|
المؤلف : الشيخ عبدالعزيز الراجحي
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
شرح كتاب كشف الشبهات في التوحيد
التوحيد إفراد الله بالعبادة
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - رحمك الله - أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة،...........
افتتح الإمام الشيخ - رحمه الله - هذه الرسالة بقوله: " اعلم - رحمك الله - أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة " هذا من نصح هذا الإمام - رحمه الله - حيث دعا لطالب العلم في أول الرسالة قال: " اعلم رحمك الله " فقوله: رحمك الله، خبر، والمعنى: اعلم يا طالب العلم ! الله يرحمك، فهو يدعو لك ويعلمك، وهكذا شأن المؤمن والعالم بالخصوص ناصح لإِخوانه المسلمين في الحياة وبعد الممات.
ومن ذلك ما ورد في قصة صاحب ياسين الذي قتله قومه، ثم قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ قتلوه ما يعلمون حاله !. فقال: يا ليتهم يعلمون أني على الحق حتى يستقيموا.
قال -تعالى- عنه: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ يأمرهم باتباع المرسلين فبلغ الله عنه وهذا مثل القراء الذين أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض الغزوات إلى قوم ليعلموهم فقتلوهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ إخوانكم لما قُتِلُوا قالوا: يا ربنا لو بلغت عنا يا ليت قومنا يعلمون بما حصل لنا، اللهم أخبر عنا نبيك" فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله في ذلك القرآن بلغوا عنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. فالمقصود أن الشيخ -رحمه الله- يدعو لطالب العلم بالرحمة، ويعلمه فيقول: " اعلم - رحمك الله - أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة "، يعني: أن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، هو إفراد الله بالعبادة. إفراد الله، أي: تخصيص الله بالعبادة، والعبادة كما عرفها.
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ). تحديد مفهوم العبادة
اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال سواءً كانت باطنة كأعمال القلوب ومعتقداتها من التوَّكل، والصدق، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء، والمحبة.. أو الجوارح؛ من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وكذلك أقوال اللسان من الذكر وتلاوة القرآن والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... كل هذه شملها اسم العبادة، اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والله -سبحانه وتعالى- لا يرضى ولا يحب العمل إلا إذا كان موافقًا لشرعه، فكل قول وعمل يوافق شرع الله ويكون خالصًا له فالله يحبه سواء كان باطنًا أو ظاهرًا.
فالعبادة هي الأوامر والنواهي، فكل ما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجب العمل بما يستطاع منها، وكل ما نهى الله عنه أو نهى عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجب ++ إخلاصًا لله وابتغاء مرضاته.
هذه هي العبادة التي يجب أن تخص الله بها دونما سواه فيخص الله بالدعاء. فلا يدعو الله ويدعو معه غيره، فإذا دعا الإنسان ربه، ودعا غيره، صار مشركًا ويخصّ الله بالصلاة فلا يصلي لله ويصلي لغيره. ويخص الله بالصلاة، ويخص الله بالزكاة، يخص الله بالحج، ويخص الله بالذبح، ويخص الله بالنذر.
هذا هو التوحيد الذي خلق الله الخلق من أجله، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . توحيد الألوهية يستلزم توحيد الربوبية:
وإذا وحَّد العبد الله في عبادته، ففي ضمن ذلك توحيد في ربوبيته وأسمائه وصفاته؛ لأنَّ من عَبَدَ الله، ففي ذلك اعترافه بأنه هو الرب النافع الضار الذي يقدر على إيصال النفع إليه، وهذا هو معنى قول العلماء توحيد الألوهية متضمنٌ توحيد الربوبية، معنى متضمن: أي أنه داخل في ضمنه.
فلولا أن العبد يعتقد أن الله هو الرب، وأنه النافع، وأنه الضار، وأنه الذي يوصل إليه النفع ويدفع عنه الضر، لما عبده، فلما عبده دلَّ على اعترافه بربوبيته وأسمائه وصفاته بخلاف توحيد الربوبية فإنه يستلزم توحيد الألوهية، ومعنى يستلزم يعني: يستدعيه ويقتضيه ويوجبه.
فمن اعترف أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي، لزمه أن يعبد الله لكن ما كل أحد يلتزم بما لزمه، ولهذا فقد اعترف المشركون بتوحيد الربوبية، لكن ما التزموا بتوحيد العبادة.
وإن كان لازمًا لهم، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية، ومعه++ ويستلزمه، يعني: يدل عليه ويوجبه ويقتضيه مثل التوبة تستلزم التائب لكن التوبة غير التائب، ومثل الولادة تستلزم والد وولد، والوالد يستلزم ولد، لكن الولد غير الوالد وهكذا.
فالشيخ - رحمه الله - يقول: " اعلم أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة " يعني: التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب. هو إفراد وتخصيص الله بالعبادة. وهي العبادة التي جاء بها الشرع، بأن جاءت في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ومعنى تخصيص الله بالعبادة: تخصيص الله بالصلاة مثلًا، فلا يصلي لله ويصلي لغيره. تخصيص الله بالزكاة، تخصيص الله بالحج، تخصيص الله بتلاوة القرآن، تخصيص الله بالذكر، تخصيص الله بالتوكل والرغبة والرهبة، فجميع أنواع العبادة يخص الله بها وهي التي جاء بها الشرع.
(1/2)
التوحيد رسالة الرسل جميعًا
وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده.........
التوحيد هو " دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده " : الرسل كلهم جاءوا بالتوحيد، ودينهم الإسلام.
كل الرسل أولهم نوح وقبله آدم - عليه السلام - وآخرهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، دينهم الإسلام. قال الله -تعالى- عن نوح وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
وقال عن إبراهيم - عليه السلام -: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وقال عن يعقوب - عليه السلام -: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وقال عن أنبياء بني إسرائيل الذين يحكمون بالتوراة: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وقال عن بلقيس لما أسلمت: وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
فالإسلام دين الأنبياء جميعًا، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ .
فهو - عليه الصلاة والسلام - أول المسلمين من هذه الأمة، فالإسلام دين الرسل جميعًا بمعناه العام الدين لله. قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ وقال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ .
وقال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وقال تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ .
كل الرسل أُمِرُوا بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، كل الرسل نُهوا عن الشرك، كل الرسل أمروا أقوامهم بأن يصدقوا الرسل وبأن يعظموا الأوامر والنواهي.
فالإسلام دين الرسل جميعًا، وهو: توحيد الله والإخلاص له، والإيمان بكل رسول، وتعظيم الأوامر والنواهي في كل شريعة.
أما الشرائع، فإنها تختلف من شريعة لأخرى كما قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا . اختلاف الشرائع وأصل الدين واحد:
فالشرائع تختلف !. ففي شريعة التوراة مثلًا: يجب القصاص وهو قتل القاتل فقط وليس هناك دية ولا عفو، وفي شريعة الإنجيل شريعة عيسى - عليه السلام - يجب العفو. ولهذا جاء في الإنجيل: " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر "، أما في شريعتنا فهي أكمل الشرائع؛ إذ صار ولي القتيل مخيَّرٌ بين القصاص وبين العفو إلى الدية، وبين العفو مجانًا، فالشرائع تختلف: ففي شريعة يعقوب - عليه السلام - مثلا - جواز الجمع بين الأختين، وفي شريعتنا المنع من ذلك.
فالشرائع تختلف من أمة إلى أمة، والله -سبحانه وتعالى- يشرع لكل نبي ما يناسب أحواله وأحوال أمته، لكن دين الأنبياء واحد، وهو التوحيد، وهو الإسلام، وهو توحيد الله، وإخلاص الدين له والتحذير من الشرك، وتعظيم الأوامر والنواهي، والإيمان بكل نبي، فدين الإسلام في زمن نوح - عليه السلام - هو توحيد الله والبعد عن الشرك وتعظيم الأوامر والنواهي، وطاعة نوح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن هود -عليه السلام - هو توحيد الله وترك الشرك وتعظيم الأوامر والنواهي وتصديق هود والعمل بالشريعة التي جاء بها، والإسلام في زمن صالح -عليه السلام- هو توحيد الله وترك الإشراك به وتعظيم الأوامر والنواهي والعمل بالشريعة التي جاء بها صالح والإسلام في زمن موسى -عليه السلام- هو توحيد الله وترك الإشراك به وتعظيم الأوامر والنواهي والعمل بالشريعة التي جاء بها موسى
والإسلام في زمن عيسى -عليه السلام- هو توحيد الله وترك الإشراك وتعظيم الأوامر والنواهي وتصديق الأنبياء والعمل بما جاء به عيسى -عليه السلام- من الشريعة، ثم لما بعث الله نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- صارت شريعته خاتمة الشرائع ونسخت جميع الشرائع السابقة لها.
فالإِسلام بمعناه الخاص هو: توحيد الله، وترك الإشراك به، والتصديق برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، العمل بشريعته، وتعظيم أوامر الله ونواهيه، واعتقاد أن شريعة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- شريعة عامة للثقلين الجن والإِنس باقية إلى يوم القيامة، وأنه خاتم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأنه لا نبي بعده.
فالتوحيد هو دين الأنبياء جميعًا.
(1/2)
إزالة الطواغيت عمل جميع الرسل
فأولهم نوح - عليه السلام - أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وَدّ وسُواع ويغوثَ ويعوقَ ونسر وآخر الرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي كسَّر صور هؤلاء الصالحين
يبين - رحمه الله - أن التوحيد هو دين نوح -عليه السلام-، ودين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودين الأنبياء الذين بينهما.
فنوحٌ -عليه السلام- أرسله الله يكسر الأصنام ودًا وسواعًا ويغوث ويعوقَ ونسرًا هذه أسماء أصنام في زمن نوح -عليه السلام- وأصلها كانت أسماء رجال صالحين، في زمن نوح -عليه السلام- ثم ماتوا، فحزنوا عليهم، فقالوا: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة. فصوَّرُوهم وغلوا في قبورهم لصلاحهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم من دون الله فدبَّ الشيطان إلى أحفادهم وقال: إنَّمَا صور آباؤكم هذه الصور؛ لأنَّهم يدعونهم ويستسقون بهم المطر، فعبدوهم كما ثبت هذا في صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كانت هذه الأسماء ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ".
وقد ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد والإسلام، ثم حدث الشرك في قوم نوح " .
فإذًا أول ما وقع الشرك في قوم نوح ولهذا كان نوح - عليه السلام - أول رسول بعثه الله إلى الأرض - يعني بعد وقوع الشرك - وإلا فقد سبقه أنبياء شيث وآدم آدمٌ نبي، مكلم كما ثبت في الحديث نبي إلى نبيه. وشيث كذلك، ولكن ما وقع الشرك في زمن آدم ولا في زمن شيث ونوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقع الشرك وأول رسول بُعِثَ إلى نبيه وغير بنيه بخلاف آدم - عليه السلام - ما بعث إلا إلى بنيه.
فأول الأنبياء كسر هذه الأصنام ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق بعث للنهي عنها، ثم انتقلت هذه الأصنام نفسها إلى العرب قبيل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-. ود وسواع ويغوث ويعوق انتقلت إلى الغرب، كما ذكر ابن عباس كل قبيلة أخذت صنمًا. قال: " فكان ود لكلب بدومة الجندل وكان سواع +نبي غطيف بن مراد وكان يعوق لهمدان وكان نسر لذي الكلاع من حمير " .
واختلف في كيفية انتقالها، فقيل: إنه لما جاء الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح سفت الريح على هذه الأصنام فنقلتها حتى أوصلها إلى جدة وسفت عليها الريح، ثم بعد ذلك لما كثر الكهان قبيل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- استخرجوها قال بعض الكهان: لما جاءه رَئِيُّه من الجن وقال له كذا وكذا، وأتاه بسجع كسجع الكهان، وقال في آخره: ائْتِ جدة تجد أصنامًا مُعَدَّة، فاستخرجها ولا تهب، وادع العرب إلى عبادتها تجب " .
فجاء واستخرجها وقيل: إن هذه الأصنام ليست هي تلك الأصنام، ولكنها أصنام صورت وجعلت على اسمها، فالمقصود أن نوحًا - عليه السلام - بُعِثَ لتكسير هذه الأصنام والنهي عنها، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء وآخر الرسل هو الذي كسَّر هذه الأصنام ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق
(1/2)
الشرك في العبادة يحبطها
أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين فبعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يُجدد لهم دين أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله...........
هكذا نبينا - عليه الصلاة والسلام - أرسله الله إلى قومٍ يتعبدون، يصلون، ويصومون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرًا، لكنهم لم يفردوا الله بالعبادة، ولم يخلصوا له العبادة. فهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، أشركوا مع الله.
كان المشركون يحجُّون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حجَّ قبل البعثة معهم . الابتداع في العبادة أول طريق الشرك:
ولكن قريشًا غيَّرت دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -. ومن الأشياء التي غيَّروها إن العرب كانت تحج وهم مشركون، وكان الواحد منهم إذا حجَّ يقول: أنا لا أطوف بثيابي هذه؛ لأنها نجسة عصيت الله بها. فإذا جاء إلى مكة كيف يعمل ! وعليه الثياب يقول: الثياب النجسة لا يمكن أن أطوف بها، يطلب من رجل من قريش ثوبًا يطوف به؛ لأنهم أهل البيت وأهل الحرم ويُسمون الحمس فإذا وجد أحدًا يعطيه ثوبًا طاف به، وإن لم يجد خلع ثوبه وطاف عريانًا.
انظر كيف استحوذ عليهم الشيطان، حتى المرأة منهم ! ! ! إذا جاءت لتحج طلبت ثوبًا، فإن لم تجد طافت عريانة وجعلت يدها على فرجها وجعلت تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أُحِلّه
وهذا من جهلهم، واستحواذ الشيطان عليهم. تخلع المرأة ثيابها وتطوف عريانة، تقول: ما أطوف بالثياب النجسة، التعري عندهم أحسن من كونها تطوف بالثياب النجسة، وهذا من جهلهم المطبق وقلة بصيرتهم.
ومن الأشياء التي غيروا فيها دين إبراهيم - عليه السلام - أن قريشًا كانوا إذا حجُّوا لا يتجاوزون مزدلفة ؛ لأنَّ نهاية الحرم مزدلفة فلا يقفون بعرفة فكانت العرب يقفون بعرفة إلا قريشًا يقولون: لا نتجاوز الحرم نحن أهل الحرم فلا نتعدى الحرم .
فلمَّا حجَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع ظنت قريش أنه لا يتجاوز الحرم كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فتجاوز - عليه الصلاة والسلام - فأجاز ووقف بعرفة وجاء بعض الناس يطلب بعيرًا له بعرفة فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- هناك فقال: ما له أحمس ومع ذلك تجاز الحرم . فعل المشركون صالح العبادات مع شركهم بالله:
فالمقصود أن المشركين كانوا يحجون، لكنهم غيَّرُوا وبدَّلُوا ذلك وهم على شركهم، وكانوا يصومون، كما ثبت في الصحيحين أن يوم عاشوراء كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومه معهم وكانوا يصلون، وكانوا يتعبدون، ويتصدقون، وكانوا يجتمعون في مؤتمرات يعقدونها لهم لرفع الظلم عن المظلوم. ومن ذلك: حلف المطيبين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أدرك هذا قبل البعثة، وقال: أدركت حلف المطيبين ما أحب أن أنكثه وأن لي كذا وكذا وذلك أن قومًا اجتمعوا وجاءوا بجفنة فيها طيب، وغمسوا أيديهم في هذه الجفنة، وتعاقدوا على نصر المظلوم حتى يردّ إليه حقه، وتعاقدوا أيضًا على الإحسان، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أثنى على هذا العهد وهذا التعاقد، قال: ما أحب أن أنكثه وأن لي كذا وكذا ؛ لأنه تعاقد وتعاهد على نصر المظلوم، وإزالة الظلم. فالمقصود أن الكفار كانوا يتعبدون، كما يصومون، ويصلون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرًا، لكن سبب شركهم وضلالهم أنهم لم يفردوا الله بالعبادة، بل عبدوا معه غيره.
فمنهم من يعبد اللات والعزى، ومنهم من يعبد المسيح عليه السلام ومنهم من يعبد أمه، ومنهم من يعبد عزيرًا ومنهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، لماذا يعبدونها؟ يريدون منهم القربة والجاه والشفاعة، يقولون: المسيح نبي، وله مكانة عند الله، وينقل حوائجنا إلى الله، ويقربنا إلى الله، كما قال الله -عز وجل- عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى هذه مقالتهم.
وفي الآية الأخرى يقول الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ . إخلاص العبادة لله شرط لقبولها
فالبلاء الذي أُصيبوا به والشرك الذي حصل لهم سببه أنهم لم يخصوا الله بالعبادة. ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - حينما افتتح هذه الرسالة: " اعلم - رحمك الله - أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، أي: تخصيص الله بالعبادة ". فالمشركون لم يخصُّوا الله بالعبادة قالوا: نعبد الله ونعبد غيره ! ! !. ففي وقت يعبدون الله، وفي وقت آخر يعبدون غير الله.
فلا بدَّ للمسلم أن يعلم أن المشركين الذين بعث فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يعبدون الله، ولكنهم لم يخصُّوه بالعبادة، بل يعبدون معه غيره. وامتنعوا لما قال لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ؛ لأنهم يعرفون معنى لا إله إلا الله، فإن معناها: لا معبود حق إلا الله.
قالوا: كيف نخص الله بالعبادة ونترك الأصنام والأوثان؛ لأننا متلبسون بالجرائم والمعاصي. وهذه الوسائط تنقل حوائجنا إلى الله وتقربنا إلى الله... هكذا يقولون.
قاسوا الله على خلقه !.
ولما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا امتنعوا، ولما قال لأبي جهل كلمة إذا قلتموها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم ". فقال أبو جهل ما هي هذه الكلمة لنعطينكها وعشرة أمثالها. فقال هي: " لا إله إلا الله " فأبى، وامتنع، واستكبر، ونكص على عقبيه وهو ينفض يديه ويقول: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ؛ ذلك لأنه يعرف معنى لا إله إلا الله وأن معناها ترك الأصنام والأوثان. قال الله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ . اتباع الآباء والأجداد:
هذه الحجة القرشية، اتباع الآباء والأجداد في الباطل، قال الله -تعالى- عنهم مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ .
وهذه الحجة الفرعونية - حجة فرعون حين قابل موسى - فقال: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى احتجَّ بما كان عليه السابقون.
وهي حجة المشركين جميعًا، اتباع الآباء والأجداد في الباطل، قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ يعني: على دين وإنا على آثارهم مقتدون.
وفي الآية التي قبلها: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ .
أبو طالب عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يحميه ويدافع عنه، وحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هدايته كل الحرص، ولكن عجز. فالأمر لله، والأمر بيد الله، ولله الحكمة البالغة.
وكان أبو طالب معترفًا بصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن الدين الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الحق. فهو +++ ولهذا يقول في قصيدته المشهورة:
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حذار مسبةٍ
لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا
( ولقد علمت )، أي: علم يقين ما عنده شك في ذلك.
إذًا ما الذي منعه؟ إلا اتباع الآباء والأجداد.
( لولا الملامة أو حذارى سبةٍ )، أي: لولا أن الناس يلومونني، أو سبب آبائي وأجدادي؛ لأني إذا وحَّدت الله سببت آبائي وأجدادي، وتنقصت دينهم واحتقرتهم.
كما قال في قصيدته الأخرى اللامية:++
فوالله لولا أن أجيء بسُبةٍ
تجرُّ على أشياخنا في المحافل
البيتان.
( وهم آباؤه وأجداده، لأقررت بها عينيك ). ولما حضرته الوفاة جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسرع إليه ولقنه الشهادة. قال: يا عم ! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله لكن - مع الأسف - كان عنده رجلان، وهما: أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة من قرناء السوء من الكفار فلقناه الحجة الملعونة. وهي اتباع الآباء والأجداد في الباطل. قالا: أترغب عن ملة عبد المطلب ؛ أي: ترغب عن ملة أبيك؟. وملة أبيه هي الكفر، وهي عبادة الأصنام والأوثان.
فأعاد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عم ! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فأعادا عليه الحجة الملعونة، وقالا: أترغب عن ملة عبد المطلب
فأعاد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله.
فأبو طالب مات على الكفر والشرك، نسأل الله السلامة والعافية، ولله في خلقه شئون، ولم يقدر النبي -صلى الله عليه وسلم- على هدايته لأن الهداية بيد الله. الهداية من الله:
وإبراهيم لم يقدر على هداية أبيه؛ لأن هداية القلوب بيد الله.
وأما الهداية التي هي بمعنى الدلالة والإرشاد والوعظ والبيان. فهذه بيد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وكذلك يملك العلماء والدعاة هذه الهداية، أما هداية القلوب به أو يختاره، فهذا إلى الله، وهذا من حِكَم الله وأسراره في خلقه، ومن الدلائل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشر، وليس في يده شيء من هداية القلوب وتفريج الكروب، وأن الأمر بيد الله.
فهداية القلوب بيد الله لا يملكها أحد، حتى أفضل الناس وهو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليس بيده شيء، فلله الأمر من قبل ومن بعد وله الحكمة البالغة.
ومن فوائد هذه القصة ومن الحكم في ذلك أن يعلم الناس أن هداية القلوب بيد الله، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشر لا يصلح للعبادة، فهو بشر - عليه الصلاة والسلام - لا يملك من هداية القلوب شيئًا فلا يصلح للعبادة.
فمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبي كريم يُطاع ويُتَّبع، ويعظم ويحب أعظم من محبتنا لأنفسنا ولأهلينا، لكن لا نعبده؛ فالعبادة حق الله، ولو كان يعلم الغيب لما مسَّه السوء كما قال الله -سبحانه وتعالى-: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ وقال -تعالى- في آية أخرى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: ولكن ليس بيدي شيء.
ولما آذاه صناديد قريش شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم، فكان يدعو عليهم في صلاة الفجر، فيقنت ويدعو بعدما يقول سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة يقول: اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .
والصحابة - رضوان الله عليهم - أفضل الناس يؤمنون على دعائه، فنزل قول الله -تبارك وتعالى-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وقد منَّ الله عليهم بالإسلام ودخلوا فيه.
(1/2)
التقرب لغير الله بالعبادة شرك
فبعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يُجدد لهم دين أبيهم إبراهيم -عليه السلام-، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله...............
التقرب إلى الصالحين أو الأنبياء أو الأصنام أو الشمس والقمر أو غيرها بالدعاء أو بالذبح أو بالنذر أو بالطواف بهم.... إلخ.
كل هذا محض حق الله، لا يصلح أن يصرف منها شيء لغير الله. ومن صرف منها شيئًا لغير الله، فقد أشرك. ولو عبد الله كثيرًا، لا تنفعه عبادته لله إذا كان يعبد الله ويعبد معه غيره، فإنَّها تفسد عبادته لله؛ لأنه أشرك، فإذا كان مثلًا يتصدق ويصوم ويصلي ويحج، لكن يدعو غير الله، فدعاؤه لغير الله يفسد عبادته، ويبطلها، كما أن الإِنسان إذا تطهر وأحسن الطهارة، وتوضأ وأحسن الوضوء ثم خرج منه ريح أو بول أو غائط، بَطُلَت الطهارة، فكذلك إذا كان يعبد الله ويصلي ويصوم ويتصدق ثم أشرك بالله بأن دعا غير الله وذبح لغير الله بطلت العبادة وانتقضت، وصار وثنيًّا بعد أن كان موحِّدًا. صار وثنيًا من أهل الأوثان ولو كان يعبد الله، ولو كان يصلي، ولو كان يصوم، لا بد له من إخلاص الدين لله، لا بد أن يخلص العبادة لله.
فالتقرب لغير الله بالدعاء أو بالذبح أو بالنذر مثل قوله: المدد يا فلان !. أغثني يا فلان !. أو يذبح له وينذر له هذا محض حق الله، إذا صرف منه شيئًا لغير الله حبط جميع عمله مهما كان، ولا ينفعه عبادته لله حتى يتوب من هذا الشرك وهذا التقرب لغير الله.
(1/2)
المخلوق مهما عظم قدره لا تصرف إليه العبادة
لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلًا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يُميت إلا هو، ولا يُدبر الأمر إلا هو.
وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
التقرب بالدعاء والذبح والنذر وغيرها من العبادات، لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، فلا يصلح أن يصرف هذا التقرب لجبريل الذي هو أفضل الملائكة ولا يصلح أن يصرف لمحمد الذي هو أفضل الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام. وإذا كان لا يصلح لملك مقرب ولا لنبي مرسل فلا يصلح لغيرهما من باب أولى.
لا يصلح إلا لله، هذا محض حق لله.
لا بد للمسلم أن يعرف حق الله -سبحانه وتعالى-، وحق الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وحق إخوانه المؤمنين فالله له الحق؛ وهو العبادة والتوحيد والطاعة وامتثال الأمر.
والرسول له حق؛ وهو الطاعة والاتباع، واجتناب ++ والمحبة أعظم من محبة النفس والمال والولد.
والمؤمنون لهم حق الولاء والمحبة والاقتداء بأفعالهم الحسنة وغير ذلك من حقوقهم.
هذا هو توحيد الربوبية الذي يقرُّ به المشركون فإنهم يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبِّرُ، وأنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا يدبِّر إلا الله، ولا يحيي ولا يميت الله، وأن السماوات والأرض ومن فيهن كلهم عبيد الله تحت تصرفه وتحت قهره، كلهم مدينون لله، مدبرون مصرفون منقادون، مسخَّرون لا يخرجون عن قدرته ومشيئته.
هذا اعترف به كفار قريش لكن لا ينفعهم هذا الاعتراف ولا يكفي وحده. وهو أحد أمرين لا بد منهما لكن لا بد أن يضم إليه المسلم توحيد العبادة والألوهية.
فالتوحيد المنجي من النار هو توحيد الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، ولا بد في توحيد الربوبية من إثبات وجود الله، فتعتقد أن الله موجود، وأنه فوق العرش بذاته - سبحانه وتعالى -.
ولا بد أن تعترف بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأن الله هو الخالق وغيره مخلوق، وأنه هو المالك وغيره مملوك، وأنه المدبِّر وغيره مدبَّر.
وسائر أفعال الرب - سبحانه وتعالى-، وكذلك لا بدَّ من الاعتراف بأسمائه وصفاته وإقرارها والإيمان بها كما جاءت في الكتاب والسنة.
هذان النوعان من التوحيد وهما توحيد الله في ربوبيته +++ ، فإذا عرفت الله بأسمائه وصفاته وربوبيته، لزمك وسيلة أن تؤدي حقه - سبحانه وتعالى - وهو أن تخصه بالعبادة بأفعالك أنت أيها العبد.
أما توحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله هو -سبحانه-؛ كالخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والتكبير، وغير ذلك من أفعال الرب. توحيد العبادة:
وأما توحيد العبادة: فتُوحِّد الله بأفعالك أنت أيها العبد؛ صلاتك، وصيامك، وزكاتك، وحجك، ودعاؤك، وخوفك، ونذرك. هذه أعمالك تخص الله -سبحانه وتعالى- بها، وتصرفها له، لا تشرك فيها مع الله أحدًا، تدعو الله ولا تدع غيره، تذبح لله ولا تذبح لغيره، تنذر لله ولا تنذر لغيره، تصلي لله ولا تصلي لغيره، تحج لله ولا تحج لغيره، تأمر بالمعروف لله وتنهى عن المنكر لله، وتدعو إلى الله، تبر وَالِدَيْكَ لله، تصل رحمك لله، تجاهد في سبيل الله لله، تحسن إلى الفقراء والمساكين والأرامل لله، وتكف آذاك عن الناس خشيةً لله وتقربًا إليه، وتعظيمًا له وإجلالًا له... وهكذا بقية العبادات.
فلا بد للمؤمن أن يأتي بأنواع التوحيد الثلاثة كلها: يوحد الله في ربوبيته، ويوحد الله في أسمائه وصفاته، ويوحِّد الله في أفعاله هو، في العبادة التي يتقرب بها إليه؛ فمن لم يوحِّد الله في واحد من هذه الأنواع الثلاثة، فليس بموحِّد، وليس بمؤمنٍ.
فالمؤمن هو الذي وحَّد الله في ربوبيته، ووحَّد الله في أسمائه وصفاته، ووحَّد الله في ألوهيته، وعبادته، وآمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه رسول الله حقًا، وأنه خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده، ولم يفعل شركًا في العبادةِ، ولا ناقضًا من نواقض الإسلام.
هذا هو المسلم والمؤمن حقًا.
(1/2)
إيمان المشركين بالربوبية
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [سورة يونس، الآية: 31].
وقوله: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [سورة المؤمنون، الآيات: 84 - 89 ]... وغير ذلك من الآيات.
هذه أدلة على أن المشركين يقرُّون بتوحيد الربوبية، وكل شيء ليس عليه دليل لا يقبل فقد يقول قائل للشيخ: هات الدليل على أن الكفار يقرون بتوحيد الربوبية. قال: خذ الدليل الواضح من كتاب الله. قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ أي: أفلا تتقون فتعبدون الله ما دمتم معترفين بهذا !. فما الذي منعكم؟. ولماذا لا تتقون الله وتعبدونه.
فاحتج الله عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على توحيد العبادة على أنه يجب عليكم أن تعبدوا الله وتتقوه. فهم مقرون بأن الله هو الذي يرزق، وأنه يملك السمع والأبصار ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه يدبر الأمر.
والمعنى: إذا كنتم معترفين بهذا، أفلا تتقون الله وتعبدونه.
وكما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
والمعنى: اعبدوا الله الذي تقرُّونَ بأنه خلقكم وخلق الذين من قبلكم، وجعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً وأنزل من السماء ماء.
وقال الله -تعالى- في آيات أخرى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ .
احتجَّ عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على أنهم يجب عليهم أن يوَحِّدُوا الله في العبادة.
والمعنى: كما وحَّدتم الله في الربوبية، فوحِّدُوه في الألوهية. وكما احتج عليهم في سورة النمل بإقرارهم بتوحيد الربوبية على أنه يجب عليهم أن يوحِّدُوا الله في العبادة.
قال الله -سبحانه وتعالى-: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ثم احتج عليهم فقال: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ما دمتم معترفين بهذا فكيف تعبدون مع الله غيره؟ !.
ثم قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ فأنتم مقرون بأنه لا يجيب المضطر إلا هو، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي يجعلكم خلفاء الأرض.
ثم قال -سبحانه وتعالى-: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم احتج عليهم فقال: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يحتج عليهم - سبحانه - بالشيء الذي يقرون به ويعترفون به على إلزامهم بالشيء الذي لا يعترفون به ولا يقرون به، وهو إفراد الله بالعبادة، فهم لا يقرون به، لكن يقرون بإفراد الله بالخلق والرزق والإِماتة والإِحياء، وهذا في القرآن كثير.
يحتج الله -سبحانه وتعالى-عليهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إلزامهم بتوحيد الألوهية.
(1/2)
إيمان المشركين بالربوبية لم ينفعهم
فإذا تحققتَ أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يُدخلهم في التوحيد...
يعني: تحققت أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية ولم يدخلهم في دين الإسلام وحده.
(1/2)
المشركون جحدوا توحيد العبادة
الذي دعاهُم إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعرفتَ أن التوحيدَ الذي جحدوه هو توحيد العبادة...
قد سبق بيان أن: التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة. أما توحيد الربوبية فلم يجحدوه؛ بل أقروا به.
(1/2)
الاعتقاد في الأولياء شرك
الذي يسمِّيه المشركون في زماننا (الاعتقاد)...
كان الناس في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعتقدون في السيد، يسمون المعبود السيد، والعبرة بالمعاني والحقائق.
(1/2)
الإشراك مع الله في الدعاء
كما كانوا يدعون الله -سبحانه- ليلًا ونهارًا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له...
هذا حالهم ! يدعون الله ليلًا ونهارًا، ولكن البلاء جاءهم من كونهم يدعون غيره؛ منهم من يدعو الملائكة لصلاحهم، ومنهم من يدعو المسيح وعزير ومنهم من يدعو الشمس والقمر والأحجار والأشجار.
(1/2)
عبادة اللات
أو يدعو رجلًا صالحًا مثل اللات
اللات هذا كان رجلًا صالحًا كان يلت السويق للحاج، والسويق هو دقيق الحنطة والشعير يبل بالسمن أو بالماء، كان هذا الرجل يبل السويق للحاج، فلما عكفوا على قبره وغلوا في قبره؛ لصلاحه فعبدوه، فصار وثنًا لأهل الطائف وهو اللاتّ - بتشديد التاء - اسم للرجل؛ لأنه كان يلت السويق، وقُرِئَت باللات بالتخفيف: اسم للصخرة التي يلت عليها السويق.
(1/2)
صرف العبادة للأنبياء شرك
أو نبيًا مثل عيسى وعرفت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة...
لا بد أن تعرف هذا، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم على هذا الشرك، وسمَّاهم مشركين وهم يدعون الله ليلًا ونهارًا ويتصدقون ويصومون ويحجُّون، لكن دعوا غير الله، دعوا الملائكة لصلاحهم، أو المسيح وعزير أو أصنام وأحجار جمادات لا تعصي الله، ومع ذلك قاتلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واستحل دماءهم وأموالهم، وسمَّاهم مشركين وكفَّرهم وهم يدعون الله ليلًا ونهارًا، ويحجون، ويتصدقون؛ لأنهم أشركوا مع الله غيره، ولم يخصوا الله بالعبادة.
(1/2)
نفي الشريك مع الله عام في القرآن
لله وحده كما قال تعالى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [سورة الجن، الآية: 18].
فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا أحد عند العلماء نكرة في سياق النهي، والقاعدة الأصولية: أن النكرة إذا جاءت في سياق النفي أو النهي أو الشرط فإنها تعم.
والمعنى: لا تدعو مع الله أحدا: أي: أيّ أحد كان مطلقًا من البشر أو الحجر أو الشجر أو غيرها، كقوله: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا .
(1/2)
نفي الضر والنفع عن جميع الأنداد
وقال: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ [سورة الرعد، الآية: 14].
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ كل أحد دعا غير الله، فلا يستجيب له هذا الذي دعاه. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ .
فقول الله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ إذا بسط كفيه وفرَّج أصابعه ووضعها في الماء ثم رفعها، هل تأخذ ماءً، وهو يريد أن يغرف ماءً، ثم يوصلها إلى فمه ليشرب، هل يصل إلى فمه شيء؟. لا يصل.
فكذلك هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا ينفعوهم إلا كما ينفع الذي بسط كفيه وفرج بين أصابعه وأخذ ماءً ليصل إلى فيه.
(1/2)
قتال المشركين على دعاء غير الله
وتحققتَ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله...
لا بد أن تتحقق وتتبين وتعرف هذا الأمر الذي قاتلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-عليه؛ فإنه قاتلهم لتكون العبادة كلها لله، ليكون الدعاء لله، والذبح لله، والنذر لله، وسائر أنواع العبادة كلها لله.
(1/2)
جميع أنواع العبادة لله
والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله...
هذا هو الأمر الذي قاتلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجله، وهو أن يخصُّوا الله بالعبادة، بأن لا يعبدوا إلا الله، وألا يدعوا إلا الله، وألا يذبحوا إلا لله، وألا ينذروا إلا لله.
(1/2)
الإقرار بتوحيد الربوبية لا يُدخل الإسلام
عرفتَ أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام...
كذلك لا بد أن تعرف أن إقرارهم بتوحيد الربوبية ما نفعهم، وما جعلهم مسلمين، بل كانوا كفارًا، ولو كانوا يقرون بوجود الله، ولو كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق، ولو كانوا يقرون بأسماء الله وصفاته، ما يخرجهم هذا الإِقرار من الكفر ولا يُخرجهم من الشرك، حتى يوحِّدُوا الله في العبادة.
(1/2)
حل دم المشركين
وأنَّ قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم...
لا بد أن تعرف أن قصدهم الأنبياء والملائكة والصالحين يريدون أن يقربوهم إلى الله، وينقلوا حوائجهم ويشفعوا لهم عند الله، هذا هو الشرك، وهذا هو السبب الذي قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أجله.
(/)
"عرفت" بمعنى تحققت
عرفت...
قول المؤلف: " عرفت " هذا هو جواب، إذا تحققت الأولى، أي: إذا تحققت هذه الأمور، عرفت التوحيد الذي جاءت به الرسل وعرفت الذي من أجله قاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- المشركين
(1/2)
التوحيد هو معنى "لا إله إلا الله"
حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون
وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله...
هذا التوحيد يعني: توحيد العبادة. هو معنى قولنا: " لا إله إلا الله "، وبيان ذلك: أن كلمة " لا إله إلا الله " مشتملة على نفي وإثبات؛ فهي مشتملة على ركنين عظيمين، أحدهما نفي، والآخر إثبات، وهما:
1 - " لا إله ": نفي.
2 - " إلا الله ": إثبات.
والإله، معناه: المعبود. ولا: نافية للجنس من أخوات " إن " تنصب الاسم وترفع الخبر. واسمها: إله. والخبر محذوف تقديره حق. والإله، معناه المعبود. و " لا إله إلا الله "، معناها: لا معبود حق إلا الله.
فالتوحيد لا بدَّ فيه من النفي والإثبات؛ لأنَّك إذا لم تأتِ بالنفي، وقلت: المعبود الله، فلا يكفي في أن +++ الله -تعالى- معبود وغيره معبود، فلم يحصل التوحيد، لكن إذا قلت: لا إله إلا الله، فالمعنى لا معبود حق إلا الله، فقد حصل نفي وإثبات.
أما النفي: فقد نفيت جميع أنواع العبادة عن غير الله.
وأما الإثبات: فقد أثبتّ جميع أنواع العبادة لله، وبعض الناس يفسِّر الإله بأنه الخالق؛ إذ أن بعض أهل الكلام وبعض الأشاعرة يقولون: معنى " لا إله إلا الله ": لا خالق إلا الله، وهذا غلط؛ إذ لو كان المعنى لا خالق إلا الله لم يكن هناك خلاف ولا عداوة ولا قتال بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين فإنهم يقولون لا خالق إلا الله ! ! !.
فهم معترفون بهذا كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وبعضهم يقول: معناها: لا إله موجود إلا الله، وهذا غلط يكذبه الواقع، فإن الآلهة موجودة متعددة، فالشمس عُبِدَتْ من دون الله، والقمر عُبِدَ من دون الله، والنجوم عُبِدَتْ من دون الله، والملائكة عُبِدَتْ من دون الله، والأنبياء عُبِدُوا من دون الله، والبشر عُبِدُوا من دون الله، والأشجار عُبِدَتْ من دون الله، لكن أكانت عبادتهم بالحق أم بالباطل؟. بل بالباطل ! ! !.
والعبادة بالحق هي عبادة الله -تعالى- وحده كما قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ .
ولا يتبين عظمة هذه الكلمة وأنها كلمة التوحيد التي تنفي الشرك عن الله، وتثبت العبادة بجميع أنواعها لله إلا إذا فُسِّرَ الإله بالمعبود، وقُدِّرَ الخبر ( حق )، قال الله تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ .
(1/2)
اتخاذ المخلوقين آلهة من دون الله
فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا، أو نبيًا، أو وليًّا، أو شجرة، أو قبرًا، أو جنيًّا...
الإله هو الذي يُقصد لهذه الأمور، يعني: يُقصد بالتقرب، بالدعاء، وبالذبح، والنذر، ويقصد لطلب الحوائج.
(1/2)
تفسير الإله بالخالق الرازق
لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرزَّاق المدبِّر...
كما يعتقده بعض أهل الكلام وبعض أهل الفلسفة وبعض أهل النظر يفسرون الإِله بالخالق.
بل الإله هو المعبود، والْمُطاع الذي يُقصد بطلب الحوائج، والذي يُرجى منه الشفاعة. يُقصد بالدعاء وتفريج الكربات، وما أشبه ذلك.
هذا هو الإِله، ويسميه بعض الناس السيد. كما ذكر المؤلف - رحمه الله - أنه في زمنه يسمونه "السيد"، لم يُريدوا أن الإِله هو الخالق الرازق المدبر، هذا لا يخطر ببالهم ! ! !.
(1/2)
السيِّد الذي يُقصد بالحوائج
فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنَّما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد...
يسمونه بـ " السيِّد "، السيِّد الذي يُقصد بالحوائج. يدعونه ويطلبون منه الشفاعة، ويتقربون إليه.
(1/2)
كلمة التوحيد بمعناها لا بلفظها
فأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله.
والمراد من هذه الكلمة: معناها لا مجرد لفظها...
المراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد اللفظ. وذلك بإخلاص العبادة لله وإفراده بالعبادة و++ ما يثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ++.
(1/2)
فهم الكفار لمعنى كلمة التوحيد
والكفار الجهَّال يعلمون أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة هو إفراد الله -تعالى- بالتعلق، والكفر بما يُعبد من دون الله والبراءة منه...
الكفار يعرفون هذا؛ ولهذا إذا قالها أحدٌ منهم وحَّد الله وأخلص العبادة لله وترك الأصنام والأوثان، وإذا كان لا يريد ترك الأصنام والأوثان يمتنع من قولها. لذا امتنع المشركون ؛ واستمروا على شركهم.
وكثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم يقول: " لا إله إلا الله " بلسانه وينقضها بأفعاله. ولما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لصناديد قريش قولوا لا إله إلا الله تفلحوا امتنعوا وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ .
استنكروا قول النبي: لا إله إلا الله وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وانطلق النبلاء منهم: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ هذه الحجة الملعونة؛ وهي اتباع الآباء والأجداد والأسلاف في الباطل.
وهو دين أبي جهل وهو دين فرعون وهو دين كفار قريش اتباع الآباء والأجداد والأسلاف على الكفر والشرك والضلال.
والواجب على الإنسان أن ينظر ما كان عليه آباؤه وأجداده وأسلافه، إن كانوا على الباطل لا يتبعهم.
أعطاك الله العقل وكلفك وميزك عن الحيوانات. إن كان آباؤك وأجدادك على الحق فنعم. فتتبع الحق وإن كانوا على الباطل، فتترك ما كان عليه الآباء والأجداد، واقبل الحق.
قال الشيخ - رحمه الله -: " والجهال يعلمون أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة هو إفراد الله -تعالى- بالتعلق، والكفر بما يُعبد من دون الله والبراءة منه... " ا. هـ.
الكفار يعلمون أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- إفراد الإِله بالتعلق، والكفر بما يعبدون من دون الله.... كل هذا يعلمونه جيدًا، ولهذا رفضوا قولها، ولا يقولها إلا من أسلم، ++ انتصر الإسلام وقَوِيَ المسلمون نجم النفاق وأظهر المنافقون الإسلام وأبطنوا الكفر، لكن في مكة كان الكفار أكثرية، لا يبالون. هم يرفضون. لا يقولون: " لا إله إلا الله ". والكفرة أكثر ولا يقولوها إلا من قذف الله النور في قلبه، والهداية، والتخلص من عبادة الأصنام والأوثان والدخول في الإسلام قال: " لا إله إلا الله "، فإذا قال: " لا إله إلا الله " مشرك انتهى من عبادة الأصنام والأوثان وتركها وأخلص العبادة لله.
لكن في هذا الزمن عبادة القبور والأصنام يقولونها آلاف المرات وينقضوها بأفعالهم !. يقول: " لا إله إلا الله " ثم يذبح للقبر، لصاحب القبر. يقول: " لا إله إلا الله " ثم يدعوهم من دون الله، ويطوف بقبره؛ لأنه لا يعرف معناها.
فكفار قريش يعرفون المعنى، وهؤلاء لا يعرفون المعنى.
ولهذا قال المؤلف - رحمه الله -: " لا خير في رجل جُهَّال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله " ! ! !.
(1/2)
عجب الكفار من الوحدانية
فإنه لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص، الآية: 5 ].
فهم استنكروا وتعجبوا؛ لأنهم يعرفون أن هذه الكلمة تنفي الألوهية عن غير الله وتثبتها لله وحده.
قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ولسان حالهم يقول: أين بقية الآلهة الأخرى؟ أين اللات ؟ ما نعبدها؟. والعزى نتركها؟ والشمس نتركها؟ والقمر نتركه؟ والمسيح نتركه؟ وعزير نتركه؟. هذه آلهة كثيرة لا يمكن أن نتركها. كيف يقول محمد الإِله واحد فقط؟ هذا شيء عجيب. هذا شيء غريب. ( أجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن هذا الشيء عجيب ).
ثم تواصوا على المضي على معبودات من دون الله. وانطلق الملأ منهم: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ أي: اصبروا على آلهتكم، اصبروا على عبادتها وتعظيمها من دون الله.
(1/2)
بعض مدعي الإسلام لا يفهم كلمة التوحيد
فإذا عرفتَ أن جُهَّال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدَّعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار
هذا والله العجب، كفار قريش عرفوا معنى لا إله إلا الله، ويوجد من ينتسب إلى الإسلام ولا يعرف معناها؟ !. إذا قلت له ما معنى " لا إله إلا الله "؟ لا يدري ! فهي حروف يقولها بلسانه ولا يدري ما معناها.
والذكي منهم كما يسميه المؤلف " الفطن " يفسرها بتوحيد الربوبية، فيفسر الإِله بالخالق، فيكون معناها: لا خالق إلا الله.
لو كان معناها لا خالق إلا الله لحصل وفاقٌ بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين الكفار فصاحبوه. قال الله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ .
++ الأصنام والأوثان، فيوافقونك ويصاحبونك؛ ولهذا جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: نريد أمرًا وسطًا بيننا وبينك: اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فنزل قول الله -تبارك وتعالى-: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ينظر سبب النزول.
وكثير من الجهال يظن أن المراد مجرد التلفظ بها، وبعضهم يفسرها بتوحيد الربوبية، كما يفسرها كثير من أهل الكلام والفلاسفة وأهل النظر. يظنون أن معنى هذه الكلمة توحيد الربوبية، وإثبات الربوبية.
ولهذا بعضهم تعبوا في إثبات توحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، حتى قال بعضهم: إنه لا يمكن للإِنسان أن يثبت توحيد الربوبية عن طريق العقل، بل إن بعضهم تعبوا في إثبات الخالق، وأن هناك خالق ومخلوق، فبعد هذا التعب الطويل وبعد النظر والتأمل وتقرير النظريات وصلوا إلى القول بأن هناك خالق ومخلوق في النهاية.
بعد التعب الطويل وصلوا إلى أمر برز عليهم عباد الأصنام والأوثان، فصاروا أحسن منهم في إثباتها، عباد الأصنام والأوثان ما عندهم إشكال في إثبات توحيد الربوبية؛ لكن الفلاسفة تعبوا تعبًا شديدًا حتى يصلوا إلى إثبات أن هناك خالقًا ومخلوقًا في النهاية. أثبتوا بأن قالوا: الموجودات قسمان: واجب وممكن. فالواجب: هو وجود الله، والممكن: هو موجود المخلوق.
(1/2)
دعاء الملائكة من أجل صلاحهم
بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني.
فبعض الناس يظن أن المطلوب منه والواجب عليه هو: التلفظ بحروف " لا إله إلا الله " دون معرفة المعنى، وهذا غلط كبير؛ فإنه لا بد ++.
(1/2)
فهم كلمة التوحيد بمعنى الربوبية فقط
والحاذق منهم من يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله...
هذا الحاذق الذكي الذي يقول: إنه متعلم، يفسِّر الإله بأنه الخالق الرازق، ويقول: إن معنى " لا إله إلا الله ": لا خالق ولا رازق إلا الله. ومعنى ذلك: أن هذه الكلمة تفسر بتوحيد الربوبية فقط، وهذا خطأ كبير؛ فإن هذه الكلمة كلمة عظيمة، من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها خلق الله الثَّقلين الجن الإِنس ومن أجلها ينقسم الناس إلى شقي وسعيد من المؤمنين والكفار ومن أجلها خُلقت الجنة والنار، ومن أجلها حققت الحاقة ووقعت الواقعة. كيف يكون معناها لا خالق إلا الله! ! !
(1/2)
وجوب العلم بمعنى كلمة التوحيد
فلا خير في رَجُلٍ جُهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
لا خير في رجل جهَّال الكفار أعرف منه بمعنى هذه الكلمة. فواجب على المسلم أن يعرف معنى هذه الكلمة، وأن الإِله معناه: المعبود. فالاسم الشريف " الله ": اسم ( لا ): النافية للجنس، والخبر محذوف تقديره حق، ومعناها الإِجمالي لا إله إلا الله، يعني: لا معبود حق إلا الله.
وبهذا يتبين عظمة هذه الكلمة، وأن كلمة التوحيد التي تنفي الألوهية عن غير الله وتثبتها لله -عز وجل-، لا بدَّ أن يعرف معناها ++ معنى الإِله المعبود. قال الله تعالى: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
لا بد من العلم النافي للجهالة، ولا بد من اليقين المنافي للشك والريب، فمن قالها عن يقينٍ لا شك فيه ولا ريب يعتقد بأن الله هو المعبود بالحق وأن غيره معبود بالباطل، ولا بد من الإِخلاص في هذه الكلمة، المنافي للشرك، فلا يقع في عمله شرك.
فإذا قال: " لا إله إلا الله " ثم ذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو دعا لغير الله، ما نفعته هذه الكلمة؛ لأنَّه قالها عن غير إخلاص. ولا بد من الصدق المانع من النفاق، فإن المنافقين يقولون: " لا إله إلا الله " بألسنتهم، وقلوبهم تكذبها.
قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يقولون: آمنا بالله واليوم الآخر بألسنتهم، وما هم بمؤمنين بقلوبهم.
وكذلك يشهدون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة بألسنتهم وقلوبُهم مكذبة، قال -تعالى- عنها: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ .
أي كاذبون بقلوبهم ؛ لأن ألسنتهم تنطق، لكن قلوبهم مكذبة. ولا بد من الانقياد بحقوق هذه الكلمة، بأن يقول العبد: " لا إله إلا الله "، ثم ينقاد لحقوقها: من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وإلا صار إيمانك كإيمان فرعون ؛ فإنه عالم في الباطن لكنه استكبر عبادة الله واتباع رسوله، فهو غير منقاد، فلا بد من عمل يتحقق به الإِيمان، ولا بد من القبول لهذه الكلمة المنافي للرد.
فإن بعض الناس يقولها، لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها تكبرًا، لا يقابلها بالقبول المنافي للردِّ، ولا بد من المحبة لهذه الكلمة " لا إلا الله "، ولأهلها والسرور بذلك. شروط كلمة التوحيد
كما أن لها شروطًا سبعة، وهي:
1 - علم.
2 - يقين.
3 - وصدق.
4 - إخلاص.
5 - محبة.
6 - وانقياد.
7 - والقبول.
وزاد بعضهم: الكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، ويكون شرطا ثامنا وهو البراءة من الشرك وأهله.
(1/2)
فوائد معرفة التوحيد
فإذا عرفتَ ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفتَ الشرك بالله الذي قال الله فيه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [سورة النساء، الآية: 48 ] وعرفتَ دين الله الذي أرسلَ به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا، أفادك فائدتين:
الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس، الآية: 58].
أي: إذا عرفت معنى ما قلته لك معرفةً بالقلب، وعرفت الشرك الذي وقع فيه الناس، وعرفت التوحيد الذي أوجبه الله على العباد، وعرفت أن غالب الناس لم يعرفوا هذا الأمر، أفادك فائدتين: الفرح بفضل الله:
الفائدة الأولى: الفرح بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي: تفرح بفضل الله ورحمته، ونسأل الله الثبات على دينه والاستقامة عليه.
فالفائدة الأولى: هي أن تفرح بفضل الله ورحمته، حيث وفقك الله إلى الإسلام، ووفقك الله للتوحيد، وليس هذا بحول منك ولا بقوة.
ولو شاء لكنت مثل هؤلاء المشركين لكن الله منَّ عليك وهداك ووفقك للإِسلام والتوحيد والإِيمان. فاشكر الله، واحمد الله، وافرح بفضل الله ورحمته.
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرح أهل التوحيد بالإسلام والإيمان وتعلم القرآن. هذا هو الفرح بفضل الله ورحمته، بخلاف فرح الأشر والبطر.
فهذا فرح المشركين فرح أهل الكبر والعدوان، فهو فرح مذموم.
قال الله تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ففرح الأشر والبطر فرح باطل مذموم.
فإذا عرفت معنى كلمة التوحيد، وعرفت معنى دين الإسلام، وعرفت أن الكفار لم يعرفوا معنى هذه الكلمة، وأن كفرهم إنما كان لعدم إخلاص الدين لله، أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، وسؤال الله الثبات على دين الله والاستقامة عليه كما سبق ذكرها.
(1/2)
الخوف على النفس من الوقوع في المعصية
وأفادك أيضًا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله -تعالى-، كما ظنَّ المشركون
والفائدة الثانية: الخوف العظيم.
بأن تخاف على نفسك أن تقع فيما وقع فيه غالب الناس، وأنت لا تشعر وهو الشرك. فقد يقول الإنسان كلمة يخرجها من لسانه وهو لا يظن أن تبلغ به ما بلغته، فيكون بها مرتدا، كما لو سخر واستهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كما في قصة الجماعة الذين خرجوا في غزوة تبوك قالوا للنبي وأصحابه: " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء " يعنون الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فنزلت الآية فيهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
فأولئك كفروا بكلمة أخرجوها بألسنتهم؛ فإن الإنسان قد يقول الكلمة لا يظن أن تبلغ به ما بلغت، وإذا كان إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - إمام الحنفاء الذي وقف وقوف الجبال الراسيات أمام عبَّاد الأصنام من أبيه وقومه وصمد وصمودًا، وصبر وصبرًا عظيمًا حتى ألقوه في النار. وكسَّر الأصنام بيده - عليه الصلاة والسلام - فرزقه الله ثواب ذلك أنبياء، إسماعيل وإسحاق ومن سلالة إسماعيل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن سلالة يعقوب يوسف
فجعل من بنيه سلالة أنبياء، ومع ذلك يدعو ربه ويقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ أي: اجنبني واجنب بني أن نعبد الأصنام.
إذا كان هذا إبراهيم الخليل - عليه السلام - هذه حاله! وهذا خوفه، فكيف لا نخاف نحن؟. ولهذا قال إبراهيم ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -؟.
إذا كان هذا حال إبراهيم الخليل - عليه السلام - تنقل ++ إلى قبل وهذا خوفه الذي قال الله عنه إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .
(1/2)
وقوع بعض الموحدين في الشرك
خصوصًا إنْ ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف، الآية: 138] ؛ فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
إذًا، قوم موسى هؤلاء هم الخلاصة الذين قالوا لموسى هذا؟ الذين نجاهم الله مع موسى - عليه أفضل الصلاة والسلام - من الغرق وأهلك فرعون وقومه وهم ينظرون بأعينهم، ينظرون إهلاك الله لفرعون وقومه، وهم مع موسى - عليه السلام - خرجوا ودخلوا البحر لما ضرب موسى البحرَ بعصاه بأمرِ الله، وصار البحر يبسًا سلكوا الطريق ودخلوا في البحر، ثم سلكه فرعون وقومه تبعًا لهم، ثم خرج موسى - عليه السلام - وقومه من الجهة الثانية، فلما خرج موسى - عليه السلام - وقومه من الجهة الثانية وتكاملوا خارجين من البحر ودخل فرعون وقومه وتكاملوا في البحر داخلين عاد البحر لحالته بأمر الله، فانطبق على فرعون وجنوده فأهلكه الله بالغرق، وموسى وقومه ينظرون !. فهؤلاء هم الخلاصة من مع موسى - عليه السلام - ! فلما مشى قوم موسى - عليه السلام - وهم بنو إسرائيل - مع موسى مروا على قوم يعبدون صنما لهم فقالوا لموسى - عليه السلام -: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ فأنكر عليهم موسى - عليه السلام -: قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إنكم تنظرون ! أن الله أهلك عدوكم وأنتم تنظرون !. فتقولون: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ؟ فإذا كان هؤلاء هم الخلاصة مع علمهم وصلاحهم يطلبون أن +++، ولكن لما زجرهم موسى - عليه السلام - لم يقعوا في الشرك.
وكذلك كما في قصة أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - يقول: أنه خرج من النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين وكنا حديثي عهد في الشرك، أي: أسلمنا قريبًا. أي: لم تمض علينا مدة، ما تمكن الإسلام منا ومن قلوبنا.
قال: فمررنا بمشركين ولهم سدرة - أي شجرة - يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، ويتبركون بها، ويعلقون أسلحتهم بها. وقالوا ذات مرة: يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. أي: اجعل لنا شجرة نتمسح بها ونتبرك بها ونعلق عليها أسلحتنا !.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر عليهم طلبهم. وقال: الله أكبر، الذي قلتم - والذي نفسي بيده كما قال موسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ .
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل مقالتهم كمقالة قوم موسى -عليه السلام-؛ لأن العبرة بالمعنى، لكنهم لم يقعوا في الشرك - رضي الله عنهم أجمعين -، إنَّما قالوا هذا عن جهلٍ، فلما زجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيَّن لهم، لم يفعلوه، ولم يقعوا فيه.
(1/2)
دوام العداء لأهل التوحيد
واعلم أن الله -سبحانه- من حكمته لم يبعث نبيًّا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام، الآية: 112].
هذا من الابتلاء والامتحان، فالله له حكمةٌ بالغةٌ حتى يتميز الصادق في إيمانه من غير الصادق.
جعل الله -سبحانه- من حكمته أن لكل نبي أعداء شياطين الإِنس والجن كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا فهؤلاء الشياطين أعداء للأنبياء ويصدون الناس عن طريق الحق، ويؤذون الأنبياء ويمتحنون أتباعه.
فكذلك أتباع الأنبياء لهم أعداء، ولهم شياطين يتصدون للدعاة والمصلحين في كل زمان وفي كل مكان.
الدعاة والمصلحون لهم أعداء كما أن للأنبياء أعداء، هذا امتحان وابتلاء من الله حتى يتميز الصادق من الكاذب، وحتى يتبيَّن صبر الصابر، وحتى يرفع الله المؤمن درجات بسبب صبره على الأذى وثباته على الدين. الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ .
فطريق الدعوة وطريق الجنة ليس مفروشًا بالورود، لو كان مفروشًا بالورود ما تخلف أحد كان، كل الناس يسلكوه، لكن هذا الطريق أمامه عقبات لا بد فيه من الصبر، ولا بد فيها من التحمل، يُمتحن الإنسان أيضًا حتى يزول خبثه ويخرج نقيًا صافيًا كما يُمتحن الذهب على النار ليصفو ويزول عنه الخبث.
(1/2)
أعداء الموحدين لديهم علم وحجج
وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [سورة غافر، الآية: 83 ].
قد يكون عند الأعداء علوم وحجج وشُبَهٍ كثيرة، عُبَّاد القبور الآن بعضهم عندهم علم، وعندهم شبهات، ويستدلُّون بآيات من القرآن، فيقول بعضهم: هذا ولي !. الله -سبحانه وتعالى- يقول: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
فالله -تعالى- يخبر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلا مانع أن أطلب منه الشفاعة. هذه من الشُّبَه. نعم هذا ولي، إذا كان وليًا فحلمه لنفسه، وولايته لنفسه. لا تستفيد أنت من حلمه ولا من ولايته.
أنت تستفيد من ملكك أنت لا من الولي، فادع الله ! اعمل مثل عمله الصالح، فكونه ولي لا يدعوك هذا أن تدعوه من دون الله؛ إنما يحثك على أن تعمل مثل عمله الصالح مخلصًا في ذلك لله -سبحانه وتعالى- ++++ كما قال الله -عز وجل-: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فرحوا بما عندهم من العلم في مقابلة الرسل لها، لما جاءتهم تدعوهم إلى الله -سبحانه وتعالى-.
(1/2)
وجوب التسلح بالعلم لرد شبه المعاندين
إذا عرفتَ ذلك، وعرفتَ أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج.
هكذا ينبغي لطالب العلم أن يكون معه سلاح، والسلاح هو العلم؛ حتى تقابل الشُّبَه التي يوردها عليك هؤلاء المشركون والوثنيون
الوثنيون عندهم شُبهٌ، ومن شبههم ما ذكرنا من الآيات أن الأولياء صالحون ولهم جاه عند الله، وأنا أطلب الشفاعة منهم، أنا أعلم أنهم لا يخلقون، ولا يرزقون، ولا يُميتون، ولا يحيون، ولا ينفعون، ولا يضرون، لكن أطلب من الله بهم، أي: أتوسل بهم.
وهذه شبهة ذكرها المؤلف - رحمه الله -، فلا بدَّ أن يتسلح طالب العلم بسلاح العلم حتى لا تنطلي عليه شبه هؤلاء المشركين
(1/2)
وجوب التسلح بالعلم لرد شبه المعاندين (تابع)
فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحًا لك تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك -عز وجل-: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [سورة الأعراف، الآيتان: 16 - 17].
فمقدم هؤلاء إبليس، فإبليس هو مقدم هؤلاء الكفار وهؤلاء المشركين كفر وأشرك، وامتنع ورفض أمر الله - عز وجل - واستكبر عنه، وقابل أمر الله بالإِباء والاستكبار، فكان كافرًا، فلما تحقق كفره وخلوده في النار سأل الله النظرة والإمهال إلى يوم يبعثون، فأجابه الله - عز وجل - مسألته؛ لما في ذلك من الْحِكَم والأسرار.
فأخذ على نفسه عهدًا لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ لبني آدم. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ أي: أحيدهم عن دين الله، وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قال: ولا تجد أكثرهم، الأكثر ليس شاكرًا لله لكن الأقل يقوى على الإيمان والتوحيد وكانوا شاكرين.
(1/2)
ضعف الباطل أمام قوة الحق
ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حججه وبيناته، فلا تخف ولا تحزن: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [سورة النساء، الآية: 76].
هذه بشرى، وبشارة إذا أقبلت على الله وحججه وبيناته، لا تخف من هؤلاء المشركين ولا تخف من أعداء الله؛ فإن هؤلاء الشياطين وكيدهم كان ضعيفًا، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا أي: إذا أقبلت على حجج الله وبيناته، واستنرت بنور العلم، وتسلحت بسلاح العلم، فلا تخف.
لكن الخوف يكون على الذي يدخل المعركة وليس معه سلاح، هذا يُقتل ويُهزم؛ لأنه سقط في المعركة مع الأعداء، ولكن ليس معه سلاح، أما إذا كان معه سلاح فلا يخاف.
(1/2)
موحد قليل العلم خير من عالم جاحد
والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات، الآية: 173].
الحمد لله ! هذه بشارة الموحد، ولو كان عاميًا يغلب ألفًا من المشركين ؛ لأنه من جند الله، وجند الله هم الغالبون. بركة توحيده وإيمانه؛ واستقامته على دين الله، يُوفَق ويغلب هؤلاء المشركين ولو كانوا علماء؛ لأنَّ علمهم فاسد منحرف.
هؤلاء المشركين -وإن كانوا علماء- انحرفوا وفسد علمهم؛ لأنهم ليسوا على نور ولا على هداية، فيغلبهم الموحدون ولو كانوا عوام ! ! !.
(1/2)
جند الله هم الغالبون
فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان...
الحمد لله! هذه أيضًا بشارة جند الله، فهم الغالبون بالسيف والسنان والحجة والبيان، بغلبون أعداءهم بالحجج، ويغلبون أعداءهم في القتال والمعركة.
(1/2)
النصر لمن تسلح بالمعرفة
كما أنهم هم الغالبون بالسيف والسنان، وإِنَّما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح.
والسلاح هو العلم، إذا دخل المعركة وليس معه سلاح، هذا الذي يُخاف عليه.
(1/2)
القرآن فيه تبيان لكل شيء
وقد مَنَّ الله -تعالى- علينا بكتابه الذي جعله: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89].
وهذه أعظم منة، أنزل علينا هذا الكتاب، وبعث لنا هذا الرسول - عليه الصلاة والسلام - لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .
فالذي يتسلح بنصوص الآيات وبالأحاديث الصحاح التي قد مَنَّ الله علينا بها، ومنَّ الله علينا بهذا الرسول الذي بعثه الله رحمة للناس، وليخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ++++.
(1/2)
رد القرآن على جميع شبه الضالين
فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [سورة الفرقان، الآية: 33].
هذه بشارة - أيضًا - لا يأتي مبطل بشبهة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبطلها.
(1/2)
السنة مكملة للقرآن
قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
الحمد لله، هذه بشارة أيضًا، فكل حجة باطلة يأتي بها أهل الباطل ففي القرآن ما ينقضها، وفي السنة ما ينقضها؛ لأن السنة وحيٌ ثانٍ، ولأن القرآن أرشدنا إلى عِظَمِ السنة وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا .
فالحجَّة التي في السنة هي حجة في القرآن؛ لأن الله أمر بالأخذ بها، وكل مبطل يأتي بحججه، ففي القرآن وفي السنة ما ينقضها إلى يوم القيامة.
(1/2)
بعض ردود القرآن على شبه المشركين
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا فنقول:....
يريد الشيخ أن يذكر الحجج التي احتج بها المشركون عليه في زمانه، لا على أنه +++.
(1/2)
جواب أهل الباطل من طريقتين
جواب أهل الباطل من طريقتين: مجمل ومفصل.
أما المجمل:
فهو الأمر العظيم، والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [سورة آل عمران، الآية: 7].
وقد صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إِذَا رأيْتُم الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ .
مثال ذلك: إذا قال بعض المشركين أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس، الآية: 62]. وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- يستدلّ به على شيءٍ من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره، فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله -تعالى- ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم بالملائكة والأنبياء والأولياء، مع قولهم: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [سورة يونس، الآية: 18]. هذا أمرٌ محكمٌ بَيِّنٌ لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يخالف كلام الله -عز وجل-.
وهذا جواب جيد سديد، ولكن لا يفهمه إلا مَنْ وفقه الله -تعالى-، فلا تستهن به؛ فإنه كما قال تعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت، الآية: 35] . أمثلة لردود القرآن المجملة على المعاندين:
هذا جوابٌ عظيم، مجمل، يستطيع كل إنسان أن يرد به على أي مشرك - لو كان عنده علم، جواب مجملٌ، والجواب يعتمد على الآية - آية آل عمران - وهو قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ .
فالله -عز وجل- أخبر في كتابه العظيم أنه أنزل الكتاب، وإن الكتاب منه آيات محكمات ومنه آيات متشابهات، وإن طريقة أهل الزيغ يأخذون المتشابه ويتعلقون به، ويتركون المحكم الواضح البيِّن المعنى في آيات واضحٌ معناها، فهذا فيه محكم وفيه متشابه، وهذا يعني أن هناك مشكلة، وهي أن أهل الحق يأخذون بالمحكم والنصوص المتشابه يردونها إلى محكم ويقيسونها ويفسرونها بالمحكم فيتضح المعنى، ويفسرون المتشابه المشكل فيردونه إلى محكم واضح المعنى فيتبيَّن بذلك ويزول الإِشكال.
مثال ذلك: إذا قال النصراني: الإِله ثلاثة الله ومريم وعيسى وأنتم في كتابكم دليل على أن الإِله ثلاثة، وهو قول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .
نحن هذا جمع، هذا دليلٌ على أن الآلهة متعددة. نحن الله ومريم وعيسى ! فنقول: أنت في قلبك زيغ تتعلق بالمتشابه وتترك المحكم، وأنا عندي آيات محكمات، فقول الله -تبارك وتعالى-: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وقال أيضًا: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي فهذه آيات محكمة، فأنا أرد المتشابه إليها.
يقول تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ نحن للواحد المعظم نفسه هذه معروفة في لغة العرب فأنا أرد الآية التي فيها متشابه، أي أردها إلى المحكم الواضح المعنى، وأفسرها؛ فيزول الاشتباه، ويزول الإشكال، لكن من في قلبه زيغ، يتعلق بالمتشابه ويترك المحكم الواضح، فكذلك هؤلاء.
فنقول لهؤلاء المشركين إذا جاء أحدهم وقال: الأولياء لهم جاه عند الله ولهم منزلة، قال الله تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فأخبر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقال: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: لهم ما يشاءون، أنا أطلب منهم أن يشفعون لي عند الله، وينقلون حوائجنا إلى الله، وأنا أعرف أنهم لا ينفعون ولا يضرون.
هذه آيات القرآن أمامك، لهم ما يشاءون، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ماذا تقول وأنت - مثلًا - إذا كنت عاميًا؟ تقول له: أنا عندي نصوص محكمة واضحة، وهو أن الله أخبر أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ .
ثم بيَّن الله -سبحانه وتعالى- أن كفرهم إنَّما هو بالتعلق بالصالحين وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ فقد سماهم الله كفرة وكذبه في هذا القول.
وقال: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ .
فهذه نصوص محكمة بيَّن الله أن المشركين يقرُّون بتوحيد الربوبية، وأن شركهم وكفرهم بسبب التعلق بالصالحين أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ .
منهم من يعبد المسيح ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يتعلق بالملائكة ويقول: إن هؤلاء كانوا يعبدون الله !.
هذه نصوص واضحة دلَّت على أن الكفار يقرُّون بتوحيد الربوبية، وشركهم بتعلقهم بالصالحين ودعائهم من دون الله، وطلبهم الشفاعة، وطلبهم الزلفى والقربى منهم.
أما النصوص التي ذكرتها أنت ما أدري ما معناها، لا أعرف معناها، لكن أجزم بأن كلام الله لا يتناقض.
كلام الله لا يتناقض، وهذه نصوص واضحة أن كفر المشركين بسبب تعلقهم بالصالحين والآيات التي أتيتَ بها لا أعرف معناها، لكن أجزم بأن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا ينافي كلام الله، وأن الذين في قلوبهم زيغ يتعلقون بالمتشابه، فلماذا تتعلق أنت بالمتشابه وتترك المحكم؟
النصوص التي جئت بها والتي استدللت بها، هذا دليل على أن في قلبك زيغ عن النصوص المحكمة التي معي، وفسِّر بها النصوص التي اشتبهت عليك حتى تكون من أهل العلم
أما أن تأخذ نصوصًا متشابهة يشكل معناها، وتترك النصوص الواضحة المعنى، فهذا دليل على أن في قلبك زيغ؛ لأننا عندنا نصوص محكمة تدل على شرك من تعلق بغير الله، وأن الكفار - كفار قريش - ما كفروا إلا بهذا، وإن كانوا يقرون بتوحيد الربوبية.
أما النصوص التي أتيت بها تبين فيها أن الصالحين لهم جاه؟ أنا لا أنكر هذه الآيات، ولكن أنا أقول على الرأس والعين، لكن لا أعرف معناها، لكني أجزم جزمًا قاطعًا بأن النصوص لا تتناقض ولا ينافي بعضها بعضًا، بل يوافق بعضها بعضًا.
وكلام الله لا يتناقض، وكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يتنافى كلام الله.
هذا جوابٌ مُسكتٌ، هذا جواب إجمالي، وسيأتي جواب تفصيلي واضح.
هذا كما قال المؤلف - رحمه الله -: هذا جواب سديد نافذ لا تتهاون به، ولا تتستهن به، لكن ليس كل أحد يوفق له، لا يوفق له إلا أهل البصر وأهل البصيرة، وأهل الحظ العظيم وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .
(1/2)
أمثلة لردود القرآن المفصلة على شبه المعاندين
وأما الجواب المفصل:
فإنَّ أعداء الله لهم إعراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه، منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه نفعًا وضرًا، فضلًا عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم فجاوبهم بما تقدَّم، وهو أن الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرون بما ذكرت، ومقرون أن أوثانهم لا تدبر شيئًا؛ وإنما أرادوا الجاه والشفاعة. واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه......
فبعد أن نقف على الجواب المفصل، نريد أن نسأل عن المباحث التي مرَّت بنا.
وبشكل آخر: ما معنى كلمة " لا إله إلا الله " ؟.
معنى هذه الكلمة: أن لا إله إلا الله ومعبود حقًا إلا الله، فالإله معناه المعبود.
إذًا الإله هو الذي يقصد التعلق بالدعاء، والذبح، والنذر، والرهبة، والرغبة. ويسميه بعض الناس السيد بقصد طيب.
كثيرٌ من الناس لا يعرفون معنى هذه الكلمة إلا مجرد حروف فقط، هل يفيد هذا؟ لا؛ لأن المقصود معناها وهو إخلاص العبادة لله -عز وجل-.
وهناك بعض الناس يفسِّرها بغير توحيد العبادة، بماذا يفسرها؟. يفسرونها بقول معنى لا إله إلا الله، لا خالق إلا الله.
ولكن أين وجه الخطأ في هذا التفسير؟ فلو كان معناها لا خالق إلا الله؛ لحصل وفاق بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين ولم يحصل خصومة ولا نزاع بين الرسل وأممهم.
لو كان معناها: لا خالق إلا الله؛ لحصلت مصافة وموافقة للمشركين مع الرسل لكن الرسل والأنبياء خاصموا المشركين والكفار ؛ إذ أن بعض الناس في هذا الزمن لا يعرفون كلمة التوحيد، ولا يعرفون منها إلا مجرد التلفظ بالحروف، وبعضهم يفسرها بتوحيد الربوبية.
وهؤلاء يكون المشركون أعرف منهم بهذه الكلمة، وهذا من المصائب أن يكون كفار قريش أعرف بكلمة التوحيد من بعض الناس الذين ينتسبون إلى الإسلام. كيف؟
الوثنيون يعرفون معنى هذه الكلمة، وهذا مسلم ينتسب إلى الإسلام ولا يعرف إلا مجرد الحروف، أو يفسرها بتوحيد الربوبية فقط.
وهناك بعض الناس يقولون هذه الكلمة ولكنهم يقعون في الشرك، قد يكونوا جهلة، قد يكون جاهلًا ولا يعذر بجهله، وقد يفعل الشرك ويظن أنه يقربه إلى الله، وقد يتكلم بكلمة جاهلًا أو ساخرًا مثل قصة الذين تكلَّمُوا في غزوة تبوك بكلمات يريدون أن يقطعوا بها عنهم الطريق، فأنزل الله كفرهم من سبع سماوات، فقال -سبحانه-: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
وبعض الناس يفعل الشرك ويظنُّ أنه يقربه إلى الله، وبعض الناس في هذا الزمان يسأل الموتى قضاء الحوائجَ والمدد وتفريج الكربات، يذبح لهم، وينذر لهم، ويظن أن هذا يقربه إلى الله، يظن أن هذا محبةً للصالحين، ومحبة الصالحين والتوسل بهم والشفاعة شرك يفعل الشرك الأكبر الذي هو أعظم الذنوب ولا يُغْفَر، وصاحبه مُخلدٌ في النار لو مات عليه، يفعله وهو يظن أنه يقربه إلى الله.
ولهذا يقول المؤلف - رحمه الله -: " يفيد الموحد الذي رزقه الله توحيده، ومنَّ الله عليه بتوحيده، ووفقه لتوحيده وإخلاص الدين له، يفيده فائدتين، منهما الفائدة الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، الفرح بتوفيقه حيث وفقك الله ومنَّ عليك بتوحيده والإيمان به وإخلاص العبادة له، ولو شاء لكنت مثلهم ".
فعليك أن تفرح وتغتبط بفضل الله وبرحمته، ومع ذلك نسأل الله الثبات والاستقامة على دينه.
وهذا الفرح فرحٌ محمود، وهو الفرح بفضل الله وبرحمته قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ .
فالفرح على التوفيق للإِيمان والإِسلام، الفرح بتعلم القرآن، وتعلم العلم، وهذا مطلوب، وهو الفرح بفضل الله ورحمته.
هناك فرحٌ آخر مذمومٌ، وهو فرح الأشر والبطر، وفرح أهل الكبر وأهل الشرك قال الله تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ .
ففرح المتكبرين، وفرح الأشر، والبطر، ومن ذلك الفرح، فرح قارون الذي نصحه قومه إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ هذا فرح الأشر والبطر.
ما هي الفائدة الثانية؟
الخوف العظيم، أي: أن يخاف الإِنسان على أن يقع في الشرك وهو لا يشعر، لكن هؤلاء الذين وقعوا في الشرك لهم عقول ولهم أفهام، ومع ذلك وقعوا في الشرك !. فعلى العبد أن يخاف على نفسه؛ إذ أن هذا الخوف يدعوك إلى لزوم الصراط المستقيم، وسؤال الله الثبات على دينه، والاستقامة عليه، والبحث والحذر من الشرك، قال ابن كثير ( والبحث والتفتيش والتنقيب عن الشرك وذرائعه ووسائله حتى تحذره، وحتى لا تقع فيه ).
لهذا قال حذيفة - رضي الله عنه - كما في الصحيحين: كان الناس يسألون الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وأسأله عن الشر مخافة أن يدركني .
وقال الله -تعالى- عن إبراهيم الخليل - عليه السلام - الذي جعله الله أمة واحدة: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ .
فإذا كان إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مقامه العظيم وهو سيد الأنبياء وسيد الحنفاء، ووالد الأنبياء - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - يسأل ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام ! رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فكيف بغيره ! ! !.
إذًا، فالإِنسان يسأل ربه الثبات والاستقامة ولزوم الحق، ولزوم الصراط المستقيم، ويعض عليه بنواجذه، ويحذر من الشرك وذرائعه ووسائله، ويسأل عنها ويبحث عنها؛ حتى لا يقع في الشرك وهو لا يشعر.
فالمؤلف - رحمه الله - يقول: أن من حكمة الله أنه ما بعث نبي إلا وجعل له أعداء من شياطين الإِنس والجن ما الدليل؟. والدليل على أن الأنبياء لهم أعداء من شياطين الإِنس والجن قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ .
أي أن كل نبي أو رسول له أعداء يقفون لدعوته بالمرصاد من شياطين الجن وشياطين الإِنس يتعاونون، يعاون بعضهم بعضًا ليوحي بعضهم بعضًا زخرف القول غرورًا، وكذلك الدعاة وهو أتباع الرسل لهم أعداء يقفون في طريق دعوتهم ويصدون الناس عنها.
والعلماء والدعاة والمصلحون هم ورثة الأنبياء فلهم أعداء كما أن للأنبياء أعداء يقفون حجر عثرة في طريق الدعوة.
إذًا، لا بد من الصبر والتحمّل، ولا بد من أخذ السلاح والعدَّة، والسلاح هو العلم، ومع التسلح بسلاح العلم لا بد من صبر الداعية المصلح العالم.
وكذلك الأنبياء أمرهم الله بالصبر، فقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما تكلم الرجل لما قسّم النبي -صلى الله عليه وسلم- قسمة في حنين قال رجل: اعدل ، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ! تغير وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: رحم الله موسى لقد أوذي كثيرا فصبر .
وقال الله في كتابه العظيم: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .
فلا بدَّ من الصبر، فلا يستطيع إنسان أن يقوم بالدعوة حتى يصبر، كما أنه لا يستطيع أن يؤدي الواجبات ويبتعد عن المحرمات إلا بالصبر.
وكذلك أيضًا الدعوة لا بد لها من صبر، فطريق الدعوة وطريق الجنة طريق السعادة ليس مفروشًا بالورود، لكن أمامه عقبات وشدائد، لا بد من التحمل والصبر، والعاقبة بعد ذلك للمتقين، تكون للأنبياء وأتباعهم، وإن أصابهم في أول أمرهم شدة.
ولهذا قال هرقل ملك الروم لما سأل أبا سفيان عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذكر له أن الحرب سجال بينهم وبينه، ينالوا منه وينال منهم، قال: "وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة" لأنه قرأ في الكتب السماوية السابقة، لأنه كان نصرانيًا يقرأ في الإِنجيل، وفي التوراة. قال: " كذلك الرسل تُبتلى " يعني في أول الأمر، ثم تكون لهم العاقبة والله -سبحانه- يقول: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ .
فلا بد من الصبر والتحمل في أول الأمر على الشدائد، وكذلك طلب العلم يحتاج إلى صبر وتحمل، ثم بعد ذلك يذوق الإنسان حلاوة العلم، لكن في وقت الطلب لا بد من الصبر والتحمل وسهر الليالي والصبر على مزاحمة والجثو على الركب أمام العلماء وقراءة كتب العلماء والتواضع لأهل العلم حتى يستفيد منهم، والتخلق بخلق العلم والتأدب بآدابه.
ولا بد الصبر على الشدة في أول الأمر، لهذا قال العلماء لا بد لطلب العلم من صبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب. يتشبه بهذه الدواب، فمن لا يصبر لا يحصل على العلم، لا بد من الصبر.
فكثير من الشباب يحبون الخير، وعندهم استقامة، لكن لا يوجد عندهم صبر لطلب العلم، ولا على حضور الحلقات، وإن كانت الحلقات ليست كحلقات العلماء السابقين كانت الدروس مستمرة ليل نهار، بعد الفجر درس، بعد الظهر درس، وبعد العصر درس، وبعد المغرب درس، وبعد العشاء درس. فالدروس مستمرة.
أما عندنا دروس أسبوعية -تذوق- ومع ذلك تجد الطلبة هذا يحضر أسبوعًا، والأسبوع الثاني لا يحضر، يحضر أسبوعًا، وأسبوعان لا يحضر، ويحضر شهرًا، وشهران لا يحضر.
لا يحصل طلب العلم بهذا، لا بد من الصبر والاستمرار والثبات؛ فقد ذكر المؤلف - رحمه الله - أن أهل الشرك قد يكون لهم علوم، عندهم علوم !.
فلا بد لطالب العلم أن يتسلح بسلاح العلم حتى يقابل شبههم بسلاح العلم، ويقابل شبههم بدفع هذه الشُّبَه التي يروجونها، ويدحرها حتى تزول ولا تقف في طريق الدعوة، ولا في طريق العلم الصحيح.
وذكر المؤلف - رحمه الله - في الشبه أن المشركين قد يوردون على المسلم شبهًا، وعلى الموحِّد شبهًا، وقد لا يكون هذا المسلم الموحد، وقد لا يكون طالبَ علم، ولكن موحِّدٌ ليس عنده من العلم ما يرد على هؤلاء، لكن هناك جواب سديد ذكره المؤلف - رحمه الله -: نريد إيراد الشبهة التي يوردها بعض الناس على بعض طلبة العلم، يقول الوثني أو المشرك أن الصالحين لهم جاه عند الله، وأخبر الله أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وقال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ .
فأنا أطلب من الصالحين مما أعطاهم الله، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أنا أطلب منهم أن يقربوني إلى الله، وأن يشفعوا لي عنده، وأنا أعرف أنهم لا يخلقون ولا يرزقون. ويأتي بهذه الآيات، ويقول: هذه الآيات تدل على أنه لا بأس بتوسله بهم، ودعائهم، وقد لا يكون الإِنسان عنده استطاعة على الرد.
وذكر المؤلف - رحمه الله - جوابًا إجماليًا، ما هو الجواب الإِجمالي الذي قاله؟ قال: إنه جواب سديد، إنه لا يوفق له إلا ذو حظ عظيم وقد أُوتِي الصبر. فما هو هذا الجواب؟.
نقول: إن الله -تعالى- أخبر في كتابه أنه أنزل الكتاب منه آيات محكمات، ومنه آيات متشابهات كما قال تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فأم الكتاب أصل المحكم، والآيات المحكمات: الواضحات المعنى التي لا إشكال فيها، وأُخرُ متشابهات هي التي يشكل معناها، فقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ .
فأخبر الله أن أهل الزيغ يتعلقون بالنصوص المتشابهة، ويتركون النصوص المحكمة الواضحة؛ فأنت ذكرت لي آيات نصوص على العين والرأس، لكن أنا لا أدري ما معناها، لكن الله أخبر في الكتاب العظيم أن المشركين يُقرُّون بتوحيد الربوبية. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ .
وهذا واضح، ونصوص واضحة بأن الكفار يقرون بتوحيد الربوبية.
كذلك ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه أن شركهم كان بطلب الشفاعة، وبطلب القربى والجاه، فقال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ .
فهذه آيات محكمات واضحة بيِّنة، لا لبس فيها ولا إشكال، أن الكفار يقرون بتوحيد الربوبية، وأنهم يدعون الصالحين يطلبون منهم الزلفى والقربى والشفاعة.
هذه آيات لا إشكال فيها ولا في معناها، أما ما ذكرت من الآيات فإني لا أعرف معناها، لكن أنا أجزم أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يناقض كلام الله.
هذا جوابٌ سديدٌ؛ فالآيات التي أوردتها تستدل بها على أنه يجوز التعلق بصالحين، هذا ليس بصحيح؛ لأنَّ عندنا آيات نصوص محكمة واضحة تدلُّ على أن المشركين يشركون بها، وأنهم أقرُّوا بتوحيد الربوبية، فأجزم بها، وهذه آيات محكمات، نصوص محكمة، لا إشكال فيها.
أما الآيات التي ذكرتها لا أعرف معناها، ولكن أجزم أنها لا تناقض الآيات المحكمة التي ذكرتها لك، بل توافقها، وإلا لزم التناقض في كلام الله، والله كلامه منزهٌ عن التناقض، كما أنها لا تنافي أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
هذا جوابٌ سديد، فضع كل ما أتيت من نصوص يريد بها أن يثبت أنه يجوز التعلق بصالحين وسؤال قضاء الحاجيات وتفريج الكربات.
نقول: لا. قف عند حدِّك؛ عندي نصوص محكمة تبين أن شرك المشركين بهذا، وأنهم يقرون بتوحيد الربوبية، فلا يمكن أن تكون النصوص التي أتيت بها تناقض هذه النصوص، بل لا بد وأن توافقها؛ لأن كلام الله يوافق بعضه بعضًا.
هذا جوابٌ سديدٌ نافع لكل أحد من العوام لكن لا بد أن يكون معه شيء من العلم، يعرف آية (آل عمران) بأن الله أنزل الكتاب منه الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، ويعرف الآيات التي أقرَّ بها المشركين توحيد الربوبية، والآيات التي ينافيها المشركون أنهم عندما دعوا الصالحين قصدوا القربى والزلفى والشفاعة.
هذه تكون عنده يفهمها، وتكون له أصل، فإذا اشتبه على الموحد شيء من كلام المشرك يقول له: قف عند حدك، أنا عندي شيء ثابت واضح المعنى، ولا يمكن أن ينقض كلام الله بعضه بعضًا.
(1/2)
شبهة المعاندين في التلفظ بكلمة التوحيد
فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين من الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصنامًا؟.
فجاوبه بما تقدَّم، فإنه إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر، فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [سورة الإسراء، الآية: 57].
ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة المائدة، الآيتان: 75، 76].
واذكر قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سورة سبأ، الآيتان: 40، 41].
وقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [سورة المائدة، الآية: 116]. فقل له: عرفت أن الله كفَّر مَنْ قَصَد الأصنام، وكفَّر أيضًا مَنْ قَصَد الصالحين وقاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
هذه الشبهة الأولى، قالوا الجواب المفصل إذا قال: أعترف وأقرُّ بأنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا ينفع إلا الله، ولا يضر إلا الله، ويقرُّ بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلًا عن علمك لغيره، فضلًا عن عبد القادر الجيلاني أو غيره ممن كانوا يعبدون.
عبد القادر الجيلاني أو فلان أو علان، هذا اعتراف أن الرسول لا يملك لأحدٍ نفعًا ولا ضرًا، وغيرهم من باب أولى، فمن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا لكنه قال أنا مذنب، والصالحون لهم جاهٌ، وأنا أطلب من الله بهم، أطلب من الله: يتوسل بهم يقربوني إلى الله، وينقلون حوائجي إلى الله، ويشفعون لي.
لكن هذا ما أعتقد أن غير الله خالق، لا أعتقد أن يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا ينفع إلا الله، ولا يضر إلا الله، وأعتقد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، وغيرهم من باب أولى.
فعبد القادر الجيلاني من باب أولى - عبد القادر الجيلاني أو سيد البدوي أو السيد الدسوقي أو نفيسة أو زينب - ولا هؤلاء ولا غيرهم يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا؛ لكن الصالحون لهم جاه عند الله، وأنا مذنب، فهم أقرب مني إلى الله، فأنا الآن أتوسل بهم أطلب منهم أن يقربوني إلى الله ويشفعونَ لي عنده. فقل له: حالك وحال المشركين واحد. فالمشركين الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكفَّرهم واستحلَّ دماءهم وأموالهم يعتقدون أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، ولا ينفع إلا الله، ولا يضر إلا الله، ويعتقدون أن أوثانهم لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا؛ وإنَّما يطلبون منها القربى والشفاعة فقط.
هذه حال المشركين واقرأ عليهم قول الله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ .
واقرأ الآيات، اقرأ عليهم قول الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .
إذن ماذا يطلبون؟ يطلبون منهم القربى إلى الله، ويطلبون الشفيع. ماذا قالوا؟ هل قالوا إنهم يخلقون؟ وماذا قالوا؟ هل قالوا إنهم يرزقون، ولا قالوا إنهم يضرون، ولا قالوا إنهم ينفعون... فهذه هي حالك حال المشركين فبطلت هذه الشبهة.
الشبهة الثانية وجوابها:
وإن قال إن هذه الآيات التي في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ إنَّما هي في عبادة الأصنام والأوثان. وأنا ما أعبد الأصنام والأوثان حتى تجعلني مثلهم.
هذه الآيات وهذه النصوص نزلت في عُبَّاد الأصنام والأوثان الذين يعبدون اللات والعزى، وأنا أتوسل بالصالحين أطلب من الصالحين ما أتوسل بالأصنام والأوثان !. كيف تجعل الصالحين مثل الأصنام والأوثان؟ وكيف تجعلني مثل عبَّاد الأصنام والأوثان؟!
أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولا أعبد الأصنام، ولا أدعو الأصنام والأوثان، وإنَّما أطلب من الصالحين فقط الزلفى؛ لأنني مذنب، وأنا أطلب من الصالحين بل أطلب من الله بهم، أتوسل بهم فقط، ينقلوا حوائجي إلى الله، ويقربوني إلى الله.
فهذه الآيات التي قلتُ نزلت في عباد الأصنام والأوثان، فكيف تجعلني كعباد الأصنام والأوثان وأنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وكيف تجعل الصالح مثل الأصنام والأوثان؟ ما الجواب؟.
الجواب: أن الكفار في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادتهم متنوعة، وليس كلهم يعبدون الأصنام والأوثان فقط، بل منهم من يعبد الأصنام والأوثان، ومنهم من يعبد الأنبياء ومنهم من يعبد الصالحين ومنهم من يعبد الملائكة وكلهم قصدهم مثل قصدك، يقصدون التقرب منهم والتوسل بهم والزُّلفَى والشفاعة.
واقرأ عليه الآيات، واقرأ عليه قول الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ .
لقد بيَّن الله أن الذين يدعونهم أو يعبدونهم من دون الله هو يبتغون الوسيلة إلى الله، يطلبون القُرْبَى إليه، فهم إذًا عباد صالحون يعبدون الله، ويطلبون القربى إليه من الملائكة والأنبياء وغيرهم.
واقرأ قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ .
هذا عيسى نبيٌّ، وهذه أمه صِدِّيقةٌ، وقد عُبِدا من دون الله، وليسوا أصنامًا؛ ولهذا قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .
وكذلك الملائكة عُبِدُوا، وهم ليسوا أصنامًا وأوثانًا وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ .
فتقول له: أعرفت أن الله كفَّر عبَّاد الأصنام وعبَّاد الصالحين، وعرفت أن الآيات نزلت في عبَّاد الأصنام وفي عُبَّاد الصالحين؟ !.
فالمشركون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادتهم متنوعة: منهم من يعبد اللات، ومنهم من يعبد العزى، ومنهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد المسيح - عليه السلام - وأمه، ومنهم من يعبد الصالحين والأولياء ومنهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد الحجر... عبادات متنوعة، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حكم عليهم جميعهم بحكمٍ واحدٍ، وهو أنهم كفَّار جميعًا، وأحلَّ دماءهم وأموالهم، واعتبرهم مشركين، وبهذه تبطل هذه الشبهة وتزول.
إذًا، ما الفرق بين الشبهتين؟
أنا أعترف بأن الله هو الخالق الرازق النافع الضار المدبر، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لغيره - فضلًا عن نفسه - نفعًا ولا ضرًا. أنا أطلب الله بهم، أدعو الله، ولا أدعو الصالحين لكن أن أطلب من الله بهم، أيتوسل بهم، بل يدعو الصالح يدعوهم، يريد منهم الزلفى والقربى والشفاعة.
والجواب: هو أن يقال: إنَّ مقالتك مقالة الذين قاتلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- سواءً بسواءٍ، فالمشركون يطلبون القربى والشفاعة.
فالشبهة الثانية كأنها اعتراض على جواب الشبهة الأولى، وأنا ما أعبد الأصنام والأوثان، وأنا أطلب من الصالحين فالصالحين لهم جاه.
والجواب: إن منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد اللات والعزى، ومنهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الأنبياء
واقرأ عليه النصوص التي فيها بيان أن منهم من عبد الأنبياء ومنهم من عبد الصالحين ومنهم من عبد الأشجار والأحجار.
(1/2)
شبهة عدم رجاء النفع والضر من الصالحين
فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضارّ لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء؛ ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.
فالجواب: أن هذا قول الكافر سواء بسواء، فاقرأ عليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [سورة الزمر، الآية: 3 ]. وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [سورة يونس، الآية: 18 ].
وعلم أن هذه الشُّبَه الثلاث: هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا، فما بعدها أيسر منها، فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة، فقل له: أنت تُقرّ أن الله افترض عليك إخلاص العبادة، وهو حقه عليك؟. فإذا قال: نعم !. فقل له: بَيِّنْ لي هذا الذي فرضه الله عليك، وهو إخلاص العبادة لله وحده، وهو حقه عليك؛ فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها.
فبينها له بقولك: قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [سورة الأعراف، الآية: 55]. فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت هذا عبادة لله؟. فلا بد أن يقول: نعم. والدعاء مخ العبادة، فقل له: إذا أقررت أنها عبادة لله ودعوت الله ليلًا ونهارًا، خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًّا أو غيره، هل أشركت في عبادة الله غيره؟. فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [سورة الكوثر، الآية: 2 ]. وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة، فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: فإن نحرت لمخلوق، نبي، أو جني، أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يُقرَّ، ويقول: نعم.
وقل له أيضًا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟. فلا بد أن يقول: نعم. فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء، والذبح، والالتجاء، ونحو ذلك؟. وإلا فهم مقرُّونَ أنهم عبيده وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبِّر الأمر، ولكن دعوهم والتجئوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدًا.
( فإن قال ): أتنكر شفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو -صلى الله عليه وسلم- الشافع والمُشَفَّع، وأرجو شفاعته، لكن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [سورة الزمر، الآية: 44 ].
ولا تكون إلا من بعد إذن الله، كما قال -عز وجل-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [سورة البقرة، الآية: 255 ]. ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه، كما قال -عز وجل-: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [سورة الأنبياء، الآية: 28 ]. وهو -سبحانه- لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران، الآية: 85 ].
فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه ولا يشفع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا غيره في أحدٍ حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن الله -تعالى- إلا لأهل التوحيد تبيَّن لك أنَّ الشفاعة كلها لله، وأطلبها منه فأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفِّعْهُ فيّ، وأمثال هذا.
الشبهة الثالثة:
يقول: أنا أعترف بقول الكفار السابقين، يريدون في معبودهم النفع والضر، ويريدون منهم أن ينفعوهم أو يضروهم، وأنا لا أريد من الصالحين أن ينفعوني أو يضروني، إنَّما أعتقد أن النافع والضار هو الله، لكن أريد من الصالحين الشفاعة فقط، الشفاعة والقربى فقط؛ لأنهم هم أقرب مني إلى الله، لهم جاه ومنزلة عند الله، فهم ينقلون حوائجي إلى الله، يقربوني إلى الله، فأنا لا أعتقد أنهم ينفعوني أو يضروني، لكن الكفار السابقين يريدون منهم النفع والضر، أما أنا ما أريد منهم النفع والضر، أعرف بأنهم لا ينفعون ولا يضرون، لكن أريد منهم الشفاعة والقربى فقط.
والجواب: نقول إن مقالتك هي مقالة المشركين السابقين سواء بسواء، فالسابقون الكفار لا يريدون منهم النفع والضر، ولا يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو يدبرون، فاقرأ عليهم الآيات وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ .
إذًا، هو يعتقدون أن الله يدبِّر الأمر، وهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي ويميت، ولكن يطلبون منهم الشفاعة والقربى، واقرأ عليهم الآيات: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ إذًا، يطلبون الشفاعة.
والآيات الأخرى وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
ملخص للشبه الثلاث:
هذه الشُّبَه الثلاث يقول المؤلف - رحمه الله - هذه من أعظم الشُّبَه، فإذا فهمتها جيدًا فما بعدها أيسر منها. إذا نريد اختصار الشبه الثلاث لأنه فيه بعض التشابه بينها.
والشبهة الأولى يقرّ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن غيره من باب أولى، لكن أنا مذنب.
والجواب على هذه الشبهة: أن ما كان المشركين لا يريدون إلا القربى والشفاعة بنص القرآن، ولا يعتقدون أنهم يخلقون أو يرزقون أو ينفعون أو يضرون.
الشبهة الثانية كيف تجعلنا مثل الكفار ؟ وهم لا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، فكيف تجعلنا مثل الكفار ونحن ندعو الصالحين ؟ وهم يدعون الأصنام فكيف تجعل الصالحين مثل الأصنام؟.
الجواب: الكفار عبادتهم متنوعة، منهم من يعبد الأصنام - كما ذكرت -، ومنهم من يعبد الصالحين ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار، ومنهم من يعبد الملائكة فاقرأ عليه الآيات.
الشبهة الثالثة: تقول مقالتك مقالة المشركين سواءً بسواءٍ، أنت تقول نريد منهم القربى والجاه، هم المشركون يريدون القربى والجاه والشفاعة فقط؟ وتقرأ عليه الآيات.
أن المشركين السابقين كانوا يعتقدون أنهم لا يطلبون منهم النفع والضر كما زعمت، بل يطلبون القربى والشفاعة كما طلبت، فقولك مثل مقالتهم سواءً بسواءٍ، واقرأ عليه الآيات.
هذه الشبه الثلاث: الشبهة الأولى: أعتقد أن الله هو الخالق النافع الضار، وأنا مذنب، والصالحون لهم جاه، أنا أريد الجاه فقط، أريد الشفاعة، أريد القربى، هذه الشبهة أوضح؛ حيث صرَّح بأن الكفار السابقين يريدون منهم النفع والضر، وفيه تقع كل الشُّبَه الثلاث متقاربة.
فالشبهة الأولى لا نعرف هل السابقين يريدون النفع والضر، ولكن تحدَّث عن نفسه وقال: أنا لا أعتقد أنهم يخلقون ولا يرزقون ولا ينفعون ولا يضرون.
الشبهة الثالثة قال: إن الكفار يدعونهم؛ لأنهم يطلبون منهم النفع والضر.
أما الشبهة الأولى: ما قال أن يطلبون منهم فقط، بل قال: أنا أعتقد أنهم لا ينفعون أو يضرون؛ إنما أطلب الشفاعة والجاه.
وأما الشبهة الثانية: قال: إن هذه الآيات في عبادة الأصنام، كيف تجعل الصالحين مثل الأصنام؟ وأنا أدعو الصالحين
وأما الشبهة الثالثة: قال: إن السابقين يطلبون منهم النفع والضر، وأنا لا أطلب النفع ولا الضرّ.
وقال المؤلف - رحمه الله -: " واعلم أن الشُّبَه الثلاث هي أكبر ما عندهم " هذه الشُّبَه واضحة، وهو أن يقول: أنا لا أعبد إلا الله وهذه الشبهة الرابعة. فيقول المشرك: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعائهم وطلب الشفاعة منهم ليس عبادة، أنا أعبد الله، أنا لست بمشرك، لا أعبد إلا الله، لكن دعاء الصالحين والتوجه إليهم ليس عبادة، هنا ليس بعبادة، لكن محبة للصالحين وتوسل وتشفع وليس بعبادة، أما أنا فأعبد الله وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأصلي وأصوم وأحج، وأنا أتبرأ من الشرك، ما أعبد إلا الله، هذا الالتجاء للصالحين ليس بشرك.
والجواب عن هذه الشبهة: أن تقول أن الله -تعالى- فرض عليك العبادة، بل فرضها على الثَّقلين - الجن والإِنس - قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وهو حقه عليك. أتعرف بهذا؟. نعم !. الله فرض عليَّ أن أعبده، أنا ما أعبد إلا الله، فرض عليَّ عبادته، وفرضها على الإنسان والجن كذلك، يقولون: ما هذه العبادة التي فرضها عليك؟ أتظن أن الله يوجبها، ولا يبينها؟ يوجب على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولا يبين هذه العبادة ما هي؟ لا يمكن؟.
بل هذا لا بد أن يبين هذا الأمر الذي أوجبه الله على العباد أعظم من بيان الصلاة والزكاة والصيام والحج وإخلاص العباد لله. فقل: بيِّن لي هذا الأمر الذي أوجبه الله على العباد؟
فلا يعرف !. فتقرأ عليه قول الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وكذلك: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ فسمَّى الله الدعاء عبادة.
وكذلك: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ و ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ادعوا: أمر بالدعاء، و، وكذلك: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ فقلت له: عرفت أن الله سمَّى الدعاء عبادة، بل مخ العبادة، فيقول: نعم !. لا بد ان يعترف ويلتزم بالنصوص القرآنية، فقل له: إذا دعوت الله ليلًا ونهارًا، خوفًا وطمعًا، ثم بعد ذلك دعوت أحيانًا عبد القادر الجيلاني وقلت: يا عبد القادر الجيلاني اضني، أو يا سيدي مدد، أو يا سيدي الدسوقي أو يا سيدة نفيسة أو يا إبراهيم أو يا عبد القادر الجيلاني أو غيرهم، أو يا رسول الله، أو يا سيدي رسول الله أغثني، فرِّجْ عني كربتي، صرفت الدعاء لغير الله، لم لا؟. فيقول: نعم. فتقول: إنك وقعت بما تقول في الشرك، لو كنت تدعو الله ليلًا ونهارًا، خوفًا وطمعًا؛ لأنه وقع في أعمال الشرك، وقل له: يقول الله -سبحانه وتعالى-: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ .
هذا أمر بأن تصلي لله وتنحر، أي: تذبح لله، فإذا ذبحت لعبد القادر الجيلاني تقربي إليه ذبحت خروفًا أو عجلًا أو دجاجةً أو بعيرًا سواء ذبحت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو ذبحت لعبد القادر الجيلاني وللبدوي وللحسين أو لنجم، أو للقمر، أو للشمس، وقعت في الشرك، أي أشركت بالله؛ لأن الله يقول: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ .
وقل له: وهل شرك المشركين إلا بالالتجاء إلى الصالحين ودعائهم، فالله -تعالى- أخبر بأنهم يدعون الصالحين أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ يعني: هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله وتعبدونهم، هم يطلبون القربى إلى الله بطاعته؛ لأنهم أنبياء وصالحين أولئك الذين يدعونهم من دون الله.
يبتغون - يعني -: هو يبتغون الوسيلة لربهم، يبتغون القربى إليه بطاعته أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، فأنتم تدعون، فهم يدعون قومًا يطلبون القربى إلى الله ويدعون الله ويخافونه ويرجونه، وقالت الملائكة وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ أنت وليُّنا من دونهم أنهم كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون.
وقال -سبحانه-: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ .
وقال -سبحانه-: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ .
يعني: كيف يعبدون المسيح ومريم وهم بشران يحتاجان إلى الطعام، فالمعبود لا بد أن يكون كاملًا لا يحتاج إلى أحد، ولا يحتاج إلى شيء، فهو كامل يوصل النفع إلى عباده، والمسيح وأمه يحتاجون إلى الطعام، فالذي يحتاج إلى الطعام بشر، والذي يحتاج إلى الطعام إذا ترك الطعام مات، هذا ما يصلح للألوهية ولا للعبادة، فكَوْن عيسى وأمه يأكلان الطعام دليلٌ على بشريتهما ونقصهما وعدم استحقاقهما للعبادة.
الذي يحتاج إلى الطعام ما يصلح للعبادة، بل هو بشر ضعيف ناقص، إنما الإله المعبود لا يحتاج إلى شيء؛ لأنه القائم بنفسه، المديم لغيره قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ .
فهو صمدٌ في نفسه، وتصمد إليه الخلائق بحوائجها، فلا يحتاج إلى أحد اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .
فهو القائم بنفسه المقيم لغيره، قامت المسوات والأرض -بل قام هذا الكون كله وهذا الخلق كله، قام بالله، ليس له قيام إلا بالله -سبحانه وتعالى-، فهو المستحق للعبادة وغيره لا يستحق شيء.
فعيسى وأمه بشران يحتاجان إلى الطعام، وإذا فُقد الطعام ماتا، فكيف يصلحان إلى العبادة؟ !.
هذا واضح أن هذه الشبهة فيها بيان أن المشرك يقول: أنا ما أعبد إلا الله، وينكر أن يكون دعاؤه لصالحين عبادة يقول: بيِّن لي العبادة.
العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، كل ما أمر به الشرع، أو نهى عنه الشرع، تفعل الأوامر، وتترك النواهي، تعبدًا لله.
فالدعاء عبادة، والرغبة عبادة، والرهبة عبادة، والخوف عبادة، والرجاء عبادة، وأعمال القلوب والصدق والمحبة، وكذلك أعمال الجوارح: الصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، وبر الوالدين عبادة، صلة الرحم عبادة، الإحسان إلى الناس عبادة. ترك المحرمات ابتغاء وجه الله:
كذلك المحرمات ! تتركها تعبدًا لله، تترك الزنا والسرقة وشرب الخمر والتعامل بالربا، تكفّ نفسك من التعدي على الناس بدمائهم وأموالهم وأعراضهم تعبدًا لله، هذه العبادة متنوعة، ومن أعظمها الدعاء، فهذا صرف شيء منها لغير الله، وقعت في الشرك؛ لأن العبادة التي خلقك الله لأجلها ما تعرفها أنت أيها المشرك حيث زعمت أن الالتجاء إلى الصالحين ليس في العبادة، بل هو مخ العبادة.
ولهذا جاء في الحديث أن الدعاء مخ العبادة وإن كان فيه ضعف، لكن الأصح منه: الدعاء هو العبادة ولذلك قال الله تعالى: فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ و وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ و وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا .
و وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ و وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .
فالنصوص كثيرة لا حَصْرَ لها؛ لأن الدعاء عبادة عظيمة من أعظم العبادات.
ما الشبهة: إنه يثبت لنفسه أنه يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، وينكر أن يكون التجاؤه إلى الصالحين أن دعاءهم عبادة، كما هو موحد، إلا أن عُبَّاد القبور الذين يعبدون القبور، لو جئت إليهم وقلت لهم: لا يجوز أن تدعوا غير الله، ولا يجوز لكم أن تذبحوا القبور. يقول لك: لا، هذه ما هي بعبادة، أما أنا لا أعبد إلا الله، وأصلي لله، وأصوم لله، يظن أن الدعاء ما هو بعبادة. العبادة: الصوم والصلاة فقط، أنا أقول: لا، أنا أقول: أنا أعبد الله، وهذا ما هو بعبادة كوني أدعوهم وأطلب منهم المدد، وأذبح لهم النذر، هذا توسل ومحبة للصالحين وتشفُّع، أنت ما تحب الصالحين أنت تبغض الصالحين هكذا ينفرون. التوحيد يأمر بحب الصالحين وليس عبادتهم:
فالذي ينهاه عن الشرك يقول: هذا يبغض الصالحين ولا يحب الصالحين ولا يعرف للصالحين حرمتهم ولا قدرهم. نحن نحب الصالحين ونعرف قدرهم، لكن لا ترفعهم فوق منزلتهم، لا نعبدهم مع الله.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق نعرف له حقه، نطيعه ونتَّبِعه ونحبه أعظم من محبتنا لأنفسنا وأهلينا، لكن لا نعبده؛ فالعبادة حق لله، فالله له حق العبادة والطاعة، والرسول حقه الطاعة والاتباع والتعظيم والمحبة، والصالحين حقهم الموالاة والدعاء لهم والاقتداء بأعمالهم الطيبة، لكن لا يعبدون من دون الله، لكن له حق. فكلٌّ له حق، والرسول -صلى الله عليه وسلم- له حق، والصالحين لهم حق.
فالله حقه العبادة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- حقه الطاعة والمحبة والاتباع والتعظيم، والصالحون حقهم الموالاة والمحبة والاقتداء بأعمالهم الصالحة. أما العبادة، فهي حق الله فقط، ولا يستحقها أحد غيره -سبحانه-.
فالله المعبود هو المعبود بحق ومعنى: " لا إله إلا الله ": لا معبود حقًا إلا الله. كل ما عُبِدَ من دون الله فهو بالباطل، كل ما عُبِدَ من دون الله تكون العبادة بالباطل، فأي معبود من دون الله يُعبد فهو باطل. فالشمس عُبِدَتْ بالباطل، والقمر عُبِدَ بالباطل، والشجر عُبِدَ بالباطل، والحجر عُبِدَ بالباطل، والملائكة عُبِدَتْ بالباطل. لا يستحقون العبادة، والصالح المعبود فالذي عبدَه عبده بالباطل، صرفوا لهم حق الله.
كذلك الأنبياء وكذلك غيرهم. قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ . ثبوت شفاعة النبي:
وقال الإمام - رحمه الله -: " فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... ". فهذه الشبهة واضحة، وهو أنَّ المشرك يقول: أنت أنكرت طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء الصالحين، أليس النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الشافع المُشَفَّع؟ أتنكر هذا؟ هل تنكر أنه يشفع لأناس يوم القيامة؟
فكيف تمنعني أن أطلب الشفاعة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأقول: يا رسول الله ! اشفع لي، معناها: أنك تنكر أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الشافع، وقد جاءت النصوص الصريحة الواضحة بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الشافع المُشَفَّع، في المَحْشَر، فقال الله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا .
فقل: لا أنكر تلك النصوص الصريحة، أنا لا أنكر شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو الشافع المشفع في المحشر - عليه الصلاة والسلام - وأرجو من الله شفاعته، لكن الشفاعة ملك لله -عز وجل- كما قال الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا .
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يشفع يوم القيامة حتى يأذن الله له، لا يشفع لأحد حتى يأذن الله له كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ .
فالشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود يوم القيامة، التي يغبطه عليه الأولون والآخرون، لا تكون إلا من بعد أن يأذن الله له، فإن الناس يعتريهم كرب وشدة عظيمة في موقف القيامة، وتدنو الشمس من الرءوس ويُزاد في حرارتها، ويموج الناس بعضهم في بعض كما ثبت في الحديث الصحيح: فإذا اشتد الكرب في الناس ذهبوا إلى آدم فيقولون: يا آدم ! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك الملائكة، وعلَّمك كل شيء، اشْفَعْ لنا عند ربك حتى نستريح مما نحن فيه.
فيعتذر آدم - عليه السلام -: إن ربي اليوم غضب غضبًا لم يغضب مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني أكلتُ من الشجرة، وإني نُهِيتُ عنها، نفسي نفسي. اذهبوا إلى غيري ! اذهبوا إلى غيري ! فاذهبوا إلى نوح - عليه السلام -؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
فيأتون نوحًا - عليه السلام - فيقولون: يا نوح ! أنت أول رسول بعثك الله إلى أهل الأرض وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا عند ربك حتى نستريح من هذا الموقف، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا؟
فيعتذر نوح - عليه السلام -، فيقول: لا أستطيع، لستُ لها، إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني لست أهلًا لذلك، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم - عليه السلام - ؛ إنه خليل الله.
فيذهبون إلى إبراهيم - عليه السلام - فيقولون: يا إبراهيم ! إنك خليل الرحمن، اتخذك الله خليلًا ! اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ما بلغنا؟
يقول إبراهيم - عليه السلام -: إني ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت في الإِسلام ثلاث كذبات، اذهبوا إلى غيري - اذهبوا إلى غيري - اذهبوا إلى موسى - عليه السلام -؛ فإنه كليم الرحمن.
- وهذه الكذبات إنَّما في الحقيقة تورية يجادل بهن عن دين الله، - ما هن بكذبات صريحة. انظر ! يعتذر يوم القيامة لما كسَّر الأصنام ووضع الفأس على الصنم الأكبر، قالوا له: من عمل هذا؟ قال: كبيرهم هذا يريهم أنها لا تنفع ولا تضر، ونظر إلى ضيوفه فقال: إني سقيم، يريهم ما هم عليه من تعبدهم للنجوم، وقال عن زوجته، لما مرَّ بمصر ملك ظالم الذي خشي أن يأخذوا زوجته، وقال: إنها أختي، وأراد أنها أخته في الإِسلام، وقال لها: أي سأقول إنكِ أختي فلا تكذبين؛ فأنتي أختي في الإسلام، ولا يوجد على وجه الأرض مؤمنًا غيري وغيركِ في ذلك الوقت، ما فيه مسلم غيور هذه الغيرة يعتذر يوم القيامة.-
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى ! أنت كليم الرحمن، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا؟
فيعتذر موسى -عليه الصلاة والسلام-: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلتُ نفسًا لم أُؤمر بقتلها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى - عليه السلام -؛ فإنه روح الله وكلمته.
- وهذه النفس التي قتلها القبطي الذي قتلته قبل النبوّة لما خرج ووجد رجلين يقتتلان، هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته -الذي هو من بني إسرائيل - على الذي هو من عدوه، على القبطي، فوكزه موسى - عليه السلام - فقضى عليه، وضربه القاضية قبل النبوة، ثم خرج إلى مدين هذا يعتذر يوم القيامة ! ! ! -
فيأتون عيسى - عليه السلام - فيقولون: يا عيسى ! أنت روح الله وكلمته، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما بلغنا؟
فيعتذر عيسى - عليه السلام - ولا يذكر ذنبًا إلا أنه يقول: اتُّخِذْتُ أنا وأميَ إلهين من دون الله، فلا أصلح إلى الشفاعة، لست أهلًا لها، إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه خاتم النبيين -هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم-.
فيقولون: يا محمد ! أنت خاتم النبيين، اشفع لنا عند ربك، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: " أنا لها أنا لها "، فيذهب فيصير تحت العرش فيفتح الله عليه المحامد، فيحمده في ذلك الموقف، فيفتح عليه من محامد الله والثناء عليه ما لا يحسنه وهو في دار الدنيا، ثم يأتي الإِذن من الرب -عز وجل-، فيقول الله: يا محمد ارفع رأسك، وسَلْ تُعْطَ، واشفعْ تُشَفَّعْ، فيشفع الله، يسأل الله أن يقضي بين العباد فيشفعه الله في الخلائق .
هذا هو المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون.
والشاهد أنه شفع أولًا حتى جاء الإِذن، وذلك لما قيل له: ارفع رأسك، وسَلْ تُعط، واشفعْ تُشَفَّعْ، وكذلك إذا شفع في أحد من أهل النار - عليه الصلاة والسلام - لا بد من الإِذن، فيأذن الله له، ولا بد من الرضا على المشفوع له، ولهذا يحدّ الله له حدًّا من هذا إلى هذا يشفع لهم ويخرجهم من النار، ولا يأذن الله لأحدٍ أن يخرج من النار إلا أهل التوحيد والإِخلاص، أما من مات من أهل الشرك، فهذا لا أمَلَ له في الشفاعة، كما قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ . شروط الشفاعة:
إذًا الشفاعة لا تكون إلا بشرطين: الشرط الأول: الإِذن من الله.
والشرط الثاني: الرضا عن المشفوع له، والله لا يرضى إلا عن أهل التوحيد والإِخلاص، فالكافر لا يرضى الله عنه، ولا يمكن أن يقدر أحد أن يشفع في الكافر، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
فإذا كانت الشفاعة لا تكون إلا بهذين الشرطين: الإِذن من الله، والرضا عن المشفوع له، دلَّ على أن الله هو الذي يملكها، فهي منه وإليه، اطلبها من الله، لا تطلبها من الرسول، يا ربي شفِّعْ فيَّ نبيَّك، اللهم لا تحرمني شفاعة نبيِّك فهو الذي يملكها -سبحانه وتعالى-.
أما إذا كان حيًّا، وهو حي يطلب منه الشفاعة، فهذا لا بأس؛ فالحي إذا كان قادرًا تقول: اشفع لي عن واحد يتوسط لي، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في حياته يشفع، وقد شفع في بريرة ترجع إلى زوجها مغيث -وكان عبدًا أسود- ولكنها ما قبلت شفاعته، ولا على أن الإِنسان يشفع ولا تقبل شفاعته، ولو كان كبيرًا، لكن حصل له الأجر والثواب.
تتوسط أو تعرف أو تشفع لشخص أنه فقير، فتشفع له عند غني تعرفه يعطيه شيء من الزكاة أو المال، تشفع له عند مسئولين يُعطى شيئًا من بيت المال، اشفعوا تُؤْجَرُوا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقول الله على لسان نبيه ما شاء.
فبريرة كانت أَمَة عند الأنصار فاشترتها عائشة - رضي الله عنها -، كانت كاتبت نفسها من سيِّدها على نفسي أو اقضِ عليَّ أواقٍ من الفضة في كل سنة تدفع قسطًا، وجاءت عائشة لتستعين في قضاء دينها، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: لتستعين بها إن شاء أهلك حببت لهم النقود حبة حبة، ويكون الولاء لي، فقالت لأهلها ذلك، فقالوا: لا. لا بد أن يكون لنا الولاء، إن شاءت تشتريك، ويكون لنا الولاء.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اشتريها واشرطي لهم الولاء؛ فإنَّما الولاء لمن أعتق، وكل شرط فهو باطل، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط .
ثم إنه كان لها زوج اسمه مغيث فتحررت، أي: صارت حرة وزوجها عبد، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اختاري نفسك صارت أعلى منه، والحرة إذا أعتقت تحت العبد صارت حرة، إن شاءت بقيت معه، وإن شاءت فسخت النكاح، راحت وتركته؛ لأنها صارت أعلى منه، هي حرة وهو عبد، فكانت لا تريده، فخرجت وتركته.
وكان زوجها اسمه مغيث عبدًا أسود يحبها حبًّا كثيرًا، فكان يمشي في سكك المدينة ودموعه تجري على عينه، يريدها وهي لا تريده، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- شفع للمغيث عند بريرة قال: يا بريرة ! لو رجعتي متعلق بها، وكانت فقيهة، فقالت - رضي الله عنها -: يا رسول الله ! تأمروني أو تشفع؟ إن كان أمرًا سمعًا لأمر الله ورسوله. إن كان أمرًا لا أستطيع أن أتخلف.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا، ليس أمرًا، وإنَّما شفاعة، قالت: ليس لي حاجة فيه ما قبلت شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هذا يدل على أن الإنسان ولو كان عظيمًا ورُدَّتْ شفاعته ما يضر، اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء .
فالشاهد أن الشفاعة من الحي الحاضر لا بأس بها، فإن الإِنسان حيٌّ حاضر يشفع، وكذلك الناس يطلبون من النبي -صلى الله عليه وسلم- يشفع في حياته، وفي يوم القيامة هو حي حاضر يطلبون منه أن يشفع لهم، لا بأس.
أما بعد الممات فلا تقول: اشفع لي يا رسول الله، لقد مات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال الله فيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ما تطلب منه الشفاعة بعد موته.
إعادة الشبه والرد عليها:
نريد إعادة الشُّبَه الثلاث من الجواب التفصيلي:
الشبهة الأولى: الخالق الرازق... هذا فعل المشركون المشركون إنَّما يطلبون منهم القربى والشفاعة والزلفى، هذه مقالتهم سواءً بسواءٍ.
الشبهة الثانية: هذه الآيات التي ذكرتم نزلت في عباد الأصنام، فكيف تجعلون من يحب الصالحين مثل عباد الأصنام، وكيف تجعلونهم مثل الكفار هذه هي الشبهة.
الجواب: أن الكفار عبادتهم متنوعة، منهم من يعبد الصالحين كما تفعلون، ومنهم من يعبد الأصنام والأوثان، ويدعون اللات والعزى، ومنهم من يدعو المسيح ومنهم من يدعو الملائكة فتقرأ عليه الآيات التي ذكرت.
الشبهة الثالثة: يعني يريدون منهم النفع والضر. والجواب: جواب الشبهة، يعني تقول: إنهم يريدون منهم النفع والضر هذا ليس بصحيح؛ فالنصوص دلَّتْ على أنهم يعترفون لله بالنفع والضر والخلق والرزق والإِماتة والإحياء، وإنما يريدون منهم الشفاعة. فاقرأ عليهم الآيات.
الشبهة الرابعة: أن يقول: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، هذا محبة للصالحين محبة تشفع بهم وتوجه إلى الله بهم، ليس هذا بشرك.
والجواب: أن يقال له: بيِّن لي العبادة من الشرك؟ ما هي العبادة؟ العبادة التي أوجبها الله على الخلق، خلق الخلائق من أجلها. وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .
بيِّنها لي، فإنه لا يستطيع، فتقول له: كيف لا تعرف العبادة التي خلق الله الخلق من أجلها، ثم بيِّن له أن الدعاء عبادة، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ .
ثم تقول له: إذا دعوت الله ليلًا ونهارًا وصليت وصمت وحججت البيت، ثم دعوت وليًا من الأولياء، ألا تكون قد أشركت، إذًا لا تنفعه هذه العبادة؛ لأن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة. إذا وُجِدَ الحدث بطلت الصلاة، وإذا وُجِدَ الشرك بطل التوحيد، وبطلت العبادة.
الشبهة الخامسة: وهو أن أقول: إن الرسول هو الشافع المشفع في المحشر، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو صاحب الشفاعة، هل تنكر شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟، فأنا أطلب الشفاعة منه، أقول: يا رسول الله ! اشفع لي، فهو صاحب الشفاعة، الشافع المشفع في المحشر.
تقول: لا، أنا لا أنكر أنه هو الشافع المشفع في المحشر - عليه الصلاة والسلام - أردت الله أن يشفعه فيَّ، لكن ليس لك أن تطلبها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أن تدعوه، ولكن أن تطلبها من الله.
الله هو المالك لها قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا والشفاعة لا تكون إلا من بعد إذنه كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ولا بد أن يرضى الله عن المشفوع له، قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى .
فإذا كانت الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله، ولا تكون إلا لمن يرضى الله قوله وعمله، - والله لا يرضى إلا التوحيد -، صارت الشفاعة ملكا لله قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا يكون الشفاعة فيها إكرام المشفوع، الشفاعة فيها إكرام المشفوع، وحيث قبل الله شفاعته وشفعه، وإلا فالله هو مالك الشفاعة قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا .
(1/2)
شفاعة الأنبياء لا تعني عبادتهم
فإن قال: النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطيَ الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا. فقال تعالى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [سورة الجن، الآية: 18 ].
أيضًا هذه الشبهة السادسة، وهي متفرعة من الشبهة الخامسة، إذا قال: النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فيقال له: نعم، الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعطي الشفاعة، لكن الله نهاك عن هذا، نهاك أن تطلبها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل أمرك أن تطلبها من الله.
فإذا قال: أين الدليل على أن الله نهاني عن أني أطلبها من الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ تقول له قول الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا فيقول: هذا نهيٌ عن الدعاء، فنقول: طلب الشفاعة دعاء، فلا حاجة أن ندعو غير الله، وطلبُ الشفاعةِ من الدعاء لغير الله !.
إذًا، الجواب: الآية عامة تشمل الشفاعة وغيرها، فلا تدعو مع الله أحدًا، ومثل قوله تعالى: فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ .
وقوله -سبحانه-: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وقال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ .
سمَّاه الله شركًا في دعاء غير الله، واضحٌ إذًا، الجواب يعني النهي عن طلب الشفاعة دخل في كل عموم النهي عن دعاء غير الله فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا مطلقًا، لا تدعو مع الله أحدًا سواء كان من الشفاعة أو غيرها، ومن طلب الشفاعة من غير الله فقد دعا غير الله، والرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يؤمر إذا طلب الشفاعة من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فدعاء غير الله وهو دخل في قول الله تعالى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ؛ لأنه شبهة. يقول: طلب الشفاعة ما هو بدعاء، إذا قال: يا رسول الله اشفع لي، دعاء غير الله، فيكون مشركًا، لكن الناس حينما يسألون الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة، هذا لا بأس. الرسول حي حاضر قادر، إذا دعوت حيًا حاضرًا قادرًا، إن دعوت حيًا حاضرًا قادرًا وقد لا يكون، فهذا شرك.
لكن إذا دعوت ميتًا أو غائبًا لا يسمعان، يكون هذا شرك، والناس في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلبون منه الشفاعة، فهذا جابر - رضي الله عنهما - طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع له من حرمانهما من اليهود لأن يخفي دينه، وهذا مغيث زوج بريرة طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع له عند بريرة حتى تأتي معه لما أُعتقت، وفي يوم القيامة يسأل الناس النبي -صلى الله عليه وسلم- الشفاعة، لكن بعد موته لا يُسأل إذًا، فإذا أحياه الله يوم القيامة وسأله الناس فهو حيٌ حاضرٌ، فلا يكون هذا شركًا.
(1/2)
الله أعطى الشفاعة وأمر بتوحيده
فإذا كنت تدعو الله أن يشفِّع نبيه فيك فأطعه في قوله: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [سورة الجن، الآية: 18].
فإذا كنت ترجو أن يشفِّعَ الله فيك نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، أطع ربك في أوامره ونواهيه، ومن نواهيه أن نهاك عن أن دعاء +++، فأطع ربك ولا تدعُ مع الله إلهًا آخر، ليشفِّع الله فيك نبيه؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد فإذا دعوت مع الله غيره فلا يكون لك نصيب من الشفاعة.
الشفاعة خاصة بأهل التوحيد، الشفاعة في إخراج العصاة من النار، ومن الموحدين، أما الشفاعة العظمى تكون في موقف الحساب، فهي عامة للمؤمنين والكفار لإراحة الناس في الموقف، عامة لأهل الموقف جميعًا، والشفاعة العظمى يوم القيامة عامة لأهل الموقف، الشفاعة في إخراج العصاة من النار، وفي قوم استحقوا دخول النار، أن لا يدخلوها، هذه خاصة بالموحدين.
(1/2)
الشفاعة ثابتة أيضًا لغير الأنبياء
وأيضًا فإنَّ الشفاعة أعطيها غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، فصحَّ أن الملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والأولياء يشفعون.
الشفاعة ليست خاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بل يشاركه فيه غيره -عليه الصلاة والسلام- فقد ثبت أن الأنبياء يشفعون، وكذلك الشهداء يشفعون، والصالحون يشفعون، ++ والأفراط ( الأطفال الذين ماتوا ) يشفعون، والملائكة يشفعون، ما تقول أن هؤلاء أُعطوا الشفاعة.
أريد أن أدعو الملائكة وأدعو الأفراط، وأدعو الصالحين حتى يشفعوا لي، وهذه الشفاعة التي هي عامة هي الشفاعة في إخراج العصاة من الموحدين، وكذلك في إخراج قوم استحقوا دخول النار أن لا يدخلوا. أنواع الشفاعة:
أما الشفاعة العظمى في موقف القيامة، وهي خاصة في الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يشاركه فيه غيره، هذه خاصة.
وكذلك أيضًا الشفاعة للإِذن لأهل الجنة في دخولها، هذه خاصة بنبي الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك الشفاعة عند تعذيب عمه أبي طالب خاصة به وبأبي طالب هذه ثلاث شفاعات خاصة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يشركه فيها أحد: +++
1 - الشفاعة العظمى يوم القيامة ، ولإِراحة الناس في الموقف في فصل القضاء، وهي المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون -صلى الله عليه وسلم-.
وهي مذكورة في قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا فهذا المقام المحمود والشفاعة العظمى.
والثانية: الشفاعة بالإِذن لأهل الجنة بدخولها، لا يدخل الجنة أحد إلا بالشفاعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن يأذن الله.
والثالثة: شفاعته بتخفيف العذاب عن عمه أبي طالب خاصة به وبعمه أبي طالب خاصة، وهي شفاعة تخفيف، تخفيف العذاب، لا إخراجه من النار.
قد ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل: يا رسول الله ! إن أبا طالب كان يحميك ويذود عنك، فهل نفعته؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من في نار فأخرجته إلى ضحضح منه يغلي دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار .
وفي لفظ: إنَّ أخف الناس عذابًا يوم القيامة أبو طالب وأنه لفي أخمصيه جمرتان يغلي منها دماغه وإني لأظن من شدة .
فمعنى الحديث: لا أظن أنه أشد أهل النار عذابًا، وأنه من شدة ما يجد. نسأل الله السلامة والعافية.
هذه شفاعة تخفيف، لما خفَّ شركه بحماية النبي -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عنه صارت له هذه الشفاعة خاصة به شفاعة تخفيف، ولا تنفعه في إخراجه من النار، وأما غيره ليس له نصيب في الشفاعة. قال الله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ .
(1/2)
طلب الشفاعة الأخروية من غير الله شرك
أتقول: إنَّ الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم، فإن قلت هذا، رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه.
خلاصة هذا الكلام أن يقول: أن الشفاعة ليست خاصة بالرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ بل الشفاعة تشمل الشهداء والصالحين والأفراط والملائكة فهل تقول: أنا أريد طلبهم الشفاعة لأن الله طلب الشفاعة؟. إن قلت ذلك، رجعت إلى عبادة الصالحين، وهو الشرك. وإن قلت: لا. نقول: كذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تطلبها منه، اطلبها من الله.
(1/2)
قول: الالتجاء للأنبياء ليس بشرك
وإن قلت لا، بطل قولك أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله
هذه الشبهة يقول: أنا لا أشرك بالله شيئًا، حاشا وكلا، ++ الالتجاء إليهم ليس بشرك.
(1/2)
بيان معنى الشرك
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا، حاشا وكلَّا، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقرَّ أن الله حرَّم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وتقرَّ أن الله لا يغفره؟ فما هذا الأمر الذي حرَّمه الله، وذكر أنه لا يغفره، فإنه لا يدري.
فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا، ويذكر أنه لا يغفره، ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟. أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟ !
هذا جوابٌ عظيم، وهو أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا، حاشا وكلا، لكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، نقول: ما هو الشرك؟ هل أنت تعرف الشرك؟ عرِّفْ لي الشرك؟. أتقرَّ أن الله -سبحانه وتعالى- حرَّم الشرك؟
لا بد أن يقول: ماذا؟. فتقول له: أتقرَّ أن الله حرم الشرك أعظم من تحريمه الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، أليس كذلك؟.
وصاحب الشرك لا يُغفر له، بل هو مخلد في النار إذا مات على ذلك، وهو يحبط الأعمال، ويخرج من ملة الإسلام. ما هو هذا الشيء العظيم الذي لا شيء أعظم منه، ولا أكبر منه من الذنوب؟
هل تظن أن الله يحرِّم علينا هذا الأمر العظيم، ولا يوضحه لنا في كتابه؟ لا يمكن، بل لا بد أن يكون بيانه أكبر وأعظم من بيان كل شيء؛ لأنَّ هذا أمرٌ عظيمٌ خطيرٌ، أخطر شيء وأعظم مصيبة تنزل بالإِنسان هو الشرك.
هل يمكن أن يحرم الله شيء ويعظم شأنه ويجعله أعظم الذنوب، وصاحبه خارج من ملة الإِسلام، وإذا فعله حبطت أعماله وبطلت، ولا يبين ذلك !.
(1/2)
الشرك صرف العبادة لغير الله
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام.
هذا الجواب. قال: لا أعبد إلا الله، والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، أنا لا أشرك بالله. قلت: الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. فإذا قلت: ما هو الشرك؟ فيقول: الشرك عبادة الأصنام، فنقول له: ما هي عبادة الأصنام؟ هل عبادة الأصنام معناها أنك اعتقدت أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر؟
ليس هذا؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام، ولا يعتقدون أنها تخلق ولا تنفع ولا تضر، فعبادة الأصنام دعاء من دون الله، أو الذبح لها، أو النذر لها أو صرف أي نوع من أنواع العبادة لها.
فإذا صرفت أي نوع من أنواع العبادة وقعت في الشرك، إذا صرفت الدعاء أو الذبح أو النذر أو الركوع أو السجود أو أي نوع من أنواع العبادة لغير الله وقعت في الشرك.
(1/2)
إيضاح معنى عبادة الأصنام
فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟
يكذبه القرآن والواقع، هذا يقول: هل تظن أنهم - أي: عبادة الأصنام - أنهم يعتقدون أنها تنفع أو ترزق أو تضر، هذا يكذبه الواقع، فهم أنهم لا يعتقدون أنها تنفع وتضر، وتخلق وترزق، والقرآن يكذبه، فاقرأ عليه الآيات: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وقال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ .
فهم معترفون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر مالك السماوات والأرض، رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء، خالق الناس، وخالق الخلق جميعًا، اعترفوا بها وهم مع ذلك مشركون، وهو لا يعتقدون أن الأصنام تخلق وترزق وتنفع وتضر، إنَّما أشركوها بدعائهم من دون الله، والذبح لها، والنذر لها، وصرف أنواع العبادة !.
(1/2)
شرك الأولين مع إيمانهم بربوبية الله
فهذا يكذبه القرآن، كما في قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [سورة يونس، الآية: 31]. وإن قال: هو من قصد خشبة أو حجرًا أو بُنيَةً على قبر، أو غيره يدعون ذلك، ويذبحون له ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته، أو يعطينا ببركته. فقل: صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها، فإن أقرَّ أنَّ فعلهم هذا هو عبادة للأصنام، فهو المطلوب.
هذا اعتراف، وقال تلك ما قصد صخرًا، أو شجرًا، أو خشبًا، أو بنية يدعوها، أو يذبح لها، أو ينذر لها، أو يطلب البركة بها أو منها، فقل: صدقت هذا فعلكم عند القبور، أنتم تفعلون هكذا عند قبور الصالحين والأولياء، تنذرون لهم، وتدعون لهم وتدعونهم، وترجون منهم البركة وأن يدفع الله بهم عنكم.
وقال المؤلف - رحمه الله -: " فهذا يكذبه القرآن... ". وهو هو المطلوب، قبل هذا قررت أن عبادة الأصنام هي عبادتها، والذبح لها من دون الله، وهذا هو المطلوب، والمطلوب إخلاص النية لله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .
فالدين هو العبادة، طبعًا العبادة، ويطلق على الجزاء والحساب، فمالك يوم الدين: يوم الجزاء والحساب، مخلصين له الدين يعني: العبادة.
(1/2)
الشرك أنواع كثيرة
ويقال له أيضًا: قولك: الشرك عبادة الأصنام، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأنَّ الاعتماد على الصالحين ودعائهم لا يدخل في ذلك؟
هذا يقال في الشرك عبادة الأصنام هل مقصودك بأن الشرك خاصٌ بعبادة الأصنام، وأن عبادة غير الأصنام ما يكون شركًا، إن كان مرادك هذا، فهذا يكذبه الواقع، ويكذبه القرآن، فالواقع أن الكفار في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادتهم متنوعة، منهم من يعبد الأصنام كاللات والعزى، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر ، ومنهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد المسيح ومنهم من يعبد عُزَيرًا لكن الله سمَّاهم كفارًا، وكفَّرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- واستحلَّ دماءهم وأموالهم.
فليس الشرك خاص بعبادة الأصنام، وكل من دعا غير الله، وذبح لغير الله، سواء كان صنمًا أو غيرَ صنمٍ، إذا دعا جنيًّا أو قمرًا أو ملكًا أو نبيًّا أو شجرًا أو حجرًا، أو بُنيةً، أو أي شيء... إذا دعاه أو نذر له، وذبح له، وقع في الشرك.
(1/2)
مطالبة المشركين بمعنى عبادة الأصنام
فهذا يرد ما ذكره الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين فلا بد أن يقرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين فهذا هو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب.
وسرُّ المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله. فقل له: والمشرك بالله؟ فسِّرْهُ لي؟
هنا القتال عنده، إذا قال: لا أشرك بالله. قل له: فسِّر الشرك. إذا قال: الشرك عبادة الأصنام، فقل له: ما عبادة الأصنام؟ فإذا قال: أنا لا أعبد إلا الله. فقل له: ما هي عبادة الله وحده؟ فسِّرها لي؟ فهو يحيد عن هذا الجواب؛ لأنه يريد أن يجعل دعاء الأولياء والصالحين ليس بشرك، ويخص ذلك بدعاء الأصنام والأحجار والأوثان.
(1/2)
صرف الأمر والنهي لغير الله شرك
فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسِّرها لي؟.
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده. فقل: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسِّرها لي؟
فإذا قال: لا أشرك بالله، ثم قال: الشرك عبادة الأصنام، إذا قال: أنا لا أعبد إلا الله. قل فسِّر لي العبادة؟. فإذا فسَّرها بما ذكر الله فهو المطلوب، وأما إذا لم يفسرها، فنقول: كيف تبرئ نفسك من شيء، وأنت لا تعرفه؟!
تبين له أن الدعاء وأن العبادة وهي كل ما أمر الله به أو أمر رسوله به، أو نهى الله عنه، أو نهانا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفعل الأوامر وتترك النواهي؛ طاعةً لله وإجلالًا وخشية، إذا صرف شيء لغير الله وقع صاحبه في الشرك.
(1/2)
الحجة تثبت جهل المشركين
فإن فسَّرها بما بيَّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعِي شيئًا وهو لا يعرفه؟!
العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
(1/2)
بيان الآيات التي تحدد معنى الشرك
وإن فسَّر ذلك بغير معناه، بيَّنت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان، أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه.
إخلاص الدين لله هي التي أنكرها أهل الشرك على الإِمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، ويريدون أن يتبركوا بالصالحين ويدعوهم من دون الله، ويذبحوا لهم، وينذروا لهم، فلما أمرهم الشيخ - رحمه الله - بإخلاص العبادة لله، ونهاهم عن دعاء غير الله والذبح له، صاحوا عليه وأنكروا عليه.
(1/2)
اتباع المشركين اللاحقين للسابقين
وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [سورة ص، الآية: 5].
وهم كفار ومشركو مكة، صاح المشركون في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - كما صاح مشركو قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنكروا عليه أن تكون العبادة لله وحده. وقال أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ .
(1/2)
العبرة بالمعاني
فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا هذا الاعتقاد...
العبرة بالمعاني، وسمي الاعتقاد وسمي المعبود بالسيد؛ لأن المقصود بالدعاء هذا الشرك الاعتقاد، يعتقدون فيه كما أنهم لا يشفعون لهم ويقربونهم إلى الله، يسمونه الاعتقاد في هذا الولي، أن صاحب القبر ينقل حوائجه إلى الله، ويقربه إلى الله، أو أنه يجعل له الله من بركته.
(1/2)
شرك الأولين أخف من شرك المتأخرين
هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين.....
هذا في بيان أن شرك الأولين أخف من شرك المتأخرين؛ بأمرين:
الأمر الأول: أن الأولين إنَّمَا يشركون في وقت الرخاء والسعة. وهم في البرية إذا كان ليس عندهم شدة أشركوا ودعوا آلهتهم، فإذا أصابتهم شدة أو كربة كما إذا ركب أحدهم البحر وتلاطمت به الأمواج، أخلص العبادة لله، ونسي معبوداته.
قال الله تعالى فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ أي: مخلصين له الدين والعبادة، وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا .
إذا مسكم الضر في البحر ضلَّ من تدعون إلا إياه، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإِنسان كفورًا. أما المشركون المتأخرون فإنهم يشركون في الرخاء والشدة ولا يبالون، بل إنهم يزدادون لهجًا ولجوءًا إلى معبوداتهم، إذا تلاطمت بهم الأمواج قال: يا علي يا علي يا حسين يا حسين يا عبد القادر يا عبد القادر مدد مدد، يا بدوي يا نفيسة وهكذا.
فصار المشركون المتأخرون يشركون في الرخاء وفي الشدة، بل إن بعضهم يزداد لهجًا في المعبود وتعلقًا به إذا نزلت به الشدة، أما الأوائل فلا، إذا نزلت بهم الكربة والشدة لا يعبدون إلا الله، ينسون معبوداتهم من دون الله، فإذا كان في البر ما عنده شدة ولا كربة دعاه من دون الله. هذا يدل على صحة عقله فيميز به بين الإله الذي يضر وينفع وبين الآلهة ++.
الأمر الثاني: الذي ساقه المؤلف - رحمه الله - أن المشركين السابقين إنَّما يدعون الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء الصالحين يدعون صنمًا أو يدعون جمادات لا تشرك بالله شيئًا، يدعون صخرًا أو شجرًا أو حجرًا أو بنية.
وأما المشركون المتأخرون فزادوا عليهم، وصاروا يعبدون كفارًا وفسَّاقًا، وإن كان كل منهم مشرك، ولكن من يدعو نبيًّا أو وليًّا أو حجرًا أخف شركًا ممن يدعوا كافرًا وفاسقًا.
يتبين بهذا أن شرك المتأخرين أغلظ من شرك المتقدمين، وأن شرك المتقدمين أخف من شرك المتأخرين. وصار بذلك أصل الشرك الأوائل أصح عقولًا وأخف شركًا من المتأخرين ! ! !.
وهذا واضح أنهم إنَّما كفروا لاعتقادهم أن الملائكة بنات الله، فتقول له: هذا كفر مستقل، فنسبة البنوة إلى الله، فقد كفر كفرًا مستقلًا، وهو غير دعاء الصالحين فدعاء الصالحين وعبادتهم من دون الله هذا كفر، ومن نسب الولد إلى الله فقد أتى كفرًا مستقلًا، هذا كفر وهذا كفر قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ .
وقال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ .
وقال سبحانه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ .
وقال سبحانه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا .
سيأتي يوم القيامة عبد معبد مذلل مقهور مدين مشمر لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، كل من في السماوات والأرض يأتي عبدًا ما يأتي ولدًا، ليس لله ولدٌ، فمن نسب الولد إلى الله فقد أتى أمرًا عظيمًا تكاد تنهدّ له الجبال وتنشق السماوات والأرض لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا معبد مقهور.
كل المخلوقات، وكل المخلوقين معبدون مستمرون مذللون، ليس لله ولد - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا -.
فهذا كفرٌ مستقلٌ، هذا كفر، وهؤلاء كفار، من نسب الولد إلى الله، وقال الملائكة بنات الله، فقد كفر. ومن دعا الصالحين وذبح لهم أو نذر لهم كفر؛ لأن هذا كفر، وهذا الكفر أنواع.
(1/2)
ثبوت كرامات الأولياء
أخفَّ من شرك أهل زماننا بأمرين:...
وكذلك قول الله أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قل: هذا حق، إن أولياء الله لهم حقهم، ولهم مكانتهم، ولهم كرامتهم، ولهم منزلتهم عند الله، ويجب على المؤمن أن يحبهم ويواليهم، ويقتدي بأفعالهم الصالحة، ويؤمن بكرامتهم، ولا يعبدهم؛ فالعبادة حق لله، فالله -تعالى- له حق، والرسول -صلى الله عليه وسلم- له حق، والصالحين والأولياء لهم حق، أما حق العبادة فهي حق الله -سبحانه وتعالى-، خاص به لا يُعبد إلا هو -سبحانه وتعالى-، وحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- الطاعة والاتباع والمحبة، ومحبته أعظم من محبة الولد والمال والنفس، وحق الصالحين المحبة والموالاة والاقتداء بهم في أعمالهم الطيبة، والإِيمان بكرامتهم وإنزالهم منزلتهم، لكن لا نعبدهم؛ فالعبادة حق لله، فللإِله حقه، فأعطِ كلَّ ذي حقٍ حقه.
ولما أوتي بأسير إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في مسند الإمام أحمد بن حنبل قال الأسير: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عرف الحق لأهله .
فحق الله التوبة والعبادة، أي: أقر على أن يقول اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمدٍ فالله -تعالى- له حقه، حق العبادة ولا تصرف هذا الحق لرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يعبد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- الطاعة والاتباع والمحبة، وحق الصالحين كذلك المحبة والاقتداء بأعمالهم الطيبة، وإنزالهم منزلتهم، والإيمان بكرامتهم وموالتهم. أما العبادة فهي حق الله -سبحانه وتعالى-.
(1/2)
شرك الأولين في الرخاء
(أحدهما):
أن الأولين لا يشركون، ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشِّدَّة فيخلصون لله الدعاء.
هذا في حال الشدَّة، إذا أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة لا توحِّدون إلا الله، ولا تدعون إلا إياه، إنَّما يكون عبادتهم لغير الله يكون في حالة الرخاء، أما في حال الشدة فيخلعون العبادة لله -عز وجل-.
(1/2)
الأدلة على أن شرك الأولين في الرخاء
كما قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [سورة الإسرء، الآية: 67].
وقوله: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [سورة الأنعام، الآيتان: 40، 41].
وقال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [سورة الزمر، الآية: 8].
قال تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
إنَّ الإِنسان إذا مَسَّهُ الضر أخلص العبادة لله، فإذا كان في حال السعة أشرك بالله، وجعل لله أندادًا ليضل عن سبيله، إذا خوَّلَه الله نعمة في حال النعمة، في حال السعة والرخاء، جعل لله أندادًا، وفي حال مسّ الضر والشدة دعا الله وحده فقط، فقال الله: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
جعله من أصحاب النار، لماذا؟؛ لأنه يدعو غير الله. متى؟ في حال الشدة، فكان مشركًا، فإذا كان هذا الذي يدعو الله في حال الشدة يكون مشركًا، بل ويقال له: إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وإن كان يخلص لله العبادة في الشِّدَّة، فكيف بالذي يشرك بالله في حال الرخاء والشدة؟ يكون أعظم وأعظم وأشدّ شركًا.
(1/2)
الأدلة على أن شرك الأولين في الرخاء (تابع)
وقوله: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة لقمان، الآية: 32].
وكذلك الآية: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: إذا غشيهم موج في البحر، إذا ركبوا وغشيهم موج، وكان كالظلال، دعوا الله مخلصين له الدين، مخلصين له العبادة، فلما نجاهم إلى البر إذا منهم مقتصد.
والآيات في هذا كثيرة تبين أن المشركين السابقين يخلصون العبادة والدعاء لله في حال الشدائد والمصائب والنكبات والمؤلمات، أما في حال الرخاء يشركون بالله.
(1/2)
الأدلة كشفت الفرق بين الأولين والآخرين
فمن فَهِمَ هذه المسألة التي وضَّحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعون الله -تعالى-، ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضرِّ والشِّدَّة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبيَّنَ له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين.
فبين لهم الفرق بين الشدة والغفلة، وأن شرك الأولين أخف، وشرك المتأخرين أغلظ وأشد، وإن كان كلٌ منهم مشرك، كلٌ منهم مشرك، ولكن الشرك يتفاوت، بعضه أغلظ من بعض، فشرك المتأخرين أغلظ، أما شرك المتقدمين أخف.
(1/2)
الأولين عبدوا مخلوقات طائعة لله
ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا جيدًا راسخًا، والله المستعان.
والأمر الثاني:
أن الأولين يدعون مع الله أناسًا مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا وأحجارًا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور، من الزنا، والسرقة، وترك الصلاة، وغير ذلك.
فرق بين من يدعو الأنبياء والصالحين أو الأشجار أو الأحجار المطيعة لله التي لا تعصي الله، ومن يدعو فسَّاقًا، أو كفارًا، أو فجَّارًا، معروف عنهم الجرأة على المعاصي، يدعون مجرمين معروف عنهم في حياتهم الإِجرام والزنا وشرب الخمر، أو الكفر والفسوق، ثم يدعونهم من دون الله. هذا أشد ممن يدعو الصالحين والأولياء أو الأشجار أو الأحجار، وإن كان كلٌّ منهم مشركا، ولكن شرك هؤلاء أغلظ من شرك أولئك.
(1/2)
أقوى شبه المشركين الآخرين
والذي يعتقد فيمن يشاهد والذي لا يعصي مثل الخشب والحجر، أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه ويشهد به.
إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحّ عقولًا وأخفّ شركًا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فاصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحرًا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ !
هذه الشبهة - كما ذكرها المؤلف - إنها أقوى شبههم، فاصغ لها سمعك، أي انتبه لها، وهو أن المشركين يقولون ويرددون هذه الشبهة ويقولون إن المشركين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وينكرون أن محمدًا رسول الله، ويكذبون بالبعث، ويكذبون بالقرآن، ويقولون إنه سحر وكهانة.
أما نحن، فنشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدًا رسول الله، ونشهد أن القرآن حق، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم ونحج، فكيف تجعلوننا مثلهم؟ وضح هذه الشبهة؟.
يقول المشركون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكرون الوحدانية -مثلًا- ويشهدون أن لا إله إلا الله، وينكرون أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينكرون البعث، ويكذبون بالقرآن، ويقولون سحر، ولا يصلُّون ولا يصومون، ولا يتصدقون، ونحن نخالفهم في هذه الشبهات كلها، فنحن نشهد أنه لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدًا رسول الله، ونصلي، ونصوم، ونحج، ونؤمن بالبعث، ونصدق بالقرآن، لكن نتوسل بالصالحين، نطلب من الله بهم فقط.
الجواب على هذا: أنه أجمع العلماء على أن الإنسان إذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام، فإنه يكفر ويبطل توحيده وإيمانه، ولو كان يصلي، ولو كان يصوم، ولو كان يشهد أنه لا إله إلا الله، ولو كان يشهد أن محمدًا رسول الله، ولو كان يؤمن بالبعث، فإذا فعل ناقضًا واحدًا من نواقض الإسلام كفر، وخرج من الملَّة.
مثال ذلك: ما ذكره المؤلف - رحمه الله -، لو كان مسلم يشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويصلي، ويصوم، ويحج، ويؤمن بالبعث، ثم أنكر وجوب الصلاة، كفر.
قال الصلاة ما هي بواجبة، ولو صلى كفر؛ لأنه أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، أو قال: الزكاة ليست واجبة، أنا أعتقد أنها ليست بواجبة، كلنا يزكي، وقال: الصلاة ما هي بواجبة، لكن أعتقد أنها ما هي بواجبة.
الإِنسان إذا شاء صلى، وإن شاء لم يصلِّ بالخيار، هذا كافر بإجماع المسلمين
أو قال: الزكاة ما هي بواجبة، أو الصوم ما هو بواجب، أو الحج ما هو بواجب، أو أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، قال: الزنا ما هو بحرام، لكن أنا ما أزني، ولكن الزنا مباح يجوز للإِنسان أن يزني، ويجوز أن يترك الزنا، أو قال: الربا ما هو بحرام، ويجوز للإِنسان أن يفعل الربا، ويجوز أن أتركه، أو قال: عقوق الوالدين حلال، وقال قطيعة الرحم حلال... أو غير ذلك، بشرط أن يكون هذا الشيء الذي أنكره معلومًا من الدين بالضرورة، وجوبه أو تحريمه. ما فيه خلاف.
لكن إذا كان مما فيه خلاف، هذا طبعًا لو أنكر وجوب الوضوء من لحم الإِبل، بعضهم قال: يجب، وقال بعضهم: لا يجب. أو أنكر الصوم أنه ما يجب ما يكفر. أو قال: الدخان ليس بحرام، هذا فيه شبهة، بعض الناس يشتبه فيه.
وإن قال: إن العرب قالوا إن الدخان حرام، لكن لو قال إن الدخان حلال ما يكفر، لا بد بعض الناس أقله له شبهة، بخلاف الزنا لا يوجد أحد قال إن الزنا حلال، أجمع العلماء على تحريمه، ولم يقل أحد من العلماء إنه حلال، بل أجمعوا على تحريمه.
والزكاة، وكذلك الصلاة واجبة، لا يوجد أحد من العلماء قال بوجوبها والبعض الآخر قال إنها ليست بواجبة. إذًا من يقل ذلك فقد أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، وبذلك يكون قد كفر، ومن ينكر معلومًا من الدين بالضرورة فنقول له: أنت فعلت ناقضًا من نواقض الإسلام، وهو دعاء غير الله، فهذا ينقض توحيدك وإيمانك، ولا يغير كون أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أو كونك تصلي وتصوم وتؤمن بالبعث.
إذًا إنك دعوت غير الله، أو ذبحت لغير الله، أو فعلت أي ناقض من نواقض الإسلام، فالجواب واضح.
هذا هو الجواب، وسيأتي المؤلف - رحمه الله - يبسط في هذا الجواب ويقول -مثلًا-: ماذا تقول في بني حنيفة ؟ بني حنيفة قوم كانوا يصومون ويصلون ويؤذنون، ثم قاتلهم الصحابة - رضوان الله عليهم - فقالوا: إن مسيلمة نبي، هذا هو المطلوب.
فإذا كان الذي يرفع رجل إلى مكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون كافرًا، فكيف بالذي يرفعه إلى مقام الألوهية ويجعله مستحقًا للعبادة، ويذبح له، وينذر له من دون الله.
فبنو حنيفة كفروا؛ لأنهم يقولون إن مسيلمة نبي، فكيف الذي يدعو الصالحين ويرفعهم إلى مقام جبَّار السماوات والأرض بجعلهم يستحقون العبادة التي لا يستحقها إلا الله.
(1/2)
كفر المنكر لبعض ما جاء به الرسول
فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء وكذَّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام.
هذا بالإِجماع، إذا صدَّق شيئًا وكذَّب شيئًا، صدَّق بأن الصلاة واجبة، وكذب بأن الزكاة واجبة، أو صدَّق بأن الصلاة والزكاة واجبتين، وكذَّب بأن الصوم واجب، وصدَّق بأن الزنا حرام، وكذَّب بأن الربا حرام، كفر بإجماع المسلمين
إذا صدَّق بأن عقوق الوالدين حرام، وكذَّب بأن قطيعة الرحم حرام، فهذا كافر بإجماع المسلمين ؛ لأنه فعل ناقضًا من نواقض الإسلام.
(1/2)
كفر من آمن ببعض القرآن وكفر ببعض
وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقرَّ بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقرَّ بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقرَّ بهذا كله وجحد الصوم، أو أقرَّ بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- للحج، أنزل الله في حقهم: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 97].
هذا لما لم يَنْقَد أناس للحج أنزل الله في حقهم هذه الآيات وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ بترك الحج فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .
(1/2)
كفر من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة
ومن أقرَّ بهذا كله وجحد البعث، كفر بالإجماع، وحلَّ دمه وماله.
يعني لو أقر بكل شيء وأنكر البعث، كفر بإجماع الناس وحلَّ دمه؛ لأنَّه فعل ناقضًا من نواقض الإسلام، فإذا كان يكفر بهذا، فكيف إذا صرف العبادة لغير الله ودعا الصالحين والأولياء ما يكفر؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلي ويصوم؟ !. كلا بل من باب أولى يكفر؛ لأنه أشرك بالله.
(1/2)
الأدلة على كفر من آمن ببعض القرآن وكفر ببعض
كما قال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [سورة النساء، الآيتان: 150، 151].
فإذا كان الله قد صرَّح في كتابه أن من آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو الكافر حقًا.
نص الله تعالى في كتابه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا .
فمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وآمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، أو آمن ببعض الكتب وكفر ببعض، أو آمن ببعض القرآن وكفر ببعض، أو آمن ببعض ما جاء به الرسول وكفر ببعض، فهو كافر بالإجماع. ولا يفيده كونه آمن ببعض.
(1/2)
دحض شبهات المشركين
زالت هذه الشبهة.
هذه الشبهة التي أوردها هذا القائل الذي يقول: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونؤمن بالبعث، ونصدق الرسول - عليه الصلاة والسلام -، ونحج، ونصوم، ونتصدق.
نقول: لا ينفعك هذا إذا دعوت غير الله، ما ينفعك، فقد انتقض توحيدك وإيمانك إذا دعوت الصالحين وقلت: يا سيدي البدوي أغثني، يا سيدي رسول الله، أو يا عبد القادر مدد مدد، أو ذبحت له، أو نذرت له، كفرت وأشركت بالله، وخرجت من ملة الإسلام، وأصبحت وثنيًّا، وبطل توحيدك وإيمانك.
انتقض مثل إنسان تطهر وأحسن الطهارة، وتوضأ وأحسن الوضوء، ثم خرج منه بول أو غائط أو ريح، فأين الطهارة؟ ! بقيت أو ذهبت؟ بطلت. ما الذي أبطلها؟ الحدث.
وكذلك إذا قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وصلى وصام، ثم ذبح لغير الله، أو نذر أو دعا غير الله، بطل التوحيد والإِيمان انتهى.
ما زال يشرك، فشركه يبطل التوحيد والإيمان، كما أن الحدث والبول والغائط يبطل الطهارة ويفسدها، وكذلك الشرك يفسد التوحيد والإيمان. نسأل الله السلامة.
جواب السؤال هذا شيء آخر في الكلام، فمن جحد هذا فهو الكافر، أمَّا من لم يجحد ففيه خلاف، أما الصلاة فهي خلاف بين العلماء قال كثير من العلماء المتأخرين كثير من الفقهاء المتأخرين يقولون إنه إذا أقر بوجوب الصلاة لكنه تركها لا يكفر، وقول آخر - وهو الصواب - الذي يتركها إنه يكفر ولو لم يجحد وجوبها، وهو الذي أجمع عليه الصحابة والذي تدل عليه النصوص بين الرجل والكفر ترك الصلاة وكذلك إذا ترك الزكاة وجحد وجوبها هذا كفر بالإِجماع، أما إذا تساهل بالزكاة وتركها بخلًا ولم يجحد وجوبها، فقال بعض أهل العلم يكفر. وقال آخرون: لا يكفر، وإنما يفسق، أي يكون فاسقًا ويعزر فيما يراه الحاكم الشرعي، فيجلد أو يضرب أو يسجن، وتؤخذ منه قهرًا.
وكذلك الصيام قال بعض العلماء إذا تركه كسلًا وأقر بوجوبه تهاونًا كَفَر، وقال آخرون لا يكفر بل يعزر، وهذا هو الصواب أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة، هذا إذا تركها كسلًا وتهاونًا، أما إذا جحد فهذا يكفر بالإجماع، إذا جحد وجوب الزكاة أو وجوب الصوم، أو وجوب الحج فهو كافر بالإِجماع، هذا ليس فيه خلاف بين العلماء أما الخلاف في من لم يجحد، أي آمن بوجوب الصلاة، وآمن بوجوب الزكاة، وآمن بوجوب الحج، لكن لم يزكِّ كسلًا بالمال، أو لم يصم كذلك كسلًا، أو لم يحج، الصواب في ذلك أنه لم يكفر ويكون فاسقًا مرتكبًا للكبيرة، ويعزر بما يراه الحاكم الشرعي بالجلد والسجن، أي يُردع، وقد يعذر بأخذ مال الزكاة، أما الصلاة، فالصواب أنه يكفر لو تركها كسلًا هذا هو الصحيح الذي تدلُّ عليه النصوص.
ومن الأدلة في ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من ترك صلاة العصر حبط عمله والذي يحبط عمله هو الكافر.
إذا ترك صلاة واحدة متعمدًا وليس له عذر حتى خرج وقتها كفر في أصح قولي العلماء فإذا جحد وجوبها، فهذا بالإجماع ( جواب السؤال ) محتمل لما لم ينقد أناس للحج فقال المؤلف: "لما لم ينقد أناس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- للحج أنزل الله في حقهم هذه الآية" إذا جحد، فهذا بالإِجماع، وإذا لم يجحد ففي هذا خلاف.
إن العلماء كفَّرو منهم من لم يكفر، وقالوا: من كفر بجحده هذا ما فيه إشكال، هذا كافر لأنه قد يحتمل أنه لم ينقد جحودًا أو كسلًا أو تهاونًا.
كل من ترك واجبًا -يعني جحودًا-، من ترك واجبًا معلومًا من الدين بضرورة وجوبه ما هو بواجب فقط، بل معلوم من الدين بالضرورة، مثل الزكاة والصوم والحج، هذا واجب بالإِجماع، لكن بعض الواجبات مختلف فيها، بعض العلماء خالف فيها، هذه ما يكفر؛ لأن فيها خلاف، إنَّما يكفر إذا أنكر أمرًا معلومًا من الدين بضرورة وجوبه، هذا ما فيه خلاف، ومثلنا من أنكر وجوب الوضوء من لحم الإِبل، الصواب أنه يجب الوضوء من لحم الإبل.
قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في حديث جابر - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديث سمرة - رضي الله عنه - نتوضأ من لحوم الإِبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم. سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: نتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت نتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم .
لكن بعض العلماء خالف وقال: لا يجب، وأن هذا منسوب إلى حديث جابر - رضي الله عنهما -، قال: كان أقر الأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مما مست النار، والصواب أن لحم الإِبل استثناء، لكن المسألة فيها خلاف، المسألة التي فيها خلاف ما يكفر من أنكرها، لكن المسألة التي ليس فيها خلاف ثم أنكره، أي الأمر المجمع عليه وجوبًا وتحريمًا فهذا يكفر من أكره.
(1/2)
كفر تارك الصلاة
وهذه التي ذكرها بعد أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.
ويقال أيضًا: إذا كنت تقرّ أنَّ من صدَّق الرسول في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإِجماع.
هذا بالإِجماع، إذا أقرَّ في كل شيء ألا يقر بوجوب الصلاة، هذا بالإِجماع ليس فيه خلاف، الخلاف فيما إذا تركها كسلًا وتهاونًا ولم يجحدها، أو يجحد وجوبها، أما إذا جحد وجوبها وقال: إنها ليست واجبة أنا أعتقد أنها ما هي بواجبة، والإنسان إن شاء يصلي وإن شاء ما يصلي، فهذا كافر بالإجماع، ولو صلى لا تفيده الصلاة لكونه اعتقد أنها ليس بواجبة، لكن لو اعتقد أنها واجبة ثم ترك الصلاة، فهذا محل الخلاف، والصواب أنه يكفر.
(1/2)
كفر منكر البعث
وكذلك إذا أقرَّ بكل شيء إلا بالبعث.
أي أنه يقرّ بكل شيء إلا البعث، فإذا أنكره يكفر بالإِجماع.
(1/2)
كفر منكر الصوم
وكذلك إذا جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بذلك كله.
وكذا إذا قال: إن صوم رمضان ليس بواجب، إن شاء صام وإن شاء لم يصم، هذا كافر بالإِجماع - أيضًا - لكن إذا قال الصوم واجب، لكنه ترك الصوم. فإذا قيل: لماذا لم تصم؟ فقال: أعتقد أنه واجب، لكن غلبت نفسي وهواي والشيطان، فهذا محل الخلاف: هل يكفر أو لا يكفر؟.
لكن إذا قال إن الصوم ليس بواجب، والإِنسان مُخَيَّر إن شاء صام وإن شاء لم يصم، فهذا كافر بالإِجماع، أما إذا قال: لا، أنا أعتقد أن الصوم واجب وأنا مخطئ، وأنا مرتكب للذنب، أنا أرجو الله أن يتوب عليَّ، أنا غلبت نفسي وهواي والشيطان، فهذا هو محل الخلاف.
جواب السؤال: يكفره فقط، أم هم يعتبرونه كبيرة وجريمة - ترك الصوم كسلًا - أو ترك الزكاة؟ هذا يطلق عليه أنه جريمة ومعصية كبيرة وفسق، لكن هل تصل إلى درجة كفره أم لا؟ من العلماء من قال أنها تصل إلى درجة كفره، ومنهم من قال إنها لم تصل. هذا هو الكلام، هذا هو الخلاف.
ثم قال: تصل إلى الكفر، ومنهم من قال: إنها لا تصل. هذا إذا تركها كسلًا وتهاونًا، أما إذا جحد وجوبها فهذا كفر كفرًا مخرجًا من الملة بالإِجماع، وليس فيه خلاف.
(1/2)
إجماع المذاهب على كفر من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة
ولا تختلف المذاهب فيه.
لا تختلف المذاهب في الكفر، فقد أجمعوا على كفره.
(1/2)
تكفير القرآن من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة
وقد نطق به القرآن كما قدَّمْنَا.
يعني: إذا كان الذي يجحد وجوب الصلاة يكفر، والذي يجحد وجوب الزكاة يكفر، والذي يجحد وجوب الصوم يكفر، والذي يجحد وجوب الحج يكفر. والتوحيد واجب على كل من دخل الإسلام، فإذا جحد وجوب إفراد الله بالتوحيد، كفر الإِجماع من باب أولى، لكن الذي يجحد وجوب الحج والصوم يكفر، والذي يجحد وجوب إفراد الله بالعبادة أو يختص بالعبادة، يكفر من باب أولى - أيضًا -، أو أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله.
(1/2)
التوحيد أعظم فريضة جاء بها النبي
فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر؟ ولو عمل بكل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ ! سبحان الله ! ما أعجب هذا الجهل ! ! !
سبحان الله ! في هذه كيف الآن؟ الذي يترك الزكاة، أو الصوم، أو الحج يجحد وجوابه يكفر، والذي يجحد وجوب إخلاص التوحيد لله لا يكفر، سبحان الله ! هذا عجيب. أيهم أعظم، الصلاة والزكاة والصوم والحج أو التوحيد أعظم. إذا كان الذي يجحد وجوب الصلاة يكفر بالإِجماع، والذي يجحد وجوب الزكاة يكفر بالإِجماع، والذي يجحد وجوب الحج يكفر بالإِجماع، والذي يجحد وجوب الصوم يكفر بالإِجماع، والذي يجحد وجوب التوحيد لله لا يكفر ! ! ! من يقول هذا؟ لا يقول هذا أي إنسان يعلم دين الإسلام.
(1/2)
قتال مانعي الزكاة
ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون ويؤذنون، فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، قلنا: هذا هو المطلوب،.......
أعني: نقف عند بني حنيفة لأن المؤلف - رحمه الله - سيأتي بعدة أمثلة تدلُّ على كفر من جحدوا التوحيد، على من فعل ناقضًا من نواقض الإسلام والمناط بهذا الجواب والشبهة على أن من فعل ناقضًا من نواقض الإسلام كفر، ولا يفيده ما يفعله من شرائع الإسلام.
إذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام أو فسد وبطل، لا يصلحه من التوحيد والإيمان إلا من تاب، ومن تاب تاب الله عليه قبل الموت، وفَّقَ الله الجميع.
* نسأل عن درس أساسي، عن الشبهة الأولى التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في "رسالة في كشف الشبهات".
إذا قال صاحب الشبهة: النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطي الشفاعة فأنا أطلب مما أعطاه الله، هل تنكر الشفاعة، فما الجواب؟
الجواب: إن الله أعطاه الشفاعة، أنا لا أنكر هذا، بل أعترف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو شافع شفيع المحشر، لكن الله نهاك أن تطلبها منه، هذه الآية عامة تشمل طلب الشفاعة وغيرها. ثم إن الشفاعة لا تكون إلا بشرطين، إذًا، للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له.
فإذًا، الشفاعة يملكها الله قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا فتكون الشفاعة إكرام من الله للشافع حيث يأذن الله له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إذا شفع في العصاة يحد الله له حدًا.
وذكر المؤلف - رحمه الله - أن المشركين الأُوَّل أخف شركًا من المشركين المتأخرين بأمرين، فما هما هذان الأمران؟ يعني أن المشركين السابقين يشركون في الرخاء والسعة، أما في حال الشِّدَّة والكرب والضيق فيجعلون الدعاء لله، ولا يشركون. الدليل على هذا قول الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ والفلك: السفينة. أي: إذا ركبوا السفينة في البحر خافوا ودعوا الله مخلصين له الدين والعبادة والدعاء، والدعاء الذي هو مخ العبادة. إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين والعبادة، فلما نجاهم إلى البر إذا هم مشركون.
ودليل آخر: قال تعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ودليل آخر: قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا وقد يستدل أيضًا وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ .
ثم الشبهة التي أخذ بها وهي التي يقول المؤلف من أقوى شبههم، وهي: يقول القائل: إن الكفار السابقين الذين نزل فيهم القرآن، كفَّرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وشهد القرآن وأخبر القرآن بشركهم، كانوا لا يعبدون الله، ولا يصدقون برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصدقون بالقرآن، بل يقولون: سحر وشعر وكهانة، ولا يؤمنون بالبعث، ولا يصلون، ولا يصومون، ولا يصدقون، فكيف تجعلونا مثلهم؟ نحن نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدًا رسول الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصدق بالقرآن، ونصوم، ونصلي، ونحج، ونؤمن بالبعث، فكيف تجعلونا مثلهم؟!
هذه الشبهة أجاب المؤلف - رحمه الله - عنها بسبعة أجوبة، نوردها كالآتي:
الجواب الأول: لا خلاف بين المسلمين أن من آمن ببعض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكفر ببعضٍ أقر أنه كافر بالإِجماع، ولا ينفعه الإيمان بالباطل.
قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ .
وكذلك من صدَّق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببعض ما جاء به وكذَّب في بعضٍ آخر كفر بإجماع المسلمين فإذا صدَّق بوجوب التوحيد ولكنه كذَّب بوجوب الصلاة، كفر.
وإذا صدَّق بوجوب التوحيد ووجوب الصلاة وكذَّب بوجوب الزكاة، إذا صدَّق بوجوب التوحيد ووجوب الصلاة ووجوب الزكاة وكذَّب بوجوب الصوم، كفر.
وإذا صدَّق في هذه الأشياء ثم كذَّب بالبعث، كفر. فكذلك إذا أشرك بتوحيد العبادة يكفر، سيأتي أيضًا ستة أجوبة مع هذا الجواب تكون سبعة ربطها المؤلف كما سبق، أن المسلمَ إذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام بطل توحيده وإيمانه، ولا ينفعه ما كان يصدق به ويفعله إذا كان الإنسان يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصوم ويزكي ويحج، ثم فعل ناقضًا من نواقض الإسلام.
مثال: الصلاة ليست واجبة، أو قال الزنا حلال، أو الخمر حلال، أو الربا حلال، أو عقوق الوالدين حلال، كفر بإجماع المسلمين
وكذلك إذا كذَّب بالبعث، كفر بإجماع المسلمين وكذلك لو قال: أداء الصلاة والزكاة والصوم وآمن بكل شيء، لكن قال: محمد مرسل إلى العرب خاصة وليس للناس، بل للعرب فقط، كفر بإجماع المسلمين أو قال: محمد ليس بخاتم النبيين يمكن يأتي بعده نبي، يكفر بإجماع المسلمين ؛ لأنه يكذِّب الله. يقول الله -سبحانه وتعالى-: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا .
سيأتي المؤلف - رحمه الله - بسبعة أجوبة لكنها تدور حول هذا، إن الإنسان إذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام بطل إسلامه، ولا ينفعه، وأنتم إذا كنتم تقولون: نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونقيم الصلاة، ونزكي ونصوم ونحج، إذا لم تُخْلِصُوا التوحيد والإيمان بالله ودعوتم غير الله، فعلتم ناقضًا من نواقض الإسلام. فبعضه شرك في العبادة، ولا ينفعكم ما تقرُّون به وما تفعلونه.
(1/2)
تكفير منكر التوحيد أولى من تكفير غيره
إذا كان من رفع رجلًا إلى رتبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كفر وحلَّ ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيًا، أو نبيًّا في مرتبة جبار السماوات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 59].
الجواب، وهو أن يقال: إذا كنت تقرّ أنَّ الإِنسان إذا أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة وجوبه، أو إذا أنكر أمرًا من الدين معلومًا بضرورة تحريمه، كفر. ولا يكفر إذا أنكر التوحيد، هذا لا يمكن إذا أنكر فرعًا من فروع الإسلام مُجمعٌ على تحريمه أو على وجوبه. يكفر.
ولا يكفر إذا أنكر التوحيد الذي أنزله الله بالكتاب وأرسل به الرسل ولا يمكنه هذا، أنتم إذا أنكرتم التوحيد - التوحيد إخلاص الدين لله - وأنتم ما تعلمون الدين لله وإنما تدعون غيره، فكيف تقرون أن الإنسان إذا أنكر وجوب الصلاة كفر، وإذا أنكر وجوب الزكاة كفر، أو أنكر وجوب الصوم كفر، أو إذا أنكر وجوب الحج كفر، وإذا أنكر وجوب التوحيد لا يكفر ! سبحان الله ! أيهما أعظم وجوبًا: وجوب التوحيد ووجوب الزكاة، ووجوب الصوم، ووجوب الحج.
إذا كان الذي ينكر فرعًا من فروع الدين يكفر، فالذي ينكر أصل الدين وأساس الملَّة من باب أولى أن يكون كافرًا، ثم أنكرتم التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله، إخلاص العبادة لله، وأنتم ما أخلصتم بل أشركتم وعبتم الله، وعبتم غيره، دعوتم الله ودعوتم غيره، إذا كنتم تقرون أن الإنسان إذا أنكر فرعًا من فروع الدين بشرط أن يكون مجمعًا على تحريمه أو على وجوبه، يكفر. وإذا أنكر وجوب التوحيد لا يكفر، التوحيد الذي هو أصل الدين وأساس الملَّة هذا من باب أولى.
إذا كان الإنسان أنكر وجوب الزكاة يكفر، فمن باب أولى إذا أنكر وجوب التوحيد وإخلاص لدين الله من باب أولى أن يكون كافرًا. هذا الجواب الثاني.
أما الجواب الثالث: وهو أن يقال: إن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم مع ذلك يشهدون أن لا إله إلا الله ويشهدون أن محمدًا رسول الله، ويؤذنون، ويصلون، ويصومون، فما السبب؟ !.
السبب: أنهم يقولون: إن مسيلمة نبي فقط، كفروا بهذا الاعتقاد؛ لأنهم رفعوا مسيلمة إلى مقام النبوة، أي إلى رتبة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا كان الذي يرفع رجلا إلى رتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يكفر ولا ينفعه كونه يشهد أن لا إله إلا الله، ولا ينفعه كذلك كونه يشهد أن محمدًا رسول الله، ولا ينفعه كونه يؤذن، أو يصلي، أو يصوم. فالذي يرفع صاحب القبر إلى رتبة الله يكون كافرًا من باب أولى، مثل: شمسان ويوسف وغيرهم من المقبورين في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -. كيف رفعوهم إلى مقام الألوهية ورتبة الله، يعني صرفوا لهم العبادة وما يستحق العبادة إلا الله، لكنهم عبدوا شمسان مع الله ودعوه وذبحوا له، رفعوه إلى رتبة الله، وجعلوه مثل الله؛ لأن الله هو المعبود بحق، وهم عبدوا شمسان ويوسف وغيرهم.
فإذا كان الذي يرفع شخصًا إلى رتبة النبي يكفر، فمن باب أولى أن الذي يرفع شخصًا إلى رتبة الله وإلى مقام الألوهية من باب أولى أن يكون كافرًا، ولا ينفعه كونه يصوم ويصلي ويتصدق؛ لأنه انتقض إسلامه ودينه بهذا الاعتقاد، وبهذا العمل الشركي.
(1/2)
تحريق الإمام علي لغلاة الخوارج
ويقال أيضًا: الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار، كلهم يدَّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي - رضي الله عنه - وتعلَّموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ ! أتظنون أن الصحابة يُكَفِّرُونَ المسلمين ؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب كُفْرٌ؟
هذا هو الجواب الرابع: وهو أن يقال: إن الصحابة - رضوان الله عليهم - أجمعوا على قتال الغلاة من الخوارج الذين اعتقدوا في علي - رضي الله عنه - أنه الإله، حرقهم علي - رضي الله عنه - وخدَّ لهم الأخدود، وشق لهم حُفَرًا في الأرض وأضرمها نارًا وألقاهم فيها، نعم حرقهم؛ لأنهم اعتقدوا فيه الألوهية وهم يصلون ويتعلمون العلم من الصحابة لكن غلوا في علي - رضي الله عنه - ورفعوه إلى رتبة الله، فأجمع الصحابة على قتالهم وكفرهم وتحريقهم، وقد حرقهم علي - رضي الله عنه - في النار.
فإذا كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يحرقون هؤلاء بالنار، ولم يمنعهم ذلك من كونهم يصلون ويصومون، وكونهم تعلموا العلم من الصحابة بسبب كونهم رفعوا عليًّا - رضي الله عنه - إلى مرتبة الله، فكذلك من رفع تاج أو يوسف أو شمسان إلى رتبة الله بأن دعاه من دون الله، أو دعاه مع الله، أو ذبح له، أو نذر له، أي رفعه إلى رتبة الله وإلى مرتبة الألوهية، إذًا لا يستحق العبادة إلا الله، وهذا صرف العبادة لله.
هل تظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين ؟ أو تظنون أن الاعتقاد في علي - رضي الله عنه - يكفّر والاعتقاد في تاج وشمسان لا يكفر؟. هذا وهذا سواء، هذا كفر وهذا كفر.
(1/2)
تكفير غلاة الشيعة مع نطقهم بالتوحيد
ويقال أيضًا: بنو عبيدٍ القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدَّعون الإسلام، ويصلُّون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين
هذا هو الجواب الخامس: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن الدولة العباسية يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتولَّوا الحكم في المغرب ومصر وهم يصلُّون الجمعة والجماعة، ويدَّعون الإِسلام ويدعون على المنابر، لما أظهروا شيئًا يدلُّ على كفرهم أجمع المسلمين والعلماء على قتالهم، وأن بلدهم بلاد حرب، غزوهم حتى استنقذوا بلاد المسلمين
بني عبيد القداح المعروف عنهم أنهم رافضة، وأنهم باطنية، لهم اعتقاد خبيث، واعتقاد فاسد، وهم يظهرون الإِسلام ويبطنون الكفر، ويظهرون الرفق ويبطنون الحقد والكفر.
فلما أجمع العلماء على قتالهم وغزوهم وجعل بلادهم بلاد حرب، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلون الجمعة والجماعة؟ لأنَّهم لما فعلوا ناقضًا من نواقض الإِسلام فانتقض إسلامهم ودينهم، ما ينفعهم كونهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وصلى وصام وزكَّى وحج، ثم دعا غير الله أو ذبح لغير الله، أشرك وانتقض إسلامه، ولا ينفعه ما كان يفعله في الإسلام.
(1/2)
أحكام المرتد في الفقه الإسلامي للخارجين على الدين
ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يكفُروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وإنكار البعث، وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب؟ "باب حكم المرتد"، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يُكفِّر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب ! ! !
هذا هو الجواب السادس ، وهو أن يقال: أنتم تقولون في الشبهة نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصلي ونصوم، ونصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونصدق القرآن بخلاف الكفار السابقين إنهم يكذبون الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويكذبون القرآن، ويكذبون بالبعث، فكأنكم تقولون: إنه لا يكفر الإِنسان حتى يجمع الأمرين، حتى يضم إلى دعاء الصالحين التكذيب بالقرآن والتكذيب بالرسول -صلى الله عليه وسلم-.
لو كان لا يكفر الإنسان حتى يجمع بين الأمرين بأنه يدعو غير الله ويكذب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكذب القرآن، لما كان هناك فائدة من الباب الذي يذكره العلماء في كل مذهب بأن حكم المرتد - وهو الذي يكفر بعد إسلامه - هذا موجود، باب في كتب الفقه عند الحنابلة وعند الشافعية وعند المالكية وعند الأحناف وكلهم يقول في باب حكم المرتد - وهو الذي يكفر بعد إسلامه - كما ذكرنا -.
ثم يذكر الشيخ: مَن فعلَ كذا كفر، وحلَّ دمه وماله، حتى ذكروا شيئًا يسيرًا عند بعض الناس حتى قال بعض الأحناف من أشدّ الناس في هذا حتى ذكروا ما يقارب المئات ثلاثمائة أو أربعمائة ناقض.
قال بعضهم: أنهم لو حضر المسجد أو مس المصحف على وجه التحقير كفر لأنه يحاد المصحف، كذلك ذكروا أنه لو تكلم بكلمة تضاد السُّنَّة كفر، فكيف كفر بهذا ولا يكفر إذًا بدعاء غير الله أو نذر لغير الله ! ! !.
(1/2)
التغليظ على من زل لسانه بشرك
ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ [سورة التوبة ، الآية: 74]. أما سمعت أن الله كفَّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاهدون معه، ويصلون معه، ويزكون ويحجون ويوحدون ؟. وكذلك الذين قال الله فيهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة، الآيتان: 65، 66]. فهؤلاء الذين صرَّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزاح، فتأمَّلْ هذه الشبهة، وهي قولهم: تُكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون، ( ثم تأمَّل ) جوابها؛ فإنها من أنفع ما في هذه الأوراق.
هذا هو الجواب السابع ، وهو أن يقال: نص القرآن على كفر أناس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم فعلوا ناقضا من نواقض الإسلام وهم الذين قال الله فيهم: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ ماذا قالوا؟. وقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم.
أخبر الله -عز وجل- أنهم كفروا بعد الإسلام، أي هناك إسلام سابق، وكفروا بعد كلمة قالوها يحلفون بالله ما قالوها، وقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم، كفروا بهذه الكلمة بعد إسلامهم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.
إذًا كان هؤلاء يكفرون بكلمة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكيف لا يكفر من دعا غير الله، وذبح لغير الله، ونذر لغير الله، وتقولون لا يكفر وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ! ! !
وكذلك الذين قالوا في غزوة تبوك لقد قالوا كلمة على وجه المزح واللعب كفَّرهم الله بها، وهو أن جماعة قالوا في غزوة تبوك ما رأينا مثل هؤلاء - يصفون الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -، أرغبَ بطونًا -يعنون من كثرة الأكل -، ولا أكذب ألسنًا - يعني كذب الحديث -، ولا أجبن عند اللقاء - أي عند ملاقاة العدو -، فنزل القرآن يكفرهم.
لذلك قال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أثبت الله لهم الكفر بعد الإيمان بهذا الكلام، فنجى الله هؤلاء، ولا يعتذرون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله ! ما قصدنا حقيقة الكلام، إنَّما تكلمنا بكلمات على وجه المزح واللعب، نمزح فنتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد سوى أن يتلو عليهم هذه الآية: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
وهم يعتذرون ويحاولون أن يسمع لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقولون: يا رسول الله ! ما كنا قصدنا الحقيقة، إنَّما كنا نتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، نقطع حتى ينتهي عنا الطريق، فنزل القرآن بتكفيرهم.
إذا كان هؤلاء يجاهدون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلون ويصومون، ومع ذلك لما تكلَّمُوا بهذه الكلمة، أخبر الله بأنهم كفروا بعد إيمانهم، فكيف يُقال بعد هذا، كيف يقول هؤلاء نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصدق الرسول والقرآن وأنتم تكفروننا بدعاء الصالحين تكفرون المسلمين ! أيهما أشد؟ كلمة تكلم بها أو عبادة تصرف لغير الله؟ ! ! !.
(1/2)
الهم بالشرك ثم الرجوع عنه ليس بشرك
ومن الدليل على ذلك أيضًا: ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم، أنهم قالوا لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف، الآية: 138]، وقول أناس من الصحابة اجعل لنا ذات أنواط، فحلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا .
هذا الدليل اختصره المؤلف - رحمه الله -، هذا يكون جوابًا ثامنًا، ليكون ثمانية أجوبة، لكن المؤلف فصَّل عنه، لكنه جواب ثابت يكون جوابًا ثامنًا، وهو أن بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى - عليه الصلاة والسلام - كانوا معه مؤمنين مع إخلاصهم وعلمهم، وهم الخلاصة من بني إسرائيل الذين شهدوا فرعون وقد أغرقه الله وقومه، ونجَّاهم الله وهم ينظرون، وأهلك عدوهم وهم ينظرون كانوا مع موسى قائدهم - عليه الصلاة والسلام - ومعه المؤمنون وفرعون معه الكفار فتبع فرعون ومن معه موسى ومن معه يطلبهم لقتالهم، فلما أقبل جيش فرعون وترائى الجمعان، ورأى جيش موسى فرعون وملأهم فقالوا: يا موسى ! إنا لمدركون، لقد جاءنا فرعون ومن معه خلفنا والبحر أمامنا ماذا نفعل؟ لقد أدركنا فرعون يطلبنا.
قال موسى - عليه الصلاة والسلام -: كلا لستم بمدركين، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فلما وصل البحر أمر الله موسى - عليه السلام - أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، فكان اثني عشر طريقًا يبسًا في الحال، صار كالطود العظيم، وصارت أمواج البحر كأنها جبال عن يمين الداخل وعن شماله، وفي الوسط يابس كأنه طريق معبَّد اثني عشر طريقًا، سلكت القبائل على الطرق، كل قبيلة سلكت طريق في راحة وأمن يمشون على أرض يابسة في البحر وسط البحر.
هذا من الدلالات العظيمة على أن الله قادر على كل شيء، فدخلوا، فلما جاء فرعون وقومه يتبعونهم يريدونهم رأوهم داخل البحر ورأوا البحر يابسًا حارًا صاروا في جبهة يتبعونهم، ثم خرج موسى - عليه السلام - وقومه من الجهة الأخرى خارجين وتكامل فرعون وقومه داخلين، أمر الله -عز وجل- البحر أن يعود إلى حالته، فانطبق على فرعون وجنوده، فغرقوا كلهم، فصارت أجسامهم للغرق وأرواحهم للنار والحرق - والعياذ بالله - وهم ينظرون.
قوم موسى - بني إسرائيل - نجَّاهم الله، وهم خلاصة من بني إسرائيل فلما خرج بهم موسى وجعلوا يمشون، مروا على أناس يعبدون صنمًا، قالوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي: هات لنا آلهة، فاستعظم موسى عليه السلام هذا، وأنكر عليهم وغلَّظ عليهم، وقال: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ .
فهؤلاء - وهم بنو إسرائيل - مع صلاحهم وعلمهم شاهدون لإغراق الله لفرعون ومن معه، عندما قالوا هذه المقالة: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ .
ما أنكر عليهم موسى - عليه السلام - وقال: إن هذا أمرٌ عظيمٌ، وأنَّ هذا من الشرك الأعظم، فهم مع صلاحهم وعلمهم وكونهم مع نبيهم لو فعلوا كما فعل أولئك الذين لهم آلهة لكفروا ومثلهم مثل ما وقع من الصحابة في غزوة حنين كما روى أبو واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكنا حديثي عهد بشرك... .
اعتذر هؤلاء يقولوا: أسلمنا قريبًا فما تمكَّن الإسلام من قلوبنا، حديثوا عهد بشرك أسلمنا قريبًا، أي أسلموا في مكة وساروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين، فمرُّوا بمشركين ولهم سدرة شجرة عظيمة كبيرة يتبركون بها ويعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله ! اجعل لنا شجرة نتبرَّك بها مثل هؤلاء، اجعل لنا ذات أنواط، شجرة نتبرك بها ونلق بها أسلحتنا.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى - عليه السلام - اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ .
لقد أنكر عليهم، وغلَّظ عليهم - عليه الصلاة والسلام -، وبيَّن أن هذه المقالة مثل مقالة بني إسرائيل ؛ لأن العبرة بالمعاني والحقائق وإن كانت مختلفة في لفظٍ لكن المعنى واحدٌ، أولئك طلبوا آلهة وأنتم طلبتم شجرة تتبركون بها كما يتبرك المشركون وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجاهدون أنهم لو فعلوا لكانوا مثل أولئك، لكن المشركين شبهة، ما هي؟ هذه الشبهة وهم يقولون: إن بني إسرائيل كفروا، والصحابة ما كفروا وهم طلبوا أن يفعلوا الشرك؟
الجواب عن هذا أن بني إسرائيل ما فعلوا؟ ما اتخذوا آلهة، زجرهم موسى فانزجروا ولم يفعلوا، ولو فعلوا لكانوا مشركين، وكذلك الصحابة الذين طلبوا شجرة، ما فعلوا، ولو تركوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبرَّكوا بشجرة مثل المشركين لكانوا مشركين، لكنهم ما فعلوه.
هذا دليل على أن الإِنسان إذا لم يفعل الشرك ما يكون مشركًا، وإذا تكلم بكلامٍ عن جهل وهو جاهل، أنه يعذر لهذا الجهل، إذا تكلم كلامًا كفر جاهل واستغفر الله وتاب فلا يضره ! هذه شبههم.
(1/2)
الهم بالشرك ثم الرجوع عنه ليس بشرك (تابع)
ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا، فالجواب أن تقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا، وكذلك الذين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلوا، ولا خلاف في أنَّ بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوا ذلك لكفروا،....
لو فعلوا وأتوا بصنمٍ يتعبدونه مثل ما للمشركين ؛ لكفروا، وكذلك الصحابة لو لم يمتثلوا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقبلوا نصحه قالوا: لا، لا بد أن نتبرك بشجرة ولو تبركوا بالشجرة لكانوا مشركين، لكنهم انزجروا وقالوا هذا الكلام عن جهلٍ، فلما زجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- انزجروا.
(1/2)
نهي النبي أصحابه عن ذات أنواط
وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
نعم، وهذه تفيد الحذر، وهو أن المسلم قد يقع في الشرك، وقد يقول الشرك وهو لا يشعر، فقد يفعل هذا المسلم، بل قد يفعل هذا العالِم الذي يكون عنده بعض العلم، ثم يقع في نوع من الشرك، هذا يفيد الحذر.
فالإنسان يحذر، ويتعرف على أنواع الشرك وأسبابها، وذرائعها الموصلة لها؛ حتى لا يقع في شيء منها وهو لا يشعر، ولهذا يقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " ، يقع في الشرك وهو لا يشعر ما يدري، إن نشأ في الإسلام، وولد في الإِسلام ولد بين مسلمين، ورأى الناس يصلون ويصومون ويحجون، ولا عرف الشرك، قد يقع في نوع منها وهو لا يشعر، بخلاف الصحابة الذين كانوا مشركين قبل الإِسلام لا يقعون في الشرك؛ لأنهم خبروا الشرك، وذاقوا مرارته، وعرفوا أنواعه، ثم هداهم الله إلى الإسلام، ثمَّ منَّ الله عليهم بالإِيمان، فلا يقعون فيه، ولذلك فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - أكمل إيمانًا وعلمًا وتقوى من أبنائهم؛ لأن الصحابة عرفوا أنواع الشرك، وعرفوا الشرك وذاقوا مرارته وخبروه، فلا يقعون فيه، بخلاف من بعدهم، فإنهم ولدوا في الإِسلام، وبعضهم قد لا يعرف أنواع الشرك، وقد يقع في شيء منه وهو لا يظنّ أنه شرك، كما وقع الآن من عبَّاد القبور الذين يطوفون حول قبر البدوي في مصر والحسين أو السيدة زينب أو نفيسة أو عبد القادر الجيلاني أو ابن علوان أو عبَّاد القبور في الشام أو في مصر أو في ليبيا أو في غيرها من البلدان، أو في الباكستان أو أفريقيا أو في إيران أو في غيرها من البلدان، تجدهم يطوفون حول القبور، يذبحون لها. وإذا قلت لهم: هذا شرك، قالوا: هذا ما هو بشركٍ، هذا ما هو بشرك، هذا محبة للصالحين، ونشفع ونلتجأ للصالحين هذا ليس بشرك، ما عرفوا الشرك، فمن عرف الشرك وخبره وذاق مرارته، ثم هداه الله لا يقع فيه كالصحابة بخلاف من لم يعرفه قد يقع فيه.
ولهذا فإن الصحابة أكمل إيمانًا وعلمًا ومعنًى ممن بعدهم، ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " إنما تنقض عُرَى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " ، ومن لم يعرف الشرك قد يقع فيه ولا يشعر.
لا، ما وقعوا، لكن تكلَّمُوا بهذه الكلمة، ما وقعوا، قالوا: " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم أنواط "، لكن ما فعلوا، ولا تبركوا بشجرة، لكن زجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، لقد طلبوا أن يفعلوا الشرك عن جهل، فزجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وستأتي الفائدة الثانية التي يذكرها المؤلف، قد يتكلم بكلمة الكفر وهو جاهل وهو لا يدري، وقد يكون معذورًا في هذه الحالة؛ لأنها عن جهلٍ منه.
(1/2)
وجوب التحرز من الشرك
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل ( التوحيد فهمناه ) إن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
ينبغي للإِنسان التحرز والحذر، فالإِنسان يتحرز ويحذر من الشرك وأنواعه، ولو كان مسلمًا، ولو كان موحِّدًا، ولو كان عنده بعض العلم، لا بدَّ من الحذر والتعرف على أسباب الشرك وأنواعه؛ حتى لا يقع في شيء منه، ويصدق الالتجاء إلى الله ويتضرع أن ينجيه من الشرك وأسبابه.
قال الخليل - عليه الصلاة والسلام - وهو والد الأنبياء وإمام الحنفاء - عليهم الصلاة والسلام - يسأل ربه ويدعوه، يقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فالذي كسَّر الأصنام، إبراهيم وهو الذي صمد صمود الجبال الراسيات أمام المشركين وأمام الوثنيين من أبيه وقومه وكسَّر الأصنام بيده - عليه الصلاة والسلام -، ثم بعد ذلك يخاف على نفسه ويخاف على بنيه، وبنيه هم أنبياء إسماعيل وإسحاق نبيين كريمين، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- من ذرية إسماعيل وإسحاق الذي أنجب يعقوب ويعقوب أنجب سيدنا يوسف - عليهم السلام -، فهم أربعة أنبياء من نسق كما في الحديث: الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم سلالة أنبياء، ومع ذلك يسأل ربه ويقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ .
هذه حاله يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ويخاف ! ! ! فكيف نحن لا نخاف؟ ولهذا قال إبراهيم النبي ذلك، ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه السلام.
(1/2)
وجوب تنبيه الواقع في عمل شركي
( وتفيد ) أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلَّم بكلام كفر وهو لا يدري فيُنَبَّه على ذلك، وتاب من ساعته، أنَّه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم-.
المؤمن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلمة الكفر جاهلًا لا يدري، ثم تاب في ساعته، فلا يضر هذا، لا يضره كونه يتكلم؛ لأنه تكلم عن جهل، ثمَّ لمَّا تنَّبَه تاب من ساعته، فهذا لا يضر.
فالصحابة تابوا، وبني إسرائيل مع صلاحهم وعلمهم طلبوا عن جهلٍ أن يجعل لهم إلهًا كما لهم آلهة، ثم نبَّهَهُم وتابوا في ساعتهم ولم يفعلوا، وكذلك الصحابة طلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل لهم سدرة كما للمشركين سدرة يتبرَّكون بها، فنبَّههم ونصحهم - عليه الصلاة والسلام - فتابوا من ساعتهم، فإن كان هذا الكلام عن جهل، فلا يضره.
(1/2)
التغليظ على الواقع في الشرك جهلا
( وتفيد ) أيضًا أنه لو لم يكفر فإنه يُغلَّظ عليه الكلام تغليًظا شديدًا.
ولذلك غلَّظ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحابة الذين قالوا، قال: قد قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وموسى غلَّظ على قومه وقال: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وخصَّهم بالجهل مع صلاحهم وعلمهم بسبب هذه المقالة، ولهذا لا بد أن يغلظ عليه ولو كان جاهلًا حتى يرتدع وينزجر.
هذه كلها فوائد تستفيدونها من هذه القصة، أن العالم المسلم المجتهد، بل العالم قد يقع في الشرك وهو لا يشعر، فتفيد الحذر والانتباه أن المسلم إذا تكلم بكلمة كفر عن جهلٍ وهو لا يدري ثم تنبَّه وتاب من ساعته فإنه لا يضره، وتفيد أيضًا أنه يغلظ وينكر عليه بسبب عظم هذا الأمر الذي تكلم به.
(1/2)
تغليظ النبي على الصحابة لطلبهم ذات أنواط
كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إنهم لو فعلوا لكانوا مشركين، لو فعلوا ما طلبوا لكانوا مشركين، ولا ينفعهم كونهم مع موسى ومع علمهم وصلاحهم، وكذلك الصحابة كونهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يجاهدون لو فعلوا الشرك لكفروا وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويجاهدون.
(1/2)
ثمانية أجوبة على أقوى شبه المشركين
ولهم شبهة أخرى...
ممكن أن نسأل عن أجوبة هذه الشبهة قبل أن ندخل في هذه الشبهة، هذه الشبهة جديدة، أولًا نريد تصوير الشبهة التي أجاب المؤلف - رحمه الله - عنها بثمانية أجوبة، أي تصوير الشبهة، يقول: نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مشركين بسبب الالتجاء للصالحين ودعاءهم وتجعلوننا مثل الكفار في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والكفار في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويكذبون القرآن، ويقولون عنه سحر وشعر وكهانة، ولا يصلون، ولا يصومون، ويكذبون بالبعث، فكيف تجعلوننا مثلهم. ما هذه الشبهة؟.
أجاب المؤلف - رحمه الله - على هذه الشبهة بثمانية أجوبة.
الجواب الأول: وخلاصة هذه الأجوبة أنه هناك جوابًا يجمعها كلها، وهو أنه من فعلَ ناقضًا من نواقضِ الإِسلام، انتقض إسلامه ودينه مطلقًا، ولا ينفعه كونه يتلفظ بالشهادتين أو يقرّ بالشهادتين، أو يصوم، أو يصلي، أو يزكي، إذا فعلَ ناقضًا من نواقضِ الإسلام بطل إسلامه ودينه وتوحيده بإجماع المسلمين ؛ لأن هذا الناقض ينقض توحيده وإسلامه، كما لو تطهّر الإنسان وأحسن الطهارة وتوضأ وأحسن الوضوء ثم خرج منه بول أو غائط أو ريح، بطلت الطهارة، وفسدت الطهارة بالحدث؛ فالحدث يفسد الطهارة.
كذلك الناقض من نواقض الإسلام يفسد التوحيد الإيمان، وهذا جواب يجمعها، وهو الجواب الأول.
وكذلك من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمن بالبعض الآخر، هذا الجواب أن يقول: لا خلاف بين أهل العلم أن من صدَّق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بعض ما جاء به، وكذَّبه في البعض الآخر كفر، فإذا صدق في وجوب التوحيد وكذَّب في وجوب الصلاة كفر، وإذا صدَّق في وجوب التوحيد وصدق في وجوب الصلاة وكذَّب في وجوب الزكاة كفر، وإذا صدَّق في وجوب التوحيد والصلاة والزكاة وكذَّب في وجوب الصوم، كفر، وإذا صدَّق في جميع ما ذكر وكذَّب في الإِيمان بالبعث كفر، وكذلك أيضًا لو آمن ببعض ما جاء به الرسول وكفر بالبعض الآخر، أو آمن بما جاء به من التوحيد، لكنه لم يؤمن بما جاء به بوجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج، هذا أمرٌ مجمعٌ عليه.
فكذلك إذا كنتم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتصدِّقون الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتصدِّقُون القرآن، وتصدقون بالبعث، لكنكم لم تخلصوا العبادة لله، وإنَّما أنكرتم وجوب التوحيد لله، والله -تعالى- أوجب على عباده أن يعبدوه كما نصَّ في ذلك القرآن الكريم، وأن يخلصوا له الدين فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني: العبادة وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ .
الجواب الثاني: يعني إذا كنتم تقرُّون أنه إذا جحد وجوب الصلاة كفر، أو جحد وجوب الزكاة كفر، أو جحد وجوب الصوم كفر، أو جحد وجوب الحج كفر، وهذه في فروع الدين، أو جحد وجوب الحج كفر، وهذه في فروع الدين أو جحد تحريم الزنا كفر، أو جحد تحريم الربا كفر، أو جحد تحريم الخمر كفر، فكيف لا يكفر إذا جحد وجوب التوحيد وإخلاص التوحيد لله وإخلاص الدين لله؟! سبحان الله ! إذا جحد فرعًا من فروع الدين وإذا جحد أصل الدين وأساس الملَّة لا يكفر، فمن باب أولى إذا جحد التوحيد الإيمان، والتوحيد معناه أخلص الدين لله، ومن دعا غير الله، نذر لغير الله، ولا أخلص التوحيد لله وما أخلص العبادة.
الجواب الثالث: إذا كان الذي رفعَ شخصًا إلى مرتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يكفر، فالذي يرفعه إلى مرتبة الله المرتبة الأعلى مرتبة جبَّار السماوات والأرض يكفر من باب أولى، إذا كان بنو حنيفة ما كفروا إلا لأنهم رفعوا مسيلمة إلى مرتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى مقام النبوَّة، فالذي يرفع أصحاب القبور أو يرفع شخصًا إلى مقام الرب -سبحانه- مقام الإله مقام جبار السماوات والأرض ويدعوه كما يدعو الله، ويذبح له كما يذبح لله، وينذر له كما ينذر لله، يكون كفره من باب أولى.
الأول أن العلماء اتفقوا على أن الإنسان إذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام كفر، وإذا آمن ببعض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمن بالبعض الآخر أو صدق الرسول ببعض ما جاء به ولم يصدق بالبعض الآخر، كفر.
والثاني من باب أولى أنه إذا جحد فرعًا من فروع الإسلام مجمع على تحريمه أو على وجوبه، يكفر. فالذي يجحد أصل الدين وأساس الملَّة من باب أولى يكفر، هذا هو الفرق بينهما، هذا كفر كفرًا بالأولوية إذا كان الذي يجحد أصل الدين من باب أولى.
أما الأول هو التفريق بين ما جاء به الرسول والإِيمان ببعض ما جاء به الرسول وعدم الإِيمان بالبعض الآخر، أو تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بعض ما جاء به وتكذيبه في بعض ما جاء به.
الجواب الرابع: الغلاة الذين غلوا في علي - رضي الله عنه - وقالوا: أنت الإِله حرقه وأقره الصحابة على ذلك، وهم يصلون ويصومون ويتعلمون العلم من الصحابة لماذا؟ لأنهم فعلوا ناقضًا من نواقض الإسلام، فكذلك الذي يرفع صاحب القبر مقام الله، ويدعوه من دون الله، ويذبح له من دون الله، فقد رفعه إلى مقام الألوهية، فيكون كافرًا، فما الفرق بين هذا وذاك؟ هل الصحابة يكفِّرون المسلمين ؟ لا. وهل الاعتقاد في علي - رضي الله عنه - لا يجوز، والاعتقاد في المقبورين ودعائهم يجوز أن تصرف لهم العبادة لا يضر؟ !.
الجواب الخامس: أن الرافضة كفروا، من خالف الأمة يصيبه من الكفر؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام -والعياذ بالله- وهم مع ذلك يصلون ويصومون ويصلون الجمعة والجماعة، ويؤذنون، فهذا ردّ عليهم في قولهم: نحن نشهد أن لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة. إذا فعل الإنسان ناقضًا من نواقضِ الإسلام كفر، ولا ينفعه ما يقيمه من شعائر الإِسلام أو يعتقده.
الجواب السادس: قوله: يحلفون بالله ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر، فأثبتوا الكفر بعد إسلامه، وكذلك الصحابة الذين كانوا في غزوة تبوك الذين يتكلمون بكلمات يلمزون بها النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة قالوا: ألا ترون مثل هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء، فنزل القرآن بتكفيرهم. قال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ .
فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان، هذا هو الجواب السادس.
الجواب السابع: لو كان الإِنسان لا يكفر حتى يجمع بين الأمرين: حتى يجمع بين التكذيب للرسول والتكذيب للقرآن مع صرف العبادة لغير الله، لما كان هناك فائدة للباب الذي يذكره العلماء من أهل كل مذهب وهو قولهم: " حكم المرتد " وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أشياء كثيرة حتى وصل بعضهم إلى مئات.
الجواب الثامن: الذين نجَّاهم الله -عز وجل- مع موسى - عليه السلام - وهم يرون إهلاك الله لفرعون وقومه، وهؤلاء الذين قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن مقالتهم كما قالت بني إسرائيل تمامًا؛ لأن العبرة بالمعاني. فوائد من قصة بني إسرائيل وذات أنواط:
والمؤلف يقول: هذه قصة بني إسرائيل وقصة الصحابة فيها فوائد، ما هي تلك الفوائد؟ استنبط منها المؤلف ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: بأن المسلم المجتهد - بل العالم - قد يقع في شيءٍ من الشرك وهو لا يشعر، فهذا يوجب الحذر والاجتهاد والتعلم حتى لا يقع في شيءٍ من الشرك وهو لا يشعر.
الفائدة الثانية: التغليظ في الإِنكار. ولذا غلَّظ موسى -عليه السلام- على بني إسرائيل مع صلاحهم قال: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل.
وغلَّظ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحابة الذين سألوه، فقال: قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ .
قالوا: نريد شجرة نتبرك بها، لكنه غلَّظ عليهم وجعل هذه المقالة مثل هذه المقالة.
الفائدة الثالثة: وهذه من مكائد الشيطان، وتوجب الحذر والاجتهاد، لكن هناك أيضًا فائدة أخرى، وهي أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلمة الكفر عن جهل ثم نُبِّه في ساعته وتاب، فإنه لا يضره ذلك، لا يضره إذا تاب بساعته بسبب جهله، لكن مع ذلك يغلظ عليه في الإِنكار.
هذه الشبهة قد يستفيد منها أن المسلم إذا تكلم بكلمة ثم تاب في ساعته هذه، هذا من شبههم على هذه القصة، قالوا: إن بني إسرائيل ما كفروا والصحابة ما كفروا، والجواب: أنهم ما فعلوا الكفر، ولو فعلوا لكفروا، وبنو إسرائيل ما عبدوا آلهة، والصحابة ما تبركوا بشجرة ولو فعلوا لكفروا، ولكنهم ما فعلوا !.
يفيدنا أن المسلم الجاهل إذا تكلم بكلمة الكفر جاهلًا وهو لا يدري، ثم نُبِّه من ساعته وتاب، فلا يضره ذلك، ولا يكون كافرًا.
(1/2)
عتاب النبي لأسامة على قتل الموحد
يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله، وقال: أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ وكذلك قوله: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها.
ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر، ولا يُقتل، ولو فعل ما فعل، فيقال لهؤلاء المشركين الجُهَّال: معلوم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون ويدَّعون الإسلام.
هذه الشبهة خلاصتها: احتجاجهم بقصة أسامة - رضي الله عنه - حينما قتل رجلًا عندما رفع السيف عليه من المشركين لما رفع السيف عليه قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة - رضي الله عنه - حيث إنه قالها متعوِّذًا، وأنه ما قالها إلا ليأمن من قتله، فقتله ولم يبالِ.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على أسامة - رضي الله عنه - وشدَّد عليه وغلَّظ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله ! قالها متعوِّذًا قال: رفعت عليه السيف فلما رفعت عليه السيف قال: لا إله إلا الله إنَّما قالها متعوِّذًا، ما قالها عن إيمان. قال: أشققت عن قلبه؟ كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة وفي لفظ آخر: اللهم إني أبرأ إليك فيما فعله أسامة .
قال هذه الشبهة يقولون: هذا دليل على أن من قال لا إله إلا الله صار موحِّدًا، يعني ولو فعل الشرك يكف عنه، وكذلك يستدلون بالحديث الصحيح كما ثبت في الصحيحين أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني أموالهم ودماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله .
قال: هذا دليل على أن الإنسان إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وجب الكف عنه؛ لأنه مسلم ولا يضره بعد ذلك شيء.
والجواب - كما ذكر المؤلف رحمه الله -: أن هناك فرق بين من دخل في الإسلام جديدًا وبين من كان مسلمًا قبل ذلك، ثم فعل ناقضًا من نواقض الإسلام، فالذي دخل في الإِسلام من جديد إذا قال: لا إله إلا الله وجب الكف عنه، ثم ينظر بعد ذلك إن استمر على الإسلام، وفعل ما يدلّ على إيمانه وإسلامه وفعل ما تقتضيه لا إله إلا الله صار مسلمًا، وإن فعل ما يناقضها قتل بعد ذلك، لكن إذا قال: لا إله إلا الله وجب الكف عنه كأن يقول مشرك لا إله إلا الله وجب الكف عنه. قال بعض العلماء كذلك لو أذن أو صلى فإن هذا دليل على إيمانه، وكذلك الحديث القدسي حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إذا شهد وجب الكف عنه، ثم بعد ذلك ينظر إن استمر على قولها وفعل ما يوجبها ويقتضيها فهو مسلم، وإن فعل ما يناقضها قتل؛ بدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا .
ولو كانوا لا يقتلون بعد ذلك لما كان هناك فائدة في التنبيه، وكذلك الذين هَمَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بغزوهم في المصطلق لما جاءه المخبر الذي يقولُ إنهم منعوا الزكاة فأنزل الله قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أي: انظروا إذا كان الخبر صحيحا فاقتلوهم، وإن كان الخبر غير صحيح كفوا عنهم، أما من كان يقول لا إله إلا الله في الأول، ثم فعل ما يناقضها، هذا يدل على كفره إذا كان يقول لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويزكي ويصوم، ثم دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو أنكر وجوب الصلاة أو وجوب الصوم أو وجوب الزكاة والحج، هذا كفر؛ لأنَّه فعل ما يناقض هذه الكلمة بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاتل اليهود وهم يقولون لا إله إلا الله؛ لأنهم ينقضونها بعدم الشهادة للنبي بالشهادة.
وكذلك قاتل الصحابة بني حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون ويصومون؛ لأن إسلامهم انتقض باعترافهم بنبوة مسيلمة
وكذلك الخوارج الذين أمر أبو بكر - رضي الله عنه - بقتالهم وهم يصلون يصومون ويقولون النبي -صلى الله عليه وسلم- تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، حرَّقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأصحابه بالنار.
لهذا فإن الشبهة التي ذكرها المؤلف الشيخ - رحمه الله - شبهة عظيمة وهي من أقوى شبه المشركين ولهذا اعتنى بها المؤلف - رحمه الله - بالإجابة عليها وأجاب عليها بثمانية أجوبة. فما هي الشبهة باختصار؟.
تصوير الشبهة: يعني أنهم يريدون أن يبرروا ما هم عليه من الشرك من دعاء الصالحين والمقبورين والذبح لهم والنذر لهم، يقولون: نحن لسنا بمشركين، المشركون الذين يعبدون الأصنام والأوثان، ولا يشهدون أن لا إله إلا الله، ولا يشهدون أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل يكذبون الرسول، ويكذبون القرآن، يقولون: هو سحر وكهانة، ويكذبون بالبعث، ولا يصلون ولا يصومون؛ أما نحن فنشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونصدق بالقرآن، ونصوم ونصلي ونصدق بالبعث. هذه الشبهة.
الجواب الأول من الأجوبة الثمانية: لقد أجمع العلماء واتفقوا على أن من صدَّق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شيء وكذَّبه في شيء مما جاء به، فإنه يكفر بالإِجماع، فلو صدَّق في وجوب الصلاة وكذَّب في وجوب الزكاة كفر، أو صدق في وجوب التوحيد ووجوب الصلاة والزكاة وكذب في وجوب الصوم، كفر.
كذلك من أبغض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤمن بالبعض الآخر، كفر بالإِجماع، قال الله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ .
وأنتم آمنتم ببعض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكفرتم بالبعض الآخر، ثم شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وصدقتم بالبعث، هذا حق، ولكنكم لم تخلصوا التوحيد لله، فأشركتم مع الله غيره، وأعظم ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو التوحيد، أنتم ما عملتم بالتوحيد، فإذا لم تُوَحِّدُوا الله ولم تخلصوا له العبادة، فإنَّكم تكونوا مشركين، ولا ينفعكم كونكم آمنتم ببعض ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقتم ببعض ما جاء به.
لا بد من التصديق بالجميع، والعمل بجميع ما جاء الشرع، فالشيء الذي لم تفعلوه هو أعظم شيء جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو التوحيد.
ما وحَّدتم الله وما أخلصتم له العبادة، حيث دعوتم معه غيره، وعبدتم معه غيره.
الجواب الثاني: من أنكر فرعًا من فروع الدين مجمع على وجوبه أو تحريمه، أو أنكر وجوبه إذا كان مجمعًا على وجوبه أو تحريمه إذا كان مجمعًا على تحريمه، هذا يكفر بالإِجماع.
مثال الأول: من أنكر وجوب الصلاة، هذا أمرٌ مجمعٌ على وجوبه، أو أنكر وجوب الزكاة. إذا أنكر وجوب الحج.
المثال الثاني: الأمر الذي أجمع على تحريمه، تحريم الزنا، من أنكر تحريم الزنا وقال: إن الزنا حلال، أو حلَّل الزنا أو الخمر، كفر.
أي: إذا كان الذي ينكر فرعًا من فروع الدين، يكفر. فالذي ينكر أصل الدين وأساس الملة وهو التوحيد لله، يكفر من باب أولى.
الجواب الثالث: إن الصحابة أجمعوا على قتال بني حنيفة وهم يشهدون لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة؛ لأنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، فرفعوا رجلًا إلى مرتبة النبوَّة. وأجمع الصحابة على قتالهم؛ فالذي يرفع شخصًا إلى مرتبة الألوهية - مرتبة الله - أعلى وأعظم كفرًا منهم، فالذي يدعو الصالحين ويعبدهم من دون الله جعلهم آلهة مع الله، وجعلهم في مرتبة الألوهية، مرتبة الله، والله هو المعبود بالحق، فإذا عُبِدَ مع الله، جعله في منزلة الله؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا هو سبحانه.
الجواب الرابع: الغلاة الذي حرقهم علي - رضي الله عنه - في النار رفعوه إلى منزلة غلوا فيه، إذا كان الصحابة أجمعوا على قتال من غلا في علي - رضي الله عنه - ورفعه وجعله في مقام الألوهية، فكذلك أيضًا من رفع المقبور وجعله وغلا فيه، وجعل فيه نوعًا من الإِلهية إذا عرف أنه نوعٌ من أنواع الألوهية. كذلك يكون مشركًا ويستحق القتل، أي: إقامة الحد عليه، هذا بعد أن يُستتاب، فإن تاب لا يُقتل.
الجواب الخامس: أن المسلمين اتفقوا على قتال العبيديين الروافض الذين حكموا مصر والمغرب ؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإِسلام، فكيف بمن أعلن الشرك، ودعا غير الله، وذبح لغير الله.
الجواب السادس: كان أصحاب الشبهة لا يرون أنه لا يكفر الإنسان حتى يجمع بين أمرين: بين الشرك، وبين التكذيب. لو كان كذلك لما كان هناك، ما كان فائدة في الباب الذي يبوّبه العلماء في كل مذهب " باب حكم المرتد "، وهو الذي يكفر بعد الإسلام.
الجواب السابع: قال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وكذلك الصحابة الذين كانوا يجاهدون في غزو الروم تكلَّمُوا كلمات قالوا: ما رأينا مثل ما ترون هؤلاء أرغبُ بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عن اللقاء على وجه المزح واللعب، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فكفَّرهم الله وأنزل فيهم قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فسمَّاهم كفارًا بعد الإِيمان.
الجواب الثامن: إنَّ الذين نجَّاهم الله -عز وجل- مع موسى - عليه السلام - وهم بنو إسرائيل -، مع صلاحهم وعلمهم لما قالوا لموسى - عليه الصلاة والسلام -: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ .
فكيف تقولون الآن نحن نشهد أن لا إله الله وأن محمدًا رسول الله، ونقيم الصلاة، ولا يضرنا كوننا نلتجئ إلى الصالحين ؟
هؤلاء قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم ومحبتهم لنبيهم، لو فعلوا لكانوا كفارًا. وكذلك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين أسلموا حديثًا كما روى الحديث أبو واقد الليثي في غزوة حنين لما مرُّوا بالمشركين ولهم سدرة يجلسون وينوطوا بها أسلحتهم، قالوا: " اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط "، ثم زجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-. فلو فعلوا لأشركوا مع كونهم مذعنين ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومصدقين بالقرآن وبرسول الله، فكيف تقولون: نحن لا نصدِّق برسول والقرآن ولا يغيرنا هذا؟!.
لكن لهم شبهة حول هاتين القضيتين. ما هي شبهاتهم؟ إن أصحاب موسى ما كفروا، وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كفروا.
والجواب: أنهم لم يفعلوا الكفر، بل لَمَّا زجرهم موسى انزجروا وامتنعوا، وكذلك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو فعلوه لكفروا.
وهذا يفيد مجموعة من الفوائد:
الفائدة الأولى: بأن المسلم المجتهد - بل العالم - قد يقع في شيء من الشرك وهو لا يشعر، فهذا يوجب الحذر والاجتهاد والتعلم؛ حتى لا يقع في شيءٍ من الشرك وهو لا يشعر.
الفائدة الثانية: أنه يغلظ عليه في الإِنكار. ولهذا غلَّظ موسى - عليه السلام - على بني إسرائيل مع صلاحهم قال: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل مع علمهم وصلاحهم. ونبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- غلَّظ على الصحابة الذين سألوه، فقال: قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ أي: كما قال قوم موسى لموسى فجعل مقالتهم مثل مقالتهم.
ثم ذكر المؤلف - رحمه الله - شبهة للمشركين في قصة أسامة وخلاصتها: أن يحكم عليه بالإِسلام، ولا يضره أي فعل يفعله بعد قول لا إله إلا الله؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غلَّظ على أسامة لَمَّا قتل رجلًا من المشركين عندما قال: لا إله إلا الله. وقال يا رسول الله ! إنه قالها تعوُّذًا، والرسول -صلى الله عليه وسلم- أنكر عليه وقال: كيف تفعل بـ "لا إله إلا الله " إذا جاءت يوم القيامة .
أظن في بعضها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تبرَّأ من فعله، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعله أسامة .
وجاء هذا في قصة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما قتل بني حنيفة وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد فقصة أسامة تدلُّ على أن الإِنسان إذا قال: لا إله إلا الله أنه يحكم بإسلامه، ولا يضره ما فعل بإذن الله.
والجواب على هذه الشبهة: قالها تعوذًا اجتهد وظن أسامة أنه قالها تعوّذًا، أو أنه لم يكن تكلمه بالشهادتين عن إيمان وصدق، وإنَّمَا لما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله، وظن أسامة أنه قالها متعوذًا.
هذا بالنسبة لأسامة أما بالنسبة للحكم الشرعي في هذه المسألة: أن من دخل في الإِسلام جديدًا، وقال: لا إله إلا الله، وكان لا يقولها قبل ذلك، فإنه يُكَفُّ عنه إذا قالها، وتعصم دمه وماله، وينتظر بعد ذلك حتى يُتبين أنه التزم بعد الإسلام.
وإذا لم يلتزم وفعلَ ناقضًا، قُتِل. وفرقٌ بين من كان يقولها ومن كان لا يقولها؛ فإن اليهود كانوا يقولونها، وكذلك المنافقين
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قاتل اليهود وهم يقولون " لا إله إلا الله "، لكن إذا كان الإِنسان لا يقولها قبل ذلك ثم قالها، يُكفُّ عنه، وتعصم دمه وماله حتى ينظر بعد ذلك، فإذا التزم فالحمد لله، ولا يُقاتَل؛ بدليل قول الله تعالى: -وإلا لم يكن هناك فائدة من التَّبيُّن- قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا .
ولو كانوا لا يقتلون بعد ذلك لما كان هناك فائدة في التنبيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا .
لو كان إذا قالها يُترك، ما كان هناك فائدة للتبين، بل يتبين ويُنتظر، فإذا التزم فالحمد لله، وإذا لم يلتزم وفعلَ ما يناقضها فيقتل بعد ذلك، ويدلُّ على ذلك ما في الصحيحين أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله
ومعنى قول المؤلف - رحمه الله -: "ولهم شبهة أخرى"؛ لأن بني حنيفة فعلوا ناقضًا من نواقض الإسلام، وهو قولهم: "إن مسيلمة نبي"، فانتقض إسلامهم، ونقضت الشهادتين عليهم، مثل: لو توضأ الإِنسان، فأحسن وضوءه وطهارته، ثم أحدث وخرج منه ريح أو بول أو غائط، بطلت الطهارة، أي: بطل الوضوء. وكذلك إذا قال: لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وصلى، وصام، وقال: إن هناك نبيا بعد محمد -عليه الصلاة والسلام-، انتقض إسلامه ودينه.
فبنو حنيفة يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشهدون أن محمدًا رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويصومون، ويؤذنون، لكن لما قالوا: إن مسيلمة نبي وشارك محمد -صلى الله عليه وسلم- في النبوة، كفروا وانتقض إسلامهم، أي: انتقض توحيدهم وإيمانهم وبطل توحيدهم وإيمانهم.
(1/2)
تحريق علي لغلاة الخوارج
وكذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب
كذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من الخوارج من الفئة الذين يصلون ويصومون، بل يجتهدون في الصيام والصلاة، وتعلموا العلم من الصحابة لما اعتقدوا هذه العقيدة، وأنهم غلوا في عليٍّ - رضي الله عنه - حتى أنهم رفعوه إلى مقام الرب، أي إلى مرتبة الألوهية، كفروا ونقضوا إسلامهم ودينهم، فقاتلهم الصحابة وحُرِّقُوا بالنار.
(1/2)
تكفير منكر الفروع وترك منكر الأصول
وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟
يقول: إن هؤلاء الذين أوردوا الشبهة من المشركين مقرُّون بأن الإنسان لو جحد الصلاة ما نفعته " لا إله إلا الله " وانتقض إسلامه ودينه، وإذا جحد الزكاة كذلك، وإذا جحد الصوم كذلك، وإذا جحد البعث كذلك، كيف إذا جحد فرعًا من فروع الدين؟ ! أنه يكفر، وإذا جحد التوحيد لا يكفر ! ! ! هم جحدوا التوحيد.
ومعنى التوحيد: هو إخلاص العبادة لله، إخلاص الدين لله، وإفراد الله بالعبادة، وهو أن يعبد الله وحده.
وهؤلاء عبدوا الله وعبدوا غيره، أي عبدوا الله وجحدوا توحيد الله، فكيف يكفر الإنسان إذا +++.
(1/2)
الرد على شبهة عتاب النبي لأسامة
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلًا ادَّعَى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادَّعاه إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكفُّ عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [سورة النساء، الآية: 94] ؛ أي: فَتَثَبَّتُوا، فالآية تدلُّ على أنه يجب الكفُّ عنه والتثبت، فإن تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قُتِل؛ لقوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
هذا ظاهر كلمة تكفيرهم، فقول تكفيرهم هو لأهل العلم ولهذا قال: لم تنفعهم لا إله إلا الله.
(1/2)
شبههم في أحاديث الكف عن الناطق بكلمة التوحيد
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، معناه ما ذكرناه، وأن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه، إلا إن تبيَّن منه ما يناقض ذلك، والدليل على هذا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قالَ لا إله إلا الله؟ .
وقال: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ .
هو الذي قال في الخوارج أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد .
فظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - تكفيرهم.
(1/2)
تكفير الخوارج مع شدة عبادتهم
مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلًا، حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم " لا إله إلا الله " ولا كثرة العبادة، وادِّعاء الإسلام لَمَّا ظهر منهم مخالفة الشريعة !
بم يقول: " لا إله إلا الله ". قال المؤلف - رحمه الله -: اليهود يقولون لا إله إلا الله، ولا تنفعهم. والشبهة الثانية لازمة لها، بعضهم يشهد أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى بعضهم يقول: إنه نبي للعرب خاصة. قاله اليهود !.
(1/2)
شبهتهم في الاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة
وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة وكذلك أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [سورة الحجرات، الآية: 6] وكان الرجل كاذبًا عليهم، فكل هذا يدل على أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
ولهم شبهة أخرى: وهي ما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنَّ الناسَ يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذرون، حتى ينتهوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: فهذا يدلُّ على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
فالجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق على ما يقدر عليه لا ننكرها كما قال -تعالى- في قصة موسى فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [سورة القصص، الآية: 15]، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأشياء التي يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله، إذا ثبت ذلك فالاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، فهذا جائز في الدنيا والآخرة، أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك، وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف دعاؤه نفسه؟ !
هذه الشبهة خلاصتها أنهم يستدلون على أن جواز الاستغاثة - استغاثة العبادة - بسؤال الناس الأنبياء يوم القيامة، وطلبهم منهم أن يشفعوا لهم عند الله، فإنَّ الناس إذا وقفوا بين يدي الله يوم القيامة، واشتدَّ بهم الكرب، ودَنَتْ الشمس من الرءوس، حصل للناس شدة وكرب، فيموج الناس بعضهم في بعض، يستغيثون بالأنبياء أن يشفعوا لهم عند الله - كما سبق -، فآدم يعتذر، ثم نوح يعتذر، ثم إبراهيم يعتذر، ثم موسى يعتذر، ثم عيسى يعتذر، ثم يأتون النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيقول: أنا لها فيشفع عند الله بعد الإِذن له، وهذه تدلُّ على أنه يجوز للإِنسان أن يأتي عند القبر ويقول: يا فلان أغثني !.
المؤلف -رحمه الله- يقول: هناك فرق بين الحي القادر وبين الميت، الناس حينما يستغيثون بالأنبياء يوم القيامة يكونون أحياء أمامهم حاضرين يقدرون على الشفاعة، هذه لا ننكرها، الاستغاثة بالحي الحاضر القادر، وكما في قول الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ وذلك في قصة موسى - عليه السلام - لما خرج ووجد رجلين يقتتلان، أحدهما من شيعته بني إسرائيل والثاني قبطي، فاستغاثه الذي من شيعته على القبطي، فأغاثه، فضربه القبطي حتى قضى عليه، حي قادر هذا ما ينكر الاستغاثة بالحي.
وكذلك الصحابة كانوا يأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته يريدون أن يشفع لهم، لكن المنكر استغاثة العبادة، استغاثة الميت، أو الاستغاثة بالغائب أو بالحي غير الغائب فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا ممنوع؛ ولهذا قال المؤلف - رحمه الله -: وأن الصحابة كانوا يستغيثون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته، أما بعد مماته فلم يكونوا يستغيثون به - حاشا وكلا -.
على أنه أنكر كون الإِنسان يأتي ويدعو الله عند القبر، لا تدعو عند القبر؛ اذهب إلى مكانٍ بعيدٍ، اذهب إلى المسجد، فلا تدعو الله عند القبر، فكيف بدعائه هو، فإذن المنكر استغاثة العبادة، استغاثة العبادة هي استغاثة الميت أو الغائب أو الحي الحاضر الغير غائب.
أما الاستغاثة بالحي الحاضر القادر لأسباب ظاهرة نراه يسمع كلامك ويقدر، مثل لو استغاث غريق بسبَّاح قال: أغثني، يعرف أنه يسبح ويجيد السباحة، أو حريق استغاث بمن ينقذه، وهو يستطيع وحاضر أمامه يشاهده، هذا لا بأس به، هناك فرق بين هذا وذاك.
(1/2)
شبهتهم في عرض جبريل العون على إبراهيم عليه السلام
ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم - عليه السلام - لما أُلْقِيَ في النار، اعترض له جبريل في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم - عليه السلام -: أما إليك فلا، فقالوا: فلو كانت الاستغاثة شركًا، لم يعرضها على إبراهيم
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل قد عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال تعالى فيه: شَدِيدُ الْقُوَى [سورة النجم، الآية 5]، فلو أذِنَ الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم - عليه السلام - في مكان بعيد عنهم لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير، يرى رجلًا محتاجًا، فيعرض عليه أن يقرضه أو يهب له شيئًا يقضي به حاجته، فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا مِنَّةَ فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟ !
وهذه الشبهة من جنس الشبهة السابقة، وهي أنهم يستدلُّون على جواز الاستغاثة بالميت بقصة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما أُلْقِيَ في النار؛ وذلك بسبب أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أنكر على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأوثان، فكسَّرها وما دعاهم إلى التوحيد وملكهم الطاغية نمرود في مقدمتهم، لكنهم أبوا واستكبروا وعاندوا، فأصروا على القضاء على إبراهيم والتخلص منه، فجمعوا له حطبًا عظيمًا، ثم أَجَّجُوا نارًا، وألقوا إبراهيم - عليه السلام - في هذه النار، فلما ألقوه وهو في الهواء، وهو ساقط في النار - يعني وهو يلقونه في الجو وهو نازلٌ على النار في هذه المسافة - عرض له جبريل وهو ملقى في النار يهوي، الآن يهوي في الجو إلى النار في طريقه في هوية إلى النار، عرض له جبريل - عليه السلام، - فقال له: هل لك حاجة؟ هل تريد أساعدك. قال إبراهيم -عليه السلام- بقوة توحيده وإيمانه وتعلقه بالله "أما إليك فلا، وأما إلى الله فبَلَى".
أسرع فرج من الله -عز وجل- من إغاثة جبريل قال الله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
فلما قال الله للنار: كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم صار الجو معتدلًا، جو النار صار معتدلًا.
قال العلماء لو قال الله: كوني بردًا لمات إبراهيم من شدة البرد في النار، صار بردًا ثلجًا فمات من شدة البرد، ولو تركها على حالها لمات إبراهيم من شدة حرها. فلما قال الله: كوني بردًا وسلامًا، فصار جو النار معتدلًا، لا حرا ولا باردا، وصار جوًّا معتدلًا. ما تذره النار ما يموت من شدة الحر، ولا من شدة البرد.
فلو قال الله: كوني بردًا لمات إبراهيم من شدة البرد مثل الثلج، ولو تركها على حالها لمات من شدة الحر، الله أسرع إغاثة من إغاثة جبريل -عليه السلام-، جبريل عرض عليه في الهواء، وقال له: هل لك حاجة؟ قال: إليك لا، ليس لي حاجة، أما إليك فلا، وأما إلى الله فَبَلَى.
قالوا: هذا دليل على جوار الاستغاثة بالميت؛ لأن جبريل عرض على إبراهيم في الجو، عرض عليه الإِغاثة؟.
الجواب: أن الاستغاثة بالحي الحاضر لا بأس بها، وجبريل حيٌّ حاضر، قادر على العطاء، أعطاه الله قوة وقدرة؛ لأنه كما قال الله: شَدِيدُ الْقُوَى وله ستمائة جناح، كل جناح يملأ ما بين السماء والأرض، وقد اقتلع مدنًا بأكملها، مدن قوم لوط اقتلعها بطرف جناح من أجنحته ووصلها إلى السماء، ثم نكسها عليهم بأمر الله، وهو حي حاضر قادر لو أمَرَه الله أن يحمل النار لحملها وألقاها في المشرق أو المغرب، ولو أذن الله له لأخذ إبراهيم وغيَّبه عنهم في أي مكان من الدنيا، ولو أمره الله أن يرفع إبراهيم إلى السماء لرفعه.
إذًا هو حيٌّ حاضرٌ قادرٌ، هذا لا ينكر كونك تستغيث بحي حاضر قادر، ولكن إبراهيم -عليه السلام- ما أراد أن يلتفت للمخلوق أبدًا مهما كان قادرًا، ولو كان قادرًا يريد أن يتعلق بالله فقط، ولا يتعلق بغيره.
وضرب المؤلف - رحمه الله - مثلًا لهذا، قال: هذا مثل رجل غني وآخر فقير، واحد فقير ليس عنده شيء من المال، قد يكون عليه ديون، فجاء رجل محسن غني قال: تريد أن أقرضك؟ أعطيك شيئًا من المال تنفق على أهلك وأولادك، وتقضي به دينك. وهو محتاج فقير، لكن تعفف هذا الفقير، قال: لا، أنا ما أريد منك، وما أريد من المخلوق ولو كنت محتاجًا، اصبر. فصبر حتى يأتيه الله برزق من عنده لا منَّة فيه لأحدٍ، ولو كان هذا الغني محسنًا وعرض عليه قال: صحيح أن أشرك على هذا، لكن لا أريد شيئًا له لا يريد إلا من الله، يريد أن يأتيه شيء من الله، يأتي الله برزقٍ لا منَّة فيه لأحد.
فكذلك جبريل حي حاضر قادر، ويجوز لإِبراهيم أن يستغيث به، لكنه أراد الإغاثة من الله لا من أحدٍ من المخلوقين، هذا هو جواب الشبهة، هذا على فرض ثبوتها.
والمؤلف استند إليها على فرض ثبوت هذا الجواب، لكنهم استدلوا بها، هذا على صحته، أمَّا إذا لم تصح ما فيه إشكال، وهذا لا يضر.
ولنختم الجواب على هذه الشبهة بالآتي:
لقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين أُلْقِيَ في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما قالوا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
فحسبنا الله، يعني: كافينا الله، إبراهيم لما أُلْقِي قال: حسبنا الله وهو نعم الوكيل، هذا ثابت في صحيح البخاري حديث: حسبنا الله يعني: كافينا الله، جاءت الكفاية من الله، الكفاية أسرع من لمح البصر. قال الله: ما هي كفاية الله فقال الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ .
فكفاه الله شر هذه النار وشر الأعداء حسبنا الله ونعم الوكيل يعني: الله كافيني ونعم الوكيل. كفاه الله.
إذًا، صدق في قوله: " حسبنا الله ونعم الوكيل "، امتلأ قلبه إيمانًا وخشية وكفاية بالله -عز وجل-.
وقالها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة أحد لما أُديل العدو على الصحابة وجاء بعض الناس أن العدو سوف يستئصل البقية الباقية من المسلمين فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبنا الله ونعم الوكيل فكفاه الله شر أعدائه المشركين
(1/2)
الإيمان قول وعمل واعتقاد
ولنختم الكلام - إن شاء الله تعالى - بمسألة عظيمة مهمَّة جدًا تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها فنقول:
لا خلاف على التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلَّ شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كُفْرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكن لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، وغير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [سورة التوبة، الآية: 9]، وغير ذلك من الآيات، كقوله: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [سورة البقرة، الآية: 146 ].
فإن عمل التوحيد عملًا ظاهرًا، وهو لا يفهمه، ولا يعتقده بقلبه، فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء، الآية: 145].
هذه المسألة كما ذكر المؤلف - رحمه الله - مسألة عظيمة، ختم بها هذه الرسالة المفيدة القيِّمة، وهي: أن الإِيمان والإسلام والتوحيد لا بد فيه من القلب واللسان والعمل، ولا بد أن يعمل الإِنسان ويصدق بقلبه ولسانه وجوارحه، لا بد من هذا، فإن تركَ شيئًا منها لم يكن مؤمنًا.
فإذا عرف الإِنسان الإِيمان والتوحيد بقلبه صدق، لكن لم يعمل بجوارحه صار إيمانه كإيمان فرعون وإبليس، ما ينفع الإِيمان !. لا بد من إسلامٍ يتحقق به الإيمان، وإلا صارَ كإيمان فرعون وإبليس.
وإبليس معترفٌ، قابل أمر الله، بل اعترف بالإِيباء والاستكبار، ففي رفض العمل، وإن كان القلب معترف ومصدق وهو معترف قال: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وقال تعالى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وكذلك فرعون وقومه ردُّوا على موسى وقومه: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ .
إذا آمن بقلبه وصدق واعترف ولم يعمل بجوارحه، ما صحَّ الإِيمان؛ لأنَّه يكون ما تحقق إيمانه، ما عنده إسلام ولا عمل يتحقق به، والإِيمان لا يصح إلَّا بعمل يتحقق به، فإذا لم يعمل بجوارحه وادَّعى أنه مؤمن بقلبه، فلا يكون مؤمنًا؛ لأنَّ إيمانه كإيمان فرعون وكإيمان إبليس، لم يحصل معه إسلام يتحقق به هذا الإِيمان.
وكذلك العكس، إذا ادَّعى الإِنسان أنه مؤمن، أو عمل بجوارحه، صلى، وصام، وزكى، وحجّ، لكنه لم يصدق في الباطن، لم يعترف، لم يؤمن، صار إسلامه كإسلام المنافقين لا يصح؛ لأن هذا الإِسلام الظاهر كونه مستسلمًا ومنقادًا في الظاهر، لا بد فيه من إيمان يصح بعد هذا الإسلام، وإلا صار كإسلام المنافقين
فمن آمن بقلبه ولم يعمل بجوارحه لا يصح؛ لأن إيمانه كإيمان إبليس وفرعون ومن عمل بجوارحه ولم يصدق بقلبه، لا يصح؛ لأن إسلامه كإسلام المنافقين فلا بد في الإِيمان من إسلام وعملٍ يتحقق به هذا الإِيمان، ولا بد في الإسلام من إيمانٍ يصح به هذا الإِسلام.
إذًا، لا بد أن يصدق الإنسان بقلبه، ويعمل بجوارحه، حتى يتحقق هذا الإِيمان، وإذا عمل بجوارحه. إذًا لا بد فيه من إيمان يصح به هذا العمل، وإلا فلا يصح.
وهذه مسألة كبيرة مهمة - كما قال المؤلف - رحمه الله - يقول: بعض الناس إذا عرَّفته بالحق ودعوته للعمل به، قال: أنا أدري، وأنا عارفٌ أنه الحق، لكن لا أستطيع أن أعمل؛ لأن هذا ما يصح عند أهل بلدنا، ولا يجوز هذا العمل عند أهل بلدنا.
قال المؤلف - رحمه الله -: لم يدرِ هذا المسكين أن أئمة الكفر معترفون بقلوبهم، لكنهم لم يصلوا بجوارحهم، فتخلف العمل لفرض في الأغراض هناك عذر من الأعذار، كما قال الله تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اشتروا: يعني اعتاضوا عن آيات الله ثمنًا قليلًا، والدنيا كلها ثمنٌ قليلٌ إذا اعتاض عن آيات الله الدنيا كلها، صارت الدنيا كلها ثمنًا قليلًا، اعتاضوا عن آيات الله بالمال أو بالرئاسة أو بالجاه أو بالمنصب... أو غير ذلك.
وقال -سبحانه- في اليهود الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ يعني: يعرفون الرسول. قال: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ .
كونهم يعرفون الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويصدقونه أنه رسول الله حقًا، فلم تنفعهم معرفتهم تلك، لأنهم ما اتبعوا ولا انقادوا، فما نفعهم هذا الإِيمان.
إذًا، لا بد من الانقياد والطاعة والاتباع، فكلُّ من ترك العمل بالتوحيد والإِيمان لا بد له من العذر، أما عذر من خوف نقص الدنيا أو نقص المال أو نقص الجاه، يقول بعض الناس: أنا أعلم أن هذا هو الحق، لكن أنا لا أستطيع أن أعمل به، أي: يأتي بعذر ما. هذه مقالة الكفَّار نعرف أن هذا هو الحق، لكن هناك عذر ما، فلا نقدر أن نخالف عادات الآباء والأجداد، أو أنه يحصل عليه نقص في دنياه أو في جاهه.
فبدلًا من أن يكون سيدًا مطاعًا في القبيلة، أو من تركه نزَّله عن مرتبته خاف من هذا، شُحًّا بمنصب، أو شُحًّا بماله، أو شُحًّا بوطنه؟ لم يفهم الإِيمان وحقيقة التصديق، لم يفهمه أو لم يؤمن، ما آمن ولا اعترف ولا انقاد، مثل المنافقين تمامًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كعبد الله بن أُبَيّ رئيس المنافقين يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجاهد، وقد انخرط بالجيش يوم أحد، يصلي الجمعة والجماعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن ليس عنده إيمان، فما نفعه.
وكذلك إسلام المنافقين إسلام بدون إيمان، إسلام في الظاهر، في الجوارح، لكنه في الباطن ليس بمؤمنٍ ولا منقاد، ما ينفع الإِسلام الظاهر الجوارح للإِسلام.
فالأعمال التي يعملها الإنسان بجوارحه لا بد فيها من إيمان يصح به هذا الإسلام، كما أن الإِيمان الباطن. إذًا، فادِّعاء الإِنسان أنه مؤمن في باطنه ولم يعمل، ما صح الإِيمان، صار كإيمان فرعون وإبليس، فلا بد في هذا الإِيمان الباطني من إسلام يتحقق به هذا الإِيمان، وإلَّا صار كإيمان إبليس وفرعون وقوله: إني لا أستطيع أن أعمل لأجل كذا ولأجل كذا، لا يعفيه كل من ترك الإِيمان له عذر من أعذار الدنيا، مشحَّة بالحال، أو مشحَّة بالوطن، أو مشحَّة برئيسه أو الجاه، فيخاف أن يضيع عليه المنصب، ويخاف أن ينقص ماله، أو يضيع ماله. هذا لا يعفيه.
(1/2)
العذر بالجهل في أمور العقيدة
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تَتَبَيَّن لك إذا تأمَّلتها في ألسنة الناس.
كثير من الناس يقول: أنا ما أقدر، أنا لا أستطيع، أنا أعرف هذا حقٌ، لكن لا ينفع العذر، ما أقدر أفعل، أي فيه موانع، ولا أعرف أن هذا الحق. يقول كونك تعرفها لا يكفي، ما يعفيك حتى تعمل، اعرف واعمل، تؤمن وتحقق هذا الإِيمان.
أما كونك لا تعرف أن هذا هو الحق لكن ما أستطيع العمل ما ينفع، لا بد من إيمان وعمل، معرفة وعمل، فإبليس يعرف، وفرعون يعرف، لكن ما عملوا، فلا نفعتهم هذه المعرفة.
(1/2)
ترك الحق من أجل الأمور الدنيوية
ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنيا، أو جاه، أو مداراة.
نعم، خوف نقص منصب، أو نقص مال، أو لأجل مداراة الناس حتى يداريهم، حتى ما يحصل بينه وبينهم خصومة أو نزاع، حتى يكون موافقًا لهم يداريهم، ما ينفع، ما يعفيه هذا.
(1/2)
العمل بالظاهر دون الباطل نفاق
وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا...
كالمنافقين يعملون في الظاهر، لكن في الباطن غير مصدق.
(1/2)
مداراة الناس في أمور العقيدة
فإذا سألته عما يعتقد فإذا هو لا يعرفه.
لا يعرفه، أو لا يستفاد، يقول: أنا أعمل من أجل موافقة الناس، ولا أعرف أن هذا العمل، ما أعترف به ولا أوافق عليه، لكن أعمل به مجاراة للناس ! هذا ما يعفيه، وهذا ما ينفعه، مداراة أو مداهنة، كليهما لا يجوز: المداراة والمداهنة في دين الله، خصوصًا في هذا الأمر.
أما المداراة في بعض المسائل، وهي عدم الإِنكار على الفاسق أو العاصي خوفًا من شره في بعض الأحيان، تؤجل إلى وقت آخر، فلا بأس بها، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليه رجل، فلما استأذن فأذن له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة ثم لما دخل ألان له الكلام، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن أشر الناس من تركه الناس اتقاء فُحشه.
إذا كان صاحب شر ثم داريت لا بأس، أما المداهنة لا، معناها معاشرة الفاسق، معاشرة الناس وإقراره على المنكر، وعدم الإنكار عليه، هذا لا يجيز لك المداهنة.
ولهذا قال الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يعني: الكفار لو تداهنهم في دين الله فيداهنون لك، خلاف المداراة، مداراة جائزة، دفع شر الفاسق، وهي إِلانة القول له، وعدم الإِغلاظ له؛ مداراة له، أما المداهنة معناها: إقرار الفاسق على منكره مداهنة له، وهذه مسألة، كذلك كون ترك العمل من أجل المداراة ما يصلح مداراة أو مداهنة.
(1/2)
تكفير المستخفين بأمور العقيدة
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله:
أولهما:
ما تقدم من قوله: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة ، الآية: 66]، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفًا من نقص مالٍ أو جاهٍ، أو مداراةً لأحدٍ، أعظم ممن يتكلم بكلمةٍ يمزح بها.
وهذه المسألة مهمة، فيقول المؤلف: تدبَّر هذه الآية وهي قوله -تعالى- في الجماعة الذين تكلَّمُوا بهذه الكلمات في غزوة الروم في غزوة تبوك عند غزو الروم قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فأثبت لهم الكفر بعد الإِيمان؛ بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، قالوا: إن الصحابة يأكلون كثيرًا ويكذبون ويجبنون عند اللقاء، قالوا هذه الكلمة على وجه المزاح واللعب حتى يقطعوا الطريق، فلم يعذرهم الله وكفَّرهم بعد إيمانهم.
إذا كان الإِنسان يتكلم بكلمة الكفر على وجه المزح واللعب يكون كافرًا ولا يعذر، فكيف بالذي يتكلم بكلمة الكفر من أجل خوف نقص مال، أو خوف من نقص جاه، أو مداراة ومداهنة؟! يكون كفره أعظم ! ! ! من باب أولى يكون كافرًا.
إذا كان الذي يتكلم بكلمة الكفر مازحًا على وجه المزح واللعب يكفر، فالذي يتكلم بكلمة الكفر خوفًا من نقص مال، أو خوفًا من نقص جاه، أو مداراة يكون كفره من باب أولى. هذه مهمة، يقول المؤلف: تدبَّر هذه الآية.
(1/2)
عذر من كفر في حالة الإكراه
والآية الثانية:
قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة النحل، الايتان: 106، 107].
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره، مع كون قلبه مطمئنًا بالإِيمان، وأما غير هذا، فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفًا، أو مداراةً، أو مشحَّة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعل على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المُكْرَه.
والآية تدلُّ على هذا من جهتين:
الأولى: قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فلم يستثنِ الله -تعالى- إلا المُكْرَه، ومعلومٌ أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام، وأما عقيدة القلب فلا يُكْرَه أحدٌ عليها.
والثاني: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ فصرَّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل، أو البُغض للدين، أو محبة الكفر، وإنَّما سببه أن له في ذلك حظًّا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين، والله -سبحانه وتعالى- أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
هذه الآية أيضًا آية عظيمة كما قال المؤلف - رحمه الله - يجب على المسلم أن يتدبرها، وهي قول الله -تعالى- في سورة النحل [ 106، 107 ] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وهي أن من كفر فإنه لا يُعذر في الكفر إلا في حالة واحدة، وهي حالة الإِكراه بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإِيمان، فإذا أُكره بأن وُضِعَ السيف على رقبته، وقيل له: اكفر، وإلا قتلتك، جاز له أن يتكلم بكلمة الكفر أو يفعل الكفر، إذا هدَّده من هدده، إنسان أو سلطان أو ظالم، بأن يقول كلمة الكفر قادر على التنفيذ، ثم تكلم بكلمة الكفر أو فِعْل كفر وقلبه مطمئن بالإِيمان، هذا معذور.
وهذا الشرط " الإكراه "، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإِيمان، فإن انشرح صدره للكفر، كفر. ولو أكره؟ نعم، لو أكره. لو أُكْرِه ثم انشرح صدره للكفر، كَفَر، لكن لا بد أن يكون مُكْرَهًا ويكون قلبه مطمئنًا بالإِيمان، فهذا معذور، أما غير المكره فلا يكون معذورًا، إذا كان في حالة السِّعَة ثم تكلم بكلمة الكفر، كفر. إذا كان حال الخوف الخائف خائفًا لكن ما أكثره لا يكون مذعورًا إذا تكلم بكفر وفعل خائف فلا يكون معذورًا، متى يكون معذورًا؟ في حالة الإكراه فقط، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإِيمان، فإن لم يطمئن قلبه بالإِيمان وانشرح صدره للكفر، كفر. حتى مع الإِكراه، والآية تدلُّ على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن الله -تعالى- قال: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فلم يستثن إلا المكره، فغير المكره - كالخائف وغير الخائف - لا يكون معذورًا.
والحالة الثانية: قوله تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فالأمر الثاني يقول: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، يعني: أن الذي حملهم على ذلك هو أن لهم حظًّا من حظوظ الدنيا، فبيَّن أن كفرهم ليس عن جهل، ولا عن اعتقاد، ولا عن بغض الدين، وإنَّما الذي حملهم على ذلك أن لهم حظًا من حظوظ الدنيا، قال ذلك أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين
الأمر خطير، الأمر جد خطير، كون الإِنسان يتكلم كلمة الكفر أو يعمل الكفر، لا يكون معذورًا، حتى ولو كان خائفًا، لا يكون معذورًا في أي حالة من الحالات، إلا في حالة الإِكراه، ومعلوم أن الإِنسان لا يكره إلا على الكلام أو على العمل، لكن لا يكره على العقيدة في القلب؛ فعقيدة القلب لا يقدر عليها أحد إلا الله -سبحانه وتعالى-.
فإذا أُكره وتكلم بكلمة الكفر، نعم يكره بلسان، أو يكره على العمل، يكره على عقيدة القلب، لا يقدر إلا الله.
فإذا أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان وشرح بالإِيمان، فالحمد لله هذا لا يضرّ، أما إذا انشرح صدره بالكفر، كفر، حتى مع الإِكراه، فإذا تكلم بكلمة الكفر لا من أجل الإِكراه، من أجل الشُّح بأهله، أو الشُّح بوطنه، أو الشُّح بماله، أو الشُّح بعشيرته، كفر، ولا يكون معذورًا؛ لأنه لم يأتِ الاستثناء إلا في هذه السورة.
الإكراه بشرط اطمئنان القلب، لا بد من الأمرين معًا: الإِكراه واطمئنان القلب، فإذا تخلَّف واحد منهما فقد كفر، إذا أكره ولم يطمئن قلبه بالإِيمان كفر، إذا اطمأنَّ قلبه بالإِيمان وتكلم بكلمة الكفر لا عن إكراه، قد كفر أيضًا.
فالإكراه قلنا إما يقال: اكفر وإلا قتلناك في الحال، أو يهدد بالقتل من إنسان قادر على التنفيذ، ويغلب على ظنه أنه ينفذ، كأن يهدده سلطان، أو يهدده ظالم في مكان ما، ما عنده أحد يقول له: اكفر أو اسجد لصنم وإلا تكلم بكلمة الكفر، وإلا قتلناك؛ لأن هذا مُكْرَه تكلم أو فعل وقلبه مطمئن بالإِيمان لا يضره.
أما إذا كان حاله خائفًا، ما وصل إلى حد الإِكراه، فلا يُعفى هذا، ولا يكون عذرًا له، أو خائف من هذه إنسان في مكان ما، قال له: اكفر، وإلا أخذتُ مالَك، فإذا كفرت تركت لك المال، ما يُعفى هذا ما يكون له عذرًا، يذهب المال ولا يكفر ولا يتكلم.
هذه مسألة أخرى الكلام في الجواز: هل يجوز أن يتكلم بكلمة الكفر، أو لا يجوز إذا أُكْرِه؟ يجوز، لكن إذا اختار عدم الكلام بكلمة الكفر ولو قتل، قال: أنا ما أتكلم بكلمة الكفر ولو أكرهت، صبر، مثل ما جاء في الحديث: أفضل الجهاد كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائر .
والإمام أحمد - رحمه الله تعالى - له رخصة، لكن ما أراد الرخصة، ولهذا ترخص قرائنه أمثاله من العلماء، لكن هو ما أراد، خشي أن يضل كثيرًا من الناس لما رآه الناس ينتظرون كلام الإِمام أحمد معهم أقلام وأدوات ويريدون أن يكتبوا.
فالإِمام أحمد خاف أن يضلهم، فصبر على الفتنة، وله رخصة، لكنه إذا قال الإِنسان أنا لا أريد الرخصة، يريد أن يحمل نفسه على الشدة، يتخير الأمر الأشد، فلا بأس لو قال له الإنسان: اكفر وإلا قتلناك، قال: لا، اقتلني ولا أكفر، هذا ما عمل بالرخصة، أخذًا بالأمر الأشد، وأجره على الله -تعالى-، لكن هل يجوز له أن يترخص أو لا يجوز؟ يجوز أن يترخَّص، فيترخص في هذه الحالة إذا أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان، كما سمعت الله يقول: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أثبت لهم كفرًا بعد الإِيمان من أجل الكلمات التي مزحوا بها.
أولًا: هذا في شرع من كان قبلنا.
ثانيًا: أنه مَرَّ رجلان على قومٍ لهم صنم، أخذوا يقدمون له شيئًا، فأمر أحدهم فقال له: قرب. قال ما عندي شيء أقرب. قالوا: قرب ولو ذبابًا، لا مانع جاهز، لما قالوا: قرب ذبابًا، قال: إذا كان يرضيكم الذباب سهلة، ما عندهم ممانعة وغير أنهم ما وصلوا على حد الإِكراه، فظاهره هذا ولا في شرع من كان قبلنا قد قال: إنه ليس رخصة في الإِكراه.
وثالثًا: لو سلمنا أن هذا عام فنقول: إن ظاهره ما وصل إلى حد الإكراه؛ لأن هذا الذي قالوا قرب ما مانع ما فيه ممانعة، ما حصل بينه وبينهم ممانعة تصل إلى حد الإكراه، والأحناف غلَّطوا، يعني إذا غلط الأحناف نحن ملزمون بأغلاطهم.
الأحناف ليسوا معصومين، غلطانين، غلطوا في هذا، دخلوا في مُسَمَّى الإِيمان، وإن قال الأحناف هل تريد أن تحتج بقول على النصوص أو تريد أن تحتج على الأحناف أيهم الأهم؟ كلام الأحناف أو كلام النصوص؟ فالنصوص حجة على الأحناف وعلى غيرهم، الأحناف غلطوا في هذا، لكن الأحناف في هذا يقولون لكن ما نسميها إيمانا ولا الأعمال واجبة الخلاف في التسمية فقط، لكن غلطوا في هذا.
النصوص سمتها إيمانا، والواجب التأدُّب مع النصوص، فيجب على الأحناف وغيرهم التأدُّب مع النصوص، ويسمونها إيمانا، كما يسميها الله -عز وجل- إيمانا، لكن له آثار ما هي بالعظمى من جميع الوجوه.
الأسئلة
س: إذا كانت الاستغاثة بالحي القادر جائزة، فلماذا أنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على من قالوا: نستغيث برسول الله من هذا المنافق؟
الجواب: هذا الأثر فيه بعض الضعف.
وثانيًا على فرض صحته؛ فمراد النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا: الكمال وأنه كالجائر، ما كان يريد -صلى الله عليه وسلم- حتى سدّ الذريعة من باب سد الذرائع، قال إنه لم يكن من باب الكمال من باب سد الذرائع.
والاستغاثة بالحي القادر جائزة بنص القرآن من باب سد الذريعة؛ حتى لا يندرج بهم الحال إلى أن يستغيث الاستغاثة المنهي عنها، الاستغاثة الشركية، مع أن الحديث فيه ضعف، وتكلموا فيه، ولكن على فرض صحته، فالمراد سد الذريعة والكمال. والله أعلم.
س: هل يُقَرّ علي - رضي الله عنه - على من فعله بتحريقهم بالنار؟
الجواب: هذا من باب الاجتهاد من شدة حنقه وغيظه - رضي الله عنه - على التحريق بالنار كذلك الصِّدِّيق - رضي الله عنه - ثبت أنه حرق جماعة من أهل الرِّدَة، وكذلك خالد بن الوليد ولكن الصواب أنه لا يجوز الحريق بالنار، ويحتمل أن النص لم يبلغ عليًّا - رضي الله عنه - وإلا قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أمر بإحراق رجلين قال: لقيتم فلان وفلان فاحرقوهما بالنار ثم قال لهم بعد ذلك: لا، إذا لقيتموهما فاقتلوهما؛ فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار .
فدلَّ ذلك على أنه لا يجوز الحريق بالنار، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لما قيل: إن عليًّا - رضي الله عنه - حرق بالنار، قال: لو كنت أنا مكانه لقتلت بالسيف لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يعذب بالنار إلا رب النار هذا لاحتمال أن النص خفي عَلَى عليٍّ - رضي الله عنه -، ويحتمل أنه من شدة حنقه وغيظه عليهم بسبب غلوهم فيه حرَّقهم بالنار، وإلا فالصواب أن الحريق بالنار لا يجوز؛ لأن هذا من خصائص الله.
ومثل ذلك أيضًا تحريق الحيوانات أو الدواب أو الناس إذا كان هناك بعض يحرقه بِجَعْل ناموسية من الكهرباء، هذا تعذيب بنار، ينبغي قتل الناموس بغير الكهرباء؛ لأن الكهرباء نار.
س: إن الذي يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن قالها خوفًا على عرضه أو أهله، فهل هذا يكفر؟
الجواب: لم يستثن الله إلا المكره، ما استثنى الله إلا بنص القرآن: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ أما الخائف فلا يستثنى، لا بد أن يصل إلى درجة الإِكراه. إذا كان مكرهًا، وقلبه مطمئن بالإيمان، هذا هو المعذور، وأما غيره فلا يُعْذَر.
فالإِكراه بالقتل أو التهديد من قادر بقلب على الظن التنفيذ ظاهره أنه وصل إلى حد الإكراه إذا عذب فهذا أكره.
س: هل يجوز للمُكْرَه أن يترخَّص بقول كلمة الكفر حتى ولو وصلت كلمة الكفر إلى سبِّ الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؟
الجواب: كلمة الكفر عامَّة، ما دام أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإِيمان، فلا يضره.
(1/2)