شرح كتاب كشف الشبهات
بقلم/ الشيخ
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
- حفظه الله -
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذه رسالة كشف الشبهات للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى -.
وقبل أن ندخل في موضوع الرسالة نتكلم عن المؤلِّف والتعريف به من أجل أن يكون عند طالب العلم معرفة بهذا المؤلف وطريقته في دعوته لأن هذا من الأمور المهمة في معرفة الأئمة والدعاة إلى الله ومعرفة نشأتهم ودعوتهم من أجل أن يسير طلاب العلم على نهجهم ويقتبسوا من سيرتهم ويقتدوا بهم.
فهو الشيخ الإمام المجدِّد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن مشرف التميمي النَّجدي ولد رحمه الله في بلدة العيينة(1) وهي قرية في شمال الرياض، وكانت محل أسرته.
نشأ في بيت علم فأبوه كان القاضي في البلد وجده الشيخ سليمان كان هو المفتي والمرجع للعلماء وأعمامه كلهم علماء.
فنشأ في بيت علم. ودرس على يد أبيه عبد الوهاب وعلى أعمامه منذ صغره فقد حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ سن العاشرة فاشتغل في طلب العلم وحفظ القرآن على أبيه. وقرأ كتب التفسير والحديث حتى برع في العلم وهو صغير وأعجب أبوه والعلماء من حوله بذكائه ونبوغه وكان يناقش في المسائل العلمية حتى أنهم استفادوا من مناقشته فاعترفوا له بالفضل ثم إنه لم يكتف بهذا القدر من العلم وإن كان فيه الخير إلا أن العلم لا يشبع منه.
__________
(1) عام 1115هـ المتوفى رحمه الله في عام 1206هـ، انظر الأعلام للزركلي 6/275، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 3/472 برقم (14463).(1/1)
فرحل لطلب العلم وترك أهله ووطنه وسافر إلى الحج وبعد الحج ذهب إلى المدينة والتقى بعلمائها في المسجد النّبوي خصوصًا الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وكان إمامًا في الفقه وأصوله وهو من أهل نجد من أهل المجمعة في سدير وكذلك ابنه إبراهيم بن عبد الله مؤلف كتاب العذب الفائض شرح ألفية الفرائض. والتقى كذلك بالمحدث الشيخ محمد حياة السندي وأخذ منه إجازة في مروياته من كتب الحديث ثم رجع إلى بلاده، ولم يكتف بهذا بل سار إلى بلاد الأحساء في شرق بلاد نجد وفيها العلماء من حنابلة وشافعية ومالكية وحنفية وأخذ عنهم خصوصًا عن الحنابلة ومنهم محمد بن فيروز وعبد الوهاب بن فيروز أخذ عنهم الفقه.
وأخذ عن عبد الله بن عبد اللطيف الأحسائي.
ولم يكتف بهذا بل ذهب أيضًا إلى العراق – إلى البصرة خاصة – وكانت آن ذاك آهلة بالعلماء في الحديث والفقه فأخذ عن علمائها خصوصًا الشيخ محمد المجموعي وغيره. وكان في كل تنقلاته إذا ظفر بكتاب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومن كتب تلميذه ابن القيم نسخه بقلمه ونسخ كثيرًا من الكتب في الأحساء وفي البصرة فتجمعت لديه مجموعة عظيمة من الكتب.
ثم إنه هم بالسفر إلى بلاد الشام لما فيها من أهل العلم خصوصًا من الحنابلة وأهل الحديث، ولكنه بعدما سار إليها شقّ عليه الطريق وحصل عليه جوع وعطش وكاد أن يهلك في الطريق، وأنتم تعلمون الإمكانات في ذلك الوقت وبعد المسافة.. فرجع إلى البصرة وعدل عن السفر إلى الشام ثم رجع إلى نجد بعد ما تسلح بالعلم وبعدما حصل على مجموعة كبير من الكتب إضافة إلى الكتب التي كانت عند أهله وعند أهل بلده ثم اتجه إلى الدعوة والإصلاح ونشر العلم النَّافع ولم يرض بأن يسكت ويترك الناس على ما هم عليه بل أراد أن ينتشر علمه وأن يدعو إلى الله فنظر في مجتمعه فوجد فيه من الشر والشرك الأمور الكثيرة فأخذته الغَيرة على دين الله والرحمة للمسلمين ورأى أنه لا يسعه السكوت على هذا الوضع.(1/2)
وكان علماء نجد يعنون بالفقه وهم في العقيدة على عقيدة المتكلمين من أشاعرة وغيرهم ليس لهم عناية بعقيدة السّلف كما هو في الشام وفي مصر وغيرها من الأقطار وكانت العقيدة المنتشرة فيها هي عقيدة الأشاعرة، مع ما عند كثير منهم من الإخلال بتوحيد الألوهية.
وأما عقيدة السلف فقلّ من يعنى بها وطغت على الكثير منهم الخرافات والبدع والشرك في العبادة المتمثل بعبادة القبور هذا من النَّاحية العلمية.
وأما من النَّاحية السياسية فكانوا متفرقين ليس لهم دولة تجمعهم بل كل قرية لها أمير مستقل بها. فالعيينة فيها حاكم والدرعية فيها حاكم والرياض فيها حاكم وكل قرية صغيرة فيها حاكم، وكانت بينهم حروب وسلب ونهب فيما بينهم وبين القرى والبادية.
فمن النّاحية السياسية كانت البلاد في قلق وتفرق وفي تناحر وضياع حتى أن أهل البلد الواحد يقاتل بعضهم بعضًا.
وفي بلاد نجد عبادة القبور والاستغاثة بالأموات، فقد كانت عندهم قبور للصَّحابة كقبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه الذي استشهد مع جماعة من الصحابة في حرب مسيلمة الكذاب وكانوا يستنجدون بها ويستغيثون بها وعلى قبر زيد قبة وكانوا يأتون إليها من بعيد. وهي مشهورة عندهم.
وعندهم أشجار ونخيل يعتقدون فيها ويتبركون بها بل كانت عندهم النِّحل الباطلة مثل الصوفية ووحدة الوجود في الرياض والخرج؛ هكذا كانت حالتهم الدينية والعلماء ساكتون عن هذا الوضع بل إن بعض العلماء يشجعون على هذه الخرافات ويؤيدونها. فلما رأى – رحمه الله – حال المسلمين تحرك للدعوة إلى الله عز وجل وقام يدعو إلى الله ويدرِّس التوحيد وينكر هذه الشركيات والخرافات ويقرر منهج السلف الصالح فتكوّن عنده تلاميذ من الدرعية والعيينة ممن أراد الله له الخير.(1/3)
ثم إنه اتصل بأمير العيينة وعرض عليه الدعوة فقبل منه الأمير ووعده بالمناصرة في أول الأمر وهدم قبة زيد بن الخطاب حيث طلب من الأمير هدمها لأنه لا يمكن أن يهدمها إلا من له سلطة أما الفرد فلا يستطيع، ذلك فاستجاب له الأمير. وجاء إلى الشيخ امرأة اعترفت بالزنا وطلبت منه أن يقيم عليها الحد فردها حتى كررت عليه الطلب مثل ما فعلت الغامدية رضي الله عنها في عهد النبي ? (1)، فأقام عليها الحد ورجمها. فلما بلغ أمير الأحساء هدم القبة وأنه رجم المرأة أرسل إلى أمير العيينة وقال: إما أن تطرد هذا المطوع(2) وإلاّ قطعت عنك المساعدة التي أرسلها إليك. فجاء الأمير إلى الشيخ وعرض عليه الأمر وقال أنا لا أقدر أن أقاوم هؤلاء فهدّأه الشيخ ووعده بالخير وأن يتوكل على الله وأن الرزق بيد الله وأن هذه عقيدة التوحيد من قام بها فإن الله يعينه وينصره. لكن الأمير أصرّ على خروج الشيخ من بلده فخرج الشيخ من العيينة في وقت القيلولة وذهب إلى الدرعية وكان له فيها تلميذ من خيار التلاميذ يقال له ابن سويلم فذهب الشيخ من العيينة إلى الدرعية ليس معه إلا المروحة اليدوية يهوي بها على وجهه وهو يمشي ويقول { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }(3) يردد هذه الآية وهو يمشي فلما وصل إلى تلميذه في الدرعية أصاب التلميذ خوف وقلق من مجيء الشيخ لأنه يخشى على نفسه وعلى الشيخ من أهل البلد لأنهم متحاذرون من هذا الشيخ، فهدأه الشيخ وقال: لا يخطر في بالك شيء أبدًا توكل على الله جل وعلا فهو ينصر من نصره.
__________
(1) انظر صحيح الإمام مسلم 3/1321، 1322، كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا، حديث رقم (22/1695) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه
(2) كما يسمونه تصغيرًا لشأنه
(3) الطلاق: 2-3(1/4)
وفيما هم كذلك علمت زوجة أمير الدرعية وكانت امرأة صالحة فعرضت على زوجها الأمير محمد بن سعود أن يناصر هذا الشيخ الذي جاء وأنه نعمة من الله ساقها إليه فالبدار باغتنامه، فأدخلت عليه الطمأنينة وحب الدعوة وحب هذا العلم فقال الأمير: يأتيني، فقالت زوجته بل اذهب أنت إليه لأنك إذا أرسلت إليه وقلت يأتيني ربما يقول الناس طلبه من أجل أن يبطش به، لكنك إذا ذهبت إليه يكون هذا عزًا له ولك.. فذهب إليه الأمير في بيت التلميذ وسلّم عليه وسأله عن قدومه... فشرح له الشيخ وبيّن له أنه ليس عنده إلا دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وهي الدعوة إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، وشرح معناها وبيّن له أنها عقيدة الرسل...(1/5)
فقال الأمير: أبشر بالنصر والتأييد، وقال له الشيخ: وأبشر بالعز والتمكين لأن هذه الكلمة – لا إله إلا الله – من قام بها فإن الله يمكّن له. فقال له الأمير: لكني أشترط عليك شرطًا، قال وما هو؟ قال أن تتركني وما آخذ من الناس، قال الشيخ لعل الله يغنيك عن هذا ويفتح لك باب رزق من عنده. فتفرقا على هذا وقام الشيخ بالدعوة وقام الأمير بالمناصرة. ثم توافد الطلاب على الدرعية وصار للشيخ مكانة فيها، فكان هو الإمام في الصَّلاة والمفتي والقاضي، فتكونت إمارة للتوحيد في بلاد الدرعية من ذلك الوقت وأرسل الشيخ رسائل إلى أهل البلدان والقرى يدعوهم إلى الله والدخول في عقيدة التوحيد وترك البدع والخرافات فمنهم من استجاب وانضم إلى الدعوة بدون جهاد وبدون قتال ومنهم من مانعه وعانده فقاتل جنود التوحيد بقيادة الأمير محمد بن سعود وريادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاتلوا من عاند وعارض.. وامتدت الدعوة في بلاد نجد وسلّمت له البلاد ومن حولها، حتى أمير العيينة الذي كان له موقف مع الشيخ دخل في ولاية محمد بن سعود. وكذلك دخلت الرياض بعد قتال شديد وامتدت إلى الخرج وما وراء الخرج وإلى الشمال والجنوب حتى عمت من حدود الشام شمالاً إلى حدود اليمن جنوبًا ومن البحر الأحمر إلى الخليج العربي شرقًا كلها صارت تحت ولاية الدرعية بادية وحاضرة. وأفاء الله على الناس في الدرعية الخير والرزق والغنى والثروة وقامت بها أسواق تجارية واستنارت بالعلم والقوة ببركة هذه الدعوة السَّلفية التي هي دعوة الرسل عليهم السَّلام.
مؤلفاته:
ألّف الشيخ الكتب وأعظمها كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
ومن مؤلفاته هذه الرسالة « كشف الشبهات » التي نحن بصدد شرحها – إن شاء الله تعالى – وهي عبارة عن رد الشبهات التي أثيرت حول دعوة التوحيد التي قام بها الشيخ.
والمراد بالكشف إزالة الغطاء عن الشيء.(1/6)
قال تعالى: { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ }(1) والشبهات جمع شبهة وهي الأمر المشتبه المختلف الذي لا يُدْرَى هل هو حق أم باطل؟ ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه »(2).
المشتبهات هنا المراد بها الأمور التي لا يُدْرَى هل هي من الحلال أو من الحرام لسبب تجاذب الأدلة فيها، ولا يعلمها إلا الخواص من أهل العلم. فالشبهات هنا المراد بها الأمور المشتبهة التي فيها تلبيس وتغطية وتمويه على النَّاس يظنونها حقًا وهي ليست بحق وكشفها هو الإيضاح لبطلانها.
__________
(1) ق: 22
(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه 1/19، كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه(1/7)
والمراد هنا كشف ما كان عند النَّاس من شبهات حول عبادة القبور والاستغاثة بها التي عمت كثيرًا من بلاد الإسلام من بعد القرون المفضلة، حيث أُدخل في الإسلام ما ليس منه وذلك عن طريق الشيعة والمتصوفة فهم الذين تسببوا في نشر هذه الشبهات وهذه الشركيات التي انتشرت في بلاد الإسلام بحجج واهية، والجهال يظنونها حقًا؛ فيقولون إن هؤلاء الموتى عباد صالحون ولهم مكانة عند الله ونحن أناس مذنبون فهم يتوسلون بهم ويجعلونهم وسائط بينهم وبين الله في غفران الذنوب ويتقربون إليهم. وبسبب ذلك تغيرت عقيدة التوحيد عند كثير من النّاس من عهد بعيد بعد المائة الرابعة ومضي القرون المفضلة، حتى قيّض الله لهذه الأمة علماء يكشفون هذه الشبهات ومن أبرزهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الذي قام ودحض هذه الشبهات ووضَّح للناس عقيدة التوحيد وكتب في ذلك الكتب النافعة وبيّن عقيدة السَّلف الصَّالح وسجلها في كتبه مدعمًا مسائلها بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، ودحض هذه الشبهات، ثم تلاه تلاميذه كالإمام ابن القيم في كتبه والإمام ابن كثير والإمام الذهبي والإمام المزّي وجاء بعدهم الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله إلى أن وصل الأمر للشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب فتلقى هذه العقيدة بقوة وقام بالدعوة إليها والجهاد في سبيلها حتى استنارت بها هذه البلاد، ولله الحمد وامتدت إلى البلاد المجاورة في مصر والشام والعراق وحتى في بلاد فارس عند أهل السنة وامتدت إلى الهند وإلى المغرب وإلى كثير من البلاد ولله الحمد، فمن أراد الله له الخير فإنه تأثر بهذه الدعوة المباركة وعرف أنها دعوة حق فاستجاب لها وأيّدها، وقامت الحجة على المعاندين ولله الحمد والمنة وزالت عن البلاد معالم الشرك والوثنية وعوائد الجاهلية.(1/8)
[ قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم ] ابتدأ الرسالة ببسم الله الرحمن الرحيم وهذه هي السُّنَّة: أن تبدأ الكتب والرسائل ببسم الله الرحمن الرحيم كما ابتدأ الله تعالى بها في كتابه فأول ما ترون في المصحف الشريف { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم، الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }(1) وكذلك قبل كل سورة « بسم الله الرحمن الرحيم »، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كتب يبدأ كتبه بـ« بسم الله الرحمن الرحيم »(2). وإذا تحدث إلى أصحابه يبدأ مجلسه ببسم الله الرحمن الرحيم. والحكمة في البدء ببسم الله الرحمن الرحيم التبرك بها لأنها كلمة مباركة فإذا ذكرت في أول الكتاب أو في أول الرسالة تكون بركة عليه. أما الكتب أو الرسائل التي لا تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فإنها تكون ناقصة لا خير فيها، ومن ناحية أخرى بسم الله الرحمن الرحيم فيها الاستعانة بالله جل وعلا فقوله: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم } أي أستعين وأتبرك ببسم الله الرحمن الرحيم. فالجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره أستعين وأتبرك بـ{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم}. والله عَلَم على الذات المقدسة. والرحمن الرحيم اسمان كريمان من أسمائه الحسنى يتضمنان الرحمة. [اعلم رحمك الله] اعلم: هذه الكلمة يبدأ بها في التنبيه إلى الأمور المهمة فإذا أردت أن تنبه شخصًا على شيء مهم من مسائل العلم تقول له: اعلم من أجل أن ينتبه. واعلم فعل أمر من العلم يعني تلعّم ما يأتي واهتم به وألق بالك لما يلقى
__________
(1) الفاتحة: 1-2
(2) انظر صحيح الإمام البخاري 4/402 كتاب الجهاد باب دعاء النبي إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله وقوله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ } إلى آخر الآية. وفي الفتح 6/109، وانظر تفاصيل ذلك في زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 3/688-696، ذكر هديه في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم.(1/9)
عليك ولما يكتب لك. فهذه كلمة يُؤتى بها لأهمية ما يأتي بعدها قال تعالى: { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }(1) وقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }(2) وقال تعالى: { اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(3) وقال تعالى: { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }(4).
فهذه كلمة عظيمة يؤتى بها للاهتمام. ثم قال: « رحمك الله » هذا دعاء من الشيخ رحمه الله لكل من قرأ هذه الرسالة، وهذا من باب التّلطّف لطالب العلم وتحسين الكلام له من أجل أن يُقبل على طلب العلم.
__________
(1) الطلاق: 12
(2) محمد: 19
(3) المائدة: 98
(4) المائدة: 92(1/10)
[ أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة ] أي اعلم هذه المسألة العظيمة واجعلها في ذاكرتك واجعلها في اهتمامك دائمًا وأبدًا وهي « أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة » وليس هو إفراد الله بالربوبية فإن هذا أقرَّ به المشركون ولم يكونوا موحّدين لأنهم لم يفردوا الله بالعبادة، فإقرارهم بتوحيد الربوبية ليس هو التوحيد المطلوب وإنما توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية ولازم له فمن أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية والله تعالى يذكر في القرآن في كثير من الآيات توحيد الربوبية دليلاً على توحيد الألوهية كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }(1) هذا هو توحيد الربوبية وهو دليل توحيد الألوهية، فأقام سبحانه وتعالى الحجة عليهم فيما أنكروه من توحيد الألوهية بما اعترفوا به من توحيد الربوبية ليلزمهم بذلك.
__________
(1) البقرة: 21-22(1/11)
حيث قال لهم كيف تعترفون أنه هو الخالق الرازق المحيي المميت وأنه لا شريك له في ذلك ثم تشركون في عبادته. أما الذين يقولون إن التوحيد هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت... إلخ فهم غالطون غلطًا فاحشًا، ولم يأتوا بالتوحيد المطلوب الذي دعت إليه الرسل. وعلى هذا المنهج الباطل أغلب عقائد المتكلمين التي تدرس الآن في كثير من المدارس الإسلامية. وقصد الشيخ رحمه الله بهذا التعريف هو الرد على هؤلاء الذين ركّزوا على توحيد الربوبية وتركوا توحيد الألوهية، فهذه أول شبهة وهي: أنهم جعلوا توحيد الربوبية هو التوحيد المطلوب، وأن من أفرد الله به فهو الموحّد وألّفوا كتبهم فيه وبنوا منهجهم عليه وصرفوا همهم إلى تحقيقه.
[ وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده ] فالرسل كلهم ما طلبوا من النّاس أن يقرروا بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت لأنهم معترفون بهذا وإنما طالبوا الأمم بإفراد الله بالعبادة. قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }(1) ما قال أن يقروا بأن الله هو الرب لأنهم مقرون بهذا بل قال: { اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } أي اتركوا الشرك بالله عز وجل في الألوهية.
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ }(2) ما قال أنه لا رب سواي ولا خالق إلا أنا، بل قال سبحانه: { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ } أي لا معبود بحق سواي.
هذا الذي بعث به الله الرسل، ما بعث الرسل لتقرير توحيد الربوبية لأن هذا موجود لكنه لا يكفي بل بعثهم لتوحيد الألوهية الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة وهو دين الرسل كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم.
__________
(1) النحل:36
(2) الأنبياء: 25(1/12)
[ فأوّلهم نوح عليه السَّلام ] كما قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }(1) فدلّت الآية الكريمة على أن أول الرسل هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، فنوح هو أول رسول بعد حدوث الشرك في الأرض، وتتابعت بعده الرسل على هذا المنهج الرباني وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو خاتمهم ولا نبي بعده إلى أن تقوم السَّاعة قال الله سبحانه وتعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }(2) وقال - صلى الله عليه وسلم - : « أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي »(3) فهو آخر الرسل عليهم الصّلاة والسَّلام وآخر الأنبياء لأن كل رسول نبي فلا يبعث بعده لا رسول ولا نبي فمن اعتقد أنه يبعث بعده رسول أو نبي فهو كافر قال - صلى الله عليه وسلم - : « وسيخرج بعدي كذابون ثلاثون كل منهم يدعي أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي » فمن لم يعتقد ختم الرسالة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأجاز أن يبعث بعده نبي فهو كافر بالله عز وجل مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
__________
(1) النساء: 163
(2) الأحزاب: 40
(3) رواه الترمذي في سننه بهذا اللفظ 6/368، 369 (34) كتاب الفتن (43) باب لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون حديث رقم 220 من حديث ثوبان رضي الله عنه. وانظر صحيح الإمام البخاري 4/162، 163، وصحيح مسلم 4/1791، ومسند الإمام أحمد 2/398 حديث رقم 9157، وسنن أبي داود 4/95، وسنن الدارمي 1/40.(1/13)
[ أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ] الغلو هو مجاوزة الحد. والغلو في الصَّالحين هو اعتقاد أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله، وود إلخ هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ماتوا في عام واحد، فحزن قومهم عليهم حزنًا شديدًا فجاء الشيطان إليهم وقال لهم: صوّروا صورهم وانصبوها على مجالسهم من أجل أن تتذكروا أحوالهم فتنشطوا على العبادة؛ جاءهم عن طريق النصيحة وهو يريد لهم الهلاك فخدعهم بهذه الحيلة واعتبروا هذه وسيلة صحيحة لأنها تنشِّط على العبادة، فهذا فيه التحذير من فتنة الصور وفتنة الغلو في الصالحين، وهؤلاء نظروا لمصلحة جزئية ولم ينتبهوا لما يترتب عليها من المفاسد فالإنسان لا ينظر إلى المصلحة الجزئية وينسى المضار العظيمة التي تترتب عليها في المستقبل. ثم أهلك قوم نوح بالطوفان فاندرست هذه الأصنام إلى أن جاء عهد الطاغية وهو ملك من ملوك العرب يقال له عمرو بن لحي الخزاعي، وكان له سلطان على الحجاز وكان في أول أمره رجلاً ناسكًا على دين قومه ولكن ذهب إلى الشام للعلاج، فوجد أن أهل الشام يعبدون الأصنام فدخل في فكره هذا الشيء فجاء إلى أهل الحجاز والجزيرة فدعاهم إلى الشرك وجاء الشيطان فأرشده إلى مواطن الأصنام التي كانت تعبد عند قوم نوح والتي سفى(1) عليها الرمل بعد الطوفان، فحفرها ونقَّب عنها فاستخرجها ووزعها على أحياء العرب فانتشر الشرك من ذلك الوقت. وكانت هذه الأصنام الموروثة عن قوم نوح هي أكبر الأصنام وإلا فلهم أصنام كثيرة حتى إنه كان حول الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون صنمًا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى هي أكبر أصنامهم[« ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر » ](2)
__________
(1) سفت الريح التراب تسفيه: ذَرَتْهُ، أو حَمَلتْه. انظر القاموس المحيط ص 1671 مادة «سفت».
(2) انظر صحيح الإمام البخاري 6/73 من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، كتاب التفسير باب ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا (إنا أرسلنا) بنحوه .(1/14)
[ وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصَّالحين ] كانت حال العرب الدينية قبل بعث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هي الوثنية ثم بعث الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بملة إبراهيم الحنيفية السمحة ودعاهم إلى التوحيد بمكة وبقي ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد بمكة وبقي ثلاثة عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد وينكر عليهم عبادة الأصنام. فاستجاب له من أراد الله له الهداية من الصَّحابة الذين أسلموا معه في مكة. ثم إن الله أذن لهم بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. واجتمع حوله المهاجرون والأنصار وكوّن جيوش التوحيد وصاروا يغزون المشركين.. إلى أن جاء في السنة الثامنة من الهجرة إلى مكة فاتحًا وصارت مكة تحت سلطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعند ذلك كسر هذه الأصنام التي حول الكعبة وغسل الصور التي في جوف الكعبة، وأرسل إلى الأصنام التي حول مكة (اللات والعزى ومناة) من الصَّحابة من كسرها ومنها صور هؤلاء الصَّالحين من قوم نوح وانتشر التوحيد واندحر الشرك ولله الحمد.
وهذا معنى قول الشيخ – رحمه الله – (كسر صور هؤلاء الصَّالحين) وذلك يوم فتح مكة وطهّر الله به حرمه الشريف من هذه الأصنام.
وامتد التوحيد من بعثته - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء الراشدين وعهد القرون المفضلة كلها خاليًا من الشرك فلما انتهت القرون المفضلة انتشر التصوّف والتشَيُّع وعند ذلك حدث الشرك في الأمة بعبادة القبور والأضرحة وتقديس الأولياء والصالحين إلى وقتنا هذا، وهذا الشرك موجود في الأمة ولكن يقيّض الله جل وعلا من يقيم الحجة على العباد من الدعاة المخلصين، ويهدي الله على أيديهم من أراد الله هدايته.(1/15)
وهكذا ينبغي ويجب على طلبة العلم والدعاة أن يهتموا بهذا الأمر وأن يجعلوا الدعوة للتوحيد وإنكار الشرك ودحض الشبهات من أولويات دعوتم فهذا هو الواجب وهذه دعوة الرسل عليهم الصّلاة والسّلام، لأن كل أمر يهون دون الشرك، فما دام الشرك موجودًا فكيف تنكر الأمور الأخرى! لابد أن نبدأ بإنكار الشرك أولاً ونخلّص المسلمين من هذه العقائد الجاهلية ونبيّن لهم بالحجة والبرهان وبالجهاد في سبيل الله إذا أمكن ذلك حتى تعود الحنيفية إلى المسلمين كل بحسب استطاعته ومقدرته في كل مكان وزمان. يجب على الدعاة ألا يغفلوا عن هذا الأمر ويهتموا بأمورٍ أُخرى ويبذلوا جهودهم فيها ولا يغطوا أعينهم عن واقع الناس الواقعين في الشرك وعبادة الأضرحة واستيلاء الخُرافيين وطواغيت الصوفية على عقول الناس. هذا أمر لا يجوز السُّكوت عليه وكل دعوة لا تتجه للنهي عنه فهي دعوة ناقصة أو دعوة غير صالحة أو دعوة غير مثمرة.
كما إنه يجب أن يعلم أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي ولا ينفع إلا إذا كان معه الإقرار بتوحيد الألوهية وتحقيقه قولاً وعملاً واعتقادًا، وأنّ المشركين الذين بعث إليهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم ينفعهم إقرارهم به لما كانوا جاحدين لتوحيد الألوهية.(1/16)
[ أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا. ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله. يقولون نريد منهم التقرب إلى الله. ونريد شفاعتهم عنده. مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق الرزاق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو ولا يحيي إلا هو ولا يميت إلا هو ولا يدبّر الأمر إلا هو وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها كلها عبيده وتحت تصرفه وقهره ] أي أن مشركي العرب الذين بُعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - يعبدون الله ولم تنفعهم هذه العبادة لما كانت مخلوطة بالشرك الأكبر، ولا فرق بين أن يكون المشرك به مع الله سبحانه صنمًا أو عبدًا صالحًا أو نبيًا مرسلاً أو ملكًا مقربًا ولا أن يكون قصد المشرك أن معبوده ليس شريكًا لله في ملكه بل هو مجرد وسيلة إلى الله ومقرب إليه.
فدل ذلك على أمرين:
الأول: أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي للدخول في الإسلام ولا يعصم الدم والمال ولا ينجّي من عذاب الله.
الأمر الثاني: أن عبادة الله إذا دخلها شيء من الشرك أفسدها فلا تصح العبادة إلا مع الإخلاص.(1/17)
[ فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون لله هذه الشهادة فاقرأ قوله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }(1) وقوله: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }(2) وغير ذلك من الآيات ] يقول الشيخ رحمه الله تعالى: فإذا طلبت الدليل على أن المشركين مقرُّون بهذا – يعني بتوحيد الربوبية – وأنهم يشركون في توحيد الألوهية، إذا أردت الدليل على هذه المسألة العظيمة التي يُعرف بها الحق من الباطل فاقرأ قوله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } فالمشركون يعترفون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المتصرف في عباده الذي بيده الأمر لا ينكر أحد منهم هذا قال تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } هذا الرزق الذي تأكلون منه وتشربون وتلبسون وتركبون من الذي جاء به هل جاءت به الأصنام؟ الأصنام جمادات وحجارة، أم الأشجار أو الأموات أو القبور والأضرحة كلها لا تأتي بأرزاقكم فهم يعترفون بأن أصنامهم لا تخلق ولا ترزق قال تعالى: { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ } السمع الحاسة العظيمة التي تسمع
__________
(1) يونس: 31
(2) المؤمنون: 84-87(1/18)
بها الأصوات والبصر الذي تبصر به المرئيات هذه العين التي يجعل الله فيها هذا البصر وهذا النُّور من الذي خلقه فيك؟ هل خلقه أحد غير الله؟ فهل رأيتم أحدًا من الخلق أوجد في أحد السمع إذا سلب منه وهل يستطيع أحد أن يرد للأعمى البصر الذي ذهب عنه؟ لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يجعلوا في عينه بصرًا ما استطاعوا لا الأصنام ولا الأطباء ولا الحُذاق من العلماء، فالمشركون معترفون بأن أصنامهم لا تعمل أي شيء من ذلك قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ }(1) لا يوجد أحد يجيب عن هذا السؤال ولا أحد يستطيع غير الله أن يأتي بالسمع والبصر.
__________
(1) الأنعام: 46(1/19)
{ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } هذا من العجائب يخرج الحي من الميت يُخرج الزرع من الحبّة ويخرج المؤمن من الكافر { وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } يخرج الكافر من المؤمن ويخرج البيضة من الطائر. الذي يقدر على هذا هو الله سبحانه وتعالى: { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ } هذا عموم. يعني كل الأمور من الموت والحياة والمرض والصحة والكفر والإيمان والغنى والفقر والليل والنهار والعز والذل والملك يعطي ذلك من يشاء ويأخذه ممن يشاء كل ما يجري في هذا الكون من تقلبات وتغيّرات من الذي يوجد هذه التغيرات وهذه التقلبات؟ فسيقولون الله، فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :{فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ما دام أنكم معترفون أن هذه الأمور بيد الله وأن أصنامكم لا تفعل شيئًا منها أفلا تتقون الله عز وجل وتوحدونه وتفردونه بالعبادة لأنكم إن لم تتقوا الله فإن الله يعذبكم لأنه أقام عليكم الحجة وقطع منكم المعذرة فلم يبق إلا العذاب ما دمتم عرفتم الحق ولم تعملوا به { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }(1) تبين لكم أن العبادة حق لله تعالى فلا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى فإن لم تعبدوه فإن هذا ضلال فماذا بعد الحق الذي هو التوحيد وإفراد الله بالعبادة إلا الضلال الذي هو الشرك.
__________
(1) يونس: 32(1/20)
فليحذر المسلم من هذا وليقبل الحق إذا تبين له خصوصًا في أمر التوحيد والعقيدة. يقبل الحق إذا تبين له ويخاف أن يصرف عنه فلا يقبله بعد ذلك وقوله تعالى: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ، قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }(1) هذه آيات من سورة المؤمنون مثل الآيات التي في سورة يونس التي ساقها المصنِّف ومثل غيرها من الآيات التي تقرر أن المشركين يعترفون لله بربوبيته ولكنهم يعارضون في توحيد الألوهية.
قال تعالى: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } مادامت الأرض ومن فيها لله كيف تعبدون الأصنام التي لا تملك شيئًا وتعبدون القبور الميتة التي لا حياة في أصحابها؟
{ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أفلا تذكرون أن الذي يملك الأرض ومن فيها هو المستحق للعبادة دون هذه الأصنام التي تعبدونها.
وهذا إقامة للحجة عليهم بما يعترفون به على ما جحدوه فهم يعترفون بتوحيد الربوبية ويجحدون توحيد الألوهية.
__________
(1) المؤمنون: 84-89(1/21)
[ فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفت أنت التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد ] أي إذا عرفت أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية وأن الذي جحدوه هو توحيد الألوهية وهم يقولون إن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت لكن إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1) أي إذا قيل لهم اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا قالوا كما قال قوم نوح من قبل: { لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }(2).
كذلك هؤلاء المشركون كان الجدال الذي بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو في عبادة الله وحده لا شريك له، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وهم يقولون: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }(3).
__________
(1) ص~:5
(2) نوح: 23
(3) ص~:5(1/22)
ويقولون هذا دين آبائنا وأجدادنا حتى إن أبا طالب عند الوفاة لما طلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: « لا إله إلا الله » أبى أن يقولها. وقال: هو على ملة عبد المطلب(1) ، وملة عبد المطلب عبادة الأصنام. هذا هو محل النزاع بين الرسل وبين الأمم فالرسل يقولون للأمم اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ولكن المشركين أبوا إلا البقاء على عبادة الأصنام، فالخصومة بين الرسل وبين الأمم هي في توحيد الألوهية. أما توحيد الربوبية فهو محل إجماع عند الجميع لم يخالفوا فيه وإنما خالفوا في توحيد الألوهية فهو محل النزاع وهو الذي شرع من أجله الجهاد في سبيل الله يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله »(2).
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 6/17،18 من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه كتاب التفسير (سورة القصص)، وانظر الفتح 8/5-6، 3/222.
(2) رواه البخاري في صحيحه 9/140-141، كتاب الاعتصام باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي رواية: « إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله » صحيح البخاري 1/11، 12 كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم.(1/23)
فلو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يطلب منهم الإقرار بتوحيد الربوبية ما صار بينهم خصومة ولا نزاع لأنهم معترفون به. [ كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهارًا ] وهذا أمر ثان من شأن المشركين كما أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية فهم أيضًا يعبدون الله فيدعونه ويحجون إلى البيت ويعتمرون ويتصدقون ويعبدون الله بأنواع من العبادة لكنهم يخلطونها بالشرك بحيث يعبدون الله ويعبدون غيره، وهذا لا ينفعهم شيئًا لأن الشرك يبطل عبادتهم فالعبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص ولهذا يقول جل وعلا: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا }(1) وقال سبحانه وتعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }(2). ما اقتصر على قوله فليعمل عملاً صالحًا.
بل لابد أن يتجنب الشرك فإذا كان لم يتجنب الشرك ولو كان يعمل أعمالاً كثيرة فإنها تبطل ولا تنفع.
__________
(1) النساء: 36
(2) الكهف: 110(1/24)
فالمشركون كان عندهم عبادات لله عز وجل وهي من بقايا دين إبراهيم الخليل عليه السَّلام، فكانوا في البداية على دين إبراهيم ولكن لما جاء عمرو بن لحي الخزاعي غيّر دينهم وأدخل فيه الشرك، لكن بقيت بقايا من دين إبراهيم عندهم وهم مشركون فهم يدعون الله خصوصًا إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله عز وجل ويتركون دعاء الأصنام لأنها لا تنفع في هذا الموقف ولا تنجدهم في وقت الشدة عليهم بهذا فقال سبحانه: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا }(1) وقال تعالى: { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }(2).
فالعبادات إذا خالطها شرك تكون باطلة. فالذين يدَّعون الإسلام الآن ويصلّون ويصومون ويحجّون ولكنهم يَدْعُون الحسين والبدوي وعبد القادر الجيلاني هؤلاء مثل المشركين الأولين؛ فالمشركون يتعبدون لله عز وجل ولكنهم يدعون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ولا يقولون إن هذه أرباب بل يقولون هذه تقربنا إلى الله زلفى نريد منها الزلفى عند الله والتقرب إلى الله، فهي وسائط وشفعاء بيننا وبين الله. وهؤلاء يقولون الحسن والحسين وعبد القادر والبدوي إنما هم شفعاء لنا عند الله ولا يقولون إنهم يخلقون ويرزقون ويتصرفون في شيء من الأمور وإنما هذا لله عز وجل، إنما هؤلاء وسائط وشفعاء. ويقول بعض الناس هؤلاء مسلمون فنقول ولماذا لا يكون كفار قريش مسلمين أيضًا؟!.
__________
(1) الإسراء: 67
(2) لقمان: 32(1/25)
وهذا القائل ليس عنده فهم للتوحيد ولا بصيرة لأنه ما فهم التوحيد. والواجب على الإنسان أن يعرف هذا الأمر لأنه مهم جدًا وهذه هي الثقافة الصحيحة. ليست الثقافة أن تعرف أحوال العالم والحكومات والسياسات، هذه ثقافة لا تنفع ولا تضر. الثقافة التي تنفع هي معرفة التوحيد الصحيح ومعرفة ما يضاده من الشرك أو ينقصه من البدع والمحدثات، هذه هي الثقافة الصحيحة وهذا هو المطلوب من المسلم ومن طالب العلم أن يعرف التوحيد وأن يدعو إليه هذا هو المطلوب. ماذا ينفع العلم الكثير من غير تحقيق ومن غير بصيرة؟ لا ينفع شيئًا ولا يفيد صاحبه شيئًا إذا لم يكن مبنيًا على تحقيق وتوحيد وعبادة لله ومعرفة للحق من الباطل فإنه لا ينفع صاحبه إذا كان مجرد اطلاع أو مجرد ثقافة عامة.
[ ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحًا مثل اللات أو نبيًا مثل عيسى ] هؤلاء المشركون متفرقون في عباداتهم منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد عيسى بن مريم ومنهم من يعبد الصَّالحين. هذا دين المشركين وهو الواقع في كثير من العالم الإسلامي اليوم مع الأسف يعبدون الله ويحجّون ويصومون ويصلّون لكنهم واقعون في الشرك الأكبر فيعبدون الأموات ويذبحون لهم ويستغيثون بهم وقد يعتذر لهم بعض من لا بصيرة عنده بالتوحيد.(1/26)
فيقول: هؤلاء معذورون ولا يعتقدون في الأموات أنهم يخلقون ويرزقون وإنما اتخذوهم وسائط وشفعاء، فإن استحيى قال: هؤلاء مخطئون وربما يقول: هؤلاء مجتهدون والمجتهد مأجور أو يقول: هؤلاء جهال، وكيف يكونون جهالاً والقرآن يتلى عليهم والأحاديث تسمع وكلام أهل العلم يتردد عليهم، بل هؤلاء معاندون لأنهم قد قامت عليهم الحجّة فلم يقبلوها. وهناك من يقول إن الإنسان مهما فعل ومهما قال لا يحكم عليه بالكفر ولا بالشرك حتى يعلم ما في قلبه، ويا سبحان الله هل نحن نعلم ما في القلوب أو الله الذي يعلم ما في القلوب؟ نحن نحكم على الظواهر أما البواطن فلا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فالذي يعمل بالشرك يحكم عليه أنه مشرك ويعامل معاملة المشركين حتى يتوب إلى الله تعالى ويلتزم بعقيدة التوحيد. كما أن الذي يعمل بالتوحيد وينطق بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين ما لم يظهر منه ما يناقض ذلك فنعامل كلاً حسب ما يظهر منه.
[ وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }(1) ] أي وعرفت أن تَعَبُّدهُم لله مع الشرك به لم ينفعهم لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقبله منهم بل دعاهم إلى إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه. وهذه الآية تمنع عبادة الملائكة وتمنع عبادة الرسل وتمنع عبادة الصالحين ففيها إبطال عبادة غير الله عز وجل كائنًأ من كان ولو كان أصحابها لا يعتقدون فيهم أنهم يخلقون ويرزقون.
__________
(1) الجن: 18(1/27)
وإنما يقولون إن هؤلاء صالحون فيتخذونهم وسائط بينهم وبين الله وشفعاء لهم عند الله عزَّ وجلَّ يقربونهم إلى الله زلفى كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(1) وفي زماننا الحاضر يقولون هؤلاء وسائل نتوسل بهم إلى الله عز وجل وهذا كله دين الجاهلية وهو باطل. لأنّه عبادة لغير الله عز وجل.
[ وكما قال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ }(2)] له دعوة الحق أي العبادة الصحيحة كما قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }(3) والله جل وعلا لا يقبل إلا دعوة الحق يعني الدين الخالص، أما الذي يعبد الله ويعبد معه غيره فهذه دعوة شرك لا يقبلها الله.
وقوله: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } عام في كل من دعي من دونه سواء من الملائكة أو من الرسل أو من الصالحين أو من الأصنام أو من أي شيء وقوله: { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } أي لا يستجيبون لمن دعاهم بشيء لأنهم عاجزون لا يقدرون على شيء.
( فائدة في بيان معنى الرب والإله )
__________
(1) يونس: 18
(2) الرعد: 14
(3) الزمر: 3(1/28)
الله جل وعلا في القرآن ذكر الرب في مواضع، وذكر الإله في مواضع. خذ مثلاً سورة الناس، يقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ }(1) فما الفرق بين رب الناس وإله الناس؟ هل هما بمعنى واحد؟ إذًا يكون الكلام مكررًا أو أنهما بمعنيين فلابد من معرفة الفرق بينهما، وكثيرًا ما يأتي ذكر الرب كقوله تعالى: { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ }(2). فتكرر لفظ الرب وتكرر لفظ الإله فما معنى كل منهما؟ فالرب معناه المربي لخلقه بنعمه ومغذيهم برزقه تربية جسمية بالأرزاق والطعام، وتربية قلبية روحية بالوحي والعلم النَّافع وإرسال الرسل.
__________
(1) الناس: 1-3
(2) المؤمنون: 86-87(1/29)
ومن معاني الرب أنه المالك للسماوات والأرض فرب الشي مالكه والمتصرف فيه، ومن معاني الرب المصلح الذي يصلح الأشياء ويدفع عنها ما يفسدها، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يصلح هذا الكون وينظمه على مقتضى إرادته وحكمته سبحانه وتعالى. أما الإله فمعناه المعبود من أله يأله بمعنى عبد يُعبَد فإله معناه معبود وليس معناه الرب وإنما معناه المعبود والإلهية هي العبادة والوله هو الحب لأنه سبحانه وتعالى يحبه عباده المؤمنون ويخافونه ويرجونه ويتقربون إليه. هذا هو معنى الإله فتبين الفرق بين معنى الرب ومعنى الإله وأنهما ليسا بمعنى واحد ومن قال إنهما بمعنى واحد فقد غلط، والعلماء يقولون إذا ذكرا جميعًا صار الرب له معنى والإله له معنى، وإذا ذكر واحد دخل فيه معنى الرب أما إذا ذكرا جميعًا مثل ما في سورة الناس فإنه يكون للرب معنى وللإله معنى آخر كما في لفظ الفقير والمسكين إذا ذكرا جميعًا كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }(1) صار للفقير معنى وللمسكين معنى، فالفقير هو الذي لا يجد شيئًا وأما المسكين فهو الذي يجد بعض الكفاية فالمسكين أحسن حالاً من الفقير. ومثل لفظ الإسلام والإيمان إذا ذكر الإسلام والإيمان صار الإسلام معناه الأعمال الظاهرة والإيمان معناه الأعمال الباطنة كما في حديث جبريل: قال أخبرني عن الإسلام قال: » الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ». فسّره بالأركان الظاهرة. قال أخبرني عن الإيمان قال: » أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره » (2)
__________
(1) التوبة: 60
(2) رواه الإمام مسلم في صحيحه 1/36-38 (1) كتاب الأيمان (1) باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر وإغلاظ القول معه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .(1/30)
. فسّره بالأعمال الباطنة وهو إيمان القلب. هذا إذا ذكرا جميعًا صار لكل واحد معنى وإذا ذكر أحدهما وحده دخل فيه الآخر. ومن هنا نعرف الفرق أيضًا بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فتوحيد الربوبية هو الإقرار بأن الله هو الخالق والرازق المحيي المميت أي الاعتراف بأفعال الله سبحانه وتعالى؛ وتوحيد الألوهية معناه إفراد الله بأعمال العباد التي يتقربون بها إليه مما شرع. هذا معنى توحيد الألوهية فهناك فرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وما دمنا قد عرفنا معنى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية نأتي إلى حالة المشركين الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا مقرّين بالنّوع الأول الذي هو توحي الربوبية ولم يدخلهم في الإسلام، بل اعتبرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفارًا مشركين وقاتلهم وهم يقرون بتوحيد الربوبية، فهم أقروا بتوحيد الربوبية وجحدوا توحيد الألوهية لما طلب منهم أن يفردوا الله بالعبادة ويتركوا عبادة الأصنام قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1) لأنه قال لهم قولوا لا إله إلا الله فهم فهموا معنى لا إله إلا الله وهو أنه لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له وهم لهم أصنام ولهم معبودات كثيرة لا يريدون تركها والاقتصار على عبادة الله وهذا لا يرضيهم ولذلك أنكروا وقالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } طلب منا أن نعبد الله وحده ونترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام هذا شيء لا يعقل عندهم { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ }(2) ملة آبائهم فهذا احتجاج بما عليه آباؤهم؛ الحجة الملعونة التي احتجت بها الأمم من قبل إذا دعوا إلى عبادة الله. حتى فرعون يقول: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى }(3) فهم لمّا فهموا معنى لا إله إلا الله استغربوا هذا واستنكروه وتواصوا برفضه وفي الآية
__________
(1) ص:5
(2) ص~:7
(3) طه: 51(1/31)
الأخرى يقول سبحانه فيهم: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }(1).
وهذا يبين معنى لا إله إلا الله تمامًا ويوضحه ويقطع الجدال، فإن فيه ردًا على من غلط في معنى لا إله إلا الله. فعلماء الكلام في مقرراتهم وعقائدهم يقولون لا إله إلا الله معناها لا خالق ولا رازق ولا قادر على الاختراع إلا الله هذا معنى الإله عندهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « والحاذق منهم من يقول: الإله هو القادر على الاختراع وهذا غلط وجهل كبير باللغة وبالشرع المطهر إذ معنى الإله المعبود الذي تألهه القلوب وتخضع له وتتقرب إليه »(2) فهم لم يفهموا معنى الإله ولذلك يقولون لا إله إلا الله ويكثرون، ولهم أوراد في الليل والنهار يرددونها ومع هذا يعبدون القبور والأضرحة ويستغيثون بغير الله عز وجل. فلم يفهموا معنى لا إله إلا الله وأنها تطلب منهم ترك عبادة القبور والأضرحة وعبادة ما سوى الله من الأصنام والأشجار والأحجار فإذا قالوها لزمهم ترك عبادة الأوثان، أما هؤلاء فقالوها وعبدوا غير الله، فالأولون أحذق منهم ولهذا يقول الشيخ: لا خير في رجل جهّالُ المشركين أعلمُ منه بمعنى لا إله إلا الله.
__________
(1) الصافات: 35-36
(2) انظر معنى كلامه في التدمرية ص185، 186، تحقيق محمد بن عودة السعوي وفي مجموع الفتاوي 13/203 .(1/32)
[ وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها لله وجميع أنواع العبادة كلها لله ] أي لا يكون بعض ذلك لله وبعضه للبدوي وبعضه لله وبعضه للحسين، لابد أن يكون الدعاء كله لله والذبح كله لله والنذر كله لله وسائر العبادات كلها لله وهذا هو الدين الصحيح، أما أن تكون العبادة مشتركة بين الله وبين القبور والأضرحة والأولياء والصالحين فهذا ليس هو التوحيد بل هذا هو دين المشركين وإن كان صاحبه يعترف بتوحيد الربوبية ويصوم ويصلي ويحج ويعتمر إلى غير ذلك.
[ وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام ] أي لما كان إقرارهم بتوحيد الربوبية الذي ذكره الله عنهم وسجله عليهم لم يدخلهم في الإسلام، دلّ على أن التوحيد المطلوب ليس هو توحيد الربوبية وإنما هو توحيد الألوهية وهو الفارق بين المسلم والكافر أما توحيد الربوبية فكل مقر به المسلم والكافر وهو لا ينفع وحده.(1/33)
[ وأن قصدهم الملائكة والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم ] أي أنهم لم يقولوا إن الملائكة والأنبياء والأولياء الذين يعبدونهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ما قالوا هذا وإنما اتخذوهم شفعاء ووسائط بينهم وبين الله كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(1) ما أرادوا منهم إلا الشفاعة وزعموا أن هذا تعظيم لله يقولون: الله عظيم ما يمكن أن نصل إليه بدعائنا لكن نتخذ من يوصل إليه حاجاتنا من عباده الصالحين، من الملائكة والرسل والصالحين فقاسوا الله على ملوك الدنيا الذين يتوسط عندهم أصحاب الحاجات بالمقربين عندهم، فهم لم يعتقدوا فيهم أنهم يخلقون ويرزقون كما يقول الجهال: إن الشرك هو اعتقاد أن أحدًا يخلق مع الله أو يرزق مع الله، هذا ما قاله أحد من عقلاء بني آدم، وإنما قصدهم الشفاعة وفي الآية الأخرى: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(2) يقولون نحن عباد ضعفاء والله جل وعلا شأنه عظيم ولا نتوصل إليه فهؤلاء يقربونا إلى الله زلفى، شبّهوا الله بملوك الدنيا هذا هو أصل الكفر فدل على أنهم لم يعتقدوا فيهم الشرك في الربوبية وإنما اعتقدوا فيهم الشرك في الألوهية فإذا سألت أي واحد الآن يذبح للقبور أو ينذر لها ما الذي حملك على هذا؟ فإنهم يقولون كلهم بلسان واحد: والله ما اعتقدنا أنهم يخلقون ويرزقون وأنهم يملكون شيئًا من السماوات والأرض إنما اعتقدنا أنهم وسائط لأنهم صالحون يوصلون إلى الله حاجاتنا ويبلغونه حاجاتنا هذا قصدنا. ومع هذا سماهم الله مشركين وأمر نبيه بجهادهم كما قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ
__________
(1) يونس:18
(2) الزمر:3(1/34)
كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(1) مع أنهم يقولون لا نعتقد أنهم يخلقون ويرزقون ويدبِّرون مع الله وإنما قصدنا اتخاذهم وسائط فنحن نذبح لهم وننذر لهم ونتوسل بهم لأن الله لا يصل إليه شيء من أمورنا إلا بواسطتهم، فهم يوصلونه إلى الله ويكونون وسائط يقربوننا إلى الله زلفى وشفعاء عند الله، هذه شبهتهم قديمًا وهذه شبهة عباد القبور اليوم. { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } فتشابهت أقوالهم وأفعالهم.
[ عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون ] أي إذا فهمت ما سبق من الآيات البينات التي تدل على أن المشركين الأولين لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في الألوهية فاتخذوا الآلهة من دون الله لتقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم عنده. إذا تبين لك هذا. عرفت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل وجحده المشركون هو توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية وأن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي ولا يدخل من أقرّ به في الإسلام.
ومعرفة ذلك أمر مهم جدًا إذ به يعرف التوحيد والشرك والإسلام والكفر. والجهل بذلك ضرره عظيم وخطره كبير لأن الإنسان قد يخرج من الإسلام وهو لا يدري.
[ وهذا التوحيد هو معنى قوله: لا إله إلا الله ] أي معنى لا إله إلا الله هو توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية لأنه لو كان معناها توحيد الربوبية لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمشركين قولوا لا إله إلا الله لأنهم يقولون إن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت وإنه حينئذٍ يطلب منهم ما هو تحصيل حاصل ويقاتلهم على شيء يعترفون به ويقرون به؛ وهذا القول باطل.
__________
(1) التوبة: 5(1/35)
[ فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا ] هذا تعليل لما سبق في تقرير معنى لا إله إلا الله وأنه توحيد الألوهية لأن الإله عند مشركي العرب هو الذي يقصد لقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وليس الإله عندهم هو الذي يخلق ويرزق ويدبر ليس هذا هو الإله عندهم فالشرك عندهم لم يقع في توحيد الربوبية وإنما وقع في توحيد الإلهية.
[ لم يريدوا أنّ الإله هو الخالق الرازق المدبَّر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ «السيد» ] أي ليس الإله عند المشركين الأولين هو الخالق الرازق المدبر لأن هذا معنى الرب، وفرق بين معنى الرب ومعنى الإله وفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا أي زمان المؤلف بلفظ السيد وإلى الآن يسمون هؤلاء الذي يدّعون صلاحهم ويتقربون إليهم يسمّونهم السادة كالسيد البدوي والسيد الرفاعي والسيد التيجاني، إلى غير ذلك يعتقدون أن هؤلاء السادة لهم منزلة عند الله تؤهلهم أن يتوسطوا لهم عند الله وتؤهلهم أن يُدعوا من دون الله ويذبح وينذر لهم ويطاف بقبورهم ويتبرك بها. فالمشركون الأولون يسمون هذه الأشياء آلهة والمشركون المتأخرون يسمون هذه الأشياء وسائط ووسائل وشفعاء والأسماء لا تغيّر الحقائق فهي آلهة.(1/36)
[ فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها ] أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا المشركين إلى تحقيق معنى: لا إله إلا الله التي هي كلمة التوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وهو الذي بعث الله به رسوله إلى المشركين ولم يبعثه إليهم يدعوهم إلى توحيد الربوبية لأنهم مقرّون به وهو لا يكفي، لأنه قاتلهم وهم يقرون به، ومن قال إنه يكفي فإنه يلزم عليه تغليط الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه قاتل أناسًا مسلمين يعترفون بلا إله إلا الله إذا فسرناها بتوحيد الربوبية وهو الإقرار بالخالق الرازق القادر على الاختراع. ومع الأسف هذا التفسير الخاطئ للا إله إلا الله موجود في كتب العقائد التي ألّفها علماء الكلام وعلماء المنطق من المعتزلة والأشاعرة والتي تدرّس في كثير من المعاهد الإسلامية الآن. وعقائدهم مبنية على هذا الرأي وأن الإله معناه القادر على الاختراع فمن اعترف أن الله هو الخالق الرازق يعتبر موحدًا وأما من اعتقد أن أحدًا يخلق أو يرزق مع الله فهذا هو المشرك عندهم مع أن الشرك إنما وقع في توحيد الألوهية ولم يقع في هذا وليس هذا هو معنى لا إله إلا الله.
وإنما معناها: لا معبود بحق إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله وجب عليه أن يُفرد الله بالعبادة وأن يترك عبادة ما سواه، فإن المقصود من هذه الكلمة معناها والعمل بمقتضاها لا مجرد النطق بها دون عمل بمعناها ومقتضاها، فمن قالها وهو يعبد غير الله لم يكن عاملاً بمقتضاها وهو ترك الشرك، ولا ينفعه مجرد النطق بها لأنه قد ناقض فعله قوله، والمشركون الأولون لما سمعوا هذه الكلمة عرفوا معناها وأنه ليس المقصود التلفظ بها فقط ولذلك قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1).
__________
(1) ص~:5(1/37)
وفي وقتنا هذا وجد من يفسّر لا إله إلا الله بأن معناها هو إفراد الله بالحاكمية وهذا غلط. لأن الحاكمية جزء من معنى لا إله إلا الله وليست هي الأصل لمعنى هذه الكلمة العظيمة، بل معناها لا معبود بحق إلا الله بجميع أنواع العبادات ويدخل فيها الحاكمية ولو اقتصر الناس على الحاكمية فقاموا بها دون بقية أنواع العبادة لم يكونوا مسلمين، ولهذا تجد أصحاب هذه الفكرة لا ينهون عن الشرك ولا يهتمون به ويسمونه الشرك الساذج، وإنما الشرك عندهم الشرك في الحاكمية فقط وهو ما يسمونه الشرك السياسي، فلذلك يركزون عليه دون غيره، ويفسرون الشرك بأنه طاعة الحكام الظلمة.(1/38)
[ والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ] أي الكفار يعرفون معنى لا إله إلا الله ولهذا لما قال لهم - صلى الله عليه وسلم - قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }(1) ولما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ }(2) فهم فهموا معنى لا إله إلا الله وأبوا أن يعترفوا به لأنه يُلزِمُهم بترك عبادة الأصنام وهم لا يريدون هذا، وإنما يريدون البقاء على عبادة الأصنام. ولم يجرؤوا أن يقولوا لا إله إلا الله ويبقوا على عبادة الأصنام لأن في هذا تناقضًا وهم يأنفون من التناقض، في حين أن كثيرًا من المنتمين إلى الإسلام اليوم لا يأنفون من هذا التناقض فهم يقولون لا إله إلا الله بحروفها ولكنهم يخالفونها ويعبدون غير الله من القبور والأضرحة والصالحين بل والأشجار والأحجار وغير ذلك. فهم لا يفهمون معنى لا إله إلا الله.
فلا يكفي التلفظ بلا إله إلا الله دون علم بمعناها وعمل بمقتضاها.
بل لابد من العلم بمعناها أوّلاً ثم العمل بمقتضاها لأنه لا يمكن أن يعمل بمقتضاها وهو يجهل معناها ولهذا يقول جل وعلا: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }(3) فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فالذي يجهل معنى لا إله إلا الله لا يمكن أن يعمل بمقتضاها على الوجه الصحيح.
__________
(1) ص~:5
(2) الصافات: 36-37
(3) محمد: 19(1/39)
[ فإذا عرفت أن جهّال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممّن يدّعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة. بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني ] هذا من أعجب العجب أن جهال الكفار والمشركين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفون أن معنى هذه الكلمة هو إخلاص العبادة لله وترك عبادة غيره فلذلك امتنعوا عن النطق بها تحاشيًا لترك عبادة آلهتهم وتعصبًا لباطلهم؛ ومن يدعي الإسلام اليوم لا يفهم أن معنى هذه الكلمة هو ترك عبادة القبور والأضرحة وإخلاص العبادة لله، فلذلك صار يقولها وهو مقيم على شركه لا يأنف التناقض والجمع بين الضدين فصار جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. وصار هذا المدعي للإسلام يظن أن المراد بهذه الكلمة هو النطق بحروفها من غير اعتقاد لمعناها فصار يردد معها دعاء الموتى والمقبورين ليلاً ونهارً.
[ والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله ] كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية وغيرها (1) عن علماء الكلام أن الإله عندهم هو القادر على الاختراع يعني هو الذي يقدر على الخلق والرزق والإحياء والإماتة ويبنون عقائدهم على هذا ويفسرون لا إله إلا الله بهذا المعنى ويجعلون التوحيد هو الإقرار بتوحيد الربوبية وهذا غلط عظيم.
فإذا كان هذا حال العالم منهم فكيف بالجاهل؟ وما هذا إلا من قلة الاهتمام بدعوة التوحيد وتقليد الآباء والأجداد والاكتفاء من الإسلام بمجرد الانتساب لأغراض وأهداف دنيوية الله أعلم بها. من غير تعرّف على الدين الحقيقي الذي أساسه التوحيد الخالص.
__________
(1) انظر التدمرية ص185 تحقيق الدكتور محمد بن عودة السعوي، ومجموع الفتاوى 13/203(1/40)
[ فلا خير في رجل جُهَّالُ الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله ] لا خير في رجل يدعي الإسلام بل يدعي أنه من أهل العلم ولا يفهم معنى لا إله إلا الله وقد فهمها كفار قريش وعرفوا معناها.
إن الأمر خطير، والعار شنيع، والواجب على المسلمين أن ينتبهوا لدينهم ويتأملوا دعوة نبيهم ويفقهوا دينهم فقهًا صحيحًا ويقيموه على أساس سليم من عقيدة التوحيد والبراءة من الشرك وأهله، ولا يكتفوا بمجرد التسمي والانتساب إليه مع البقاء على الرسوم والعادات المخالفة له، وترديد عبارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.
[ إذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب ] أي إذا عرفت ما ذكرت لك من الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وعرفت أن المشركين أقروا بالأول وجحدوا الثاني فلم يدخلهم في الإسلام وقُتِلُوا واستُحِلَّت دماؤهم وأموالهم، إذا عرفت هذه الأمور معرفة قلب لا معرفة لسان فقط كأن يحفظ الإنسان هذا المعنى ويُؤديه في الامتحان وينجح فيه ولم يتفقّه فيه في قلبه ويفهمه تمامًا فهذا لا يكفي. فالعلم هو علم القلب وعلم البصيرة لا علم اللسان فقط.
[ وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(1) ] أي الشرك في العبادة لا الشرك الذي هو اعتقاد أن أحدًا يخلق ويرزق ويدبر مع الله بل الشرك الذي حذّر الله منه هو اعتقاد أن أحدًا يستحق العبادة أو شيئًا من العبادة مع الله.
فالشرك هو دعوة غير الله معه أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، هذا هو الشرك الذي حرمه الله وحرم على صاحبه الجنة وأخبر أن مأواه النار. وهو الشرك الذي يحبط جميع الأعمال وهو الشرك في الألوهية وليس الشرك في الربوبية، وهذا تنبيه من الشيخ رحمه الله إلى أنه كما تجب معرفة التوحيد تجب معرفة الشرك.
__________
(1) النساء: 48(1/41)
[ وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه ] دين الرسل هو الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله هذا هو دين الرسل وهذا هو الإسلام. وأما الانتساب إلى الإسلام في الظاهر دون الباطن أو الانتساب إليه بالتسمي فقط دون التزام لأحكامه، أو الانتساب إليه مع ارتكاب ما يناقضه من الشرك والوثنيات، أو الانتساب إليه مع الجهل بحقيقته، أو الانتساب إليه دون موالاة لأوليائه ومعاداة لأعدائه فليس هذا هو الإسلام الذي جاءت به رسل الله. وإنما هو إسلام اصطلاحي مصطنع لا يغني ولا ينفع عند الله سبحانه وتعالى، وليس هو دين الرسل.
[ وعرفت ما أصبح غالب النّاس فيه من الجهل بهذا ] وهو الجهل بالتوحيد والجهل بالشرك. هذا هو الذي أوقع كثيرًا من الناس في الضلال وهو أنهم يجهلون التوحيد الصحيح ويجهلون الشرك ويفسرون كلاً منهما بغير تفسيره الصحيح، هذا هو الذي أوقع كثيرًا من الناس في الغلط والكفر والشرك والبدع والمحدثات إلى غير ذلك، وذلك بسبب عدم معرفة ما أمر الله به من توحيده وطاعته، وما نهى عنه من الإشراك به ومعصيته فالعوام لا يتعلمون، وغالب العلماء مكبون على علم الكلام والمنطق الذي بنوا عليه عقيدتهم وهو لا يحق حقًا ولا يبطل باطلاً بل هو كما قال بعض العلماء: ( لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل به)(1).
[ أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }(2) وأفادك أيضًا الخوف العظيم ] أي العلم بهذه الحقائق يفيدك فائدتين:
__________
(1) انظر كتاب الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص3 (بنحوه).
(2) يونس: 58(1/42)
الفائدة الأولى: أنك تفرح بفضل الله حيث مَنَّ عليك بمعرفة الحق من الباطل فإنها نعمة عظيمة، حُرمَ منها الكثير من الخلق، قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وفضل الله هو الإسلام، ورحمته هي القرآن { فَلْيَفْرَحُواْ } فرح شكر واعتراف بالنعمة. والفرح بفضل الله مشروع لأنه شكر لله سبحانه وتعالى على نعمة التوحيد ومعرفة الشرك وهذه نعمة إذا وُفّقت لها فإنه قد جمع لك الخير كله الفرح بالنعمة مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو الفرح بالدنيا كما قال تعالى: { وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }(1) فالفرح بالدنيا وحُطَامها مذموم أما الفرح بالدين والفرح بالعلم النافع فهذا مشروع لأن الله أمر به.
__________
(1) الرعد: 26(1/43)
والفائدة الثانية: أنك إذا عرفت التوحيد الصحيح وعرفت الشرك القبيح فإن ذلك يُفيدك الخوف أن تقع فيما وقع فيه كثير من الناس بالمخالفة لهذا الأصل والوقوع في الشرك وأنت لا تدري فلا تأمن على نفسك من الفتنة فلا تغتر بعملك أو بفهمك، ولكن قل لا حول ولا قوة إلا بالله واسأل الله الثبات، فإن إبراهيم الخليل الذي أعطاه الله من العلم واليقين ما لم يعط غيره إلا نبيًا يقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ }(1) فإبراهيم لم يأمن على نفسه الفتنة مع علمه ويقينه وهو الذي كسَّر الأصنام بيده وألقي في النار بسبب ذلك، ومع هذا يخاف على نفسه من الفتنة، فلا تغتر بعلمك وتأمن على نفسك من الفتنة ولكن كن دائمًا على حذر من الفتنة بأن لا تزلّ بك القدم وتغتر بشيء يكون سببًا لهلاكك وضلالك، فإن بعض المغرورين اليوم يقول إن الناس تجاوزوا مرحلة الجهل والبدائية وصاروا مثقفين واعين لا يتصور أن يعودوا للوثنية، أو نحوًا من هذا الكلام الفارغ، ولم يفطن لعبادة الأضرحة التي تنتشر في كثير من البلاد الإسلامية ولم ينظر فيما وصل إليه كثير من الناس من الجهل بالتوحيد.
__________
(1) إبراهيم: 35-36(1/44)
[ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل ] قد يقول الإنسان كلمة من الكفر تُحبط عمله كله كالرجل الذي قال: « والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله جل وعلا: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان. إني قد غفرت له وأحبطت عملك »(1) كلمة واحدة تجرأ فيها على الله وأراد أن يمنع الله أن يغفر لهذا المذنب، فالله جل وعلا أحبط عمله وغضب عليه. والإنسان قد يتكلم بمثل هذه الكلمة ونحوها فيخرج من دين الإسلام، فالذين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قالوا ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا وأكذب ألسنًا وأجبن عند اللقاء يزعمون أنهم قالوها من باب المدح ويقطعون بها الطريق بزعمهم قال الله فيهم: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(2) دل على أنهم مؤمنون في الأول فلما قالوا هذه الكلمة كفروا والعياذ بالله مع أنهم يقولونها من باب المزح واللعب.
[ وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما كان يظن المشركون ] أي يقول كلمة الكفر وهو يظن أنها تقربه إلى مثل ما يقول المشركون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(3) { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(4).
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه 4/2023 كتاب (45) البر والصلة والآداب (39) باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى حديث رقم 137 –(2621). من حديث جندب رضي الله عنه.
(2) التوبة: 65-66 ، انظر جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري 10/19-20 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/351-352، وأسباب النزول للواحدي 187-188.
(3) الزمر: 3
(4) يونس:18(1/45)
[ خصوصًا إن ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }(1) فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلّصك من هذا وأمثاله ] قوم موسى هم بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى خرجوا معه من مصر حيث أمره الله أن يخرج بهم فراراً من فرعون فخفي عليهم هذا الأمر مع أنهم علماء وفيهم صلاح وتقوى وخرجوا مع موسى مقاطعين لفرعون وقومه فلما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم أرادوا تقليدهم في ذلك وطلبوا من موسى فقالوا: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }(2) فأنكر عليهم موسى هذه المقالة وأخبرهم أن عمل هؤلاء القوم شرك بالله عز وجل فانظر كيف خفي عليهم هذا الأمر مما يدل على خطورة الجهل بالتوحيد وعدم معرفة حقيقة الشرك مما يسبب أن الإنسان قد يقول الكلمة التي تقتضي الكفر والخروج من الدين وهو لا يدري. ولا يخلصك من هذا وأمثاله إلا العلم النافع الذي به تعرف التوحيد من الشرك، وتحذر به من القول أو الفعل اللذين يوقعانك في الشرك من حيث لا تدري. وهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن من قال كلمة الكفر أو عمل الكفر لا يكفر حتى يعتقد بقلبه ما يقول ويفعل. ومن يقول: إن الجاهل يعذر مطلقًا ولو كان بإمكانه أن يسأل ويتعلم، وهي مقالة ظهرت ممن ينتسبون إلى العلم والحديث في هذا الزمان.
__________
(1) الأعراف:138
(2) الأعراف:138(1/46)
[ واعلم أن الله تعالى بحكمته لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }(1) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ }(2) ] حكمة الله تعالى في هذا تتلخص في أمرين:
__________
(1) الأنعام:112
(2) غافر:83(1/47)
الأمر الأول: أنه ما بَعَثَ نبيًا من أنبيائه إلا جعل له أعداء من المشركين كما في الآية التي ذكرها المؤلف وكما في الآية: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا }(1) ولله في ذلك الحكمة من أجل أن يتبين الصادق من الكاذب، ويتبين المطيع من العاصي. إذا بعث الأنبياء يدعون إلى الهدى صار هناك دعاة للضلال من أجل أن يمتحن الناس أيهم يتبع الأنبياء وأيهم يتبع دعاة الضلال، ولولا ذلك لكان الناس كلهم يتبعون الأنبياء ولو في الظاهر ولا يتميز الصادق في اتِّباعه من المنافق لأن الأنبياء يتّبعهم المؤمن الصادق ويتبعهم المنافق الكاذب، والذي يميز هذا من هذا هو الابتلاء والامتحان، فالشدائد هي التي تبيّن الصادقين من المنافقين فالله جعل أعداءً للأنبياء لحكمة من أجل الابتلاء والامتحان { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ }(2) هذه هي الحكمة بأن الله جعل لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن، والشيطان هو المارد العاصي فكل من تمرد عن طاعة الله فإنه شيطان سواء كان من الجن أو من الإنس، حتى الدواب المتمردة تسمى شيطانًا وهو من شاط الشيء إذا اشتد أو من شطن إذا ابتعد، فالشيطان يكون من عالم الجن ويكون من عالم الإنس، وقوله تعالى: { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ }(3) الزخرف في الأصل الذهب وزخرف القول هو القول المموّه المزوّر، لأجل أن يغر الناس. فالقول المزخرف هو الباطل المغلّف بشيء من الحق وهذا من أعظم الفتنة لأن الباطل لو كان مكشوفًا ما قبله أحد لكن إذا غُطي بشيء من الحق فإنه يقبله كثير من الناس وينخدعون بهذه الزخرفة، فهو باطل في صورة الحق، { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } الله قادر على منعهم من ذلك لكنه شاء أن يفعلوه من أجل
__________
(1) الفرقان:31
(2) الأنفال:37
(3) الأنعام:112(1/48)
الابتلاء والامتحان. وإذا كان هذا مع الأنبياء فكيف بغيرهم من الدعاة إلى الله وعلماء التوحيد فأتباع الأنبياء أيضًا يكون لهم أعداء من دعاة الباطل في كل زمان وفي كل مكان. هذا مستمر في الخلق وجود دعاة الحقّ وإلى جانبهم دعاة الباطل في كل زمان ومكان.
الأمر الثاني: وهو العجيب أن دعاة الباطل يكون عندهم علوم وعندهم كتب وعندهم حجج يجادلون بها أهل الحق كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم }(1) يعني الكفار { بِالْبَيِّنَاتِ } الحقائق البيّنة والعلم النافع { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } الذي توارثوه عن أجدادهم وآبائهم والذي هو عبارة عن كتبهم وعن حججهم التي توارثوها، وهذا واقع الآن، فكم في الساحة من كتب أهل الباطل ككتب الجهمية، وكتب المعتزلة، وكتب الأشاعرة، وكتب الشيعة كم في الساحة من كتب هؤلاء! وعندهم حجج مركبة ومزيفة تغر الإنسان الذي ليس عنده تمكن من العلم فعلم الكلام وعلم المنطق اعتمدوه وجعلوه هو العلم الصحيح الذي يفيد اليقين.
[ إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله تعالى لابد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحًا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }(2) ] أما أدلة القرآن والسنة فهي حجج ظنية بزعمهم لا تفيد اليقين وهذا من تمام الفتنة والتزييف على الناس. لأن الواقع الصحيح هو العكس وهو أن أدلة القرآن تفيد اليقين، وأدلة المنطق والجدل تفيد الشك والحيرة والاضطراب. كما أقر بذلك كبراؤهم عند الموت أو عند توبتهم ورجوعهم عن علم الكلام.
__________
(1) غافر:83
(2) الأعراف:16-17(1/49)
إذا كان هؤلاء عندهم فصاحة وعندهم حجج وعندهم كتب فلا يليق بك أن تقابلهم وأنت أعزل بل يجب عليك أن تتعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تبطل به حجج هؤلاء الذين قال إبليس إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي لبني آدم { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي الطريق الموصل إليك { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }(1). تعهد الخبيث أنه سيحاول إضلال بني آدم وكذلك أتباعه من شياطين الإنس من أصحاب الكتب الضالة والأفكار المنحرفة يقومون بعمل إبليس في إضلال الناس.
[ ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيّناته فلا تخف ولا تحزن { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }(2) ] كما قال الله سبحانه وتعالى: { فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } فهم مهما كان عندهم من القوة الكلامية والجدال والبراعة في المنطق والفصاحة إلا أنهم ليسوا على حق وأنت على حق ما دمت متمسكًا بالكتاب والسنة وفهمت الكتاب والسنة فاطمئن فإنهم لن يضروك أبدًا { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }(3) لكن هذا يحتاج إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة فإنك بذلك لا تخاف مهما كان معهم من الحجج والكتب لأنها سراب كما قال الشاعر:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًا؛ وكل منها كاسر مكسور (4)
__________
(1) الأعراف:17
(2) النساء:76
(3) النساء:76
(4) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام الخطابي في مجموع الفتاوى 4/82 .(1/50)
فالسراب يزول كذلك هذه الحجج إذا طلعت عليها شمس القرآن وبينات القرآن زال هذا الضباب الذي معهم وهذه سنة الله سبحانه وتعالى: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }(1). { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ }(2) قذائف الحق تدمر الباطل مهما كان.
[ والعامي من الموحّدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين، قال تعالى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }(3) ] هذا من العجائب أن العامي غير المتعلم من الموحدين يغلب ألفًا من علماء المشركين، ذلك لأن العامي عنده الفطرة السليمة التي لم تتلوث بالشكوك والأوهام وقواعد المنطق وعلم الكلام. أما العالم المشرك فليس عنده فطرة سليمة ولا علم صحيح وصاحب الفطرة السليمة يتغلب على الذي ليس عنده فطرة ولا علم لأن علمه جهل. إذًا فالناس ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من عنده علم صحيح وفطرة سليمة وهذا أعلى الطبقات وهذا هو الذي أقبل على ربه وأصغى إلى حججه وبيّناته فصار عنده علم صحيح وفطرة سليمة.
القسم الثاني: من ليس عنده علم لكن عنده فطرة سليمة وهو العامي من الموحدين.
القسم الثالث: من ليس عنده فطرة سليمة ولا علم صحيح وإنما عنده سراب لا حقيقة له، فهذا يُهزم أمام العامي فكيف أمام العالم الذي عنده علم صحيح وفطرة سليمة؟ فهذا مما يدلك على أن تعلّم العلم النافع يكون سلاحًا للمؤمن أمام أعداء الله ورسوله.
__________
(1) الأنبياء:18
(2) سبأ: 48
(3) الصافات:173(1/51)
[ فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان ] قال تعالى: { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }(1) أضاف الجند إليه سبحانه وتعالى، وجند الله هم المؤمنون، يقال لهم جند الله ويقال لهم حزب الله كما في قوله تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(2).
فهم حزب الله وجند الله، والجند جمع جندي وهو المقاتل والمدافع عن دين الله أضافهم إلى نفسه تشريفًا لهم، وجعل لهم الغلبة بالحجة والسلاح.
جند الله هم الغالبون بالحجة واللسان يعني بالعلم والمعرفة ومجادلة أهل الباطل، فما تقابل أهل حق وأهل باطل في خصومة إلا تغلب أهل الحق على أهل الباطل في الخصومات والمناظرات دائمًا وأبدًا. فهم الغالبون بالحجة مع المبطلين كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان في المعارك، إذا تقابل الجندان المسلمون والكفار فإنه ينتصر المسلمون على الكفار إذا توفرت شروط النصر فيهم بأن توكلوا على الله واعتصموا بالله وأطاعوا الله ورسوله، فإن حصل فيهم خلل لحقت بهم الهزيمة كما حصل للصحابة في وقعة أحد لما عصوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونزلوا من الجبل الذي قال لهم لا تنزلوا منه سواء انتصرنا أو هُزمنا فلما خالفوا ونزلوا من الجبل حلت الهزيمة بالمسلمين(3).
__________
(1) الصافات:173
(2) المجادلة:22
(3) انظر صحيح الإمام البخاري 48/26 كتاب الجهاد والسير باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه وقال تعالى: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } وقال قتادة الريح الحرب من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.(1/52)
[ وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح ] هذا هو الواقع فالموحد الذي يسلك الطريق ويواجه الكفار ويقول أنا أدعو إلى الله وليس عنده علم لو يقف أمامه واحد من عوامهم ويلقي عليه شبهة ما استطاع الجواب. فهذا مما يُوجب على طلبة العلم وعلى الدعاة إلى الله خصوصًا أن يتفقهوا في دين الله وأن يتعلموا حجج الله وبراهينه وأن يطّلعوا على ما عند الخصوم والكفار والمنافقين من الباطل من أجل أن يدحضوه ويكونوا على معرفة به. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: « إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب »(1) من أجل أن يستعد لأن الذين أمامه أهل كتاب وأهل علم وعندهم حجج وعندهم شبهات وعندهم تلبيس، فلا بد أن يكون معاذ رضي الله عنه على استعداد من أجل أن يقوم بالدعوة ويرد الباطل ثم قال له: « فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله » فهذا مما يؤكد على الموحدين عمومًا وعلى طلبة العلم خصوصًا وعلى الدعاة إلى الله بصفة أخص أن يتعلموا ما يدفعون به الباطل وينصرون به الحق وإلا فإنهم سينهزمون أمام أي شبهة تعرض لهم. والمشكلة إذا عجز الداعية إلى الله أن يُجيب على شبه الملبس أمام الناس أو أجابه بجهل، وهذا أشد. ولا يتعارض هذا مع قول الشيخ: « والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء المشركين » لأن العامي الموحد وإن كان كذلك فعليه الخوف من شرهم وأخذ الحذر منهم بتعلم العلم النافع. وقد استشكل بعض الإخوان هذه العبارة. وهي قول الشيخ: (والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين) مع قوله: (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) والجواب عن هذا الإشكال أن الشيخ رحمه الله يقصد أن العامي عنده فطرة سليمة يستنكر بها الباطل،
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 2/125 كتاب الزكاة باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.(1/53)
أما علماء الضلال ففطرهم فاسدة وحججهم واهية فالعامي يغلبهم بالفطرة السليمة من حيث الجملة لا من حيث التفاصيل.
فالعامي الموحد أحسن حالاً من علماء الكلام والمنطق فكتاب الله ما ترك شيئًا نحتاج إليه من أمور ديننا إلا وبيّنه لنا لكن يحتاج منا إلى تفقه وتعلم ولو كان عندك سلاح ولكن لا تعرف تشغيله فإنه لا يدفع عنك العدو وكذلك القرآن لا ينفع إذا كان مهجورًا وكان الإقبال على غيره من العلوم.
[ وقد منَّ الله تعالى علينا بكتاب الذي جعله { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }(1) .
فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبيّن بطلانها. كما قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }(2). قال بعض المفسرين: هذا الآية عامة في كل حجةٍ يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة ] هذه قاعدة معروفة لأن الله جل وعلا يقول عن القرآن: { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } ويقول: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلا يوجد شبهة في الدنيا أو باطل في الدنيا يُدلي به كافر أو مُلحد إلا وفي القرآن ما يرد عليه لكن لا يتبين هذا إلا بمعرفة القرآن والتفقه فيه ودراسته حق الدراسة حتى يعرف ما فيه من الكنوز وما فيه من السلاح وما فيه من الذخيرة التي نقاوم بها أعداءنا فنقبل على كتاب الله حفظًا وتفهمًا وتلاوة وتدبرًا وعملاً حتى نكون مسلحين بهذا السلاح. أما مجرد وجود القرآن عندنا من غير أن نعتني به وندرسه فلا يكفي، وأهل الكتاب ضلوا وكفروا وعندهم التوراة والإنجيل لما تركوا تعلمهما والعمل بهما.
لكن لابد من دراسة القرآن على ضوء السنة النبوية وتفسير السلف الصالح، لا على ضوء الدراسات المعاصرة المبنية على التخرص والجهل أو ما يسمونه بالإعجاز العلمي.
__________
(1) النحل:89
(2) الفرقان:33(1/54)
فليس هذا خاصًا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل زمانه مع القرآن بل هذا عام لكل أمته إلى أن تقوم الساعة لكن يحتاج إلى عناية بالقرآن ودراسة للقرآن كما ينبغي، لأن فيه بيان الحق والرد على أهل الباطل.
[ وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا ] لما ذكر لك هذه القاعدة العظيمة وهو أنه لا يأتي مبطل بشبهته إلا وفي القرآن ما يبين بطلانها وأن ذلك مستمر إلى يوم القيامة، دخل في التمثيل من الواقع الذي جرى للشيخ رحمه الله في وقته مع خصومه. ومن هنا إلى آخر الكتاب كله كشف شبهات يعترضون بها على الشيخ وهو يُجيبهم عنها من كتاب الله ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ويدحض حججهم وبذلك نصره الله عليهم وأبطل كيدهم. [ فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصّل. أما المجمل ] المجمل هو القاعدة العامة في جواب أهل الباطل على اختلاف أصنافهم، وفي أي زمان ومكان. والمفصل هو الرد على كل شبهة على حدة فإذا عرفت المجمل والمفصل في رد الشبهات صار عندك سلاح لمنازلة المشركين والمبطلين. [ فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ }(1) ] هذا هو الرد المجمل على الشبهات قال تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } يعني القرآن { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } المحكم هو الذي لا يحتاج في بيانه إلى غيره.
__________
(1) آل عمران:7(1/55)
فالقرآن منه آيات على هذا الشكل { مُّحْكَمَاتٌ } يعني بيّنات واضحات في معانيها لا تحتاج إلى غيرها { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أم الشيء هو الأصل الذي يرجع إليه فالآيات المحكمات هن الأصل الذي يرجع إليه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } المتشابه هو الذي يحتاج لبيان معانيه إلى غيره فيرد إلى المحكم، ومن المتشابه المحتمل لمعاني متعددة ويحتاج إلى غيره في بيان المراد منه، ومنه المطلق ومنه المنسوخ. وقد ذكر تعالى موقف الناس من هذين القسمين المحكم والمتشابه فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } يأخذون الآيات غير الواضحة أو الآيات المحتملة ويستدلون بها على ما يريدون مع أنها محتملة ليست نصًا فيما يقولون لكن هم يريدون التلبيس على الناس يقولون نحن استدللنا بالقرآن فيأخذون الآيات التي لا يتضح معناها بنفسها أو الآيات المحتملة لعدة معان فيستدلون بها على ما يريدون { ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } أي التشكيك والتضليل أو { ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } التأويل يطلق على معنيين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته التدمرية(1) .
المعنى الأول: أن المراد به التفسير وهذا هو المعروف عند المتقدمين. ولذلك تجد ابن جرير الطبري في تفسيره يقول: القول في تأويل قوله تعالى أي في تفسيره فإن كان هذا هو المقصود في الآية: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } فإنه يعطف الراسخون في العلم على لفظ الجلالة هكذا { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } يعني والراسخون في العلم يعلمون تأويله وهو التفسير وذلك بردّه إلى المحكم الذي يبيّن المراد منه.
__________
(1) التدمرية ص809، وما بعدها: تحقيق الدكتور محمد بن عودة السعوي. .(1/56)
فتفسير القرآن على هذا الوجه لا يعلمه إلا الله وأهل العلم المختصون وأمَّا العوام والجهّال فلا يعلمون تفسيره، وأهل الزيغ يأخذون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم ويقطعون بعض القرآن عن بعض فيأخذون بعض الآيات ويتركون البعض الآخر.
أما المعنى الثاني: للتأويل فهو الحقيقة التي يؤول إليها الشيء. وما يصير إليه في المستقبل، مثل حقائق ما في الجنة من أعناب ونخيل وفواكه ولبن وخمر وعسل وأشياء لا يعلم حقائقها إلا الله سبحانه وتعالى، لأنها من علم الغيب، وكذلك كيفية أسماء الله وصفاته لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى فالتأويل على هذا المعنى ما يؤول إليه الشيء في المستقبل فإذا أريد هذا المعنى تَعَيّنَ الوقفُ في الآية على لفظ الجلالة. لأنه لا يعلم تأويله على هذا الوجه إلا هو سبحانه.(1/57)
[ وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم»](1) صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه قال: »إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه« أي من القرآن والسنة ويأخذون بالنصوص المجملة ويتركون النصوص المفصلة « فأولئك الذين سمى الله » في هذه الآية: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } « فاحذروهم » أي احذروا أصحاب هذه الطريقة لا يُلبسوا عليكم أمر دينكم فهذا فيه التحذير من علماء الضلال ومن المبتدعة لئلا يلبسوا علينا أمر ديننا فهؤلاء من الذين { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ }(2).
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 5/165، 166 كتاب التفسير (سورة آل عمران) باب منه آيات محكمات. ورواه الإمام مسلم في صحيحه 4/2053 كتاب العلم باب (1) النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، حديث رقم (2665) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) البقرة:27(1/58)
[ مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }(1) أو إن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتّبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرّون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(2) هذا أمر محكم بيّن، لا يقدر أحد أن يغيّر معناه، وما ذكرت لي أيها المشرك في القرآن أو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله عز وجل، وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }(3) ] أي إذا قال لك واحد من علماء المشركين الذين يتعلقون بالأولياء ويطلبون منهم المدد ويستغيثون بهم كما هو الحال والواقع الآن عند عبَّاد القبور ويقولون إن الله جل وعلا يقول: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وهؤلاء أولياء والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الصالحين يشفعون وأن الأولياء يشفعون والرسل يشفعون فالجواب أن الشفاعة حق لا شك في ذلك، ولكنها كما ذكر الله لابد لها من شرطين:
الإذن للشافع أن يشفع.
وأن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد.
__________
(1) يونس:62
(2) يونس:18
(3) فصلت:35(1/59)
ولا شك أن الله سبحانه وعد الأولياء أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لكن من الأولياء؟ هل الأولياء طائفة مخصوصة من الناس عليهم عمائم ولباس خاص؟ أو الأولياء الذين بني على قبورهم قباب؟ ليس كذلك. لأن الله سبحانه بيّنهم بعد هذه الآية مباشرة حيث قال: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }(1).
فكل مؤمن تقي فهو ولي لله ليست الولاية خاصة بطائفة معينة أو أشخاص معيّنين لهم لباس خاص ولهم سمات خاصة أو على قبورهم قباب وزخرفات؛ الأولياء كل مؤمن تقي فإنه ولي الله بنص هذه الآية. والولاية تختلف باختلاف الإيمان والتقوى، منهم من هو ولي كامل الولاية ومنهم من هو ولي دون ذلك بحسب إيمانه وبحسب تقواه فليست الولاية خاصة بما تزعمون من هؤلاء الأشخاص أو هؤلاء المقبورين والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: « رُبَّ أشعث مدفوع بالأبواب لو اقسم على الله لأبرّه »(2) فقد يكون الولي غير معروف ولا له مكانة عند الناس.
__________
(1) يونس:63
(2) رواه الإمام مسلم في صحيحه (4/2024) كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الضعفاء والخاملين. حديث رقم (138) (2622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .(1/60)
هذا من ناحية ومن الناحية الثانية لو ثبت أنه ولي لله عز وجل فإن هذا لا يعطيه شيئًا من الربوبية ولا شيئًا من حق الله، لأنه عبد الله محتاج إلى ربه عز وجل ولا يملك من الأمر شيئًا لا يخلق ولا يرزق فليس المعنى أنه إذا كان وليًا أننا نتعلق به وننزل حاجاتنا به ونستغيث به ونطلب منه لأن الله قال: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(1) وقال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا }(2) لا من الأولياء ولا غيرهم فالله لا يرضى بهذا سبحانه وتعالى فليس معنى قوله تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }(3) أنهم يملكون شيئًا من الربوبية وأنهم ينفعون ويضرون وأنهم يعطون الشفاعة وأنهم وأنهم.. كما يزعم القبوريون. فمن تعلق بالأولياء وطلب منهم الشفاعة وهم أموات أو طلب منهم الإغاثة وهم أموات أو طلب منهم قضاء الحاجات وهم في قبورهم فإنه مثل المشركين الأولين الذين قال الله فيهم: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(4) هم يقولون نحن لا نعتقد أنهم يخلقون ويرزقون وإنما من أجل أن نجعلهم وسائط بيننا وبين الله لأنهم أولياء ونحن مقصرون ونحن مذنبون فهؤلاء بصلاحهم وجاههم ومكانتهم عند الله يشفعون لنا والله رد عليهم فقال:
__________
(1) النساء:48
(2) النساء:36
(3) يونس:62
(4) يونس:18(1/61)
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فسمّى هذا شركًا وقال في آية أخرى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(1) يريدون الوساطة فقط عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنهم معترفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فيعترفون بتوحيد الربوبية تمامًا كما ذكر الله عنهم، وإنما قصدوا بفعلهم هذا وساطة هؤلاء الصالحين عند الله فنذروا لهم وذبحوا لهم واستغاثوا بهم: يا سيدي اشفع لي عند الله، افعل كذا، هذا الذي يقولونه عند القبور هل هذا يختلف عما قاله المشركون من قبل، الذين رد عليهم جل وعلا بقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }(2) حكم عليهم بالكذب وحكم عليهم بالكفر فعملهم هذا كفر وكذب. وفي سورة يونس نزّه نفسه عن ذلك فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }(3) سماه شركًا.
__________
(1) الزمر:3
(2) الزمر:3
(3) يونس:18(1/62)
فالأولياء عباد صالحون لهم قدرهم ونحترمهم ونحبهم ونقتدي بهم في الأعمال الصالحة لكن ليس لهم شركة مع الله سبحانه وتعالى إنما هم مثلنا محتاجون إلى الله عز وجل فقراء إلى الله عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } هذا عام { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }(1) كل الخلق فقراء إلى الله عز وجل بما فيهم الأنبياء والرسل، بما فيهم الملائكة عليهم السلام كلهم فقراء إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يزيل اللّبس لأن هؤلاء يأخذون بعض القرآن ويستدلون به ويتركون البعض الآخر؛ يأخذون الآية التي تمدح الأولياء وتثني عليهم ويتركون الآية الأخرى التي تبين أنهم لا يُعبَدُون من دون الله عز وجل وأنَّ مَن طلب منهم شيئًا وهم أموات فإنه مشرك كافر، يتركون هذه الآيات، فهذا من الزيغ الذي ذكره الله سبحانه وتعالى. فلتكن عندك هذه القاعدة أن الإنسان مهما بلغ من الصّلاح والكرامة والمنزلة عند الله فإنه ليس له من الربوبية شيء وإنه لا يُدعى مع الله وإنه لا يكون له شيء من العبادة وهو لا يرضى بذلك. فالأولياء والصّالحون على الحقيقة لا يرضون بذلك وينهون عنه أشد النهي إنما يرضى بذلك الطواغيت الذين يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم. أما أولياء الله فحاشاهم من هذا لا يرضون به وإنما يرضى به أولياء الشيطان هذا معنى قول الشيخ رحمه الله.
( لكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله) فيجب رد النصوص بعضها إلى بعض وتفسير بعضها ببعض حتى يتضح المطلوب وهذا كما قال الشيخ جواب سديد تجب العناية به لأنه مبني على كتاب الله فمن وفّق له فهو ذو حظ عظيم.
__________
(1) فاطر:15(1/63)
[ وأما الجواب المفصّل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدّون بها الناس عنه: منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم. فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرّون بما ذكرت، ومقرّون أن أوثانهم لا تدبّر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشّفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضّحه. فإن قال: هذه الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام أم تجعلون الأنبياء أصنامًا؟ فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }(1) الآية، ويدعون عيسى بن مريم وأمه وقد قال الله تعالى: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(2) واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
__________
(1) الإسراء:57
(2) المائدة: 75-76(1/64)
الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(1) وقوله سبحانه وتعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }(2) فقل له: أعرفت أن الله كفَّرَ من قصد الأصنام وكفَّر أيضًا من قصد الصّالحين، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن قال الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، لا أريد إلا منه والصّالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم فالجواب: أن هذا قول الكفار سواءً بسواء واقرأ عليه قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(3) وقوله تعالى:{ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(4). واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضّحها في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا فما بعدها أيسر منها ] ذكر الشيخ رحمه الله في هذا المقطع ثلاث شبهات للمشركين هي من أهم ما عندهم، فإذا عرفت الإجابة الصحيحة عنها فما بعدها من الشبهات أيسر منها:
الشبهة الأولى: أنهم يقولون نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله سبحانه وتعالى وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن عبد القادر يعني عبد القادر الجيلاني، لكن هؤلاء لهم جاه عند الله فنطلب من الله بهم يعني نجعلهم وسائط بيننا وبين الله لما لهم من الفضل.
__________
(1) سبأ: 40-41
(2) المائدة: 116
(3) الزمر:3
(4) يونس:18(1/65)
فالجواب سهل جدًا من كتاب الله بأن تقول إن المشركين مع أصنامهم ما كانوا يعتقدون فيها أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر وإنما اتخذوها وسائط بينهم وبين الله وهذا واضح في قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
نزّه نفسه عن فعلهم وسماه شركًا مع أنهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أنهم لا ينفعون ولا يضرون وإنما قصدهم التعلق بالجاه فقط. فالآيات تدل على أن المشركين معترفون بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله سبحانه وتعالى وأن أصنامهم ومعبوداتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تدبر مع الله وإنما اتخذوها وسائط. ولا فرق بينكم وبينهم.
وإذا كنت مذنبًا فلماذا لا تستغفر الله وتطلب من الله ، والله جل وعلا أمرك بالاستغفار ووعدك بالتوبة وأن يقبل منك ويغفر ذنوبك ولم يقل إذا أذنبت فاذهب إلى قبر الولي الفلاني أو العبد الصالح الفلاني وتوسل به واجعله واسطة بيني وبينك.(1/66)
وتقول أيضًا: هؤلاء إذا كان لهم جاه عند الله فإن جاههم لهم وصلاحهم لهم وأنت ليس لك إلا عملك وصلاح الصالحين لهم وجاههم عند الله لهم ما علاقتك بعمل فلان وصلاح فلان كل له عمله { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(1) { وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }(2) فجاههم وصلاحهم لهم ولا ينفعك إذا كنت مذنبًا حتى والدك أقرب الناس إليك وولدك لا يستطيع ولو كان من أصلح الناس أن ينفعك { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }(3)، { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }(4). { وَاخْشَوْا يَوْمًا لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا }(5). { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ }(6).
الشبهة الثانية: إذا قرأت عليه قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(7) وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(8) وبيّنت له أن المشركين ما أرادوا ممن عبدوهم إلا الشفاعة وقال لك هذه الآيات نزلت في الذين يعبدون الأصنام وأنا لست أعبد الأصنام وإنما أتوسل إليه بالصالحين فكيف تجعل الصالحين أصنامًا؟
__________
(1) البقرة:134
(2) يس:54
(3) الانفطار:19
(4) المدثر:38
(5) لقمان:33
(6) عبس:34-36
(7) يونس:18
(8) الزمر:3(1/67)
والجواب عن هذا واضح جدًا وهو أن الله ذكر أن المشركين منهم من يعبد الأصنام ومنهم من يعبد الأولياء والصالحين وسوّى الله بينهم في الحكم ولم يفرّق بينهم وأنت فرّقت بينهم، في ظنك أن عبادة الأصنام لا تجوز وأن عبادة الصالحين تجوز إذا كانت بقصد التوسط، والدليل على هذا أن الله ذكر أنواعًا من المشركين فمنهم من يعبد الصالحين قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(1) في يوم القيامة الله جل وعلا يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه وتعالى لكن لأجل إبطال حجة هؤلاء { أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } فدل على أن منهم من يعبد الملائكة لكن الملائكة تتبرأ منهم يوم القيامة وتقول نحن ما أمرناهم بذلك ولا رضينا بذلك { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعني الشياطين هي التي أمرتهم بعبادة الملائكة لأن الملائكة لا تأمر إلا بعبادة الله { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }(2) فدل على أن منهم من يعبد الملائكة، والملائكة أصلح الصالحين، كما قال تعالى فيهم: { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }(3) ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين كالمسيح ابن مريم وأمه.
__________
(1) سبأ:40-41
(2) الأنبياء:29
(3) الأنبياء:27(1/68)
وإذا بطل التوسل بالملائكة والأنبياء ودعاؤهم من دون الله بطل التوسل بغيرهم من الصالحين ودعاؤهم من دون الله كما قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }(1) لأن الواجب إخلاص العبادة لله عز وجل بجميع أنواعها من الدعاء والذبح والنذر وغير ذلك.
فمن ذبح لغير الله ودعا غير الله كان مشركًا خارجًا من الدين.
الشبهة الثالثة: إذا سلّم بأن الدعاء لغير الله شرك ولكنه قال أنا لا أدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره وهذا الذي أفعله ليس دعاءً وإنما هو طلب لشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل تنكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنك حينئذٍ تدخل معه في خصومة أخرى وشبهة أخرى وهي أنه سمى دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستغاثة به طلبًا للشفاعة ولم يُسمّه دعاءً ويقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي الشفاعة فأنا أطلب منه الشفاعة التي أعطيها.
__________
(1) الزمر:3(1/69)
فتقول له أنا لا أنكر الشفاعة وأقر أن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وأنه شافع مشفّع أنا لا أنكر هذا ولكن الشفاعة لا تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت وإنما تطلب من الله لأن الشفاعة ملك لله عز وجل، قال الله تعالى: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }(1) فجميع أنواع الشفاعة ملك لله وما دامت ملكًا لله فإنها لا تطلب إلا ممن يملكها وهو الله سبحانه وتعالى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك الشفاعة ولا أحد يملك الشفاعة إلا بإذن الله وإنما هي ملك لله عز وجل. وأيضًا الشفاعة لا تنفع كل أحد وإنما تنفع أهل التوحيد وأنت لست من أهل التوحيد لأنك تدعو غير الله فالشفاعة لها شرطان:
الشرط الأول: أن تطلب من الله سبحانه وتعالى ولا تطلب من غيره.
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد لا من أهل الشرك والكفر. والدليل على الشرط الثاني قوله تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى }(2) وهو لا يرضى إلا عن أهل التوحيد ودليل الشرط الأول قوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } لا الملائكة ولا الرسل ولا الأولياء ولا الصالحون لا أحد يشفع عند الله إلا بعد أن يأذن الله: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }(3).
__________
(1) الزمر:44
(2) الأنبياء:28
(3) النجم:26(1/70)
فلا تطلب الشفاعة من المخلوق الميت، وإنما تطلب الشفاعة من الله فتقول اللهم شفّع فيّ نبيك، لا تطلبها من الأموات. وهذا الذي تقول إنه طلب للشفاعة هو الذي كفَّر الله به المشركين، فإن المشركين حينما لجؤوا إلى الأولياء والصالحين وإلى الملائكة وإلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة كفّرهم الله بذلك فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1) فهذا الذي تقوله هو الذي كفّر الله به المشركين وهو عبادة الأولياء والصالحين طلبًا لشفاعتهم.
[ فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة ] يعني إذا كان يعترف أن العبادة حق لله عز وجل وأنه لا يجوز عبادة غير الله ولكنه يقول الالتجاء ليس من العبادة فهو جائز.
فإنك تقول له: الالتجاء إلى الله عبادة والالتجاء إلى غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك لأن من التجأ إلى غير الله في الشدائد فقد أشرك مع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وهو الملجأ سبحانه ولذا لجأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك»(2) { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ }(3) وقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ }(4).
__________
(1) يونس:18
(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه 7/147 كتاب الدعوات باب النوم على الشق الأيمن من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.
(3) الجن:22
(4) المؤمنون:88(1/71)
[ فقل له: أنت تقر أن الله افترض عليك إخلاص العبادة لله وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }(1).
فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت أن هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول: نعم. والدعاء مخ العبادة: فقل له: إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول نعم ] أي تسأله عن معنى العبادة وما الفرق بينهما وبين الالتجاء.
__________
(1) الأعراف:55(1/72)
وقل له: هل العبادة واجبة أو مستحبة؟ فلا بد أن يعترف أن العبادة أمر واجب وحتم على العباد وأنها حق الله على العباد، فإذا اعترف بهذا فقل له: فسّر لي العبادة ما معناها وبيّن لي ما أنواعها، ما دمت أنك اعترفت أن العبادة لله وأنها واجبة على العبد فإنه يجب عليك أن تعرف معناها وأن تعرف أنواعها وإلا فكيف يُوجب الله عليك شيئًا وأنت تجهله ولا تعرفه، فإنه لا يعرف العبادة ولا يعرف أنواعها، وهذه آفة الجهل، ومن هنا يتعين على العباد أن يتعلموا ما أوجب الله عليهم وما فرضه الله عليهم حتى يؤدوه على وجهه الصحيح ويتجنبوا ما يُخل به وما يبطله، أما أن تعبد الله على جهل فإن هذه طريقة النصارى الضالين يعبدون الله على جهل وضلال والله أمرك أن تسأله أن يُجنبك طريقهم فتقول: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }(1) فالضالون هم الذين يعبدون الله على غير علم وعلى غير معرفة بالعبادة وإنما يعبدون الله بالعادات والتقاليد وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم دون أن يرجعوا إلى ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهذا هو سبب الضلال. والالتجاء هو طلب الحماية من أمر مخوّف لا يدفعه إلا الله. فهو نوع من أنواع العبادة، والله سبحانه يجير ولا يجار عليه ويعيذ من استعاذ به، فمن التجأ إلى ميت فقد عبده من دون الله وكذلك من أعظم أنواع العبادة الدعاء حيث قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }(2) وأنت بالتجائك إلى غير الله قد دعوت غير الله وهذا شرك.
__________
(1) الفاتحة:6-7
(2) الأعراف:55(1/73)
[ فإذا عملت بقول الله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }(1) وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا نحرت لمخلوق، نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم ] أي لا بد إذا تلوت عليه الآيات والأحاديث بأن الدعاء عبادة لابد أن يعترف فتقول له لو دعوت الله في الليل والنهار لكنك في بعض الأحيان تدعو غير الله هل تكون مشركًا؟ فلا بد أن يعترف ويقول إنه مشرك لأنه دعا غير الله ومن دعا غير الله فهو مشرك.
وإذا كان من دعا غير الله ولو مرة واحدة في العمر يكون مشركًا مع أنه يدعو الله في الليل والنهار فكيف بالذي يلهج دائمًا بذلك ويقول يا حسين، يا بدوي، يا عبد القادر، يا فلان فيصدر منه الشرك كثيرًا.
فإذا كان من ذبح لغير الله أو صلى لغير الله يكون مشركًا فكيف بمن يلجأ إلى غير الله في كشف الشدائد ألا يكون مشركًا؟ بلى لأن الباب واحد وأنواع العبادة كلها بابها واحد لا يجوز أن يخلص لله في بعضها ويشرك بالله في البعض الآخر.
__________
(1) الكوثر:2(1/74)
[ وقل له أيضًا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصّالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك. وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره وأن الله هو الذي يدبّر الأمر ولكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًا ] أي أن المشركين الأولين ما كان شركهم إلا في هذه الأمور وقد نزل القرآن في الإنكار عليهم والأمر بقتالهم وإباحة أموالهم ودمائهم. ما كانوا مع أصنامهم يعتقدون أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت وما كانوا يدعونها إلا من أجل الشفاعة، فكذلك عبَّاد القبور اليوم يدعون الأضرحة والأولياء والصالحين ولا يعتقدون فيهم أنهم يخلقون ويرزقون وأنهم خلقوا السماوات والأرض وإنما اتخذوهم لقضاء الحاجات والتوسل بهم إلى الله ليشفعوا لهم ويقربوهم إليه زلفى والالتجاء إليهم في كشف الكرب والشدائد.(1/75)
[ فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها. فقل لا أنكرها ولا أتبرأ منها. بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفّع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله تعالى كما قال تعالى: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا }(1) ولا تكون إلا بعد إذن الله كما قال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(2) ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه، كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى }(3) وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }(4) فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن الله إلا لأهل التوحيد تبيّن لك أن الشفاعة كلها لله وأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعته اللهمَّ شفّعه فيّ، وأمثال هذا ] شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينكرها إلا أهل الباطل، والفرق الضالة كالخوارج والمعتزلة، أما أهل السنة والجماعة فإن من أصول عقيدتهم الإقرار بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة الأولياء والصالحين، ولكنها لا تطلب منهم وهم أموات وإنما تطلب من الله لأن أحدًا لا يشفع عند الله إلا من بعد إذنه، ولا بد أن يكون المشفوع فيه ممن يرضى الله عنه من أهل التوحيد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الشفعاء يوم القيامة، إذا تقدم له أهل المحشر وطلبوا منه أن يشفع لهم عند الله في فصل القضاء بينهم، فإنه لا يشفع ابتداء، وإنما يستأذن ربه ويطلب منه أن يأذن له بالشفاعة فيخرّ ساجدًا بين يدي ربه ويدعوه ويتضرع إليه ويستمر حتى يقال له: يا محمد ارفع رأسك وسلْ تعطه واشفع تشفّع (5)
__________
(1) الزمر:44
(2) البقرة:255
(3) الأنبياء:28
(4) آل عمران:85
(5) انظر صحيح البخاري 4/105، 106 كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } ، وانظر مسلم 1/184-186 كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/76)
ولكن كيف تطلب الشفاعة؟.
الشفاعة تطلب من الله ولا تطلب من المخلوق فتقول: اللهم لا تحرمني شفاعة نبيك، اللهم شفّعه فيّ. وأمثال هذا. والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لا يطلب منه شيء لا شفاعة ولا غيرها لأن طلب الأشياء من الأموات شرك أكبر.
[ فإن قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله تعالى. فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا فقال تعالى: { فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }(1) فإذا كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك فأطعه في قوله: { فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }، وأيضًا، فإن الشفاعة أعطيها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط(2) يشفعون والأولياء يشفعون أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه. وإن قلت لا بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله ] أي ليس من لازم إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره الشفاعة جواز طلبها منهم وهم أموات بدليل أن الله سبحانه وتعالى نفي أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه ولأن طلب الشفاعة من الأموات شرك والله قد حرم الشرك وأحبط عمل صاحبه وحرم عليه الجنة، وقد أنكر سبحانه على الذين يدعون غيره ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ونزّه نفسه عن ذلك وسماه شركًا. وأيضًا إعطاء الله الشفاعة ليس خاصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كل من أعطي الشفاعة تطلب منه من دون الله كما كان المشركون الأولون يفعلون ذلك، { يَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(3).
__________
(1) الجن:18
(2) الأفراط: هم الأولاد الصغار الذين ماتوا قبل آبائهم. انظر لسان العرب 7/366 مادة «فرط».
(3) يونس:18(1/77)
[ فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا ولكن الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من تحريم الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره، فإنه لا يدري فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟ فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟ فهذا يكذّبه القرآن، وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بنية على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع الله عنا ببركته ويعطينا ببركته فقل صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب.
ويقال له أيضًا: قولك: (الشرك عبادة الأصنام) هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يردّه ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهذا هو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي: فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله فقل: ما معنى عبادة الله فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟(1/78)
وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1) ] يبيّن الشيخ رحمه الله أن الشرك ليس مقصورًا على عبادة الأصنام لأن المشركين الأولين منهم من يعبد الملائكة والملائكة أصلح الصالحين كما قال تعالى: { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }(2).
ومنهم من يعبد الصالحين وذلك في قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ }(3) قيل إنها نزلت فيمن يعبد عزيرًا والمسيح من الأنبياء. وقيل نزلت في قوم كانوا يعبدون الجن فأسلم الجن، ولم يعلم من يعبدهم من الإنس أنهم أسلموا.
__________
(1) ص:5
(2) الأنبياء:26-29
(3) الإسراء:57(1/79)
والمقصود من ذلك أن الله ذكر أن المشركين الأولين منهم من يعبد الأصنام والأشجار والأحجار ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، وسوّى بينهم في الحكم وحكم عليهم بالكفر والشرك. وأنت أيها المشبه تريد أن تفرق بين من عبد الأصنام ومن عبد الصالحين فتفرق بين ما جمع الله وهذا من المحادّة لله سبحانه وتعالى. هذا وجه رد هذه الشبهة حيث تبيّن أنه لا فرق بين شرك الأوّلين وشرك هؤلاء الذين يدَّعون الإسلام وهم يعبدون القبور والأولياء والصالحين لأنهم لا يعرفون أن هذا شرك وهذه نتيجة الجهل بعقيدة التوحيد الصحيحة والجهل بما يضادها من الشرك فإن من لا يعرف الشرك يقع فيه وهو لا يدري. ومن هنا تتضح ضرورة العناية بدراسة العقيدة الصحيحة وما يضادها.(1/80)
[ فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين: أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء وأما في الشّدَّة فيخلصون لله الدين كما قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا }(1) وقوله: { قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}(2) وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ }(3) وقوله: { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }(4).] يقول الشيخ رحمه الله: إذا عرفت مما سبق أنه لا فرق بين شرك أهل الجاهلية الذي نزل فيه القرآن والذي قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وشرك هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام من عبَّاد القبور وأصحاب الطرق الصوفية المنحرفة ونحوهم لا فرق بين شرك هؤلاء وهؤلاء إلا في الاسم حيث يسمونه الاعتقاد فقط، فاعلم أن شرك هؤلاء المتأخرين المنتسبين إلى الإسلام أشد وأغلظ من شرك المتقدمين من أهل الجاهلية من وجهين:
__________
(1) الإسراء:67
(2) الأنعام:40-41
(3) الزمر:8
(4) لقمان:32(1/81)
الأول: أن شرك الأولين إنما يحصل في حال الرخاء وأما في حال الشدة فإنهم يتركون الشرك ويخلصون الدعاء لله لعلمهم أنه لا ينجي من الشدائد إلا الله سبحانه، كما ذكر الله عنهم في الآيات التي ساقها الشيخ وغيرها؛ وأما هؤلاء المشركون المنتسبون إلى الإسلام فشركهم دائم في الرخاء والشدة بل إن شركهم في الشدة يزيد على شركهم في الرخاء ، بحيث إذا وقعوا في خطر وشدة، ارتفعت أصواتهم بالشرك ودعاء غير الله.
هذا هو الوجه الأول من وجوه الفرق بين المشركين الأولين ومشركي زماننا.
والوجه الثاني: سيأتي.
[ فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين ولكن، أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟! والله المستعان ] يقول رحمه الله : إنه لا يدرك الفرق بين شرك الأولين وشرك المتأخرين في أن شرك المتأخرين أغلظ وأشد، إلا من فهم الآيات القرآنية التي توضح ذلك ومن لم يدرك الفرق فإنه راجع لسوء فهمه.(1/82)
[ والأمر الثاني أن الأولين يدعون مع الله أناسًا مقرّبين عند الله إما أنبياء وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا مطيعة لله ليست عاصية وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكمون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك ] الوجه الثاني: من أوجه الفرق أن المشركين الأولين يدعون أناسًا فيهم صلاح وتقرب إلى الله من الملائكة والأنبياء والصالحين أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا ليست عاصية لله. وأما المشركون المتأخرون فيدعون فجرة الخلق وأشدهم كفرًا وفسقًا ممن يزعمون لهم الكرامات وسقوط التكاليف عنهم من ملاحدة الصوفية الذين يستحلون المحرمات ويتركون الواجبات كالبدوي والحلاج وابن عربي وأضرابهم من أئمة الملاحدة، فيعبدونهم وهم يشاهدونهم يفعلون الفواحش ويتركون الفرائض ويزعمون أن هذا من كرامتهم وفضلهم حيث سقطت عنهم التكاليف.
[ والذي يعتقد في الصّالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يُشاهد فسقه وفساده ويشهد به ] هذه نتيجة المقارنة بين شرك الأولين وشرك المتأخرين المنتسبين إلى الإسلام وهي أن الشرك بعبادة الصالحين والمخلوقات التي لا تعصي أخف من الشرك بعبادة الفجرة والملاحدة والعصاة لأن ذلك يدل على تزكيتهم وموافقتهم على كفرهم وفجورهم واعتباره صلاحًا وكرامة وأي محادة لله أشد من هذه المحادة نسأل الله العافية.(1/83)
[ إذا تحقَّقت أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصح عقولاً وأخف شركًا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها وهي أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث ويكذّبون القرآن ويجعلونه سحرًا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
فالجواب أن لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذّبه في شيء فإنه كافر لم يدخل في الإسلام وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقرّ بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج ولما لم ينقد أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }(1).
ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمه وماله كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا }(2).
فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.
__________
(1) آل عمران:97
(2) النساء: 150-151(1/84)
ويقال أيضًا: إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء وجحد وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بالباقي وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا. فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج. فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور؟ كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحانه الله ما أعجب هذا الجهل!
ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويؤذّنون ويصلّون فإن قال إنهم يقولون إن مسليمة نبي قلنا هذا هو المطلوب. إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى رتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ }(1).
ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفّر؟
__________
(1) الروم: 59(1/85)
ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويحل دم الرجل وماله حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ }(1).
أما سمعت الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاهدون معهم ويصلّون معه ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون.
__________
(1) التوبة: 74(1/86)
وكذلك الذين قال الله فيهم: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }(1) فهؤلاء الذي صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح(2) ، فتأمل هذه الشبهة هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق ] ما زال الشيخ رحمه الله يواصل الرد على شبهات المشبهين في مسألة الشرك والتوحيد، فانتهى إلى هذه الشبهة العظيمة التي هي من أعظم شبههم وأخطرها ألا وهي قولهم إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وصلى وصام وحج وأدى الأعمال، فإنه لا يكفر ولو فعل ما فعل من أنواع الردة. أما الذين نزل فيهم القرآن وهم المشركون الأولون فإنهم ليسوا مثل هؤلاء فهم لم يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ولم يدخلوا في الإسلام فهم لا يؤمنون بالله ولا بالرسول ولا بالإسلام ولا بالقرآن، أما هؤلاء فأظهروا الإيمان بالبعث ويصلون ويصومون ويحجون ويزكون ويذكرون الله كثيرًا. فالشيخ رحمه الله عند هذه الشبهة خاصة قال: أصغ سمعك لجوابها فإنها من أعظم شبههم.
ثم ردَّ الشيخ على هذه الشبهة من سبعة وجوه مهمة:
الوجه الأول:
__________
(1) التوبة: 65-66
(2) تقدم العزو إليها(1/87)
أنه من آمن ببعض الأحكام الشرعية وكفر ببعضها الآخر فهو كافر بالجميع. وهؤلاء أنكروا التوحيد الذي جاءت به الرسل وهو إفراد الله بالعبادة فهؤلاء لم يفردوا الله بالعبادة وإنما أشركوا معه غيره من الأولياء والصالحين فالإسلام لا يقبل التجزئة ولا التفرقة وأعظم الإسلام التوحيد وهو دعوة جميع الرسل، وهؤلاء جحدوا أعظم شيء وهو توحيد العبادة وقالوا لا بأس أن ينذر الإنسان لفلان ويذبح لفلان لأنه ولي والوليّ ينفع ويضر مما هو مثل فعل المشركين الأولين.
الوجه الثاني:
ذكر الشيخ رحمه الله وقائع في التاريخ الإسلامي تدل على أن العلماء في كل زمان يكفّرون من آمن ببعض وكفر ببعض. منها أن الصحابة ومن بعدهم قاتلوا الذين يتظاهرون بالشهادتين ويصلون ويصومون ويحجون لكن لما فعلوا شيئًا من الشرك أو جحدوا شيئًا من الدين قاتلوهم واستحلّوا دماءهم وأموالهم وذلك كما يلي:
أولاً: بنو حنيفة اعتقدوا أن مسيلمة رسول الله والذين جحدوا وجوب الزكاة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وثانيًا: في عهد علي رضي الله عنه كفّروا الغلاة الذين قالوا إن عليًا هو الله مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلون ويصومون وهم في جند علي رضي الله عنه، لكن لما أظهروا الغلو حرَّقهم علي رضي الله عنه مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله ولكنه حرَّقهم لما اعتقدوا أن شخصًا له حق في الألوهية كفّرهم وحرقهم بالنار.
ثالثًا: في عهد العباسيين ظهرت فرقة العبيديين، وهم طائفة الشيعة الإسماعيلية لأنهم ينتسبون إلى إسماعيل بن محمد بن جعفر، ولذلك سموا بالإسماعيلية وسموا الفاطمية لأنهم يزعمون أنهم من ذرية فاطمة ولذلك يقال لهم الفاطميون، وفي الحقيقة أنهم من اليهود أظهروا الإسلام ولكن ظهر منهم كفريات وفي النهاية ادعى حكامهم الألوهية مثل الحاكم العبيدي.(1/88)
فالصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصومون ويحجون لكن لما ادعوا أن مسيلمة نبي كفّروهم لأن من اعتقد في شخص بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي فقد كفر وإن كان يصلي ويصوم ولذلك حكم المسلمون اليوم بكفر القاديانية الذين يدعون نبوة أحمد القادياني. فإذا كان من رفع رجلاً إلى مرتبة النبي كفر فكيف لا يكفر من رفع رجلاً إلى مرتبة رب العالمين وصرف له أنواعًا من العبادة كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة وغير ذلك؟ وقول الشيخ كما رفع تاجًا وشمسان ويوسف ناس في زمانه غلا فيهم الناس بحجة أنهم أولياء ولهم شعوذات وخوارق وهم على طريقة الحلاج وابن عربي.
الوجه الثالث:
أن العلماء رحمهم الله عقدوا بابًا في كتب الفقه سموه باب الردة وذكروا فيه نواقض الإسلام وذكروا أشياء قد تكون صغيرة في أعين الناس ولكن حكموا أن من فعلها أو اعتقدها يكفر مع أنه يصلي ويصوم ويعبد الله، ولم يحصروا حصول الردة فيما ذكرتم.
الوجه الرابع:
أن الله حكم بكفر أناس لقولهم كلمة تكلموا بها أبطلت إسلامهم وإيمانهم كما قال تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ }(1) فكفّرهم بكلمة مع كونهم مع رسول الله يصلّون ويجاهدون.
الوجه الخامس:
أن الله كفّر أناسًا بسبب كلام قالواه على وجه المزاح واللعب وأنزل في شأنهم: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(2) مع أنهم يصلّون وقد غزوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك لكن لما قالوا هذه الكلمة كفروا بعد إيمانهم ولم ينفعهم أنهم يصلّون ويصومون ويجاهدون.
__________
(1) التوبة:74
(2) التوبة: 65-66(1/89)
فهذه الوجوه فيها إبطال هذه الشبهة وفي الحقيقة أنها من أعظم الشبه ولكن جوابها واضح ولله الحمد.
الوجه السادس:
إن قولهم إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرًا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك.
يجاب عنه أن الرجل إذا صدق الله في شيء وكذبه في شيء فهو كافر مرتد عن الإسلام، كمن آمن ببعض القرآن وجحد بعضه وكمن أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
الوجه السّابع:
أن مَن جحد وجوب الحج كفر وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلي ويصوم قال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } إلى قوله: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }(1) فدلت الآيات على أن من جحد وجوب الحج كفر وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله فكيف بمن جحد التوحيد وأجاز عبادة القبور.
__________
(1) آل عمران: 96-97(1/90)
[ ومن الدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع علمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } وقول أناس من الصحابة « اجعل لنا ذات أنواط »(1) فحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا }، ولكن للمشركين شبهة يُدلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون : إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : « اجعل لنا ذات أنواط » لم يكفروا.
__________
(1) رواه الترمذي في سننه 6/343-334 كتاب الفتن باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم حديث رقم (2181) ورواه الإمام أحمد في مسنده 5/218 حديث رقم (21947-21950-21952) بألفاظ متقاربة، وانظر البداية والنهاية لابن كثير 4/325 كلهم من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه(1/91)
فالجواب أن تقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا وكذلك الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا. ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب ] أي من الأدلة على أن من ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام يكفر ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله ويصلي ويصوم إلى غير ذلك من الأعمال، ما قصّه الله عن بني إسرائيل حين طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا كآلهة المشركين، وقصة الذين طلبوا من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط، وأن النبيين الكريمين أنكرا ذلك واعتبراه شركًا يخرجهم من الملة لو فعلوه مع أنهم يؤمنون بالنبيين الكريمين ويجاهدون معهما، ثم أورد الشيخ اعتراضًا على هذا الاستدلال وهو أن بني إسرائيل الذين طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا لم يكفروا، وكذلك الذين طلبوا من محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط لم يكفروا، وأجاب عن هذا الاعتراض بأن الفريقين لم ينفذا ما قالا ولو فعلا لكفرا ولكن لما نهيا عن ذلك وبيّن لهما أنه كفر تجنبوه وانتهوا عنه. ومحل الشاهد من القصتين أن من فعل الشرك كفر وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله ويؤمن بالأنبياء ويعمل الأعمال الصالحة.(1/92)
[ ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري بها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجهال: التوحيد فهمناه، أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان، وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك وتاب من ساعته فإنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتفيد أيضًا أن لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] هذه القصة فيها فوائد: الأولى الحذر من الشرك وأنه قد يدب إلى المسلمين عن طريق التقليد والتشبه بالكفار (اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة) (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) ففي ذلك التحذير من مجاراة الكفار والتحذير من الفتن التي تنجم عن ذلك. ومن ذلك عبادة القبور التي أحدثوها وفتنوا بها وصاروا يدعون الناس إليها. والخليل عليه الصَّلاة والسلام الذي كسر الأصنام بيده وأوذي وألقي في النار بسبب إنكار الشرك يقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ 35 رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ }(1) خاف على نفسه عليه الصلاة والسلام من الفتنة وخاف على ذريته من الفتنة إذًا كيف يقول جاهل: إن التوحيد يمكن تعلمه في خمس دقائق والمهم عنده البحث في أمور السياسة والكلام في الحكام وفقه الواقع كما يقولون، ومعناه رصد الوقائع الدولية وتحليلاتها والانشغال بها عن التفقه في الدين.
ومنهم من ينتقد مقررات التوحيد في المدارس والمعاهد والكليات ويقول: لا داعي لهذه الكثافة في مقررات التوحيد، الناس مسلمون وأولاد فطرة وبإمكان الطلاب أن يتعلموا التوحيد من البيئة الاجتماعية.. إلخ هذيانهم الفارغ.. ولو سألت واحدًا من هؤلاء عن أبسط مسألة في التوحيد ما أجابك بجواب صحيح. أعني الذين يقولون هذه المقالة.
__________
(1) إبراهيم: 35-36(1/93)
والفائدة الثانية: وهي فائدة عظيمة أن من نطق بكلمة الكفر عن جهل وهو لا يدري ثم نبّه وتاب من ساعته فإنه لا يكفر بدليل قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وبعض الصّحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو لا يكفر بذلك لكن بهذين الشرطين:
الشرط الأول: أن يكون قال هذا الكلام عن جهل ولم يتعمد.
الشرط الثاني: أن يتوب من ساعته ويترك هذا الشيء إذا تبيّن له أنه كفر.
فهذا لا يضره الكلام الذي قاله وهذا جواب عن شبهتهم التي سبقت وهي أنهم يقولون إن بني إسرائيل لم يكفروا وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكفروا بهذه الكلمة. نقول لهم إنهم لم يكفروا لأنهم قالوها عن جهل ونبهوا وتركوها وتابوا إلى الله عز وجل، أما أنتم فتنبّهون بالليل والنهار وتصرون على دعاء القبور والصالحين ولا تصغون أسماعكم لما يقال لكم تكبرًا وعنادًا.
والفائدة الثالثة: تفيد هذه القصة أن من لم يكفر بكلمة الكفر إذا قالها جهلاً فإنه لا يتساهل معه بل يغلَّظ عليه في الإنكار كما غلّظ موسى عليه السلام على قومه وكما غلظ محمد - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه الذين قالوا هذه المقالة من باب الزجر والتحذير لاجتناب ذلك والحذر منه.
[ ولهم شبهة أخرى يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال: « أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله»(1) وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»(2) وأحاديث أخر في الكف عمن قالها.
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 5/88 كتاب المغازي باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. .
(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه 8/140-141 كتاب الاعتصام باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. .(1/94)
ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.
فيقال لهؤلاء المشركين الجهّال: معلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله وأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويدّعون الإسلام، وكذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب وهؤلاء الجهلة مقرُّون أن من أنكر البعث كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله. فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل وراسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث.
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعاه إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ }(1).
أي فتثبّتوا فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإن تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
__________
(1) النساء:94(1/95)
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك. والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال : « أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله »(1) وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»(2) هو الذي قال في الخوارج : « أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد»(3) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم. وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة. كذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }(4) وكان الرجل كاذبًا عليهم(5) ، فكل هذا يدل على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث ما ذكرناه ] هذه شبهة من شُبه المشركين عباد القبور الذين يدّعون الإسلام ويزعمون أن عبادة القبور والاستغاثة بالأموات ودعاء الغائبين لتفريج الكربات،
__________
(1) تقدم تخريجه
(2) تقدم تخريجه
(3) رواه أبوداود في سننه 4/343، 344 كتاب السنة باب في قتال الخوارج حديث رقم 4764-4767 من حديث أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب، ورواه النسائي في سننه 7/117-121 كتاب (37) تحريم الدين باب (26) من شهر سيفه ثم وضعه في الناس حديث رقم (4101، 4102، 4103) من حديث أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي برزة رضي الله تعالى عنهم، وانظر مسند الإمام أحمد 1/404 حديث رقم (3831) من حديث عبد الله بن مسعود بنحوه.
(4) الحجرات:6
(5) انظر تفسير ابن كثير 4/210-211(1/96)
أن هذه أمور لا تضر ولا تخرج من الإسلام ما دام صاحبها يقول لا إله إلا الله بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة بن زيد رضي الله عنهما لما قتل رجلاً من المشركين أظهر الإسلام وقال لا إله إلا الله فقتله أسامة بعد ذلك ظانًا أنه إنما قالها ليسلم من القتل، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاستدلوا بهذه القصة على أن من قال لا إله إلا الله فهو مسلم ولو فعل ما يناقضها من أنواع الشرك الأكبر وكذلك استدلوا أيضًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل»(1) قالوا فهذا دليل على أن من تلفظ بهذه الكلمة لا يقتل ولو فعل ما فعل من أنواع الشرك في العبادة مع الأموات والأضرحة وصرف العبادات لغير الله ما دام أنه يقول لا إله إلا الله. هذا حاصل شبهتهم وهي شبهة خطيرة إذا سمعها الجاهل ربما تروج عليه لا سيما أنهم طلوها بطلاء خادع وهو الاستدلال بالأحاديث الصحيحة لكن في غير موضعها. وقد أجاب الشيخ رحمه الله عن هذه الشبهة بستة أجوبة مجملها:
الجواب الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل أناسًا يقولون لا إله إلا الله، فقاتل اليهود وهم يقولون لا إله إلا الله وقاتل الصحابة بني حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله لما ظهر منهم ما ينافي هذه الكلمة، ولم تنفعهم هذه الكلمة ولم تكن مانعة من قتلهم.
والجواب الثاني: في بيان تناقض هؤلاء لأنهم يقولون من أنكر الصلاة أو الزكاة والحج أو أنكر البعث والنشور يكفر عندهم، وأما من أنكر التوحيد فإنه لا يكفر عندهم.
والجواب الثالث: أن معنى حديث أسامة بن زيد ليس كما فهموا أن من قال لا إله إلا الله يكون مسلمًا ولو فعل الشرك والكفر. وإنما معناه أن من قال لا إله إلا الله وجب الكف عنه حتى يظهر منه ما يخالف مدلول هذه الكلمة من كفر أو شرك.
__________
(1) تقدم(1/97)
والجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى قال: { إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا }(1).
فأمر سبحانه وتعالى بالتبيّن يعني التثبّت بشأن من قال لا إله إلا الله فما فائدة التثبّت إذا كان لا يقتل إذا قالها.
والجواب الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الخوارج وهم من أشد الناس عبادةً وخوفًا من الله وورعًا، بل هم تتلمذوا على الصحابة ومع هذا أمر بقتلهم لما فعلوا أشياء تتنافى مع الإسلام وهم يقولون لا إله إلا الله وهم أشد الناس عبادة وصلاة وتلاوة للقرآن.
والجواب السادس: قصة بني المصطلق وهم قبيلة دخلوا في الإسلام وأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - المصدق لجباية الزكاة ولكنه لم يذهب إليهم بل رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال إنهم منعوا الزكاة فهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزوهم فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }(2).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - همّ بغزوهم وقتالهم وهم يقولون لا إله إلا الله لماذا؟ لما بلغه أنهم منعوا الزكاة فمنع الزكاة يتنافى مع قول لا إله إلا الله هذا ملخص أجوبة الشيخ رحمه الله عن هذه الشبهة الخطيرة.
[ ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
__________
(1) الحجرات:6
(2) الحجرات:6(1/98)
فالجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال في قصة موسى: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }(1) وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأشياء التي يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.
إذا ثبت ذلك، فالاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة يراد منها أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه ] هذه شبهة أخرى من شبههم وهي أنهم يقولون إنه ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة العظمى(2) ، أن الناس يوم القيامة إذا طال عليهم الوقوف والقيام على أقدامهم خمسين ألف سنة والشمس قد دنت منهم فالخلائق كلهم مجموعون من أولهم إلى آخرهم في زحام شديد والشمس على رؤوسهم قريبة منهم وهم واقفون على أقدامهم، فعندما يحصل لهم هذا الكرب يتذاكرون الشفاعة عند الله عز وجل فيرون أن الأنبياء هم أول الذين يشفعون عند الله فيأتون إلى آدم يطلبون منه أن يشفع عند الله لهم ليريحهم من الموقف فيعتذر عليه الصَّلاة والسَّلام بسبب ما حصل منه من الخطيئة مع أنه تاب منها وتاب الله عليه ولكن يستحي من الله عز وجل، ثم يأتون إلى نوح أوَّل الرسل فيعتذر، ثم يأتون إلى موسى فيطلبون منه فيعتذر، ثم يأتون إلى عيسى عليه السّلام آخر أنبياء بني إسرائيل فيعتذر لأن الموقف موقف عظيم أمام الله سبحانه وتعالى، ثم يأتون إلى محمد - صلى الله عليه
__________
(1) القصص:15
(2) سيأتي(1/99)
وسلم - فيقول - صلى الله عليه وسلم -: أنا لها أنا لها، ثم يأتي ويسجد بين يدي ربه ويحمدُ الله ويثني عليه ويدعوه ويستمر ساجدًا بين يدي ربه حتى يقال له يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفّع(1) ،لأنه لا أحد يشفّع عند الله إلا بإذنه والرسول ما ذهب إلى الله وشفع ابتداءً بل استأذن من ربه وسجد بين يديه حتى أذن له وهذا كقوله تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(2) فيطلب من الله أن يفصل بين عباده ويريحهم من الموقف فيستجيب الله شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذه تسمى الشفاعة العظمى والمقام المحمود وهي قوله تعالى: { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا }(3) بمعنى أنه يحمدُه عليه الأولون والآخرون. قال القبوريون فهذا فيه جواز الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين وأنتم تقولون لا يستغاث إلا بالله وقالوا فهذا يدل على أن طلب الشفاعة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - جائز حيًا وميتًا وكذلك غيره.
والجواب عن هذا كما يقول الشيخ إن هذا طلب من إنسان حي قادر على الدعاء وعلى الاستئذان بالشفاعة والطلب من الإنسان في حال حياته وقدرته ليس من الممنوع كما في قصة موسى: { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }(4).
وكما يستغيث الإنسان بإخوانه في الحرب وغيرها.
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 8/172-173 كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
(2) البقرة:255
(3) الإسراء:79
(4) القصص:15(1/100)
فهذا فيه دليل على أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه جائزة والذي يقع من الأمم يوم القيامة هو استغاثة بالحي وطلب الدعاء منه فيجوز أن تذهب إلى إنسان حي قادر يسمع كلامك وتقول يا فلان ادع الله لي بكذا وكذا، والصحابة كانوا يعملون هذا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وليس هذا من الشرك، إنما الذي يكون شركًا وأنكرناه هو الاستغاثة بالميت وهذا لا علاقة له بحديث الشفاعة لأنكم تستغيثون بأموات وتطلبون الشفاعة منهم، والأموات لا يقدرون على شيء فلا يجوز أن يذهب إلى قبر يستنجد به ويدعوه أو يطلب منه الدعاء أو الشفاعة أو غير ذلك ففيه فرق بين عمل هؤلاء المشركين وبين ما في الحديث الصحيح وفي قصة موسى عليه الصّلاة والسّلام فبهذا التفصيل زالت هذه الشبهة والحمد لله.
[ ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم عليه السّلام لما ألقي في النّار اعترض له جبريل في الهواء فقال له ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا(1) فقالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم.
__________
(1) ذكر هذا الأثر ابن كثير عن بعض السلف كما في البداية والنهاية 1/146 في قصة إبراهيم خليل الرحمن(1/101)
فالجواب: أن هذا من جنس الهيئة الأولى فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: { شَدِيدُ الْقُوَى }(1) فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم عليه السلام في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل. وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟] هذه آخر الشبهات التي ذكرها الشيخ في هذه الرسالة العظيمة فأجاب عنها بجواب سديد موفّق وهي أن عبَّاد القبور الذين يطلبون المدد من الأموات ويستغيثون بهم يقولون إن هذه الاستغاثة ليست شركًا وذلك بدليل قصة جبريل عليه السلام مع إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار فإن جبريل جاء إلى إبراهيم كما يروى(2) فقال جبريل لإبراهيم عليه السلام: هل لك من حاجة يعرض عليه المساعدة لإنقاذه، وجبريل عليه السلام لا شك ذو قوة عظيمة. وعنده قدرة على إنقاذ إبراهيم. وقد وصفه الله عز وجل فقال: { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }(3) وفي الآية الأخرى { ذُو مِرَّةٍ } يعني قوة، فعرض جبريل على إبراهيم أن يساعده في إخراجه من هذه الشدة، فلمّا كان إبراهيم عظيم الثقة بالله عز وجل قال له: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم. فإبراهيم عليه السلام لم يرد أن يطلب من مخلوق أن ينقذه من هذه الشدة وإنما توجه إلى ربه كما صح في الحديث أنه قال: « حسبنا الله ونعم الوكيل»(4) فهذا من باب التوكل على الله عز
__________
(1) النجم:5
(2) وفي ثبوته نظر
(3) التكوير: 20
(4) رواه الإمام البخاري في صحيحه 5/172 كتاب تفسير القرآن باب « إن الناس قد جمعوا لكم.. الآية » من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.(1/102)
وجل وتفويض الأمر إليه وهذه صفة أكمل الخلق إيمانًا حيث إن إبراهيم رفض مساعدة المخلوق وقبل مساعدة الخالق، لأن مساعدة المخلوق فيها منّة وحاجة إلى المخلوق ومساعدة الخالق سبحانه وتعالى لا منّة فيها لغير الله، وهي فضل من الله سبحانه وتعالى، وجبريل عرض على إبراهيم شيئًا يقدر عليه وهو عرض من حي حاضر قادر كما يعرض الغني على الفقير مساعدته بالمال، وليس هذا من جنس الاستغاثة بالأموات أو الغائبين الذين يستغيث بهم القبوريون، فإن الأموات لا يستغاث بهم ولا يقدرون على ما طلب منهم ولا يسمعون دعاء من دعاهم كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }(1) وقال تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ، إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ }(2).
__________
(1) سبأ: 22-23
(2) فاطر: 13-14(1/103)
[ ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون هذا حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه الحق ولكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، وغير ذلك من الأعذار ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى: { اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً }(1) وغير ذلك من الآيات كقوله: { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }(2).
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ }(3).
__________
(1) التوبة:9
(2) البقرة:146
(3) النساء:145(1/104)
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا أو جاه أو مداراة وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا فإذا سألته عمّا يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه ] ختم الشيخ رحمه الله هذه الرسالة بمسألة عظيمة مهمة يجب تفهمها وتعقُّلها لأنه إذا فهمها الإنسان فإنه يدرك أخطاء الناس في العقيدة. وهذه المسألة هي: أن التوحيد يكون بالقول والعمل والاعتقاد، لابد من هذه الأمور الثلاثة فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة صار الإنسان موحدًا مؤمنًا بالله ورسوله وإذا اختل واحدٌ منها لم يكن مؤمنًا ولا موحدًا. وهم في هذا أصناف: الصنف الأول من يعتقد التوحيد بقلبه ويعرف أنه لا إله إلا الله وأن عبادة ما سواه باطلة ولكنه لا يعمل به بجوارحه ولا يقرُّ به بلسانه لطمع دنيوي فهذا كافر مثل فرعون فإن فرعون كان معترفًا بالتوحيد في قلبه وأن ما جاء به موسى هو الحق ولكنه ترك العمل به وتظاهر بخلافه وجحده تكبرًا وعنادًا كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }(1).
__________
(1) النمل:14(1/105)
وقال موسى عليه السّلام لفرعون:{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ }(1) لقد علمت أي عرفت بقلبك ما أنزل هذه الآيات التي جئتك بها إلا رب السماوات والأرض بصائر للناس فهذا دليل على أن فرعون كان مستيقنًا بقلبه صدْق ما جاء به موسى عليه السلام وإنما جحد ذلك وتظاهر بجحده كحال كفار قريش الذين قال الله فيهم: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }(2) دلت الآية على أن كفار قريش يصدقون بالرسول بقلوبهم ولكن يجحدون ذلك بظواهرهم وألسنتهم وكما قال الله سبحانه وتعالى في اليهود: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ }(3) يعرفون هذا بقلوبهم ويتظاهرون بالكتمان والجحود مع تيقنهم في قلوبهم بأن محمدًا رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله عز وجل ولكن منعهم الكبر والحسد من اتباعه، واعتقادهم بقلوبهم لا ينفعهم فهم كفار مخلّدون في النار. وكثير من عبَّاد القبور اليوم على هذا، يقولون: نعرف أن الذي تقولون هو التوحيد ولكن ما نقدر أن نخالف أهل بلدنا لأن أهل بلدنا عندهم أضرحة واستغاثة بالأموات ولا نقدر أن نخالفهم لأجل أن نعيش معهم ولا نقدر على مجابهة الناس فهم يوافقون الكفار والمشركين على عقائدهم، إما أن يفعلوا مثل فعلهم وهم يعتقدون بطلان ذلك وإما أن لا ينكروا عليهم ولا يبيّنوا الحق بل ربما يدافعون عنهم، وهذا هو واقعهم الآن. ويقولون لمن دعاهم إلى الحق هذا الرجل خارجي وهذا الرجل جاء بمذهب خامس، وهم يعتقدون أن ما جاء به هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو مقتضى الكتاب والسنة، يعرفون هذا وإنما حملهم الحسد أوالكبر أو الطمع في أمور الدنيا لأنهم يظنون أنهم إذا
__________
(1) الإسراء:102
(2) الأنعام:33
(3) البقرة:146(1/106)
وافقوا على هذا الحق وقبلوه سيخسرون رئاستهم ويخسرون أموالهم ويخسرون جاههم عند الناس. والصنف الثاني من وافق في الظاهر ونطق بالتوحيد وقال هذا هو الصحيح وهذا هو الحق وصلى وصام وصار مع المسلمين لكن في قلبه لا يعتقد هذا ويعتقد أن هذا خرافات وأنه تقاليد بالية، فهو لم يعمل به ولم يتكلم به إيمانًا وإنما عمل به وتكلم به نفاقًا كحالة المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }(1).
فالناس مع التوحيد ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يعرفه ويؤمن به باطنًا ويجحده ظاهرًا وينكره.
القسم الثاني: من يتكلم به ويعمل به ظاهرًا وينكره ويكفر به باطنًا. وهم المنافقون.
القسم الثالث: من يعتقده باطنًا ويعمل به ظاهرًا وباطنًا. والقسمان الأولان كافران خاسران والقسم الثالث مؤمن مفلح.
__________
(1) المنافقون: 1-2(1/107)
[ ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما ما تقدم من قوله : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(1) فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها. والآية الثانية قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ }(2) فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض؛ إلا المكره. والآية تدل على هذا من جهتين الأولى من قوله: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فلم يستثن الله إلا المكره ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
__________
(1) التوبة:66
(2) النحل:106(1/108)
والثانية قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ }(1) فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين ] نعم إذا عرفت هذه القاعدة وهي معرفة ما يحصل به الإيمان الصحيح فإنه يجب أن تعرف ما يضادها من الأقوال والأفعال ومن ذلك الكلام الذي يتكلم به الإنسان وهو من نواقض الإسلام لكنه يمزح به فإنه يكفر ولو كان ليس جادًا في كلامه، فالدين ليس فيه مزح والدليل على ذلك قصة هؤلاء النفر الذين خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك لغزو الروم لما بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الروم يجمعون على غزو المسلمين، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بادر في وقت الحر وشدة القيظ والصيف ووقت طيب الثمار والمسافة بعيدة من المدينة إلى تبوك. وإن ناسًا من الذين خرجوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - جلسوا في مجلس يمزحون قال واحد منهم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء يعنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وكان في المجلس غلام من الأنصار فأنكر عليهم وقال كذبت ولكنّك منافق لأخبرن رسول الله، فلمّا ذهب هذا الفتى ليخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجد الوحي قد سبقه ونزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(2) فجاء هؤلاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون ويقولون يا رسول الله ما قصدنا إلا
__________
(1) النحل:107
(2) التوبة: 65-66(1/109)
المزح حديث الركب نقطع به عنّا الطريق ولا يزيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تلاوة الآية ولا يلتفت إليهم(1) فإذا كان هؤلاء كفروا بالله وارتدوا وقد كانوا مسلمين من قبل بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب فكيف بمن يقول كلام الكفر لا من باب المزح وإنما من باب المحافظة على ماله وعلى جاهه وعلى مكانته وهذا شر من المازح لأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة؟ فالحاصل أن الذي يتكلم بكلمة الكفر لا يخلو من خمس حالات:
الحالة الأولى: أن يكون معتقدًا ذلك بقلبه فهذا لا شك في كفره.
الحالة الثانية: أن لا يكون معتقدًا ذلك بقلبه ولم يكره على ذلك ولكن فعله من أجل طمع الدنيا أو مداراة الناس وموافقتهم فهذا كافر بنص الآية { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ }(2).
الحالة الثالثة: من فعل الكفر والشرك موافقة لأهله وهو لا يحبه ولا يعتقده بقلبه وإنما فعله شحًا ببلده أو ماله أو عشيرته.
الحالة الرابعة: أن يفعل ذلك مازحًا ولاعبًا كما حصل من النفر المذكورين. وهذا يكون كافرًا بنص الآية الكريمة.
الحالة الخامسة: أن يقول ذلك مكرهًا لا مختارًا وقلبه مطمئن بالإيمان فهذا مرخص له في ذلك دفعًا للإكراه، وأما الأحوال الأربع الماضية فإن صاحبها يكفر كما صرحت به الآيات وفي هذا رد على من يقول إن الإنسان لا يحكم عليه بالكفر ولو قال كلمة الكفر أو فعل أفعال الكفر حتى يُعلم ما في قلبه وهذا قول باطل مخالف للنصوص وهو قول المرجئة الضُّلاَّل.
وذكر الشيخ رحمه الله قاعدة عظيمة في الإكراه الذي يعذر به والذي لا يعذر به حيث قال: (ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
انتهى في 15/11/1418هـ
بقلم/ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان.
__________
(1) تقدم العزو إليها
(2) النحل:107(1/110)