه الدارمي وعن أبي الدرداء في معنى ما قاله عمر كما في "تهذيب تاريخ دمشق": (لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة)، إذن: هذا كله يناسب قول المصنف -عليه رحمة الله- (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم).(15/4)
وظيفة ولي الأمر كما قال الحسن البصري ونقله عنه ابن الجوزي في كتابه: "آداب الحسن البصري" وظيفة أولي الأمر كما قال: «هم يلون من أمورنا خمساً»، ولاة الأمر يقومون بخمس من الجمل، «الجمعة والجماعة والعيد والثغور»، المقصود بالثغور: أي الجهاد في سبيل الله، «وحماية ثغور المسلمين» والثغور: هي المداخل التي قد يدخل منها الأعداء فالقاهرة مثلاً ليست ثغراً، بينما دمياط والإسكندرية من ثغور الإسلام؛ لأن الأعداء قد يدخلون بلادنا عن طريق هذه المدن، فولاة الأمور يحفظون على المسلمين ثغورهم برصد الجيوش، وتأمين الحدود، والجهاد والدفع في سبيل الله، أيضاً مما يفعلون «إقامة الحدود»، وقال الحسن: «واللهِ لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا» « لا يستقيم الدين» يقصد أي لا يكون الدين منتشراً قوياً مهاباً« إلا بهم بهؤلاء الأئمة وإن جاروا وظلموا» «والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون»، نعم قد يكون شارباً الخمر قد يكون زانياً، قد يكون باغياً، قد يكون قاتلاً، ولكن على يديه يتم الجهاد، على يديه تكون الجماعات على يديه تحمى الديار والبلاد، على يديه تصان الأعراض والأموال، على يديه ترفع الشريعة وتقام الحدود، فهذه كلها من جملة المصالح التي أفضل من جملة المساوئ التي يتلبس بها.
وقول المصنف ابن أبي زيد -عليه رحمة الله-: (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم) كأن الشيخ يميل إلى أن المقصود بولاة الأمور هم الأمراء، لماذا؟ كيف عرفنا ذلك؟ أنه قال: (وعلمائهم)، فعطف على ولاة الأمور العلماءَ، والعطف- كما يقول الأصوليون- يقتضي المغايرة، العطف يقتضي المغايرة، فما قبل الواو لا يكون من جنس ما بعد الواو، فلابد من طاعة هذين الصنفين: العلماء والأمراء.(15/5)
ولابد أن نذكر منهج السلف مع الأمراء حتى وإن ظلموا، منهج السلف مع الأمراء وأقصد بذلك الأمراء المسلمين الذين يثبت لهم عقد الإسلام وإن ظلموا وإن جاروا هذا منهج رصين لابد للناس أن يفقهوه وأن يتأملوه:
الأمر الأول: التحذير من الخروج عليهم، المنهج: التحذير من الخروج عليهم، أخرج الإمام أحمد في مسنده: «أن أهل المدينة في سنة ثلاث وستين لما أرادوا الخروج على يزيد بن معاوية، بسبب شربه الخمر وودعه بعض الصلوات أرادوا الخروج عليه، فكلموا في ذلك عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه- فأبى عبد الله بن عمر أن يشاركهم في خلع يزيد بن معاوية مع فسقه ومع فجوره، بل قال: جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد) قال: أشهد أن لا إله إلا الله, قال الخطبة أو مقدمة الخطبة ثم قال: (أما بعد، فإننا بايعنا هذا الرجل) يقصد بهذا الرجل هو من؟ الذي هو يزيد بن معاوية، (على بيع الله ورسوله) بايعناه على السمع والطاعة في طاعة الله ورسوله ( وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال: هذا غدرة فلان) هذا في المسند.
وعند البخاري أن عبد الله بن عمر قال: «وإني لا أعلم أحداً يقول لأهله وأولاده وأتباعه وخدمه، وإني لا أعلم أحد منكم خلعه» أي خلع أمير المسلمين يزيد بن معاوية «ولا تابع في هذا الأمر» أي شجع على خلعه أو مشى في خلعه، «إلا كانت الفيصل بيني وبينه».
وأيضاً ممن لم يشارك في فتنة خلع الأمير يزيد بن معاوية محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بمحمد بن الحنفية -رضي الله تعالى عنه- وقصته في ذلك طويلة ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية, المجلد الثالث عشر فليراجعه من شاء.(15/6)
وعندما نطوي أكثر من مائة سنة تقريباً لنصل إلى عهد الإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله- وبالتحديد في عهد الخليفة الواثق بالله العباسي الذي نشر مقولة خلق القرآن وكان البلاء في عهده أشد مما كان في عهد المأمون والمعتصم، فأراد فقهاء بغداد أن يخلعوا الخليفة الواثق بالله، وعند ذلك نهاهم الإمام أحمد مع أن القول بخلق القرآن كفر، أجمع أئمة أهل السنة على أن من قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك نهاهم عن خلع هذا الإمام وقال لهم: وهذا الكلام ثابت قال لهم: «عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم وانظروا في عاقبة أمركم» لابد أن الإنسان يتربص وينظر إلى مآلات الأمور وهذا هو الاتزان، «وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر ويستراح من فاجر».
وقال الإمام أحمد وهذا الأثر أيضاً نقله الخلال في كتابه العظيم: "السنة" قال: «ليس هذا » أي: الخروج على الحكم ومخالفة الحكام وخلع طاعة الحكام قال: «هذا خلاف الآثار» فالحاكم إذا ثبت إسلامه بيقين وإن ظلم وإن بغى تجب طاعته ولا يجوز أن يخرج عليه بل يجب أن نستبدل الخروج على الحكام ومخالفة الحكام المسلمين بطاعتهم وتوقيرهم، وليس هذا فحسب بل لابد من توقير العلماء مع الأمراء، إذن: صنفان لابد أن نربي الناس على توقيرهم وعلى احترامهم:
الصنف الأول: الأمراء المسلمون.
والصنف الثاني: العلماء الربانيون. اتباع السلف الصالح:
هذان الصنفان مهمان جداً، في بعض البلاد عندما تجرأ بعض الشباب على العلماء الكبار وغمزوهم وهمزوهم ما الذي حدث؟ انفرط الأمر في هذه الديار مع أن هذه الديار كان الأمر معقوداً عليها بالبر والخير لَمَّا كان الناس مجتمعين على علمائهم، فلابد للناس أن تجتمع على الأمراء المسلمين وأن تجتمع على العلماء الربانيين، فهذه مسألة مهمة جداً.(15/7)
لو ضاع توقير العلماء والأمراء من نفوس الناس ضاع الشرع والأمن، من الذي سيقود الناس في القتال والحروب ويقيم الحدود ويحمي بيضة الإسلام والمسلمين وما إلى ذلك؟ الأمراء، من الذي يوجه الأمراء ويربط على قلوب العباد؟ ويربي الناس على الدين؟ إنما هم العلماء، فإذا تضعضعت مكانة الأمراء المسلمين والعلماء الربانيين في قلوب الأمة فإن الأمة يضيع منها الأمن كما يضيع منها الدين- والعياذ بالله-.
نقل القرطبي في تفسيره عن سهل بن عبد الله التستري -رحمه الله تعالى- أنه قال: «لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين» أي: السلطان والعلماء «أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين» أي بالأمراء والعلماء «أفسدوا دنياهم وأخراهم».(15/8)
إذن: أول واجب من الواجبات: أن نطيعهم وألا نخرج عليهم ما كان عقد الإسلام قائماً، الأمر الثاني: وهو مهم جداً جداً جداً؛ لأن بعض الناس يبيح لنفسه الدعاء على الحكام وسب الحكام، الأمر الثاني: الدعاء لهم، الدعاء للحكام والنهي عن سبهم- ما شاء الله- مسألة مهمة جداً، بعض الناس يفرح عندما يقوم خطيباً ليسب ويتهكم و.. و.. إلى ذلك، هذه مسألة لابد أن نقف عندها؛ لأن سب الأمراء هذه نواة الفتنة، نواة الفتنة سب الأمراء, عندما نقرأ في كتب التاريخ نجد أن أول فتنة عظيمة ظهرت كانت مقتل عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- لما قتل عمر كان أمر المسلمين مجتمعاً فالفتنة الصلعاء التي كانت بداية الشر العظيم لهذه الأمة مقتل أمير المؤمنين عثمان، كيف قتل عثمان -رضي الله تعالى عنه-؟ في بداية الأمر هناك رجل يهودي استظهر أو تستر بالإسلام ويسمى بعبد الله بن سبأ، وهذا الرجل هناك كلام كثير حول شخصيته هذا الرجل ما الذي صنع؟ هو من يهود اليمن وأظهر الإسلام تنقل في بلاد المسلمين في الشام وفي مصر وفي الحجاز والعراق يدعو الناس إلى التألب ويدعوهم إلى الخروج على عثمان بن عفان وأخذ يتهم عثمان بن عفان بالخفة والطيش وعدم السداد وإضاعة الأموال وتقريب الأقارب ونحواً من ذلك حتى ألب قلوب الناس على من؟ على عثمان بن عفان ماذا كانت النتيجة؟ قام الناس وحاصروا دار عثمان -رضي الله تعالى عنه- وقتل عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه-، إذن: سب الأمراء المسلمين هذه بداية الفتنة، بداية الفتنة، بل هذا أصل الفساد، فإذا علمنا بأن الوسائل لها أحكام وأن من المقاصد الشرعية العظيمة الحفاظ على المصالح العامة المتمثلة في استتباب الخير والأمن والسلم في مجتمع المسلمين لعلمنا أن النهي عن سب الأمراء المسلمين سار ملمحاً شرعياً يميز أهل السنة عن غيرهم، وهذا الأصل الذي هو منع اللسان عن سب الحكام هذا أصل أصيل دل عليه الإسلام وأرشد إليه النبي -عليه الصلاة(15/9)
والسلام- من ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) إذا كان الحاكم في بلدة والساب في بلدة أخرى يا ترى هل سيصل هذ السباب لهذ الحاكم؟ هل سيستفيد الحاكم من هذا السباب شيئا؟ لن يستفيد منه شيئاً. إذن: هذه كارثة عظمى لابد أن ننتبه إليها.
وفي البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- (أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال بأبي هو وأمي -عليه الصلاة والسلام- من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وعند البيهقي في الجامع لشعب الإيمان من طريق التابعي الجليل قيس بن وهب -رضي الله تعالى عنه- قال: (أمرنا أكابرنا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا نسب أمراءن)، هذا نص خطير مهم جداً (أمرنا أكابرنا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا نسب أمراءن).
وهذا التعظيم ليس لشخص الأمير وإنما هو تعظيم لمسؤولية الأمير, انتبه أنت تنام في بيتك ولكن هذا الأمير يسهر على راحتك وهذا الأمير يحمل هَمَّ الأمة, يحمل هم الفقير وهم المريض, هَمَّ الطريق المعوج الذي يريد أن يجعله مستقيماً, يحمل هَمَّ المنكوبين وهَمَّ المأسورين وهَمَّ الفقراء وهمَّ المحاويج, يحمل همَّ الإسلام هذا الأمير نعظمه لما يحمل من هَمَّ, نعظمه لما يحمل من مسؤوليات.
أخرج ابن عبد البر في التمهيد عن أبي إسحاق السبيعي -رضي الله تعالى عنه- قال:« ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره» وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" أن ابن المبارك قال: «من استخف بالعلماء»، أرجو أن تحفظوها, القول جميل جداً «من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ومن استخف بالإخوان» أي: الأصحاب والخلان لا أقصد بالإخوان اتجاهاً معيناً «ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته» ولذلك كان منهج أهل السنة: الدعاء للحكام.(15/10)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمه الله-:« كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان» وذكر الطحاوي في عقيدته التي تلقاها العلماء بالقبول قال في عقيدته: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا) أي: وإن ظلموا« ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل- فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة».
بدل أن نقول: اللهم انتقم منه,م اللهم شتت شملهم, اللهم خرب ديارهم, اللهم هدم حصونهم. نقول: اللهم اهدهم, اللهم أصلحهم, اللهم اهد قلوبهم, اللهم ارفق بهم, اللهم اجعلهم رفقاء على رعيتهم. فهذا كله من جملة ما ندعو به لأمراء المسلمين. إذن: هذا هو الأصل الثاني من منهج أهل السنة في التعامل مع الحكام.
المنهج أو النقطة الثالثة من هذا المنهج الرشيد: نصيحتهم والتماس العذر لهم لا نلتمس الأخطاء لهم وإنما نتلمس المعاذير لهم مع النصحية لهم وأصل هذا الأمر قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (الدين النصحية قالها ثلاثاً قلنا: لمن يارسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: (ثلاث خصال لا يغل عليهم قلب امرئ مسلم) لا يغل عليهن أي يكن طهارة لقبله من الغل فلا يجتمع القلب على الغل إذا حقق هذه الخصال الثلاثة (إخلاص العمل لله -عز وجل- ومناصحة أولى الأمر، ولزوم الجماعة) والمقصود بالجماعة: الدين أن تلزم الدين فلا تبتدع.(15/11)
وأيضاً في الحديث الصحيح أن عبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه- (بايع النبي -عليه الصلاة والسلام- على السمع والطاعة، وألا ينازع الأمر أهله ثم قال: والنصح لكل مسلم) إذن: النصح لابد أن يكون لكل مسلم، والحاكم إذا ثبت إسلامه بيقين يجب أن تنصحه، فنحن ننصحهم ونتلمس العذر فيما يقومون به ما استطعنا إلى ذلك من سبيل ما لم يكن ما يفعلونه خطأً واضحاً لا مرية فيه ولا شك.
وهذه النصيحة لابد أن تكون في صورتين:
الصورة الأولى: الرفق.
والصورة الثانية: السر أو الإسرار.
إذن: لابد أن تكون النصيحة سراً إما في كتاب يدفع إليهم وإما أن يختلى بهم وإما أن تبلغ النصيحة لمن يبلغهم هذه النصيحة هذه كلها سبل وأن تكون النصيحة بالرفق دون تغليظ ودون تعنيف.
لما وقعت الفتنة في زمن عثمان -رضي الله تعالى عنه- قال بعض الناس لأسامة بن زيد -رضي الله تعالى عنهما-: ألا تنكر على عثمان؟ قال: أأنكر عليه عند الناس؟ لكن أنكر عليه بيني وبينه ولا أفتح باب شر على الناس. قال الشوكاني في "السيل الجرار" في المجلد الرابع: «ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصحية».(15/12)
ومما يدل على هذ الأصل ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى قوماً أو أعطى رهطاً ولم يعط رجلاً منهم وهو أعجبهم إليه) يعني: هذا الرجل الذي لم يعطه النبي -عليه الصلاة والسلام- كان من أعجب الناس إليه -رضي الله تعالى عنه- قال: ( فقمت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساررته) أي: حدثه سراً ( فقلت: يا رسول الله أعطيت فلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن, فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- أو مسلم؟ ثم سكت وسكت ثم قلت: يا رسول الله أعطيت فلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن, فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: أو مسلم؟! ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إني لأعطي المرء وغيره أعجب إلي منه خشية أن يكب على وجهه في النار).
قال الإمام النووي في تعليقه على هذا الحديث: فيه التأدب مع الكبار وأنهم يسارون بما كان من باب التذكير لهم والتنبيه ونحوه ولا يجاهرون، تصوَّر لو أن والدك أخطأ خطأ هل تنصح والدك بينك وبينه أم تنصحه على ملأ من الناس وتشدد وتفجج العبارة على ملأ من الناس إذا كنت بالفعل تريد الخير فحاول أن تكون النصيحة بالطريقة الفضلى لعل الله تعالى أن ينفع بنصيحتك، إذن هذه النقطة الأولى في قول بن أبي زيد القيرواني (والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم).(15/13)
النقطة الثانية وهي الفقرة الثانية: قال أبي زيد (واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم) أثنى الله- تعالى- على المهاجرين والأنصار وذلك في سورة الحشر الذين هاجروا وتركوا أموالهم وديارهم في سبيل الله والأنصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان وكانوا قدوة عالية في البذل والإيثار -رضي الله تعالى عن المهاجرين والأنصار- قال الله –تعالى- بعد ذلك: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ? [الحشر: 10].
وفي صحيح مسلم أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت فيمن سب بعض بعضاً من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فسبوهم) إذن: نحن مأمورون أن نترضى وأن نذكر أصحاب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بكل خير ففي عنق كل واحد من المسلمين شيء عظيم لابد أن يبذله لهؤلاء النفر من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فسبوهم) كأنها تنكر على من سب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(15/14)
روى الدارمي عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: (تعلموا العلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله) أي أن يموت أهله فلا تجدونه (ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق) الإنسان لا ينبغي أن ينقر فيما ليس وراءه طائل لا ينبغي للإنسان أن يبحث في المسائل النظرية التي لا يترتب عليها علم ولا عمل ولا اعتقاد ولا شيء من ذلك بل عليه أن يبحث عما يصلح له وأن يجمع قبله على الذي يستفيده لكن أن يضيع وقته في ذلك فهذا لا يجوز وإذا أراد أن يأخذ فعليه بالعتيق. والعتيق: ما كان عليه السلف -رضي الله تعالى عنهم جميعاً- روى بن عبد البر في كتابه القيم جداً جامع بيان العلم وفضله أن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً قوماً اخترهم الله- تعالى- لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم) إذن: اتباع السلف الصالح -رضي الله تعالى عنهم جميعاً-.
النهي عن المراء والجدال:
قال الإمام بن أبي زيد- عليه رحمة الله-: (وترك المراء والجدال في الدين وترك ما أحدثه المحدثون) أي: المبتدعون. المراء: المخالفة والتأبي عند الحوار عندما يتحاور اثنان أو يتناقض اثنان كل منهما يخالف الآخر يتأبى عليه لا يريد أن يلين له أو ينزل على كلامه وقد يصاحب المراء الشك قال الله- تبارك وتعالى-: ?أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ? [الشورى: 18] وقال- تعالى-: ?فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ? [البقرة: 147] الجدال هي شدة المخاصمة في الكلام والمجادل غالباً لا يكون معه دليل والمجادل يقصد من جداله إفحام المتحدث أو الغلبة عليه هذا هو الجدال الذي نهى الله- تبارك وتعالى- عنه.(15/15)
نعم الجدال صار بعد ذلك علماً له قواعد وله أسس وله ضوابط تضبط مسائل النقاش والاستدلال ولكن الجدال بهذا المفهوم الذي يقصد به الغلبة بغير وجه الحق ذمه الله- تعالى- كما ذمه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله- تعالى-: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ?3?? [الحج: 3] وقال: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ?8?? [الحج: 8] وفي الترمذي وهو حديث صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا قول الله- تعالى-: ?مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ?[الزخرف: 58]) ونرى تطبيقياً أن النبي -عليه الصلاة والسلام- (خرج يوماً على رجلين يختلفان في آية ويتنازعان في آية فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرف في وجهه الغضب فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب).
وعند ابن ماجة وهو حديث صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تعلَّموا العلم) أي (لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار) أي من طلب العلم كي يماري غيره ويجادل غيره ويدفع غيره ليبطله ويقطعه فهذا يبشر بالنار- والعياذ بالله- وعند ابن عبد البر في كتابه القيم جامع بيان العلم وفضله أن عمر بن عبد العزيز قال: «من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل وحظه من العلم قليل وهو مجادل عنيف» مجادل عنيد أكثر التنقل تارة يكون هنا ثم بعد ذلك هناك وهناك وهنا أكثر التنقل- والعياذ بالله-.
وفي كتاب جامع العلم وفضله عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى-« المراء يقسي القلب ويورث الضغن» الضغن: الغل والكره والحقد- والعياذ بالله-.(15/16)
أما إذا كان الجدال من أجل إظهار الحق فلا بأس قال الله- تبارك وتعالى-: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل: 125]
وكذلك بالنسبة للابتداع نهى الله- تبارك وتعالى- عن الابتداع ونهى النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الابتداع في الدين قال الله- تبارك وتعالى-: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ? [الأنعام: 153] وقال الله- تبارك وتعالى-: ?اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ? [الأعراف: 3] وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- والحديث مخرج في البخاري وفي مسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) و(رد) على وزن فعل بمعنى مفعول أي: مردود وفي مسلم من حديث جابر المشهور أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقول في المناسبات العامة (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله- تبارك وتعالى- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) وفي غير مسلم (وكل ضلالة في النار) والبدعة خطرها عظيم وهي دلالة على الجهل والبدعة تتأثل وتتأصل في مجتمعات الجهل قال النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذا الحديث أخرجه الطبراني بإسناد حسن: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يتوب) أي حتى يدع بدعته- والعياذ بالله- وقال الإمام مالك:«من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة» لأن الله- عز وجل- قال: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ? [المائدة: 3] فمن لم يكن يومئذ ديناً فمتى يكون اليوم ديناً؟!!.(15/17)
وقال أبو عثمان النيسابوري:« من أمَّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة» ونختم بهذه الأبيات الجميلة التي قالها أبو عبد الله عبد الله بن أبي داود السجستاني:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى *** ولا تك بدعياً لعلك تفلح
ودِنْ بكتاب الله والسنن التي *** أتت عن رسول الله تنجو وتربح
وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم تسليماً كثراً والحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.(15/18)