شرح كتاب الرد على الزنادقة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فالرسالة التي سنقرؤها -إن شاء الله- كما هو معروف للجميع: رسالة الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكوا فيه من متشابه القرآن، وتأولوه على غير تأويله.
الرسالة لإمام السنة أحمد بن حنبل وإمام أهل السنة -كما هو معروف- امتحن بهؤلاء الزنادقة والجهمية ووقف لهم المواقف المشهورة، وصمد أمامهم، وثبت أمام الحق حتى نصر الله به الحق وأهله، وقمع به أهل البدع.
فهو إمام أهل السنة يقتدي بهم -رحمه الله- صبر يوم المحنة، لما ابتلي بمسألة القول بخلق القرآن، ووقف وصبر على الحق ثابتًا صامدًا صمود الجبل لا يلين إلى أهل البدع، حتى قال العلماء: إن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- صبر يوم الردة، وإن الإمام أحمد بن حنبل صبر يوم المحنة.
وهذه الرسالة -وهي رسالة الرد على الزنادقة والجهمية - رسالة عظيمة، افتتحها المؤلف بخطبة عظيمة ما زال العلماء يقتبسون منها وينقلونها في كتبهم، كالإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله ورضي عنه-، لكن بعض أهل البدع في القديم والحديث يشككون في نسبة هذه الرسالة للإمام أحمد وما ذاك إلا لزيغ في قلوبهم؛ لأنهم يريدون ألا تثبت هذه الرسالة حتى يثبت باطلهم؛ لأن هذه الرسالة شهب مرمية عليهم، على أهل البدع، فلا يريدون أن تثبت هذه الرسالة حتى يبقى باطلهم وضلالهم وزيغهم؛ فلهذا يشككون في نسبة هذه الرسالة إلى الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-.
والرسالة ثابتة، أثبتها العلماء والأئمة ونسبوها إلى الإمام، نسبها القاضي أبو يعلى وهو من علماء الحنابلة وقال: إن الخلال أثبتها، وكذلك الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وحسبك به.
أثبت هذه الرسالة للإمام في مواضع من كتبه المتعددة، في رسالة "بيان تلبيس الجهمية " وفي تفسير: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وفي غيرها من كتبه المتعددة، حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - نقل أكثرها في كتبه، لا سيما في كتاب "تلبيس الجهمية ". نقل هذه الرسالة كلها، ونثرها في كتبه وعلق عليها، نقل أغلبها أكثر نصوصها، ونقل الخطبة أيضًا، وكذلك العلامة ابن القيم أثبتها في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ". وغيرهم من أهل العلم.
والرسالة طُبعت طبعات، لكني في ظني أن أحسن الطبعات التي طبعت الطبعة التي حققها فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمة الله عليه-، فإنه قابلها وجد مخطوطة لهذه الرسالة مع مطبوعتين وقابلها، وقدم بمقدمة أثبت فيها أن هذه الرسالة للإمام أحمد وبين فيها بيانًا واضحًا.
ونقل فيها عن الأئمة: القاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن هذه الرسالة للإمام أحمد فيستحسن أن نقرأ هذه المقدمة التي تثبت أن هذه الرسالة للإمام أحمد حتى لا يكون هناك مجال للشك؛ لأن هناك الجهمية والمعتزلة موجودون في كل زمان، هناك جهمية في هذا الزمان ومعتزلة وأشاعرة يشككون في نسبة هذه الرسالة للإمام أحمد
ولا نزال نسمع أن كثيرًا من الرسائل وكثيرًا من الكتب كتب أهل السنة لا يزال بعض الناس يشكك فيها، نسمع أن رسالة فلان لم تثبت إليه، وفلان وفلان؛ وهذا لأنهم لا يريدون أن تثبت هذه الكتب التي فيها رد لباطلهم نقرأ الآن.(1/1)
إنكار الجهمية كلام الله لموسى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري -رحمه الله تعالى-: قال القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى في ترجمة خضر بن مثنى الكندي من طبقات الحنابلة قال: نقل عن عبد الله ابن إمامنا أحمد -رضي الله عنه- أشياء منها: الرد على الجهمية فيما قرأتُه على المبارك بن عبد الجبار عن إبراهيم عن عبد العزيز بن أبي بكر الخلال قال: أخبرني خضر بن مثنى الكندي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال أبي: بيان ما أنكرت الجهمية أن الله تعالى كلم موسى فقلنا لهم لِمَ أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كَوَّنَ شيئًا فعبر عن الله -عز وجل-، وخلق صوتًا فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان.
هذه من شبههم كما سيأتي في بيان الرسالة، قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، وإنما كوّن شيئًا فتكلم، يعني: خلق شيئًا فتكلم، يقولون: كلام الله مخلوق جعلوا كلام الله الذي هو صفة من صفاته قالوا إنما كون شيئًا فتكلم، وخلق صوتًا فأسمع، أما هو لم يتكلم، وهذا من أبطل الباطل.
فالله جل وعلا يتكلم بحرف وصوت، كلامه صفة من صفاته من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، كما قرر ذلك أهل السنة.(1/2)
الرد على الجهمية في إنكار كلام الله لموسى
فقلنا هل يجوز لمكوَّن أو غير الله أن يقول لموسى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي أو: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فمن زعم كما زعمت الجهمية أن الله كَوَّنَ شيئًا، كان يقول ذلك المكَوَّن: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لا يجوز أن يقول: إني أنا الله رب العالمين، وقال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا .
يعني: أن الله تعالى قال لموسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وقال الله لموسى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فعلى قول هؤلاء الملاحدة إذا كان الكلام مخلوقا يكون المخلوق يقول لموسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ هل يستطيع أحد أن يقول لموسى إني أنا الله، إني أنا ربك؟.(1/3)
الرد على الجهمية في إنكارهم كلام الله لا يجوز أن يقول: إني أنا الله رب العالمين، وقال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وقال: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وقال: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وقال: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ .
فهذا منصوصُ القرآن، وأما ما قالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فكيف بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان .
والترجمان: هو الشخص الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، يقال له: ترجمان ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان المعنى: أن الله سيكلم كل أحد، ليس بينه وبينه واسطة يترجم.
ترجمان فيها لغات: تُرْجُمَان وتَرْجَمَانْ وتَرْجُمَان، وقال بعضهم: فيها لغة رابعة: تُرْجَمان؛ بضم التاء والجيم، وفتح التاء والجيم، وفتح التاء وضم الجيم، وذكر بعضهم لغة رابعة بضم التاء وفتح الجيم، وعلى هذا ما يغلط أحد في قراءتها.(1/4)
الرد على شبهة الجهمية أن الكلام لا يكون إلا من جوف أو لسان
أما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان. أليس قال الله تعالى للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ؟ أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان؟! والجوارح إذا شهدت على الكفار فقالوا: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء.
وكذلك تكلم الله كيف شاء من غير أن يكون جوف ولا فم ولا شفتان ولا لسان، وذكر الرسالة بطولها.
هذا الرد على هذه الشبهة وهي قولهم: إن الله لو تكلم للزم أن يكون له جوف ولسان وشفتان، فالإمام رد عليهم: بأن هناك بعض المخلوقات تتكلم وليس لها لسان ولا شفتان، وإذا أمكن هذا في بعض المخلوقات فإمكان ذلك في الخالق من باب أولى.
فالجلود تشهد يوم القيامة وكذا الألسن والأيدي قال الله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وكذلك أيضًا السماوات والأرض نطقتا قال الله: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ .
وثبت أيضًا تسبيح الحصى بيد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والطعام سبح في يده، والجذع حنّ وليس له لسان ولا شفتان، فهذه الشبهة باطلة.(1/5)
ترجمة الخضر بن مثنى تثبت نسبة الكتاب للإمام أحمد
هذا ما ورد في ترجمة الخضر بن مثنى الكندي من الطبقات، وهو صريح في أن هذا الكتاب: الرد على الجهمية للإمام أحمد بن حنبل
لأنه يقول: (قال القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى في ترجمة الخضر بن مثنى الكندي من طبقات الحنابلة قال: نُقل عن عبد الله ابن إمامنا أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- أشياء منها الرد على الجهمية فيما قرأته على المبارك بن عبد الجبار عن إبراهيم عن عبد العزيز بن أبي بكر الخلال قال: أخبرنا الخضر بن مثنى الكندي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل )، فالسند متصل.(1/6)
زعمهم جهالة الخضر بن مثنى
وهو صريح في أن هذا الكتاب: الرد على الجهمية للإمام أحمد بن حنبل وهو الذي صرح به غير واحد من أهل العلم، فإن قيل: إن الخضر بن مثنى الكندي مجهول فلا يليق نسبة الكتاب للإمام أحمد ما دام الأمر كذلك.
هذه شبهة لبعضهم، بعضهم طعن في السند، قال: السند فيه مجهول، الخضر بن المثنى غير معروف مجهول.(1/7)
نفي جهالة الخضر بن مثنى
فالجواب -كما يستفاد من اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - من وجوه:
أولًا: أن الخضر هذا ليس بمجهول قد عَرَفَه الخلال ورواه عنه، كما روى كلام أبي عبد الله أحمد بن حنبل عن أصحابه وأصحاب أصحابه، فلا يضر جهالة غيره له.
إذًا الخضر ليس بمجهول؛ لأن الخلال يعرفه.(1/8)
وجود نسخة من الكتاب بخط عبد الله بن أحمد
ثانيًا: أن الخلال قال في هذا الكتاب: كتبته من خط عبد الله بن أحمد وكتبه عبد الله من خط أبيه، فالظاهر أن الخلال إنما رواه عن الخضر ؛ لأنه أحب أن يكون متصل السند على طريق أهل النقل وضم ذلك إلى الوجادة، والخضر كان صغيرًا حين سمعه من عبد الله لم يكن من المعمرين المشغولين بالعلم، ولا هو من الشيوخ.
إذًا هذا جواب آخر، وهو أن الخلال وجده بخط عبد الله بن أحمد فالخلال وجد الرسالة كتبه من خط عبد الله بن أحمد وعبد الله ابن الإمام كتبه من خط أبيه، فالخلال يكون رواه عن الخضر بالسند وعنده الوجادة، وجده بخط عبد الله فاجتمع عنده أمران: السند والوجادة.(1/9)
إثبات علماء الأمة الرسالة ونسبتها للإمام أحمد
وقد رواه الخلال عنه في غير هذا في جامعه، فقال في كتاب الأدب من الجامع: دفع إليَّ الخضر بن المثنى بخط عبد الله بن أحمد أجازني أن أرويه عنه، وذكر بعض ما روى عنه.
وقال أبو بكر الخلال كتاب الرد على الجهمية في كتاب السنة الذي جمع فيه نصوص أحمد وكلامه، وعلى منواله جمع البيهقي في كتابه الذي سماه: "جامع النصوص من كلام الشافعي " وهما كتابان جليلان لا يستغني عنهما عالم.
ثالثًا: احتجاج أهل العلم به على أنه للإمام أحمد بن حنبل
إذًا الجواب على شبهة أن الخضر بن مثنى مجهول، أجاب بثلاثة أجوبة:
أولا: أنه ليس بمجهول، فقد عرفه الخلال
الثاني: أن الخلال نفسه وجد الرسالة بخط عبد الله بن أحمد ورواها بالسند عن الخضر فاجتمع له الأمران.
الأمر الثالث: أن العلماء والأئمة أثبتوا هذه الرسالة ونسبوها للإمام أحمد كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وحسبك بهؤلاء الأئمة عدالةً وثقة.(1/10)
احتجاج أهل العلم بالرسالة على أنها للإمام أحمد
ثالثًا: احتجاج أهل العلم به على أنه للإمام أحمد بن حنبل فقد احتج به الإمام أبو يعلى في كتابه "إبطال التأويل" بما نقله فيه عن أحمد
وذكر ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن أحمد ونقله عن أصحابه قديمًا وحديثًا، ونقل منه البيهقي وعزاه إلى أحمد وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحمد ولم يُسمع عن متقدمي أصحابه ولا متأخريهم طعنٌ فيه.
هذا خلاصة ما دافع به الإمام ابن القيم عن نسبة كتاب "الرد على الزنادقة والجهمية " إلى إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-، وقد راجعنا مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية فوجدنا فيها من التصريح بأنه للإمام أحمد من ناحية، ومن الاعتماد عليه من ناحية أخرى ما نوضح منه للقراء ما يلي:
أولا: قال في تفسير سورة الإخلاص في الطبعة المنيرية: بعد ذكر كثير من السلف -أنهم يعلمون معنى المتشابه- قال: وقول أحمد فيما كتبه من الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله. وقوله عن الجهمية أنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه، ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وأن المذموم تأويله على غير تأويله، فأما تفسيره بمطابق لمعناه فهذا محمود وليس بمذموم، وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده، وهو التفسير في لغة السلف؛ ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف: إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها، بل يتلون لفظًا لا يعرفون معناه.
أشار بهذا الرد على طائفة المجهلة الذين يجهلون الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ويقولون: إن الرسول لا يعرف معاني القرآن، وكذلك جبريل هؤلاء يسمون مجهلة.
وهناك طائفة من المؤولة ملاحدة -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من أبطل الباطل، فالرسول يعرف معناه، وكذلك جبريل وإنما المجهول كيفية الصفات فالكيفية لا يعلمها إلا الله، كما قال الإمام مالك الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب.
أما معاني القرآن فمعروفة، ما فيها إشكال، لكن الكيفيات كيفيات الأمور الغيبية، وكيفيات الصفات، لا يعلم كيفيات صفات الله إلا هو وكيفية ذاته -سبحانه- وحقائق الجنة وحقائق النار وما يكون فيها من الحقائق على ما هي عليه، لا يعرف حقيقتها إلا الله -سبحانه وتعالى-.(1/11)
تصنيف الإمام أحمد للكتاب وهو في الحبس
وذكر أن تفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراده الله ورسوله، ثم قال: فإنكار الأئمة والسلف لهذه التأويلات الفاسدة، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكَّت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله.
فهذا الذي أنكرته الأئمة والسلف من التأويل كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، وقال: وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي صار لأهل السنة معيارًا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة، لما صنف كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكّت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، تكلم في معاني المتشابه الذي اتبعه الزائغون ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ آية آية، وبينوا معناها، وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتج على أنه يرى أن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبيّن معاني الآيات التي سماها المتشابه، وفسرها آية آية.
وذكر: أن التشابه يراد به: ما هو صفة لازمة للآية، ويراد ما هو من الأمور النسبية، فقد يكون متشابهًا عند هذا ما لا يكون متشابهًا عند هذا.
وقال: وكلام الإمام أحمد بن حنبل وغيره من السلف يحتمل أن يراد هذا، فإن أحمد ذكر في رده على الجهمية أنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وقد فسر أحمد قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ .
فإذا كانت هذه الآيات مما علمنا معناها لم تكن متشابهة عندنا، وهي متشابهة عند من احتج بها، وكان عليه أن يردها إلى ما يعرفه من المحكم، وكذلك قال أحمد في ترجمة كتابه الذي صنفه في الحبس وهو "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله".
إذًا على هذا يكون الإمام أحمد صنف هذه وهو في الحبس.(1/12)
نقل ابن تيمية مقدمة الرسالة في كتبه مؤكدا نسبتها للإمام أحمد
ثم فسر الإمام أحمد تلك الآيات فبين أن هذه ليست متشابهة عنده، بل قد عرف معناها، وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويل هذا المتشابه الذي هو تفسيره، وأما تأويله الذي هو حقيقته الموجودة في الخارج فلا يعلمها إلا الله.
واستدل شيخ الإسلام على تجنب ما ابتدعه المتكلمون في العقيدة، بما ورد في خطبة هذا الكتاب.
ونص عبارة شيخ الإسلام قال الإمام أحمد في خطبته في كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة ": الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب.
"فهم مختلفون في الكتاب" هنا في سقط "فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، مجتمعون على مفارقة الكتاب" ستأتي في المقدمة، هذه مقدمة الإمام أحمد للرسالة نقلها شيخ الإسلام في مؤلفاته -رحمه الله- في مواضع، مما يدل على أن شيخ الإسلام ابن تيمية يجزم بأن هذه الرسالة للإمام أحمد ؛ ولهذا نقلها في كتبه، ونثرها في كتبه، حتى نقل الخطبة نفسها.(1/13)
التشكيك في نسبة الرسالة للإمام أحمد لا وجه له
يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، ونعوذ بالله من فتن الضالين.
ذكر شيخ الإسلام ذلك كله في تفسير سورة الإخلاص، وقال في منهاج السنة في المطبعة الكبرى الأميرية بصدد اختلاف أهل الكلام في الكتاب قال: وقد قال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، قال:" الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى".
فساق خطبة الكتاب، ثم قال: وهم كما وصفهم أي الإمام أحمد -رحمه الله - فإن مختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام إما نقلًا مجردًا وإما نقلًا وبحثا وذكرًا للجدال مختلفون في الكتاب، كل منهم يوافق بعضا ويرد بعضا، ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه، وما يخالفه هو المتشابه الذي يجب تأويله بدون تفريط.
ثالثًا: قال في الرسالة التدمرية: كان الأئمة كالإمام أحمد وغيرهم ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلام عن مواضعه وتأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم.
وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق التأويل -كما تقدم- من أن لفظ التأويل يراد به التفسير المبين لمراد الله به، فذلك لا يعاب، بل يُحمد، ويراد بالتأويل: الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذلك لا يعلمه إلا هو، هذا ما ورد في بعض مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية من الاعتماد على كتاب الرد على الزنادقة والجهمية والتصريح بأنه للإمام أحمد بن حنبل يضاف إلى ذلك إتيان شيخ الإسلام في "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" أو نقض تأسيس الجهمية في كثير من نصوص هذا الكتاب: "الرد على الزنادقة والجهمية "، مع تعليقات قيمة على كل نص تلك نصوص لشيخ الإسلام نفسه.
وقد أكثر ابن القيم من نقل نصوصه أي: "الرد على الزنادقة والجهمية " في كتابه "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " فثبت بهذا ثبوتًا لا يدع مجالًا للشك أن هذا الكتاب للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
وجزاه عن تأليفه خيرًا. والله تعالى ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وبهذا يتبين أن هذه الرسالة -لا شك- أنها للإمام أحمد وأن التشكيك في إثباتها وفي نسبتها للإمام أحمد لا وجه له، وإنما يشكك في ذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة حتى لا تثبت؛ لأنها رد عليهم، وإبطال لمعتقده ضلالهم.
والجهمية والمعتزلة موجودون في كل زمان، وموجودون في هذا الزمان، وفي هذا الزمان يشككون في نسبة هذه الرسالة، ويقولون: إنها ليست للإمام أحمد كما شكك من سبقهم من إخوانهم من الجهمية والمعتزلة(1/14)
مقدمة الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني -رضي الله عنه، وأثابه الجنة وغفر لنا وله بمنه وكرمه آمين-:
السند في الرسالة، تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري
أخبرنا أبو الطاهر المبارك بن المبارك بن معطوشي في كتابه: أن أبا طلحة أن محمد بن محمد بن أحمد ابن المهدي بالله أجاز له أن أبا القاسم عبد العزيز بن علي الأزدي أجاز لهم عن أبي بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال قال: أنبأنا أبو بكر الخلال قال: أخبرنا الخضر بن مثنى الكندي قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- قال: هذا ما أخرجه أبي -رحمه الله - في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، قال-رحمه الله تعالى ورضي عنه.
- إذًا هذا سند الرسالة، متصل السند. -
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
هذه خطبة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في هذه الرسالة، وهي خطبة عظيمة ما زال العلماء ينقلونها في كتبهم ويستشهدون بها، كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-وغيره من أهل العلم.
وكثير من أهل العلم يستشهدون بهذه الرسالة، ويقولون قال الإمام أحمد في رسالة الرد على الزنادقة "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" ويسردونها، فهي خطبة عظيمة، فاستشهاد العلماء من أهل السنة والجماعة ونقل هذه الرسالة في كتبهم أيضًا من الأدلة التي تثبت نسبة هذه الرسالة للإمام -رحمه الله-.
يقول: "الحمد لله": الحمد هو الثناء على المحمود بصفاته وأعماله مع حبه وإجلاله وتعظيمه، هذا هو الحمد: ثناء على المحمود بالصفات والأعمال والأفعال مع حبه وإجلاله وتعظيمه، بخلاف المدح، فالمدح ثناء بدون حب وإجلال، فأنت تمدح الأسد تقول: هو قوي العضلات ولا تحب الأسد، تمدح الأسد ولا تحبه، هذا هو الفرق بين المدح وبين الحمد.
المدح: ثناء وإخبار بصفات لكن لا إرادة حب وإجلال وتعظيم، أما الحمد فهو ثناء بالصفات الاختيارية الجميلة والأفعال مع الحب والإجلال؛ ولهذا جاء الحمد في حق الله تعالى دون المدح فوصف نفسه بالحمد ولم يصف نفسه بالمدح، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ولم يقل: أمدح الله رب العالمين.
الحمد: ثناء على الله -عز وجل- مع حبه وإجلاله وتعظيمه -سبحانه وتعالى-.
والحمد أعم من الشكر من وجه وأخص من وجه، فالحمد والشكر بينهما عمومٌ وخصوصٌ وجهي، يجتمعان في شيء، ويختلفان في شيء.
فالشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح فمن هذه الجهة يكون الشكر أعم؛ ولهذا قال سبحانه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ .
فالشكر يكون بالقول ويكون بالعمل ويكون بالقلب (باللسان وبالقلب وبالجوارح)، أما الحمد فإنه يكون باللسان مع اعتقاد القلب؛ ولهذا قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
والحمد أيضًا يكون في مقابل الجميل وبدون مقابل، فالله تعالى يُحمد لِمَا اتصف به من الصفات العظيمة، وبما أنعم به على عباده من النعم العظيمة، خلقهم وأوجدهم من العدم، ورباهم بنعمه، وهداهم وعلمهم وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة، فهو -سبحانه وتعالى- يستحق الحمد؛ لما اتصف به من الصفات العظيمة، والأفعال الجميلة، ويستحق الحمد؛ لإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-.
أما الشكر فإنه يكون في مقابل النعمة، تشكر الشخص في مقابل الإحسان، أما إذا لم يكن هناك إحسان فلا يكون هناك شكر، وبهذا يكون الحمد أعم من جهة وأخص من جهة، الشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، والحمد يكون باللسان، والحمد يكون في مقابل النعمة وفي غير مقابل النعمة، والشكر لا يكون إلا في مقابل النعمة.
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم"، هذه الرسالة -كما سبق- سماها المؤلف -رحمه الله-: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله".
والجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان السمرقندي نسبت إليه الجهمية التي تنفي الصفات عن الله -عز وجل-؛ لأنه أظهر هذه البدعة، وإن لم يكن هو أول مَن تكلم في هذه البدعة، فإنه سبقه إليها شخص آخر يدعى الجعد بن درهم سبق الجهم فهو أول من حُفظ عنه في الإسلام مقالة التعطيل.
والتعطيل الذي ابتدعه الجعد بن درهم إنما هو في كلمتين قال: إن الله لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، لكن هاتين الصفتين ترجع إليهم جميع الصفات، قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، فأنكر الخلة والمحبة، وقال: ليس هناك محبة ولا خلة ؛ لأن المحبة لا بد أن تكون لنسبة بين المحب والمحبوب، ولا نسبة بين الخالق والمخلوق.
وهذا معناه: قطع الصلة بين العباد وبين ربهم، وأنكر الجعد أن يكون الله كلم موسى تكليمًا، وإنكار التكليم معناه إنكار الرسالات والشرائع؛ إذ الرسالات والشرائع كانت بالكلام من الله تعالى، تكلم الله فأرسل الرسل وأنزل الكتب بالكلام، فإنكار الكلام إنكار للرسالات والشرائع؛ فلهذا أفتى العلماء -وهم من التابعين- بقتل هذا الرجل، وأنه يستحق القتل والإعدام، فقتله خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، لما أفتاه علماء أهل زمانه -وهم من التابعين- وذلك في يوم عيد الأضحى، خطب الناس بعدما صلى العيد، وقال في نهاية الخطبة -وكان الجعد عنده في أصل المنبر مقيدا- فقال في آخر الخطبة: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه ذبح الشاة، فشكره العلماء وأثنوا عليه، ومن هؤلاء العلامة ابن القيم في "الكافية الشافية" حيث قال:
ولذا ضحى بجعد خالد
القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله
كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ
لله درك من أخي قربان
ولا شك أن أهل السنة شكروه، ولا شك أن هذه الأضحية يزيد أجرها على كثير من الضحايا؛ لأن فيها قطعا لدابر الفتنة والفساد، هي أفضل من الأضحية، الأضحية سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذه فيها قطع لدابر الفتنة والبدعة والضلالة.
لكن الجهم بن صفوان كان قد اتصل به قبل أن يُقتل، وتقلد عنه هذه المقالة، وتبنى عقيدة نفي الصفات، ونشرها ودافع عنها حتى نسبت هذه المقالة للجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان وإلا فالأصل يقال: الجعدية لكن الجعد قتل في أول إظهاره لهذه البدعة قبل أن تنتشر، ثم نشرها الجهم بن صفوان
والجهم بن صفوان أيضًا قيض الله به من يقتله؛ حيث قتله سلم بن الأحوز أمير خراسان بها؛ ولهذا سمى المؤلف أحمد بن حنبل -رحمه الله- هذه الرسالة (الرد على الجهمية والزنادقة ).
الزنادقة جمع زنديق، ويطلق الزنديق على الملحد الجاحد للخالق، والمتحلل من الأديان، ويطلق على المنافق زنديق، كما ذكر شيخ الإسلام وغيره: كان السابقون يسمونه منافقا، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ثم اصطلح المتأخرون على تسميته بالزنديق، وهي كلمة فارسية معربة فهي تطلق على الجاحد المعطل المتحلل من الأديان، وتطلق على المنافق؛ ولهذا ذكر أهل اللغة -كما في المصباح المنير- قالوا: إن الزنادقة جمع زنديق وهو الذي لا يتمسك بشريعة، ويقول بدوام الدهر، وفي التهذيب للأزهري بأنه الذي لا يؤمن بالآخرة، ولا بوحدانية الخالق، هذا هو الزنديق.
إذًا الزنديق: يطلق على الملحد الجاحد المعطل، ويطلق على المنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان والإسلام.
وقول المؤلف يقول: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل" الزمان: معروف جمع أزمنة وهو الوقت، ويطلق على الوقت القليل والكثير، والسنة أربع أزمنة وهي الفصول الأربعة: الربيع والخريف والشتاء والصيف.
فالزمان: هو الوقت، والفترة: هي الانقطاع، والمعنى "على فترة من الرسل" يعني: على انقطاع بعثهم، ودروس أعلام دينهم.
وتطلق الفترة على ما بين الرسولين، ما بين عيسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- يسمى فترة "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" يعني: في الوقت الذي يكون فيه انقطاع واندراس أعلام الدين يقيض الله من أهل العلم بقايا يدعون الناس إلى الخير.
جاء في معنى كلام الإمام أحمد -رحمه الله- حديث: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها وهو حديث لا بأس بسنده، رواه أبو داود وغيره، فهذا يؤيد ما ذكره الإمام -رحمه الله- في هذه الخطبة.
"الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم" كلما اندرس الدين وضعف وحصل انقطاع ودروس من أعلام الدين فإن الله يهيئ من أهل العلم بقايا يدعون الناس إلى الحق ويبصرونهم ويردونهم إلى الصواب.
فالفترة: هي الانقطاع يقال: فتر عن العمل أي: انكسر حدته، وفتر عن الحر: إذا انكسر، والفترة من الرسل يعني: انقطاع ودروس أعلام الدين، ففي هذا الوقت يقيض الله للناس من يجدد دينهم ويدعوهم إلى الهدى؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى" يدعون الضال إلى الهدى، ويردونه إلى الصواب.
والضلال: هو الانحراف عن شرع الله ودينه يقال له: ضلال، والهدى: هو العلم النافع، والعلم النافع هو المأخوذ من الكتاب والسنة، فالذين انحرفوا عن الحق وعن جادة الصواب يدعوهم هؤلاء البقايا من أهل العلم في وقت زمان الفترة، يدعونهم إلى الهدى إلى العلم المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، "ويصبرون منهم على الأذى"، هكذا شأن الدعاة والمصلحين يتأسون بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- يصبرون على الأذى؛ لأن الداعية إذا دعا الناس إنما يقف في وجوه الناس ويصدهم عن رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم، وهم لا يرضون بذلك، فلا بد أن يؤذوه إما بالقول أو بالفعل، فلا بد من الصبر، فإذا لم يتسلح الداعية أو العالم بسلاح العلم فإنه لا يستطيع أن يقوم بالدعوة، لا بد من الصبر؛ ولهذا قال الله سبحانه في كتابه العظيم: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ والصبر لا بد منه في أداء الفرائض والواجبات، ولا بد منه في ترك المحرمات، ولا بد منه في الدعوة إلى الله، من لم يصبر لا يستطيع أن يقوم بالدعوة.
ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: إن هؤلاء العلماء هم البقايا من أهل العلم في الزمان الذي تندرس فيه أعلام الدين، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يصبرون إذا سبوهم أو شتموهم أو ضربوهم، ولا بد من الصبر تأسيًا بالرسل.
الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أوذوا وصبروا، كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبيًّا ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
ونوح -عليه الصلاة والسلام- أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم ويصبر هذه المدة الطويلة وهم يردون عليه ردًّا سيئًا، ويقابلونه مقابلة سيئة، ويقولون: إنه مجنون حتى أخبر الله عنه أنه قال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا .
هكذا كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يصبر، وأولو العزم لهم من القوة والصبر والتحمل والجلد ما ليس لغيرهم، حتى قال الله لنبينا -صلى الله عليه وسلم-: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فنبينا -عليه الصلاة والسلام- صبر صبرًا عظيمًا، دعا قومه بمكة ووضعوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد، وأتاه أبو جهل مرة فخنقه -عليه الصلاة والسلام- حتى جاء أبو بكر وأطلقه وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وكسرت رباعيته يوم أحد، وجُرحت وجنتاه، وسال الدم على وجهه -عليه الصلاة والسلام-.
فالصبر لا بد منه، فالصبر هو الذي يتحلى به الرسل والدعاة والمصلحون أسوة برسل الله، ومنزلة الصبر من الدين كمنزلة الرأس من الجسد، من لا صبر له لا دين له؛ ولهذا قال:" ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى" هؤلاء العلماء أتباع الرسل يحيون بكتاب الله الموتى؛ لأن الكافر ميت القلب، فإذا أسلم وآمن وقرأ كتاب الله وآمن به أحياه الله، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا .
فالكافر ميت القلب، وإن كان يمشي بين الناس؛ لأن الحياة الحقيقية حياة القلب؛ ولهذا سمى الله القرآن روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نورًا؛ لتوقف الهداية عليه، قال الله سبحانه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ؛ ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-:"يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى".
وهكذا الجاهل والضال والكافر أعمى القلب وإن كان يبصر؛ لأنه لا يرى الحق ولا يعمل به، والعمى في الحقيقة عمى القلب ليس عمى البصر؛ لأن الإنسان إذا عمي بصره وقلبه حيّ ودينه مستقيم فلا يضره، قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وقال سبحانه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ .
يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: " فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه" كم: للتكثير كم من قتيل كم من شخصٍ قتله إبليس فأحياه أهل العلم، كيف قتله إبليس؟ قتله: يعني: قطع رقبته بالسيف؟ لا. بل قتله بالإضلال، قتل روحه وقتل قلبه وقتل اعتقاده، قتله بأن سوّل له الكفر، سوّل له الضلال، سول له الانحراف، فكان بذلك قتيلًا لإبليس، هذا هو القتيل الحقيقي.
القتيل: هو الذي قتل قلبه، وهو الذي أزيل اعتقاده، ولم يعتقد اعتقادًا صحيحًا في الله وأسمائه وصفاته هذا هو القتيل، أما القتيل قتيل الجسد وعقيدته سليمة وأعماله مستقيمة لا يضره إذا كان مظلوما يكون شهيدا، لكن المصيبة قتيل الروح والاعتقاد والدين.
"فكم من قتيل" يعني: قتيل قُتِلَ دينه واعتقاده وتفكيره السليم، "فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه " يعني: ما أكثر الذين قتلهم إبليس وأحياهم العلماء؛ لأن "كم" هنا للتكثير، كما قال سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: كثيرا.
"فكم من قتيل لإبليس قد أحياه العلماء، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه" يعني: كثير من الضلّال الذين ضلوا عن الصواب وتاهوا عن طريق الحق قد هداه أهل العلم، ما أكثرهم! يعني: يقول الإمام أحمد ما أكثر الذين قتلهم إبليس فأحياه أهل العلم، وما أكثر الذين ضلوا عن الصواب وتاهوا عن الحق والهدى قد هداهم أهل العلم، هدوهم يعني: دَعَوْهُمْ إلى الحق، وبينوا لهم، وأوضحوا لهم، فهداهم الله بسببهم، "فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم!" فما أحسن أثر العلماء على الناس! وما أقبح أثر الناس على العلماء!.
قوله: "فما أحسن أثرهم " يعني: العلماء على الناس، "وأقبح أثر الناس عليهم " أي: على العلماء، "ما أحسن" للتعجب. ما هو أثر العلماء على الناس؟ دعوتهم وإرشادهم وتنبيههم والنصيحة لهم، ينقذونهم من ظلمات الشرك والجهل والبدعة إلى نور العلم واليقين والسنة، هذا أثرهم الحسن.
فهم ينقذونهم من الضلالة، ينقذونهم من الكفر، ينقذونهم من البدعة، هذا أثر عظيم يفوق إطعامهم وكسوتهم والنفقة عليهم؛ لأن الإطعام والكسوة والنفقة معروف فضلها، لكن هذه نفقة وإطعام وكسوة للجسد، والجسد في هذه الدنيا يهيئ الله له من يقيم أوده، ولكن التعليم والإنقاذ من الجهل والكفر والضلال والبدعة هذا أمر عظيم يفوق الإحسان إلى الناس بالمال.
ولهذا قال الإمام أحمد "وما أحسن أثرهم على الناس" وبالمقابل قال: "وأقبح أثر الناس عليهم" أثر الناس على العلماء هو أنهم يؤذون العلماء ولا سيما الجهال، فهم يسبونهم يشتمونهم ويرمونهم بالبدعة، وقد يقتلونهم حتى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ماذا فعل بهم أقوامهم وهم مقدمة العلماء وهم أعلم الناس بالله -عز وجل- إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة السلام- هم أعلم الناس بالله، ثم أتباعهم من بعدهم، وأثر الناس على الأنبياء ضربوهم وجرحوهم وشتموهم وقتلوا بعضهم.
قال تعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ زكريا -عليه الصلاة السلام- قُتِلَ، ويحيى -عليه الصلاة والسلام- قُتِل، أثر الناس عليهم قبيح وسيئ؛ لأنهم دعوهم إلى الله، وهم بدعوتهم إلى الله ينقذونهم من الجهل والكفر بعض الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه.
وبعض العلماء سُجِن، وبعض العلماء ضُرب بالسياط كالإمام أحمد -رحمه الله-، ضرب وسُحِب وسُجِن هذا أثر الناس على العلماء.
أما أثر العلماء على الناس فهو حسن؛ ولهذا قال الإمام أحمد " ما أحسن أثر العلماء على الناس وأقبح أثر الناس عليهم".
أثر الناس على العلماء سيئ بالقتل والضرب والسجن والإيذاء والشتم والرمي بالبدعة والتكفير إلى غير ذلك.
وأما أثر العلماء على الناس فالدعوة والإرشاد والإيضاح والإنقاذ من الجهل؛ لذا قال الإمام أحمد "ما أحسن أثرهم أي العلماء على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم أي: العلماء".
ثم قال -رحمه الله- يبين وصف العلماء وأعمالهم الجليلة قال: "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين" هذه من أعمالهم، النفي: الإزالة أي: يزيلون ويبعدون عن كتاب الله تحريف الغالين.
والتحريف: التغيير والتبديل، وتحريف الكلام أن يعدل به عن جهته. وقول الله تعالى: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أي: إلا مائلًا لأجل القتال لا مائلًا للهزيمة، وتحريف الكتاب يكون باللفظ ويكون بالمعنى، قد يحرف اللفظ وقد يحرف المعنى، فمن تحريف اللفظ تحريف بعض الجهمية قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا بنصب لفظ الجلالة حتى يكون الله هو المُكلَّم، وموسى المُكَلِّم، فهم بهذا ينفون الكلام عن الله.
ومن تحريف المعنى تحريف بعض الجهمية لما استدل عليهم بعض أهل السنة على إثبات الكلام بقوله سبحانه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا قال الجهمي: "وكلم الله هو المُكَلَّم ولا يتكلم. فقال له: كيف تفعل بقول الله -عز وجل-: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فقال: جرحه بأظافير الحكمة، هذا تغيير للمعنى من الْكَلْم يعني: الجرح، ومنه قول العرب: فلانٌ كَلْمه يدمي أي: جرحه.
ومن ذلك أيضًا تحريف الجهمية والمعتزلة لمعنى قوله: استوى باستولى.
وكذلك تحريفهم معنى الرحمة بإرادة الإنعام، والغضب بإرادة الانتقام، والرضا بإرادة الثواب.
فالعلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، الغالي: هو الشيء الذي يزيد عن الحد، يقال له: غالي، يقال: غلا في الدين غلوًّا: من باب تصلب وشدد يقال: غلا في الدين، ومنه قول الناس: غلا السعر، أي: ارتفع، وغلت القدر، وغلا في الأمر غلوًا أي: جاوز الحد، ومنه قول الله تعالى: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ .
فالغلاة في هذا: الذين يغلون كثيرون منهم من غلا في الصفات، ومنهم من غلا في القَدَر، ومنهم من غلا في الصحابة فمثلًا: الجهمية والمعتزلة ينفون الصفات عن الله -عز وجل- والأسماء، هذا تعطيل وتقسيم بزعمهم أنهم ينزهون الله، هذا غلو في التنزيه، هذا يصلح مثال غلو في التنزيه، قالوا -بزعمهم-: نحن الآن نريد أن ننزه الله، كيف تنزهون الله؟ قالوا: لو أثبتنا لله أسماء وصفات لشابه المخلوقين، فنحن ننزه الله عن مشابهة المخلوقين، فننفي الأسماء والصفات.
نقول: هذا غلو في التنزيه زدتم عن الحد، التنزيه أن يقال: إن الله لا يشبه أحد المخلوقين في أسمائه وصفاته، لكن لا تنفوا عنه الصفات، له أسماء وله صفات -سبحانه وتعالى - تليق بجلاله وعظمته، لا تشبه صفات المخلوقين، لا يشابه الله أحدًا من خلقه لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، أما هؤلاء غلوا فزادوا حتى نفوا الأسماء والصفات عن الله، فالعلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين.
كذلك أيضًا المشبّهة الذين غلوا في الإثبات، قالوا: نحن نثبت لله الأسماء والصفات، لكن نقول: لله أسماء وصفات مثل صفات المخلوقين، ومثل أسماء المخلوقين، وأن الله يعلم كعلمنا ويقدر كقدرتنا، ويرى كرؤيتنا.
قالوا: إن الله مثل الإنسان على صورة الإنسان، حتى قال غلاتهم -من الشيعة الغلاة الكفرة-: إن الله يندم ويحزن ويبكي، وأنه ينزل عشية عرفة ويُسامر ويُحاضر ويُصافح، وينزل عشية عرفة على جمل -قبحهم الله- وأغلبهم من غلاة الشيعة كفرة.
هذا غلوّ، زادوا غلوا في الأسماء والصفات حتى قالوا: إن الله مثل المخلوقين-تعالى الله عن ذلك-، فهذا الغلو ينفيه أهل العلم، هذا معنى قول الإمام أحمد ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين".
كذلك القَدَرية القَدَرية طائفتان: النفاة والغلاة، فالنفاة يقولون: إن الله تعالى لم يقدر أفعال العباد وأن العباد خالقون لأفعالهم، هذا غلو في إثبات أفعال العباد، ويستدلون بالمتشابه، كما قال الإمام أحمد حتى قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم ويستدلون بمثل قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ .
ويقولون: إن العبد يستحق الثواب على الله، كما يستحق الأجير أجره؛ لأنه هو الذي خلق فعله؛ لقوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كما أن العاصي الذي يموت على الكبيرة يجب على الله أن يعذبه به وأن يخلده في النار، هكذا أوجبوا على الله، هذا غلوّ.
وهناك القدرية الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله، وأنه ليس له أفعال، وأفعاله كلها اضطرارية، كحركات المرتعش والنائم، ونبض العروق، فهؤلاء غلاة، هؤلاء غلو في إثبات أفعال العباد، حتى قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم.
وأولئك غلوا في سلب العبد لأفعاله، حتى قالوا: إنه لا أفعال له، وأن أفعاله كلها اضطرارية، فهذا غلو وهذا غلو، فالعلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين.
إذًا هذا كله من التحريف، كله من الغلو الذي ينفيه العلماء عن كتاب الله -عز وجل، وهؤلاء وهؤلاء كلهم يستدلون بالقرآن، لكن كما قال الإمام أحمد يستدلون بالمتشابه، ويشككون الناس، ويتأولون القرآن على غير تأويله؛ ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين"، انتحال نسبة الشيء، وهو أن ينسب إليه شيءٌ ليس فيه؛ ولهذا في اللغة: نحلته القول: إذا أضفت إليه قولًا قاله غيره وادعيته عليه، ونحله القول: -في القاموس- نحله القول: كمنعه نسبه إليه، فالمبطلون ينسبون للقرآن ما ليس منه كما سيأتي في الأمثلة الكثيرة التي يذكرها الإمام أحمد -رحمه الله- أنهم يقولون مثلًا: إن في القرآن أن الناس يُعَذَّبُون بغير جرم يستدلون بمثل قوله تعالى: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا .
هذا من المتشابه، هذا من نسبة المبطلين للقرآن ما ليس منه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قالوا: إن القرآن فيه أن هناك أرضا ثانية غير هذه الأرض، ويستدلون بالآية مثلًا، وسيأتي الجواب على هذا.
هذا من الباطل الذي نسبه المبطلون إلى القرآن، فالعلماء ينفون عن القرآن انتحال المبطلين.
أرجو بيان توجيه أهل السنة لهذين الحديثين: قوله -صلى الله عليه وسلم-: أما إنك لو زرته لوجدتني عنده ما مفهوم العندية هنا؟
الحديث هذا سيأتي أوله يقول الله تعالى في الحديث القدسي: مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدت ذلك عندي، عبدي جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي استسقيتك فلم تسقني، قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي استسقاك فلو أسقيته لوجدت ذلك عندي .
فالحديث صريح بأن الله لم يمرض، ولم يأكل، ولم يشرب، وإنما العبد هو الذي مرض وطعم وسقي، ومعنى وجدت ذلك عندي أي: ثواب ذلك عندي وإلا فالله مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، وهذه نصوص محكمة، النصوص التي فيها إثبات العلو وأن الله فوق العرش يقول العلماء: أكثر من ثلاثة آلاف نص كلها تدل على أن الله في العلو، وأن الله فوق السماوات، ولا يتعلق بمثل هذا الحديث المتشابه إلا أهل الزيغ، كما قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فالحديث صريح في أن الله ما مرض، ولا طعم ولا شرب، وإنما هذه من العبد أما علمت أن عبدي مرض؟ أما علمت أن عبدي جاع؟ أما علمت أن عبدي استسقى؟ فالعبد هو الذي مرض وهو الذي جاع، وهو الذي استسقى، لوجدت ذلك عندي يعني: ثوابه.
هل الجهمية كفار؟
ذكر ابن القيم أنه كفرهم خمسمائة عالم قال:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام قد حكاه عنهمُ
بل قد حكاه قبله الطبراني
ومن العلماء من كفر الغلاة، منهم من كفرهم بإطلاق، ومنهم من بدعهم، ومنهم من كفر الغلاة دون العامة، وهذا القول وسط له وجاهته، لا بد من قيام الحجة وإلا العلماء لهم نصوص كثيرة في تكفير الجهمية
هل الإباضية من الزنادقة ؛ لأنهم يؤولون الصفات، وما حكم الصلاة خلفهم؟
الإباضية طائفة من الخوارج والمعروف عند جمهور العلماء أن الخوارج مبتدعة وليسوا كفارًا، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إن الصحابة عاملوا الخوارج معاملة المبتدعة ولم يعاملوهم معاملة الكفار. سُئِلَ الإمام علي -رضي الله عنه- عن الخوارج أهم كفار؟ قال: من الكفر فروا.
فالمشهور عند جمهور العلماء أنهم مبتدعة، وبعض العلماء كفرهم، واستدل بالأحاديث التي فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتلهم قال: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وفي بعضها: يمرقون من الدين ثم لا يعودون إليه وفي بعضها: لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد شبههم بقوم عاد وهم قوم كفار، والأحاديث في الصحيحين وفي غيرهما فاستدل بعض أهل العلم بكفرهم بهذه الأحاديث وهي أحاديث قوية، لكن الجمهور على أنهم مبتدعة، وعليه عمل الصحابة كما بين ذلك شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم.
بعض المتعالمين في بلدنا يقول: إن الأمة الآن محتاجة للتكاتف والتجمع، وبعض الشباب -هداهم الله- يسهرون الليل وهم يدرسون ويقولون: إن الله فوق العرش، وإن الله له يد، ويقول ذلك مستهزئًا، فما ردكم على مثل ذلك؟
الأمة محتاجة للاجتماع على الحق لا الاجتماع على الباطل، والحق لا يكون إلا باعتقاد صحيح، ولا بد للمسلم أن يعتقد أن الله فوق العرش، وأن الله له يد، من لم يعتقد أن الله فوق العرش فهو كافر، كيف تجتمع الأمة بدون عقيدة؟! لا بد من الاجتماع على الحق، الاجتماع على الباطل لا يفيد، الكفار ما أكثرهم!.
لا بد من الاجتماع على الحق، والذي يقول هذا يخشى عليه من الردة إذا كان يستهزئ بالصفات، نسأل الله السلامة والعافية.
هل بيان الأخطاء والتحذير منها من منهج السلف الصالح؟
نعم، يُبين الخطأ ويرد على المبطل، ما زال العلماء يردون قال الإمام مالك ما منا إلا راد أو مردود عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لا بد من بيان الحق، لكن مع التأدب مع العلماء، فالعالم إذا تكلم بكلام وأمكن مناصحته فهذا طيب، أما إذا نشر شيئا فلا بد أن يرد منشورا، إذا لم يرجع هو وينشر نقضًا للباطل الذي نشره، فلا بد أن يرد عليه حتى يرد الباطل بالحق، أما كون الإنسان يتتبع سقطات العلماء أو زلات العلماء فهذا شيء آخر في الكتب وفي غيرها، لكن التنبيه لا بد منه.
الصفات الذاتية والفعلية التي لم تثبت لله -تعالى- لا في الكتاب ولا في السنة فهل لنا أن ننفيها أم نثبتها أم نتوقف مثل الفم والشفتين والحيز والجهة وغيرها أحسن الله إليكم؟
الذي لم يثبت في الكتاب ولا في السنة ليس من الصفات، ما يقال: ذاتية ولا فعلية قاعدة عند أهل العلم الصفات توقيفية أي: يوقف فيها على الكتاب والسنة، ما جاء في الكتاب والسنة إثباته وجب إثباته، وما جاء في الكتاب والسنة نفيه وجب نفيه، وما لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة نتوقف فيه، ما نثبته ما نقول: إثبات فم ولسان وشفتين، لا بد من دليل، الصفات توقيفية، أما ما يطلقه أهل البدع من الجسم والحيز والعرض وغيرها، هذه يُتوقف فيها، لا يطلقونها لا نفيًا ولا إثباتًا، ومن أطلقها يُسأل عن مراده، إن أراد حقا قبل الحق ولكن يقال: عبر بالتعبيرات التي جاءت بها النصوص، وإذا أراد باطلًا رُد اللفظ والمعنى جميعًا.
فضيلة الشيخ يقولون: إن الإمام النووي -رحمه الله- كان أشعريًّا فهل هذا صحيح؟
نعم مشى على طريقة الأشاعرة وكذلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في تأويل الصفات، وقد لا يكون أشعريًّا يتمذهب بالأشعرية، ولكن في مسألة الصفات شرح صحيح مسلم مشى نفي الصفات وكذلك الحافظ ابن حجر ولكن هؤلاء العلماء الكبار السبب في هذا أنهم ما وفقوا منذ الصغر في وقت الطلب لمن ينشئهم على معتقد أهل السنة والجماعة وظنوا أن هذا هو الحق وأن هذا هو التنزيه، ونسأل الله أن يغفر لنا ولهم، وأن يكون هذا الخطأ مغفورا في بحور حسناتهم الكثيرة فإنهم علماء وأئمة وفطاحل من أهل العلم، لكن حصلت لهم هذه الغلطات وهذه الهفوات لا عن عمد؛ ظنا منهم أن هذا هو الحق بسبب أنهم نشئوا على هذا المعتقد معتقد الأشاعرة وظنوا أن هذا هو الصواب.
حديث: إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن هل في ذلك دليلٌ على الحلول؟
ليس في هذا دليل على الحلول، كما يليق بجلال الله وعظمته، والبينية أمرها واسع، أمَا تقرأ قول الله تعالى: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هل هناك ملامسة؟ السحاب بين السماء والأرض بينية، لا يلزم من البينية الملامسة، ولا يلزم من ذلك الحلول، أين السحاب من السماء؟ وأين هو من الأرض؟ هل السحاب حال في السماء أو حال في الأرض؟ لا.
ملاحظة: لم تكتب مناقشة الشيخ للطلاب؛ لأنها مذكورة في الشرح.
"الحمد لله" الله أعرف المعارف، وهو لفظ الجلالة، وأصل الله: الإله، سُهّلت الهمزة، ثم التقت اللام واللام فشددا. الله: علم على الذات المقدسة، علم على الرب -سبحانه وتعالى- ، لا يسمى به غيره، وهو مشتق من الألوهية، أَلهَ يأْلَه: إذا عبد، أله يأله إلهةً: عبد يعبد عبادة، فالله هو الاسم على الذات العلية، أعرف المعارف، كل أسماء الله -سبحانه وتعالى- مشتقة مشتملة على الصفات، تدل على صفة الألوهية، "الله": اسم للإله وهو يدل على صفة الألوهية مثل الرحمن: اسم مشتمل على صفة الرحمة، العليم: اسم مشتق من صفة العلم، قدير: اسم مشتق من صفة القدرة وهكذا.
وأسماء الله قسمان: قسم خاص به لا يسمى به غيره، وقسم مشترك الله خاص به لا يسمى به غيره -سبحانه وتعالى-، علم على الرب -سبحانه وتعالى-، الرحمن: كذلك علم لا يسمى به غيره؛ ولهذا لما تسمى مسيلمة الكذاب بالرحمن لزمه ولصق به وصف الكذب، فلا يطلق مسيلمة إلا ويوصم بالكذب، فيقال: مسيلمة الكذاب ؛ لأنه تسمى بالرحمن -قبحه الله- وهو كذاب.
والأسود العنسي ادعى النبوة باليمن لكن لا يقال ولا لصقه اسم الكذب، لا يقال: الأسود العنسي الكذاب وهو كذاب، لكن لزم مسيلمة ؛ لأنه تسمى باسم الرحمن، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب
مالك الملك، خالق الخلق، النافع الضار المحيي المميت، هذه كلها أسماء خاصة بالله. وهناك أسماء مشتركة مثل العزيز العليم الحي القدير السميع البصير، كل هذه مشتركة تطلق على الله وعلى غيره: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وهكذا.
يقول الإمام أحمد في خطبته: "الحمد الله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم".
الزمان: يطلق على الوقت القليل والكثير، "فترة" المراد بالفترة تطلق على ما بين الرسولين، والمراد على فترة من الرسل: انقطاع بعثهم، واندراس أعلام دينهم، وهذا فيه إشارة للحديث: إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها .
"يدعون من ضل إلى الهدى" هذه خصلة ووظيفة الرسل وأتباعهم،يدعون من ضل إلى الهدى.
"ويصبرون منهم على الأذى"، لأن الداعية والعالم والمصلح -وقبلهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لا بد أن ينالهم أذى، إما بالقول أو بالفعل، فلا بد من الصبر، فإذا لم يصبر العالم أو الداعية فإنه لا يستطيع أن يقوم بواجبه؛ ولهذا قال: "ويصبرون منهم على الأذى".
"يحيون بكتاب الله الموتى" هذا وصف العلماء يحيون بكتاب الله الموتى، هل الناس موتى؟
نعم الجهل موت، قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ؛ لأن الحياة الحقيقية هي حياة الروح والقلب؛ ولهذا سمى الله القرآن روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقية عليه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ؛ ولهذا قال: "يحيون بكتاب الله الموتى".
"ويبصرون بنور الله أهل العمى" هل الناس عُمي؟ نعم الجاهل أعمى ولو كان يبصر بعينيه؛ لأن البصيرة هي البصر في الحقيقة، بصيرة الإنسان وعلمه هو النور الحقيقي؛ ولهذا سمى الله تعالى كتابه نورا قال: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
"فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه" يقول الإمام أحمد في خطبته: "فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه" هل إبليس يقتل الناس؟ نعم يقتل، بأي شيء يقتلهم؟ بإضلالهم وتسويل الشرك والمعاصي، فمن زين له الشيطان الشرك وأطاعه فقد قتله، والمعاصي قتل نسبي ليس قتلًا كاملًا، القتل الكامل هو قتله بالشرك، والمعاصي وسيلة إلى القتل الكامل؛ ولهذا قال: "فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه" يعني: العلماء أحيوا كثيرا ممن قتلهم إبليس من المشركين وعباد الأوثان، دعوا عباد القبور والأوثان وهم قد قتلهم إبليس، فدعوهم إلى الله فآمنوا ووحدوا وأخلصوا العبادة فأحيوهم أنقذوهم أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ أنقذوهم بتوفيق الله وهدايته، وكذلك العصاة والمبتدعة أنقذوهم منه؛ ولهذا قال: "كم"، كم: للتكثير. "فكم قتيل لإبليس قد أحيوه".
"وكم من ضال تائه قد هدوه" أي: كثير من الضلال الذين تاهوا عن الحق وضلوا الطريق المستقيم من المشركين والمبتدعة والضلّال العصاة قد هدوه، وبينوا لهم طريق الحق وطريق الصواب فاهتدى بإذن الله.(1/15)
شبهتهم في قوله تعالى " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها" والرد عليها
"فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم" المؤلف الإمام أحمد بن حنبل يتعجب من قبح أثر الناس على العلماء، ومن حسن أثر العلماء على الناس، "فما أحسن أثرهم" يعني: العلماء "على الناس، وأقبح أثر الناس على العلماء"، فما هو أثر العلماء على الناس؟ وما هو أثر الناس على العلماء؟
أثر العلماء على الناس الذي يتعجب الإمام من حسنه، ما هو؟ تعليمهم وهدايتهم وإرشادهم وإنقاذهم من ظلمات الشرك والبدع والمعاصي هذا أثر حسن، أنقذوهم من الضلال، أنقذوهم من النار هذا شيء حسن أحسن من إنقاذ أجسامهم، يفوق إنقاذ أجسامهم، فأنت إذا أنقذت غريقا أو حريقا ألا تكون أحسنت إليه؟ فالذي ينقذ المشرك والمبتدع أفضل وأعظم ممن ينقذ الغريق والحريق وأعظم أجرًا؛ لأن الغريق والحريق لو مات وهو مؤمن موحد لا يضر والموت لا بد منه، إذا مات المشرك على الشرك هلك هلاكًا أبديًا.
وبهذا يتبين أن إنقاذ العلماء للمشركين والمبتدعة والعصاة أعظم من إنقاذ رجال الإطفاء لأهل الحريق وإنقاذ الغريق وغيرهم ممن أشرف على الهلاك، وإن كان كل منه فيه فضل وأجر عظيم، لكن هذا أعظم. هذا أثر العلماء على الناس.
"فما أحسن أثر العلماء على الناس وأقبح أثر الناس عليهم" ما هو أثر الناس على العلماء؟ السب والتكفير والضرب والحبس والقتل أيضًا، ألم يقتل أحد من العلماء؟، بل الأنبياء قتلوا. قال الله سبحانه عن بني إسرائيل: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ .
زكريا قُتل -عليه الصلاة والسلام- ويحيى قتل، هذا أثر الناس على العلماء، وفي مقدمة العلماء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - إذًا منهم من قُتل، ومنهم من سجن، ومنهم من ضرب، ومنهم من حبس، ومنهم من أوذي، ومنهم من لطم، ومنهم من سب وشتم وضلل وكفر، هذه كلها أثر الناس على العلماء، "فما أحسن أثر العلماء على الناس وأقبح أثر الناس عليهم.
"ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين" هذه وظيفة العلماء ما المراد بالتحريف: التغيير والتبديل، والتغيير في القرآن قد يكون تغييرا في اللفظ وقد يكون تغييرا في المعنى، تغيير في اللفظ مثل تغيير بعض الجهمية قراءة قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا قرأها بنصب لفظ الجلالة، قال: "وكلم اللهَ موسى تكليمًا" حتى يكون موسى هو المكلّم، وقصدهم من ذلك إنكار أن يكون الله هو المكلِّم، فلما قال له بعض العلماء: هب يا عدو الله أنك استطعت أنك تحرف هذه الآية فكيف تقول في قول الله تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ما يستطيع تحريف لفظه حرف المعنى.
قال: المعنى جرحه بأظافير الحكمة، حرَّف المعنى قال: وعندي دليل أن العرب تقول: فلان كَلْمه يدمي أي: جرحه وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جرحه بأظافير الحكمة، هذا تغيير تحريف في المعنى، ومثله تحريف المبتدعة لمعنى استوى، قالوا: معناها استولى، تحريفهم للرحمة، قالوا: معناها الإنعام، والرضا: الثواب، والغضب: إرادة الانتقام.
"ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين" الغالين: أقسام: نفاة الصفات من المعتزلة والجهمية غلوا في التنزيه، زعموا أنهم ينزهون الله فزادوا وغلوا في هذا التنزيه حتى نفوا الأسماء والصفات عن الله -عز وجل-، هذا غلو فجاء العلماء ونفوا عن كتاب الله تحريف الغالين، كما أن الممثلة والمشبهة غلوا في الإثبات، حتى وصلوا للتشبيه، قالوا: نثبت الأسماء والصفات لله، ونقول إن الله يتكلم، يرضى، يغضب، لكن مثل صفات المخلوقين سواء بسواء، هذا غلو في الإثبات.
فجاء العلماء فنفوا هذا التحريف، كذلك القدر غلا فيه قوم فنفوا أفعال العباد، حتى جعلوهم لا يتحركون، جعلوهم كالريشة في الهواء، وهم الجبرية فقالوا: إن العبد لا فعل له، الأفعال هي لله، والحركات تنسب إليه مجازا، هذا إنكار للمحسوس، نرى الإنسان يتحرك ويذهب ويجيء، عنده اختيار في البيت، يستطيع أن يقوم، يستطيع أن يذهب، يستطيع أن يجلس، فجاء العلماء ونفوا هذا الغلو، وقالوا: إن العبد له فعل وله مشيئته، وله إرادة، لكنها تابعة لمشيئة الله وإرادة الله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ .
والقدرية النفاة غلوا بالعكس، ضد هؤلاء، غلوا في إثبات أفعال العبد حتى قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه استقلالًا من دون الله، قالوا: هو العبد هو الذي يخلق الطاعات والمعاصي، حتى يكون مستحقا للثواب إذا أطاع ومستحقًا للعقاب إذا عصى، حتى قالوا: إنه يستحق الأجر على الله، كما يستحق الأجير أجره؛ لأنه هو الذي خلق فعل نفسه، كما أنه إذا عصى وجب على الله أن يعذبه، وليس له أن يغفر له، وأن يخلده في النار إذا فعل الكبيرة.
فجاء العلماء ونفوا هذا التحريف، كذلك الخوارج والمعتزلة غلوا في الأسماء والصفات، في أسماء الدين والإيمان، فقالوا: من فعل المعصية والكبيرة كفر وخرج من الملة، ويستحلون دمه وماله، والمعتزلة يقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، هذا غلو.
فنفى أهل العلم هذا التحريف، وقالوا لهم: إن العبد لا يكفر، ولكن إيمانه يضعف إذا فعل المعصية، بدليل أن الله سمى العصاة مؤمنين، وقابلهم المرجئة فالمرجئة قالوا: إن العبد إذا آمن وعرف ربه بقلبه، وإذا فعل جميع المنكرات والكبائر لا يضره، وهو مؤمن كامل الإيمان، وهو يدخل الجنة من أول وهلة، عكس الخوارج والمعتزلة
هذا غلو منهم، فجاء أهل الحق، أهل العلم، فنفوا هذا الغلو، كذلك في الصحابة الروافض كفروا الصحابة وقالوا: إنهم كفروا وارتدوا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغلوا في أهل البيت حتى عبدوهم من دون الله، فجاء النواصب وهم الخوارج ونصبوا العداوة لأهل البيت هؤلاء غلوا، وهؤلاء غلوا، هؤلاء غلوا في أهل البيت حتى عبدوهم، والنواصب سبوا أهل البيت وآذوهم وعادوهم، وهم الخوارج
فجاء أهل الحق، وأهل العلم ونفوا غلو الرافضة وغلو النواصب وعرفوا لأهل البيت حقهم، لم يعبدوهم كما تفعل الرافضة ولم يؤذوهم ويعادوهم كما تفعل الخوارج بل أحبوهم ووالوهم، وهكذا لا يزال العلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله.
"وانتحال المبطلين" الانتحال: نسبة الشيء إلى القرآن أن ينسب إلى القرآن ما ليس منه، فهؤلاء المبطلون ينسبون إلى القرآن ما ليس منه، يقولون: إن القرآن دل على كذا، نسبوا إلى القرآن أن الله يعذب أحدا من دون جرم، واستدلوا بقوله تعالى بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا فجاء أهل العلم وبينوا ونفوا هذه النسبة الباطلة إلى القرآن، وقالوا: إن القرآن لم يدل على هذا، وإنما المعنى: أن جلودهم تتجدد، ليس المراد أنه يعذب أشخاصا آخرين.
وكذلك نفى العلماء عن كتاب الله "تأويل الجاهلين"، الذين أوّلوا القرآن على غير تأويله، والتأويل: له ثلاث معان مشهورة: معنيان صحيحان، ومعنى محدث، فالمعنيان الصحيحان: يطلق التأويل على الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كقوله سبحانه في قصة يوسف لما ذكر له الرؤيا في أول السورة إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قال في آخر الأمر وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ .
تحققت لما سجد له إخوته وأبواه قال: هذا تأويل رؤياي من قبل، هذه هي الحقيقة التي يئول إليها الكلام، وكذلك حقائق ما أخبر الله به في الجنة، في يوم القيامة تأويلها وقوعها، وكذلك الأوامر والنواهي تحقيقها تأويلها فعلها.
ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزل عليه إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا كان بعد ذلك يكثر أن يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك! اللهم اغفر لي، قالت عائشة -رضي الله عنها-: يتأول القرآن يعني يعمل به.
ويأتي التأويل بمعنى التفسير، تأويل الكلام: تفسيره، ومنه قول ابن جرير -رحمه الله- في تفسيره: القول في تأويل قول الله تعالى. يعني في تفسير قول الله تعالى.
ويطلق التأويل على صرف الكلام أو اللفظ عن المعنى الظاهر الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، هذا أحدثه المتأخرون، صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى المعنى الآخر لدليل يقترن به، هذا باطل مثل صرفهم معنى "استوى" إلى استولى، يقولون: استوى ظاهر أنه استواء حقيقي استقرار، استوى معناها: "استقر وعلا وارتفع وصعد"، هذا المعنى اللغوي، لكن كيفية الاستواء. الله أعلم.
المعنى اللغوي معروف كما قال الإمام مالك "الاستواء معلوم"، وهو الاستقرار والعلو والصعود والارتفاع، أما الحقيقة فهذه لا يعلمها إلا الله، تأويل أهل الكلام الباطل قالوا نؤوّل استوى بمعنى: استولى، فإذا قيل لهم: لماذا تؤولون؟ الاستواء المراد به هو الاستواء الحقيقي قالوا: لا- صحيح اللفظ الظاهر أنه الاستواء الحقيقي، هذا المعنى الظاهر وهو المتبادر، لكن نصرفه إلى معنى مرجوح، إلى معنى آخر وهو الاستيلاء، فإذا قيل لهم: لماذا؟ قالوا: عندنا دليل، وهو العقل يمنع أن يكون الله استوى على العرش؛ لئلا يلزم عليه أن يكون الله مشابها للمخلوق، إذا قلنا: إن الخالق استوى، والمخلوق استوى، شابه الخالق المخلوق؛ فلهذا عندنا دليل، فنصرف الاستواء عن المعنى الظاهر المتبادر إلى معنى آخر مرجوح.
والدليل: العقل الذي يدل على أن الله لا يمكن أن يكون مستويًا الاستواء الحقيقي، هذا باطل من تأويل الجاهلين الذي ينفيه أهل العلم، هذا مثال على قول المؤلف: "وتأويل الجاهلين".
كذلك أيضًا النزول أولوه، قالوا: ليس نزولًا حقيقيًا، صحيح المعنى المتبادر: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا أنه نزول حقيقي، قالوا: لا نصرفه إلى معنى بعيد، نقول: جاء أمره، فإذا قيل لهم: لماذا؟ قالوا: عندنا دليل، العقل يمنع أن نحمل النزول على معناه الحقيقي؛ لأن الله لا يجوز عليه الانتقال، والنزول من صفات المخلوقين.
نقول: هذا باطل، نحن الآن نقول: ينزل ولا نكيف النزول، وهكذا جميع الصفات التي أوّلها أهل الجهل والمبطلون وأهل الكلام، نفاها أهل العلم عن كتاب الله -عز وجل-، هذا معنى قول المؤلف -رحمه الله-:"ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".
ثم وصفهم الإمام -رحمه الله- بقوله: "الذين عقدوا ألوية البدعة"
هذا فيه بيان لشدة تمسك أهل البدع ببدعهم، من شدة تمسكهم كأنه جيش يُعقد له لواء، فقائد الجيش إذا عقد اللواء -خلاص- تم توجيه الجيش، إذا عقد اللواء وجه الجيش، يعني: ثبت، أما قبل أن يعقد اللواء قد يوجه الجيش، وقد لا يوجه.
فإذا عقد اللواء توجه الجيش، فهؤلاء عقدوا ألوية البدعة يعني: صمموا ولزموا البدعة كما أن قائد الجيش يصمم حينما يعقد اللواء للجيش، يصمم على إنفاذه، فهؤلاء عقدوا ألوية البدعة. أي: لزموها وتمسكوا بها وصمموا عليها.
"وأطلقوا عقال الفتنة" يعني: أن هؤلاء المبتدعة حينما أولوا كتاب الله ونسبوا إليه ما ليس منه، هذا فتنة فتنوا الناس عن دينهم وصرفوهم عن الحق، فكأنهم فتحوا باب الفتنة على مصراعيه، أطلقوا عقال الفتنة، الفتنة كانت ممسكة ثم أطلقها هؤلاء، كما أن البعير إذا أطلقت عقاله ذهب.
معروف عند العرب أن البعير إذا أُنيخ يكون هناك عقال تربط به يده حتى لا يقوم، وإذا ربطت اليدين أوثقته، ما يتحرك، فإذا أطلقت العقال قام وذهب.
العقال: هو الخيط أو الحبل الذي يربط به يد البعير "عقل البعير"، أمسك بهذا الحبل الذي يربط به يده، حتى لا يذهب، فإذا أطلقت العقال قام ومشى، فكذلك هؤلاء، كانت الفتنة معقلة ممسكة فجاء أهل البدع فأطلقوها فانتشرت -نسأل الله السلامة والعافية.
هذا بيان من الإمام -رحمه الله- كيفية نشر هؤلاء للفتنة والبدع أطلقوا عقال الفتنة فانتشرت بين الناس، وذلك بتحريفهم الذي فيه غلو، ونسبتهم إلى القرآن ما ليس منه، وتأويلهم الباطل؛ لهذا نشروا الفتنة بين الناس؛ ولهذا قال المؤلف: "الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، "فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب" الاختلاف في الكتاب اختلاف في تنزيله واختلاف في تأويله، فاختلاف في تنزيله بعض الناس قال: إن القرآن لم يتكلم الله به، وليس وصفًا من أوصافه، وإنما هذه الألفاظ والمعاني خلقها في غيره، فصار بها متكلما، كما يقول ذلك المعتزلة والجهمية
يقولون: إن الله ما تكلم بالقرآن، وليس وصفًا من أوصافه، لكنه نسب إليه على سبيل المجاز، فيقولون: إن القرآن مخلوق، هذه الألفاظ والمعاني خلقها في غيره، فصار بها متكلمًا، وإن كان واقعًا بقدرته ومشيئته إلا أنه لم يتكلم به.
وقال آخرون: إن الله تكلم، إن هذا القرآن وصف من صفاته، لكنه ليس واقعًا بقدرته ومشيئته، السالمية قالوا: إن القرآن وصف قائم بالله، ألفاظه ومعانيه، لكنه لا يتعلق بقدرته ومشيئته والكلابية والأشاعرة قالوا: إنه وصف قائم بالله إلا أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ومع قولهم: إنه وصف بالله قالوا: إنه ليس حرفًا ولا صوتًا، وإنما هو معنى قائم بنفسه، كما يقوم العلم به.
فهذا اختلاف في تنزيله، وكذلك الاختلاف في تأويله، اختلفوا في تأويله، كل يؤول القرآن على تأويله الذي هو يعتقده، ويرد المعنى الذي يقوله غيره، كل منهم يجعل رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه، ويجعل رأي غيره هو المتشابه الذي يجب نفيه أو تأويله.
فالجهمية يقولون: قولنا هو الحق في نفي الأسماء والصفات، وقول المعتزلة هو الباطل.
والأشاعرة يقولون: قولنا هو الحق، وقول المعتزلة هو الباطل.
فكل منهم يتأول القرآن على غير تأويله، ويقول: إن قوله ومذهبه هو الحق، وقول غيره هو الذي يجب تأويله أو تفويضه، هذا اختلاف في الكتاب.
"فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب" خالفوا الكتاب، كل يدعي أن قوله هو الصواب وهو الحق، ويتأول القرآن على غير تأويله، ويضرب كتاب الله بعضه ببعض.
كما ثبت في الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يومًا على بعض أصحابه، وهذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فُقئ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: أبهذا أمرتم؟! أم بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! فما علمتم منه فاعملوا به، وما لم تعلموا فكِلوه إلى عالمه أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
هذا اختلاف في الكتاب كل واحد ينزع بآية، كل واحد يقول: إن قولي هو الحق، فيستدل بالقرآن على قوله، والآخر يستدل بالقرآن على قوله، ويضرب كتاب الله بعضه ببعض، فهذا مخالفة للكتاب. الله تعالى أمر بالاعتصام بكتابه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا فالاختلاف والتفرق هذا مخالفة للكتاب الذي أمر الله به بالاعتصام به ولزومه، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا .
فالمعتزلة يقولون: إن قولنا هو الحق، وقول الجهمية هو الباطل، والخوارج كذلك يقولون: إن قولنا هو الحق، الأدلة عندنا تدل على أن العاصي مخلد في النار إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ويقولون: هذا هو الحق، وقول أهل السنة هو الباطل، الذي يجب تأويله، والمعتزلة يقولون: إن قولنا هو الحق النصوص تدل على أن العاصي خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر.
والمرجئة يقولون: قولنا هو الحق والنصوص تدل على أن المؤمن لا يضره شيء مع إيمانه.
وهكذا
فكل يدعي وصلا لليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا
فكل من هؤلاء المبتدعة يدعي أن قوله هو الحق، وأن قول خصمه هو الباطل الذي يجب تأويله وتفويضه. فهذا مخالفة للكتاب "وهم مجمعون على مفارقة الكتاب"، حيث لم يعملوا بالقرآن، وقالوا: إن دلالة القرآن لفظية لا تفيد اليقين، فهي مظنونة. فالمتواتر القرآن والأحاديث المتواترة هذا قطعي الثبوت، لكنه ظني الدلالة.
فمثلًا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يقولون: هذه قطعية ثابتة ما في إشكال، قرآن.
وكذلك السنة المتواترة، لكن كونه يدل على الاستواء الحقيقي هذا مظنون، ظني؛ لأنه قد يراد به الاستيلاء، فالدلالة ظنية، وأما أحاديث الآحاد، قالوا: هذه ظنية الثبوت وظنية الدلالة لا يحتجون بها لا من جهة السند ولا من جهة المتن، فثبوتها ظني، والدلالة ظنية.
القرآن ليس لهم حيلة فيه في أن يقولوا: ليس بثابت، يقولون: صحيح قطعي الثبوت لكن ظني الدلالة، فسدوا على القلوب معرفة الله بأسمائه وصفاته من كتاب الله -عز وجل-، وقالوا ثم إن القرآن والسنة أدلة لفظية أدلة نطقية والأدلة اللفظية والنطقية لا تفيد اليقين ما تفيد إلا الظن، ما الذي يفيد اليقين؟
قالوا: الذي يفيده اليقين هو الأدلة العقلية، يسمونها القواطع العقلية براهين يقينية، وهي المقدمات التي يرتبها أهل المنطق، ويستخرجون النتائج منها، مثل قولهم: الله ليس بجسم، وكل ما ليس بجسم لا يُرى، فالنتيجة: الله لا يرى. هذا مثلًا يركبون الدليل من مقدمتين ونتيجة: الله ليس بجسم وكل ما ليس بجسم لا يرى، فالنتيجة: الله لا يرى، يقول: هذا دليل قطعي يقيني، برهان يقيني، أما القرآن والسنة أدلة لفظية، والأدلة اللفظية لا تفيد اليقين.
إذًا أبطلوا الاحتجاج بالقرآن والسنة. هذا معنى قول المؤلف -رحمه الله-: مجمعون على مفارقة الكتاب "فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب".
"يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم" يقولون على الله بلا علم، في أسمائه وصفاته وشرعه، يقولون بغير علم، القول على الله بلا علم من أعظم الجرائم، وأعظم الكبائر، حتى إن الله -سبحانه وتعالى- جعله فوق الشرك بالله -عز وجل-، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ .
جعله في مرتبة فوق الشرك، لأنه يشمل الشرك ويشمل غيره، كل مشرك قد قال على الله بلا علم، بلسان المقال وبلسان الحال، من عبد مع الله غيره أو أشرك بالله أو جحد أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة فقد قال على الله بلا علم.
والقول على الله بلا علم يشمل الشرك ويشمل الضلال والبدع، كله قول على الله بلا علم، وقد جعل الله القول بغير علم من إرادة الشيطان في قوله -عز وجل-: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فجعله من أمر الشيطان.
فالقول على الله بلا علم هذا من أعظم الجرائم والكبائر، ومن ذلك أن يقول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته، كقول بعض المبتدعة: إن هذه الأسماء ليست أسماء الله وإنما هي أسماء لمخلوقاته.
هذا قول على الله بلا علم، القول بأن معنى "استوى": استولى قول على الله بلا علم، القول أن الله حرم كذا أو أباح كذا في الشرع بغير دليل قول على الله بلا علم، وهو يشمل القول على الله بلا علم في أسمائه وفي صفاته وفي شرعه، وشمل الشرك والبدع والمعاصي.
فالمشرك قائل على الله بلا علم؛ ولهذا قال المؤلف - الإمام أحمد "يقولون على الله بغير علم" في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ودينه، الذي يفتي بغير علم، قال على الله بلا علم، إن الله أباح كذا أو حرم كذا على غير بصيرة فهو قائل على الله بلا علم وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
فإذًا القول على الله بلا علم مرتبة فوق مرتبة الشرك؛ لأنه يشمل الشرك وما دونه ويشمل القول على الله بلا علم، في أسمائه وصفاته وأفعاله أو في شرعه ودينه.
"ويقولون في الله بغير علم" يقولون: إن الله ليس على العرش، هذا قول في الله بغير علم، المبتدعة يقولون: إن الله لم يستو على العرش، والحلولية يقولون: إن الله حل في كل مكان، والمعتزلة الذين ينفون أسماءه وصفاته قالوا في الله بغير علم.
كما أن القول على الله بغير علم يشمل ما يقوله القدرية وما يقوله الجبرية وما يقوله الخوارج والمعتزلة من أن القرآن دل على كذا، هذا قول على الله بغير علم.
"وفي كتاب الله" أيضًا يقولون في كتاب الله بغير علم -كما سبق- يقولون: إن كتاب الله دل على أن الله لم يتصف بالصفات؛ لأنها أسماء لمخلوقاته.
يقولون: إن كتاب الله دل على أن العاصي مخلد في النار، كما يقول الخوارج يقولون: إن كتاب الله دل على أن المؤمن يخرج من الإيمان بالمعصية، وهكذا كذلك يشمل من قال في كتاب الله ونسب إلى كتاب الله ما ليس منه كما سيتبين من ذكر المؤلف -رحمه الله- الأمثلة الكثيرة.
يقولون: إن كتاب الله دل على أنه لم يتصف بالصفات، دل على أن العاصي يخلد في النار، أن العاصي يكفر، هذا قول على الله بلا علم، هذا معنى قول المؤلف: "يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم".
"يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس" يتكلمون بالمتشابه من الكلام كما ذكر المؤلف يعني يأتون بالآيات المتشابهة ويتأولونها على غير تأويلها، يخدعون بذلك الجهال بما يشبهون عليهم.
"فنعوذ بالله من فتن المضلين" وسيسرد المؤلف -رحمه الله- أمثلة، سيذكر اثنين وعشرين مثالا في بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله، وهو قول على الله بلا علم، وقول في كتاب الله بغير علم. كل هذه الأمثلة أمثلة لقول الإمام -رحمه الله-: "يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين".(1/16)
شبهتهم في قوله تعالى " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها" والرد عليها (تابع)
قال -رحمه الله تعالى-: باب ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن قال أحمد في قوله -عز وجل- كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قالت الزنادقة فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم جلودًا غيرها؟! فلا نرى إلا أن الله يعذب جلودًا لم تذنب حين يقول: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض؟
- هذه الشبهة الآن، جواب الإمام عن هذه الشبهة. -
فقلت: إن قول الله: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ليس يعني جلودًا غير جلودهم وإنما يعني بدلناهم جلودًا غيرها، تبديلها: تجديدها؛ لأن جلودهم إذا نضجت جددها الله؛ وذلك لأن القرآن فيه خاص وعام، ووجوه كثيرة، وخواطر يعلمها العلماء.
إلى هنا انتهى جواب الشبهة، انتهى المثال الأول.
إذًا المثال الأول: هو أن المشبهة والزنادقة قالوا في قول الله تعالى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا في آية النساء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ قالوا: الله تعالى قال: بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا إذًا يعذب الله جلودًا لم تذنب، ويلزم من ذلك أن يكون الله ظالما، تعالى الله عما يقولون ، عذب أحدا بغير جرم، عذب جلودًا ما أذنبت. وهذا باطل.
المؤلف -رحمه الله- يقول: هذا من أبطل الباطل، أيها الزنادقة ليس المراد بالتبديل هنا تبديل الجلود، أنها يؤتى بجلود أخرى تُعذب. لا المراد بالتبديل: التجديد، جلودهم هي نفسها تُجدد، تبديل تجديد لا تبديل جلود أخرى وذوات أخرى، هذا تبديل تجديد، كما أن الكافر يوسع جلده في النار حتى يشتد العذاب.
كما أن من مانع الزكاة -كما في الحديث-: أنه ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت لهم صفائح من نار، فيحمى عليها...، كلما بردت أعيدت.. قال العلماء: ليس... لا يوضع درهم على درهم، ولا دينار على دينار، وإنما يوسع جلده حتى يشمل هذه الدراهم والدنانير التي منع الزكاة، ولو كانت أوراقا نقدية يجعلها الله شيئًا قويًا كالدراهم والدنانير، حتى يعذب.
فهذا تبديل تجديد، ليس تبديل جلود أخرى. قد يقول قائل: هذا تأويل بدلناهم جلودًا غيرها؟ ظاهر الآية أنها جلود أخرى، فكيف تتأولون؟ المؤلف أجاب قال: "لأن القرآن فيه خاص وعام، ووجوه كثيرة وخواطر يعلمها العلماء".
القرآن فيه خاص وعام ووجوه كثيرة وأفهام يعلمها العلماء؛ لأن القرآن يضم بعضه إلى بعض، النصوص يُضم بعضها إلى بعض من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الله تعالى قال: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وقال: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الله تعالى لا يظلم أحدًا، فلا يمكن أن يعذب أحدًا بغير جرم، ولا يمكن أن يعذب أحدًا لم يذنب، والله تعالى نزه نفسه عن الظلم، ونفاه عن نفسه، وحرم الظلم على نفسه، كما في الحديث القدسي -حديث أبي ذر - يقول الله -تبارك وتعالى-: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا .
فالله تعالى حرم الظلم على نفسه فلا يمكن أن يظلم أحدًا، فلو كان المراد جلودا أخرى لكان ظالمًا والله تعالى منزه عن الظلم، لا يمكن هذا ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ .
وإذا كان يوسف -عليه الصلاة والسلام- لما جعل الصواع في رحل أخيه وأخذ أخاه؛ لأن معه الصواع. جاء أخوته يطلبون منه أن يأخذ أحدهم مكانه: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .
ماذا كان الجواب؟ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ هذا هو الظالم الذي أخذ الصواع، هو الذي نأخذه، نأخذ واحدا بدله، هذا ظلم مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ .
إذا كان يوسف -عليه الصلاة والسلام- لا يأخذ واحدا بدل واحد، فكيف يقال: إن الله يعذب جلودًا لم تذنب، فليس هذا تأويلًا مخالفا لظاهر القرآن، بل هو تفسير للقرآن بالقرآن، فالقرآن يضم بعضه إلى بعض، الله نفى الظلم عن نفسه، فلا يمكن أن تكون جلودا أخرى، وإنما المراد المراد بالتبديل: تجديد جلود بجلود. ونظير هذا تبديل الأرض يوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ .
الجهم قال: تبدل أرض أخرى غير هذه الأرض، وهذا باطل، فليس المراد تبديل ذات بذات، المراد: تبديل صفات.
فالأرض نفسها هي تمد كما يمد الأديم، وتسوى ويزال ما فيها من الجبال والأودية وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا فتُمَد ويزال ما فيها، وتسوى.
هذا هو تبديلها. كذلك بعث الأجساد يوم القيامة، الناس يبعثهم الله أنفسهم، نفس الذوات يعيد الله، الذرات التي استحالت ترابا، الإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو العصعص آخر عظم في العمود الفقري، هذا لا يبلى، منه خلق ابن آدم، ومنه يركب ويعيد الله الذرات التي استحالت، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ .
والله تعالى رد على منكري البعث بأنه علم بالذرات التي استحالت، وقادر على إعادتها، فهذا البعث بعث ليس إنشاء لذوات جديدة، وإنما البعث بعث الأجساد، بعث الأجساد نفسها، جمع بعد تفريق، يجمعها الله بعد أن تفرقت، ثم تُنَشَّأ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ نشأة أخرى قوية، تبدل الصفات لا تبديل ذوات بذوات؛ ولهذا يتحمل الناس ويقفون في مواقف القيامة، هذا الموقف الطويل، هذا تبديل صفات الذوات هي هي، والصفات هي التي تختل.
قال الله تعالى ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإذًا التبديل هنا تبديل تجديد، كما أن تبديل الأرض تبديل صفات لا تبديل أرض أخرى، وكذلك بعث الأجساد وإنشائها بعث وإنشاء عن تفرق لا عن عدم، الجهم بن صفوان -قبحه الله- قال: إنه يعدم الإنسان إذا مات وتنتهي ذراته، ثم يبعث الله أناسا آخرين، هذا من أبطل الباطل، معناه: أن الله يبعث أناسا آخرين، ويعذب أناسا آخرين لم يذنبوا هذا من أبطل الباطل.
ولما قال الجهم بن صفوان هذا القول -أنكر البعث- وقال: إن البعث بعث بعث أجساد أخرى، فتح بابا لابن سينا الملحد المعروف، فلما قال الجهم إن البعث بعث أجساد أخرى، جاء ابن سينا وقال: ليس هناك بعث للأجساد إطلاقًا، وإنما البعث للأرواح، ما في بعث للأجساد , فكفر. هذا كفر صريح، قال الله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ .
ابن سينا ملحد، ينكر البعث، ينكر وجود الله، ينكر الكتب والرسل، الذي اغتر به كثير من الناس ومن الصحفيين والإعلاميين ويقولون: فيلسوف الإسلام، وهو ملحد يقول عن نفسه: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر ولا بالقدر، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذًا هذا التبديل تبديل جلود، معناه: تجديدها، لا إيجاد جلود أخرى، كما أن تبديل الأرض يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ تبديل صفات، تسوى وتمد كما يمد الأديم ويزال ما عليها، وكذلك السماء يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وتكون وردة كالدهان، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ .
كما أن بعث الأجساد بعث لنفس الذرات التي استحالت، يعيدها الله خلقا جديدا، وينزل الله مطرا فتنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة أخرى قوية يتحملون؛ ولهذا كان الناس لا يتحملون رؤية الله في الدنيا، وفي يوم القيامة المؤمنون يرون ربهم، أما في الدنيا ما يستطيع أحد أن يرى الله، ولما قال موسى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الله: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ما استطاع تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ .
لكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين تنشئة قوية يستطيعون ويثبتون فيها لرؤية الله -عز وجل-.
التنشئة غير التنشئة، تنشئة صفات، والذوات هي هي؛ ولهذا يكون الناس طولهم في الجنة على طول آدم: ستون ذراعا في السماء، وأما العرض فجاء في حديث رواه الترمذي في سنده بعض الضعف أن عرض الواحد سبعة أذرع لكن فيه ضعف.
أما الطول فثابت في الصحيح، في البخاري أن طول ابن آدم ستون ذراعًا هي هي ذاته، لكن الصفات، وكذلك الكافر يعظم خلقه في النار، جاء في صحيح مسلم: أن ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد .
حتى يعذب، يوسع جلده لكن هو هو، ليس شخصا آخر، فهؤلاء الزنادقة الذين شبهوا، فهذه من الأمثلة التي شبه فيها الزنادقة وتأولوا القرآن على غير تأويله، قالوا بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا قالوا: جلودًا أخرى هي التي أبدلت فالله يعذب جلودًا لم تذنب فيكون ظالما، نعوذ بالله، تعالى الله عما يقولون.(1/17)
شبهتهم في تناقض آيات القرآن
وأما قوله -عز وجل- هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ثم قال في آية أخرى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم، قال: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ثم قال في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فزعموا أن هذا الكلام ينقض بعضه بعضًا، فشكوا في القرآن.
هذه هي الشبهة الآن، شبهوا بالآيات وقالوا: إن القرآن ينقض بعضه بعضًا، الشبهة يقولون: إن الله قال: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وفي الآية الأخرى قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إذًا ينطقون، وفي الآية الأخرى هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ قالوا: هذا تناقض، القرآن متناقض، في آية يقول: لا ينطقون، وفي آية يقول: يختصمون، هذه هي الشبهة، الجواب.(1/18)
شبهتهم في قوله تعالى " هذا يوم لا ينطقون" والرد عليها
أما تفسير هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ فهذا أول ما تبعث الخلائق على مقدار ستين سنة لا ينطقون، ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون، ثم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون، فذلك قوله رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا فإذا أذن لهم في الكلام تكلموا واختصموا، فذلك قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ عند الحساب، وإعطاء المظالم.ثم يقال لهم بعد ذلك: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي: عندي وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي: في الدنيا، فإن العذاب مع هذا القول كائن.
هذا نهاية الجواب، وهذه هو المثال الثاني لما شكت فيه الزنادقة من متشابه القرآن وأولته على غير تأويله أنهم قالوا: إن الله تعالى أخبر في آية أنهم لا ينطقون، وفي آية أخبر أنهم يختصمون.
أجاب الإمام -رحمه الله- قال: مواقف القيامة متعددة، يوم طويل، يوم عظيم، يوم القيامة يوم طويل، في بعض المواقف لا ينطقون، وفي بعضها ينطقون؛ لأن مشاهد القيامة متعددة؛ ولهذا قال الإمام -رحمه الله- أول ما يبعث الله الخلائق على مقدار ستين سنة لا ينطقون ما يتكلمون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ثم بعد ذلك يأذن الله لهم في الكلام فيتكلمون.
ولهذا أخبر الله عنهم أنهم قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ لمّا أُذن لهم في الكلام تكلموا، قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا وطلبوا الرجعة، أنهم يرجعون للدنيا حتى يعملوا صالحًا رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ فحينئذٍ يتكلمون، ويختصمون، وهذا هو معنى قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ يعني: عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم بعد اختصامهم يقول الله لهم: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ في الدنيا جاءكم الوعيد والتحذير والتخويف والإنذار، جاءتكم الرسل بلغتكم، بلغتكم القرآن، بلغتكم السنة، لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ يقول الله تعالى: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ثم بعد ذلك لا يكون إلا العذاب، قامت عليهم الحجة؛ ولهذا قال المؤلف: "فإن العذاب مع هذا القول كائن".
بعض الناس يقولون: إن الله -سبحانه وتعالى- موجود في كل مكان، واستدلوا بقول الله -عز وجل-: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ فكيف نرد على هؤلاء؟ وجزاكم الله خيرًا؟.
هذه من الأمثلة التي سيناقشها المؤلف -رحمه الله- في الرسالة هذا قول الجهمية قال: إنهم وجدوا ثلاث آيات، استدلوا بها على أن الله في كل مكان، هذه الآية وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ والآية الأخرى وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ .
المقصود أن هذه الآية ليس لهم دليل فيها وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ المعنى: علمه في السماوات وفي الأرض، وأما هو سبحانه، ذاته فوق العرش كما قال سبحانه ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ .
النصوص التي فيها إثبات العلو يقول العلماء: تزيد على ثلاثة آلاف، كلها صريحة وواضحة في إثبات العلو، فكيف تترك أكثر من ثلاثة آلاف دليل كلها صريحة في إثبات العلو وتأتي بالآية المشتبهة هذه؟! هذه علامة أهل الزيغ، يقول العلماء: علامة أهل الزيغ أن يترك المحكم ويتعلق بالمتشابه، هذه الآية المتشابه ترد إلى المحكم، ردها إلى النصوص المحكمة، فتفسر بها كما قال الله تعالى عن الراسخين في العلم قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فهذه الآية المراد بها العلم وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ يعني: علمه في السماء وعلمه في الأرض، كما أن علمه في السماء.
بعض العلماء وقف على قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ ثم يبتدئ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ هذا ليس بجديد. المقصود أن المراد بالآية العلم.
إذا قال قائل: اسم الله ليس بمشتق، فهل يترتب على هذا الخلاف ثمرة؟
نعم. يصير ما تدل على الصفات غير مشتق، مثلًا الرحمن لا تدل على الرحمة، العليم ما يدل على صفة العلم، الله ما يدل على صفة الألوهية هذا معناه يعني: جامدة، مشتقة يعني تدل على الصفات، كل اسم يدل على الصفة، الله فيه إثبات صفة الألوهية، الرحمن: يدل على صفة الرحمة، العليم: يدل على صفة العلم، والقدير: على صفة القدرة، والقول بأنه جامد غير مشتق، معناه إنكار للصفة التي دلت عليها الأسماء.
هل الطائفة المنصورة لا يخرج عنهم الحق في الأصول والفروع، بحيث إن مجموعهم لا يغلطون؟
نعم معصومون، الأمة معصومة من أن تجمع على ضلالة، الأمة كلها، كما جاء في الحديث: لا تجتمع أمتي على ضلالة ولا يمكن أن تجمع الأمة كلها على ضلالة وعلى باطل، الحق موجود في الأمة، ما يخرج عنها.
أما الواحد أو الأفراد قد يغلطون، لكن الأمة معصومة في مجموعها أن يخرج عنها الحق، ما يخرج عنها الحق لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله هذا هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هل يكفر من يسب الصحابة ؟
يختلف هذا، إذا كان سبهم لدينهم، يكفر أو فسقهم أو كفرهم هذا يكفر، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ لأنه تكذيب لله، الله تعالى عدلهم وزكاهم فمن قال: إنهم كفار وفساق فقد كذَّب الله، يكون مرتدا، الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الله يقول: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هذا يقول هم كفار وفساق، كذّب الله، ومن كذب الله كفر.
فالذي يقول الصحابة كفار أو فساق أو كلهم كفروا أو فسقوا أو ارتدوا بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو فاسق، أما السب فيختلف إذا سبه لدينه كفر، أما سبه لغيظ، هذا محل نظر.
وكذلك من قال: إن الله في كل مكان -تابع للسؤال الأول- من قال: إن الله في كل مكان فهو كافر، الله تعالى فوق العرش، مكذب لله، من قال: إن الله في كل مكان كفر.
ما هي الصفات السبع التي أثبتها الأشاعرة ؟ لأنه يدرسنا أستاذ أشعري، ونفى صفة العَجَب، فكيف نرد عليه؟
الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة، هذه الصفات السبع التي يثبتها الأشاعرة يقول:
فله الحياة والكلام والبصر
سمع إرادة وعلم واقتدر
مع أن الكلام ما أثبتوه على حقيقته، صفة الكلام قالوا: إنه يتكلم بغير حرف ولا صوت، معنًى قائم بنفسه لا يُسمع، هذه من الصفات السبع التي أثبتوها، يعني ما أثبتوا إلا ستا، والسابعة ما أثبتوها على وجهها الصفة هذه يقول: ما يتكلم بحرف ولا بصوت، معناه: الكلام معنًى قائم في النفس معنى في نفسه، وقالوا: اضطر جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه، فعبر بهذا القرآن، فهذا القرآن عبر به جبريل أو محمد والله لم يتكلم لا بحرف ولا صوت.
هذا قول الأشاعرة ومنهم من قال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، ومنهم من قال: إن محمدا هو الذي عبر، أتى بهذه الألفاظ، فهذه الألفاظ من قول جبريل أو من قول محمد والله لم يتكلم لا بحرف ولا صوت، نعوذ بالله.
أما العجب بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ يعجب ربك هذه من الصفات الفعلية، كما يليق بجلال الله وعظمته، يضحك الله، له صفة الضحك والعجب والرحمة والرضا والغضب إلى غير ذلك من الصفات، كلها ثابتة لله على ما يليق بجلاله وعظمته، لا يشابه أحدًا من خلقه في شيء من صفاته -سبحانه وتعالى- كما قال سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
هل الأشاعرة من أهل السنة وهل الزيدية أقرب لأهل السنة من الأشاعرة ؟
الأشاعرة ليسوا من أهل السنة لكن يسمون أنفسهم أهل السنة في مقابل المعتزلة ؛ لأنهم يثبتون سبع صفات، والمعتزلة لا يثبتون شيئًا، لكن في الواقع ليسوا من أهل السنة ؛ لأنهم ينفون بقية الصفات؛ ولأنهم يقولون: إن العبد مجبور، أيضًا جبرية هم. ولا يثبتون للعبد فعلا، يثبتون له كسبا، كل هذا مخالف لأهل السنة مخالف في كثير من مسائل الدين يخالفون أهل السنة لكن هم من أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة في الصفات السبع وما أشبهها أما إطلاق أهل السنة عليهم- لا ليسوا من أهل السنة
أما الزيدية فيما يتعلق بالصحابة الزيدية يفضلون عليّا على عثمان المعروف عن الزيدية أنهم لا يسبون الصحابة فيكونون مبتدعة، هذه مسألتهم تتعلق بالصحابة والأشاعرة تتعلق بالصفات.
أما مسألة معتقدهم، معتقد الزيدية في الصفات قد يكون في الغالب أنهم يوافقون المعتزلة والرافضة يوافقونهم وقد يخالفونهم لكن مسألة الزيدية هذه فيما يتعلق بالصحابة تفضيل عليّ على عثمان أو تفضليه على الشيخين بدون سب، ليسوا سبابة، بخلاف الرافضة فإنهم يسبون الصحابة هذا فيما يتعلق بالصحابة والأشاعرة فيما يتعلق بالصفات.
هل يجوز الترحم على العلماء من غير أهل السنة كالرازي والزمخشري والجاحظ وهل العز بن عبد السلام أشعري؟
الرازي تاب، كان من الأشاعرة ثم من الجهمية الذين ينفون النقيضين لا داخل العالم ولا خارجه، ورد عليهم شيخ الإسلام وله مؤلفات وله كتب، حتى قال شيخ الإسلام له كتاب، كتابه في التفسير، يقول العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير، فيه الفلك والطب والهندسة إلا التفسير، وله كتاب "السر المكتوم في عبادة النجوم".
لكن ذكر شيخ الإسلام في "بيان تلبيس الجهمية " أنه تاب وترحم عليه، وذكر وصية في آخر حياته.
وأما الغزالي فبقي الغزالي على طريقة أهل الكلام والتصوف، يترحم عليهم؛ لأنهم قد يكونون مثلا ما تعمدوا، قد يكونون مثلا ما بلغهم الحق، فالمقصود أن الذي ليس إمامًا في البدعة قد يترحم عليهم، قد يغلط قد يكون أشعريًا مثل أئمة أهل الحديث، بعض المحدثين الذين غلطوا ولم يوفقوا لمن ينشئهم على معتقد أهل السنة والجماعة كالنووي والحافظ ابن حجر لهم تأويلات توافق مذهب الأشاعرة في الصفات، لكنهم لم يتعمدوا وهم علماء فطاحل لهم يد طولى في الحديث وفي نفع الأمة وفي مصطلح الحديث، لكن غلطوا في هذه المسائل، لكن المعتزلة أئمة المعتزلة أئمة الجهمية هؤلاء بدعتهم شديدة غليظة حتى كفر بعض أهل العلم المعتزلة والجهمية كفرهم خمس مائة عالم، من العلماء من كفرهم بإطلاق وقال عبد الله بن المبارك إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نحكي أقوال الجهمية
أما العز بن عبد السلام فلا أدري عن معتقده، لكن في ظني أنه من أهل السنة
من يقول: إن أهل السنة والجماعة عندهم قصور في تعظيم أهل البيت بخلاف الشيعة الذين بالغوا في تعظيمهم، هل يُعد من يقول هذا القول من أهل السنة ؟.
لا هذا قول باطل، أهل السنة ما قصروا، أهل السنة أنزلوهم المنزلة اللائقة بهم، ما عبدوهم، الشيعة الرافضة غلوا حتى عبدوا أهل البيت والنواصب آذوا أهل البيت وعادوهم وسبوهم، وأهل السنة توسطوا لم يسبوهم ولم يعادوهم كما فعل النواصب ولم يعبدوهم من دون الله، بل أنزلوهم المنازل اللائقة بهم، ترحموا عليهم، وترضوا عنهم، وأحبوهم ووالوهم، فالذي يقول: إن أهل السنة قصروا هذا شيعي وإلا متأثر بالشيعة ما يعلم قول أهل السنة كيف قصروا؟! يريد أن يعبدوهم من دون الله؟ العبادة حق الله، نحن نحب أهل البيت ونواليهم ونترحم عليهم ونترضى عليهم لكن لا نعبدهم ولا نؤذيهم ونسبهم كما يفعل الخوارج بل نحبهم ونترضى عليهم ونواليهم.
طول الإنسان في يوم القيامة ستون ذراعا في السماء وإن ضرس أهل النار مثل جبل أحد ومعنى هذا أن الضرس أكبر من الجسد فكيف يمكن التوفيق وجزاكم الله خيرًا؟.
يعظم الجسد، إذا كان الجسد هكذا يُعظم، الجسد كل الجسد يعظم، حتى يذوق العذاب، وأهل الجنة طول الواحد منهم ستون ذراعًا في السماء هذا ثابت، وأما حديث أن عرضه سبعة أذرع فهذا جاء في هذا حديث رواه الترمذي في سنده لين. ا.هـ
وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(1/19)
شبهتهم في نطق وبكم أهل النار في القرآن
قال -رحمه الله تعالى-: وأما قوله: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا وقال في آية أخرى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ثم يقول في موضع آخر: إنه ينادي بعضهم بعضًا فشكوا في القرآن من أجل ذلك.
هذه الشبهة الآن، إذاً الشبهة قالوا: إن القرآن متناقض في آية، أخبر الله أنهم لا يتكلمون وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّم وفي آية أخرى أنهم يتكلمون قال: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ فكيف يكون في آية يحشرون بكمًا، وفي آية يحشرون يتكلمون هذه هي الشبهة.(1/20)
شبهتهم في نطق وبكم أهل النار في القرآن (تابع)
الجواب: أما تفسير وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضًا وينادون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ويقولون: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا فهم يتكلمون حتى يقال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ فصاروا فيها عميًا وبكمًا وصمًا، وينقطع الكلام، ويبقى الزفير والشهيق، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة من قول الله.
إذاً الجواب أنه ليس في كلام الله تناقض، بل كلام الله يصدق بعضه بعضًا، وإنما كل آية محمولة على حال، ففي الحال الأولى الوقت الأول حين دخولهم النار يتكلمون، وينادي بعضهم بعضًا، وينادون مالك خازن النار ويقولون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ وينادي أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا .
وينادون: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ويقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا يتكلمون في أول الأمر، ثم بعد ذلك يقول الله لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ فعند ذلك يصيرون عميًا وبكمًا وصمًا، وينقطع الكلام، ولا يبقى إلا الزفير والشهيق، نسأل الله السلامة والعافية.(1/21)
إثبات تساؤل أهل النار ونفيه في القرآن
المثال الرابع: وأما قوله تعالى: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ وقال في آية أخرى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ وقالوا كيف يكون هذا من المحكم فشكوا في القرآن من أجل ذلك.
هذه هي الشبهة، قالوا: إن الآيتين متنافيتان آية تنفي التساؤل، وآية تثبت التساؤل، فالآية الأولى فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ والآية الثانية فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ فكيف ذلك؟ أجاب الإمام أحمد رحمه الله.(1/22)
إثبات تساؤل أهل النار ونفيه في القرآن (تابع)
فأما قوله -عز وجل-: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فهذا عند النفخة الثانية، إذا قاموا من القبور لا يتساءلون، ولا ينطقون في ذلك الموطن، فإذا حوسبوا ودخلوا الجنة والنار: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
إذًا الجواب: أجاب الإمام -رحمه الله- بأن مواقف القيامة متعددة، مشاهد القيامة متعددة، ففي المشهد الأول عند النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، إذا قاموا من القبور لا يتساءلون، ولا ينطقون في ذلك الموطن، ما فيه كلام ولا نطق، حتى يأتي الحساب، فإذا حوسبوا، ودخلوا الجنة، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، مثل ما سبق أن أهل النار أول ما يدخلون النار يتساءلون، وينطقون، ويتكلمون.
فإذًا عند النفخ في الصور عند القيام من القبور في أول مشهد من مشاهد القيامة عند النفخ في الصور والقيام من القبور لا يتساءلون، ولا يتكلمون، فإذا حوسبوا تكلموا، وتساءلوا، فهذا محمول على حالة، وهذا محمول على حال فلا تناقض في كلام الله -عز وجل-.(1/23)
شبهتهم في دخول النار بسبب الصلاة والوعيد للمصلين
المثال الخامس وأما قوله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وقال في آية أخرى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ فقالوا: إن الله قد ذم قومًا كانوا يصلون، فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ وقال في قوم: إنهم إنما دخلوا النار؛ لأنهم لم يكونوا يصلون، فشكوا في القرآن من أجل ذلك، وزعموا أنه متناقض.
إذًا الشبهة أنهم يقولون: عندنا آيتان متنافيتان، آية فيها أنهم دخلوا النار؛ لأنهم لم يكونوا يصلون، فدخلوا النار من أجل تركهم للصلاة، وفي آية تتوعد المصلين: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ كيف ذلك؟.
آية فيها أن أهل النار دخلوا النار بسبب تركهم للصلاة، إذًا تركهم للصلاة من أسباب دخولهم النار، والآية الأخرى تتوعد المصلين فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الويل: شدة العذاب والهلاك، وقيل: واد في جهنم لكن الأقرب شدة العذاب والهلاك، فأخبر أن المصلين هالكون، وغير المصلين هالكون، فكيف هذا؟ لأن مفهوم لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ أن المصلي ناجٍ، فهم هلكوا، ما سبب هلاكهم؟ وعذابهم في سقر؟ كونهم لم يصلوا، إذًا الذي يصلي ناجٍ، لكن جاءت آية أخرى تتوعد المصلي فكيف ذلك؟ آية فيها أن الذي ترك الصلاة دخل النار، ومفهومها أن الذي يصلي لا يدخل النار، ولا يعذب، لكن جاءت أخرى تتوعد المصلي فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ .(1/24)
شبهتهم في قوله تعالى "ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين" والرد عليها
الجواب: قال: وأما قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ عنى بها المنافقين الذين هم عن صلاتهم ساهون، حتى يذهب الوقت، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ يقولون إذا رأوهم صلوا، وإذا لم يروهم لم يصلوا. وأما قوله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ يعني من الموحدين المؤمنين فهذا ما شكت فيه الزنادقة
إذًا أجاب الإمام -رحمه الله- بأن كل آية محمولة على حال، فالآية التي فيها ويل للمصلين المراد بهم المنافقون، بدليل قوله: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ فهم يصلون نفاقًا لا عن إيمان بالله ورسوله، بل عن رياء مراءاة: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ يقول: إذا رأوهم صلوا، وإذا لم يروهم لم يصلوا.
ويدل على هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما -يعني من الأجر- لأتوهما ولو حبوًا .
لأن المنافقين لا يصلون عن إيمان بالله وبرسوله، فكانوا يصلون الظهر والعصر والمغرب أمام الناس يراءونهم؛ لأن الظهر والعصر والمغرب في وقت النهار، كلٌّ يراهم، فهم يصلون رياءً، لكن في وقت العشاء وفي وقت الفجر ظلام، ما عندهم أنوار، ما عندهم كهرباء مثل الآن، ما فيه كهرباء ولا سرج لا في الشوارع، ولا في المساجد، فيكون المسجد مظلما، والشوارع مظلمة في وقت العشاء والفجر يتخلفون؛ لأنهم يظنون أنهم يخفون على الناس، فلا يرونهم، فيتخلفون، فلذلك كانت هاتان الصلاتان ثقيلتين عليهم؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: صلاة العشاء وصلاة الفجر فلا يليق بالمسلم الذي منَّ الله عليه بالإيمان أن يتشبه بالمنافقين، وأن يتخلف عن صلاة الصبح وصلاة العشاء.
فصلاة العشاء تقع في وقت الراحة والانشغال، وصلاة الفجر تقع في وقت الراحة والنوم، فالواجب على المسلم أن يكبح جماح نفسه، وأن يجاهد نفسه، وأن يفعل الأسباب التي توقظه، أو ينام مبكرًا لا يسهر، ولا سيما إذا كان السهر على القيل والقال والغيبة والنميمة، أو مشاهدة الأفلام الخليعة، أو سماع الأصوات السيئة، ولا سيما الجلوس عند هذا الجهاز الخبيث جهاز الدش الذي ينشر عقائد النصارى والخلاعة والمجون والتفسخ والعري، ويزهد في الأخلاق الإسلامية، ويدعو إلى التشكيك في دين الله -عز وجل- كيف يليق بمسلم أن يفعل هذا؟
يسهر على هذا الجهاز الخبيث، ثم يتخلف عن صلاة الصبح، ولا يصلي إلا بعد الفجر، بعض الناس ديدنه وعادته.
هذا من المصائب حتى قال جمع من أهل العلم: إن الشخص الذي لا يصلي الفجر إلا بعد الشمس باستمرار فهو مرتد كافر، ولا تفيده الصلاة، ولو صلاها ألف مرة؛ لأن الله حدد الصلاة بأوقات: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا .
وأفتى بذلك سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- بأن الذي لا يستيقظ إلا بعد الشمس باستمرار أنه مرتد، يكون كافرا، ولا تصح صلاته؛ لأنه متعمد بخلاف الإنسان الذي فعل أسبابا توقظه وفاتته، فوات الحرص هذا معذور، {النائم حتى يستيقظ }، الإنسان الذي جعل أسبابًا توقظه، وعنده إحساس وشعور، لكن فاتته بغير اختياره، هذا معذور، لكن الشخص الذي يركب الساعة على العمل، لا يستيقظ إلا مرة واحدة لصلاته وعمله، هذا معناه أنه متعمد ترك الصلاة.
فالواجب على المسلم أن تشتد عنايته بالصلوات الخمس عمومًا، وهاتين الصلاتين خصوصًا حتى لا يتشبه بالمنافقين، قال العلماء: لو أن الإنسان جلس يقرأ القرآن، أو يصلي الليل، وهو يعلم أن صلاته في الليل وقراءته للقرآن يكون سببًا لنومه عن الصلاة وتأخيره عنها صار حرامًا عليه قراءة القرآن وصلاة الليل لماذا؟ لأن قراءة القرآن وصلاة الليل مستحب سنة، وصلاة الفجر فرض، فكيف يشتغل بالسنة عن الفرض.
فإذا كان الذي يقرأ القرآن، ويصلي في الليل، إذا كان يتسبب في ترك صلاة الفجر حرام عليه، فكيف الذي يسهر على مشاهدة الأفلام الخليعة على هذا الجهاز الخبيث، أو القيل والقال، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره النوم قبلها والحديث بعد صلاة العشاء، مكروه الجلوس بعد صلاة العشاء إلا ما لا بد منه السمر في طلب العلم، أو السمر مع الضيف، والسمر مع الأهل، الشيء العارض.
فإذًا الإمام -رحمه الله- يقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ محمولة على المنافقين فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ساهون عن الصلاة، فيتركونها بالكلية، هذا سهو، أو يسهون عن الصلاة فيؤخرونها عن وقتها، أو يسهون عن الصلاة فيؤخرونها عن وقتها الأول، أو يسهون عن أركانها وواجباتها، أو يسهون عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، كل هذا داخل في السهو،، فكلٌ له نصيب من هذا السهو، ومن جمع هذه الأنواع، فقد تمت له الخسارة، نسأل الله العافية.
فهي تشمل المنافقين النفاق العملي والنفاق الاعتقادي: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ حتى يتركوها بالكلية، أو يؤخروها عن الوقت بالكلية، أو حتى يؤخروها عن الوقت الأول، لا يصلونها إلا في آخر الوقت باستمرار، أو يسهوا عن أداء واجباتها وشروطها، أو يسهوا عن خشوعها وتدبر معانيها.
ويدل على هذا الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كادت أن تغرب بين قرني الشيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا .
إذًا وصف المنافق يؤخر الصلاة يرقب الشمس حتى إذا كانت تغرب، يؤخرها عن وقتها، ووصفه بأنه ينقر الصلاة كنقر الغراب، ووصفه بأنه لا يذكر الله فيها إلا قليلًا.
هذه ثلاثة أوصاف للمنافقين: يؤخرها عن وقتها، وينقرها نقر الغراب، يعني: لا يطمئن في ركوعها وسجودها، ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا.
إذًا فهذه الآية: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ محمولة على مَن يصلي، لكن إما رياءً ونفاقًا، أو يصلي ويسهو ويؤخر الصلاة عن وقتها بالكلية، أو عن وقتها الأول المختار، أو عن أداء شروطها وواجباتها، أو عن خشوعها والتدبر لمعانيها.
أما الآية الثالثة: وهي آية المدثر: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ يعني: يقول هذه الآية في الموحدين، كيف تكون هذه الآية في الموحدين المؤمنين؟ يعني: التارك للصلاة، كانوا مؤمنين موحدين، فلما تركوا الصلاة ارتدوا يعني: هي ليست في المنافقين، تلك الأولى في المنافقين، وهذه في المؤمنين قبل أن يتركوا الصلاة، كانوا مؤمنين، فلما تركوها دخلوا النار، فسألوهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ يعني: تركنا الصلاة، هذا هو الظاهر مما ذكره الإمام رحمه الله.
وهذه الآية من الأدلة التي استدل بها العلماء على أن ترك الصلاة كفر، وإن كان لهم خصال أخرى، لكن ذكر أول خصالهم أنهم تركوا الصلاة.
وقولهم: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ هذا كفر آخر، إذا ترك الصلاة حتى خرج وقتها من غير عذر يكون مرتدًا.
وأدلة كفر تارك الصلاة كثيرة منها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة والبينية حد فاصل، فجعل بين الإسلام وبين الكفر ترك الصلاة.
ومنه حديث بريدة بن الحصيب عند أحمد وأصحاب السنن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ومن أقوى الأدلة أيضًا على أن ترك الصلاة كفر، ولو لم يجحد وجوبها، إذا جحد وجوبها هذا بالإجماع ما فيه إشكال كافر بالإجماع، حتى إذا جحد وجوب الزكاة، أو وجوب الصوم، أو وجوب الحج، إذا أنكر أمرًا معلوما من الدين بالضرورة هذا كافر بالإجماع، لكن إذا تركها ولو لم يجحد وجوبها، ومما يدل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخروج على ولاة الأمور والأمراء ما داموا يقيمون الصلاة.
فقال في حديث عوف بن مالك الأشجعي عند الإمام مسلم -رحمه الله-: خيار أئمتكم -يعني: ولاة الأمور- الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وتدعون لهم ويدعون لكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ -يعني: ما داموا شرارا ويتلاعنوا أفلا ننابذهم بالسيف؟- قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا مَن ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يده من طاعة إذًا الحديث أصل في عدم الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، خلافًا للمعتزلة والخوارج والرافضة فالخوارج والمعتزلة يخرجون على ولاة الأمور.
الخوارج عندهم أن ولي الأمر إذا فعل معصية كفر يجب خلعه وقتله والخروج عليه، والمعتزلة كذلك عندهم أصل من أصولهم الخمسة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
النهي عن المنكر ستروا تحته الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، سموه النهي عن المنكر، والرافضة كذلك ليس عندهم الإمام إلا الإمام المعصوم، وهم الأئمة الاثنا عشر وعلى جميع ولاة الأمور من خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس إلى من بعدهم كلهم ولاة جور وظلم يجب قتلهم والخروج عليهم، ولا إمام إلا الإمام المعصوم، وأهل السنة والجماعة خرجوا عن هذه المعتقدات الفاسدة.
أهل السنة والجماعة لا يوافقون الخوارج ولا المعتزلة ولا الرافضة بل يرون السمع والطاعة لولاة الأمور فيما هو من طاعة الله، وأما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إذا أمر ولي الأمر بالمعصية فلا يطاع، وإذا أمر الأب ابنه بالمعصية لا يطيعه، وإذا أمر الزوج زوجته بالمعصية لا تطيعه، لكن لا يخرج عليه ليس معنى كونه لا يطيعه في المعصية أنه يخرج عليه ويؤلب عليه وينابذه لا، المعنى أنه لا يطيعه في المعصية، لكن لا يخرج عليه، فإذا فعل ولي الأمر معصية ما، يجب الخروج عليه، ولو ظلم بعض الناس، أو قتل بعض الناس، أو سجن بعض الناس، أو شرب الخمر، أو فعل معصية ما يجوز الخروج عليه. لماذا؟
لأن الخروج على ولاة الأمور يترتب عليه مفسدة أعظم الافتراق والانشقاق، وإراقة الدماء، وتربص الأعداء بهم الدوائر، وتناحر المسلمين، وتطاحنهم فيما بينهم وتفرقهم وذهاب ريح الدولة، واختلال أحوال المسلمين المعيشية، والاقتصادية والتعليمية والسياسية والاجتماعية.
يترتب عليه فساد عظيم، وهناك قواعد شرعية معروفة مأخوذة من النصوص، وهي أنه إذا وجد مفسدتان لا بد من ارتكاب أحدهما، تُرْتَكَبُ أدنى المفسدتين لزوال أعلاهما، فعندنا مفسدتان: مفسدة معصية ولي الأمر "عصى، فسق، فعل المعاصي" هذه مفسدة.
والثانية: مفسدة الخروج عليه، وهي يترتب عليها إراقة الدماء وانشقاق المسلمين وتربص الأعداء بهم الدوائر، واختلال الأمن، واختلال المعيشة، والاقتصاد، واختلال السياسة، واختلال الزراعة والصناعة.
ويترتب عليها أمور عظيمة لا يُحْمَد عقباها، أيهما أعظم مفسدة؟ الخروج أعظم مفسدة، نرتكب مفسدة في الدنيا، وهي نصبر على معصية ولي الأمر، وندعو له، ونناصحه بما نستطيع النصيحة مبذولة من العلماء ومن غيرهم بما يستطيعون، ولو قدر أنه ما استطاع أو ما حصل شيء فاصبر، ثم أن صبرك فيه تكفير للسيئات، ورفع للدرجات.
وعلينا أن نتوب إلى الله، وأن نرجع إلى أنفسنا، وأن نصلح من أحوالنا فإن الله -تعالى- ما سلط علينا ولاة الأمور إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فجور الولاة من كسب الرعية، فإذا أرادت الرعية أن يصلح الله ولاة الأمور فليصلحوا أنفسهم، هكذا قرر أهل العلم، وهكذا قرر أهل السنة والجماعة
وهذا معتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي خلافًا لأهل البدع، شعار أهل البدع الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي كالرافضة والخوارج والمعتزلة من أصول أهل السنة والجماعة واعتقادهم وفصلوا فيها عن أهل البدع عدم الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي والسمع لهم في طاعة الله، وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد.
متى يجوز الخروج على ولاة الأمور؟ إذا حصل كفر بواح صريح كما في الحديث الآخر: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان كفر موصوف بهذه الأوصاف بواح، يعني: بَيِّن ظاهر صريح، لا لبس فيه: عندكم من الله فيه برهان .
فإذا وجد الكفر جاز الخروج مع القدرة أيضًا بشرطين:
الشرط الأول: القدرة على ذلك. والشرط الثاني: أن يُزَال هذا الكافر، أو الحكومة الكافرة ويُؤْتَى بدلها بحكومة مسلمة. لا بد من هذا. أما أن يزال كافر، ويأتي كافر مكانه ما حصل المقصود. لا بد أن يغلب على الظن أنه يزال هذا الكافر ويؤتى بدله مسلم، ويكون هذا مع القدرة، أما يكون ما عندك قدرة لا يكلف ووجد البديل وهو إمام مسلم يقيم حكم الله، ويحكم بشرع الله في أرض الله، فلا بأس، أما أن يزال كافر، ويؤتى بكافر فلا. واضح هذا.
فإذا ضمنت هذا الحديث: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان وحديث: لا ما أقاموا فيكم الصلاة مفهومه أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار، يجوز الخروج عليهم، فإذا ضممت هذا الحديث إلى هذا الحديث دل على أن ترك الصلاة كفر بواح.
وهذا من أقوى الأدلة على أن ترك الصلاة كفر بواح، الجمع بين الحديثين:
الحديث الأول: حديث عوف بن مالك لا ما أقاموا فيكم الصلاة يعني: لا يجوز الخروج عليهم ما أقاموا فيكم الصلاة، مفهومه أنهم إذا لم يقيموا الصلاة أنهم كفار، يجوز الخروج عليهم.
والحديث الثاني: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان فلما أجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- الخروج على ولاة الأمور إذا لم يقيموا الصلاة، ولم يُجِزْهُ في الحديث الآخر إلا إذا وجد الكفر البواح، دل على أن ترك الصلاة كفر بواح، وهذا من أقوى الأدلة على أن ترك الصلاة كفر.(1/25)
شبهتهم في مبدأ خلق الإنسان في القرآن
وأما قوله عز وجل: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثم قال: مِنْ طِينٍ لَازِبٍ وقال: مِنْ سُلَالَةٍ ثم قال: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ثم قال: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ فشكوا في القرآن، وقالوا: هذا ملابسة ينقض بعضه بعضًا وفي نسخة تلبيس ينقض بعضه بعضًا.
هذه الشبهة يقولون: إن خلق آدم جاء في آيات متعددة، في آية: إن آدم خلق من تراب، وفي آية أنه خلق من طين لازب، وفي آية أنه خلق "من سلالة"، وفي آية أخرى أنه خلق "من حمإ مسنون"، وفي آية أخرى أنه خلق "من صلصال كالفخار"، كيف ذلك؟
خمسة أشياء، هكذا قالت الزنادقة قالوا: إن هذا تناقض، الإمام -رحمه الله- بيَّن أن هذه الأشياء كلها ترجع إلى شيء واحد، إلى ما فيه تناقض، كلام الله يصدق بعضه بعضًا.(1/26)
شبهتهم في مبدأ خلق الإنسان في القرآن (تابع)
فهذا بدء خلق آدم، خلقه الله أول بدء من تراب، ثم من طينة حمراء، وسوداء وبيضاء، من طينة طيبة وسبخة، فكذلك ذريته طيب وخبيث، أسود وأحمر، وأبيض، ثم بُلَّ ذلك فصار طينًا، فذلك قوله: مِنْ طِينٍ فلما لصق الطين بعضه ببعض، فصار طينًا لازبًا يعني طينًا لاصقًا، ثم قال: مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ يقول: مثل الطين إذا عصر انسل من بين الأصابع، ثم نتن فصار حمإٍ مسنونًا فخلق من الحمإ، فلما جف صار صلصالا كالفخار، يقول: صار له صلصلة كصلصلة الفخار له دوي كدوي الفخار. فهذا بيان خلق آدم
فأما قوله: مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فهذا بدء خلق ذريته من سلالة يعني نطفة إذا انسلت من الرجل فذلك قوله: مِنْ مَاءٍ يعني: النطفة. "مهين" يعني ضعيف، فهذا ما شكت فيه الزنادقة
إذًا الإمام -رحمه الله- بيَّن أن آيات القرآن يصدق بعضها بعضًا، خلقه الله من تراب، هذا بدء الخلق، بدء خلق آدم من تراب، ثم بلَّ ذلك التراب فصار طينًا، نفس التراب الله أخذ التراب، ثم بلَّه فصار طينًا، وهذه الطينة حمراء وسوداء وبيضاء فجاءت الذرية هكذا: طيب وخبيث، وأسود وأحمر، وأبيض.
ثم بعد ذلك لما بلَّ ذلك الطين لصق بعضه ببعض، فصار طينًا لازبًا يعني: لاصقًا، ثم صار سلالة مثل الطين إذا عصر انسلَّ من بين الأصابع، ثم نتن يعني صار له رائحة كريهة، فصار حمأ مسنونًا، فخلق من الحمإ فلما جفَّ هذا الطين صار صلصالًا كالفخار له صلصلة كصلصة الفخار له دوي كدوي الفخار.
هذا خلق آدم، وأما الذرية فهم مخلوقون من سلالة من ماء مهين، كل واحد من بني آدم مخلوق من ماء الرجل وماء المرأة، كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ماء الرجل وماء المرأة يكون نطفة في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يتحول أربعين يومًا علقة "قطعة دم"، ثم يتحول بعد أربعين يومًا إلى مضغة "قطعة لحم"، سميت مضغة بقدر ما يمضغ في الفم، ثم خلق من المضغة عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا.
ثم أرسل الله -سبحانه- ملك بعد مضي أربعة أشهر في بعض الأحاديث، وبعضها قبل ذلك فنفخ فيه الروح، وكتب الله رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
فإذًا آدم مخلوق من تراب ثم بلَّ الله ذلك التراب فصار طينًا، ثم بعد ذلك صار لازبًا لاصقًا، ثم نتن، ثم يبس فصار له صلصلة، هذا خلق آدم، أما الذرية فهم مخلوقون من الماء، نطفة ماء الرجل، وماء المرأة، قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ صلب الرجل، وترائب المرأة.
كل بني آدم من هذا إلا حواء فإنها مخلوقة من ضلع آدم، وإلا عيسى فإنه مخلوق من أم بلا أب، أرسل الله جبريل فنفخ في جيب درع مريم فحملت بإذن الله. قال الله له: كن فكان: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
فتكون القسمة الرباعية قسمة آدم وبنيه. آدم خلقه الله من تراب غير ذكر ولا أنثى، وحواء خلقت من ذكر بلا أنثى؛ لأنها خلقت من ضلع، وعيسى خلق من أنثى بلا ذكر، وسائر الناس من ذكر وأنثى، فصارت القسمة رباعية، ولله الحكمة البالغة.
وعلى هذا تكون الخلاصة خلق آدم من تراب، والذرية مخلوقون من ماء، فتكون آيات القرآن متفقة ومؤتلفة، وليست متناقضة كما يشكك في ذلك الزنادقة(1/27)
شبهتهم في إفراد وتثنية وجمع المشرق والمغرب
أما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ فشكوا في القرآن وقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟
هذا الشبهة، الشبهة جاءوا بثلاث آيات، قالوا: في آية أفرد المشرق والمغرب، قال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وفي آية ثنَّى المشرق والمغرب فقال: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ وفي آية جمع فقال: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ فكيف يكون هذا؟
آية فيها مشرق ومغرب واحد، وآية مشرقين ومغربين، وآية مشارق ومغارب، آية فيها جمع المشارق والمغارب، وآية فيها تثنية المشرقين والمغربين، وآية فيها توحيد المشرق والمغرب، كيف يكون هذا، هذه وجه شبهتهم وتشكيكهم. نعم.(1/28)
شبهتهم في إفراد وتثنية وجمع المشرق والمغرب (تابع)
أما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فهذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار، أقسم الله بمشرقه ومغربه. وأما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فهذا أطول يوم في السنة، وأقصر يوم في السنة، أقسم الله بمشرقهما ومغربهما.
وأما قوله: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ فهو مشارق السنة ومغاربها، فهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة
إذًا هذا جواب الإمام -رحمه الله- قال: أما إفراده المشرق والمغرب فهذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار. اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار متى؟ الليل والنهار لهما استواءان، الاستواء الأول في واحد فصل الربيع، وفي واحد فصل الخريف، يستوي الليل والنهار، أول يوم في فصل الربيع وأول يوم في فصل الخريف يستوي الليل والنهار، يكون الليل اثنتا عشرة ساعة والنهار اثنتا عشرة ساعة.
هذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار أقسم الله بمشرقه ومغربه فقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وأما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فهذا أطول يوم في السنة حينما يطول النهار، وأقصر يوم في السنة حينما يقصر النهار في الشتاء.
وأما قوله: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ فهذه مشارق السنة ومغاربها، هذا هو جواب الإمام عن هذه الشبهة، وهناك جواب آخر أجاب به العلماء، وذكره المفسرون فقالوا: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ التثنية المراد بهما مشرقي الشتاء ومشرقي الصيف، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الشتاء ومشرق الصيف.
وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشتاء، ومغرب الصيف، فالتثنية بالنسبة للشتاء والصيف رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ الشتاء والصيف، وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ الشتاء والصيف.
وأما قوله: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ فالمراد مشرق كل يوم ومغرب كل يوم. مشرق كل يوم تطلع فيه الشمس وتبرز إلى الدنيا، وكذلك المغرب، فجمع المشارق والمغارب بالنسبة لمشرق كل يوم ومغرب كل يوم، كما قال الإمام: مشارق السنة ومغاربها.
وأما قوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فالمراد الجنس. جنس المشرق وجنس المغرب. الجنس عام يشمل المشارق والمغارب كلها فيكون: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مثل: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ المراد الجنس، جنس المشرق والمغرب، والمعنى متقارب.
والمقصود أن الآيات، كل منها لها معنى، وليس في كتاب الله تناقض بحمد لله، كما يتوهمه هؤلاء الزنادقة(1/29)
شبهتهم في اختلاف مقدار يوم القيامة في القرآن
وأما قول: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وقال في آية أخرى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وقال في آية أخرى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا فقالوا: كيف يكون هذا محكما، وهو ينقض بعضه بعضًا؟.
هذه الشبهة، إذن الشبهة أنهم قالوا: إن الآيات متناقضة، هذه الآيات متناقضة ينقض بعضها بعضًا. الآية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هذا في آية السجدة.
وفي آية المعارج قال فيها: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا قالوا: كيف يكون هذا محكم ينقض بعضه بعضًا؟
في آية أن اليوم مقداره ألف سنة، والثانية أن اليوم مقداره خمسين ألف سنة، فكيف يجمع؟ يوم واحد، كيف يقال: أَلْفَ سَنَةٍ ويقال: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قالت الزنادقة هذا تناقض، يأتي جواب الإمام رحمه الله.(1/30)
شبهتهم في اختلاف مقدار يوم القيامة في القرآن (تابع)
قال رضي الله عنه، وأما قوله: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فهذا من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض، كل يوم كألف سنة، وأما قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وذلك أن جبرائيل كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصعد إلى السماء في يوم كان مقداره ألف سنة، وذلك أنه من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، فهبوط خمسمائة عام، وصعود خمسمائة عام، فذلك ألف سنة.
وأما قوله: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يقول: لو ولي حساب الخلائق غير الله ما فرغ منه في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ويفرغ الله منه مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، إذا أخذ في حساب الخلائق، وذلك قوله: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ يعني: سرعة الحساب.
هذا هو جواب الإمام -رحمه الله- وجاء بآية ثالثة، وهي قوله: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ تكون الآيات ثلاث وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ والآية الأخرى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ والآية الثالثة: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ .
الإمام أحمد -رحمه الله- جمع بين هذه الآيات قال: إن آية الحج: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هذا من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض، كل يوم كألف سنة، يعني: الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ كل يوم مقداره ألف سنة.
هذا أحد الأقوال الذي اختاره الإمام -رحمه الله-، هناك قول آخر أن المراد مقداره كأيامنا هذه؛ لأن الله خاطبنا بما نعرف، والأصل هو هذا لكن الإمام اختار هذا القول.
وأما آية السجدة وهي قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال: هذه في الدنيا، ما بين السماء والأرض، مسيرة خمسمائة سنة، كما في الحديث الآخر جاء في الحديث: أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام .
كما في حديث العباس بن عبد المطلب وغيره: أن بُعْدَ ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة، وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة، وبين السماء السابعة بحر ما بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، ثم بعد ذلك العرش .
وعلى هذا فيكون قوله عز وجل: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ جبريل ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصعد، فنزوله مقداره خمسمائة، وصعوده مقداره خمسمائة، هذه ألف سنة.
فنزول الأمر من السماء، وعروجه إلى الله، الجميع ألف سنة، هذا معنى قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ .
وذلك أن جبرائيل -عليه الصلاة والسلام- كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصعد إلى السماء في يوم كان مقداره ألف سنة، وذلك أنه من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، فهبوط خمسمائة عام، وصعود خمسمائة عام فلذلك أَلْفَ سَنَةٍ وأما قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا يقول: لو ولي حساب الخلائق غير الله ما فرغ منه في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ويفرغ الله منه مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، إذا أخذ في حساب الخلائق، فذلك قول الله -عز وجل-: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ وقال: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ .
هذا الجمع بينها أحد الأقوال التي جمع بها الإمام وابن القيم -رحمه الله- ذكر -في القصيدة النونية في الكافية الشافية- ذكر الجمع بين هذه الآيات. بين آية السجدة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وآية المعارج وهي قوله عز وجل: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ .
قال فيها قولان مشهوران للعلماء:
أنَّ آية السجدة في الدنيا، اليوم هذا في الدنيا، ينزل جبريل بالوحي من الله، ويصعد إليه فنزول خمسمائة وصعود خمسمائة، كما قال الإمام، وأما آية المعارج فهي في يوم القيامة، قال هذا القول اختاره جماعة من أهل العلم، وقال: أيدوا هذا بأمرين وأن آية المعارج في يوم القيامة:
الأمر الأول: أن سياق الآية يدل على أنها في يوم القيامة. إذا قرأت الآية: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا سياق الآية يدل على أنه في يوم القيامة، هذا دليل.
والأمر الثاني: مما يؤيد أنه في يوم القيامة حديث: تعذيب مانع الزكاة يقول في الحديث الصحيح: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَت له صفائح من نار، فأحمي بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فَيُرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب إبل ولا بقر لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة يسطح لها بقاع قرقر، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أخراها رُدَّ عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى وإما إلى النار .
قال: هذا الحديث فيه أن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة، فهذا يؤيد أنهما يومان، وأن اليوم الأول الذي فيه تنزيل السجدة في الدنيا، واليوم الذي في سورة المعارج يوم القيامة في الآخرة.
القول الثاني: أنهما جميعًا في الدنيا، قال ابن القيم "القول الثاني: أنهما في الدنيا، وقال: إن آية تنزيل السجدة فيها أن الأمر ينزل من الله -عز وجل- ثم يصعد إليه، وأن مقدار ذلك ألف سنة؛ لأن الهبوط خمسمائة، والصعود خمسمائة.
وآية المعارج أيضًا في الدنيا ليست في يوم القيامة؛ وذلك أن المسافة مقداره خمسين ألف سنة من العرش إلى الأرض السابعة السفلى. مقدار خمسين ألف سنة، المسافة بين العرش إلى المركز الذي في قرار الأرض السابعة السفلى؛ لأن هناك مركز، المركز هو محط الأثقال؛ لأن السماوات والأرضين كلها مستديرة الشكل ليس لها جهات إلا جهتان: جهة العلو وجهة السفل، فالأرض مثلًا والسماوات والأفلاك كلها ليس لها إلا جهتان: جهة العلو وجهة السفل.
والأرض كروية، وكذلك السماوات بل جميع الأفلاك، قال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ التكوير: التدوير، فقوله يدل على أن السماوات مستديرة والأرض مستديرة الشكل، والأفلاك المستديرة الثابتة ليس لها جهتان إلا جهة العلو وجهة السفل. ما فيه جهة أمام وخلف، أو يمين وشمال، أمام وخلف، يمين وشمال، وفوق وتحت، هذا للحيوانات المتحركة، للإنسان المتحرك، الآن أنا لي ستة جهات: أمام وخلف، ويمين وشمال، وفوق وتحت، هذه الجهات الست، لكن ليست ثابتة.
أمامي الآن هنا أمام، لكن لو تحركت واستدرت صار الخلف هو الأمام، والأمام هو الخلف، واليمين هو الشمال، والشمال هو اليمين. هذه غير ثابتة، لكن الأفلاك الثابتة السماوات والأرض، ليس لها إلا جهتان. جهة العلو وجهة السفل، فمثلًا الأرض مثل الكرة الآن، ليست مستديرة، لكنها تشبه البيضة، وليس لها إلا جهتان: جهة العلو، وجهة السفل.
كل ما عليها يسمى جهة علو، هنا علو من جميع الجهات، لكن من سعة الأرض، فيه ناس تحت، وناس فوق، الذي من هذه الجهة يتصور أن الذي هنا تحته، والذي هنا يتصور أن الذي هنا تحته، والواقع أن كلا منهم على علو الأرض بحيث إنك لو خرقت في الأرض خرق من هنا، ومن هنا في الأسفل للتقيا في المركز. لو نزل شخص من هنا، ونزل شخص من هذا التقت رجلاهما في المركز. هذا مركز الأرض، وهو محط الأثقال.
والآن كل من كان على ظهر الآن يسمى على جهتها، نحن الآن على ظهر الأرض. فيه ناس الآن يتصورون أنهم تحتنا الآن، وهم على ظهر الأرض من سعة الأرض.
لكن نحن فوق سطح الأرض، وهم على سطح الأرض، ولو خرقنا خرقا وهم خرقوا خرقا للتقيا في المركز الذي هو محط الأثقال.
كونك تتصور أن الأرض تحتك وهو يتصور لا غرابة فيه، كما أن النملة لما تمشي على السطح الآن. السطح فوقها، وهي تتصوره تحتها، تمشي عليه على رجليها هو تحتها وهو فوقها، فمحط الأثقال القرار في السماء السابعة السفلى هذا هو المحط.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: إن المسافة من العرش إلى القرار الذي هو محط الأثقال مسافة خمسين ألف سنة، وعلى هذا تكون آية السجدة وآية المعارج كلها في يوم واحد، واختار ابن القيم هذا القول الثاني، قال: هذا هو القول الذي أختاره، وإن كان الأول اختاره الفطاحل من العلماء، لكني أختار هذا القول، ثم قال ذلك في آخر القصيدة قال: "أن هذا القول الآن لم ينضج عندي، وعندي فيه شك، وأعوذ بالله من القول على الله بغير علم".
قاله في آخر القصيدة في الأول قال: إنهما يومان، ثم بعد ذلك من شدة ورعه -رحمه الله ورضي عنه- قال: "إن هذا القول الثاني يعني: عندي فيه شك لم ينضج بعد، وأعوذ بالله من القول على الله بغير علم" والله أعلم بمراده.
لكن فعلى هما قولان: قول أنهما اليوم الأول في الدنيا والثاني في الآخرة. والقول الثاني أن اليومين كليهما في الدنيا. هذا بالنسبة من السماء إلى الأرض صعود وهبوط، وآية المعارج المسافة من العرش إلى قرار الأرض السابعة.
وهناك قول ثالث أيضًا ذكره الحافظ ابن كثير وهو أن المراد عمر الدنيا كله. فعمر الدنيا كلها خمسين ألف سنة.
وهناك قول رابع: وهو أن المراد بخمسين ألف سنة يوم فاصل بين الدنيا والآخرة، فذكر الحافظ ابن كثير في الجمع بين الآيتين أربعة أقوال: لكن هذان القولان الأخيران فيهما ضعف، والراجح القولان، وأرجح القولين الذي اختاره المحققون هو الذي تبين أن اليوم الأول الذي في سورة التنزيل، هذا في الدنيا، واليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة، هذا في الآخرة، هذا هو الراجح، وهذا هو الصواب. أصوب الأقوال الأربعة هو هذا. وكان الإمام أحمد -رحمه الله- أشار إلى هذا قال: " يقول لو ولي حساب الخلائق غير الله لكان مقدار خمسين ألف سنة"
وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص، والذي هو ظاهر الأدلة أن اليوم الأول في سورة تنزيل السجدة: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هذا في الدنيا هبوط خمسمائة سنة، وصعود خمسمائة سنة، وأما اليوم الذي في سورة المعارج: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فالمراد به يوم القيامة بدليل سياق الآيات: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا .
وبدليل تعذيب مانع الزكاة، وأنه يعذب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
هل التنشئة يوم القيامة للأجساد هي تنشئة ذوات لا صفات أو العكس؟
سبق الكلام على هذا، وأن الله -تعالى- يوجد الذرات التي استحالت، والتبديل تبديل الصفات، نشأ الصفات والذوات هي هي، يعيدها الله. يعيد الذرات التي استحالت، ويركب من من عجب الذنب، وينشأ تنشئة أخرى قوية.
ما رأيك في رجل يظهر عليه علامات الالتزام، ويقول: ليست صلاة الجماعة واجبة، وعندما قلت له عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: لقد هممت... إلخ يقول: همَّ ولم يفعل. وعندما أذكر له قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وما يتخلف عنها... " فيقول: هذا من قول ابن مسعود أريد حديثًا، أو آية فما قولكم؟
هذا الأخ إن كان طالب علم وفهم هذا من النصوص، وطالب علم معروف بالالتزام، وهذا فهمه، فلا بأس له أن يفهم هذا الفهم، والعلماء الذين قال بعضهم: أن صلاة الجماعة ليست واجبة، قالوا: سنة معروف عنهم الالتزام والمحافظة، لكن قالوه من باب الورع، وحتى الذين قالوا سنة ملوم تاركها، فإذا كان طالب علم وظهر له الالتزام والصلاح فله ذلك.
أما إذا كان غير طالب علم، وليس عنده بصيرة، فليس له ذلك، والجواب عن هذا معروف: همَّ ولم يفعل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بيَّن الذي منعه قال: لولا ما فيه من النساء والذرية لأحرقتها عليهم .
وقول ابن مسعود الصحابة أعلم الناس بكتاب الله -عز وجل- وبمراد رسوله -صلى الله عليه وسلم- قوله: وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق هذا هو فهم الصحابة ولا شك أن فهم الصحابة للنصوص أقرب من فهمنا لها، فينبغي للإنسان أن يكف عن هذا حتى ولو كان يرى هذا ينبغي أن يكف، لا يكون سبب في التهوين من شأن صلاة الجماعة، فإنه قد يقتدي به بعض الناس ممن هو ضعيف الإيمان.
هل يصح أن يقال القرآن صفة الله؟
نعم، كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته.
قال لنا بعض الأساتذة في مدرستنا: إن الأشاعرة والجهمية والمعتزلة وغيرهم إنما هم ليس عليهم شيء؛ لأنهم مجتهدون فما رأيكم؟
أما الجهمية فكفَّرهم خمسمائة عالم، كما ذكر ابن القيم
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
عشر من العلماء في البلدان
وفي هذه الرسالة يسميهم الإمام الزنادقة الملاحدة، فالإمام أحمد كفَّرهم، ويقولون: القرآن مخلوق، وسيأتي في آخر الرسالة تكفيرهم، وأما المعتزلة ففيهم كلام لأهل العلم، كفرهم أيضًا كثير من العلماء، وبعض العلماء قال: إنهم مبتدعة، وتكفيرهم قول قوي؛ لأنهم يقولون: إن القرآن مخلوق، وينكرون صفات الله. ومعناه أن الله ليس له صفات، وإذا لم توجد الصفات، ولا الأسماء، لا وجود للذات، لا وجود للذات إلا بالأسماء والصفات، وأما الأشاعرة فهم مبتدعة معروف ينكرون بعض الصفات، والمعروف عند العلماء أنهم مبتدعة.
جاء في بعض الكتب أن المذاهب الفقهية في الإسلام خمسة: وهي الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، والجعفري، فما صحة ذلك؟
الجعفري " الرافضة " لا. بعضهم أضاف الزيدي.
المذهب الخامس الزيدي. نعم معترف به، الزيدية مبتدعة. أما الجعفرية رافضة، والرافضة لا يعتد بأقوالهم ولا كلامهم؛ لأن الرافضي وهو الإمامي لهم أسماء الجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق ويسمون إمامية ويسمون اثني عشرية ويسمون رافضة هذه الأسماء كلها لمسمى واحد هم الرافضة الذين يسبون الصحابة ويكفرونهم ويفسقونهم، وهذا ردة عن الإسلام، لكن المذهب الخامس زيدي وليس الجعفري.
ما مصير الجهمية والزنادقة يوم القيامة؟
مصيرهم والعياذ بالله الزنادقة النار؛ كفرة مخلدون في النار، فالزنديق الملحد كافر، والجهمية كذلك على ما أقره أهل العلم، وكفروهم يعني على العموم، القول بالخلد في النار فرع عن التكفير، فمن قيل: إنه كافر معناه أنه يخلد في النار، نسأل الله العافية.
له أخ مريض بالسرطان -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- يقول: نبحث عمن يرقيه، فهل في ذلك شيء من باب التوكل؟
لا بأس إذا كانت الرقية شرعية وليس فيها شعوذة، هذا مطلوب، لكن ترك الرقية أولى، السبعون ألفًا لا يطلبون أحدًا يرقيهم، لكن لو رقاه من دون طلب لا بأس، وهي جائزة، ولا سيما عند الحاجة، مباحة مشروعة إذا كانت بأسماء الله وصفاته، أو بأدعية شرعية مباحة، ولا محذور فيها، لا يذهب عند المشعوذين. يرقونه الناس الطيبين، يرقونه بكتاب الله، أو بأسماء الله وصفاته، أو بأدعية شرعية أو مباحة فلا بأس.
بعض طلبة العلم يقولون: إن الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة فهو كافر على الإطلاق، فهل هذا القول صحيح، وهل يجوز الخروج عليهم؟
هذه المسألة فيها تفصيل، إذا حكم بغير الله معتقدًا حله، وأنه حلال، وأنه يجوز له الحكم بغير الشريعة. نعم. أما إذا لم يعتقد ذلك، فقد يكون له شبهة. في هذا الأصل أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر لا يخرج من الملة، إلا إذا استحله، ورأى أنه حلال، وأنه يجوز الحكم بغير شرع الله، هذا ردة.
هل حصلت مناظرة بين الإمام أحمد والزنادقة أم أن هذا الكتاب قيل على لسانهم؟
الإمام أحمد كتب في الرد عليهم، حصل له مناظرة مع أحمد بن أبي دؤاد وغيره، ناظرهم لكن كل هذا الكلام مناظرة، لا يلزم أن يكون كل هذا الكلام مناظرة، لكن كتب هذا الكتاب في الرد عليهم، وهو ابتلي بهم -رحمه الله- حصل له مناظرة معهم، وكتب هذا في الرد عليهم.(1/31)
شبهتهم في قوله تعالى "ويوم نحشرهم جميعا"
قال -رحمه الله تعالى-: وأما قوله: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إلى قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فأنكروا أن كانوا مشركين، وقال في آية أخرى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض.
شبة الزنادقة في هذا يقولون: آيتان متناقضتان: الآية الأولى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ آية الأنعام.
إذًا أنكروا، تكلموا وأنكروا شركهم، والآية الأخرى آية النساء قال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا فالآية فيها أنهم لا يكتمون، والآية الأولى فيها أنهم كتموا شركهم، وقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ .(1/32)
الرد على شبهتهم في قوله تعالى "ويوم نحشرهم جميعا...."
الجواب: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وفذلك أن هؤلاء المشركين، إذا رأوا ما يتجاوز الله عن أهل التوحيد، يقول بعضهم لبعض: إذا سألنا نقول: لم نكن مشركين، فلما جمعهم الله، وجمع أصنامهم، وقال: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قال الله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فلما كتموا الشرك ختم الله على أفواههم، وأمر الجوارح فنطقت بذلك، فذلك قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وأخبر الله -عز وجل- عن الجوارح أنها شهدت، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
إذًا الجواب: أجاب الإمام -رحمه الله- عن الجمع بين الآيتين بأن المشركين لما رأوا ما يتجاوز الله عن أهل التوحيد يقول: قال بعضهم لبعض: إذا سألنا نقول: لم نكن مشركين، فلما جمعهم الله وجمع أصنامهم، وقال: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قال الله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ .
فلما كتموا الشرك ختم الله على أفواههم، وأمر الجوارح فنطقت، فذلك قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فعلى هذا يكون الكتمان كتمان الشرك بالنسبة للألسن، والتكلم بالنسبة للجوارح.
فإذًا قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ هذا قالوه بألسنتهم وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا بجوارحهم التي نطقت، وأما كتمانهم الشرك هذا محمول على الألسن.
هذا ما أجاب به الإمام، وهناك جواب آخر، وهو أن مشاهد القيامة متعددة في بعض المواقف يكتمون، وفي بعضها لا يكتمون يتكلمون؛ لأن يوم القيامة يوم عظيم، يوم طويل.(1/33)
شبهتهم في جواب أهل النار عن لبثهم في الدنيا
المثال العاشر: أما قوله عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ وقال: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا وقال: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا وقال في آية أخرى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا من أجل ذلك شكت الزنادقة
شكت الزنادقة من أجل الاختلاف بين الآيات، ففي آية يقولون: مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ يقسموا ما لبثوا غير ساعة، وفي آية لبثوا عشرا، وفي آية لبثوا قليلا، قال: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا .(1/34)
شبهتهم في جواب أهل النار عن لبثهم في الدنيا (تابع)
أما قوله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا وذلك إذا خرجوا من قبورهم وكانوا يكذبون به من أمر البعث، قال بعضهم لبعض: إن لبثتم إلا عشر ليال، واستكثروا العشر، فقالوا: إن لبثتم إلا يومًا في القبور، ثم استكثروا اليوم، فقالوا: إن لبثتم إلا قليلا، ثم استكثروا القليل، فقالوا: إن لبثتم إلا ساعة من نهار، وهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
الجمع بينهما واضح، أن هذه الحالات والأمور كلها حصلت منهم، فإذا خرجوا من قبورهم، نظروا ما يكذبون به من البعث قال بعضهم لبعض: إن لبثتم إلا عشر ليال، واستكثروا العشر، وقالوا: إن لبثتم إلا يوما في القبور، ثم استكثروا اليوم، فقالوا: إن لبثتم إلا قليلا، ثم استكثروا القليل، فقالوا: إن لبثتم إلا ساعة من نهار.(1/35)
شبهتهم في شهادة الأشهاد ونفي العلم من الرسل
وأما قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا وقال في آية أخرى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ فقالوا: كيف يكون هذا؟ ويقولون: لا علم لنا، وأخبر عنهم أنهم يقولون: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، فزعموا أن القرآن ينقض بعضه بعضًا.
هذه الشبهة واضحة، الآية الأولى قال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا وقال في آية أخرى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ وفي آية أخرى يقول الله تعالى: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وفي آية أخرى يقول تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ .
إذًا في آيات أنهم يقولون: لا علم لنا، وفي آيات أنهم يشهدون عليهم، وفي آية أنه يقول: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ .(1/36)
شبهتهم في شهادة الأشهاد ونفي العلم من الرسل (تابع)
الجواب: أما قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ فإنه يسألهم عند زفرة جهنم فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ في التوحيد فتذهب عقولهم عند زفرة جهنم فيقولون: لا علم لنا، ثم ترجع إليهم عقولهم من بعد فيقولون: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
إذًا الجمع بين الآيتين، أن كل من الآيتين محمولة على حال، فقوله عن الرسل أنهم قالوا: لَا عِلْمَ لَنَا فهذا عند زفرة جهنم حين تذهب عقولهم، ثم ترجع إليهم عقولهم فيقولون: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ يعني: تحمل كل من الآيتين على حالة، ففي أول الأمر عند شدة الهول، يقولون: لا علم لنا، فإذا خف هذا الأمر فإنهم يشهدون، ويقولون: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ .
إذًا يقولون في أول الأمر من شدة الهول عند زفرة جهنم وشدة الهول؛ لأن الله -تعالى- يقول: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .
سيأتي الحديث أن دعوى الرسل: اللهم سلم سلم عند مرور الناس على الصراط، ويقول الخليل: اللهم لا أسألك إلا نفسي فالمقصود أن جواب الإمام -رحمه الله- أن كلا من الآيتين محمولة على حالة، هناك جواب آخر، وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله- يقول: قوله سبحانه عن الرسل: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا أي: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا؛ لأننا وإن علمنا إجابتهم فإن علمنا علم بالظواهر فقط دون البواطن، وأما أنت يا رب، فأنت عالم بالظواهر والبواطن.
وهناك جواب آخر أيضا، وهو أن قوله -تعالى -: مَاذَا أُجِبْتُمْ سؤال لهم عما عملوا بعدهم، فيقولون: لَا عِلْمَ لَنَا لا نعلم ما أحدثوا بعدنا، ولا نعلم أعمالهم، وهذا قول مرجوح.
والمعتمد القولان، القول الذي اختاره ابن جرير والقول الذي ذكره الإمام أحمد -رحمه الله- أن كلا من الآيتين محمولة على حالة، عند شدة الهول يقولون: لَا عِلْمَ لَنَا ثم بعد ذلك يشهدون أو لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، وعلمنا قاصر على الظواهر، وأما علمك فهو علم شامل للبواطن والظواهر، نعم.
يؤيد هذا قول عيسى -عليه الصلاة والسلام-: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ نعم قد يدل هذا القول، الآية قد تدل بهذا القول لكن المعتمد القولان السابقان، نعم.(1/37)
شبهتهم في إثبات الرؤية ونفي الإدراك
وأما قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وقال في آية أخرى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ فقالوا: كيف يكون هذا؟ يخبر أنهم ينظرون إلى ربهم، وقال في آية أخرى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ فشكوا في القرآن، وزعموا أنه ينقض بعضه بعضا.
الإشكال عند الزنادقة يقولون: فيه آية أثبتت النظر أثبتت النظر إلى وجهه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وفيه آية نفت النظر قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فيه آية أثبتت رؤية الله، وفيه آية نفت رؤية الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ تنظر إلى الله، وفيه آية نفت النظر قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض، نعم.(1/38)
شبهتهم في إثبات الرؤية ونفي الإدراك (تابع)
الجواب: أما قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ يعني الحسن، والبياض إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني: تعاين ربها في الجنة.
يعني: يقول هناك فرق بين ناضرة الأولى، وناظرة الثانية عندنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ما الفرق بينهما؟ فيه فرق في المعنى، وفرق في الكتابة، في الكتابة الأولى ناضرة بالضاد أخت الصاد، والثانية ناظرة بالظاء أخت الطاء.
الأولى: ناضرة أخت الصاد من النضرة، والبهاء، والحسن، والجمال؛ ولهذا قال: يعني الحسن والبياض: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
الثانية: يعني: تنظر إلى ربها بعيونها، إذًا فرق في المعنى، فرق في الكتابة وفي النطق أيضا الضاد تخرج من حافة اللسان مع أطراف الأسنان.
أما ناظرة من أيش؟ من طرف اللسان في النطق يختلف في النطق، وفي الكتابة، وفي المعنى في النطق ناضرة الأولى، والثانية ناظرة في المعنى، الأولى ناضرة من النضرة، والبهاء والحسن والجمال.
وفي الثانية ناظرة من النظر بعيونها يعني هي تنظر بعيونها إلى الله، وفي الكتابة ناضرة بالضاد أخت الصاد، وفي الثانية ناظرة بالظاء أخت الطاء، فصار الفرق بين ناضرة، وناظرة في النطق، وفي الكتابة، وفي المعنى، واضح الأمر في تعريف الفروق الثلاثة، نعم.(1/39)
شبهتهم في إثبات الرؤية ونفي الإدراك (تابع)
وأما قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني: في الدنيا دون الآخرة، وذلك أن اليهود قالوا لموسى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا وعوقبوا بقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وقد سألت مشركو قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا فلما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المسألة قال الله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ حين قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ الآية، فأنزل الله -سبحانه- يخبر أنه لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: إنه لا يراه أحد في الدنيا دون الآخرة، فقال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني: في الدنيا أما في الآخرة فإنهم يرونه، وهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
الجمع الذي جمع بينهما الإمام -رحمه الله- أن قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني: تنظر إلى ربها في الجنة، وأما قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فهذا في الدنيا، فإذًا الجمع بينهما الآية الأولى محمولة على النظر إلى وجه الله في الدنيا، المؤمنون ينظرون إلى ربهم في الجنة، وأما الثانية: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ هذا في الدنيا لا يرون الله في الدنيا، ما يمكن أحد يرى الله في الدنيا، وفي الآخرة في إثبات، إذًا ما فيه تناقض.
الإمام -رحمه الله- يقول: " وذلك أن اليهود قالوا لموسى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا، وعوقبوا بقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ثم أحياهم الله بعد ذلك وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .
وقد سألت مشركو قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا في سورة الإسراء ذكر الله الاقتراحات التي اقترحها كفار قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب التعنت وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ والْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً .
كل هذه اقتراحات من باب التعنت، نعم فلما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل الله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ يعني سؤال تعنت كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ حين سأله بنو إسرائيل، وقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فأخذتهم الصاعقة فأنزل الله سبحانه يخبر أنه لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: لا يراه أحد في الدنيا دون الآخرة.
قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أي: في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرونه، وهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
هنا جواب آخر في الجمع بين الآيتين، وهو أن آية: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ عامة تخصص بالآية الثانية، وهي إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ المؤمنون في الجنة، فإنهم يرونه، وهذا قريب من المعنى الأول، تكون الآية من باب العموم والخصوص، فلا يراه أحد أبدا إلا المؤمنون، فتكون رؤية المؤمنين مخصصة لعموم لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ .
وهناك جواب ثالث، وهو الصواب، وهو أن قوله عز وجل: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ليس نفيا للرؤية، فيها نفي للإدراك، والإدراك أخص من الرؤية، والرؤية أعم، فالآية ليس فيها نفي للرؤية ما قال: لا تراه الأبصار، قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ والإدراك قدر زائد على الرؤية فقد يرى الإنسان الشيء، ولا يدركه؛ لأن الإدراك معناه الإحاطة، الإحاطة بالشيء، ومعرفة كنهه، فالمؤمنون وإن رأوا الله في الجنة لكن لا يدركونه، ولا يحيطون به رؤية.
فالمراد بنفي الإدراك، نفي الإحاطة، المستلزم لمعرفة الكنه والحقيقة والكيفية، فرق بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، فالمؤمنون يرون ربهم في الجنة، لكن لا يحيطون به رؤية، ولا يعلمون كنهه، بل إن الإنسان في الدنيا يرى الشيء، ولا يحيط به رؤية، فأنت ترى الجبل تراه لكن هل تحيط به رؤية؟ لكن هل تحيط به من جميع الجهات أم يخفى عليك شيء من جهاته؟ يخفى عليك شيء من جهاته.
وأنت في البستان، ترى البستان، ولا تحيط به رؤية إذا كان عندك بستان مسافة عشرة كيلو، في عشرة كيلو، تراه لكن هل تحيط به رؤية؟ لا تحيط به إذا أردت أن ترى الجوانب الأخرى تركب السيارة تذهب حتى ترى الجوانب الأخرى.
السماء الآن نراها لكن لا نحيط بالسماء رؤية؟ نرى الأرض، ولا نحيط بها رؤية، نحن الآن في مدينة الرياض، نراها، لكن هل نحيط بها رؤية؟ هل تعلم ما في الشرق أو الغرب أو في الشمال أو في الجنوب؟ ما تحيط به رؤية، إذًا هناك فرق بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، الله -سبحانه- ما نفى الرؤية، وإنما نفى الإدراك.
فالله -سبحانه- لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء لا يحيط به أحد رؤية، فهو أعظم وأعلى وأجل من أن يحيط به العباد، والله -تعالى- أخبر في قصة مسير موسى ومن معه من الجيش، ولحوق فرعون ومن معه بأن الجمعين تراءيا.
قال الله -عز وجل-: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ الجمع الذي مع موسى والجمع الذي مع فرعون وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ .
ثم قال بعد ذلك: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ موسى ومن معه امتثل أمر الله فسار بمن معه من بني إسرائيل، فتبعهم فرعون ومن معه جيش يتبع جيش فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ صار كل جمع يرى الجمع الآخر، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ إذًا هذا الإدراك غير الرؤية إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي: لمحاط بنا فموسى -عليه السلام- نفى الإحاطة، قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ وإن رأيتم الجيش من بعد، لكن لا يحيط بكم، ولا يدرككم.
فلما وصل موسى إلى البحر، أمره الله فضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان اثني عشر فريقًا على عدد القبائل، صار يبسًا، الماء الجاري السيال يبس في الحال، فلما تكامل موسى وقومه داخلون، تبعهم فرعون ومن معه، أرض يابسة، طُرُق، فلما خرج موسى ومن معه من الجهة الأخرى، وتكامل فرعون ومن معه داخلون، أمر الله البحر بأن يعود إلى حالته، فانطبق على فرعون وقومه فصارت أجسامهم للغرق، وأرواحهم للنار والحرق، نعوذ بالله.
فالشاهد قوله: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ أثبت الرؤية قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قال موسى كلا لستم بمدركين، فثبت أن الإدراك غير الرؤية، وهي قدر زائد على الرؤية، وهي الإحاطة، لما تراءى الجمعان، ظن أصحاب موسى أن فرعون سيلحقهم، ويحيط بهم، قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ البحر أمامنا، فإن خضناه غرقنا، وفرعون ومن معه خلفنا، فإن وقفنا أدركنا، ماذا نفعل: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ .
فإذًا لا منافاة بين الآيتين: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ إثبات الرؤية، وآية: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ليس فيها نفي الرؤية، وإنما فيها نفي الإدراك، والإدراك قدر زائد على الرؤية، وهي الإحاطة؛ لأن الإنسان قد يرى الشيء، ولا يحيط به رؤية، والله تعالى أعظم وأجل وأعلى من أن يحيط به العباد، رؤية مستلزمة معرفة الكل.
كما أن الله -سبحانه وتعالى- يُعلم، ولا يُحَاط به علمًا: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا أثبت العلم، العباد يعلمون ربهم ولكن لا يحيطون به علما، لو كان المراد بقوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لا تراه في الدنيا لم يكن في ذلك مدح وكمال لله -عز وجل- والآية سيقت مساق التمدح: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ولو كان المراد بها نفي الرؤية لم يكن في ذلك مدح، ولا كمال، لأن كون الشيء لا يُرَى ليس فيه مدح؛ لأنه يشارك المعدوم، المعدوم لا يُرَى، هل يمدح المعلوم بأنه لا يُرَى؟ ما يمدح، لو كان المراد بالآية نفي الرؤية ما كان فيه مدح ولا كمال، إنما الكمال إثبات الرؤية، ونفي الإدراك والحقيقية والكنه، فالمعنى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أنه تراه العيون، ولا تحيط به رؤية لكماله وعظمته، وكونه أعظم من كل شيء، وهو أعلى وأجل وأعظم من أن يدركه العباد.
أما في الدنيا فهذا معروف لا تراه في الدنيا، معروف أنه لا يراه أحد في الدنيا، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-سئل: هل رأيت ربك يعني ليلة المعراج؟ فقال: نور أنى أراه وفي لفظ: رأيت نورا .
وفي حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور -وفي لفظ حجابه النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
إذًا لا يراه أحد في الدنيا، ولما سأل موسى الرؤية في الدنيا: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي يعني في الدنيا وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا تدكدك الجبل ما ثبت، فكيف يثبت البشر الضعيف.
فإذًا رؤية الله في الدنيا جائزة عقلًا، لكنها غير واقعة شرعًا، ولا يستطيع أحد أن يثبت لرؤية الله في الدنيا، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ما يستطع أحد أن يثبت لرؤية الله، لكن في يوم القيامة ينشأُ الله الناس تنشئة قوية يتحملون فيها رؤية الله حتى نبينا -عليه الصلاة والسلام- ليلة المعراج ما رأى ربه على الصحيح، والمسألة فيها قولان لأهل العلم يعني: اتفق أهل السنة على أن الله -تعالى- لا يراه أحد في الدنيا، ولم يخالف في هذا إلا بعض الصوفية وبعض المشبهة الذين لا يعتد بقولهم، المشبهة الذين يقولون: إن الله يُرَى يمكن أن يُرَى في الدنيا.
وبعض الصوفية الذين قالوا: كل مكان فيه خضرة، لعل فيه ربنا، هؤلاء كفرة، والعياذ بالله، لا عبرة بهم وما عداهم، فقد أجمعت الأمة على أن الله -تعالى- لم يراه أحد في الدنيا، ولم يخالفوا إلا في نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، اتفقوا على أن الله تعالى لم يره أحد في الأرض، واتفقوا على أن غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يره باتفاق.
واختلفوا في رؤية نبينا -صلى الله عليه وسلم- خاصة ليلة المعراج في السماء، هل رأى ربه بعيني رأسه؟ على قولين لأهل العلم: القول الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه بعيني رأسه.
والقول الثاني أنه رآه بعيني قلبه، وهذا هو الصواب الذي عليه جماهير الصحابة والتابعون ولما سئلت عائشة -رضي الله عنها- لما سألها مسروق فقال لها: هل رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- ربه؟ قالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب .
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه والرسول من خلقه، ولقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ .
وجمع المحققون من أهل العلم بين الرواية التي فيها إثبات الرؤية، والرواية التي فيها نفي الرؤية؛ لأنه روي عن ابن عباس في الرؤية أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل لكن الجمع بينهما أن الروايات التي فيها إثبات الرؤية، محمولة على رؤية القلب، وأنه رأى ربه بقلبه.
والروايات التي فيها نفي الرؤية محمولة على رؤية العين، فما جاء من النصوص أن النبي لم ير ربه، يعني بعين رأسه، وما جاء من النصوص، والآثار أن النبي رأى ربه يعني: بعيني قلبه، وبهذا تجتمع النصوص، ولا تختلف.
ثم أن رؤية الله في الدنيا نعيم، لا تكون لأهل الدنيا، نعيم لأهل الجنة خاصة، فالمؤمنون يوم القيامة يتنعمون برؤية الله -عز وجل-، أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة هو رؤيتهم لربهم -عز وجل- حتى إنهم إذا رأوا الله نسوا كل ما هم فيه.
فرؤية الله نعيم ادخره الله لأجلنا، فلا يكون لأهل الدنيا، ما يمكن لأحد يراه في الدنيا، نعيم خاص لأهل الجنة، فالخلاصة رؤية الله في الدنيا جائزة عقلًا، لكنها غير واقعة شرعًا، جائزة يعني: غير مستحيلة.
والدليل على أنها جائزة عقلًا، يعني: لا يحيلها العقل أن موسى سأل ربه قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وموسى ما يسأل الشيء المستحيل، ولكنها غير كائنة في الدنيا، ولو كانت ممتنعة لأنكر الله على موسى كما أنكر على نوح حين سأل نجاة ابنه: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ولأن الله لم يقل لا أُرى، ولا يمكن رؤيتي أو رؤيتي مستحيلة: قَالَ لَنْ تَرَانِي أي في الدنيا ببشريتك الضعيفة، فإذا رؤية الله في الدنيا جائزة عقلا غير مستحيلة، لكنها غير واقعة شرعا.
أما في الآخرة فهي جائزة عقلا وواقعة شرعا، من أقوى الأدلة على أن الله -تعالى- لا يراه أحد في الدنيا ما ثبت في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا فإذًا هذه الآية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ليس المراد بها نفي الرؤية، وإنما المراد نفي الإدراك؛ لأنها سيقت مساق المدح.
ولو كان المراد نفي الرؤية لما كان في ذلك مدح؛ لأن المعدوم هو الذي لا يُرَى، والكمال في إثبات الرؤية هو نفي الإدراك؛ لأن النفي المحض لا يأتي في صفات الله، ما يأتي إلا النفي الذي يستلزم إثبات ضده من الكمال.
فالمعنى أنه يُرَى ولا يحاط به رؤية، كما أنه يُعلم، ولا يُحَاط به علما لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لكمال عظمته وكونه أعظم من كل شيء، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لكمال قوته واقتداره وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا لكمال عدله لا شريك له، ولا ولد، ولا صاحبة لكمال ربوبيته، وهكذا فالنفي الذي يأتي من صفات الله ليس نفيًا محضا، وإنما هو يستلزم إثبات ضده من الكمال.
ما يأتي النفي المحض الصرف، ما فيه مدح، فالمدح في النفي الذي يستلزم إثبات ضده من الكمال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لماذا لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء، أما النفي المحض فهذا ذم؛ لقول الشاعر:
قُبَيلَة لا يغدرون بذمة ولا
يظلمون الناس حبة خردل
هل هذا مدح؟ لا يغدرون، ولا يظلمون هو يذمهم يقول: لضعفهم وعجزهم، ولهذا صغَّرهم بقولة قُبَيلَة، وإنما يمدح الإنسان كونه لا يظلم إذا كان قادرًا على الظلم، ثم ترك الظلم، قادر على الغدر، ثم ترك الغدر، أما إذا كان عاجزًا لا يكون مدحا.
والشاعر الآخر يهجو قومه لما أُخِذَت إبله، واستنصر بهم، ولم يجد منهم نجدة قال يتمنى أنه من قبيلة أخرى يستنجد بها وتنجده قال:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذًا لقام بنصري معشر خشن
عند الحفيظة أن ذو لوثة لانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
لكونهم عاجزين ضعفاء، وهذا نقص، وإنما يكون كمالًا إذا كان قادرا، ثم ترك الظلم.
أما إذا كان عاجزًا فليس هناك مدح، فالشاهد أن النفي المحض الصرف في صفات الله لا يأتي بالنسبة لجناب الرب -عز وجل- لأن النفي المحض الصرف، هذا فيه ذم، كما سمعتم في الأمثلة، ولو قلنا: إنه لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ لا يراه أحد في الدنيا، معناه أن هذا شارَك المعدوم لا يراه أحد، فالمعنى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ تراه الأبصار، لكن لا تحيط به رؤية، وإن كان القول الأول اختاره الإمام - رحمه الله- وحمله على الدنيا، لكنه قول ليس بالقوي.
فالصواب في الجمع بين الآيتين أن الآية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ محمولة على نفي الإدراك، والإدراك قدر زائد على الرؤية، المعنى الله يُرَى، ولا يُحَاط به رؤية لكمال عظمته، وكونه أعظم من كل شيء.
وهذا هو القول الراجح وعلى هذا ما في تعارض: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ تنظر إلى ربها يوم القيامة، لكن لا تحيط به رؤية لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ آية أثبتت الرؤية، وآية نفت الإدراك، ولا منافاة بينهما فالشيء يرى ولا يدرك.(1/40)
شبهتهم في قول الكثيرين "أنا أول المسلمين "
المثال الثالث عشر وأما قول موسى سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وقال السحرة: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إلى قوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قالوا: كيف قال موسى وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وقد كان قبله إبراهيم مؤمنا، ويعقوب وإسحاق كيف جاز لموسى أن يقول: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ .
وقالت السحرة: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وكيف جاز للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ وقد كان قبله مسلمون كثير، مثل عيسى ومن تبعه، فشكوا في القرآن، وقالوا: إنه متناقض.
إذًا، هنا الزنادقة أتوا بأربع آيات، قالوا كل آية فيها الأولية، قال الله عن موسى وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وقال عن السحرة أنهم قالوا: أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وقال عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ فكيف ذلك مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبقه مسلمون، سبقه الأنبياء قبله.(1/41)
شبهتهم في قول الكثيرين "أنا أول المسلمين" (تابع)
الجواب: أما قول موسى وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ فإنه حين قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الله: لَنْ تَرَانِي ولا يراني أحد في الدنيا إلا مات: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات.
وأما قول السحرة: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أول المصدقين بموسى من أهل مصر من القبط.
وأما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ يعني: من أهل مكة فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
يعني كل أولية محمولة على حال، فالأولية في قول موسى وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات، وهذا بعد ماذا؟ لما سأل ربه الرؤية، قال الله: لَنْ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا بعد الصعق لما أفاق: قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات؛ لأنه صعق عليه الصلاة والسلام صعق، ثم أفاق من الصعقة.
وأما قول السحرة الذين آمنوا: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يعني: أول المصدقين، يعني: أول المصدقين، من أهل مصر من القبط أول المصدقين من أهل مصر فالأولية خاصة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ يعني: من هذه الأمة، فكل آية محمولة على حالة، فلا إشكال.(1/42)
شبهتهم في إثبات أشد العذاب لأكثر من طائفة
المثال الرابع عشر: وأما قول الله -عز وجل-: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وقال في آية أخرى: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وقال في آية أخرى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فشكوا في القرآن، وقالوا: إنه ينقض بعضه بعضا.
الإشكال الذي أوردته الزنادقة في الآية الأولى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ذكر أن لهم أشد العذاب، وذكر الذين كفروا من أصحاب المائدة أن الله قال فيهم: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ قالوا: هذه ثلاث فيها أشد العذاب، لا ندري هل هو أشد العذاب لآل فرعون أو أشد العذاب للذين كفروا من أصحاب المائدة، أو المنافقين ما ندري!.
آية أن أشد العذاب لآل فرعون وآية أن أشد العذاب للمنافقين، وآية أن أشدهم الذين كفروا من أصحاب المائدة، فشكوا في القرآن، وقالوا: إنه متناقض.(1/43)
شبهتهم في إثبات أشد العذاب لأكثر من طائفة (تابع)
الجواب: أما قوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ أي: أشد عذاب ذلك الباب الذي هم فيه. وأما قوله: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وذلك أن الله مسخهم خنازير، فعذبهم به ما لم يعذب أحدًا سواهم من الناس.
وأما قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ لأن جهنم لها سبعة أبواب: جهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية. وهم في أسفل درك منها.
إذًا الجواب، أجاب الإمام -رحمه الله- بأن آية غافر: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ أنها محمولة على أشد عذاب ذلك الباب الذي هم فيه، قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ لأن جهنم أبواب فهم عذابهم أشد عذاب ذلك الباب الذي هم فيه.
وأما آية المائدة: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فهو محمول على نوع العذاب الذي عُذبوه وهو المسخ، مسخهم الله خنازير، وهذا نوع خاص بهم، ما عذب به غيرهم.
والآية الثالثة آية النساء: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ لأن جهنم لها سبعة أبواب، وهي: جهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية، وهذه الأبواب كانت دركات، والمنافقون في الدرك الأسفل منها، نسأل الله السلامة والعافية هذا الجواب الذي أجاب به الإمام رحمه الله.
وهناك جواب آخر، وهو أن آية غافر: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وآية النساء: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ لا منافاة بينهما، كل من آل فرعون والمنافقين في أسفل دركات النار، في أشد العذاب، كل منهم استوى، استوى آل فرعون واستوى المنافقون في أن كلا منهم في الدرك الأسفل من النار، في أسفل دركات النار، في أشد العذاب، متساوون، ولا يزيد بعضهم على بعض، ما فيه تنافٍ، أن: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ بأنه لا يوافقهم أحد مثلهم، وكذلك المنافقين في الدرك الأسفل من النار ليس فيه نفي أن يكون أحد مماثل لهم، لكن فيها بيان أنهم في أشد العذاب.
المنافقون في أشد العذاب، وآل فرعون في أشد العذاب تساووا، لكن الآية تنفي أن يكون أحد أشد منهم عذابا.
وأما آية المائدة: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ أجاب العلماء عنها بجوابين: الجواب الأول: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ يعني: عالم زمانهم الخاص، كما في قوله تعالى في بني إسرائيل: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يعني: عالم زمانكم.
الجواب الثاني: أن المراد فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ العذاب الدنيوي خاصة، وهو المسخ مسخهم خنازير. فتكون آية: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ .
هذا في عذاب الآخرة، وآية: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ آية المائدة محمولة على عذاب الدنيا، عذبوا بنوع خاص ما عُذب به أحد، وهو المسخ خنازير، وهذا على القول بنزول المائدة وأن بعضهم كفر، فيكون عذبوا بالمسخ. أما على القول بأن المائدة لم تنزل كما هو قول مجاهد والحسن في تفسير الآية: "أن المائدة ما نزلت، وأنهم خافوا لما تُوعدوا بهذا العذاب خافوا فلم تنزل" فعلى هذا ما يكون فيها إشكال، لكن هذا خلاف ظاهر الآية: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ظاهرها أنها نزلت، ولكن لا يتم القول بأن آية فيها إشكال إلا إذا ثبت أن بعضهم كفر بعد نزولها، فيكون هذا في الدنيا، وأن العذاب الذي أصابهم هو المسخ.(1/44)
شبهتهم في تعدد طعام أهل النار وإفراده
المثال الخامس عشر: وأما قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ثم قال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ وقد أخبر أن لهم طعاما غير الضريع، فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض.
شبهة الزنادقة يقولون: آية تقول: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ آية فيها حصر، فيها نفي وإثبات، يعني: لا يوجد لهم طعام إلا الضريع، والضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، والآية أثبتت أنهم يأكلون من الزقوم قال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ وقد أخبر في آية أن لهم طعاما غير الضريع، فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض.(1/45)
شبهتهم في تعدد طعام أهل النار وإفراده (تابع)
الجواب: أما قوله: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ يقول: ليس لهم طعام في ذلك اليوم إلا من ضريع، ويأكلون الزقوم في غير ذلك اليوم، وذلك قوله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
نسأل الله العافية، إذًا الجواب الذي أجاب به الإمام -رحمه الله- عن الآيتين: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ يقول: ليس لهم طعام في ذلك اليوم خاصة لكن في غير ذلك اليوم يأكلون من الزقوم، فهذا معنى قوله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ وشجرة الزقوم يقال: هي الشبرق وهي شجرة لا تأكلها البهائم فضلًا عن الآدميين، هذا الذي ذهب إليه الإمام رحمه الله.
وهناك أيضا جواب آخر أو جمع آخر بين الآيات عندنا لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وفي آية أخرى: وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ وهو صديد أهل النار، وفي آية إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ هناك جواب آخر أجاب العلماء وهو أن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات، فمنهم من لا طعام له إلا من غسلين، ومنهم من لا طعام له إلا من الضريع، ومنهم من لا طعام له إلا الزقوم، ويدل لهذا قول الله -عز وجل-: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ .
إذًا على هذا الجواب يكون العذاب ألوان، والمعذبون طبقات المعذبون طبقات، وقيل المعنى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ قيل المعنى: لا طعام لهم أصلا؛ لأن الضريع لا يصدق عليه اسم الطعام، ولا تأكله البهائم، فأحرى ألا يأكله الآدميون، وكذلك الغسلين وكذلك الزقوم ليس بطعام، فمن طعامه الضريع لا طعام له، ومن طعامه الزقوم لا طعام له، ومن طعامه الغسلين لا طعام له، فكأن الله -تعالى- قال: لا طعام كما أن فلان لا ظل له إلا الشمس و لا دابة له إلا ثوبه يعنون- والمعنى لا ظل له أصلا، ولا دابة له أصلا، فعلى هذا القول نفى الطعام لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ .
المعنى أنه لا طعام لهم؛ لأن هذا لا يصدق عليه اسم الطعام، فيكون له ثلاث أنواع من الإجابة في الجمع بين الآيات.(1/46)
شبهتهم في نفي تولي الله الكافرين وإثباته
المثال السادس عشر وأما قوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ثم قال في آية أخرى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ فقالوا كيف يكون هذا من الكلام المحكم يخبر بأنه مولى من آمن ثم قال: وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ فشكوا في القرآن.
الشبهة يقولون الآية الأولى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ نفي أن يكون للكافرين مولى، وفي الآية الأخرى أخبر أن الكافرين مولاهم الله قال: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ فآية لا مولى لهم، وآية أن مولاهم الحق.(1/47)
شبهتهم في القاسطين والمقسطين
المثال السابع عشر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وقوله في آية أخرى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم.
هاتان آيتان: آية: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وفي آية أخرى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا آية أنه يحب المقسطين، وآية يخبر أنهم حطب لجهنم فكيف ذلك؟ نعم.(1/48)
الرد على شبهتهم في القاسطين والمقسطين
أما قوله: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا يعني العادلون بالله الجاعلون له عدلا من خليقته فيعبدونه مع الله، وأما قوله: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يقول: اعدلوا فيما بينكم، وبين الناس إن الله يحب الذين يعدلون، وقال في آية أخرى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يعني: يشركون، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
إذًا جمع الإمام بينهما بأن المقسط غير القاسط، القاسط يعني العادل بالله، الجاعل له عدلا من خليقته، الذي يعبد معه غيره وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا يعني: الجائرون العادلون بالله، الجاعلون له عدلا من خليقته حيث عبدوا معه غيره، كما في الآية الأخرى: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يعني: يشركون، القاسط هو الجائرالظالم المشرك بالله.
وأما المقسط فهو العادل، المقسطون هم العادلون، كما في الحديث، وهنا: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: اعدلوا بين الناس، إن الله يحب الذين يعدلون، والخلاصة أن الجمع بينهما أن المقسط غير القاسط، القاسط هو الجائر الظالم، وأما المقسط فهو العادل، فهما ضدان، فالقاسط ضد المقسط.
ومنه قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث في الصحيح: المقسطون -العادلون- على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وفي أهليهم، وما ولوا .
فإذًا هناك فرق بينهما: المقسط هذا العادل من أقْسَطَ يُقْسِط (الرباعي)، والقاسط: الجائر من قَسَطَ الثلاثي، فالمقسط من فعله أقسط يقسط، فهو مقسط يعني عَدَل يعدل فهو عادل.
وأما القاسط فهي من قسط الثلاثي قسط يعني ظلم وجار، فإذا كانت من الثلاثي فهو الجور والظلم، ومن الرباعي فهو العدل كلمة واحدة يختلف معناها، فإذا جاءت من الثلاثي: قسط يعني ظلم وجار، فإذا كانت من الثلاثي فهو الجور والظلم ومن الرباعي فهو العدل كلمة واحدة يختلف معناها فإذا جاءت من الثلاثي قسط جار وظلم وأقسط عدل فهما ضدان.(1/49)
شبهتهم في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ونفيها
المثال الثامن عشر وأما قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وقال في آية أخرى: وَالَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ ولَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وكان عند من لا يعرف معناه ينقض بعضه بعضًا.
هذه الشبهة إذا فيه آيتين آية التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فيه إثبات الولاية بين المؤمنين والآية الأخرى آية الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا نفي الولاية عن المؤمنين، الذين لم يهاجروا، وقال: وكان عند من لا يعرف معناه ينقض بعضه بعضًا.
عند من لا يعرف المعنى يحصل إشكال، أما عند الذي يعرف المعنى ما يحدث إشكال.(1/50)
الرد على شبهتهم في ولاية المؤمنين بعضهم لبعض ونفيها
الجواب: أما قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا يعني: من الميراث، وذلك أن الله حكم على المؤمنين لما هاجروا إلى المدينة ألا يتوارثوا إلا بالهجرة، إن مات رجل مهاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وله أولياء بمكة لم يهاجروا، فكانوا لا يتوارثون.
وكذلك إن مات رجل بمكة وله ولي مهاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرثه المهاجر، فذلك قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمِيرَاثِ حَتَّى يُهَاجِرُوا فلما كثر المهاجرون رد ذلك الميراث إلى الأولياء، هاجروا أو لم يهاجروا، وذلك قوله: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ .
وأما قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يعني في الدين، فالمؤمن يتولى المؤمن في دينه، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
الجمع بينهما واضح: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يعني في الدين، فالمؤمن يتولى أخاه في الدين، فينصره ويواليه، ويحبه هذه في الدين.
وأما آية الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فالولاية في الميراث المراد بها الميراث، فكل محمول على حال.
فآية التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يعني في الدين والمحبة والنصرة، وآية: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ المراد بها الميراث، فالأولياء الأقرباء، والولي: القريب وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: من ميراثهم حَتَّى يُهَاجِرُوا يعني من الميراث، وذلك أن الله حكم على المؤمنين لما هاجروا إلى المدينة ألا يتوارثوا إلا بالهجرة، فإن مات رجل مهاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وله أولياء بمكة لم يهاجروا فكانوا لا يتوارثون وكذلك إن مات رجل بمكة وله ولي مهاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرثه المهاجر.
يعني الرسول -عليه الصلاة والسلام- عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار لما هاجروا في أول الأمر، فكل واحد من المهاجرين له أخ من الأنصار يرثه إذا مات، كل واحد يرث الآخر، فالمهاجري إذا مات يرثه الأنصاري، والأنصاري كذلك، ولا يرثه أقاربه الذين في مكة إذا لم يهاجروا ما يرثونه، وكذلك إذا مات مؤمن في مكة ولم يهاجر ما يرثه أقاربه المهاجرون يرثه أقاربه الذين في مكة
وهذا في أول الأمر فلما كثر المهاجرون والمؤمنون نسخ الله ذلك، وجعل التوارث بالقرابة، انتهى التوارث، أنزل الله -تعالى- لما كثر رد ذلك الميراث، هاجروا أو لم يهاجروا، لما كثر المهاجرون نسخ الله ذلك، وجعل الميراث بالقرابة، فإذا مات الإنسان يرثه أقاربه، سواء في مكة أو في المدينة هاجر أو لم يهاجر.
وأنزل الله قوله: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَأُولُو الْأَرْحَامِ يعني الأقارب أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ سواء هاجر أو لم يهاجر. وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يعني في الدين والمحبة، و: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في القرابة في الإرث خاصة في أول الأمر، ثم نسخ الله ذلك فرد الميراث إلى القرابة، في قوله: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ هذا قول في الجمع بين الآيتين.
هناك قول آخر اختاره ابن كثير -رحمه الله- واستدل له بحديث أخرجه الإمام أحمد قال: معنى قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: لا نصيب لكم في المغانم، ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال، ولا مانع من تناول الآية للأمرين جميعًا، الآية تشمل الأمرين بعمومها، تشمل الأمرين، فيكون المراد بها نفي الميراث، ونفي القسم لهم من الغنائم والخمس.(1/51)
نفي قدرة الشيطان على عباد الله ونفيها
المثال التاسع عشر: وأما قوله - جل ثناؤه - لإبليس: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقال موسى حين قتل النفس: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فشكوا في القرآن، وزعموا أنهم متناقض.
الإشكال آية الحجر: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ أخبر الله أنه ليس له سلطان على عباد الله، وقال في قصة موسى لما قتل النفس قال: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ .
وجه الإشكال أن الله أخبر أنه ليس للشيطان سلطان على عباد الله، وموسى من عباد الله، فكيف ليس له سلطان على عباد الله، وموسى من عباد الله؟ ولما قتل النفس: قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ صار له سلطان على موسى والله قال: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وموسى من عباد الله، من أفضل عباد الله، كيف كان له سلطان عليه؟ وقال: قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ .(1/52)
الرد على شبهتهم في نفي قدرة الشيطان على عباد الله ونفيها
الجواب: أما قوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ يقول: عبادي الذين استخلصهم الله لدينه ليس لإبليس عليهم سلطان أن يضلهم في دينهم، أو في عبادة ربهم، ولكن يصيب منهم من قِبَل الذنوب، فأما في الشرك، فلا يقدر إبليس أن يضلهم عن دينهم، لأن الله -سبحانه- استخلصهم لدينه.
وأما قول موسى قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ يعني من تزيين الشيطان كما زين ليوسف وآدم وحواء، وهم عباد الله المخلصون، هذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
إذًا الجواب الذي أجاب عليهم -رحمه الله- بقوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ يقول: عبادي الذين استخلصهم الله لدينه ليس لإبليس عليهم سلطان أن يضلهم في الشرك، وعبادة غير الله خاصة، لكن قد يصيب منهم شيئًا دون الشرك: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ يعني: أن تضلهم عن عبادة غير الله، أو توقعهم في الشرك.
وأما قول موسى قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وهو من تزيين الشيطان، معصية دون الشرك، وأيضا هذه الحادثة التي وقعت لموسى قبل النبوة، قتل موسى للقبطي لما استنصر به الإسرائيلي هذا قبل النبوة: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ .
بعد ذلك: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ثم ذهب إلى مدين، وحصل له القصة مع الرجل الصالح، وأنه زوَّجه إحدى ابنتيه ورعى الغنم ثماني سنين أو عشر، وبعد ذلك فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا فلما جاء عند النار عند الجبل نبَّأه الله -عز وجل-، إذًا النبوة والرسالة بعد ذلك، وقتله النفس كان قبل النبوة ثم هذه معصية وليس شركًا، هذا هو الجمع بينهما.
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ يعني في الشرك، وعبادة غير الله هذا من عمل الشيطان، تزيين المعصية، يقول المؤلف: كما زين ليوسف، يوسف زين له الشيطان، كيف زين المعصية ليوسف ؟
قوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ولهذا الأفضل إذا وقفت على الآية تقرأ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ثم تقف وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ هم: هذا من تزيين الشيطان، الهم، كذلك آدم وحواء، معروف أنه زين لهم الأكل من الشجرة فَأَكَلَا مِنْهَا .(1/53)
شبهتهم في نفي النسيان عن الله وإثباته
وأما قول الله للكفار: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وقال في آية أخرى فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى فشكوا في القرآن.
الآيتان الآية الأولى وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ آية الجاثية والآية الثانية قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى وهي آية طه وكذلك آية وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا .
ففي آية تنفي النسيان عن الله، وفي آية تثبت النسيان فشكوا وقالوا: هذا تناقض؛ آية فيها إثبات النسيان لله الْيَوْمَ نَنْسَاكُم وآية نفت النسيان فكيف ذلك؟(1/54)
الرد على شبهتهم في نفي النسيان عن الله وإثباته
الجواب أما قوله: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يقول: نترككم في النار كما نسيتم، كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وأما قوله: فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى يقول: لا يذهب من حفظه ولا ينساه.
نعم الله -تعالى- منزه عن النسيان لا ينسى شيئًا، كما في قوله: فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى لا يذهب من حفظه ولا ينساه -سبحانه وتعالى-، ومثل قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا .
وأما وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا المراد بالنسيان الترك، نترككم في النار كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، هذا من باب المقابلة؛ قابل نسيانهم للعمل بتركهم في النار وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أي نترككم في النار، نعاملكم معاملة المنسي، كما تركتم لقاء يومكم هذا يعني أنهم عوملوا معاملة المنسي؛ لأن الله تركهم، كما أن المنسي يترك عاملهم معاملة المنسي؛ لأنهم نسوا لقاء يومهم هذا، فلم يعملوا للقاء، لم يعملوا لهذا اليوم العظيم، فلما لم يعملوا صاروا كأنهم ناسين، فعوملوا معاملة المنسي، فتركوا في النار كما يترك المنسي، وإلا سبحانه تعالى لا يلحقه النسيان.(1/55)
شبهتهم في إثبات الإبصار للعصاة ونفيه عنهم
المثال الحادي والعشرون: وأما قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا وقال في الآية الأخرى فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ قالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟
فيقولوا: إنه أعمى، ويقولوا: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ فشكوا في القرآن.
هذه الشبهة، فيه آيتان آية فيها أن الكافر حشر أعمى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى وآية فيها أنه يبصر فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يعني قوي، يثبت أن البصر قوي، وأنه يرى كل شيء، وآية فيها أنه أعمى، فكيف ذلك؟(1/56)
الرد على شبهتهم في إثبات الإبصار للعصاة ونفيه عنهم
أما قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى يعني عن حجته قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى عن حجتي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا بها مخاصمًا بها فذلك قوله: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ يقول: الحجج فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ .
وأما قوله: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وذلك أن الكافر إذا خرج من قبره شخص بصره، ولا يطرف بصره حتى يعاين جميع ما كان يكذب به من أمر البعث، فذلك قوله: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يقول: غطاء الآخرة، فبصرك يحد النظر، لا يطرف حتى يعاين جميع ما كان يكذب به من أمر البعث، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة
إذًا الإمام جمع بينهما في الآية الأولى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى يعني: أعمى عن الحجة، عن حجته قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى يعني: عن حجتي وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا بها مخاصمًا بها، أعماه الله عن حجته، فلا يستطيع، وذلك مثل قوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ يعني: الحجج، ضاعت عنهم الحجج، أعمى عن حجته، خذله الله، لهذا قال سبحانه: فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ضاعت حجتهم.
وأما قوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ هذا حينما يبعث الكافر، وذلك أن الكافر إذا خرج من قبره، شخص بصره ولا يطرف بصره حتى يعاين جميع ما كان يكذب به من أمر البعث، يقول: ما في بعث ولا جزاء، ولا حساب ولا جنة ولا نار، ولا وقوف بين يدي الله.
فإذا خرج من قبره شخص بصره، فرأى كل شيء، رأى أنه بعث، أنه وقف بين يدي الله، ورأى الحساب هذا معنى قوله فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يعني لا يطرف بصره حتى يعاين جميع ما كان يكذب به من أمر البعث، وذلك قول الله -عز وجل- لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ كان في غفلة، ثم بعد ذلك لما بعث صار بصره حديدا، فصار يعاين جميع ما يكذب به من أمر البعث، فزال الإشكال.
هل يجب هجر الأشاعرة الذين ينكرون استواء الله -عز وجل- على العرش على الإطلاق؟
هذا يختلف، الهجر لأهل البدع، وأهل المعاصي فيه كلام لأهل العلم، من العلماء من قال: إنهم يهجرون، وقال: إنه سنة مؤكدة كما ذكر عبد القوي في منظومته، وأنه ينبغي أنه يهجر أهل البدع، وأن يلقاهم بوجه مكفهر، أهل البدع وأهل المعاصي.
ومنهم من قال: واجب، ومن العلماء من قال: إن الهجر إنما يستعمل إذا كان أنفع للعاصي، وإذا كان يرتدع فلا بأس؛ لأن الهجر كالدواء يشفي كالدواء، إذا كان علاجا استعمله، وإذا كان غير علاج فلا تستعمله، فإذا كان إذا هجرته ترك المعصية، وترك البدعة فاهجره.
وإذا كان لا يفيده فلا تهجره؛ لأن بعض الناس يزيد شره إذا هجرته، يفرح، قبل أن تهجره كان يراعيك، ولا يتجاهر ببعض المعاصي، فإذا هجرته فرح وجاهر بالمعاصي ولا يبالي، هذا لا تهجره، استمر في نصيحته، فإذا كان الهجر يفيد استعمله واهجره، إذا كان تخف المعاصي وتقل المعاصي والبدع فاهجره، وإذا كان يزيد الشر، لا تهجره، استمر.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- هجر الثلاثة الذين خلفوا وهم: كعب بن مالك وصاحباه مرارة بن الربيع نعم وهلال بن أمية هجرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسين ليلة ولم يهجر المنافقين؛ لأن المنافقين لا يفيد فيهم الهجر، فالنبي هجر وترك.
هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية والمحققين من أهل العلم أن الهجر يستعمل كالدواء، إذا كان يفيد اهجر، وإذا كان لا يفيد لا تهجر، إذا كان الهجر يخفف المعاصي والبدع اهجر، وإذا كان يزيد استمر في النصيحة ولا تهجر.
وهذا يقول: هناك رجل يقال له الدكتور طارق السويدان مما راجت أشرطته في الآونة الأخيرة، لما يتميز به من أسلوب بياني في تصوير الأحداث، ولقد سمعنا أن بعض المشايخ يحذر من هذا الشخص، وأشرطته فما نصيحة فضيلتكم، وما وجه الاعتراض عليه؟
والله أنا ما سمعت لأشرطة كثير، لكن سمعت شيئا يسيرا من بعض الأشرطة، فتبين لي أن الرجل ليس بطالب علم، وأن كلامه ليس بطيب، وسمعت أن له أشرطة في الصحابة وأشرطة تخالف معتقدات السنة والجماعة، فإذا كان هذا صحيحا ينبغي تركه.
لكن لا أستطيع أحكم على أشرطة أخرى، لكن حسب ما سمعت أن الرجل ليس بطالب علم، وأنه يتكلم بغير علم شرعي، ليس من أهل العلم المعتبرين، فلا ينبغي الاعتماد عليه، وإنما يعتمد على كلام أهل العلم، وكتب أهل العلم المعروفين، المشهود لهم بالعلم والخير والرسوخ في العلم، والأمانة والورع والديانة.
ما وُجِدَ إلا طارق السويدان تسمع له اسمع للعلماء غيره، اتركه، اتركه اسمع للعلماء المعروفين المشهود لهم بالخير والعلم والرسوخ في العلم. وذلك بالرجوع لكتب العلم كالسيرة للإمام محمد بن عبد الوهاب وسيرة ابن هشام البداية والنهاية، ارجع إلى كتب العلماء السابقين، والعلماء -أيضًا- المعاصرين المعروفين بالعلم والمشهود لهم بالخير.
أما هذا الذي تشك فيه، أو فيه إشكال اتركه دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
يقول بعض الناس: إن سماحة الشيخ ابن باز بأنه حذر منه، ولكن أنا ما سمعت هذا، ولكن إذا ثبت أن الشيخ ابن باز حذر منه ينبغي ترك أشرطته.
هل للزنادقة وجود في هذا العصر ؟
نعم الزنادقة الجهمية الجهمية هم الزنادقة والملاحدة موجودون في كل عصر، يسمون في هذا العصر العلمانيين هم الزنادقة وهم المنافقون، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ومنهم الجهمية سماهم الإمام أحمد زنادقة الذين يقولون: إن الله حال في كل مكان، وينكرون الأسماء والصفات، واستواء الله على عرشه، موجودون الآن حتى يقولوا: إن بعض المدرسين جهمية وبعضهم معتزلة وبعضهم أشاعرة قال بعض المدرسين: ما أدري ربي في الأرض أم في السماء، أي أنه حالّ في كل مكان، فهذا من الزنادقة نسأل الله السلامة والعافية.
قول الله -تعالى- عن فرعون فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً هل هذا يدل على أن فرعون باق جسده إلى الآن؟
الله أعلم، لكن ظاهر الآية أن الله نجّاه، وأن الناس رأوه، أما كونه باقيا إلى الآن فالله أعلم، مضى سنون ودهور، الله أعلم، من يستطيع أن يجزم بأن الجسد باقٍ إلى الآن، لكن الله -تعالى- نجاه، يحتاج إلى مراجعة التفسير في هذا، لكن ظاهر الآية أن الله نجاه، ورآه الناس في ذلك الوقت، أما كونه باقيا إلى الآن فالله أعلم.
هل يجوز أن نقول: إن السد الذي بناه ذو القرنين اندك، وإن يأجوج ومأجوج مخالطون للناس الآن، وهل يجوز القول: إنهم هم الصينيون ؟
الله -تعالى- يقول: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا فالآية فيها أنهم لا يخرجون على الناس إلا في آخر الزمان بعدما ينزل عيسى ابن مريم ليس بصحيح هذا، فهم لا يخرجون إلا في آخر الزمان إذا نزل عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- في زمنه، ويحكم بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
حينما تأتي أشراط الساعة الكبار التي أولُها المهدي، ثم الدجال ثم عيسى نزول عيسى ثم يأجوج ومأجوج في ذلك الوقت يخرجون على الناس.
أما القول: بأنهم الصينيون الآن فمعناه أنهم خرجوا على الناس هذا معناه تكذيب للنصوص، التي فيها أنهم لا يخرجون إلا في عيسى معناه أنهم خرجوا على الناس الآن والرسول أخبر بأنهم يخرجون في زمن عيسى وأنهم يفسدون في الأرض، وأنهم يأتون يشربون المياه، ولا يبقون فيها شيئًا، ثم يمر آخرهم ويقول: لقد كانت في هذه المرة ماء، كل هذا يحصل بعد نزول عيسى في آخر الزمان.
ذكرتم في أول الدرس قول الله -تعالى-: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وذكرتم أن أهل السنة قالوا: إن التبديل هو تبديل صفة بصفة لا تبديل ذات بذات، فعلى أي أساس حمل على التغيير مع أن الظاهر هو ذات بذات تبديل؟
تبديل صفات ما هو صفة بصفة، تبديل صفات يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ هكذا قرر أهل العلم؛ وهكذا فهم العلماء، لأن النصوص ليس فيها دليل على أن هناك أرض أخرى، وأنه يؤتى بهذه الأرض، تزال هذه الأرض، ما فيه دليل أن هذه الأرض تزول بالمرة، وأنها تفنى، ثم يأتي بأرض أخرى هذا هو السبب.
أن الآية فيها تبديل ولا فيها إثبات إعدام لأرض، وإبدال أرض بدلها، وإنما فيها التبديل فقط، ولو كان المراد أرضا أخرى لجاء ما يدلنا على أن الأرض تفنى وتعدم، ويؤتى بأرض أخرى، وليس في هذا دليل على ذلك.
وهذا يقول: هل يجوز أكل ثمر أشجار سقيت بماء بئر قوم ثمود ؟
الله أعلم، قوم ثمود النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مر بهم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين فإن لم تبكوا فتباكوا، خشية أن يُصيبكم ما أصابهم ولما عجنوا من الماء منها، أمرهم -عليه الصلاة والسلام- أن يُعلفوه الإبل العجين.
فهذا ظاهر أنه لا ينبغي أن يؤخذ من مائها، أما هذا يسقى من مائها الثمار، فهذا الله أعلم يحتاج إلى دليل كيف يسقى بها الأشجار؟ يؤخذ من مائها؟
هذه مسألة تُرفع إلى هيئة كبار العلماء، يصدر فيها فتوى، هذه مسائل ليست مسألة فردية، لا بد يبعث لجنة ينظرون في الأمر، وفي الواقع ويصورونه ويدرسونه، ثم بعد ذلك يأتي الجواب على قدر الحالة، والصفة التي هي بها.
ما المقصود من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المطر: إنه قريب عهد بربه ؟، وهل يخالف هذا العلم الحديث بأن المطر عبارة عن تكثف البخار الناتج من الأنهار والبحار؟ وجزاكم الله خيرًا.
لا يخالف هذا، إذا كان جزء منه يأتي من البحار، ثم انعقد في جهة العلو فهو حديث عهد بربه، بمعنى أنه جاء من جهة العلو، والله -سبحانه- في جهة العلو، وهذا من الأدلة التي فيها إثبات العلو، وأن الله فوق السماوات، "حديث عهد بربه" أنه جاء من جهة العلو، وإن كان أصله انعقد من البحار، أو بعضه قد يكون بعض السحاب من البحار، وبعضها من غير البحار، ولو كان بعضها انعقد البخار من البحار، ثم صعد إلى فوق، يشمله الحديث أنه جاء من جهة العلو، لأنه جاء من جهة العلو، والله -سبحانه- في جهة العلو، فلا مانع ولا منافاة.(1/57)
شبهتهم في جمع وإفراد الله لنفسه في خطاب موسى وهارون
المثال الثاني والعشرين: وأما قوله لموسى إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وقوله في موضع آخر: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ وقالوا: كيف قال: إِنَّنِي مَعَكُمَا وقال في آية أخرى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فشكوا في القرآن من أجل ذلك.
هذا آخر الأمثلة، ثم يأتي المؤلف بشُبَهٍ للجهم
الإمام -رحمه الله- أتى بآيتين مثال لما شكت فيها الزنادقة
الآية الأولى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وهذا خطاب لله -تعالى- لموسى وهارون فقال: إنني بضمير الإفراد، أفرد ضمير نفسه إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وفي الآية الأخرى آية الشعراء إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ بضمير الجمع فقالت الزنادقة كيف؟ في آية يقول: "إنني" بضمير الإفراد، وفي آية يقول إنا بضمير الجمع فشكوا في القرآن من أجل ذلك.(1/58)
الرد على شبهتهم في جمع وإفراد الله لنفسه في خطاب موسى وهارون
أما قوله: إِنَّا مَعَكُمْ فهذا في مجاز اللغة يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك كذا وأما قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فهو جائز في اللغة، يقول الرجل الواحد للرجل: إني سأجري عليك رزقك، أو سأفعل بك خيرًا.
إذًا أجاب الإمام أحمد -رحمه الله- قال: إِنَّا مَعَكُمْ فهذا في مجاز اللغة يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك كذا يعني أن الواحد المعظم لنفسه يأتي بضمير الجمع هذا معروف، أسلوب عربي، وليس في هذا متعلق بالنصارى الذين يقولون بتعدد الآلهة قد يتعلقون بهذه الآية ويقولون: هذا يدل على تعدد الأرباب، لكن نقول: إن من يتعلق بهذا فهو من أهل الزيغ يجب على من أشكل عليه شيء من الآيات المتشابهة أن يردها إلى المحكم كقوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فتُرَد هذه الآية إلى تلك الآيات، ويبين معناها ويفسر معناها، بأن هذا باب التعظيم.
وهذا أسلوب عربي جائز في اللغة العربية، أن الواحد يُعظم نفسه، ويأتي بضمير الجمع كما يقول الملك أو الأمير: نحن هزمناهم، نحن قتلنا الجيش، نحن كذا يعظم نفسه، كما في المراسيم الملكية: نحن كذا أمرنا بما هو آت، فهذا أسلوب عربي، ولا يدل على تعدد الأرباب والآلهة، هذا أسلوب عربي الواحد يعظم نفسه يأتي بضمير الجمع، وهذا معنى قول الإمام فهذا في مجاز اللغة، يعني فيما يجوز في اللغة.
يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك، هذا جائز هذا أسلوب عربي، الواحد المعظم نفسه يأتي بضمير الجمع، وأما ضمير الإفراد في قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فهو جائز في اللغة مثال يقول الرجل للرجل: سأجري عيك رزقك، أو سأفعل بك خيرًا هذا أسلوب عربي أن يأتي بضمير الإفراد، ويأتي المعظم نفسه بضمير الجمع، أسلوب عربي -أيضًا- فيقول الرجل الواحد: إنا سنجري عليك، وهو واحد: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك كذا.
الخلاصة: أن هذا أسلوب عربي، والقرآن نزل بلغة العرب، فالواحد أحيانًا يعبر عن نفسه بضمير الإفراد، وأحيانًا يعبر عن نفسه بضمير الجمع، إذا قصد التعظيم، فليس هناك إشكال.
قوله في مجاز اللغة؟ كقوله بعد ذلك هو جائز في اللغة، لا فرق بين العبارتين المعنى واحد.
أما قوله: إِنَّا مَعَكُمْ فهذا في مجاز اللغة، وقل بعد ذلك.
وأما قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فهو جائز في اللغة المعنى واحد، وقد تعلق باللفظة الأولى بعض الناس، هذا في مجاز اللغة، يعني فهو فيما يجوز في مجاز اللغة، وليس المراد به المجاز المحدث، وهو المقابل للحقيقة، وقد تعلق بهذه اللفظة أهل المجاز وقالوا: إن الإمام أحمد يقول بالمجاز. قيل: كيف يقول الإمام بالمجاز؟ قالوا: قال الإمام أحمد هذا في مجاز اللغة.
وقد غلطوا في هذا، نقول: ليس مراد الإمام أحمد في هذا "في مجاز اللغة" يعني: المجاز الذي يقابل الحقيقة، لا، المراد فيما يجوز في اللغة.
أما المجاز الذي مقابل الحقيقة فهذا محدث بعد الأئمة الأربعة السلف الصحابة والتابعون والأئمة الأربعة، ما عرفوا المجاز، إنما المجاز كان بعد ذلك، لكن تعلق البعض بهذه اللفظة أهل المجاز وقالوا: إن الإمام أحمد يقول بالمجاز، وقد غلطوا، ليس مراد الإمام أحمد بالمجاز الذي يقابل الحقيقة، إنما مراده: ما يجوز في اللغة، أما المجاز فهذا محدث أحدثه بعد ذلك كثير من المتكلمين، ومن البلاغيين من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فقالوا: اللغة العربية فيها مجاز، وقالوا: القرآن فيه مجاز، والسنة فيها مجاز، وأبطلوا بذلك نصوص الصفات.
قالوا: إن قول الله -تعالى-: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مجاز يراد به الاستيلاء، ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا مجاز المراد ينزل أمره، أو تنزل رحمته، أو ينزل الملك وهكذا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ قالوا: هذا مجاز ليس لله يدان، ومعناه النعمة أو القدرة.
فإذًا المجاز محدث لم يعرفه العرب الأوائل، ولم يعرفه الصحابة ولم يعرفه الأئمة الأربعة ولا يوجد ولا لفظة من الأئمة الأربعة في إثبات المجاز إلا هذه اللفظة التي تعلق بها بعض الناس وقالوا: إن الإمام أحمد يقول بالمجاز، "فهو في مجاز اللغة".
ومراد الإمام أحمد فيما يجوز في اللغة، مثل العبارة التي بعدها فهو جائز في اللغة، وقد حقق هذا المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وبينوا أن المجاز لا يعرفه أهل اللغة، تقسيم الكلام إلى مجاز وحقيقة لا يعرفه أهل اللغة ولا يعرفه الصحابة ولا يعرفه الأئمة الأربعة وقالوا: إن هذا محدث أحدثه البلاغيون، وأحدثه المتكلمون، وقصدوا من ذلك إبطال حقائق الصفات، صفات الله وأسمائه -سبحانه وتعالى-.
العلامة ابن القيم -رحمه الله- سمى المجاز طاغوتا، "طاغوت المجاز"، وكسر الطواغيت في "الصواعق المرسلة" قال: إن هذا المجاز هذا طاغوت، أبطل به أهل الكلام والمبتدعة ونُفاة الصفات حقائق عن أسماء الله وصفاته.
وبعض المتأخرين من البلاغيين وغيرهم يقولون: إن إنكار المجاز مكابرة، وإن الذين أنكروا المجاز لا يستطيعون أن ينفوا كلمات فيها مجاز؛ فالأسد -يقولون-: يطلق على الحيوان المفترس، ويطلق على الرجل الشجاع، وإطلاقه على الرجل الشجاع هذا مجاز.
وأجيب بأن اللغة العربية فيه أساليب لها معان متعددة، ويطلق بلفظ على معنيين ولكن يكون أحدهما أقرب إلى الآخر، ولا بد من قرينة تبين المراد، فإذا ذكر الأسد فالمعنى القريب ينصرف إلى الحيوان، وينصرف إلى الرجل الشجاع بوجود دليل كما إذا قلت: رأيت أسدًا يتكلم، هذا دليل على أن المراد به الشجاع؛ الرجل الشجاع.
كقوله تعالى: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ قالوا: الإرادة لا تكون إلا للحي المتحرك، نقول: لا مانع من إثبات الإرادة للجدار وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ واسأل أهل القرية، القرية تطلق على الساكنين، وتطلق على غير الساكنين، وتوسط بعض العلماء، هذا مذهب العلامة محمد أمين الشنقيطي وقال: إن القرآن والسنة ليس فيهما مجاز، لكن يوجد في اللغة العربية مجاز، والقرآن والسنة ليس فيهما مجاز.
إذًا تعلق بعض الناس بهذه الكلمة "في مجاز اللغة" للإمام أحمد لا وجه له؛ لأن مراد الإمام أحمد في مجاز اللغة أي فيما يجوز في اللغة، والإمام أحمد -رحمه الله- لا يقول بالمجاز.
هذا أسلوب عربي، وهناك أيضًا جمع واضح معروف لأهل العلم، وهو أن كل من الآيتين فيهما إثبات المعية لله -عز وجل- إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وقوله: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فكل من الآيتين فيهما إثبات المعية، لكن في الآية الأولى إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى معية خاصة، وفي الآية الثانية إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ معية عامة.
والمعية صفة من صفات الله -عز وجل-، فكل من الآيتين إثبات المعية لله -عز وجل- والمعية معناها في اللغة العربية مطلق المصاحبة، وهي لا تقتضي مماسة ولا محاذاة ولا مجاورة عن يمين ولا عن شمال.
وإنما كلمة مَع في اللغة العربية لمطلق المصاحبة، وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها فهي تتنوع بتنوع متعلقاتها ومصحوبها، فمِن تنوُّعِ متعلقاتها أن يكون الإنسان معك تقول: اذهب وأنا معك، يعني بنفسي ومن أنواع متعلقاتها أن يكون جيشه معه اذهب وأنا معك يعني جيشي معك أو قائدي معك.
ومن متعلقاتها أن يكون مال الإنسان معك اذهب وأنا معك، معك يعني مالي معك، هذه كلها أنواع متعلقات المعية، قد يكون نفس الإنسان معه ذاته معه، وقد يكون جيشه معه، وقد يكون القائد معه، وقد يكون المال معه، اذهب وأنا معك بمالي، وتقول العرب فلان وزوجته معه وبينهما شُقة بعيدة قد تكون في الشرق وهو في الغرب، ويقول زوجتي معي.
وتقول العرب ما زلنا نسير والقمر معنا، والنجم معنا، والقمر بينك وبينه مسافات فوق، ما زلنا نسير والقمر معنا، هذه معية نعم والنجم معنا، ويقال: مع فلان دار كذا، وضَيْعة كذا، ويقال: فلان متاعه معه، وإن كان فوق رأسه.
فإذًا المعية لا تقتضي الاختلاط والامتزاج كما يدعي أهل البدع؛ أهل البدع استدلوا بقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ بأن الله مختلط بالمخلوقات، وأن الله مع المخلوقين مختلط بهم، وقالوا: معنى المعية الاختلاط والامتزاج، وهذا من أبطل الباطل، نقول: المعية لا تفيد الاختلاط والامتزاج.
المعية في القرآن الكريم في غير معية الله لا يفيد في موضع منها واحد اختلاطا ولا امتزاجا، قال الله -تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ هل هذه المعية تفيد الاختلاط والامتزاج؟ لا تفيد، فإذا كانت المعية في القرآن في غير معية الله لا تفيد التصاقا ولا امتزاجا، فكيف يقال: إن معية الله تفيد الاختلاط والامتزاج؟.
فإذن هاتان الآيتان وأشبههما ليس لأهل البدع فيهما دليل على أن الله مختلط بمخلوقاته تعالى الله عما يقولون، فالله فوق العرش، وهو مع العباد بعلمه واطلاعه وإحاطته وتدبيره ونفوذ قدرته ومشيئته، وهو مع المؤمنين، ومع الصابرين والمتقين بتأييده ونصره وحفظ وكلاءته.
فالمعية نوعان: معية عامة، ومعية خاصة، فالمعية العامة: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ هذه معية عامة، ومثل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فافتتح الله الآية بالعلم وختمها بالعلم، فدل ذلك على أن المعية معية علم وإحاطة واطلاع قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ هذه معية عامة، معية علم وإحاطة واطلاع، ونفوذ وقدرة ومشيئة وتدبير، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هذه معية عامة.
وأما المعية الخاصة فمثل الآية الأولى التي مثل بها الإمام أحمد إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى الضمير لموسى وهارون هذه معية خاصة وهي معية حفظ ونصر وكلاءة وتأييد، ومثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا هذه معية خاصة، وكل من المعية العامة والمعية الخاصة فيهما معية مصاحبة ولكن المعية العامة معية اطلاع وإحاطة، والمعية الخاصة هي معية نصر ومولاة وتأييد.
والمعية العامة تأتي في سياق المحاسبة والتخويف والمجازاة، والمعية الخاصة تأتي في سياق المدح والثناء. والمعية العامة تكون للمؤمن والكافر، والمعية الخاصة خاصة بالمؤمن.
وعلى هذا يكون هناك فروق ثلاثة بين المعية العامة والمعية الخاصة، فروق ثلاثة: المعية العامة معية اطلاع وإحاطة ونفوذ وقدرة ومشيئة وتدبير، والمعية الخاصة معية حفظ ونصر وكلاءة وتأييد وتوفيق وتثبيت.
ثانيًا: العامة سياق المحاسبة والتخويف والمجازاة وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أما المعية الخاصة تأتي في سياق المدح والثناء إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ .
الفارق الثالث: إن المعية العامة تكون للمؤمن والكافر، فالله -تعالى- مع المؤمن والكافر باطلاعه وإحاطته ونفوذه وقدرته ومشيئته وتدبيره ومحاسبته ومجازاته، أما المعية الخاصة فهي خاصة بالمؤمن، وعلى هذا فإذا نظرنا إلى الآيتين اللتين ذكرهما الإمام أحمد -رحمه الله- نجد الآية الأولى إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى هذه معية خاصة؛ لأن الخطاب لموسى وهارون
أما الآية الثانية إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ هذه عامة، والله -تعالى- أفرد ضمير نفسه لما أفرد موسى وهارون فقال: إنني معكما، ولما دخل فرعون معهم في الذكر جمع الله الضمير فقال: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ لما أفرد موسى وهارون جاءت المعية الخاصة إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى أفرد ضمير نفسه، ولما دخل فرعون معهم في الذكر جمع الله ضمير نفسه فقال: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فقال في المعية الخاصة لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ولما أدخل معهما فرعون في الذكر جمع الله ضمير نفسه فقال: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ كيفية المعية؟ تليق بجلال الله وعظمته.
إذًا الإمام أحمد -رحمه الله- جمع بين الآيتين أن هذا جائز في اللغة، والجمع الآخر أن الجمع بينهما أن الآية الأولى معية خاصة، والثانية معية عامة، فيها إثبات المعية العامة، والمعية الخاصة، فالمعية الخاصة لموسى وهارون والمعية العامة لما دخل معهم فرعون جاءت المعية العامة.(1/59)
دعوة الجهم إلى المتشابه من القرآن والحديث
وكان الجهم وشيعته دَعَوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم معشرًا كثيرًا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله.
يعني يقول الإمام أحمد -رحمه الله- إن الجهم الذي تنتسب إليه الجهمية وهم الذين نفوا الصفات عن الله -عز وجل-، وشبهوا على الناس دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث؛ من أجل أن يضلوا فضلوا بأنفسهم وأضلوا، ضلوا يعني بأنفسهم، وأضلوا يعني أضلوا غيرهم، فضلوا وأضلوا بكلامهم معشرًا كثيرًا.
هذا الجهم وشيعته وأتباعه الذين نفوا الصفات عن الله -عز وجل- وأنكروا وقالوا بالجبر والإرجاع، هؤلاء هذا أصل أمر يقول الإمام أحمد إنهم دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن ومن الحديث فضلوا وأضلوا، يأتون بالمتشابه حتى يضلوا به أنفسهم، ويضلوا به الناس.
وكان الجهم هذا يقول: يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "إنه من أهل خراسان ومن أهل ترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وجدل، وكان أكثر كلامه في الله -عز وجل-" في أسمائه وصفاته فلقي أناسا من الكفار. نعم.(1/60)
لقاء الجهم والسمنية
فلقيه أناس من الكفار يقال لهم: السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ فقال الجهمي: نعم. فقالوا له: فهل رأيت عين إلهك؟ قال: لا. قالوا: هل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: أشممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا: أفوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: أفوجدت له حسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر ما يعبد أربعين يوما.
الجهم يقول الإمام: أنه لقي أناسا من الكفار، يقال لهم: السُّمنية السمنية طائفة كفار من الهند لا يؤمنون إلا بالحسيات، لا يؤمنون إلا بما يدرك بالمحسوسات الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس، هذه الحواس الخمس، والذي يدرك بالحواس الخمس هذا يثبتونه، والذي لا يدرك بالحواس الخمس ينفونه.
الشيء الذي تراه بعينك أو تسمعه بإذنك أو تشمه بأنفك، أو تذوقه بلسانك، أو تلمسه بيدك "تجسه" هذا تثبته، وما عدا ذلك فليس له وجود، ما يؤمنون إلا بما يُدرَك بإحدى الحواس الخمس، هؤلاء السُّمنية.
فعرفوا الجهم فقالوا: "نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك" يعني قالوا للجهم نحن نكلمك، وتكلمنا هاتِ حجتك، ونأتي بحجتنا، ندلي بحجتنا، فإن كانت حجتنا أقوى أدخل في ديننا، وأنت ائت بحجتك، فإن كانت حجتك أقوى دخلنا في دينك.
فقالوا له: ألست تزعم أن لك آلهًا وربًا، قال: نعم. قالوا: إلهك هذا الذي تزعم هل رأيت إلهك بعينك؟ قال: لا. قالوا: هل سمعت كلامه بأذنك؟ قال: لا.
هذه الحواس الخمس، قالوا: أشممت له رائحة؟ قال: لا: قالوا له: هل وجدت له مجسًا؟ مجسًا يعني: الجس باليد، في الصحاح جسه بيده، واجتسه أي: مسه، والمجسة الموضع الذي يجسه الطبيب.
يعني هل وجدت له مجسًا بيدك؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حسًا؟ الحس والحسيس يطلق على الصوت الخفي.
وأصل الإحساس الإبصار ومنه قوله تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ثم استعمل في الوجدان والعلم، في أي حاسة كانت أفوجدت له حسا؟ يعني هل وجدت له وجدانًا؟ وعلمت وجوده بأي حاسة كانت من الحواس الخمس؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ إذًا معدوم، ما عندك إله؛ لأنك لا تدركه بحاسة من الحواس الخمس، لم تره بعينك، ولم تسمعه بأذنك، ولم تشمه بأنفك، ولم تجد له مجسًا بيدك، ولم تجد له حسًا، ولم تجد له وجدانًا بأي حاسة من الحواس، إذًا معدوم، قالوا: فما يدريك أنه إله. قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يوما، ترك الصلاة لفظها ترك الصلاة أربعين يومًا، تحير ما يدري حيروه أهل السمنية فتحير، فلم يدر من يعبد، فترك الصلاة أربعين يومًا. نسأل الله السلامة والعافية. ثم بعد ذلك استدرك.(1/61)
استدراك الجهم حجة مثل حجج النصارى
ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار.
فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسُّمني: ألست تزعم أن فيك روحًا؟ قال: نعم. فقال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسًا ومجسا؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، فهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه.
قال الإمام: "ثم إن الجهم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى "، الزنديق -كما سبق-: هو المنافق قد يكون المنافق من النصارى قد يكون من المسلمين ينتسب إلى الإسلام وهو زنديق، وقد ينتسب إلى النصارى فإن بولص زنديق، ودخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى كذلك عبد الله بن سبأ اليهودي الحميري في زمن عثمان بن عفان دخل في الإسلام نفاقا، منافق يهودي خبيث، دخل في الإسلام نفاقا؛ ليفسد دين الإسلام.
كما أن بولص دخل في دين النصارى نفاقًا؛ ليفسد دين النصارى فالزنديق قد يكون من النصارى منافق ليفسد دين النصارى وقد يكون من المسلمين ليفسد دين المسلمين
عبد الله بن سبأ اليهودي أظهر دين الإسلام وأبطن الكفر وهو يهودي ليفسد دين الإسلام، وسعى في الفتنة حتى تمكن من قتل عثمان -رضي الله عنه- الخليفة الراشد.
وهذا بولص كذلك دخل في دين النصارى فأفسده، فالجهم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ؛ وذلك أنهم يزعمون أن الروح التي في عيسى هو روح الله، من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما يشاء، فهو روح غائب عن الأبصار.
النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هو روح الله، من ذات الله، يزعمون أن عيسى جزء من الله -والعياذ بالله- هكذا يزعم النصارى يقولون: إن عيسى كلمة الله، يعني: هو نفسه كلمة جزء من الكلمة، فيكون جزءا من الله، وهذا من أبطل الباطل.
الصواب أن عيسى ليس هو الكلمة بل هو مخلوق من الكلمة، كما قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فعيسى ليس هو الكلمة، بل هو مخلوق من الكلمة، قال الله له: كن فكان.
النصارى يقولون: عيسى نفس الكلمة، كلام الله، كلام الله صفة من صفاته، فجعلوا عيسى نفس الكلمة، يعني: جزءا من الله -نعوذ بالله- فزنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله، من ذات الله يعني جزءا من الله، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار.
الجهم استدرك مثل هذه الحجة، فقال للسمني الذي لا يؤمن إلا بالحسيات: ألست تزعم أن فيك روحًا أيها السمني؟ قال: نعم. قال: هل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.
كما أنك الآن فيك روح ولا تراه ولا تدركه بإحدى الحواس الخمس، فكذلك الله لا يدرك بإحدى الحواس الخمس، فقال: كذلك الله لا يُرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يُشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، يعني يكون في جميع الأرجاء، هذا على القول بالحلول، هذا على القول بالحلول، يعني أنه حالٌّ في كل مكان سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ .(1/62)
تأويل الجهم للقرآن على غير تأويله
ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابهة قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وقوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ فبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله كان كافرًا، وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية
إذًا الجهم وجد ثلاث آيات من القرآن من المتشابه، وبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله الآية الأولى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أخذ بعض الآية، وترك بعضها وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تركها لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ قال: إن الله لا يماثله شيء من الأشياء، وسيأتي أن معنى هذه الكلمة من الآية: إن الله لا يماثله شيء من الأشياء، إنكار وجود الله.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ قال: إن الله لا يماثله شيء من الأشياء، والآية الثانية قوله: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ قال بالحلول يعني: أنه في السماء وفي الأرض وفي كل مكان، والآية الثالثة لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ يعني أنه لا يُرى.
إذًا هو في كل مكان، ولا يُرى و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لا يرى: يريد أن يسد الباب حتى لا يحاول أحد أو يطلب أو يسأل أحد رؤية الله، والثانية وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ هذا أثبت به الحلول.
والثالثة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أثبت بها أنه معدوم، كما سيأتي فبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله.
سيأتي الآن تفسير أنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ولا يشبهه شيء من الأشياء، سيأتي في كلام الإمام -رحمه الله- فبنى أصل كلامه على هذه التأويلات تأول القرآن على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرًا، وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا، فتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية
أما قوله: "فتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة " ليس المراد بأصحاب أبي حنيفة يعني أصحاب الإمام وتلاميذه، ليس المراد هذا، وإنما المراد من أتباع مذهب أبي حنيفة الحنفية جماعة من الحنفية وأما تلاميذ الإمام محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف فهؤلاء من العلماء، ومن كبار العلماء، لا يقولون بهذا، وكذلك الإمام.
لكن بعض الحنفية بعض أتباع الحنفية بعضهم أشاعرة، بعضهم جهمية، وبعضهم معتزلة، وكذلك بعض أتباع الشافعية وبعض أتباع المالكية بعض أتباع الحنابلة يوجد في الحنابلة من هو أشعري ومعتزلي، ويوجد في الشافعية المراد ليس المراد من التلاميذ، وإنما المراد من أتباع المذهب، يكون المذهب حنفيا، هذا مذهب حنفي في الفروع، ولكن في العقيدة أشعري، أكثر الأحناف الحنفية أشاعرة، يكون مثلا في المذهب شافعيا في الفقه مثل الرازي شافعي لكنه جهمي في العقيدة والصفات، كذلك قد يكون حنبليا في المذهب لكن في المعتقد يكون يتمشى مع مذهب الأشاعرة وهكذا.
فالمراد من أتباع المذهب ليس المراد التلاميذ، "فتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة " عمرو بن عبيد هذا هو، هو وواصل بن عطاء هما اللذان أسسا مذهب الاعتزال، وكانا من تلاميذ الحسن البصري -رحمه الله- فافترقا عنه وخالفاه.
ويقال: إن سبب ذك أن رجلا جاء وسأل الحسن البصري عن العاصي، فانبرى له واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وقال: أنا لا أقول: مؤمن ولا كافر، ثم جلسا إلى سارية، وجعل يقرر هذه المذاهب، واعتزل مجلس الحسن البصري صار الناس يقولون: هؤلاء المعتزلة فسموا معتزلة من ذلك الوقت، فعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء هما اللذان أسسا مذهب الاعتزال؛ ولهذا: تبع الجهم على قوله بعض الحنفية وأصحاب عمرو بن عبيد ووضعوا دين الجهمية على إنكار صفات الله، إنكار الأسماء والصفات، بل إنكار وجود الله؛ لأن الشيء الذي ليس له اسم ولا صفة؛ لأن كل موجود لا بد له أن يكون صفة الجماد؛ لأن هذه "الماسة" لها طول ولها عرض، فإذا قلت هناك "ماسة" ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، وليست في السماء، ولا في الأرض ماذا تكون؟ معدوم.
هؤلاء الجهمية هكذا ينفون عن الله جميع الأسماء والصفات، حتى الغلاة نفوا الوجود -والعياذ بالله-؛ ولهذا كفر الجهمية كثير من العلماء كما ذكر ابن القيم كفرهم خمسمائة عالم.
وقال الإمام عبد الله بن المبارك إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نحكي أقوال الجهمية ما نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية من شدة شناعتها وبشاعتها، لا نحكي أقوال الجهمية وإن كنا نحكي أقوال اليهود يعني أشد من أقوال اليهود نسأل الله العافية.
إذًا معتقد الجهمية مبني على إنكار الأسماء والصفات، يعني يلزم منه إنكار وجود الله.(1/63)
تأويل الجهمية لقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
ووضعوا دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله -تعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ما تفسيره؟ يقولون: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع، كما هو على العرش لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا تكلم، ولا نظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف، ولا يُعرف بصفة ولا بفعل، ولا له غاية ولا له منتهى، ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله، وهو نور كله وهو قدرة كله، ولا يكون شيئين، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون ولا له جسم، وليس هو بمعلوم ولا معقول، وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.
هذا كله سلب، كلها سلوب ونفي، نتيجتها العدم، نتيجتها العدم، الذي يوصف بهذه الصفات، لا وجود له معدوم.
يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: إذا سأل الناس الجهمية عن قول الله -تعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ما تفسيره؟ يقولون: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ من الأشياء، وسيأتي أن الإمام يقول: أن معنى قولهم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ من الأشياء، معناها: العدم.
وسيأتي توضيحها هذا -إن شاء الله- "إذا سألهم الناس عن قول الله -تعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ما تفسيره؟ يقولون: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع، كما هو على العرش لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا تكلم، ولا نظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا فعل، ولا له غاية ولا له منتهى، ولا يدرك بعقل" ماذا يكون؟ معدوم هذا هو المعدوم.
وقوله: "وهو وجه كله وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله"، يعني المراد: شيء واحد لا يوصف بوصفين مختلفين، فيكون شيء واحد، هذا الشيء عدم، شيء في اللفظ فقط، ولا يكون شيئين، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون ولا له جسم، وليس هو بمعلوم ولا معقول، وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه".
إذًا هذا ينتج العدم.(1/64)
قول الجهمية الله شيء لا كالأشياء
قال أحمد وقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء، فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء، فعند ذلك تبين للناس لأنهم لا يثبتون شيئًا بشيء، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشُّنعة لما يقرون من العلانية.
الشُّنعة بضم الشين يقال شنُع شناعة: قبح، فهو شنيع، والاسم: الشُّنعة، وقيل: المراد به: الفظاعة، يدفعون عن أنفسهم القبح والشناعة والفظاعة بهذا.
قال أحمد "وقلنا: أي للجهمية هو أي الله -عز وجل- الرب -عز وجل- هل هو شيء؟ قالوا: هو شيء لا كالأشياء. قال الله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ .
"قلنا: هو شيء؟": استفهام "قالوا: هو شيء لا كالأشياء"، فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء يعني أنه معدوم".
ولكنكم أنتم لا تريدون أن تصرحوا وتقولوا: إنه معدوم؛ لأنكم تريدون أن تدفعوا عن أنفسكم الشناعة بما تقرون من العلانية.
أنتم تقرون من العلانية تقولون: إن هناك إلها، هناك ربا ، وتصفونه بهذه السلوب حتى تدفعوا عن أنفسكم الشنعة، وتصرحوا وتقولوا هو معدوم، لكن هذا هو العدم، الشيء الذي لا كالأشياء عدم، كيف ذلك؟
من قال: إن الله لا يشبه شيئًا -بوجه من الوجوه- من الأشياء، فإنه قال بالعدم، ما يقال: إن الله لا يشبه شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه، بل هناك شيء لا بد من إثباته، مشابه، كل موجودات لا بد أن تتفق في شيء من الأشياء، وهو الاتفاق في المعنى الذهني عند إطلاق اللفظ والقطع عن الإضافة والتخصيص، كلفظ وجود، لفظ علم لفظ يد.
من المعلوم بالضرورة أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفقان فيه، في الذهن، في مطلق اللفظ، عند القطع عن الإضافة والتخصيص، ولا يجب تماثلهما في الخارج كلفظ وجود، لفظ "وجود" يشمل وجود الله، ووجود المخلوق، ففي الوجود ما هو قديم واجب بنفسه، وهو وجود الله، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، وهو وجود المخلوق، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود تماثلهما عند الإضافة والتخصيص لماذا؟
لا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود تماثلهما عند الإضافة والتخصيص؛ لأن الاتفاق إنما هو في المسمى العام، لفظ وجود، وهو لا يقتضي التماثل في مسمى الاسم عند تخصيصه وإضافته.
لفظ وجود يشمل وجود الله ووجود المخلوقين لماذا هذا الاشتراك في أي شيء؟
اشتراك في مطلق اللفظ وفي الذهن، لفظ وجود، أعرف في الذهن أن الوجود ضد العدم يشمل وجود الله، ووجود المخلوق، لكن متى يزول الاشتباه؟ عند التخصيص والإضافة، إذا قلت وجود الخالق، وجود المخلوق خلاص تبين.
وجود الخالق وجود كامل لا يعتريه نقص، ولا موت ولا نعاس ولا نوم ولا فساد، أما وجود المخلوق فيعتريه ذلك.
لفظ يد تشمل يد المخلوق ويد الخالق لماذا؟
لأنها قطعت عن الإضافة، بينهما اتفاق في الذهن، فيه اشتراك، وكذلك في مطلق اللفظ، لكن إذا أضفت يد الخالق زال الاشتباه، يد المخلوق زال الاشتباه.
يمثل العلماء العرش والبعوضة متفقان في مسمى الشيء والوجود، كل من العرش والبعوضة موجود، هذا الاتفاق متى يكون الاتفاق بين العرش والبعوضة، أو بين البعوضة والفيل؟
عند القطع عن الإضافة والتخصيص.
"وجود": كل من العرش والبعوضة موجود.
حياة: كل منهما حي، وفيل، لفظ الحياة.
لكن لفظ الحياة، اسم الحياة، اسم الوجود، هذا عام فلا يقول عاقل: إن العرش والبعوضة: أو البعوضة والفيل متماثلان لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود، فكذلك أسماء الله وصفاته توافق أسماء المخلوقين وصفاتهم عند الإطلاق والتجريد عن التخصيص.
لفظ يد، علم، قدرة، سمع، بصر، يد تشمل يد الخالق ويد المخلوقين عند الإطلاق يد، قدرة تشمل قدرة الخالق والمخلوق، سمع يشمل سمع الخالق والمخلوق، متى يزول الاشتباه؟ أو متى يزول الاشتراك؟ إذا أضفت أو خصصت، يد الله، يد المخلوق، قدرة الله، قدرة المخلوق، زال الاشتباه، أما عند القطع فيه اشتراك، لا بد من الاشتراك، فالذي لا يثبت هذا الاشتراك معناها أنه نفي وجود الله، نفي أسمائه وصفاته، والجهم نفى هذا الاشتراك فأنكر وجود الله.
إذًا أسماء الله وصفاته توافق أسماء المخلوقين وصفاتهم عند الإطلاق والتجريد عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق المسمى الموجود في الخارج، وعند الاختصاص والإضافة يقيد بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق من الخالق.
وإن كان العقل يفهم قدرًا مشتركًا من المسميين فلا بد من هذا، فيفهم ما دل عليه الاسم بالمواطئة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه -سبحانه وتعالى-.
فإذًا لا بد من إثبات نوع من الاشتباه، نوع من الشبه بين الخالق والمخلوق، لا بد من إثباته، وهو الاشتراك في الذهن، وفي مطلق اللفظ عند القطع عن الإضافة والاختصاص، هذا فيه اشتراك بين الخالق والمخلوق، لفظ وجود، لفظ قدرة، لفظ سمع، فالذي ينفي هذا النوع من الاشتباه معناه أنكر وجود الله، أنكر أسماءه وصفاته.
والجهم أنكر هذا؛ ولهذا قال الإمام أحمد للجهم هو شيء؟ قال: شيء لا كالأشياء، لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه، حتى ولا في الذهن عند القطع بالإضافة والتخصيص، فقال الإمام أحمد إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء أنه معدوم.
فعند ذلك تبين للناس أنهم -يعني الجهمية - أنهم لا يثبتون شيئًا، لا يثبتون وجودا لله، لا يثبتون شيئًا من أسمائه وصفاته، ولا يثبتون وجودا لله، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية، يقولون: نثبت الإله، ويصفونه بالسلوب حتى يدفعوا عن أنفسهم الشناعة، ما تجرءوا على القول بإنكار وجود الله صراحة؛ لأنهم زنادقة ومنافقون.
لكن أهل العلم كالإمام أحمد عرفوا أنهم ينكرون وجود الله، من قولهم: هو شيء لا كالأشياء.
فالذي يقول: إن الله شيء لا كالأشياء، أو لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه هذا إنكار لوجود الله، لا بد أن تثبت وجهًا من المشابهة في الذهن، وفي مطلق اللفظ عند القطع عن الإضافة والتخصيص، مثل لفظ وجود، لفظ علم، لفظ قدرة، لفظ سمع، لفظ يد، هذا فيه نوع اشتباه واشتراك بين الخالق والمخلوق.
لكن هل هو موجود في الخارج؟ لا، إلا بالإضافة والتخصيص، لفظ يد هذا عام في الذهن، في الذهن تتصور أن لفظ يد يشمل يد الخالق ويد المخلوق، لفظ علم يشمل علم الخالق وعلم المخلوق في ذهنك، لفظ قدرة تشمل قدرة الخالق وقدرة المخلوق.
هذا نوع من الشبه بين الخالق والمخلوق، متى يزول هذا الاشتراك؟ إذا أضفت، ويشبه هذا مثل لفظ إنسان، الإنسانية معنى في الذهن لفظ الإنسان يشمل جميع الآدميين، اشتراك واشتباه متى يزول الاشتباه في الخارج؟ إذا سميت عمرو، بكر، خالد وفلان، زال الاشتباه بأفراده في الخارج، لكن لفظ إنسان هذا عام، يشمل، لكن خصص محمد، بكر، علي، زال الاشتباه.
لفظ الحيوانية، حيوان هذا عام معناه في الذهن، متى يزول الاشتراك بأفراده في الخارج، فرس، جمل، خروف، وهكذا في الأفراد، أما لفظ حيوان، لفظ إنسان، لفظ علم، لفظ قدرة، لفظ وجود، هذا عام مشترك، لكنه في الذهن ما فيه اشتراك في الخارج، اشتراك معنى في الذهن عند إطلاق اللفظ وعدم تقييده وتخصيصه.
أظنه اتضح معنى قول الإمام أحمد "وقلنا: هو شيء فقالوا: هو شيء لا كالأشياء، فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس لأنهم لا يثبتون شيئًا بشيء"، كلمة بشيء -إن صحت- يعني بشيء من الأدلة.(1/65)
قول الجهمية نعبد من يدبر أمر هذا الخلق
فإذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة، قالوا: نعم، فقلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا بشيء، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون.
يعني الإمام يقول: إذا قيل لهم -يعني الجهمية -: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، وهذا من نفاقهم، هم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، يقولون: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، ولكن من مدبر أمر هذا الخلق؟ لا وجود له، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة، قالوا: نعم، كيف تعبدون مدبر هذا الكون وهو مجهول؟ غير معلوم، على هذا يعبدون عدما.
إذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا لهم:هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة، قالوا: نعم، فقال الإمام: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا، لا تثبتون وجود الله بشيء من الأدلة، وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون، في الظاهر يقولون: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، يريدون أن يخفوا كفرهم وزندقتهم ونفاقهم ، لكن في الباطن لا يثبتون شيئا.(1/66)
قول الجهمية إن الله لا يكلم ولا يتكلم
فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يتكلم ولا يكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منفية، فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله، ولا يعلم أنه إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر، ولا يشعر إنهم إنما يرجع قولهم إلى فرية في الله.
يقول الإمام أحمد -: " فقلنا لهم: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو الذي كلم موسى قالوا: لم يتكلم ولا يكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية "، " فإذا سمع الجاهل قولهم يظن الجاهل أنهم من أشد الناس تعظيما لله " لأنهم يقولون: نحن ننزه الله عن المشابهة والمماثلة؛ لا يكون كالمخلوقين الذين يتكلمون بجارحة، " ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر، ولا يشعر أنهم إنما يرجع قولهم إلى فرية في الله".(1/67)
مناقشة الجهمية في قضية خلق القرآن
قال أحمد ومما يسأل عنه الجهمي يقال له: أتجد في كتاب الله أنه يخبر عن الله أنه مخلوق؟ فلا يجد، فيقال له: أتجد في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن القرآن مخلوق؟ فلا يجد، فيقال له: فلم قلت؟ فسيقول: من قول الله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وزعم أن كل مجعول هو مخلوق؛ فادعى كلمة من الكلام المتشابه يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها ويبتغي الفتنة في تأويلها.
نعم: هذا الأمر مناقشة للإمام -رحمه الله- للجهمية في قولهم: "إن القرآن مخلوق" يقول الإمام: مما يسأل عنه الجهمي يقال له: أنت تدعي أن القرآن مخلوق فهل تجد في كتاب الله ما يخبر عن الله أنه مخلوق؟ فلا يجد، ثم يقال له: هل تجد في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن القرآن مخلوق فلا يجد، يعني يقول: هل عندك دليل، بنص من القرآن يقول إن القرآن مخلوق؟ ما عنده، هل عندك نص من السنة، حديث يقول: إن القرآن مخلوق؟ فلا يجد، لكن وجد شبهة آية من القرآن، شبهة شرعية استدل بها على أن القرآن مخلوق.
ولهذا قال الإمام: يقال له: فلم قلت: إن القرآن مخلوق؟ فسيقول من قول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا هذه شبهة آية من القرآن استدل بها الجهم على أن القرآن مخلوق، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وجه استدلال الجهم من كلمة جعل قال: " إن كل مجعول فهو مخلوق " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا فدل على أن القرآن مخلوق، هذه الشبهة يقول الإمام -رحمه الله-: "ادعى كلمة من الكلام المتشابه، يحتج بها من أراد أن يلحد في تنزيلها ويبتغي الفتنة في تأويلها".(1/68)
معنى جعل في القرآن
وذلك أن جعل في القرآن من المخلوقين على وجهين: على معنى التسمية وعلى معنى فعل من فعالهم، وقوله: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ قالوا: هو شعر وأساطير الأولين وأضغاث أحلام، وهذا على معنى التسمية قال: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا يعني: أنهم سموهم إناثا، ثم ذكر جعل على غير معنى التسمية فقال: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فهذا يدل على معنى فعل من فعالهم، وقال: حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا هذا على معنى فعل، فهذا جعل المخلوقين.
يقول: جواب هذه الشبهة أن جعل في القرآن من المخلوقين لها معنيان.
وجعل من الله أيضًا لها معنيان، كلمة جعل في القرآن الكريم من المخلوقين تأتي على وجهين من المعنى:
الوجه الأول: أن معناها التسمية.
الوجه الثاني: أن معنى جعل تكون على معنى فعل من أفعال المخلوقين، بمعنى التسمية فقط، يعني سمى جعل كذا، أي: سمى، وتأتي على معنى فعل من أفعالهم، فالمعنى الأول له أمثلة، والمعنى الثاني له أمثلة.
أمثلة المعنى الأول، والذي جعل بمعنى التسمية: قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جعلوا يعني: سموا القرآن عضين "عضين" يعني أجزاء، قالوا: شعر وأساطير الأولين وأضغاث أحلام، جزءوا القرآن وسموه بأسماء، قالوا: شعر، سحر، وأضغاث أحلام، فهذا على معنى التسمية، ومثله قال: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا يعني أنهم سموهم إناثا، واضح؟ هذه أمثلة للمعنى الأول.
وأمثلة للمعنى الثاني غير معنى التسمية فقال: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فهذا يدل على معنى فعل من فعالهم: حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا هذا على معنى فعل من أفعالهم.
إذًا: جعل في القرآن من المخلوقين لها معنيان، ثم جعل من الله لها معنيان.(1/69)
جعل لا تقوم مقام خلق في القرآن
ثم جعل من الله على معنى خلق وجعل على معنى غير خلق، والذي قال الله تعالى جعل على معنى خلق فلا يكون إلا خلقا ولا يقوم إلا مقام خلق خلقا لا يزول عنه المعنى، فإذا قال الله جعل على غير معنى خلق لا يكون خلق ولا يقوم مقام خلق ولا يزول عنه المعنى.
يعني يقول: إن "جعل من الله" لها معنيان: المعنى الأول تكون جعل بمعنى خلق، والمعنى الثاني تأتي جعل على غير معنى خلق.
ولكل واحد أمثلة، ينبغي للإنسان ألا يخلط بين المعنيين، فجعل من الله تأتي ومعناها خلق، وتأتي جعل على غير معنى خلق، فلا يخلط الإنسان بين هذا وهذا.(1/70)
جعل بمعنى خلق مع غير القرآن
فمما قال الله جعل على معنى خلق قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ يعني وخلق الظلمات والنور.
هذا مثال جعل من الله بمعنى خلق قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ يعني وخلق الظلمات والنور.
وقال وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ .
أي: وخلق لكم السمع والأبصار.
يقول: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ .
هذا مثال ثان أيضا كذلك.
ويقول: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ يقول وخلقنا الليل والنهار آيتين.
هذا مثال ثالث لجعل بمعنى خلق.
وقال: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا .
كذلك، المثال الرابع: خلق الشمس سراجا.
وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا .
يعني خلق منها زوجها، مثال خامس.
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا يقول: خلق من آدم وحواء، قال وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ يقول: وخلق لها رواسي، ومثله في القرآن كثير.
فهذا وما كان على مثاله لا يكون إلا على معنى خلق.
هذا على النوع الأول، لا تأتي جعل إلا على معنى خلق.
النوع الثاني: جعل من الله على معنى غير خلق لا يراد بها خلق.(1/71)
جعل لها معان غير خلق
ثم جعل على معنى غير خلق قوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ لا يعني ما خلق الله من بحيرة ولا سائبة.
يعني ليس معناه ما خلق يعني جعل ليس معناها خلق هنا, نعم.
وقال لإبراهيم إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا لا يعني أني خالقك للناس إماما.
هذه: جعل ليست بمعنى خلق، جاعلك للناس إماما يعني أن الله اجتباه وجعله قدوة للناس، ليس بمعنى خلق، سيأتي؛ لأنه مخلوق قبل أن يكون إماما.
لأن خلق إبراهيم كان متقدما.
متقدم على إمامته قبل ذلك ولو فسرتها بمعنى خلق إني خالقك للناس إماما ما صح المعنى؛ لأنه مخلوق قبل أن يكون إماما وهو صغير في بطن أمه، متى كان إماما؟ بعد البلوغ، وبعد مدة.
وقال إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا .
هل معناه اخلق هذا البلد آمنا؟ البلد مخلوق فلا يستقيم جعل بمعنى خلق.
وقال إبراهيم رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ لا يعني اخلقني مقيم الصلاة.
لا يستقيم المعنى، لأنك لو فسرت اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ بمعنى اخلقني فسد المعنى، "اخلقني مقيم الصلاة" ما يستقيم المعنى.
وقال: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ لا يعني يريد الله ألا يخلق لهم حظا في الآخرة.
نعم كذلك هذه ليست بمعنى خلق.
وقال لأم موسى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ لا يعني خالقوه من المرسلين ؛ لأن الله وعد أم موسى أن يرده إليها ثم يجعله من بعد ذلك رسولهم.
يعني ليس معناه خالقوه من المرسلين، بل هذا بعث بعد أن يرده يجعله من المرسلين.(1/72)
دحض حجة جهم في جعل
فإذا قال الله جعل بمعنى خلق وقال جعل على غير معنى خلق فبأي حجة قال الجهمي: جعل على معنى خلق؟
يعني يقول: إذا كان جعل من الله -عز وجل- تأتي على معنى خلق وتأتي على غير معنى خلق، فبأي حجة فسر الجهمي جعل في الآية بمعنى خلق بغير دليل؟ فإن رد الجهمي جعل إلى المعنى الذي وضعه الله فيه؛ وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، يعني يقول: بأي دليل تفسر جعل بمعنى خلق ولها معان عدة كيف تفسرها بهذا المعنى من غير دليل؟ يعني جعل لها معان عدة , من المخلوقين لها معنيان , ومن الله لها معنيان , نعم.(1/73)
استمرار جهم على ضلاله رغم دحض حجته
فإذا قال الله جعل على معنى خلق , وقال جعل على غير معنى خلق، فبأي حجة قال الجهمي جعل على معنى خلق ؟ فيرد الجهمي جعل إلى المعنى الذي وضعه الله فيه؛ وإلا كان من الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، فلما قال الله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا يقول: جعله عربيا، جعله جعلا على معنى فعل من أفعال الله.
هذا التفسير على فعل من أفعال الله على غير معنى خلق إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا جعل: فعل من أفعال الله ليس المراد به الخلق إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا تعدت إلى مفعولين فيكون معناها فعلا من أفعال الله، هذا معروف في قواعد اللغة العربية إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا تعدت هنا إلى مفعولين، الهاء المفعول الأول، وقرآنا المفعول الثاني، مثل وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ هذا مفعول واحد.
يقول جعله عربيا، جعله جعلا على معنى فعل من أفعال الله على غير معنى خلق.
إذًا إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا فعل من أفعال الله وليس المراد خلق، وفعل الله من صفاته أسماء الله، وصفاته وأفعاله تليق بجلاله وعظمته.(1/74)
جعل مع القرآن بمعنى فعل
وقال في" سورة الزخرف ": إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .
- يعني فعل من أفعال الله. -
وقال: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وقال: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ فلما جعل الله القرآن عربيا ويسره بلسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- كان ذلك فعلا من أفعال الله -تبارك وتعالى- جعل القرآن به عربيا مبينا.
واضح هذا؟ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول: "جعل" فعل من أفعال الله -تبارك وتعالى- جعل القرآن به عربيا.(1/75)
معنى أنزلناه
وليس -كما زعموا-: أنزلناه بلسان العرب، وقيل: بيناه، يعني: هذا بيان لمن أراد الله هداه.
يعني قوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا بعضهم يقول: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ليس معناه أنزلناه.(1/76)
القرآن ذات الله أم غير الله
ثم إن الجهمي ادّعى أمرا آخر -وهو من المحال- فقال: أخبرونا عن القرآن أهو الله تعالى أو غير الله؟ فادعى في القرآن أمرا يوهم الناس؛ فإذا سُئل الجاهل عن القرآن: أهو الله أو غير الله؟ فلا بد له من أن يكون بأحد القولين، فإن قال: هو الله؛ قال له الجهمي: كفرت، وإن قال: غير الله؛ قال: صدقت، فلم لا يكون غير الله مخلوقا؟ فيقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قول الجهمي، وهذه المسألة من الجهمية هي من المغاليط.
هذه شبهة عقلية، الأولى شبهة شرعية، هذه شبهة للجهم عقلية من العقل، والأولى شبهة شرعية يعني مأخوذة من القرآن، هذه الشبهة يقول الجهم أخبرونا عن القرآن أهو الله أو غير الله؟ فلا بد أن تجيب بأحد الأمرين، فادعى في القرآن أمرا يوهم الناس؛ فإذا سُئل الجاهل عن القرآن أهو الله أو غير الله؟
فلا بد له من أن يقول بأحد القولين، فإن قال: هو الله، قال له الجهمي: كفرت، لماذا؟ لأنك قلت بتعدد الخالق، الله والقرآن شيئان، قلت بتعدد الخالق، وإن قال: غير الله؛ قالوا: صدقت، وغير الله مخلوق؛ فلم لا يكون مخلوقا، هذه شبهة الجهمي، يقول لأهل السنة وغيرهم: هل القرآن هو الله أو غير الله؟ لو قلت: هو الله قال: كفرت؛ لأنك قلت بتعدد الخالق، وإن قلت: هو غير الله؛ قال: مخلوق، غير الله مخلوق، كل شيء غير الله فهو مخلوق.
الإمام -رحمه الله- يقول: يقع في نفس الجاهل من ذلك ما يميل به إلى قول الجهم فسيأتي جواب الإمام أحمد يقول: لا نقول هو الله ولا نقول هو غير الله، الله سماه كلاما؛ نسميه هو كلامه كما الله كما سماه الله، ولا نأتي بشيء من عند أنفسنا.(1/77)
الجواب على شبهة جهم القرآن ذات الله أو غير ذاته
والجواب للجهمي إذا سأل: أخبرونا عن القرآن أهو الله أو غير الله؟ قلنا: إن الله -جل ثناؤه- لم يقل في القرآن: إن القرآن هو أنا، ولم يقل: غيري، وقال: هو كلامي؛ فسميناه باسم سماه الله به، فقلنا: كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله كان من المهتدين، ومن سماه باسم من عنده كان من الضالين.
واضح جواب الشبهة، لا نقول: القرآن هو الله، ولا نقول: هو غير الله، الله لم يقل في القرآن: إن القرآن هو أنا، ولم يقل: غيري، وإنما سماه كلامه، قال: هو كلام الله، نقول: القرآن كلام الله، لا نقول: هو الله، ولا نقول: هو غير الله، نقول: كلام الله، فمن سمى القرآن باسم سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم من عنده كان من الضالين.
ثم يبين الإمام -رحمه الله- بأن الله فصل بين الخلق والأمر فقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ الأمر -كلامه- والخلق: فهما شيئان، فمن قال: إن القرآن مخلوق؛ جعله الخلق، والقرآن كلام الله وأمره، والأمر غير الخلق، فصل الله بينهما: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هذا شيء، وهذا شيء نعم تكملة الجواب , نعم عرفنا إذن الجواب؛ الإمام يقول: لا نقول هو الله ولا نقول غير الله , بل نقول كلام الله؛ لأن الله سماه كلامه , ما قال: إن القرآن أنا , ولا قال: غيري , هو كلام الله , صفة من صفاته , نعم.(1/78)
الفصل بين الأمر والخلق في القرآن
وقد فصل الله بين خلقه وبين أمره، ولم يسمه قولا فقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فلما قال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بخلق فقال: "والأمر" فالأمر: هو قوله -تبارك وتعالى-، فلا يكون قوله خلقا.
إذن يقول: فصل الله تعالى بين قوله وبين خلقه , فصل بينهما بالواو , ولم يسمه قولا ولم يسم الخلق قولا فقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ شيئان بينهما فاصل بالواو , قال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فلما قال الله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك , كل المخلوقات دخلت في قوله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ ثم ذكر ما ليس بخلق فقال: والأمر فالأمر: هو قول الله -تبارك وتعالى- فلا يكون خلقا , واضح هذا؟
إذن: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ألا له الخلق: جميع المخلوقات دخلت , ثم بعد ذلك والأمر: هذا كلام الله ليس من الخلق؛ ولأن أمر الله كلام الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يخلق بالكلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلو كان الكلام مخلوقا للزم أن يكون مخلوقا، ولو كان الأمر مخلوقا لكان مخلوقا بأمر آخر، والآخر بآخر إلى ما لا نهاية؛ فيفضي إلى التسلسل وهو باطل، فالله تعالى يخلق بأيش؟ بالكلام، بالقول: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .(1/79)
القرآن أمر من عند الله
وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ثم قال: القرآن هو أمر من عند الله.
يعني قوله: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ هذه تكملة للجواب قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ يعني ليلة القدر: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ثم قال: القرآن هو أمر من عند الله.(1/80)
الأمر يراد به القول
و قال تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ يقول: لله القول من قبل الخلق ومن بعد الخلق، فالله يخلق ويأمر، وقوله غير خلقه.
يعني في قوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ الأمر يعني: القول من قبل، يعني: من قبل الخلق ومن بعد الخلق، فالله له القول من قبل الخلق ومن بعد الخلق، إذن القول غير الخلق، فالله يخلق ويأمر، وقوله غير خلقه.(1/81)
الأمر بمعنى القول في القرآن
وقال: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ .
- ذلك أمر الله أنزله إليكم قوله يعني. -
وقال: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ يقول: جاء قولنا.
- يقول: جاء أمرنا يعني قولنا. -
باب: بيان ما فصل الله بين قوله وخلقه وأمره.
الباب هذا -أيضا- زيادة توضيح: أن الله تعالى فصل بين الخلق والأمر، زيادة لتوضيح الجواب يبين أن الله فصل بين الخلق والقول، وأنهما شيئان، وأن أحدهما لا يدخل في الآخر. فضيلة الشيخ: هل العذاب في القبر منصب على الروح فقط أم على البدن والروح؟
العذاب في القبر على الروح أغلب، والجسد يناله ما قدر له، فهو على الروح والجسد، إلا أن الروح ينالها أكثر.
وذهب المعتزلة إلى أن العذاب والنعيم على الروح، وهذا قول باطل، والصواب: أن كلا من النعيم والعذاب ينال الروح والجسد، إلا أن الروح أغلب، فالدور ثلاثة: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
ففي الدنيا: الأحكام على الروح والجسد، على الجسد أغلب من الروح، الإنسان إذا ضرب الآن أو تألم يتألم الجسد أكثر، والروح تتألم في دار البرزخ بالعكس في القبر يتألم الروح أكثر من الجسد، وفي يوم القيامة يكون العذاب والنعيم على الروح والجسد على حد سواء، فإذًا الأحكام في البرزخ على الروح أكثر ، العذاب والنعيم على الروح أكثر، والجسد يناله ما قدر له؛ ولهذا الجسد يبلى ويصير ترابا والروح باقية في عذاب أو نعيم.
الروح تنقل، روح المؤمن تنقل إلى الجنة ، وروح الكافر تنقل إلى النار ولها صلة بالجسد، فإذن الأحكام من النعيم والعذاب في البرزخ على الروح أكثر، والجسد يناله ما قدر له، خلافا للمعتزلة القائلين بأن الأحكام تكون على الروح فقط.
فضيلة الشيخ يقول: هل الكفر كفران كفر عملي واعتقادي أم أنه واحد؟
نعم، الصواب أن الكفر كفران: كفر اعتقادي وكفر عملي، والاعتقادي يكون كفرا أكبر وكفرا أصغر، والعملي يكون كفرا أكبر ويكون كفرا أصغر، كل منهما إذا كان ينافي الدين بالكلية -ولو كان عمليا- يكون كفرا مثل ترك الصلاة،مثل لو داس المصحف بقدميه أو بال على المصحف هذا كفر -والعياذ بالله-.
والكفر الاعتقادي مثل من جحد -أنكر مثلا- وجود الله، جحد الأنبياء أو أنكر رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ما أشبه ذلك، وقد يكون اعتقاديا مثل اعتقاده في الحلقة والخيط أنها سبب من الأسباب، هذا كفر أصغر، ومثل النياحة على الميت والطعن في النسب: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت هذا كفر أصغر لا يخرج من الملة.
فضيلة الشيخ: أُشكل علينا قوله -تبارك وتعالى-: الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا هل نثبت لله من هذه الآية صفة النسيان؟
هذا من باب النسيان -هذا سبق في الآيات التي جمع بها الإمام أحمد - المراد ننساكم: نترككم في النار، نعاملكم معاملة المنسي؛ كما نسيتم لقاء يومكم هذا، كما نسيتم الاستعداد والعمل للقاء الله -عز وجل-، فإنهم ينسون، يعاملون معاملة المنسي؛ ولهذا قال العلماء: معنى ننساكم نترككم في النار، المراد بالنسيان: الترك، وإلا فالله تعالى لا يلحقه نسيان: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وسبق الجمع بين الآيات معنى ننساكم: نعاملكم معاملة المنسي، وإلا فالله لا ينسى شيئا، كما أنهم نسوا العمل عوملوا معاملة المنسي من باب المقابلة.
فضيلة الشيخ: هل يعتبر مَن يتتبع الرخص في أغلب أحواله من الزنادقة ؟
يقول العلماء: من يتتبع الرخص تزندق، يعني: الذي يطلب الرخص، ولهذا بعض الناس لما أتى بكتاب جمع فيه الرخص، الرخصة في مذهب الشافعي كذا، والرخصة... ، تتبع الرخص والسقطات، والرخصة في مذهب الحنابلة في مذهب المالكية في مذهب الأحناف ؛ يجد بعض الناس في بعض المذاهب يبيح " الغناء "، بعضها يبيح شيئا من الربا، بعضها يبيح شيئا من الإسكار، جمعها ورفعها إلى بعض الخلفاء؛ فقال أحد العلماء: من عمل بهذا تزندق، من تتبع الرخص تزندق: معناه أنه يتبع الهوى يعمل بهواه، ليس يعمل بشرع الله، يتتبع الرخص، كل رخصة زل بها عالم يأخذها ويعمل بها؛ يجد زلات كثيرة: هذا زل فأباح " الغنا " مثل ابن حزم وهذا زل فأباح " شيئا من الربا "، وهكذا... فيعمل بهذه الزلات؛ فيكون متزندقا، متحللا من الدين، هذا معناه.
يقول: هل يجوز نسبة الأفعال إلى صفات الله مثل قوله: اقتضت حكمة الله، واقتضت مشيئة الله؟
نعم، اقتضت حكمة الله كذا، هذا جائز جاء ما يدل على جوازه، حكمة الله اقتضت كذا،أما اقتضت مشيئة الله ، أرادت مشيئة الله ، لا، ما يقال، لكن يقال: حكمة الله كذا، شاء الله كذا، وأراد كذا.
وكذلك: أجبرتني الظروف، وجار علي الزمان؟
لا، أخشى أن هذا من سب الدهر، ما ينبغي أن يقول: "جار علىّ الزمان"، وإنما يصبر ويحتسب ويسلم القضاء لله، ويقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .
هل تجوز الصلاة خلف من يؤمن بعقيدة المعتزلة والجهمية ؟
هذا كما سبق الآن لا ينبغي أن يُصلى خلف الجهمي والمعتزلي، الإنسان يحتاط؛ لأن هنا من كفّر المعتزلة والجهمية كذلك، لكن إذا قامت عليه الحجة ما تصح الصلاة خلفه.
كيف نجمع بين قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وبين قوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل ؟
لا منافاة بينهما الله تعالى استوى على العرش وهو على العرش حقيقة، وينزل نزولا يليق بجلاله وعظمته، لا نكيف، لا ينشأ الإشكال إلا من كيف، ما فهم من نزول الخالق إلا كما تفهم من نزول المخلوق- جاء الإشكال، أما إذا قلت: ينزل نزولا يليق بجلاله وعظمته وهو فوق العرش؛ نصوص الفوقية هذه نصوص محكمة ما فيها إشكال، الله فوق العرش، والنزول فعل من أفعال الله وصفة من صفات الله يليق بجلاله وعظمته، لا يكيف، وهو ينزل، وهو سبحانه فوق العرش نزولا يليق بجلاله وعظمته، لا نكيف ولا نعلم الكيفية.
هل صح عن ابن كثير -رحمه الله تعالى- أنه أول الصفات، مع العلم أن هناك كتابا ألفه البعض وسماه: " ابن كثير بين التفويض والتأويل"؟
المعروف أن الحافظ ابن كثير -رحمه الله - من علماء السلف، وأن تفسيره سليم، ما نعرف أن ابن كثير يؤول، ابن كثير -رحمه الله - من علماء السلف، من علماء السنة ومن المحدِّثين ومن الأئمة، وتفسيره يمثل معتقد أهل السنة والجماعة
فهذا الشخص الذي ألف " ابن كثير بين التفويض والتأويل" ينظر في كتابه، يحتمل أن هذا الشخص هو واهم وغلطان، ومعروف أن الحافظ ابن كثير ليس من المؤولين.
هل نقول ابن حجر من الأشاعرة أم أنه وافق الأشاعرة في مسألة الصفات فقط؟
يحتاج إلى مراجعة كلامه في" فتح الباري شرح البخاري " له تأويلات يوافق الأشاعرة تأويل صفات الغضب وغيرها، وأحيانا يكون مع أهل السنة قد يكون متذبذبا، القول بأنه من الأشاعرة يحتاج إلى تأمل ونظر في معتقده، وفي كلامه، أما كونه يوافق الأشاعرة نعم يوافقهم في تأويل بعض الصفات، وكذلك النووي -رحمه الله - وهم علماء كبار، ظنوا أن هذا هو الحق واجتهدوا؛ لأنهم لم يوفّقوا في سن الطلب، لم يوفقوا لمن ينشئهم على مذهب أهل السنة والجماعة ؛ فظنوا أن هذا هو الحق، ولهم أعمال جليلة، وهم علماء كبار، لهم اليد الطولى في الحديث وفي مصطلح الحديث، نفعوا الأمة، نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم، وأن يغفر لنا ولهم، نعم.
في المثال الخامس عشر قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فهل يمكن أن نقول: إن طعام الكفار كله من ضريع، وهذا للعموم، والآية الثانية خصت الأثيم بالزقوم؟
سبقت الأجوبة، وقلنا: إن الإمام أحمد أجاب بأن لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ذلك اليوم، والزقوم بعد ذلك، سبق الأجوبة، وأن عذاب الكفار متنوع، وأن منهم من له الزقوم، ومنهم من له الضريع، ومنهم من له الغسلين، سبق الكلام.
ما صحة هذه المقولة: " العمل أو القول إذا كان كفرا لا يلزم من صاحبه أن يكون كافرا؟
نعم، قد تكون المقالة كفرا، ولا يلزم أن يكون صاحبها كافرا؛ إذا كان متأولا ولم تقم عليه الحجة، فيقال: المقالة كفر والشخص لا يكفر؛ حتى تقام عليه الحجة، حتى تزول الموانع، قد يقول بعض الناس كلمة تكون كفرية ولا يكفر الشخص لكونه معذورا.
يقوم بعض الناس بالوعظ على القبر عند دفن الميت فهل يُعد هذا من البدع؟
إذا قام بعد الدفن ليدعو له؛ فهذا جاء في الحديث، النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يُسأل والله تعالى يقول في المنافقين: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ فالمؤمن يُقام على قبره بعد الدفن ويُدعى له، والمنافق لا يُقام على قبره ولا يُدعى له.(1/82)
بيان ما فصل الله بين خلقه وأمره
باب بيان ما فصل الله بين خلقه وأمره وذلك أن الله -جل ثناؤه- إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسامٍ فهو مرسل غير مفصل مقيد، وإذا سمى شيئين مختلفين لا يدعهما مرسلين.
يعني غير مفصل وغير مقيد، لا يدعهما مرسلين حتى يفصل بينهما ، ومن ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فهذا شيء واحد سماه بثلاثة أسامٍ وهو مرسل، ولم يقل: إن له أبا وشيخا وكبيرا، وقال: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثم قال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا هذا شيء واحد فهو مرسل، فلما ذكر شيئين مختلفين؛ فصل بينهما، فذلك قوله: ثيبات فلما كانت البكر غير الثيب؛ لم يدعه مرسلًا حتى فصل بينهما. فذلك قوله: وأبكارا وقال: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فلما كان البصير غير الأعمى؛ فصل بينهما، ثم قال: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ فلما كان كل واحد من هذا الشيء غير الشيء الآخر؛ فصل بينهما ، ثم قال: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ إلى قوله: الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فهذا كله اسم شيء واحد فهو مرسل ليس بمفصل، فكذلك إذا قال الله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لأن الخلق غير الأمر فهو مفصل.
إذًا هذا الباب يبين فيه الإمام -رحمه الله- أن الشيء إذا كانت له أسماء متعددة وأوصاف متعددة؛ يأت بعضها تلو بعض من دون أن يفصل بينهما بالواو، أما إذا كانت متغايرة فلا بد أن يفصل بينهما بالواو؛ ولهذا قال الإمام: وذلك أن الله -جل ثناؤه- إذا سمى الشيء الواحد باسمين أو ثلاثة أسام فهو مرسل غير مفصل غير مقيد، تأتي تباعا الاسم بعد الاسم دون أن يفصل بينهما بالواو، أما إذا سماه بشيئين مختلفين فلا يدعهما مرسلين حتى يفصل بينهما يعني بالواو.
مثال الأول: وهو أن يسمي الواحد باسمين أو ثلاثة أسام ويكون مرسلا غير مقيد، قول الله -عز وجل-: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا هو يعقوب هو أب وهو شيخ وهو كبير أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا كلها ثلاثة أسماء لشيء واحد؛ ولهذا ما فصل بينها، ولم يقل: إن له أبا وشيخا وكبيرا، بل أرسلها، ومثله قوله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ هذه كلها صفات لشيء واحد ، صفات للزوجات: مسلمات هذا وصف لهن، مؤمنات هذا وصف لهن، قانتات القنوت هو الطاعة، تائبات: وهو الرجوع إلى الله، عابدات سائحات.
ثم بعد ذلك لما كان الوصف مختلفا؛ لما جاء وصفين مختلفين فصل بينهما بالواو- فقال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ولم يقل: ثيبات أبكارا، لماذا؟ لأن البكر غير الثيب -تختلف- فلما كان الشيء سمى باسمين مختلفين فصل بينهما بالواو فقال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ولما كانت الصفات السابقة كلها صفات لشيء واحد: مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ لما كانت كلها أوصافا لشيء واحد لم يفصل بينها بالواو، بل أرسلها هكذا: مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ فلما اختلف المعنى؛ فصل بالواو فقال: ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا .
هذا معنى قول المؤلف، فهذا شيء واحد فهو مرسل يعني قوله: مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ فلما ذكر شيئين مختلفين ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا فصل بينهما يعني بالواو، فذلك قوله: ثيبات فلما كانت البكر غير الثيب؛ لم يدعه مرسلا حتى فصل بينهما يعني فذلك قوله: وأبكارا .
وقال: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ لما كان البصير غير الأعمى؛ فصل بينهما بالواو ولم يقل: وما يستوي الأعمى البصير، البصير غير الأعمى فلما كان البصير غير الأعمى فصل بينهما بالواو.
وكذلك مثل: وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ كلها مختلفة، هذه الظلمات غير النور، والظل غير الحرور؛ ولهذا فصل بينهما بالواو ولم يرسلها ويقل: الظلمات النور الظل الحرور، فلما كان كل واحد منها غير الشيء الآخر؛ فصل بينهما بالواو.
ثم قال: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ إلى قوله: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ فهذه كلها أسماء لله -عز وجل- فلما كانت اسما لشيء واحد وهو الله -عز وجل- لم يفصل بينها، ولهذا قال: فهذا كله اسم لشيء واحد فهو مرسل ليس بمفصل.
نأتي إلى موضوع البحث، وهو الخلق والأمر، قال المؤلف: فكذلك إذا قال الله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فالخلق غير الأمر فهو مفصل، لما كان الخلق غير الأمر والأمر غير الخلق؛ فصل بينهما بالواو، لو كان الأمر داخلا في الخلق كما تزعمه الجهمية - الجهمية تقول: الأمر داخل في الخلق، الأمر الذي هو قول الله مخلوق- لو كان داخلا في الخلق لما فصل بينهما بالواو، لو كان شيئا واحدا لقال: ألا له الخلق الأمر، فلما فصل بينهما بالواو: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ دل على أن الخلق غير الأمر، وأن الأمر كلام الله ، وكلام الله غير خلقه، كلام الله صفة من صفاته غير الخلق؛ فلهذا فصل بينهما بالواو أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هذا كله تابع لجواب الشبهة السابقة.(1/83)
بيان ما أبطل الله أن يكون القرآن إلا وحيًا وليس بمخلوق
باب: بيان ما أبطل الله أن يكون القرآن إلا وحيا وليس بمخلوق قوله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى قال: ذلك أن قريشا قالوا: إن القرآن شعر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: أضغاث أحلام، وقالوا: تقوّله محمد من تلقاء نفسه، وقالوا: تعلمه من غيره؛ فأقسم الله بالنجم إذا هوى -يعني القرآن إذا نزل- فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ يعني محمدا وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى يقول: إن محمدا لم يقل هذا القرآن من تلقاء نفسه فقال: إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى فأبطل الله أن يكون القرآن شيئا غير الوحي بقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى .
ثم قال: عَلَّمَهُ يعني: علّم جبريل محمدا -صلى الله عليه وسلم- القرآنَ، وهو: شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى إلى قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى فسمى القرآن وحيا ولم يسمه خلقا.
إذًا هذا الباب فيه بيان أن القرآن وحي الله، أن الله سمى القرآن وحيا ولم يسمه خلقا، ففيه الرد على الجهمية القائلين بأن القرآن مخلوق.
ولهذا بوب الإمام أحمد -رحمه الله- باب بيان ما أبطل الله أن يكون القرآن إلا وحيا وليس بمخلوق قوله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى قال: وذلك أن قريشا قالوا: إن القرآن شعر، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، وقالوا: أضغاث أحلام، وقالوا: تقوّله محمد من تلقاء نفسه، وقالوا: تعلّمه من غيره.
كم قولا؟ خمسة أقوال، فأقسم الله بالنجم إذا هوى -يعني القرآن إذا نزل- فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى يعني القرآن إذا نزل، هوى: نزل لأنه نزل منجما، يعني مفرقا على حسب الحوادث، هذا أحد الأقوال.
وقيل المراد بالنجم وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى الثُّريَّا إذا سقطت مع الفجر، ويكون الله تعالى أقسم بالثريا؛ لأن له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.
وقيل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى إذا رُمي به الشياطين، قال الحافظ ابن كثير وهذا القول له اتجاه؛ فإذًا أقسم الله بالنجم إذا هوى -وهو القرآن إذا نزل، أو الثريا إذا سقطت مع الفجر، أو النجم إذا رُمي به الشياطين- أقسم على مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى صاحبكم يعني: محمدا -صلى الله عليه وسلم- ما ضل: ليس ضالا، وما غوى: ليس غاويا ، أقسم الله أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليس ضالا ولا غاويا، بل هو بار راشد.
الأقسام ثلاثة: إما أن يكون الإنسان ضالا ، وإما أن يكون غاويا، وإما أن يكون راشدا، فالضال: الذي ليس معه علم، جاهل، ما عنده علم ولا بصيرة ولا دليل.
والغاوي: هو الذي معه العلم والبصيرة لكن انحرف، ترك العلم واتبع الهوى؛ يقال له: غاوٍ، والوصف الأول: الضلال ينطبق على أكثر النصارى أكثرهم ضُلاَّل، ويوجد فيهم علماء لكن غالبهم ضُلاَّل، والوصف الثاني: الغواية ينطبق على اليهود أكثر اليهود معهم علم، ولكن لم يعملوا به، ومن فسد من العلماء من هذه الأمة فله شَبَهٌ من اليهود ومن فسد من العبّاد والزُّهاد من هذه الأمة فله شَبَه بالنصارى والغاوي مغضوب عليه، لأنه ترك الحق مع معرفته، والضال هو المنحرف، وهذان الصنفان هما اللذان أمرنا الله أن نسأله أن يجنبنا طريقهم في كل ركعة من ركعات الصلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هؤلاء اليهود الغاوين ومن معهم وَلَا الضَّالِّينَ هؤلاء النصارى
بقي المنعم عليهم، فمحمد مُنعَم عليه بار راشد، ليس ضالا كالنصارى وليس غاويا كاليهود بل هو منعم عليه بار راشد.
فالناس ثلاث طبقات: منعم عليهم وضالون ومغضوب عليهم، فالذين تركوا العمل ومعهم علم، هؤلاء المغضوب عليهم كاليهود والذين عبدوا الله على جهل وضلال سموا ضلالا كالنصارى والذي عرف الحق وعمل به هذا منعم عليه بار راشد.
فالله أقسم بالنجم أو بالقرآن، وله أن يقسم بما يشاء -سبحانه وتعالى- بأن محمدا ليس غاويا ولا ضالا، بل هو منعم عليه راشد بار.
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى يعني محمدا -صلى الله عليه وسلم- وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى أي إذا كان راشدا بارا منعما عليه ليس غاويا ولا ضالا ؛ فلا يمكن أن يُغيّر القرآنَ ولا يمكن أن يُبدله بل هو يأتي به من عند الله مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى يقول: إن محمدا لم يقل هذا القرآن من تلقاء نفسه كما وصفه به المشركون فقال: إِنْ هُوَ يقول: ما هو -يعني القرآن- إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ؛ فأبطل الله أن يكون القرآن شيئا غير الوحي لقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ثم قال: عَلَّمَهُ يعني علّم جبريل محمدا -صلى الله عليه وسلم- القرآن، وهو شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى إلى قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى فسمى القرآن وحيا ولم يسمه خلقا، ففيه الرد على هؤلاء الجهمية الذين يقولون: إن القرآن مخلوق.(1/84)
شبهة الجهم في أن القرآن شيء
ثم إن الجهمي ادّعى أمرا آخر فقال: أخبرونا عن القرآن، هو شيء؟ قلنا: نعم، قال: إن الله خالق كل شيء؛ فلم لا يكون القرآن من الأشياء المخلوقة؟ إذا قلتم: إن القرآن شيء، لِمَ لا يكون مخلوقا وقد قال الله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلِمَ لا يكون القرآن من الأشياء المخلوقة , وقد أقررتم أنه شيء.
هذه الشبهة الثالثة من الشبه , وهي شبهة عقلية من شبه الجهمية -من شبه الجهمي- الشبهة الثالثة: شبه بها على أن القرآن مخلوق , يقول الجهمي: أخبرونا عن القرآن , هل هو شيء؟ قلنا: نعم هو شيء؛ فقال: إن الله خالق كل شيء , قال: الله خالق كل شيء؛ فلم لا يكون القرآن من الأشياء المخلوقة , إذا قلتم: إن القرآن شيء لما لا يكون مخلوقا؟ وقد قال الله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ نعم.(1/85)
القسم يراد به تأكيد الكلام
فلعمري : لقد ادعى أمرا أمكنه فيه الدعوى، ولبَّس على الناس فيما ادعى.
كلمة فلعمري لتأكيد الكلام ليست قسما وأما قوله تعالى في "سورة الحجر": لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ هذه قسم من الله، عمرك: حياتك، أقسم الله بحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن هنا ليس قسما، لأن الإمام أحمد لا يقسم بغير الله.
ولعمري: يؤتى بها لتأكيد الكلام، يذكرها العلماء دائما، ابن القيم وشيخ الإسلام، وجاءت في كلام عائشة ذكرها البخاري في آخر تفسير " سورة يوسف " أنها قالت: لعمري، وجاءت كلمة " لعمري " في حديث في" سنن ابن ماجه "، فلعمري ليست قسما وليست حلفا، وإنما هي لتأكيد الكلام.
ولأن القسم لا يكون إلا بحروف القسم: ( الواو، الباء، التاء، والله وبالله وتالله، والهمزة ) فإذًا ليست هذه قسما، وإنما المراد تأكيد الكلام، كما قالت عائشة "لعمري" في تفسير " سورة يوسف " عند البخاري وكما جاء في " سنن ابن ماجه "، وسيأتي مرة أخرى، الإمام أحمد يقول " لعمري.(1/86)
الرد على شبهة جهم بأن القرآن شيء
فقلنا: إن الله سبحانه لم يسم كلامه في القرآن شيئا - هذا جواب الشبهة- إنما سمى شيئا الذي كان بقوله، ألم تسمع لقوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ فالشيء ليس هو قوله، إنما الشيء الذي كان بقوله، وقال في آية أخرى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره.
هذا الوجه الأول من وجهي الرد، الإمام أجاب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن الله لم يسم كلامه شيئا، إنما سمى الشيء الذي كان بقوله؛ لأن الله تعالى يخلق بالكلام إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ إن الله سبحانه لم يسم كلامه في القرآن شيئا، إنما سمى شيئا الذي كان بقوله، ألم تسمع لقوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ الشيء هذا كان بالقول، فالذي سمي شيئا هو الذي وُجد وخلق بالقول هو الشيء، وأما كلام الله فلم يسمه شيئا، لكن سمى الشيء الذي كان بقول الله.
الله تعالى يخلق الشيء بقوله بكلامه: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كن: هذا كلام الله، فيكون: هذا الشيء الذي خُلق بكن.
إذًا الوجه الأول: أن الله لم يسم كلامه شيئا، لكن سمى الشيء الذي وجد بقول الله، إنما سمى شيئا الذي كان وخلق ووجد بكلام الله، وقوله: "الله تعالى يخلق بالكلام" فالذي يخلقه: هو الشيء، لكن كلام الله لا يسمى شيئا، ما سمى الله كلامه شيئا، لكن سمى الذي وُجد بكلام الله هو الذي سماه شيئا، واضح الوجه الأول؟ أعد حتى يتضح؟
فقلنا: إن الله سبحانه وتعالى لم يسم كلامه في القرآن شيئا , إنما سمى شيئا الذي كان بقوله , ألم تسمع إلى قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ الشيء ليس هو قوله إنما الشيء الذي كان بقوله , وقال في آية أخرى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فالشيء ليس هو أمره إنما الشيء الذي كان بأمره.
فالشيء ليس هو أمره , إنما الشيء الذي كان يعني وجد بأمره إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أين الأمر؟ "كن"، هل هذا الشيء؟ لا، الشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره كُنْ فَيَكُونُ فيكون هذا: كان بأمر الله، فيكون هذا هو الشيء: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره.(1/87)
الأدلة على نفي شبهة جهم
ومن الأعلام والدلالات -يعني العلامات والدلالات هذا هو المقصود-: أنه لا يعني كلامه على الأشياء المخلوقة قوله -عز وجل- في الريح التي أرسلها على عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا وقد أتت هذه الريح على أشياء لم تدمرها ، منازلهم ومساكنهم والجبال التي بحضرتهم فأتت عليها تلك الريح ولم تدمرها، وقد قال: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ فكذلك إذا قال: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا يعني نفسه ولا علمه ولا كلامه من الأشياء المخلوقة.
يقول الإمام رحمه الله- مما يؤيد أن كلام الله لا يدخل مع الأشياء المخلوقة، وإن كان الله تعالى قال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لكن ما يدخل كلام الله في شيء، المراد: خالق كل شيء مخلوق، وكلام الله صفة من صفاته، فالله بأسمائه وصفاته هو الخالق، وما سواه مخلوق، قال: هناك دليل، وهو قوله -عز وجل- في الريح التي أرسلها على عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا هناك أشياء ما دمرتها الريح، مساكنهم؛ ولهذا قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ والجبال التي حولهم ما دمرت، السماء ما دمرت، الأرض ما دمرت.
إذًا ما معنى تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ؟ قال العلماء: تدمر كل شيء يصلح للتدمير، أو يقبل التدمير عادة، وأما ما لا يقبل التدمير عادة، أو لا يصلح للتدمير؛ فلم يدخل في هذا العموم، فكذلك إذا قال: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ المراد: خالق كل شيء مخلوق، ولم يدخل في ذلك كلام الله.(1/88)
القول على الله بغير علم من أكبر الكبائر
قال الإمام أحمد -رحمه الله- فرحم الله من فكر، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، ولم يقل على الله إلا الحق.
هذا دعاء الإمام أحمد يدعو لمن فكر ورجع عن القول الباطل الذي يخالف الكتاب والسنة ولم يقل على الله إلا الحق.
ما هو القول الباطل الذي يخالف الكتاب والسنة، القول بأن القرآن مخلوق، هذا قول باطل، فيقول: رحم الله من رجع عن الباطل، وهو القول بأن القرآن مخلوق، ولم يقل على الله إلا الحق، فإن الله أخذ ميثاق خلقه.
فإن الله أخذ ميثاق خلقه فقال: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وقال في آية أخرى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ .
الشاهد: أن الله حرم عليه القول بلا علم وجعله فوق الشرك، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فجعل القول على الله بلا علم فوق الشرك.
ومن قال: إن القرآن مخلوق، فقد قال على الله بلا علم، فيكون قد ارتكب أعظم الجرائم، نسأل الله العافية.(1/89)
من قال إن القرآن مخلوق فقد كذب على الله
وقد حرم الله أن يقال عليه الكذب، وقد قال: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أعاذنا الله وإياكم من فتن المضلين.
ومن قال: إن القرآن مخلوق فقد كذب على الله، وهو داخل في هذا الوعيد، وهو قوله: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ومتوعد بأن يسود وجهه يوم القيامة.
وقد ذكر الله كلامه في غير ما موضع في القرآن فسماه كلاما ولم يسمه خلقا.
هذا الوجه الثاني من الرد: أن الله سمى القرآن كلاما ولم يسمه خلقا، وإذا كان الله سمى كلامه كلاما ولم يسمه خلقا؛ فلا يكون داخلا في قوله سبحانه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا يكون مخلوقا، ومن قال إن القرآن مخلوق فقد كذب على الله وأعظم على الله الفرية.
وسيأتي أيضا أن الإمام وغيره يقول: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر، يعني على العموم، أما الشخص المعين فلا يكفّر إلا إذا قامت عليه الحجة، إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لكن على العموم: من قال القرآن مخلوق فهو كافر.
هكذا أطلق الأئمة العلماء - الإمام أحمد وغيره- من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، فلان بن فلان قال: القرآن مخلوق، هل يكفر؟ نقول: إذا قامت عليه الحجة، ووجدت الشروط، وانتفت الموانع، قد يكون جاهلا ما يدري، فلا بد أن يعلم، قد يكون عنده شبهة فلا بد أن تكشف الشبهة، فإذا زال الجهل وزالت الشبهة وأصر حُكم بكفره، واضح هذا؟ هذا الشخص المعين.
أما على العموم فنقول: كل من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر، كفر أكبر، نسأل الله العافية.(1/90)
سمى الله القرآن كلامًا
وقد ذكر الله كلامه في غير موضع من القرآن، فسماه كلاما ولم يسمه خلقا قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ .
هذا الشاهد: كلمات، قال: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ولم يقل: تلقى آدم من ربه خلقا، سماه كلمات.
وقال: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ .
ولم يقل: يسمعون خلق الله، سماه كلاما ولم يسمه خلقا.
وقال: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّه .
الشاهد: وكلمه ربه، سماه كلاما ولم يسمه خلقا.
وقال: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي .
الشاهد: وبكلامي، ولم يقل: وبخلقي.
وقال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا .
سماه كلاما.
وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
الشاهد: وكلماته، سماه كلاما.
فأخبرنا الله تعالى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يؤمن بالله وبكلام الله.
يؤمن بالله وبكلام الله، ولم يقل: بخلق الله.
وقال: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ .
هذا الشاهد: كلام الله، ولم يقل: خلق الله.
وقال: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي .
الشاهد: كلمات ربي.
وقال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ولم يقل: حتى يسمع خلق الله.
فهذا منصوص بلسان عربي مبين، لا يحتاج إلى تفسير، وهو مبين بحمد الله.
الشاهد: كلام الله، ولم يقل: حتى يسمع خلق الله، نعم.(1/91)
استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق
( باب ) وقد سألت الجهمي: أليس إنما قال الله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ؟
هذا الباب: استدل به الإمام أحمد على أن القرآن كلام غير مخلوق من وجهين:
الوجه الأول: أن الله أمرنا بأقوال ليس منها أن نقول: إن كلام الله مخلوق.
والوجه الثاني: أن الله نهانا عن أشياء ليس منها أن نقول: إن القرآن كلام الله.
وقد سألت الجهمي: أليس إنما قال الله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ .
أمر أمرنا أن نقول آمنا بالله، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وأمرنا أن نقول للناس حسنا، ولم يقل: قولوا إن كلام الله مخلوق.(1/92)
أمرنا الله بأقوال ولم يأمرنا بالقول بخلق القرآن
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا .
- أمرنا بأن نؤمن، وأمرنا بأن نقول قولا سديدا -
فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .
قال: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ .
- أمرنا أن نقول الحق -
وقال: وَقُلْ سَلَامٌ .
- أمرنا أن نقول سلام -
ولم نسمع الله يقول: قولوا إن كلامي خلق.
إذًا الله تعالى أمرنا بأقوال، وليس من هذه الأقوال أن نقول: إن كلام الله مخلوق؛ فدل على أن القرآن كلام الله.
الوجه الثاني: أن الله نهانا عن أشياء، وليس من هذه الأشياء التي نهانا عنها أن نقول: إن القرآن كلام الله، ما قال لا تقولوا إن القرآن كلام الله؛ فدل على أن القرآن كلام الله.
وقال: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا .
- هذه النواهي: فيه نواههٍ ليس منها أن نقول إن القرآن كلام الله، نهانا قال: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا هذا جواب على الشبهة مباشرة.(1/93)
النهي عن القول بخلق القرآن
وقال: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ .
- كل هذه نواه: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا نعم.
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا .
- يعني: الوالدين -
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .
- هذا نهي، لا تقف -
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ .
- هذا نهي، لا تدعوا -
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ .
- نهي عن القتل -
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ - نهي عن قتل النفس - وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - النهي عن قربان مال اليتيم - وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ومثله في القرآن كثير، فهذا مما نهى الله عنه، ولم يقل لنا: لا تقولوا إن القرآن كلامي. يعني: هذه نواه كثيرة , فلو كان القرآن ليس كلام الله لنهانا مثل هذه النواهي؛ لقال: لا تقولوا إن القرآن كلامي، فلما لم ينهنا الله عن ذلك، دل على أنه ليست من الأمور المنهي عنها. كما أن الأمر الأول: أن الله أمرنا بأقوال ليس منها أن نقول: إن كلام الله مخلوق.
فلو كان كلام الله مخلوقا؛ لأمرنا أن نقول: قولوا إن كلام الله مخلوق، فلماذا تأتي أوامر كثيرة وليس منها أن نقول: إن القرآن مخلوق؟ وتأتى نواهٍ كثيرة وليس منها أن ينهانا أن نقول: إن القرآن كلام الله؟ فلما لم يأمرنا أن نقول: إن كلام الله مخلوق، ولم ينهنا أن نقول: إن القرآن كلام الله؛ دل على أن القرآن كلام الله. وقد سمت الملائكة كلام الله كلاما ولم تسمه خلقا، قوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الملائكة سمت كلام الله كلاما ولم تسمه خلقا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم؟(1/94)
قول الملائكة عن القرآن كلام الله
وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي، ما بين عيسى وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا سنة.
فلما أوحى الله إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- سمعت الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفا؛ فظنوا أنه أمر من أمور الساعة، ففزعوا وخروا لوجوههم سجدا، فذلك قوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ .
حتى إذا فزع عن قلوبهم يقول حتى إذا انجلى الفزع عن قلوبهم رفعت الملائكة رؤوسهم فسأل بعضهم بعضًا فقالوا: ماذا قال ربكم؟ ولم يقولوا ماذا خلق ربكم ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه.
كما في الحديث: إذا تكلم الله بالوحي سمعه جبريل فصعق جبريل وتصعق الملائكة، ثم يتخابر الملائكة فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق كوقع الحديد على الصفا، يعني الصوت المسموع من كلام الله، هذا تشبيه للصوت المسموع من كلام الله، من باب التقريب، ليس المراد أن كلام الله كالحديد على الصفا، بل المراد تشبيه الصوت المسموع من كلام الله، ليس المراد تشبيه كلام الله بالحديد ولا بالصوت، صوت الحديد، بل المراد تشبيه الصوت المسموع من كلام الله كأنه يشبهه في القوة، نعم.(1/95)
شبهة الجهمي في حدوث القرآن
باب آخر:
قال الإمام أحمد -رضي الله عنه-: ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر..
- هذه الشبهة الرابعة للجهمية، على أن القرآن مخلوق، وهي شبهة شرعية. -
فقال: أنا أجد آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق، فقلنا: في أي آية؟ فقال: قول الله تبارك وتعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فزعم أن الله قال للقرآن: محدث، وكل محدث مخلوق. فلعمري لقد شبه على الناس بهذا، وهي آية من المتشابه.
إذن الجهمي أتى بشبهة شرعية، آية من القرآن، وهي قول الله تبارك تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ قال: إن الله أخبر أن القرآن محدث، وكل محدث مخلوق، هذه في آية الأنبياء
والآية الأخرى في الشعراء: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ وقول الله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا .
الإمام -رحمه الله- قال: فلعمري لقد شبه على الناس، جاءت مرة ثانية لعمري، تأكيد، إن شبهته قوية، فلعمري لقد شبه على الناس بهذا، وهي آية من المتشابه، لا شك أنها تشتبه على كثير من الناس؛ ولذلك الجواب يحتاج إلى تأمل.
والإمام أحمد له جواب على هذه الشبهة الآن، نستعرض الآن جواب الإمام أحمد الآن في صفحتين ونصف، ثم نرى جواب الإمام البخاري في صحيحه له جواب آخر على هذه الشبهة وكل من الجوابين حق.(1/96)
قوة شبهة جهم
فقلنا في ذلك قولا، واستعنا بالله، ونظرنا في كتاب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله...
هذا يدل على أن الشبهة قوية. ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "فقلنا في ذلك قولا، واستعنا بالله، ونظرنا في كتاب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله".(1/97)
الشيئان إذا اجتمعا في اسم يجمعهما
اعلم أن الشيئين إذا اجتمعا في اسم يجمعهما، فكان أحدهما أعلى من الآخر، ثم جرى عليهما اسم مدح، فكان أعلاهما أولى بالمدح وأغلب عليه، وإن جرى عليهما اسم ذم أو اسم دني، فأدناهما أولى به.
القاعدة: إن الشيئين إذا اجتمعا في اسم يجمعهما، شيئان اجتمعا في اسم يجمعهما، وأحدهما أعلى من الآخر، فإذا جرى عليهما اسم مدح كان المدح ينصرف إلى الأعلى، وإذا جرى عليهما اسم ذم كان الذم ينصرف إلى الأدنى.
وسيضرب المؤلف -رحمه الله- لهذا أمثلة تنظيرية، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الجواب على الآية: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ كلمة "محدث" تشمل كلام الله، وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدخل فيها الأمران جرى عليهما اسم ذم، وهو الحدث فينصرف إلى كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا إلى كلام الله.
الشيئان إذا اجتمعا في اسم يجمعهما، وأحدهما أعلى من الآخر، إن جرى عليهما اسم مدح انصرف إلى الأعلى، وإن جرى عليهما اسم ذم انصرف إلى الأدنى.
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ الذكر محدث، ما هو الذكر؟ قال: يشمل شيئين: ذكر الله، وذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، جرى عليهما اسم ذم وهو الحدث، ينصرف إلى ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه مخلوق، ولا يدخل في ذلك كلام الله، هذا خلاصة الجواب الذي أجاب به المؤلف -رحمه الله-.(1/98)
أمثلة لشيئين اجتمعا في اسم يجمعهما
اعلم أن الشيئين إذا اجتمعا في اسم يجمعهما فكان أحدهما أعلى من الآخر، ثم جرى عليهما اسم مدح فكان أعلاهما أولى بالمدح وأغلب عليه، وإن جرى عليهما اسم ذم أو اسم دني فأدناهما أولى به، ومن ذلك: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ هذا المثال الأول، والمثال الثاني: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يعني الأبرار دون الفجار، فإذا اجتمعوا في اسم الإنسان واسم العباد فالمعنى في قول الله جل ثناؤه: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يعني الأبرار دون الفجار.
كلمة عباد الله، العبودية العامة يدخل فيها الكافر والمؤمن، فإذا قال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ عباد الله يدخل فيها الكفار والمؤمنون ينصرف إلى المؤمنين، بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ .
إذن عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ المؤمنون، ولا يدخل الكفار، وإن كانوا عباد الله، المعبدين، لكن ما يدخلون، جاء اسم مدح ينصرف إلى أعلاهما، إلى المؤمنين الأبرار، بدليل قوله: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ .(1/99)
رد شبهة حدوث القرآن
فلما قال الله تبارك وتعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فجمع بين ذكرين: ذكر الله، وذكر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فأما ذكر الله إذا انفرد لم يجر عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ .
فإذا انفرد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه جرى عليه اسم الحدث، ألم تسمع إلى قوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ فذكر النبي له عمل، والله له خالق ومحدث.
إذن فقوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ المراد به ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ذكر الله الذي هو القرآن، فالحدث الذي هو الخلق وقع على ذكر النبي، ولم يقع على ذكر الله.(1/100)
الدليل على بطلان شبهة الحدوث
والدلالة على أنه جمع بين ذكرين لقوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فأوقع عليه الحدث عند إتيانه إيانا، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء إلا مبلِّغ ومذكِّر، وقال الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ .
إذن يقول: "الدليل أنه جمع بين ذكرين لقوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فأوقع عليه الحدث عند إتيانه إيانا"، من الذي أتانا به؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء -أي بالأخبار- عن الله إلا مبلغ ومذكر؛ فالرسول هو المبلغ، وقال الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ .
إذن الرسول -عليه الصلاة والسلام- حينما أتانا بالأنباء إذن هو مذكِّر، هذا ذكر أتى به الرسول من عند الله -عز وجل-، فالحدث يقع على الذكر الذي جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، الحدث يقع على الذكر عند إتيانه إيانا، وعند إتيانه إيانا إنما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.(1/101)
التوجيه الصحيح للآية
فلما اجتمعوا في اسم الذكر جرى عليهم اسم الحدث، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا انفرد وقع عليه اسم الخلق، وكان أولى بالحدث من ذكر الله.
"فلما اجتمعوا في اسم الذكر جرى عليهم اسم الحدث" لما اجتمعوا -ذكر الله وذكر النبي- جرى عليهم اسم الحدث، وذكر النبي إذا انفرد وقع عليه اسم خلق، وكان أولى بالحدث من من ذكر الله الذي إذا انفرد لم يقع عليه اسم الخلق ولا الحدث.
وذكر النبي إذا انفرد وقع عليه اسم الخلق والحدث، فقال: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ المراد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه حينما أتى به من عند الله ذكَّر بقوله وبكلامه.(1/102)
القرآن محدث بالنسبة إلى النبي
وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا انفرد وقع عليه اسم الخلق، وكان أولى بالحدث من ذكر الله تعالى الذي إذا انفرد لم يقع عليه اسم الخلق ولا الحدث، ووجدنا دلالة من قول الله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إنما هو محدث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- محدث، وبالنسبة لله -عز وجل- ليس بمحدث، فقوله: "محدث" يعني بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه علَّمه الله إياه بعد أن لم يكن عالما به، فلما علَّمه الله قبل أن يكون عالما به صار حادثا بالنسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهو محدث بالنسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم-.(1/103)
الدليل على أن القرآن محدث بالنسبة إلى النبي
إنما هو محدث للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يعلم، فعلَّمه الله، فلما علَّمه الله كان ذلك محدثا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه أجاب بجواب آخر، وقال: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ هذا كلام الله، ولكن حدث الله لا يشبه حدث المخلوقين؛ لأن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فالبخاري -رحمه الله- بوّب في صحيحه فقال في كتاب التوحيد: باب قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وقول الله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
وقال ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تتكلموا في الصلاة .
ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله، تقرءونه محضا لم يشب؟ ولفظ الطريق الأخرى: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم أحدث الأخبار بالله محضا لم يشب؟ .
إذن جواب الإمام البخاري مبني على أن الله يتكلم إذا شاء، وأن أفراد كلام الله محدث، وأن القرآن كلام الله محدث، تكلم الله به وقت نزوله، وأن كتاب الله القرآن أقرب الكتب عهدا بالله، وأحدث الأخبار بالله، وأن الله يحدث من أمره ما يشاء، ويتكلم إذا شاء، وأن حدث الله لا يشبه حدث المخلوقين؛ لأن الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .
كلام الله قديم النوع، حادث الآحاد، أفراد الكلام حادثه، ولكن حدث الله لا يشبه حدث المخلوقين، نوع الكلام قديم لم يزل الله متكلما، لكن أفراد كلام الله حادثة.
لما جاءت المجادلة خولة بنت حكيم وجادلت النبي -صلى الله عليه وسلم- تكلم الله وأنزل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ .
والله تعالى يكلم يوم القيامة الناس، ويكلم آدم ويكلم أهل الجنة، وينادي: يا آدم يقول: لبيك وسعديك، فهذا أفراد كلام الله حادثة، لكن حدث الله لا يشبه حدث المخلوقين، فكلام الله قديم النوع، حادث الآحاد.
جواب الإمام أحمد -رحمه الله- فهم من قوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ مخلوق، قال: إن الخلق يقع على كلام الرسول، ولا يقع على كلام الله.
الإمام البخاري فهم من قوله: "محدث" يعني: حدث لا يشبه حدث المخلوقين، حدث المخلوقين مخلوق، وحدث كلام الله ليس بمخلوق.
الحافظ ابن كثير يقول على قوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ أي جديد إنزاله.
قد يقال: إنه يتمشى مع الجوابين، فإذا قلنا جديد إنزاله فالحدث بالنسبة للمخلوقين الذين سمعوه، ويوافق كلام البخاري جديد إنزاله، يعني أفراد كلام الله حادثة.
فالمقصود أن الإمام أحمد فهم من الآية: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ مخلوق، فقال: إن الآية اجتمع فيها ذكر الله وذكر المخلوق، فالخلق يقع على ذكر الرسول.
والإمام البخاري قال: إن الحدث هنا يرجع إلى كلام الله، لكن حدث الله لا يشبه حدث المخلوقين، فكلام الله صفة من صفاته، وهو قديم النوع، حادث الآحاد، وهو يتكلم بما شاء، ومتى شاء، وكيف شاء -سبحانه وتعالى-، لا أحد يحصره عليه.
ونوع الكلام قديم، لم يتجدد له، ولم يزل الله يتكلم، ولا يزال يتكلم إذا شاء، وإن كانت أفراد كلام الله حادثة، إلا أن حدث الله لا يشبه حدث المخلوقين.(1/104)
شبهة تسمية عيسى بكلمة الله
باب: ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر... -الشبهة الخامسة للجهم على أن القرآن مخلوق شبهة شرعية-
فقال: إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق. فقلنا: أي آية؟ فقال: قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وعيسى مخلوق.
هذه الشبهة، استدل بالآية، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وجه الدلالة قال: إن الله سمى عيسى كلمة الله، وعيسى مخلوق، فدل على أن كلام الله مخلوق.(1/105)
تخطئة الجهم في فهم القرآن
فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن..
هنا اشتد الإمام أحمد -رحمه الله-، دعا عليه: إن الله منعك الفهم في القرآن يا جهم منعك، عقوبة له؛ لأنه أعرض وتصامم عن الحق، فمنعه الله الفهم، الجواب هو.(1/106)
رد شبهة الجهم
عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن؛ لأنه يسميه مولودا، وطفلا، وصبيا، وغلاما، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الخطاب والوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى
هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟ ولكن المعنى في قوله -جل ثناؤه-: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له "كن" فكان، فكان عيسى بـ "كن"، وليس عيسى هو "كن"، ولكن بـ "كن" كان، فـ "الكن" من الله قول، وليس الـ "كن" مخلوقا.
الجواب: يقول الإمام: إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأنه يسميه مولودا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا يسميه مولودا، ثم سماه طفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب، مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه اسم الخطاب والوعد والوعيد.
ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن.
هل يجري على القرآن قول مولود وطفل وصبي وغلام، ويأكل ويشرب، ومخاطب بالأمر والنهي، من ذرية كذا وكذا؟ لا، هذه ألفاظ تجري على عيسى ولا تجري على القرآن، لكن المعنى في الآية التي استدللت بها أيها الجهمي، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: "كن"، أن الله خلق عيسى بالكلمة "كن"، ليس عيسى هو الكلمة، عيسى مخلوق بالكلمة، قال الله له: "كن" فكان.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عيسى مخلوق بالكلمة، قال الله له: "كن" فوجد عيسى ليس عيسى الكلمة، بل هو مخلوق بالكلمة، فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: "كن" فكان عيسى بـ "كن"، وليس عيسى هو "كن" الكلمة، ولكن بـ "كن" كان فالـ "كن" من الله قول وليست "كن" مخلوقا.
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم هي "كن" لما ألقى الله كلمة "كن" وجد عيسى فكان عيسى بـ "كن"، يعني فوجد عيسى بكلمة "كن" وليس عيسى هو "كن"، ليس عيسى هو الكلمة كما تقوله النصارى ولكن بكلمة "كن" كان، يعني وجد عيسى فالـ "كن" من الله قول، وليست "كن" مخلوقا.
بعد ذلك ذكر الإمام -رحمه الله- ثلاثة أقوال في عيسى قول النصارى وقول الجهمية وقول المسلمين ثلاثة طوائف:
الجهمية قالوا: عيسى هو روح الله وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة، كلمة "كن" مخلوقة.
والنصارى قالوا: عيسى جزء من الله، هو نفس الكلمة، ليس مخلوقا، ولكنه جزء من الله -نعوذ بالله-.
والمسلمون قالوا: عيسى خُلق بالكلمة.
ثلاث طوائف، لا بد تفرق بين المذاهب، عندنا ثلاثة مذاهب: مذهب الجهمية ومذهب النصارى ومذهب المسلمين(1/107)
كذب الجهمية والنصارى على الله في أمر عيسى
وكذب الجهمية والنصارى على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة.
قالوا: عيسى روح الله وكلمة الله، والكلمة مخلوقة، كلام الله مخلوق، فعيسى كلمة الله، وكلام الله مخلوق، هذا مذهب الجهمية(1/108)
الرد على النصارى والجهمية فيما ادعوه من أمر عيسى
وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة.
هذا مذهب المسلمين عيسى بالكلمة كان، يعني وجد وخلق، وليس عيسى هو الكلمة، هذا مذهب المسلمين
تجدون الاختصار الآن، كل مذهب سطر، لكن يعطي معنى، الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة. النصارى قالوا: عيسى روح الله وكلمة الله، إلا أن عيسى جزء من الله. والمسلمون قالوا: عيسى مخلوق بالكلمة، وليس هو الكلمة. عيسى مخلوق بالكلمة، كلمة "كن"، وليس هو الكلمة، كلام الله صفة من صفاته، خلق الله عيسى بكلمة "كن" فكان.
الجهمية يقولون: عيسى روح الله وكلمته، إلا أن كلام الله مخلوق، عيسى كلمة الله وكلام الله مخلوق، هكذا يقولون. النصارى يقولون: عيسى كلمة الله وكلامه ليس بمخلوق، لكن عيسى جزء من الله نعوذ بالله. نعم.(1/109)
شبهة خلق السماوات والأرض وما بينهما في خلق القرآن
باب، ثم إن الجهمي ادعى أمرا آخر فقال.. -هذه الشبهة السادسة شبهة عقلية على أن كلام الله مخلوق-
فقال: إن الله يقول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فزعم أن القرآن لا يخلو أن يكون في السماء أو في الأرض أو في ما بينهما، فشبه على الناس، ولبّس عليهم.
إذن شبهة الجهم يقول: إن الله تعالى يقول: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فأخبر الله تعالى أن السماوات مخلوقة، والأرض مخلوقة، وما بينهما مخلوق، فالقرآن هل هو في السماء، أو في الأرض، أو في ما بينهما؟
إن كان في السماء فهو مخلوق، وإن كان في الأرض فهو مخلوق، وإن كان بينهما فهو مخلوق؛ لأن الله خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق ما بينهما، فالقرآن أين يكون؟
لا بد أن يكون القرآن مخلوقا هذه هي الشبهة، والجواب هو.(1/110)
رد شبهة خلق السماوات والأرض وما بينهما
فقلنا له: أليس إنما أوقع الله جل ثناؤه الخلق على المخلوق ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما؟ فقالوا: نعم. فقلنا: هل فوق السماوات شيء مخلوق؟ قالوا: نعم. قلنا: فإنه لم يجعل ما فوق السماوات مع الأشياء المخلوقة، وقد عرف أهل العلم أن فوق السماوات السبع الكرسي والعرش واللوح المحفوظ والحجب وأشياء كثيرة، ولم يسمها، ولم يجعلها مع الأشياء المخلوقة، وإنما وقع الخبر من الله على السماوات والأرض وما بينهما.
وقلنا فيما ادعوا أن القرآن لا يخلو أن يكون في السماوات أو في الأرض أو في ما بينهما، فقلنا: إن الله تبارك وتعالى يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ والحق الذي خلق به السماوات والأرض هو قوله: إن الله يقول الحق وقال: وَالْحَقَّ أَقُولُ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ .
فالحق الذي خلق به السماوات والأرض قد كان قبل السماوات والأرض، والحق قوله وليس هو قوله مخلوقا.
إذن الجواب كان من وجهين:
الوجه الأول: قلنا: هل فوق السماوات شيء مخلوق؟ قالوا: نعم. فقلنا: فإنه لم يجعل ما فوق السماوات مع الأشياء المخلوقة، وقد عرف أهل العلم أن فوق السماوات السبع: الكرسي والعرش واللوح المحفوظ والحجب وأشياء كثيرة ولم يسمها، ولم يجعلها مع الأشياء المخلوقة.
وإنما وقع الخبر من الله على السماوات والأرض وما بينهما، يعني يقول الإمام -رحمه الله-: هناك أشياء فوق السماوات مخلوقة، ولم يذكرها الله، ما هي التي فوق السماوات؟ الكرسي مخلوق، والعرش مخلوق، واللوح المحفوظ مخلوق، والحجب التي احتجب الله بها عن خلقه، حجب كثيرة جاء فيها آثار كثيرة أن الله احتجب عن خلقه بأشياء: بالظلمة، وبرد، وثلج، ونار، ونور، وأشياء كثيرة مخلوقة احتجب الله عن خلقه، فالحجب مخلوقه، واللوح المحفوظ مخلوق، والعرش مخلوق، والكرسي مخلوق.
فالله تبارك وتعالى في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ إنما أراد أن يبين خلق السماوات والأرض وما بينهما فقط، ولم يذكر خلق ما سواهما.
فليس المراد الحصر، بل هناك مخلوقات غير السماوات والأرض وما بينهما، فليس المراد الاستيعاب؛ ولهذا فإن هناك أشياء لم يسمها، ولم يجعلها مع الأشياء المخلوقة، وإنما وقع الخبر من الله على السماوات والأرض وما بينهما مخلوقة.
وهناك أشياء سكت الله عنها وإن كانت مخلوقة كالكرسي والسماوات والحجب واللوح والقلم إلى غيرها، فهذه مسكوت عنها وإن كانت مخلوقة، فالقرآن أيضا مسكوت عنه، وهو غير مخلوق، وإنما أراد الله أن يخبر عن السماوات والأرض وما بينهما فقط، هذا الجواب الأول.
الجواب الثاني: في قوله: وقلنا فيما ادعوا أن القرآن لا يخلو أن يكون في السماوات أو في الأرض أو في ما بينهما، فقلنا: إن الله تبارك وتعالى يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ والحق هو قول الله، وقول الله غير مخلوق، الله تعالى أخبر عن خلق السماوات والأرض فقال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ .
والحق هو قول الله، وقول الله غير مخلوق، فالسماوات والأرض وما بينهما مخلوقة بكلام الله، وكلام الله غير مخلوق.
والحق الذي خلق به السماوات والأرض هو قوله: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وقال: وَالْحَقَّ أَقُولُ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ فالحق الذي خلق به السماوات والأرض قد كان قبل السماوات والأرض، والحق الذي خلق به السماوات والأرض هو قول الله وكلامه وليس هو قوله مخلوقا.(1/111)
باب إنكار الجهمية رؤية الله
باب بيان ما جحدت الجهمية من قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ .
انتقل المؤلف -رحمه الله- للرد على الجهمية في إنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة، وسيرجع مرة أخرى إلى الكلام بعد هذا الباب.(1/112)
أدلة أهل السنة على رؤية الله
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف معنى قول الله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وقال: إنكم سترون ربكم وقال الله لموسى لَنْ تَرَانِي ولم يقل: لن أُرى. فأيهما أولى؟ أن يُتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: إنكم سترون ربكم أم قول الجهمي حين قال: لا ترون ربكم؟
نعم، يقول: إن الله -جل ثناؤه- لما قال: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يقول الإمام: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرف معنى هذه الآية، وقد أخبر الأمة وقال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته .
وقال الله تعالى لموسى لما قال: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الله لَنْ تَرَانِي هذا في الدنيا، ولم يقل لا أُرى في الآخرة، في الدنيا ما يستطيع أحد أن يرى الله، ما يستطيع أحد أن يثبت لرؤية الله؛ ولهذا الجبل ما ثبت، تدكدك؛ لأن البشر ببشريتهم الضعيفة لا يستطيعون أن يثبتوا لرؤية الله.
لكن في يوم القيامة يُنشَّأ الناس تنشئة قوية، يتحملون ويثبتون فيها لرؤية الله -عز وجل-، الصفات تبدل صفات قوية، حتى إن الكافر يبدل جلده كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا حتى إن الكافر ضرسه في النار مثل أُحد، إذن التنشئة تختلف، والمؤمنون ينشئون تنشئة قوية، طول آدم ستون ذراعا في الجنة، والعرض سبعة أذرع، جاء في حديث فيه ضعف، إذن التنشئة تختلف.
فقال الله لموسى لَنْ تَرَانِي يعني في الدنيا، ولم يقل: إني لا أُرى في الآخرة. يقول الإمام: فأيهما أولى أن يُتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- أم يتبع الجهمي؟ أيهما أولى أن يتبع؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: إنكم سترون ربكم أم قول الجهمي حين قال: إن الله لا يُرى؟(1/113)
حجب الكفار عن رؤية الله
قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: ينظرون إلى الله لا إله إلا هو، وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم، ويحجبون عن الله؛ لأن الله قال كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ .
نسأل الله العافية- يقول: نرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى الله؛ لأنه أنكر رؤية الله؛ فيعاقب بأن يحجب عن رؤية الله.(1/114)
حجب الكفار دليل الرؤية
فإذا كان الكافر يحجب عن الله، والمؤمن يحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟
يعني لو كان المؤمنون لا يرون الله، والله قال عن الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ بماذا يكون الفرق بين الكافر والمؤمن؟ فلما قال الله عن الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ دل على أن المؤمنين يرونه.(1/115)
أسئلة وفتاوى
فالحمد الله الذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته، وجعلنا ممن اتبع، ولم يجعلنا ممن ابتدع، والحمد الله وحده.
هل آيات الصفات من المتشابه أم من المحكم ؟ وإذا لم تكن من المتشابه فما معنى قول إمام أهل السنة عن الجهم إنه وجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه، وذكر: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ؟
آيات الصفات ليست متشابهة، بل محكمة، معناها محكم، لكن الكيفية لا يعلمها إلا الله، أما معناها معلوم، كما قال الإمام مالك "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب" الاستواء هو الاستقرار والصعود والعلو، السمع نعرف أن السمع وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ضد الصمم، والبصر ضد العمى.
نعرف المعنى، معاني الصفات معلومة، العلم ضد الجهل وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ آيات الصفات معلومة، وكذلك أحاديث الصفات، لكن المجهول الكيفية، لا نعلم كيفية اتصاف الله بصفاته، كيفية الاستواء، كيفية العلم، كيفية السمع، أما المعاني معروفة كما قال الإمام مالك "الاستواء معلوم، والكيف مجهول".
وقوله إنه وجد ثلاث آيات من المتشابه، يعني بالنسبة إليه، التشابه نسبي، قد يكون متشابها عند بعض الناس وليس متشابها عند البعض الآخر.
الواو التي قبل قوله تعالى: وأبكارا ذكر أن هذه الواو تسمى واو الثمانية عند النحاة، فهل هذا يصح؟ وهل يكون معارضا لقول الإمام أحمد -رحمه الله-؟
ما المراد بواو الثمانية؟ المعروف أنها تسمى واو الفصل، ويقولون: إن واو الفصل في بعض المواضع أحسن من واوات الرأس. كان العدد مسلمات.... وأبكارا، المقصود سبقها سبعة أوصاف، المقصود أن الواو فاصلة؛ لأن الثيب غير البكر، والبكر غير الثيب.
استغلق فهمي عن فهم مسألة التسلسل، التسلسل في الفاعلين، والتسلسل في المفعولات، وما هي الوسيلة لفهم ما أشكل في فهم مسائل العقيدة المشكلة؟
هذه المسائل عويصة، ينبغي لك أن تقرأ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء .
اقرأ هذه الآيات، واستعن بالله، واترك البحث في هذه المسائل، قد يتعب ذهنك الآن، وقد يجعلك في حيرة، وإن كنت طالب علم فاقرأ في مسألة التسلسل لشيخ الإسلام ابن تيمية في عدد من كتبه، مثل منهاج السنة وغيرها، وكذلك كلام ابن القيم في النونية وفي غيرها.
قلتم بأنه لا يجوز القول بأن الله شيء لا كالأشياء، فبم نفسر قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ؟
ما فيه إشكال كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ نقول: إن الذي يقول: إن الله شيء لا كالأشياء ينفي أن يكون الله شيئا، وهذا فيه إثبات أن الله شيء قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ هذا استدل به الإمام البخاري على أن الله يسمى شيء.
الجهم يقول: شيء لا يشبه الأشياء، والشيء الذي لا يشبه الأشياء لا وجود له، لا بد من إثبات نوع من الشبه، وهو المشابهة في الذهن عند القطع عن الإضافة، فالذي يقول: إن الله لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه، أو لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه، معناها أنكر وجود الله، لا بد أن تثبت شيئا وجه من وجوه الشبه، وهذه الآيات ما تنافي هذا.
ما الدليل على أن كلمة "محدث" في الآية أنها صفة ذم، وهل ينصرف الذم إلى ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
هو قصده الخلق كلمة محدث الحدث بالنسبة لو وصف كلام الله محدث، بمعنى مخلوق، هذا ذم لا شك، لكن بالنسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهو مخلوق، وكلامه مخلوق، فلا إشكال، ينصرف هذا إلى ما يليق به الخلق، يليق بالرسول، ولا يليق بكلام الله، هذا المقصود.
هل يصح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ؟
نعم هذا ثابت في حديث أبي بكرة
يقول السائل: وما معنى "استدار كهيئته"؟
قال العلماء: إن المشركين كانوا يؤخرون محرم إلى صفر حتى يستبيحون القتال فيه، ويؤخرون صفر إلى ربيع، وهكذا، فتداخلت السنة عليهم، فاستدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وعاد كل شهر مكانه في الحجة التي حج فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ذو الحجة في ذي الحجة، ومحرم في محرم.
استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، كل شهر كان في مكانه بعد الدوران الذي حصل من لخبطة المشركين.
فضيلة الشيخ -وفقكم الله-: لم يتبين لنا تفسير قوله تعالى: وَرُوحٌ مِنْهُ
روح من الأرواح التي خلقها الله منه، يعني: من أمره، روح من الأرواح التي خلقها الله بأمره بكلمة "كن".
ما حكم إضافة جميع المخلوقات إلى خالقها؟
لا بأس، يقال: أرض الله، وسماء الله، وبيت الله، وأحيانا يكون فيه تشريف، يضاف إضافة تشريف زيادة على الخلق، مثل: عبد الله، وروح الله، وكلمة الله، وبيت الله، إضافة تشريف، وأحيانا يكون إضافة المخلوق إلى خالقه بدون تشريف، مثل: أرض الله، وسماء الله.
وهناك أشياء لا يجوز إضافتها للخالق قولا كقول: كلب الله، ونحوها.
هذا ما يضاف إلى الله، والشر كذلك لا يضاف إلى الله، ولهذا قال الله عن الجن: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ الشر لا يضاف إلى الله، وإن كان الله خلق الخير والشر.
ما رأي فضيلتكم في كتاب الحيدة، حيث فيه نقاش لآراء المعتزلة وردود شرعية وعقلية، وهل نسبته صحيحة أم لا؟
طيب، كتاب الحيدة لعبد العزيز الكناني، الرد على بشر المريسي طيب ومناظرة جيدة، والظاهر مشهور، أنا ما أعرف، لكن التشكيك هذا كثير من الناس بعض المعتزلة يشككون في كثير من الرسائل؛ حتى لا يثبت الرد عليهم، مشهور ذكره العلماء - شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- أثبتوا أنه لعبد العزيز الكناني لكن كثير من المعتزلة والجهمية يشككون، يقولون: ليست له؛ حتى لا يثبت الرد عليهم.
سمعنا أن لكم تحقيقا لكتاب الرد على الزنادقة فهل هو موجود في الأسواق أم أن خروجه قريب؟
لا أبدا، هذا هو الرد على الزنادقة هذا هو الكتاب، وهذا هو الشرح، هذا أول مرة، ما رأيت شرحا لهذا الكتاب، هذه رسالة عظيمة، لم أر أن أحدا شرح هذه الرسالة، فتكون الكلمة التي تكلمنا فيها تبين بعض المعنى.
أحسن الله إليكم، نرجو منكم الإحالة على كتاب يسهل على طالب العلم فهم مسألة: أن القرآن ليس بمخلوق، وكذلك إن كان هناك رسائل في الأشاعرة والجهمية والقدرية والطوائف المشهورة؛ ليسهل معرفة أخطائهم، وجزاكم الله خيرا.
موجود، تقرأ في شرح الطحاوية فيه مناقشة لهذا الكلام، ومناقشة القرآن مخلوق، وكلام ابن القيم -رحمه الله- في مختصر الصواعق، وفي كثير من كتبه في القصيدة النونية، وفي غيرها.
فضيلة الشيخ: إنني أعرف جماعة من هذه الفئة وناقشتهم، وهناك بعض أقوالهم لم أعلم لها ردا منهم، وهي قولهم: إن الله مادي -أي محسوس- أو غير مادي؟
ما ينبغي أن يقال هذا الكلام، هذا الكلام من أبطل الباطل، الله تعالى قال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا لا أحد يعلم كنه الله وكيفيته وحقيقته إلا هو -سبحانه وتعالى-، كما قال: اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ هذا هو وصف الله -عز وجل- كلمة الإخلاص.
الله تعالى معلوم بأسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى-، وله ذات لا تشبه الذوات، وله صفات لا تشبه الصفات، وله نفس كما سمعنا في الآيات: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ لا تشبهه الأنفس.
بالنسبة لعلو الله تعالى يتخيلون أن له حيزا أم مكانا، والمكان مخلوق، فكيف نجيب على هؤلاء؟
المخلوقات انتهت، سقفها عرش الرحمن، هذا آخر المخلوقات، وما فوق العرش ليس هناك مخلوق، والله تعالى فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات، ما فيه حيز مخلوق، المخلوقات نهايتها وسقفها عرش الرحمن، والله تعالى فوق العرش، بعد أن تنتهي المخلوقات.
وقالوا أيضا: الله خالق كل شيء، إن الله خلق الأشياء، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي عليم بالأشياء الموجودة، والذي غير موجود لا يسمى شيء، فالله لا يعلم غير الأشياء الموجودة.
الله يعلم ما كان وما يكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الأشياء التي لم تكن قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ أخبر الله بحالهم، قال عن المنافقين: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا هذا علم الله بما لم يكن لو كان كيف يكون، الله تعالى عليم بكل شيء، وعلى كل شيء قدير.
فضيلة الشيخ: ما الفرق بين القضاء والقدر ؟
يطلق أحدهما على الآخر، وهناك فروق بينهما ذكرها العلماء، ترجع إلى كتب اللغة، وكتب السنة التي فرقت بينهما، ويطلق أحدهما على الآخر، لكن هناك فرق دقيق.
عندما نتحدث مع بعض الناس عن فوائد البلاء وضرورة الصبر يردون علينا بهذا القول: ما بال الأطفال يبتلون ويعذبون بهذه الأمراض، وما الحكمة من تعذيب الأطفال بهذه الأمراض؟
الله تعالى له الحكمة البالغة، وله الأسرار إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وكذلك خلقه الحيات والعقارب والكلاب والثعابين، له الحكمة البالغة في ذلك، الحكم تتعلق بالأحياء، وبالصغار وبالكبار، أنت تبتلى إذا مرض صبي الآن، تكون مصيبة عليك، هل تقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ؟ هل تجزع؟ هل تتسخط؟ هل تشكر الله؟ ترفع درجاتك وتكفر خطاياك من الصبي الذي يمرض الآن، هذا يتعلق بك أنت -الكبير-، هل تصبر وتقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ؟ أو تجزع وتتسخط؟ وهل تكون من الصابرين؟ وماذا تعمل؟
حِكم وأسرار لله تعالى إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ لا يقع في ملك الله إلا ما هو مبني على الحكمة، خلق الله مبني على الحكمة، وأمره مبني على الحكمة، الله تعالى لا يخلق إلا لحكمة، ولا يأمر إلا لحكمة، ولا ينهى إلا لحكمة -سبحانه وتعالى-.
ذكر طول يوم القيامة في الكتاب والسنة، هل طوله طول حقيقي أم نظرا لشدته وكربه؟
طول حقيقي، ولكن الله ييسره على المؤمنين قال تعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ وييسر على المؤمن، وهو عسير على الكافر.(1/116)
الرد على الجهمية في إنكارهم تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام
بيان ما أنكر الجهمي من أن يكون الله كلم موسى فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟
قالوا: إن الله لم يُكَلِّم ولا يتكلم؛ إنما كَوَّن شيئا فعَبَّر عن الله، وخلق صوتًا فأسمعه، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين.
إذن، هذا الباب للرد على الجهمية في إنكارهم أن يكون الله كلَّم موسى إنكارهم لكلام الله.
هذا الباب معقود للرد على الجهمية في إنكارهم كلام الله، وأن الله -تعالى- كلم موسى
يقول الإمام: قلنا لهم: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله لم يكلِّم ولا يتكلم، إن الله لم يكلم أحدًا، ولا يتكلم هكذا تقول الجهمية
كيف يجيبون عن الآيات التي فيها: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا الآيات التي فيها إثبات الكلام لله؟
قالوا: معناها: كَوَّن شيئا فعبر عن الله، وخلق صوتًا فأسمعه، قالوا: ما تكلم، ولكن كَوَّن شيئا فعبر عن الله، يعني: خلق شيئا، وقالوا: إن الله -تعالى- لم يقل لموسى إني أنا الله رب العالمين، بل خلق الكلام في الشجرة، والشجرة هي التي كلمت موسى وقالت: إني أنا الله رب العالمين.
والجهمية كذلك يقولون: بعض الكلام يخلقه الله في الهواء، أو في الشجرة، أو في أي شيء، فيكون الكلام بدأ في هذا المخلوق.
فنقول: إذن الجهمية أولوا النصوص التي فيها أن الله كَلَّم، قالوا: إن الله كَوَّنَ شيئا فعَبَّرَ عن الله، خلق شيئا فقال: إني أنا الله، وخلق صوتًا فأسمع موسى فموسى ما سمع كلام الله، ولكن سمع صوتًا خلقه الله، وقال لموسى إني أنا الله.
نعوذ بالله، هذا رد للقرآن، إبطال للقرآن.
وشبهتهم -يقول الإمام-: وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين، قالوا لا يمكن الكلام إلا من جوف ولسان وشفتين، فإذا قلتم: إن الله يتكلم فقد أثبتم أن لله جوفًا، وأثبتم لله لسانًا، وأثبتم لله شفتين، ومن أثبت أن هذه الأشياء لله فقد كفر؛ لأنه شبَّه الله بخلقه. هكذا تقول الجهمية
لماذا أنكروا الكلام؟ قالوا: فرارا من الكفر. قالوا: لأنا لو نثبت الكلام لله للزم أن يكون له جوفٌ وفم ولسان وشفتان، ومن أثبت هذه الأشياء لله فقد شبه الله بخلقه، ومن شبه الله بخلقه كفر.
ففرارًا من ذلك قالوا: لا يكلِّم، ولا يتكلم، وأما النصوص التي فيها أنه تكلم فهي منسوبة إلى أشياء خلقها الله، وكونها فتكلمت، وخلق صوتًا فأسمعه، فموسى لم يسمع كلام الله، وإنما سمع صوتًا خلقه الله فأسمعه إياه، وكون شيئا فعبر عن الله، إما الشجرة أو غيرها، مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى .
فقالوا: إن الله خلق الكلام في الشجرة، فكلمه، فسمع الكلام من الشجرة.
والمؤمنون يقولون: إن الله هو الذي كلم موسى يعني ابتداء الكلام "من الشجرة"، كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت، يعني: ابتداؤه من البيت.(1/117)
الرد على شبه الجهمية في نفي كلام الله تعالى
وأما قوله: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ أتراها أنها قالت: بجوف وفم وشفتين ولسان وأدوات؟
رد عليهم بأدلة، قال: أما قولكم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، فلو أثبتنا أن الكلام لله للزم أن نثبت له جوفا وفما وشفتين ولسانا، وهذا فيه تشبيه بالمخلوق.
يقول الإمام: إن عندنا أدلة تدل أن هناك بعض المخلوقات تكلمت وليس لها جوف ولا شفتان ولسان، وإذا أمكن أن يكون بعض المخلوقات تتكلم، ولا نعلم الكيفية، وليس لها جوف وفم وشفتان ولسان، فإمكان ذلك في الخالق من باب أولى.
هناك بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم الكيفية، ما ندري كيف، وليس لها لسان، ولا جوف، ولا شفتان، فالسماوات والأرض، قال الله -تعالى-: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا فأجابتا: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ هل السماوات لها جوف أو فم أو شفتان؟ وهل الأرض لها كذلك؟(1/118)
قول الجهمي "إن الله تعالى كلم موسى إلا أن كلامه غيره"
قال أحمد -رضي الله عنه-: فلما خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره.
"فلما خنقته الحجج" يعني: الجهمي لما أُلزِم بالحجج، وصار كالشخص المخنوق، الذي خُنق نَفَسُه في الحلق، ما استطاع يجاوب لزمته الحجج وخنقته، مثل الشخص الذي خُنق حلقه بحبل أو غيره، ماذا قال؟
قال: الله كلم موسى وافق، إلا أن كلامه غيره، جاء من جهة أخرى، فيراوغ كما يروغ الثعلب، في الأول يقول: إن الله ما كلم موسى فلما خنقته الحجج قال: الله كلم موسى إلا أن كلام الله غير الله، فقلنا: وغيره مخلوق؟ قال: نعم، وغيره مخلوق. جاء من جهة أخرى، قال: هذا مثل قولكم الأول، إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم.(1/119)
ما قاله موسى عليه السلام لقومه بعد كلام الله له
وحديث الزهري قال: "لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب، هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمُت. قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك. قال: سبحان الله! وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه. قال: فهل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله".
هذا الأثر عن الزهري رواية الزهري هذه أخرجها الدارمي في الرد على الجهمية وابن بطة في كتاب "الإبانة"، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، ومن المفسرين ابن أبي حاتم وابن جرير وابن كثير هذه الرواية، لكنها موقوفة على كعب الأحبار
وكعب الأحبار هذا يأخذ عن بني إسرائيل الغث والسمين، وفي سنده مجهول، وهو جزء بن جابر الخثعمي فيكون ضعيفا؛ لأن في سنده مجهول ولو كان السند صحيحا وليس فيه مجهول، لكان ضعيفا من جهة أن كعب الأحبار - يأخذ عن بني إسرائيل ؛ لأنه كان تابعيا أسلم في عهد عمر بن الخطاب وهو من أهل الكتاب
ورُوي -أيضا- من طريقٍ أخرى، من طريق جابر بن عبد الله وفي سنده فضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر وأخرجه ابن أبي حاتم وابن كثير وهو موقوف على جابر وفي سنده فضل بن عيسى الرقاشي وهو ضعيف بالمرة، منكر الحديث، متكلم فيه.
ولو فرضنا أن هذا السند موقوف على جابر وليس فيه الفضل بن عيسى لكان ضعيفا أيضا؛ لأنه ممن أخذ عن بني إسرائيل
فتكون رواية الزهري عن كعب الأحبار أو الطريق الأخرى، طريق جابر لو كان سندها مثل الشمس متصلا، لكان ضعيفا، لأنهما من أخبار بني إسرائيل وأخبار بني إسرائيل لا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب.
كيف ورواية الزهري فيه جزء بن جابر الخثعمي وهو ضعيف؟ ورواية جابر في سندها الفضل بن عيسى وهو ضعيف بالمرة؟
فيكون هذان موقوفين، وهما من أخبار بني إسرائيل وكلام الله وصفاته لا تشبه صفات المخلوقين، ولا يعلم كيفيته إلا هو. هذا الأثر لا يعول عليه؛ لضعفه وكونه من أخبار بني إسرائيل لضعفه الشديد المتناهي.
ثم -أيضا- ليس من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل من كلام كعب الأحبار وهو مممن أخذ عن بني إسرائيل أو من كلام جابر إن صح السند وهو لم يصح؛ لأن رواية جابر في سندها الفضل بن عيسى الرقاشي وهو متكلم عليه ضعيف بالمرة، وهناك من قال: إنه خبيث، وإنه يروي المنكرات.
وكذلك الطريق الأخرى عن كعب الأحبار في سنده جزء بن جابر الخثعمي فلا يُعَوَّل على هذا الأثر.
وفيه تشبيه لكلام الله، وصفات الله لا تشبه صفات المخلوقين، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو.
يبقى الإشكال: لماذا ذكره الإمام أحمد -رحمه الله- إمام أهل السنة ؟ لماذا ذكره هنا، وهو أثر ضعيف عن بني إسرائيل ولا يعول عليه؟
نقول: كما يذكر حديث ضعيف في المسند، إذا ذكر السند خلاص، وأنت حقق.
يعني: العلماء قسمان:
قسم من العلماء لا يذكر إلا الأحاديث الصحيحة، مثل البخاري ومسلم
وقسم من العلماء يذكر في الحديث الصحيح والضعيف، مثل السنن الأربع، فيها الضعيف، وفيها الصحيح، وفيها الحسن، سنن أبي داود جامع الترمذي سنن ابن ماجه سنن النسائي مسند الإمام أحمد فيها الضعيف، وفيها الحسن، والعلماء يؤلفون ويذكرون السند، وإذا ذكروا السند خرجوا من العهدة والمسئولية.
هذا السند أمامك الآن، تعرف هل هو صحيح أو ضعيف؛ وإنما يذكرونه لأنهم يذكرون ما ورد في هذا الباب، ما ورد في هذا الباب، سواء ضعيفة أو غير ضعيفة، تعلم أن هذا الذي ورد في هذا الباب هذا الحديث الضعيف.
إذن، هذا لا يُعَوّل عليه، ولو لم يذكره -رحمه الله- لكان أولى؛ لأن هذا لا يعول عليه، أثر باطل، والنصوص -الآيات القرآنية والأحاديث النبوية- كافية في إثبات كلام الله -عز وجل-، فيها الغنية وفيها الكفاية: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي .
والنصوص كثيرة من الكتاب والسنة، فلا حاجة لهذا الأثر الضعيف الباطل.(1/120)
كلام الله تعالى لعيسى عليه السلام يوم القيامة
وقلنا للجهمية من القائل يوم القيامة: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟
أليس الله هو القائل؟
قال: قالوا: يُكَوِّن الله شيئا، فيعبر عن الله كما كونه فعبر لموسى
الإمام -رحمه الله- يناقش الجهمية يقول: قلنا للجهمية من القائل يوم القيامة يخاطب عيسى يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ .
أليس الله هو القائل يخاطب عيسى ؟
ماذا قالت الجهمية ؟
قال: قالوا: يكوِّن الله شيئا فيعبر عن الله، كما كونه فعبر لموسى يعني: يخلق الله مخلوقا ينادي عيسى ويقول: يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟
والعياذ بالله، الجرأة العظيمة، تقول الجهمية الله لا يكلم عيسى يوم القيامة. من الذي يكلمه؟ مخلوق يخلقه يكلم عيسى فيقول: يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني... كما أنه كوَّن مخلوقًا فكلم موسى في الدنيا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا يقول ما كلمه الله، وإنما خلق مخلوقًا فكلم موسى قال: قال: يكون الله شيئا فيعبر عن الله، كما كَوَّنه فعبر لموسى بماذا أجاب الإمام؟(1/121)
سؤال الله الناس عن المرسلين دليل على كلام الله
قلنا فمن القائل: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ؟
أليس اللهُ هو الذي يسأل؟
قالوا: هذا كله إنما يكون شيئا فعبر عن الله.
يعني: يخلق، "إنما يكون شيئا" فعبر عن الله، يعني يقول الإمام أحمد قال: سألهم سؤالا آخر قال: فمن القائل: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ .
أليس هو الله هو الذي يسأل؟ يسألهم يوم القيامة، يسأل المرسلين، ويسأل المرسل إليهم، قالوا: هذا كله إنما يكوِّن شيئا فيعبر عن الله، يكوِّن مخلوقا فيعبر عن الله، فيقول: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ .
بماذا أجاب الإمام؟(1/122)
إنكار كلام الله فرية عظيمة
فقلنا: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تُعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان.
أجاب الإمام:"فقلنا: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله".
معنى ذلك: أنكم تنقصتم الله، جعلتم الله كالأصنام، الأصنام لا تتكلم، ولا تجيب، ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان.(1/123)
قول الجهمي إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق والرد عليه
فلما ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق.
لما ظهرت الحجة على الجهمي، لما خنقته الحجج قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق. يعني: وافق من جهة، وأنكر من جهة أخرى، في الأول يقول: لا يتكلم. فلما ظهرت عليه قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق. بماذا أجاب الإمام؟(1/124)
تشبيههم لكلام الله بكلام الناس
قلنا: وكذلك بنو آدم كل كلامهم مخلوق، فقد شبهتهم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق.
فشبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق قلتم إنه يتكلم وكلامه مخلوق، إذ بنو آدم كلامهم مخلوق.
فشبهتم الله بخلقه، جعلتم كلام الله مثل كلام بني آدم، كلام بني آدم مخلوق، وكلام الله مخلوق.(1/125)
معنى خلق التكلم عدمه في الماضي
ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم، كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما.
هكذا يقول: في مذهبكم أيها الجهمية قد كان -يعني الرب- في وقت من الأوقات لا يتكلم -عاجز عن الكلام-حتى خلق لنفسه التكلم فتكلم، وكذلك بنو آدم، كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاما. نعم.(1/126)
جمع الجهمية بين الكفر والتشبيه
وقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة.
كيف جمعوا بين كفر وتشبيه؟ الكفر: أنكروا كلام الله، وتشبيه: شبهوا الله بالمخلوقين.
جمعتم أيها الجهمية بين الكفر، حيث أنكرتم كلام الله، ومن أنكر أن يكون الله متكلما كفر، ومن أنكر أن يكون القرآن كلام الله فقد كفر.
والتشبيه: حيث شبهتم الله ببني آدم الذين لا يتكلمون حتى يخلق الله لهم كلاما.(1/127)
كلام الله صفة أزلية
بل نقول: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء.
بل نقول: هذا معتقد أهل الحق، إن الله لم يزل متكلما إذا شاء، متى شاء، كيف شاء.
والكلام صفة من صفاته -سبحانه وتعالى-، ولا يخلو الله من هذه الصفة، وهي كمال، فلا يمكن أن يخلو الله من الكمال في وقت من الأوقات.
والله -تعالى- بائن من خلقه بذاته وصفاته، وكلام الله ليس متحدًا بهم، ولا حالّا فيهم، بل هو سبحانه مباين لخلقه في ذاته وصفاته.(1/128)
صفات الله كلها أزلية
ولا نقول: إنه قد كان لا يتكلم حتى خلق كلاما، إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علمًا، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة.
نعم، بل نقول: إن الله -تعالى- لم يزل متصفًا بالصفات، لم يزل يتكلم، ولم يزل قادرًا، ولم يزل عالمًا، ولم يزل له نور -سبحانه وتعالى-، صفة من صفاته، ولا نقول كما تقول الجهمية الجهمية يقولون: إنه لا يتكلم حتى خلق لنفسه كلاما.
هذا باطل، بل نقول: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء. والجهمية يقولون: إنه لا يعلم حتى خلق لنفسه علمًا. هذا باطل، بل نقول: إن الله لم يزل عالمًا.
والجهمية يقولون: إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة. وهذا باطل، بل إن الله -تعالى- لم يزل قادرًا، ولم يزل عالمًا، ولم يزل سميعًا.
ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورًا؛ هذا باطل؛ لم يزل الله متصفا بصفاته، ومن صفاته النور، وهو غير النور المخلوق الذي احتجب به عن خلقه.
ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه العظمة لا، كل هذا نفي لأقوال الجهمية(1/129)
قول الجهم إن أزلية الصفات تشبه بالنصارى والمشركين
فقال الجهمي لنا: لما وصفنا بهذه الصفات -يعني: قلنا: إن الله لم يزل متكلمًا، ولم يزل عالمًا، ولم يزل قادرًا، ولم يزل عظيمًا، ولم يزل متصفا بصفاته- فقال الجهمي لنا: إنْ زعمتم أن الله ونوره، والله وعظمته، والله وقدرته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته.
يعني يقول الجهمي: "إذا قلتم: إن الله ونوره، -الذي هو صفة من صفاته- والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى ". يعني: بتعدد الأرباب والآلهة.
النصارى يقولون: إن الآلهة ثلاثة، والأرباب ثلاثة: الله، وعيسى ومريم وأنتم أثبتم أربابا متعددة، الله رب، والنور رب، والقدرة رب، وكذلك جميع الصفات، والعلم رب.
قلتم بتعدد الآلهة مثل النصارى ما الفرق بينكم وبين النصارى ؟
إذا أثبتم الصفات لله قلتم بالتعدد، إذا قلتم: إن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بتعدد الأرباب والآلهة، وهذا من شبه الجهمية يقولون: من أثبت الصفات فقد قال بتعدد الآلهة، قال بتعدد القدماء، والقديم هو واحد، هو الله.
فإذا قلتم: له صفات قديمة فقد قلتم بالتعدد، إذا قلتم: صفة الرحمة قديمة، وصفة العلم، وصفة القدرة، وصفة السمع، معناه: قلتم بتعدد الأرباب والآلهة، قلتم بتعدد القدماء والخالقين، والله واحد لا يتعدد. هذا من شُبَه الجهمية(1/130)
القول بأزلية الصفات بلا كيف أو تشبيه
قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، لا متى قدر، وكيف قدر.
نعم، إذن الإمام يقول: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، لا متى قدر، ولا كيف قدر، يعني: لا يُسأل عن الزمان، ولا عن المكان، ولا عن الكيفية.
نقول: إن الله -تعالى- لم يزل متصفا بالصفات، لم يزل بنوره، ولم يزل بقدرته وعلمه.
"لا متى قدر". ما نقول: إنه في وقت من الأوقات قدر ثم قدر بعد ذلك، ما نحدد زمانا.
"ولا كيف قدر". ولا نكيِّف، ما نقول: إن قدرته وكيفيته كذا، نوره كيفيته كذا، علمه كيفيته كذا، ما نكيف.
ولا نقول: "متى"، ما نسأل عن الزمان، ما نقول: إنه في وقت من الأوقات له قدرة، ثم خلق قدرة. "لا متى قدر، ولا كيف قدر".
ثم -أيضا- جواب آخر، سيأتي، وهو أن الله -تعالى- بذاته وصفاته هو الخالق، وليس هذا تعدد الصفات، ما هو تعدد، الله -تعالى- واحد بذاته وصفاته، العلم والقدرة والسمع والبصر، كلها صفات لله، هو -سبحانه-، فالواحد المتصف بصفات لا يقال: إنه متعدد، لكن هذا من تلبيس الجهمية(1/131)
قول الجهمية قد كان الله ولا شيء
فقالوا: لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء.
فقالوا - الجهمية -: "لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء، ولا شيء معه حتى الصفات، لا تكونون موحدين حتى تنفوا الصفات؛ لأن الصفات أشياء.(1/132)
قد كان الله بذاته وصفاته ولا شيء سواه
فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، لكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها. أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته؟
يقول: نحن نقول: قد كان الله، يعني: بذاته وصفاته، هو واحد -سبحانه-، قد كان الله ولا شيء من المخلوقات كانت معه، كان الله ولا شيء، كما في الحديث: كان الله ولم يكن شيء قبله .
فنقول: قد كان الله ولا شيء، فإذا قلنا: قد كان الله. فهذا شامل لذاته وصفاته، الله -تعالى- هو الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق، متصف بالعلم والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والإرادة، إلى غير ذلك من الصفات.
هل الصفات شيء غير الله؟
الله بذاته وصفاته هو الخالق، وإذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته. فإنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته.(1/133)
الله واحد بجميع صفاته لا تنفك عنه
وضربنا لهم في ذلك مثلا، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار -شحم النخل يقال له: جمَّار أبيض، يؤكل يؤخذ من جذع النخلة- واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته، إله واحد.
إذن الإمام أحمد ضرب لهم مثلا بالنخلة، النخلة لها جذع، ولها كرب -يمسك حينما يرقى على النخلة-، وليف وسعف وخوص وجمَّار، واسمها شيء واحد، وسميت نخلة، كل هذه الصفات، هل يقال: إنها متعددة، وإلّا هي نخلة؟
اسم النخلة بجميعها، يشمل الجذع والكرب والليف والسعف والخوص والجمَّار كلها، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة، فكذلك الله بجميع صفاته هو واحد -سبحانه وتعالى-، متصف بالصفات، بالعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والحياة كلها، فالله بذاته وصفاته واحد، هو الخالق -سبحانه- هذا المثل الأول.(1/134)
لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكا لا متى ولا كيف
حتى خلق العلم فعلم، والذي لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكا، لا متى ولا كيف.
نعم، نقول: لم يزل الله متصفا بالصفات من العلم والقدرة والملك وغيره، لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا، لا متى ولا كيف، "متى" تحديد للزمن، و"كيف" للكيفية، لا نقول: كيفية العلم كذا، ولا كيفية القدرة كذا، ما نكيف، الله أعلم بالكيف.
"ولا متى": لا نقول: متى كان له العلم؟ لم يزل الله -تعالى- متصفا بالعلم، ما نحدد زمانا، لا نسأل عن الزمن، ولا عن الكيفية.(1/135)
مثال على أن الصفة لا تنفك عن الذات
وقد سمى الله رجلا كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة -هذا المثال الثاني-، فقال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ، وقد كان هذا الذي سماه وحيدًا له عينان وأذنان، ولسان وشفتان، ويدان ورجلان، وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيدًا بجميع صفاته، فكذلك الله -وله المثل الأعلى- هو بجميع صفاته إله واحد.
هذا المثال الثاني، الوليد بن المغيرة سماه الله وحيدًا: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ، سَمَّاه الله وحيدا، لكن ما له صفات؟ له عينان، وله أذنان، وله يد، وله رجل، وله سمع، وله بصر، وله علم، وله قدرة، وسمَّاه وحيدا، وحيد من صفاته، هو شخص واحد، ما هو اثنين، لكن له صفات، فسماه وحيدا وله عينان وأذنان، ولسان وشفتان، ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، وقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، فكذلك الله -وله المثل الأعلى- هو بجميع صفاته هو إله واحد.(1/136)
باب في إثبات علو الله عز وجل واستوائه على العرش
باب بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على العرش، فقلنا: لما أنكرتم ذلك أين يكون الله على العرش، وقد قال -جل ثناؤه-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وقال: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وقال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا .
هذا الباب في إثبات علو الله -عز وجل- واستوائه على العرش، الجهمية ينكرون أن يكون الله فوق، يقولون: هو في كل مكان، تحت وفوق، وفي الأرض السابعة، وفي كل مكان. تعالى الله عما يقولون.
وأنكروا أن يكون الله على العرش، وأنكروا أن يكون الله فوق؛ قال لهم الإمام أحمد لم أنكرتم ذلك، أن يكون الله على العرش؟ وقد قال -جل ثناؤه-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وقال: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وقال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا .
والإمام -رحمه الله- اقتصر على ثلاث آيات، وإلا آيات الاستواء في سبعة مواضع كلها في إثبات استواء الله على العرش:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى هذه ، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وفي سورة "الرعد"، وفي سورة "طه"، وفي سورة "الفرقان"، وفي سورة "السجدة"، وفي سورة "الحديد" وفي سورة "الأعراف".
سبعة مواضع فيها إثبات الاستواء على العرش، وكلها جاء فيها "على" التي تدل على العلو والارتفاع، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ .(1/137)
مذهب الجهمية أن الله في كل مكان ولا يخلو منه مكان
فقالوا: هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش، فهو على العرش، وفي السماوات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، وتلوا آية من القرآن: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ .
إذن، هذا مذهب الجهمية قالوا: إن الله تحت الأرض السابعة كما هو على العرش، في كل مكان، فهو على العرش، وتحت الأرض السابعة، وفي السماوات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان.
وتلوا آية من القرآن شبهوا بها: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ، الآية تدل على أن الله في السماوات وفي الأرض.(1/138)
الرد على ما زعمه الجهمية أن الله في كل مكان
فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء. فقالوا: أي مكان؟ قلنا: أجسامكم وأجوافكم، وأجواف الخنازير والحشوش، والأماكن القذرة والأماكن القذرة ليس فيها شيء من عظم الرب.
نعم، يقول الإمام -رحمه الله-: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها شيء من عظمة الرب، ينزه الرب -سبحانه وتعالى-، فقالوا: أي مكان؟ قال: أجسامكم وأجوافكم، وأجواف الخنازير، والحشوش، والأماكن القذرة ليس فيها شيء من عظمة الرب، والله -تعالى- فوق العرش، فوق السماوات، بعدما تنتهي السماوات سقف عرش الرحمن، والله فوق العرش.(1/139)
الأدلة التي تثبت العلو لله تعالى
قد أخبرنا أنه الله في السماء، فقال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وقال: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ قال: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ .
وقال:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وقال : ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ وقال: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وقال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ .
كلها نصوص فيها إثبات العلو، والنصوص التي تدل علي أن الله في العلو يقول العلماء: تزيد على ثلاثة آلاف دليل، لكن هذه أمثلة، قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ -وهو الله-: أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ .
-والصعود إنما يكون من أعلى إلى أسفل، دل على أن الله في العلو وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ والرفع إنما يكون من أسفل إلى أعلى.
وقال لعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ والرفع يكون من أسفل إلى أعلى، فدل على أن الله في العلو.
وقال: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وقال: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ الملائكة وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ملكه، ثم قال: وَمَنْ عِنْدَهُ في العلو -وهم الملائكة- لو كان.
وقال: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ .
وقال: ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ والعروج إنما يكون من أسفل إلى أعلى، فدل على أن الله في العلو، قال: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ قال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ .
هذه أمثلة، والنصوص التي تدل على أن الله في العلو كثيرة.(1/140)
وصف الله نفسه بالعلو وذم أهل السفل
فهذا خبر الله أخبرنا أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل منه مذمومًا، يقول الله -جل ثناؤه-: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ .
وقلنا لهم: أتعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم، فما كان الله وإبليس ليجتمعا في مكان واحد، وإنما معنى قوله -جل ثناؤه-: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يقول: إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط بعلمه دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، فذلك قوله: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا .
إذن، أجاب الإمام -رحمه الله- قال: أنتم أيها الجهمية تقولون: إن الله في كل مكان، في الأسفل، وفي الأعلى.
أجاب الإمام قال: ووجدنا كل شيء أسفل مذموما، أتجعلون الله مع المذمومات؟! تعالى الله.
يقول الله -جل ثناؤه-: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ .
إبليس أين مكانه والشياطين؟ أسفل. فلم يكن الله ليجتمع وإبليس في مكان واحد، تعالى الله.
ثم أجاب على استدلالهم بالآية: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ .
قال: المعنى: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو -سبحانه- فوق العرش، معبود من في السماوات، ومعبود من في الأرض، وقد أحاط بعلمه دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان.
علمه شامل لكل شيء، في كل مكان، أما ذاته -سبحانه- فهو فوق العرش.
بعض المفسرون فسر: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ قال: علمه في السماء كما أن علمه في الأرض، والإمام هنا فسرها: معبود من في السماء، ومعبود من في الأرض، وعلمه في كل مكان؛ ولهذا قال -سبحانه-: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ثم ذكر تنظير.(1/141)
أمثلة لإثبات إحاطة علم الله وهو على العرش
ومن الاعتبار في ذلك -ذكر الإمام مثالين، يدلان على أن الله -سبحانه وتعالى- علمه في كل مكان، وذاته فوق العرش- لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير صافٍ، فيه شراب صافٍ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، ولله المثل الأعلى، قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه.
هذا المثال الأول، ذكر مثالين توضيحيين لإثبات علو الله وهو على العرش، يقول: "لو أن رجلا في يده قدح من قوارير صاف"، زجاجة فيها شراب صاف، كان بصر بن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون بن آدم في القدح".
لما يكون معك زجاجة صافية وفيها شراب صاف، ألا ينظرها بصرك؟ علمك محيط بها وتعرف ما فيها، وأنت لست داخلا في الزجاجة؟ فكذلك الله -وله المثل الأعلى- فوق العرش وهو يعلم خلقه، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم.(1/142)
باب تأويل الجهمية لمعية الله والرد عليهم
قال -رحمه الله-تعالى-: بيان ما تأولت الجهمية من قول الله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ الآية. قالوا: إن الله -عز وجل- معنا وفينا، فقلت: لِمَ قطعتم الخبر من أوله إن الله -عز وجل- يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ؟ فأخبر -جل ثناؤه- أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
يعني: الجهمية تأولوا قول الله -تعالى-: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا تأولوها بأن المعية معناها الاختلاط، وأن الله مختلط بالخلق، ممتزج بهم.
تأولوا الآية قالوا: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ يعني: معهم، بينهم في الأرض، إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ بينهم، معهم -تعالى الله-، هم يقولون: معنا وفينا، مع الثلاثة، ومع الأربعة، ومع الخمسة، إذن معنا وفينا، قال الإمام ردا عليهم: فلِمَ قطعتم الخبر من أوله؟ يعني الآية التي أخبر وهي قوله -تعالى-: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ نقول: اقرءوا الآية من أولها: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى معية علم وإحاطة، وليست معية اختلاط.
وسبق أن المعية معناها في اللغة العربية مطلق المصاحبة، تفيد المصاحبة، ولا تقتضي الاختلاط، ولا الامتزاج، ولا المماسة، ولا المحاذاة عن اليمين ولا عن الشمال، هذا أصلها في اللغة العربية، وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها.
إذن هؤلاء ما تمشوا مع اللغة العربية، في اللغة العربية هل معنى المعية الاختلاط؟ لا، معناها المصاحبة، وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها، تقول: فلان أنا معك، يعني: مالي معك، هذا نوع من متعلقات المعية، فلان زوجته معه، هو في المشرق وهي في المغرب معه يعني: في عصمته.
تقول العرب ما زلنا نسير والقمر معنا، القمر فوق، مازلنا نسير والنجم معنا، إذن المعية لا تقتضي الاختلاط ولا الامتزاج، فالجهمية أخذوا من هذه الآية أنها تفيد الاختلاط والامتزاج.
هذا من أبطل الباطل؛ ولهذا قال الإمام -رحمه الله-: لِمَ قطعتم الخبر من أوله؟ اقرءوا الآية من أولها افتتحها الله بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المعية معية علم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ هذا علم ثم قال: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .(1/143)
مناقشة الجهمي في معية الله
ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه، فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن الله بائن من خلقه، وأن خلقه دونه، وإن قال: لا، كفر.
هذه مناقشة قوية للجهمي، يعني: يقال للجهمي: تقول: إن الله معنا بعظمته -تعالى الله- فقل له: هل يغفر الله لكم أو لا يغفر؟ هل يغفر للمذنبين أو لا يغفر؟
بين أحد أمرين: إما أن يقول: نعم، وإلا يقول: لا، إن قال: نعم، فقد ترك مذهبه، زعم أن الله بائن من خلقه، يغفر للمذنبين، هناك غافر ومغفور له، يعني هناك مباينة، ما فيه اختلاط، وإن قال: لا، كفر؛ لأن الله يقول: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ .(1/144)
كذب الجهمية في زعمهم أن الله مختلط بالمخلوقات
باب إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان.
يعني: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله مختلط بالمخلوقات، الجهمية يقولون: إن الله في مكان، في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، يعني: في جميع الأمكنة، يقول الجهمي: إن ذات الله بسيطة، عامة لجميع الأمكنة، واسعة تشمل جميع الأمكنة، تعالى الله عما يقولون.(1/145)
الرد على الجهمي بالدليل العقلي
فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم، فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل، واحد منها: إن زعم "أن الله خلق الخلق في نفسه" كفر حين زعم أنه خلق الجن والإنس والشياطين في نفسه، وإن قال: "خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم" كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في مكان رجس قذر رديء، وإن قال: "خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم" رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة
وهذا دليل عقلي من طريق السبر والتقسيم، يعني يقسم الأحوال التي يتصورها العقل، الجهمي يقول: إن الله في كل مكان، نقول له: الله حين خلق الخلق هل خلقه في نفسه أو خلقه خارجا من نفسه؟
مسألة العقل يتصور ثلاثة أشياء: إما أن يقول: خلقهم في نفسه، أو يقول: خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم، أو يقول: خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم واحدا من الثلاثة، ولا يتصور العقل أكثر من هذا.
فإن قال: "خلقهم في نفسه" كفر، لماذا؟ لأنه زعم أنه خلق الجن والإنس والشياطين في نفسه -نعوذ بالله-، وكذلك إذا قال: "إنه خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم" كفر أيضا؛ لأنه زعم أن الله دخل في مكان رجس قذر رديء -تعالى الله-، وإن قال: "خلقها خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم" ترك مذهبه، وقال بقول أهل السنة لا محيد له عن واحد من هذه الأقسام الثلاثة.(1/146)
باب في إثبات العلم لله عز وجل
باب إذا أردت أن تعلم أن الجهمي لا يقر بعلم الله فقل له: إن الله يقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وقال: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وقال: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ .
هذا الباب في إثبات العلم لله -عز وجل-، والمؤلف -رحمه الله- ذكر أربعة أدلة في إثبات العلم، والأدلة كثيرة، لكن هذه أمثلة:
الأول: قوله -تعالى-: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إثبات علم لله، وأنه لا يحيط الخلق بشيء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ .
الدليل الثاني: قول الله -تعالى-: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ إثبات العلم.
الدليل الثالث: قول الله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ .
الدليل الرابع: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ .
هذه أربعة أدلة، وإلا الأدلة كثيرة لا حصر لها: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ .(1/147)
مناقشة الجهمي في إنكاره لعلم الله
فيقال له -يعني: الجهمي في مناقشته حينما أنكر العلم؛ لأن الجهمي ينكر الصفات كلها فيقال له: تقر بعلم الله هذا الذي -أذكر لك الأدلة- الذي أُوقفك عليه بالإعلام والدلالات.
بالإخبار والدلالات، يعني يقال للجهمي: هل تقر بعلم الله هذا الذي أذكر لك؟ الأدلة والإخبار، أُوقفك عليه بالإخبار والدلالات التي تدل عليه أم لا؟(1/148)
الأدلة على إثبات المعية لله تعالى
باب بيان ما ذكر الله في القرآن: وَهُوَ مَعَكُمْ .
أيضا لا يزال المؤلف في المعية، الباب السابق باب ما تأولت الجهمية من قول الله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ في المعية، وهذا في المعية أيضا، هناك في الرد عليهم -أراد أن يرد عليهم-، وهنا أراد أن يذكر الأدلة على إثبات المعية. نعم.(1/149)
مذهب الجهمية في الحلول
فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله أنه مع خلقه في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباين منه.
هذا مذهب الجهمية في الحلول، كيف يقول الجهمي؟ الجهمي يقول: إن الله مع خلقه في كل شيء، غير مماس ولا مباين، كيف يكون هذا؟! غير مماس و غير مباين، هذا تناقض! لا يمكن! إذا كان غير مماس فهو مباين، وإذا كان مباينا فهو غير مماس.
لا يمكن تنفي الاثنين، تقول لزميلك أمامك: غير منفصل عني وغير متصل بي، لا يمكن، لا بد واحد من الأمرين، إذا كان غير مماس، فهو مباين، وإذا كان غير مباين فهو مماس؛ ولهذا ناقشهم الإمام فقال:(1/150)
مذاهب الفرق في الحلول
فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماسا؟ قال: لا، فقلنا: كيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء؟ فلم يحسن الجواب، فقال: بلا كيف، فيخدع جهال الناس بهذه الكلمة، وموه عليهم.
الإمام قال: إذا كان غير مباين أليس هو مماسا؟ إذا كان غير منفصل لا بد أن يكون مماسا، قال: لا، قلنا: فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء؟ فلم يحسن الجواب فقال: بلا كيف، قال الإمام: فيخدع جهال الناس بهذه الكلمة.
إذن هذا مذهب الجهمية إنه حالٌّ في كل مكان -نعوذ بالله-، وهذا مذهب الجهمية الأولى العباد، يقولون: إن الله في كل مكان. -تعالى الله عما يقولون-.
وأما الجهمية المتأخرون فقالوا بنفي النقيضين، وهم النفاة المعطلة ما يقول إن الله في كل مكان ضد هؤلاء، يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا مباين له ولا محايز له، ماذا يكون؟!
هذا مذهب الجهمية المعطلة ينفون النقيضين اللذَين لا يخلو موجود عن واحد منهما، لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته مباين له ولا محايز له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ماذا يكون؟! أشد من العدم، لا، يسمى عند العقلاء مستحيلا. المستحيل هو الذي ينفى عنه النقيضين، ما يمكن شيء، لا داخل ولا خارجه، لا بد إما داخل وإما خارج، لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، مباين له ولا محايز له -نعوذ بالله-.
المذهب الثالث: مذهب طائفة من السالمية والصوفية يقولون: فوق العرش، وهو في كل مكان. الجهمية -نقل عنهم أنهم- يقولون: أن الله فوق العرش وفي كل مكان، وهو قول للسالمية الصوفية
المذهب الرابع: مذهب أهل الحق -الرسل وأتباعهم- أن الله -تعالى- فوق السماوات، مستو على عرشه، بائن من خلقه -سبحانه وتعالى-، المخلوقات نهايتها وسقفها عرش الرحمن، والله فوق العرش، بعد أن تنتهي المخلوقات.
هذا مذهب أهل الحق، الرسل وأتباعهم، فتكون المذاهب أربعة مذاهب: مذهب أهل الحق الرسل، مذهب الجهمية الحلول في كل مكان، مذهب السالمية والصوفية أنه فوق العرش وفي كل مكان، مذهب معطلة الجهمية ونفاتهم الذين ينفون النقيضين: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته لا مباين له ولا محايز له -نعوذ بالله-، وكفر هؤلاء الذين ينفون النقيضين أشد من الحلولية كلهم كفار.
لكن من يقول بالحلول هذا أثبت وجود الله، لكن الذي يقول لا داخل العالم ولا خارجه لم يثبت شيئا، يكون كفره أشد وأغلظ -نعوذ بالله-.(1/151)
الرد على الجهمية في قضية الحلول
فقلنا له-يعني: للجهمي-: أليس إذا كان يوم القيامة، أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والكرسي والهواء؟ قال: بلى. فقلنا: أين يكون ربنا؟ فقال: يكون في كل شيء كما كان حينما كان في الدنيا في كل شيء.
فقلنا: إنما في مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله -جل ثناؤه-.
هذه مناقشة من الإمام للجهمية يقول الإمام للجهمي: "أليس إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والكرسي والهواء؟" الأرض والسماء أين هما؟ ما فيه سماء ولا أرض يوم القيامة، إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ما فيه سماء ولا أرض، انتهى.
أين أهل السماء والأرض؟ صاروا إما في الجنة وإما في النار، فيه نار، وفيه جنة وفيه العرش، عرش الرحمن، سقف الجنة، وفيه الكرسي، كرسي الرحمن، والهواء.
فقال الإمام للجهمي: أليس إذا كان يوم القيامة، أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والكرسي والهواء؟ قال: بلى. فقلنا: أين يكون ربنا؟ فقال الجهمي: يكون في كل شيء كما كان في الدنيا، في كل شيء، فقلنا -يعني الإمام أحمد -: فإن في مذهبكم الذي صرحتم به الآن- أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء.
مذهبهم أنه في كل شيء، يعني: أنه على العرش، وفي الجنة، وفي النار، وفي الهواء، وفي الكرسي، وفي كل مكان -نعوذ بالله-، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله -جل ثناؤه-.(1/152)
قول الجهمية اسم الله في القرآن مخلوق
قال: وزعمت الجهمية أن الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم ما كان اسمه؟ قالوا: لم يكن له اسم.
هذا أيضا مناقشة للجهمية الجهمي يقول: زعموا أن الله في القرآن مخلوق، يعني: اسم الله في القرآن اسم مخلوق: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا يقول: اسم الله في القرآن مخلوق، فقال لهم الإمام: قبل أن يخلق هذا الاسم ما كان اسمه؟ قالوا: لم يكن له اسم قبل أن يخلق، ما له اسم حتى خلق اسما فصار اسمه الله -نعوذ بالله-.(1/153)
مذهب الجهمية في الصفات
فقلنا: وكذلك قبل أن يخلق العلم أكان جاهلا لا يعلم حتى خلق لنفسه علما، وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورا، وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة، فعلم الخبيث أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس حين زعم أن الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق.
يعني: يقول الإمام: مذهبكم على هذا طرد مذهبكم قبل أن يخلق العلم كان جاهلًا حتى خلق العلم، حتى خلق لنفسه علما، فلا علم له حتى خلق العلم، ولا نور له حتى خلق لنفسه النور، ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة، وكذلك لا اسم له حتى خلق لنفسه الاسم.
قال: "فعلم الخبيث -يعني: الجهمي- أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس حين زعم أن اسم الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق"؛ لأنه على هذا يقول: إن الله خلق اسمه وقبل أن يخلق اسمه فليس له اسم، كذلك خلق العلم وقبل أن يخلق العلم ما كان عالما، خلق القدرة وقبل أن يخلق القدرة ما كان قادرا، خلق النور وقبل أن يخلق النور ما كان له نور، هذا كفر صريح.(1/154)
مناقشة الجهمية في قولهم اسم الله اسم مخلوق
وقلنا للجهمية لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا كان لا يحنث؛ لأنه كان حلفه بشيء مخلوق، ولم يحلف بالخالق، ففضحه الله في هذا.
هذه مناقشة له في قوله: "إن اسم الله اسم مخلوق"، إذا قلتم أيها الجهمية إن اسم الله مخلوق، فلو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو ما يحنث؛ لأنه ما حلف بالله، حلف بشيء مخلوق، يعني تقول: "اسم الله مخلوق"، فإذا قال رجل: "والله الذي لا إله إلا هو لأفعلن كذا" ثم لم يفعل ما عليه، ما عليه كفارة، ما يحنث، لماذا؟ لأنه حلف بشيء مخلوق، هذا بناء على قولهم: "إن اسم الله مخلوق".
هذه مناقشة في قولهم: إن اسم الله مخلوق. إذا قلتم أيها الجهمية إن اسم الله مخلوق، فلو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يحنث؛ لأنه ما حلف بالله، حلف بشيء مخلوق، تقول: اسم الله مخلوق، إذا قال رجل: والله الذي لا إله إلا هو لأفعلن كذا، ثم لم يفعل ما عليه كفارة، ما يحنث؛ لأنه حلف بشيء مخلوق.
هذا بناء على قولهم: إن اسم الله مخلوق، هذا مناقشة لهم، وقلنا للجهمية لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا كان لا يحنث؟" -كان هذه على حذف حرف الاستفهام، التقدير: أكان لا يحنث؟ لأنه كان حلفه بشيء مخلوق؛ لأنكم تقولون: "اسم الله مخلوق"، تعالى الله، قال الإمام: "ففضحه الله في هذا"، هذه مناقشة، المناقشة الثانية.(1/155)
تحليف النبي والصحابة باسم الله دليل على قدمه
وقلنا: أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء من بعدهم، والحكام والقضاة، إنما كانوا يُحلِّفون الناس بالله الذي لا إله إلا هو، فكانوا في مذهبكم مخطئين، إنما كان ينبغي للنبي -عليه السلام- ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله.
مناقشة ثانية، يقول: إذا قلتم -أيها الجهمية -: إن اسم الله مخلوق. نقول لكم: أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف الناس بالله، إذا تخاصم عنده اثنان يقول: احلف بالله، وأبو بكر بعده يحلف الناس يقول: احلف بالله، إذا جاء شخص وادعى على شخص شيئا وأنكر، قال: احلف بالله أنه ليس عندك له شيء.
وكذلك عمر وعثمان وعلي والخلفاء يحلفون، وكذلك الحكام المسلمون وقضاتهم إنما كانوا يحلفون الناس بالله، فيكونون -على مذهبكم أيها الجهمية - مخطئين؛ لأنهم حلفوهم باسم مخلوق، فعلى ذلك يكون الجهمية خطئوا النبي -عليه السلام- وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحكام من بعده والقضاة؛ لأنهم يحلفون الناس بالله، وهذا خطأ؛ لأنهم حلفوهم باسم مخلوق.
وكان -على مذهبكم أيها الجهمية - ينبغي أن يحلفوهم بالذي اسمه الله، أما قولهم: "احلفوا بالله" معناه: أنهم حلفوا بمخلوق، لأنهم يقولون: اسم الله مخلوق، هذا إلزام للجهمية وسيأتي إلزام آخر، فعلى هذا إذا كان اسم الله مخلوقا -على زعم الجهمية - يكون من حلف بالله مشرك؛ لأنه حلف بمخلوق، هذا إلزام -ما ذكره الإمام- وهو لازم لهم.(1/156)
فساد نطق الجهمية بكلمة التوحيد
وإذا أرادوا أن يقولوا: "لا إله إلا الله" يقولوا: "لا إله إلا الذي خلق الله"، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله فيما ادعى على الله.
كذلك أيضا هذا إلزام لهم، يقول: على قولكم: "إن اسم الله مخلوق" إذا أراد إنسان أن يقول: "لا إله إلا الله" يكون خطأ، غير موحد، لا يكون موحدا إلا أن يقول: "لا إله إلا الذي خلق الله"، كلمة التوحيد يكون معناها هكذا: "لا إله إلا الذي خلق الله"، أما إذا قال: "لا إله إلا الله" ما يكون موحدا؛ لأن اسم الله مخلوق عندهم، فيقول: "لا إله إلا الله" يعني: إلا الله الذي لا إله إلا الله فيكون الله اسما مخلوقا، فيقول: لا إله إلا هذا الاسم المخلوق، هذا يكون غير موحد، متى يكون موحدا؟ على زعم الجهمية يقول: لا إله إلا الله الذي خلق الله، وإلا فلا يصح توحيده، كل هذا مبني على قولهم: إن اسم الله مخلوق.(1/157)
قول الجهمي الله هو الله وليس اسمًا
ولكن يقول: إن الله هو الله، وليس الله باسم، إنما الأسماء شيء سوى الله؛ لأن الله يقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ولا يجوز أن يكون اسم لاسم، ففي هذا بيان كفر الجهمي.
يعني يقول -على مذهب الجهمية - يقول: إن الله هو الله، ولا يقول: الله اسم لله؛ لأن اسم الله مخلوق، وليس الله باسم، إنما الأسماء شيء سوى الله؛ لأن الله يقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ولا يجوز أن يكون اسم لاسم مطلقا؛ لأن الأسماء مخلوقة، فلا يجوز أن يكون اسم لاسم.
قال الإمام: ففي هذا بيان كفر الجهمي؛ لأنه على مذهبه، لا نقول: إن الله اسم لله، بل يقول: إن الله هو الله، ولا نقول: إن الله اسم لله، وليس الله باسم لله، إنما الأسماء شيء سوى الله، ولا يجوز أن يكون اسم لاسم على مذهب الجهمي.(1/158)
نفي الجهمية صفة التكلم
وقلنا لهم: زعمتم أن الله لم يتكلم، فبأي شيء خلق الخلق؟ أموجود عن الله تبارك وتعالى أنه خلق الخلق بقوله وبكلامه حينما قال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
هذا مناقشة للجهمية قلنا لهم: زعمتم أن الله لم يتكلم -أيها الجهمية -، فبأي شيء خلق الخلق، الله -جل وعلا- إنما يخلق الخلق بالكلام: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ والحق كلامه -سبحانه وتعالى-، إذا كان لا يتكلم فبأي شيء خلق الخلق؟ "أموجود عن الله تبارك وتعالى؟" تقديره: ألا تجدون في النصوص أن الله -تبارك وتعالى- خلق الخلق بقوله وكلامه، هذا معنى قوله: أموجود، يعني: أليس موجودا في القرآن الكريم أن الله خلق الخلق بقوله وكلامه حين قال: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
يعني يقول: إذا قلتم: لا يتكلم، فبأي شيء خلق الخلق؟ ألا تجدون أن الله -تعالى- أخبر في القرآن أنه خلق الخلق بقوله، بدليل: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
كُنْ هذا كلام الله فَيَكُونُ يعني: فيوجد، إذن المخلوقات وجدت بقول الله، أليس موجودا في القرآن الكريم أن الله خلق الخلق بقوله وكلامه؟ بلى موجود، بماذا أجاب الجهمية عن الآية؟(1/159)
تأويل معنى القول عند الجهمية
فقالوا: إنما معنى قوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ يكون، فقلنا لهم: فلِمَ أخفيتم أَنْ نَقُولَ لَهُ ؟
أجابوا بقولهم: إن معنى قوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ "يكون" هذا معناها إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ يكون، يوجد، حذفوا جملة من الآية، ما هي؟ أَنْ نَقُولَ لَهُ قال الإمام: فلِمَ أخفيتم أَنْ نَقُولَ لَهُ ؟ لماذا حذفتم جزءا من الآية؟
الآية: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الجهمية حذفوا أَنْ نَقُولَ لَهُ قالوا: معني الآية: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه يكون"، فقال لهم الإمام: فقلنا لهم: فلِمَ أخفيتم أَنْ نَقُولَ لَهُ بماذا أجابوا؟(1/160)
قول الجهمية معنى كل شيء في القرآن معانيه
فقالوا: إنما معنى كل شيء في القرآن معانيه، وقال الله مثل قول العرب: قال الحائط، وقالت النخلة فسقطت، والحائط والنخلة لا يقولان شيئا.
يعني: أجابوا، قالوا: إنما معنى كل شيء في القرآن معانيه، يعني كل شيء في القرآن يفسر بمعانيه، وقال الله يفسر بخلق الله.
يعني الجهمية يقولون: كل شيء في القرآن معانيه، يعني يفسر بمعانيه، ومن ذلك: "قال الله" يفسرها بـ "خلق الله"، والدليل على هذا أن "قال الله" مثل قول العرب: قال الحائط، وقالت النخلة. والحائط والنخلة لا يقولان شيئا، فمعنى "قال الله" ليس معناها تكلم الله، بل معناها مثل قول العرب: قال الحائط وقالت النخلة، والحائط والنخلة لا يقولان شيئا، فمعنى "قال الله" يعني: خلق الله، قوله: "فسقطت" نسبة السقوط إليها ولا تفعل شيئا، نسبة الشيء إليها، يقال: سقطت النخلة، سقط الحائط، جماد ومع ذلك نسب إليه الفعل، نسب إليه القول. نعم.(1/161)
الرد على قول الجهمية معنى كل شيء في القرآن معانيه
والحائط والنخلة لا يقولان شيئا، فقلنا على هذا قستم، قالوا نعم.
يقول الإمام: على هذا قستم؟ يعني: قستم الله على الحائط والنخلة والجماد؟ قالوا: نعم.(1/162)
قول الجهمية قدرة الله مخلوقة
فقلنا: بأي شيء خلق الخلق إن كان الله في مذهبكم لا يتكلم؟ فقالوا: بقدرته. فقلنا: قدرته هي شيء؟ فقالوا: نعم. فقلنا: قدرته مع الأشياء المخلوقة؟ قالوا: نعم. فقلنا: فكأنه خلق خلقا بخلق، وعارضتم القرآن وخالفتموه.
هنا مناقشة لهم، يقول الإمام: إذا كان الله لا يتكلم -في مذهبكم- فبأي شيء خلق الخلق؟ مناقشة، أنتم تقولون: لا يتكلم مثل: وقالت النخلة، وقال الحائط، وقال الله، ولا يتكلم، بأي شيء خلق الخلق إن كان الله -في مذهبكم- لا يتكلم؟ فقالوا: بقدرته، فقلنا: قدرته هي شيء؟ فقالوا: نعم شيء. فقلنا: قدرته مع الأشياء المخلوقة؟ قالوا: نعم خلق الأشياء بقدرته وقدرته مخلوقة.
فقال الإمام: كأنكم قلتم: خلق خلقا بخلق، القدرة مخلوقة، وخُلِق الخلق بقدرة، فيكون خلق الخلق بخلق. رأيتم كيف وصل الجهمي؟ وهذا من أبطل الباطل.(1/163)
معارضة الجهمية للقرآن ومخالفته
وعارضتم القرآن وخالفتموه حين قال الله -جل ثناؤه-: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وأخبرنا الله أنه يخلق وقال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ فإنه ليس أحد يخلق غيره، وزعمتم أنه خلق الخلق غيره، فتعالى الله عما يقول الجهمية علوًّا كبيرا.
يعني يقول الإمام -رحمه الله-: زعمتم أن الله خلق خلقا بخلق وهي القدرة، وعارضتم القرآن وخالفتموه حين قال الله -جل ثناؤه-: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عارضتم القرآن؛ لأن الله أخبرنا أنه يخلق وقال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ .
الآية فيها حصر نفي، فإنه ليس أحد يخلق غير الله، لكن أنتم زعمتم أن هناك أحد يخلق غير الله، وزعمتم أنه خلق الخلق غيره، وهي قدرته التي هي خلق من خلقه، الله يقول: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يعني: لا خالق غير الله.
وأنتم -الجهمية- تقولون: هناك خالق غير الله، ما هو؟ القدرة هي الخالقة، خلق الخلق بالقدرة، والقدرة خلق، إذن خلق خلقا بخلق، فلزمكم أن يكون هناك خالق غير الله، والله تعالى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ويقول: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ .
فلزم الجهمية بهذا، أن يقولوا: إن هناك خالقا غير الله، وهذا كفر صريح، ولزمهم أن يقولوا: إن هناك خالقا غير الله، وأن الله ليس خالق كل شيء، بل هناك خلق هو الذي يخلق، وهي القدرة المخلوقة، هذا معنى قوله: فإنه ليس أحد يخلق غيره، وزعمتم أنه خلق الخلق غيره، فتعالى الله عما يقول الجهمية علوًّا كبيرا.(1/164)
ادعاء الجهمية أن القرآن مخلوق
باب بيان ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت.
هذه شبه الجهمية من السنة، من الأحاديث، الأول الشبه التي انقضت شبه من القرآن، آيات من القرآن مثل قوله -تعالى-: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ هذه آيات قالوا: إنها تدل على خلق القرآن، هنا شبهوا بأحاديث، قالوا: إن الأحاديث تدل على أن القرآن مخلوق.
إن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب، فيأتي صاحبه فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك. قال: فيأتي به الله، فيقول: يا رب.. إلى آخره، فادَّعوا أن القرآن مخلوق من قِبَل هذه الأحاديث، يعني: من أجل هذه الأحاديث.
هنا يقول الإمام -رحمه الله-: إن الجهمية ادَّعوا أن القرآن مخلوق، واستدلوا بالسنة، الحديث الذي فيه أن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب حين ينشق القبر عن صاحبه، يأتيه القرآن كالرجل الشاحب، وأنه يجادل عنه، وينتصب خصما له، أو خصما عليه، إن كان يعمل بالقرآن يكون خصما له -كما في الحديث- يجادل بالحجج ويقول: يا رب إنه عمل بفرائضي، وأدى واجباتي، ولا يزال يأتي بالحجج حتى يقول الله: شأنك به، فلا يزال به حتى يقوده إلى الجنة، ويلبسه تاج الكرامة .
وإذا كان خصما لا يعمل به ينتصب خصما عليه، ويقول: يا ربِّ تعدى فرائضي، وركب حدودي، وترك طاعتي، ولا يزال يأتي بالحجج حتى يقول: شأنك به، فلا يزال به حتى يكبه على منخره في النار كما في الحديث.
الشاهد أن القرآن يأتي في صورة الرجل الشاحب، قال الجهمية هذا دليل على أن القرآن مخلوق، يأتي في صورة شاب مخلوق، فدل على أن القرآن مخلوق، وأنه يأتي في صورة الشاب الشاحب، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك، قال: فيأتي به الله فيقول: يا رب.. إلى آخره.(1/165)
الرد على ادعاء الجهمية أن القرآن مخلوق
فادعوا أن القرآن مخلوق من قِبَل هذه الأحاديث
الجواب الرد: فقلنا لهم: القرآن لا يجيء إلا بمعنى أنه قد جاء، من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وله كذا وكذا، ألا ترون أن من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا تجيئه، بل يجيء ثوابه؛ لأنا نقرأ القرآن، ويقول: يا ربي، ويجيء ثواب القرآن، وكلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال، وإنما معنى أن القرآن يجيء إنما يجيء ثواب القرآن.
إذن الجواب أن الذي يجيء ثواب القرآن، ليس هو القرآن، القرآن كلام الله، لكن ثوابه هو الذي يجيء، هذا الثواب يصوره الله في صوره الرجل الشاب الشاحب، يجادل عنه أو ينتصب، إما ثوابه إذا كان له ثواب، وعقوبته على ترك القرآن، على ترك العمل به، مثلما جاء: من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وله كذا وكذا، قال: ألا ترون أن من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا تجيئه بل يجيئه ثوابه.
ومثلما جاء في الحديث: اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما المعني يجيء ثوابهما: كذلك هنا القرآن يأتي في صورة الشاب الشاحب، هذا ثوابه، يقول: "أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك"، كذلك: من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وله كذا وكذا، هذا الثواب.
إذن الذي يجيء ثواب القرآن، أما القرآن فهو كلام الله؛ ولهذا قال الإمام أحمد وكلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال، كلام الله صفة من صفاته، "يجيء إنما يجيء ثواب القرآن" هذا جواب الشبهة.(1/166)
تأويل الجهمية لقول الله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
باب ما تأولت الجهمية من قول الله -تعالى-: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ فزعموا أن الله هو الأول قبل الخلق فقد صدقوا، وقالوا: يكون الآخر بعد الخلق، فلا تبقى سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب ولا عرش ولا كرسي، وزعموا أن شيئا مع الله لا يكون هو الآخر كما كان، فأضلوا بهذا بشرا كثيرا.
هذا تأويل الجهمية في قول الله -تعالى-: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ في سورة الحديد، قال الله -تعالى-: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هذه الأسماء الأربعة متقابلة، اسمان لأبديته وأزليته، واسمان لفوقيته وعلوه وعدم حجب شيء من مخلوقاته له؛ ولهذا فسرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء هو سبحانه الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن لا يحجبه شيء من خلقه.
فالجهمية شبهوا بهذا، قالوا: إن الله هو الأول والآخر، زعموا أن الله هو الأول قبل الخلق، يقول الإمام: فقد صدقوا، هذا صحيح، لكن الآخر ما صدقوا فيها، قالوا: يكون الآخر بعد الخلق، أرادوا بها أن الجنة والنار تفنيان، ما يبقى أحد، ويفنى أهلها، ولا جنة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب، ولا عرش ولا كرسي، كلها تفنى.
يقول: حتى يكون هو الآخر، هذا كذب.
يقول الإمام: باب ما تأولته الجهمية من قول الله -تعالى-: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ فزعموا أن الله هو الأول قبل الخلق فقد صدقوا، وقالوا: يكون الآخر بعد الخلق، فلا تبقى سماء ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب ولا عرش ولا كرسي، وزعموا أن شيئا مع الله لا يكون هو الآخر كما كان، فأضلوا بهذا بشرًا كثيرة.
هذا باطل، من أبطل الباطل؛ لأن هذه الأشياء -الجنة والنار والثواب والعقاب- باقية بإبقاء الله لها، بقاء الله لذاته، ووجوده لذاته -سبحانه وتعالى-، أما وجود هذه المخلوقات فلأن الله أوجدها، ولأن الله أبقاها، وكتب لها البقاء.
أخبر أن الجنة والنار لا تفنيان خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير منقطع، ولا يزال الله يجدد لأهل الجنة نعيما بعد نعيم إلى ما لا نهاية، وأهل النار كذلك لا يزال يجدد لهم عذابا بعد عذاب إلى ما لا نهاية -نسأل الله السلامة والعافية-.
والعرش سقف الجنة، وهو عرش الرحمن، كتب الله له البقاء، والكرسي كذلك موضع القدمين لله -عز وجل-، هذه باقية بإبقاء الله لها، لأن الله أخبرنا أنها باقية، فالجهمية يقولون: كل هذه الأشياء تفنى، تفنى الجنة وتفنى النار والعرش والكرسي، ولا يبقى أحد إلا الله، حتى يكون هو الآخر كما كان هو الأول، قال الإمام: فأضلوا بهذا بشرا كثيرا.(1/167)
إثبات أن الجنة وأهلها باقون
وقلنا: أخبر الله عن الجنة ودوام أهلها فيها، فقال -سبحانه وتعالى-:
هذه أدلة من القرآن فيها إثبات أن الجنة وأهلها باقون إلى ما لا نهاية.
فقال -سبحانه وتعالى-: لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ .
نعيم مقيم، مستمر إلى ما لا نهاية.
فإذا قال -جل وجهه-: مُقِيمٌ وقال: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا .
يعني: ماكثين فيها أبد الآباد، إلى ما لا نهاية.
وقال: أُكُلُهَا دَائِمٌ .
مستمر، غير منقطع، إلى ما لا نهاية.
فإذا قال الله: دَائِمٌ لا ينقطع أبدا، وقال: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ .
هذا أهل الجنة في سورة الحجر: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ وما هم منها بمخرجين أبد الآباد.
وقال: وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ .
الاستقرار إلى ما لا نهاية.
وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ .
الحيوان: الحياة الكاملة المستمرة.
وقال: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا .
ماكثين فيها أبد الآباد إلى ما لا نهاية.
وقال: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
يعني: مستمرون إلى ما لا نهاية.
وقال: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ .
بل هي مستمرة أبد الآباد.(1/168)
كثرة الأدلة في القرآن على بقاء الجنة وأهلها
ومثله في القرآن كثير.
كل هذه الأدلة تدل على أن الجنة وأهلها باقين إلى ما لا نهاية، فالجنة ما تفنى؛ لأن الله أخبر أنها ما تفنى، فكونها لا تفنى هل وجودها من ذاتها أم من إيجاد الله لها؟ من إيجاد الله لها، ليس من ذاتها، وجود الله من ذاته، هو واجب الوجود من ذاته -سبحانه وتعالى-، أما الجنة والنار فهي باقية لإبقاء الله لها.(1/169)
بقاء النار وأهلها
وذكر أهل النار وقال..
وكذلك أهل النار ذكر الله أنهم مستمرون إلى ما لا نهاية.(1/170)
الأدلة على بقاء النار وأهلها
لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا .
أبد الآباد، نعوذ بالله.
وقال: أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي .
الكفار يئسوا من رحمة الله، إذن مستمرين في العذاب إلى ما لا نهاية، نعوذ بالله.
وقال: لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ .
الذي لا يناله الله برحمة يستمر في النار، ولو قيل: إن النار تفنى، معناه نالهم الله برحمة، ولو فنيت النار صار هذا رحمة لهم، وهم ليسوا من أهل الرحمة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ والكفار غير متقين، لم تكتب لهم الرحمة والعياذ بالله.
وقال: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ .
كذلك إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ يعني: أبد الآباد.
خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ .
يعني أهل النار.
وقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا .
يعني: تتجدد الجلود، إلى ما لا نهاية، أبد الآباد.
وقال: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا .
أهل النار، نعوذ بالله.
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ .
يعني: مطبقة مغلقة أبد الآباد، نعوذ بالله.
ومثله في القرآن كثير.
إذن هذه النصوص التي ساقها الإمام كلها دليل على أن الجنة والنار وأهلهما باقيتان أبد الآباد، إلى ما لا نهاية، لا تفنيان كما يقول الجهم قبحهم الله.(1/171)
علة زوال السموات والأرض
فأما السماء والأرض فقد زالتا، لأن أهلها صاروا إلى الجنة أو النار.
أهل الأرض الآدميين ذهبوا إما إلى الجنة أو إلى النار، وأهل السماء كذلك الملائكة ما فيه سماء ولا أرض، ما فيه إلا العرش والكرسي والجنة والنار والهواء.(1/172)
العرش لا يبيد
وأما العرش فلا يبيد ولا يذهب، لأنه سقف الجنة، والله عليه، فلا يهلك ولا يبيد.
العرش لا يبيد ولا يذهب، باق بإبقاء الله له؛ لأنه سقف الجنة، والله مستو عليه استواء يليق بجلاله وعظمته؛ فلا يهلك ولا يبيد العرش.(1/173)
شبهة الجهمية في قوله كل شيء هالك إلا وجهه
وأما قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ .
هذه شبهة شبه بها الجهمية قالوا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ قالوا: هذا يشمل العرش كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يدل على أن العرش والجنة والنار تهلكان، تفنيان.(1/174)
الرد على شبهة الجهمية في قوله كل شيء هالك إلا وجهه
الجواب الذي أجاب به الإمام.
وذلك أن الله أنزل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ قالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأنزل الله أنه يخبر عن أهل السماوات والأرض أنكم تموتون، فقال: كُلِّ شَيْءٍ من الحيوان هالك يعني: ميت إِلَّا وَجْهَهُ إنه حي لا يموت، فأيقنوا عند ذلك بالموت.
هذا جواب عن الآية: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ هذه شبهة للجهمية، قالوا: هذه تدل على فناء الجنة والنار والعرش والكرسي، وكل شيء لا يبقى إلا الله، أجاب الإمام عنها قال: هذه الآية نزلت بعد قوله -تعالى- في سورة الرحمن: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا على الأرض فان وهم الآدميون.
قالت الملائكة: هلك أهل الأرض: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا في الأرض فان ونحن في السماء لسنا في الأرض، طمعوا في البقاء.
فأنزل الله يخبر عن أهل السماوات أيضا أنكم تموتون كما يموت الآدميون، فقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ كل شيء من الحيوان هالك -يعني: ميت- إلا وجهه، إنه حي لا يموت، وهذا لا يشمل العرش، ولا يشمل الكرسي، فعند ذلك أيقنوا بالموت، هذا جواب.
وقيل: معنى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إخبار بفناء الذوات، إخبار بأن الله الدائم الباقي الحي القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، فهو إخبار عن فناء الذوات إلا ذاته -عز وجل-.
وقيل: معنى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إلا ما أريد به وجهه، وقيل: إلا ما ابتغي به وجهه، لا ينافي القول الأول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إخبار بأن الله الدائم الباقي، الذي تموت الخلائق ولا يموت، هل هناك منافاة بين القولين؟
الأول: إخبار عن فناء الذوات إلا ذاته -عز وجل-.
والقول الآخر: يراد به بطلان العمل إلا العمل المراد به وجهه، وهو ما وافق الشريعة، وكان خالصا لوجهه، وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ يعني: الموت، ميت، ولا يراد به عدم ذواتهم؛ فإن الأرواح بعد الموت في نعيم أو عذاب، أرواح المؤمنين في الجنة، ولها صلة بالجسد، وأرواح الكفار في النار، ولها صلة بالجسد.
الروح ما تموت، باقية إما في عذاب أو في نعيم، لكن الموت مفارقة الروح للجسد، والجسم يبلى، ويبقى عجْب الذنب، يخلق الله منه ابن آدم، يعيد الله الذرات التي استحالت، فإذا كمل خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور، فعادت الأرواح إلى أجسادها يوم القيامة، بعد أن ينزل الله مطرًا كمني للرجال، تنبت منه أجساد الناس، وينشئهم الله نشأة قوية.
تبدل الصفات والذرات التي استحالت، يعيدها الله، ويخلق الإنسان من عجب الذنب، وهو العصعص، آخر العمود الفقري، فإذا كمل الجسم، ونبتت أجساد الناس، أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور، وقامت القيامة، وعادت الأرواح إلى أجسادها، تطايرت الأرواح، كل روح تعود إلى جسدها، فإذا الناس وقوف بين يدي الله للحساب.(1/175)
زعم الجهمية أن الله في كل مكان لا يخلو منه مكان
وقلنا للجهمية حينما زعموا أن الله في كل مكان لا يخلو منه مكان.
هذا مناقشة أيضا للجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان، كم ناقشهم من مرة؟ ناقشهم مرات، الأولى قال لهم: هل يغفر الله للمذنبين أو لا؟ إن قلتم: "يغفر الله لهم" تركتم مذهبكم، وإن قلتم: "لا يغفر" كذبتم القرآن.(1/176)
مناقشة الجهمية في قولهم إن الله في كل مكان
فقلنا: أخبرونا عن قوله جل ثناؤه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا لِمَ تجلى إن كان فيه بزعمكم؟ فلو كان فيه -كما تزعمون- لم يكن يتجلى لشيء هو فيه، ولكن الله -جل ثناؤه- على العرش وتجلى، ولم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه قبل ذلك.
هذه مناقشة للجهمية في قولهم: "إن الله في كل مكان"، يقول: كيف تقولون في قول الله -تعالى-: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا تجلى الله للجبل، لِمَ تجلى للجبل إن كان فيه؟
أنتم تقولون: في كل مكان، في الجبل، وفي كل مكان لِمَ تجلى للجبل إن كان فيه بزعمكم؟ فلو كان الله -كما تزعمون- في كل مكان لم يكن ليتجلى لشيء هو فيه؟ ولكن الله جل ثناؤه على العرش، وتجلى ولم يكن فيه، ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه قبل ذلك؛ ولذلك تدكدك، قال الله -تعالى-: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا .
هذه مناقشة للجهمية الجهمية القائلين: في كل مكان، يقولون: في الجبل، يقول: كيف يتجلى للجبل وهو فيه؟ كيف يتجلى لشيء هو فيه؟ هذا لا يمكن، ولكن الله على العرش وتجلى للجبل، ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه؛ ولذلك تدكدك. نعم.(1/177)
مناقشة للجهمية في قولهم الله نور كله
ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه قبل ذلك، وقلنا للجهم الله نور، فقال: هو نور كله.
هذا مناقشة للجهمية في قولهم الله نور كله، وهو في كل مكان نور كله، الله علم كله، وهو في كل مكان، يقولون: لا يوصف بوصفين مختلفين، فلا يقولون: نثبت لله علما، نورا، لا، يقولون: هو كله علم، كله نور، ما يوصف وصفا واحدا فقط، هو نور كله، وهو في كل مكان.(1/178)
الرد على الجهمية في قولهم الله نور كله
وقلنا للجهم الله نور، فقال: هو نور كله، فقلنا: فالله: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا فقد أخبر الله -جل ثناؤه- أن له نورا، فقلنا: أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور، فلِمَ لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذ زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا دخل البيت المظلم يضيء، وعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله.
إذن هذه مناقشة لقولهم: "الله نور وهو في كل مكان" قلنا: إن الله تعالى يقول: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وقد أخبر الله -جل ثناؤه- أنه له نور، فقلنا: أخبرونا حين زعمتم أن الله -تعالى- في كل مكان، وهو نور، فلِمَ لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه، إذ زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا دخل البيت المظلم يضيء في البيت المظلم، والله لا ينير البيت المظلم وهو فيه؟ تعالى الله عمَّا يقولون علوا كبيرا.
فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله؛ لأنهم يقولون: "الله نور وهو في كل مكان"، ولكن الله -سبحانه- فوق العرش، وقد قال -سبحانه-: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا .(1/179)
وجوب اتباع منهج السلف في الأسماء والصفات
فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار وترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته.
والحمد لله رب العالمين -هذا آخره- والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
هذا دعاء للإمام -رحمه الله- للذي يرجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، ويترك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته، ويقول بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار
هذه الرسالة العظيمة -كما سمعتم وكما رأيتم الآن -كلها في الرد على أيش؟ على الجهمية وإذا استعرضنا هذه الرسالة من أولها إلى آخرها نجد أن الإمام -رحمه الله- أولا ابتدأها بالباب الأول، أتى بآيات من القرآن شبَّه بها الجهمية وقالوا: إنها متعارضة، وقالوا: إن القرآن متعارض، يعارض بعضه بعضا، وهو ينقض بعضه بعضا.
فأجاب عن اثنين وعشرين مثالا من الآيات، ثم بعد ذلك ناقش الجهم وقال: إن الجهم لا يثبت وجودا لله، ولكنه يتستر، فهو منافق زنديق؛ لأنه يقول: إن الله شيء لا كالأشياء، والشيء الذي لا كالأشياء بوجه من الوجوه لا وجود له؛ لأنه لا بد أن يثبت نوعا من الشبه، وهو الاشتراك في المعنى وهو أمر ذهني، عند القطع عن الإضافة والتخصيص، مثل لفظ وجود، لفظ علم، لفظ قدرة، لفظ سمع، هذا يشمل وجود الخالق ووجود المخلوق.
فالذي يقول إن الخالق لا يشابه المخلوق لكن تشمله في الذهن، فالذي يقول: "إن الله لا يشبه المخلوقات بوجه من الوجوه" أنكر وجود الله، معناه ما أثبت وجود الله، ولا في الذهن.
ثم بعد ذلك أتى بست شبه للجهمية شبهوا بها على أن القرآن مخلوق، إذن لا يثبتون كلاما لله، ست شبه، وأجاب عنها، ثم أيضا ناقشهم في إنكار الرؤية، رؤية الله -عز وجل- يوم القيامة، وأنكروا الكلام، وأن الله كلم موسى وأنكروا معية الله مع خلقه، وقالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، ممتزج بهم.
إذن ما أثبتوا وجودا لله، وتبين بهذا أن الجهمية يقولون: إن القرآن متعارض، ينقض بعضه بعضا، وينكرون الكلام، يقولون: إن الله لا يتكلم، وينكرون العلم، وينكرون رؤية الله وأن الله لا يرى، ويقولون: إنه مختلط بالمخلوقات وممتزج بها، ثم في النهاية قالوا: إنه شيء لا كالأشياء، فلا يشابه المخلوقات بوجه من وجوه الشبه، وهذا إنكار لوجوده، وهو كفر صريح، نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا قالوا: مختلط بالمخلوقات، لكن غير مباين وغير مماس، هذا معناه القول بنفي النقيضين، فتبين بهذا كفر الجهمية وأنهم زنادقة ملاحدة، لا يصرحون بالكفر، ما يقولون: "ننكر وجود الله" صراحة، لكنهم يتسترون باسم الإسلام. كفر جهم وأتباعه:
الجهم يدعي أنه مسلم، لكن إذا أنكر كلام الله قال: إن الله لا يتكلم، وقال: إن القرآن متناقض، وقال: إن الله لا يُرى يوم القيامة، وليس له علم، وإن الله مختلط بالمخلوقات، وليس مباينا، ولا مماسا لشيء من المخلوقات، ولا يشبه شيئا من المخلوقات بوجه من وجوه الشبه، هذا معناه القول بالعدم.
فالخلاصة أن الجهمية كفار زنادقة، لا يؤمنون بوجود الله، ولأن إنكار الأسماء والصفات كلها يُنتج العدم، كل شيء ينفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له، لو قلت: أنا في منطقة ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، وليست داخل السماوات ولا خارجها، ولا فوق ولا تحت، لا مباينة ولا مماسة ولا محايدة، ولا أثبت لها صفة الوجود ماذا تكون؟
هكذا الجهمية هكذا ينفون عن الله جميع الأسماء والصفات، والذي تنفى عنه الأسماء والصفات لا وجود له، قاعدة: "كل شيء لا اسم له ولا صفة لا وجود له"، والجهمية يقولون: لا اسم له ولا صفة، إذن أنكروا وجود الله، لا علم، ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا شيء، وقالوا: إنه لا يشبه مخلوقا بوجه من وجوه الشبه، وقالوا: إنه مختلط بالمخلوقات، لكن غير مماس لشيء وغير مباين، لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا مباين له، ولا محايز له، ولا متصل به، ولا منفصل عنه ماذا يكون؟ العدم، بل أشد من العدم مستحيل.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يهدي قلوبنا، وأن يوفقنا لسلوك صراطه المستقيم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه، وأن يثبت قلوبنا على طاعته، وأن يتوفنا مسلمين غير مغيرين، ولا مبدلين، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبهذا نكون انتهينا من هذه الرسالة. إذا قلنا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه بعيني قلبه، فكيف تكون الرؤية بعيني القلب؟
يقول العلماء: إن الرؤية بعين القلب زيادة، زيادة في العلم، بعضهم قال: يخلق له عينين في قلبه، لكن ليس هذا بوجيه.
فضيلة الشيخ: كثير من العوام في بعض البلاد الإسلامية، وفي غيرها انتشر بينهم أن الله في كل مكان، وقد تعلموا ذلك من بعض مشايخ الأشاعرة المنتشرين في تلك الأماكن، فهل يعتبر العوام جهمية، ولو قلنا بتكفير الجهمية للزم تكفير غالب المسلمين اليوم، فما الجواب؟
الأشعرية ما يقولون بهذا، هذا يقول به الجهمية الأشعرية يثبتون سبع صفات، هذا معروف، لكن متأخرو الأشاعرة صاروا جهمية، مثل الرازي وأشباهه، الرازي أشعري، لكنه انتقل إلى مذهب الجهمية وصار يقول بقول النفاة لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، لكن تاب في آخر عمره، ترحم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب وصية وتاب في آخر عمره.
لكن معروف عن الأشاعرة ما يقولون: إن الله في كل مكان، هذا يقوله الحلولية إلا من تمذهب بمذهب الجهمية من الأشاعرة فصار ينتسب للأشعرية وهو يقول بقول الجهمية ومن يقول بهذا؟ قلنا: قول الجهمية كفر على وجه العموم، أما الشخص المعين بعينه لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، والعوام كذلك إذا لم يعلموا، لا يكفر العوام إلا من قامت عليه الحجة، من عرف. الواحد بعينه لا بد أن تقوم عليه الحجة.
لكن على العموم يقال: كل من قال: إن الله في كل مكان فهو كافر، الجهمية كفار على العموم، أما فلان بن فلان الذي يقول بكذا لا نقول فلان بن فلان حتى تقوم عليه الحجة، وتزول عنه الشبهة.
ما مدى ثبوت نسبة فناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ؟
ليس بصحيح هذا باطل، شيخ الإسلام -رحمه الله- صريح في مؤلفاته أنه لا يقول بفناء النار، وهنا الآن رسالة دكتوراه أشرف عليها وقد طبعت وستناقش -إن شاء الله قريبًا- في كلية أصول الدين في جامعة الإمام، أثبت فيها الباحث أن شيخ الإسلام لا يقول بهذا، أثبت بالأدلة والنقول من كلامه بأنه يقول بأن الجنة والنار دائمتان لا تفنيان، أما ابن القيم ففي كتاب "حادي الأرواح" ذكر بعض الآثار وبعض الأدلة للقائلين بفناء النار، لكنه ليس صريحًا أيضًا في أنه يقول بفناء النار، لكن ذكر بعض الأدلة لمن يقول بفناء النار.
فالصواب أنهما لا يقولان، لا يقولان بفناء النار.
ما معنى قول الجهمية إن الله لا يوصف بوصفين؟
يعني: ما يقولان علم وقدرة في شيء واحد، يقولون هو علم كله، قدرة كله، ما يقولون كما يقول أهل السنة متصف بالصفات المتعددة.
سمعت أن أهل الجنة تتغير صفاتهم وهيئاتهم عما كانت عليه في الدنيا حتى وجوههم، فهل هذا صحيح؟
نعم، وجوههم كالقمر ليلة البدر، الذين يمرون على الصراط أولا يمرون كالبرق، كالقمر ليلة البدر، ثم كالريح، جاء في الحديث: أن أول زمرة تمر كالقمر ليلة البدر وجاء في الحديث الصحيح في البخاري أن طول أهل الجنة ستون ذراعًا في السماء وجاء في العرض حديث رواه الترمذي لكن فيه ضعف: العرض سبعة أذرع .
وأنهم جردٌ مردٌ مكحلون من أجمل الناس، في قوة الشباب، أبناء ثلاث وثلاثين، وجمالهم جمال عظيم، لا شك أنهم يتغيرون، ليسوا على حالهم، والرجل الدميم في الدنيا من أهل الجنة، ما يكون دميما، يكون من أجمل الناس، والقصير كذلك لا يكون قصيرا، كما جاء في الحديث، قصة الرجل الذي قتل، وكان دميم الخلقة وقال لما قتل، واستشهد قال: إن الله طيب ريحه .
المقصود أن دميم الخلقة يجعله الله من أحسن الناس خلقة يوم القيامة، إذا كان من أهل الجنة، وكذلك القصير، ما في قصير وطويل، كلهم طولهم ستون ذراعًا في السماء، أبناء ثلاث وثلاثين، في غاية الجمال، والطول واحد، والأسنان كذلك ما في شيخوخة، ولا مرض، ولا هرم، ولا نوم، ولا موت، ولا بصاق، ولا بول، ولا غائط، ولا شيء، جميع آفات الدنيا منتفية، صحة دائمة، وشباب دائم، وجمال دائم، ونعيم دائم.
نسأل الله الكريم من فضله.
فضيلة الشيخ: في قوله -سبحانه-: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ما معنى استثناء الله -سبحانه- في قوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ؟
اختلف العلماء في هذا، منهم من قال: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إلا مدة بقائهم في البرزخ، وقيل إن هذا استثناء الرب، ولا يفعله، العلماء لهم كلام في هذا، لكن ليس معناه أن النار تفنى. بل اتفق العلماء على أن النار باقية مستمرة كما قال أهل السنة والجماعة وأما "إلا ما شاء ربك" قيل: إلا مدة بقائهم في البرزخ، وقيل إن هذا استثناء الرب، ولا يفعله، للعلماء أقوال ذكرت في شرح الطحاوية.
فضيلة الشيخ: أحسن الله إليكم، هل نحكم على الكافر، أو من أقيمت عليه الحجة أنه مخلد في النار؟
نعم، إذا أقيمت الحجة عليه، شخص يعبد الصنم بأن يذبح لغير الله، وقيل: إن هذا حرام وشرك فقال: إنه راض بالشرك، وعارف أنه شرك، ويريد الشرك، ومات على ذلك قامت عليه الحجة، نحكم عليه بأنه كافر، وأنه في النار مخلد في النار، خلاص ما له شبهة يعبد الصنم أمامك، ويقول: إنه يريد أن يعبد الصنم، ويريده، ويرى أنه لا بد أن يعبده، ولو عرف أنه على الباطل. هذا قامت عليه الحجة ما في إشكال وكافر، و كل من حكم عليه بالكفر يحكم عليه بالنار.
فضيلة الشيخ: هل يجوز القول بأن لفظي بالقرآن مخلوق؟
لا يجوز، كما قال الإمام أحمد هذا من البدع، يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع بل القرآن كلام الله.
فضيلة الشيخ: هل أرواح الموتى تجتمع بعضها ببعض أم لا، وهل الميت يعرف من يزوره؟ وهل الموتى يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم؟
الله أعلم، هذا يحتاج إلى دليل، ولا أعرف دليلا في هذا، ابن القيم ذكر في كتابه "الروح" أشياء من هذا، أن الأرواح تتلاقى، أما كونه يعلم، فالأصل لا يعلم قال -تعالى-: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ الأصل أن الموتى لا يعلمون عن أحوال الأحياء شيئا، أما كونهم يتزاورون، فالله أعلم.
ما حكم الدخول في المعاهد التي يدرس فيها مذهب الأشاعرة ثم ما الحكم لو طلب في الامتحان؟
ما ينبغي للإنسان أن يدرس مذهب أهل البدع الإنسان يجب أن يدرس معتقد أهل السنة والجماعة كيف يدرس المعتقدات الباطلة! لا يجوز للإنسان الدخول فيها.
ويقول: لو طلب مني في الامتحان تأويل بعض الصفات، ولو كتبت عقيدة أهل السنة جعلوه خطأ.
لا تدخل من الأساس، دخولك منكر.
نحن مجموعة من النساء الحاضرات بهذه الدورة المباركة، والسؤال: هل يجوز لنا الذهاب مكان حفل الزواج إذا كان به أحد المنكرات الآتية، أولا: دخول إخوان العريس معه إلى النساء، وتشييع العروسين.
نص العلماء على أن الدعوة للزواج، إذا كان فيه منكر فهذا عذر له، إما أن ينكر المنكر، ويزول، فإن لم يزل المنكر، فإنه ينصرف. إذا كان يعلم أن فيه منكرا، ولا يستطيع الإنكار لا يأتي، وإذا وجد منكرا فإنه ينكر، فإن زال المنكر، وإلا خرج، إذا كان يعلم أن فيه منكرا لا يأتي، إذا كان فيه تصوير أو عري، أو اختلاط رجال بنساء، أو أصوات مغنين ومغنيات هذا عذر، لا يجيب الدعوة لا الرجل ولا المرأة إلا إذا كان يأتي وينكر المنكر، ويزول.
بعض الناس دائما على لسانه كلمة "بالأمانة" ويقول: إني لا أقصد بالباء حرف القسم، فهل هذا من الشرك الأصغر؟
نعم. من الشرك الأصغر، لا يجوز يجب عليه أن يعود نفسه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: من حلف بالأمانة فليس منا ويقول: لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ويقول: من حلف بغير الله فقد أشرك بالأمانة هذه شرك سواء قصد أو ما قصد، هو شرك لا يجوز، يجب عليه أن يعود نفسه على الحلف بالله، حتى ما ينبغي أن يكثر من الحلف، جاء في الحديث: من حلف باللات، فليقل: لا إله إلا الله هذه تكفر هذه، إذا حلف بالأمانة ناسيًا فليقل: لا إله إلا الله؛ لأن الحلف بالأمانة شرك، ولا إله إلا الله، والتوحيد يكفر الشرك، ويتوب إلى الله، عز وجل.
فضيلة الشيخ: هل عوام الرافضة كفار؟
فيه خلاف بين أهل العلم، من العلماء من قال: تبع لهم، ومنهم من قال: إنهم مبتدعة، وكما سبق من قامت عليه الحجة، لا بد من قيام الحجة.
فضيلة الشيخ: قلتم في المعنى الثاني للآية: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إخبار عن فناء الذوات إلا ذات الله -عز وجل-، وقلتم: إن الروح لا تموت بل هي باقية، آمل توضيح هذه النقطة، أحسن الله إليكم.
نعم، لأن هذه كتب الله لها البقاء، الروح من الأشياء التي كتب الله لها البقاء، مثل الجنة والنار، ولهذا يقولون:
ثمانية حكم البقاء يعمها
من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي نار وجنة
وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
هذه كتب الله لها البقاء، العجب عجب الذنب ما يفنى، الروح لا تفنى، اللوح المحفوظ والقلم والجنة والنار والعرش والكرسي، هذه كتب الله لها البقاء، مستثناة.
ما حكم الشهود لشخص بأنه من أولياء الله؟
ما يجوز أن تشهد على الأحياء إلا بدليل؛ لأن الإنسان لا يعرف، لا يعلم البواطن، لكن يرجى للمطيع، ويخاف على العاصي، إذا رأينا شخصا يظهر الخير، نرجو أنه ولي لله، لكن نشهد بعينه، ما نعلم السرائر لا نشهد؛ لأن الشهادة بأنه ولي الله شهادة له بالجنة، ولا يشهد لواحد بعينه بالجنة.
أهل السنة لا يشهدون لواحد بعينه بالجنة، إلا من شهدت له النصوص، مثل العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، لكن نرجو للمستقيم، للعلماء، وأهل الخير والصلحاء، ومن يظهر الصلاح نرجو له، لكن ما نشهد بأنه من أهل الجنة؛ الله أعلم بحاله، لكن نرجو له الخير، والعاصي الذي يخوض المعاصي والمنكرات ما نشهد عليه بأنه من أهل النار، لكن نخشى عليه ونخاف، هذا معنى قول العلماء لا يشهد لواحد بالجنة وإنما نرجو للمحسن ونخاف على المسيء.
بينتم في صفة أهل الجنة: أنهم جردٌ مردٌ، من أجمل الرجال: جردٌ مردٌ مكحلون كما في الحديث، يلبسون أسورة في أيديهم، وأرجلهم يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ فكيف تكون اللحية من جمال الرجال؟
في الدنيا، في الآخرة تتغير الأحوال هي من جمال الرجل في الدنيا، لكن في الآخرة ليس لهم لحى، الآخرة دار نعيم لا عمل ولا شيء، والخمر حرام في الدنيا وحلال لأهل الجنة، لكنها خمر طيبة لذيذة لا تزيل العقل، والحرير حرام على الرجال في الدنيا، وفي الآخرة يلبسون الحرير، تختلف الأحوال في الآخرة.
هل نسبة كتاب "الروح" لابن القيم نسبة صحيحة، وما حجة من أبطلوا النسبة؟
هذا يحتاج إلى تحقيق، إذا جاء شخص، وحقق كتاب "الروح" وهو مشهور أنه له، لكن التحقيق الباحث يحقق هذه النسبة، ويذكر الأدلة ونصوص العلماء التي تدل على أنه له.
هل كل هذه الشبه عن الجهم عن يقين ودين، أم أنه يريد فقط الإضلال، وإغواء الناس؟
كما قال الإمام أحمد ظاهره أنه زنديق، والزنادقة منافقون عن علم، يريدون أن يُضلوا الناس؛ ولهذا قال الإمام، فأضل بذلك بشرا كثيرا.(1/180)