|
المؤلف : الشيخ عبدالعزيز الراجحي
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوحيد
التوحيد مصدر وحَّد يوحِّد توحيدا، وهو إفراد الله بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ولا يشابهه أحد في أسمائه ولا صفاته، وهو سبحانه واحد في ذاته لا تشبه ذاته ذوات المخلوقين، وهو واحد في ربوبيته وأفعاله وأسمائه وصفاته، وهو سبحانه واحد في ألوهيته، فهو المستحق للعبادة.
والمؤلف -رحمه الله- ركز في كتاب التوحيد على توحيد الأسماء والصفات؛ لأن نفاة الصفات في عهده كثير.
(1/1)
باب: ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله
حديث: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب "
(1)… باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله
7371- حدثنا أبو عاصم حدثنا زكريا بن إسحاق عن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذا إلى اليمن .
7372- وحدثني عبد الله بن أبي الأسود حدثنا الفضل بن أبي العلاء حدثنا إسماعيل بن أمية عن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفي أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عباس يقول: لمَّا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا إلى نحو أهل اليمن قال له: " إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فلَيكن أوَّل ما تدعوهم إلى أن يُوحِّدوا الله -تعالى- فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلُّوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من غنيهم، فترد على فقيرهم، فإذا أقرُّوا بذلك، فخُذ منهم وتوقَّ كرائم أموال الناس .
الشرح:
قوله: (بعث معاذا ) فيه مشروعية بعث الإمام من يُعلِّم الناس، ويدعو إلى الله -عز وجل - قوله: (نحو أهل اليمن ) أي: إلى جِهة اليمن وهي تُقيِّد الرواية الأولى. وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بالتَّدرج في الدعوة إلى الله -تعالى-، وأن الداعي عليه أن يعرف حال المدعوين وأن الداعية عليه أن يبدأ بالتوحيد لأن جميع الأعمال لا تقبل إلا بالتوحيد. قوله: (أن يوحدوا الله).
في رواية (إلى شهادة لا إله إلا الله) وفي رواية (إلى عبادة الله) فالرواة رووا هذه الجملة بالمعنى.
والمقصود معنى هذه الكلمة لا مجرد لفظها، وشهادة أن محمد رسول الله تدخل ضِمنًا في شهادة لا إله إلا الله، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يعترف بِرسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مؤمنا؛ ولذلك قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية. مع أنهم يعلمون بأن الله واحد، لكن لما لم يؤمنوا بالرسول نفى عنهم الإسلام والإيمان. قوله: (وتَوقَّ كرائم أموالهم) أي: خذ وسط أموالهم، فأمره ألا يأخذ الخيار ولا الرديء بل الوسط؛ لأنه إذا أخذ كرائم وأنفس أموالهم، فهذا ظلم لهم؛ ولذلك قال: (واتق دعوة المظلوم) ودعوة المظلوم يستجيبها الله -تعالى- ولو كانت من كافر؛ ولذلك جاء أن الله -تعالى- يقول: (لأنصرنك ولو بعد حين).
ولم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصيام والحج، والجواب عن ذلك: أن يقال أما الحج؛ فلأنه لم يفرض بعد، وأما الصوم فيحتمل أنه لم يفرض، ويحتمل أنه يدخل ضمنا؛ وذلك أنه إذا أقر بالشهادتين والصلاة والزكاة، فإنه يعتبر مقرًّا بجميع أمور الإسلام.
(1/2)
حديث: "أتدري ما حق الله على العباد؟"
7373- حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي حصين والأشعث بن سُليم سمعا الأسود بن هلال عن معاذ بن جبل قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم .
الشرح:
قوله: (ما حق الله على العباد) حق الله التوحيد والعبادة والطاعة وأن يُوَجِّهُوا جميع إراداتهم إلى الله عز وجل. قوله: (أتدري ما حقهم عليه) حق العباد ألا يُعَذِّبَهم إذا التزموا بالتوحيد، وحق الله -تعالى- حق إلزام ووجوب، وحق العباد حق تفضل منه وإكرام، لم يوجبوه على الله -تعالى- بل هو الذي أوجبه على نفسه.
كما قيل:
ما للعباد عليه حق واجب
كلا ولا سعْيٌ لديه ضائع
إن عُذبوا فبعدله أو نُعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
(1/3)
حديث: " إنها لتعدل ثلث القرآن "
7374- حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه-: أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر له ذلك، فكأن الرجل يَتَقَالُّهَا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن زاد إسماعيل بن جعفر عن مالك عن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي سعيد أخبرني أخي قتادة بن النعمان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
قوله: (تعدل ثلث القرآن) أي: تعدل ثلث القرآن في الفضل والأجر، وليس معناه أنه يكون بذلك قارئا للقرآن كاملا؛ ولذا لو قرأها في الصلاة ولم يقرأ الفاتحة لم تصح صلاته، ووجه كونها تعدل ثلث القرآن، هو أن القرآن على ثلاثة أقسام:
1- توحيد الله بأنواعه الثلاثة (توحيد الله في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته).
2- القصص والأخبار الماضية والمستقبلة.
3- الأوامر والنواهي، وسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تخلَّصت للنوع الأول، ولذا جاء أنها صفة الرحمن. قوله: (أحد) أي: أنه توحَّد -سبحانه- في ذاته وفي أسمائه وصفاته. وقوله: (الصمد) هو القائم بنفسه، والقائم به غيره الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها. قوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فهو -سبحانه- لم يتفرَّع من شيء، ولم يتفرَّع منه شيء.
(1/4)
حديث: "لأنها صفة الرحمن"
7375- حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو عن ابن أبي هلال أن أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن حدثه عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن -وكانت في حجر عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلا على سريَّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ "قل هو الله أحد" فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبروه أن الله يحبه .
الشرح:
قوله: (صفة الرحمن) فيه إقرار من النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الرجل، أنها صفة الرحمن وفيه أن من أحبها مخلصا في ذلك أحبَّه الله -تعالى-، وجاء في رواية (أنه يقرأ سورة قبلها، ثم يقرأ سورة الإخلاص) وجاء في رواية (حبُّه إياها أدخله الجنة).
(1/5)
باب قول الله: "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ"
حديث: "لا يرحم الله من لا يرحم"
(2) باب قول الله تبارك وتعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
7376- حدثنا محمد بن سلام أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب وأبي ظبيان عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يرحم الله من لا يرحم الناس .
الشرح:
قوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ فيه إثبات اسمين من أسماء الله -تبارك وتعالى- وهما (الله والرحمن) قوله: (الله) هو أعرف المعارف، وأصل (الله) الإله: من أله يأله ألوهة، فهو مألوه واسم (الله) واسم (الرحمن) لا يصح لأحد من الناس أن يتسمَّى بهما. ولما سمى مُسَيْلِمَةُ نفسه بالرحمن، لازمه اسم الكذاب.
وأسماء الله -تبارك وتعالى- مُتَضَمِّنة الصفات، فهي مشتقة ليست جامدة (فالله) متضمن للألوهية (والرحمن) متضمِّن لصفة الرحمة. وسبب نزول هذه الآية معروف في كتب التفسير قوله: (لا يرحم الله) متضمِّن لصفة الرحمة لله، تبارك وتعالى.
فائدة:
أسماء الله تعالى على قسمين
أ- أسماء خاصة به -سبحانه- مثل (الله - الرحمن - ذو الجلال والإكرام - المدبِّر - خالق الخلق...).
ب- أسماء تطلق على الله -تعالى- وعلى غيره مثل (الرحيم - العزيز - الحي...).
وفي هذا الحديث إثبات صفة الرحمة، والرحمة خاصة به -سبحانه-، أما الرحيم، فليس خاصًّا به.
(1/6)
حديث: "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"
7377- حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رسول إحدى بناته يدعوه إلى ابنها في الموت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب، فأعادت الرسول أنها قد أقسمت ليأتينها، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل فدفع الصبي إليه ونفسه تقعقع كأنها شن، ففاضت عيناه، فقال له سعد يا رسول الله ما هذا؟ قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء .
الشرح:
قوله: (فلتصبر) فيه حسن خلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمره لها بالصبر، قوله: (تقعقع) هو حركة خروج الروح، قوله: (وإنما يرحم الله من عباده) هذا هو الشاهد من الحديث، وهو إثبات الرحمة لله -تعالى- رحمة تليق به -سبحانه وتعالى-، والإنسان يوصف بأن له رحمة، لكنها رحمة تليق به لا كرحمة الخالق، تبارك وتعالى.
(1/7)
باب قول الله: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ"
حديث: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله"
3- باب قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
6830- حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم، ويرزقهم .
الشرح:
هذه الترجمة، فيها إثبات اسمين من أسماء الله -تعالى- وهما (الرزاق - والمتين) قوله: (الرزاق) أي: هو الرزاق الذي منه الرزق، قوله: (المتين) معناه القوي، وهو مشتمل على وصف القوة، قوله: (ما أحد أصبر..) (ما) حجازية من أخوات كان ترفع الاسم، وتنصب الخبر، أما (ما) التميمية فلا تعمل. قوله: (يرزقهم) فيه إثبات صفة الرزق، أما صفة القوة، فدل عليها قوله: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله..) وهذا فيه إثبات صفة القوة له -سبحانه- بخلاف المخلوق، فإنه لا يصبر على من أساء إليه.
وهذا الأذى لا يضر الله -تعالى-، فلا يلزم من الأذى الضرر، فهو أذى، ولا يلزم منه الضرر، أما تأويل الشارح أن هذا أذى يؤذي الصالحين، فهذا تأويل غير صحيح مخالف للقرآن والسنة؛ لأنه توهم أن فيه تنقُّصًا من الله -تعالى- ولا يلزم ذلك، يدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية. فلا يلزم من ذلك إيصال الضرر لله ورسوله.
فائدة:
الاسم مشتمل على الصفة، أما الصفة فلا يشتق منها اسم، فالله -تعالى- يوصف بأنه يمكر بمن يستحق المكر، وليس من أسماء الله الماكر.
فائدة:
يجوز قول (لا أحد) على الله كقول بعضهم (لا أحد أعلم من الله...) ففي الحديث (لا أحد أحب إليه العذر من الله) وكذلك يُخبر عن الله -تعالى- بأنه (شيء) قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً كذلك يُخبر عن الله -تعالى- أنه شخص، ففي الحديث (لا شخص أغير من الله..) وكل ذلك من باب الإخبار عن الله تعالى.
(1/8)
باب قول الله: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا"
4-…باب قول الله -تعالى-: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا و إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ و أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ قال يحيى الظاهر على كل شيء علما، والباطن على كل شيء علما .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات صفة العلم، وأنها من الصفات الذاتية. وفيه بيان عموم وشمول علم الله وأن الله يعلم بواطن الأمور وظواهرها. وعلم الله يشمل ثلاثة أمور:
1- يعلم الماضي، وهو علم ما كان.
2- يعلم المستقبل، وهو علم ما يكون.
3- يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون. كقوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وقوله لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا
وقوله: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى يشمل علمه لكل أنثى من بني آدم والحيوانات والطيور.
وقوله: ( الظاهر على كل شيء علما...): أي أن علمه يشمل الظاهر والباطن.
(1/9)
حديث: "مفاتيح الغيب خمس"
7379- حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني عبد الله بن دينار عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله. لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله .
الشرح:
قوله ( ما تغيض الأرحام): أي: إذا بلغ أربعة أشهر يأتي ملك، فينفخ فيه الروح. وبذلك يعلم الملك، ويعلم الناس جنس الجنين، أما قبل أن يخلق لا يعلم عنه أحد إلا الله تعالى.
والله عليم بعلم، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: عليم بلا علم، فيثبتون الأسماء مجردة بلا معان، وشبهتهم خوف التشبيه والتجسيم.
قوله: (ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله): وقد جُعِل لها أشراط قبلها.
(1/10)
حديث: "ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب"
7380- حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من حدثك أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه، فقد كذب، وهو يقول: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ومن حدثك أنه يعلم الغيب، فقد كذب، وهو يقول: لا يعلم الغيب إلا الله .
الشرح:
قوله: (من حدّثك أن محمد -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه، فقد كذب...) هذا هو المعتمد عند المحققين من أهل العلم، أنه لم ير ربه في المعراج بعيني رأسه، وهو الصحيح. والقول الثاني: أنه رأى ربه بعيني رأسه، وهو رواية عن أحمد وقول أبي الحسن الأشعري وبعض الصحابة.
والصحيح الأول؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل هل رأيت ربك قال: نور أنى أراه قد استتر -سبحانه- بالحجب، وفي صحيح مسلم: إن الله لا ينام.. حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه والرسول -صلى الله عليه وسلم- من خَلْقِه ومَنْ خَصَّه، فلا بد له من دليل. ولأن الرؤية أعظم النعيم، ولا تكون إلا في الجنة، قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ نفي الإدراك، هو نفي الإحاطة، فهو لم ينف الرؤية، والرؤية أخص، فنفي الأعم لا يشمل نفي الأخص، فهو -سبحانه- تراه الأبصار ولا تدركه، ولا تحيط به رؤية، فأنت ترى السماء والجبل والبستان ولا تحيط به.
قوله: (ومن حدثك أنه يعلم الغيب، فقد كذب..): هذا الشاهد، فمن ادعى علم الغيب، فهو كاذب كافر.
(1/11)
باب قول الله: "السلام المؤمن"
حديث: "إن الله هو السلام"
5- باب قول الله -تعالى- (السلام المؤمن)
7381- حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا مغيرة حدثنا شقيق بن سلمة قال: قال عبد الله كنا نصلي خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول السلام على الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
الشرح:
قوله: (السلام المؤمن): فيه إثبات أن السلام والمؤمن من أسماء الله وفي بعض الترجمات (المهيمن).
قوله: (السلام) أي: السالم بنفسه من العيب، والمُسَلِّم لغيره. قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله هو السلام ومنه السلام). قوله (المؤمن): أي: المُصدِّق لنفسه ولرسله بالمعجزات، التي تؤيد رسله. قوله: (المهيمن) قيل: معناه الأمين الذي لا ينقص أحدًا في ثوابه، ولا يزيد أحدًا في عقابه، فهو الرقيب على عباده. قوله: (أيها النبي): هذا للاستحضار، وليس دعاء للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
(1/12)
باب قول الله: "مَلِكِ النَّاسِ"
حديث: "يقبض الله الأرض يوم القيامة"
6-…باب قول الله تعالى مَلِكِ النَّاسِ فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
6834 حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد هو ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ وقال شعيب والزّبيدي وابن مسافر وإسحاق بن يحيى عن الزهري عن أبي سلمة .
الشرح:
قوله: مَلِكِ النَّاسِ فيه إثبات هذا الاسم، وأن من أسمائه الملك، والآية فيها قراءتان (مَلِك - مالك). فهو -سبحانه- مالكهم، والمتصرف فيهم ومدبر شؤونهم في الدنيا والآخرة. فهو -سبحانه- يدبر شؤونهم في الدنيا بحكمه القدري، الذي لا يستطيع أحد أن ينفك عنه، ويدبرهم بحكمه الشرعي. وهو المَلِك في اليوم الآخر، الذي يحاسبهم بنفسه. وهذا الاسم ثبات في الكتاب والسنة، كما في الآية وحديث الباب.
قوله: (يقبض الله... ويطوي السماء) يقبض، ويطوي فيهما إثبات صفة القبض والطي، وأنهما من الصفات الفعلية.
قوله: (بيمينه) فيه إثبات اليمين لله -تعالى- أي: اليد اليمنى، جاء في صحيح مسلم إثبات أن لله يدًا شمال. وأما قوله في الحديث: (وكلتا يديه يمين) والمعنى أن كلتا يديه يمين في الشرف والفضل، وعدم النقص والعيب. وهذا هو الصواب خلافًا لمن طعن في رواية مسلم
قوله: (ثم يقول أنا الملك..) فيه إثبات صفة الكلام لله تعالى وفيه الرد على من قال: إن كلام الله مخلوق؛ لأن الله -تعالى- يقول ذلك بعد موت الخلائق، وهذا من أقوى الرد على من يقول: إن كلام الله مخلوق.
فائدة:
قال العيني قوله (بيمينه) هذا من المتشابهات، وقال: إما أن تفوض أو تؤول بالقدرة. والصواب أنها لا تفوض، ولا تؤول به، هي صفة حقيقية، وهي من المعلومات.
(1/13)
باب قول الله: "وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
حديث: "يبقى رجل بين الجنة والنار"
7 - باب قول الله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ ومن حلف بعزة الله وصفاته. وقال أنس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: تقول جهنم: قط قط، وعزتك وقال أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: يبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولا الجنة، فيقول: يا رب اصرف وجهي عن النار، لا -وعزتك- لا أسألك غيرها قال أبو سعيد إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال: الله -عز وجل- لك ذلك، وعشرة أمثاله وقال أيوب وعزتك، لا غنى لي عن بركتك .
الشرح:
قوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه إثبات اسم العزيز والحكيم، وإثبات صفة العزة والحكمة. وأراد المؤلف الرد على المعتزلة الذين يقولون: عزيز بلا عزة، حكيم بلا حكمة.
وفي الحديث: جواز الحلف بالعزيز والحكيم ومما يدل على ذلك قوله -تعالى-: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقول جهنم: وعزتك وقول آخر من يخرج من جهنم: لا وعزتك ،وقول أيوب -عليه السلام- لما خَرَّ عليه جراد من ذهب قال: وعزتك لا غنى لي عن بركتك .
وكذلك تجوز الاستعاذة بعزة الله. قال -صلى الله عليه وسلم-: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر .
قوله: (رب العزة): العزة من الصفات الذاتية الملازمة للرب وهي راجعة لربوبيته تعالى.
قوله (تقول جهنم قط قط ) هذا إذا وضع الله -تعالى- فيها قدمه. ومعنى (قط) أي: حسبي، وكافيني.
قوله: (وعشرة أمثاله) أي: له مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، وهو مع ذلك مؤمن من الموت، والمرض والهرم والهم والحزن والنوم والمخاط والبول والغائط.
(1/14)
حديث: "أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت"
7383 - حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا حسين المعلم حدثني عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أنت الذي لا يموت والجن والإنس يموتون .
الشرح:
قوله: (أعوذ بعزتك) هذا الشاهد، وهو الاستعاذة بعزة الله، وهي صفة من صفاته.
(1/15)
حديث: "وتقول: هل من مزيد"
7384 - حدثنا ابن أبي الأسود حدثنا حرمي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يلقى في النار وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس وعن معتمر سمعت أبي، عن قتادة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد، حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد بعزتك وكرمك، ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقا، فيسكنهم فضل الجنة .
الشرح:
قوله: (قدمه): فيه إثبات القدم لله تعالى. وفي رواية: حتى يضع فيها رجله فيه إثبات القدم والرجل لله تعالى وهذا على ظاهره. والله تعالى لا يضره شيء، ولا يضر أحد من خلقه. وأهل الكلام أَوَّلُوا، فقالوا: يضع طائفة من الناس يقال لهم: الرجل؛ لأن العرب تقول ذلك في كلامها. فسبحان الله عما يقولون علوا كبيرا، كيف يتورعون من شيء، لم يتورع عنه الرسول، صلى الله عليه وسلم؟
قوله: (بعزتك وكرمك): هذا الشاهد من الحديث.
فائدة:
العَيْنِيُّ أَوَّلَ القدم، بأن القدم بأن يضع المتقدم من خلقه، أو خلق يقال لهم ذلك، أو أن المراد الزجر والتسكين تقول: فلان جعلته تحت قدمي.
وكل هذا من التأويل الباطل. وهذا يوجب الحذر من الوقوع فيما وقع فيه هؤلاء العلماء الكبار، الذين وقعوا في التأويل الباطل؛ لأنهم لم يوفقوا إلى علماء يدلونهم إلى السنة، ومعتقد أهل السنة
(1/16)
باب قول الله: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ"
حديث: "الله لك الحمد أنت رب السماوات والأرض"
8 - باب قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
7385 - حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن ابن جريج عن سليمان عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو من الليل: الله لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله لي غيرك حدثنا ثابت بن محمد حدثنا سفيان بهذا وقال: أنت الحق وقولك الحق .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات الكلام لله -تعالى- وأنه بحرف وصوت بلفظ ومعنى، مأخوذ من قوله -تعالى-: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: بقول الحق، فالله -تعالى- يخلق بالقول، كما قال -تعالى-: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ والله -تعالى- فرق بين الخلق والأمر، فقال -سبحانه-: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وفي الحديث إثبات أن الحق اسم من أسماء الله تعالى أما اسم المتكلم، فلا ينسب إلى الله تعالى، لأن الذي يتكلم، قد يتكلم بالمذموم والمحمود.
وهذا الحديث من الاستفتاحات العظيمة في قيام الليل، وفيه التوسل بالقيوم ونور السماوات والأرض... إلخ. وفي الحديث إثبات الربوبية لله تعالى، وفيه إثبات اسمه القيّوم والقيّم.
(1/17)
باب: "وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا"
حديث: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات"
9- باب وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا
قال الأعمش عن تميم عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فأنزل الله -تعالى- على النبي -صلى الله عليه وسلم- قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات السمع والبصر لله -تعالى- خلافا للمعتزلة الذين يقولون: إنه يسمع بلا سمع ويبصر بلا بصر، والآية فيها إثبات اسمي السميع والبصير، وإثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى، فهو -سبحانه- يسمع بسمع، ويبصر ببصر، وليست أسماء الله جامدة بل مشتقة متضمنة لصفات ومعاني، أما المعتزلة فيثبتون الأسماء ولا يثبتون الصفات، يقولون سميع ولا يثبتون صفة السمع، بصير ولا يثبتون صفة البصر.
وهذا التعليق الذي علقه المؤلف عن عائشة -رضي الله عنها - (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات) هذا جاء في قصة المجادلة خولة بنت ثعلبة لما جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وجادلته في زوجها أوس بن الصامت لما ظاهر منها، وقالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- أشكو إلى الله صبية، إن ضممتهم إلي جاعوا، أو إليه ضاعوا وجعلت تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي يقول لها: ما أراك إلا قد حرمت عليه وهي تقول: أشكو إلى الله، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية، فسمع شكواها من فوق سبع سماوات، حتى قالت عائشة -رضي الله عنها-: ( …الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إن المجادلة تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها، وقد سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات).
(1/18)
حديث: "اربعوا على أنفسكم"
7386 - حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي عثمان عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فكنا إذا علونا كَبَّرْنا، فقال: اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائبًا؛ تدعون سميعًا بصيرًا قديرًا، ثم أتى عليّ وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال لي: يا عبد الله بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها كنز من كنوز الجنة، أو قال ألا أدلك به .
الشرح:
هذا الحديث حديث أبي موسى -رضي الله عنه- فيه أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يكبرون، إذا علوا شرفَا أي: مرتفعَا، وذلك في الأسفار كما هي السنة، وإذا هبطوا سبحوا. وهذا هو السنة للمسافر، إذا علا شرفا، كبر الله؛ لأنه أكبر من كل شيء، وإذا هبط سبح الله تنزيها له -سبحانه- عن السفول والنقائص والعيوب، وكان الصحابة يرفعون أصواتهم حتى إنهم يصرخون بها صراخا، فيشق ذلك عليهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، تدعون سميعًا بصيرًا قديرًا) وفي رواية: (أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته).
فهذا الحديث يفيد إثبات صفتي السمع والبصر لله -تعالى-، وإثبات قربه -سبحانه- من العابد والداعي، فهو -سبحانه- قريب من داعيه بالإجابة، ومن عابديه بالإثابة؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا) فهذا دليل على أن الله -تعالى- يسمع بسمع، وليس هو أصمُّ لا يسمع، بل هو -سبحانه- يسمع بسمع، وليس هو -سبحانه- بعيدًا، لا يرى، ولا يعلم، بل هو قريب يعلم أعمال عباده، ويراهم، ويشاهدهم من فوق عرشه، سبحانه وتعالى، ويبصر أعمالهم لا تخفى عليه خافية.
فدل الحديث -كما ذكرنا- على إثبات القرب للرب تعالى، وإثبات المعية له -سبحانه- معية خاصة لعباده المطيعين والعابدين، فهو معهم بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه، وهو مع عباده عمومًا بسمعه وبصره وقدرته ومشيئته وإحاطته. قوله: (ثم أتى عليّ، وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله) يدل على أن أبا موسى كان يقولها في نفسه، فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له ما في نفسه، فهذا فيه عَلَمٌ من أعلام النبوة، حيث قال له: يا أبا موسى (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله).
قوله: (فإنها كنز من كنوز الجنة) فيه دلالة على فضل هذه الكلمة، وأنها كنز من كنوز الجنة، أي: أن ثوابها كنز من كنوز الجنة، وما ذاك إلا لما فيها من التجرد من الحول والقوة إلا بالله عز وجل.
ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) أي: لا تحول لي من حال إلى حال، ولا قوة لي يا الله على ذلك إلا بك؛ ولهذا شرع في إجابة المؤذن أن يقول المجيب حينما يقول المؤذن: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) أن يقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وما ذاك إلا لأن المؤذن يقول: حي على الصلاة، أي: أقبل على الصلاة، حي على الفلاح، أي: أقدم على الفلاح، فأنت تجيبه وتقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) أي: لا حول ولا قوة لي على إجابة المؤذن والإتيان للصلاة إلا بالله، فدل على فضل هذه الكلمة، واستحباب الإكثار منها لا سيما عند الشدائد؛ وذلك لأنها تهون المصائب والشدائد، بإذن الله تعالى.
(1/19)
حديث: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي"
7387-7388- حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب أخبرني عمرو عن يزيد عن أبي الخير سمع عبد الله بن عمرو أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرة إنك أنت الغفور الرحيم .
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات اسمين من أسماء الله -عز وجل- وهما الغفور والرحيم وفيه فضل هذا الدعاء لما فيه من التوسلات العظيمة بالله -عز وجل-:
فأولا: فيه توسل بالتقصير وظلم النفس.
وثانيا: التوسل بأن هذا الظلم للنفس ظلمًا كثيرًا.
ثالثًا: التوسل باسمين من أسماء الله، وهما الغفور والرحيم.
رابعًا: التوسل بقوله: فاغفر لي مغفرة من عندك.
خامسًا: التوسل بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله عز وجل.
قوله: (ظلمًا كثيرًا) في رواية (ظلمًا كبيرًا) قوله: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) هذا من خصائص الله -تبارك وتعالى- قال سبحانه: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ فلا يقدر أحد على مغفرة الذنوب إلا الله -سبحانه- سواء كان نبيًّا، أو ملكًا، أو إنسيًّا أو جنيًّا، ومن هذا يتبين بطلان ما يقع فيه بعض الطوائف من الشرك بالله -تعالى- حينما يسألون غيره المغفرة، كالنصارى حينما يتوب أحدهم يذهب إلى القسيس؛ ليغفر له ذنبه، ويعطيه صك الغفران، وكالرافضة الشيعة الذين يتوبون إلى مشايخهم، من دون الله تعالى.
وقد جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله: (أنه أُتي بأسير للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب لمحمد فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عرف الحق لأهله) فالله -تعالى- هو أهل التقوى وأهل المغفرة، فدل على أنه لا يقدر أحد على مغفرة الذنوب، ولا تفريج الكروب وإزالة العيوب إلا الله تعالى.
وهنا فائدة عظيمة: وهي أنه إذا كان هذا الدعاء يُعَلَّم للصديق -رضي الله عنه- وهو أفضل الأمة وأفضل الناس بعد الأنبياء، ويعلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا) فكيف بغيره، لا شك أنه من باب أولى لحاجة المرء إلى هذا الدعاء العظيم.
قوله: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي) جاء في لفظ آخر (أدعو به في صلاتي وفي بيتي) فدل على مشروعية هذا الدعاء، في البيت، وفي الصلاة، في السجود، وفي آخر التشهد، وبين السجدتين.
بقي معرفة مناسبة هذا الحديث للترجمة، الترجمة فيها (وكان الله سميعًا بصيرًا) فهل في الحديث إثبات السمع والبصر؟ الجواب أن الداعي معترف أن الله يسمع ويبصر، فهو -سبحانه وتعالى- يسمع أقوالهم، ويبصر أعمالهم.
(1/20)
حديث: "إن الله قد سمع قول قومك"
7389 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني عروة أن عائشة -رضي الله عنها- حدثته قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن جبريل -عليه السلام- ناداني قال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك .
الشرح:
هذا كان في مكة لما اشتد عليه أذى قريش وردوا عليه ردًّا سيئا، وفي بعض الروايات أنه جاءه جبريل وقال: إن هذا ملك الجبال، وإن الله أرسله إليك لتأمره، فقال: إن الله أرسلني إليك لتأمرني، فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا... أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.
والشاهد قوله: (إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك) ففيه إثبات السمع لله -تعالى- وأنه -سبحانه- يسمع بسمع، لا كما تقوله المبتدعة كالمعتزلة الذين يقولون: يسمع بلا سمع، ويبصر بلا بصر، ولا شك أن قولهم هذا باطل، لأنهم بهذا يجعلون الأسماء جامدة بلا معاني، فيقال لهم: إن السميع غير معنى العليم، فالله -تعالى- ليس أصمَّ ولا غائبا، بل هو -سبحانه- يسمع بسمع، وهو -سبحانه- حاضر ليس بغائب، يعلم أحوال عباده، ويبصرها، ويدبر أمور خلقه من فوق عرشه -سبحانه وتعالى- كما قال -صلى الله عليه وسلم- (إنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميعًا بصيرًا قريبًا).
فائدة:
في شرح العَيْنِيِّ (قال البيهقي السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير من له بصر يدرك به المرئيات، قيل كيف يتصور السمع له، وهو عبارة عن وصول الهواء المتموج إلى العصب المفروش إلى مفارق الصماخ...)
قلت: هذا بالنسبة للمخلوق، والله -تعالى- ليس كمثله شيء، فلا يشبهه المخلوق لا في ذاته، ولا في أسمائه ولا في صفاته، سبحانه وتعالى.
(1/21)
باب قول الله: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ"
حديث: "الله إني أستخيرك بعلمك"
10 - باب قول الله تعالى قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
7390 - حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا معن بن عيسى حدثني عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله السلمي قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: الله إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم، ولا أعلم، وأنت علام الغيوب الله، فإن كنت تعلم -ثم تسميه بعينه- خيرًا لي في عاجل أمري وآجله، قال: أو في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال في عاجل أمري وآجله، فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات اسم القادر -سبحانه وتعالى- قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ وأنه يقدر بقدرة -سبحانه وتعالى-، خلافًا للمعتزلة القائلين أنه يقدر بلا قدرة، ففيه إثبات اسم القادر، وإثبات صفة القدرة، قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ الآيات من سورة الأنعام. ثم ساق المؤلف -رحمه الله- حديث الاستخارة، وفيه إثبات صفة العلم والقدرة لله عز وجل: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك).
وفي الحديث مشروعية الاستخارة وأنها مستحبة، والاستخارة تكون في الأمور المشكلة، التي لا يتبين وجه المصلحة فيها، كأن يستخير في الدخول مع فلان في التجارة، أو الزواج من فلانة، أو السفر إلى كذا، أو السفر إلى الحج في هذا العام إذا كان الطريق مخوفًا، فهذا يشرع فيه الاستخارة.
أما الأمور الواضحة التي لا إشكال فيها، فليس فيها استخارة. فلا يستخير الإنسان في العبادات ككونه يصوم، أو يصلي، أو يزكي، أو يحج، أو بأن يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات، هذا ليس فيه استخارة، إنما الاستخارة تكون في الأمور المشكلة، التي لم يتبين وجه المصلحة فيها.
وإذا استخار، وانشرح صدره لشيء من ذلك، يمضي لما انشرح له صدره، فإن لم ينشرح صدره، فإنه يكرر الاستخارة ويستشير أيضا. وكانوا في الجاهلية يستقسمون بالأزلام، فعوضهم الله -تعالى- في الإسلام بالاستخارة والاستشارة، وكانوا في الجاهلية، إذا أراد أحدهم سفرًا أو زواجًا، أو تجارة استقسم بالأزلام، فيأتون بالأزلام، وهي ثلاث قداح مكتوب على واحد منها افعل، والثاني لا تفعل، والثالث غفل... ثم يجيلونها، فإن خرج افعل مضى، وإن خرج لا تفعل أحجم، وإن خرج الثالث أجالها حتى يخرج واحد من الاثنين: افعل، أو لا تفعل، فأبطل الإسلام الاستقسام بالأزلام، وعوضهم الله عنها بالاستخارة والاستشارة، ومن ذلك قصة سراقة قبل أن يسلم لما لحق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر في سفر الهجرة، أجال الأقداح هل يفعل أو لا يفعل، أي: هل يلحق بهما أم لا؟ فخرج الذي يكره، فلم يطعه، ثم أجالها مرة أخرى، فلم يطعه...
ومن ذلك قصة عبد المطلب جد النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نذر أن يذبح العاشر من ولده، وكان العاشر عبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم لما أراد أن يوفي بنذره، فداه بعشر من الإبل، وصار يستقسم حتى تقع على الإبل، أو على الولد وفي كل مرة تقع على الولد، حتى بلغت مائة، ثم وقعت على الإبل، فذبح مائة، فكانت فداء للولد، فأقرّ الإسلام الدِّيَة، وهي مائة من الإبل.
وفيه دليل على أن الاستخارة إنما تكون بعد الركعتين، يصلي ركعتين ثم يدعو بهذا الدعاء؛ لأنه قال في الحديث: (إذا هم أحدكم...... فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل.....). و (ثم) للترتيب والتراخي، فدل على أن الدعاء يكون بعد صلاة الركعتين، فيصلي ركعتين، ثم بعد الانتهاء منها يقول هذا الدعاء.
قوله: (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر...) يفيد أن المشروع له تسمية هذا الأمر بعينه، كأن يقول هذا الزواج أو هذا السفر... إلخ.
وهذا الدعاء فيه توسل إلى الله بصفتي العلم والقدرة، وفيه الالتجاء إلى الله واستخارته -عز وجل-، وفيه توسل إلى الله باسميه الغفور والرحيم، والشاهد من الترجمة قوله: (تقدر ولا أقدر). يدل على أنه -سبحانه وتعالى- يقدر بقدرة.
فائدة:
طلب العلم لا يحتاج إلى استخارة.
(1/22)
باب مقلب القلوب
حديث: "أكثر ما كان النبي يحلف: لا ومقلب القلوب "
11 - باب مقلب القلوب، وقول الله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
7391- حدثني سعيد بن سليمان عن ابن المبارك عن موسى بن عقبة عن سالم عن عبد الله قال: أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: لا ومقلب القلوب .
الشرح:
هذا فيه إثبات صفة من صفات الله -سبحانه وتعالى- بأنه مقلب القلوب وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا كثيرًا ما يدعو بقوله: ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) كما صح عنه ذلك من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما كان يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فتقول عائشة يا رسول الله، كثيرًا ما تدعو بهذا الدعاء، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فيقول: وما يؤمنني، يا عائشة وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه) يدل على ذلك قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ولعل هذه الرواية ليست على شرط المؤلف، فلم يذكرها هنا.
وتقليب القلوب تغييرها من حال إلى حال، فهو -سبحانه- يغيرها من حال إلى حال، ويصرفها من رأي إلى رأي، وفيه دليل على مشروعية الحلف بمقلب القلوب؛ لأنها صفة من صفاته، فالحلف يكون بالله وأسمائه وصفاته، وتقليب القلوب فعل من أفعاله، ووصف له سبحانه وتعالى.
أما قول المعتزلة في معنى تقليب القلوب، أن التقليب معناه الطبع،والطبع معناه الترك، فهذا باطل؛ لأن الله -تعالى- لا يترك عباده وحالهم ليفعلوا ما يريدون.
والمعتزلة لا يرون أن الله -تعالى- له نِعمة دينية على المؤمن خصَّه بها من دون الكافر، فأعانه، فلا يرون الإعانة من الله للمؤمن، ولا يرون أن الله خذل الكافر، بل يقولون: المؤمن والكافر على حدٍّ سواء، فالله -تعالى- لم يوفق المؤمن، ولم يخذل الكافر، لكن المؤمن اختار الإيمان بنفسه، والكافر اختار الكفر بنفسه، ومثَّلوا الله -تعالى- في هذا كمثل رجل له ابنان، أعطاهما سيفين، وقال لهما: جاهدا في سبيل الله، فأحدهما جاهد في سبيل الله، والآخر قطع به رقاب المسلمين فالأب ليس له تأثير عليهما، فكذلك الله ليس له تأثير لا على المؤمن ولا على الكافر، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
فقولهم هذا من أبطل الباطل، فقد رد الله -تعالى- على أمثال هؤلاء بقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً الآية.
فالمؤمن خصَّه الله بنعمة دينية أعانه عليها، دون الكافر، والكافر خذله الله، فالمؤمن حبب الله إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، عكس الكافر نسأله -سبحانه- أن يحبب إلينا الإيمان، وأن يزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين.
والمقصود أن تقليب القلوب صفة من صفات الله -تعالى-، وفِعل من أفعاله؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم به، ويدل على ذلك قوله -تعالى- وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ .
فائدة:
قال ابن حجر رحمه الله: (وفيه حجة لمن أجاز تسمية الله -تعالى- بما ثبت في الخبر، ولو لم يتواتر جواز اشتقاق الاسم له -تعالى- من الفعل الثابت).
قلت: ثبوت الخبر لا يشترط فيه التواتر، والمهم هو صحة الحديث، أما قوله: جواز اشتقاق الاسم له تعالى من الفعل الثابت، فغير صحيح؛ لأن الأسماء توقيفية لا تشتق، لكن الأسماء متضمنة للصفات، فالرحمن متضمن لصفة الرحمة والقادر متضمن لصفة القدرة، أما اشتقاق الأسماء من الصفات، فغير صحيح، فلا يصح أن يشتق من صفة الكلام المتكلم، وذلك لما ذكرنا أن الأسماء توقيفية.
(1/23)
باب: "إن لله مائة اسم إلا واحدًا"
حديث: "إن لله تسعة وتسعين اسما"
12 - باب إن لله مائة اسم إلا واحدًا
قال ابن عباس ذو الجلال: العظمة، البر: اللطيف.
7392 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة .
الشرح:
هذا فيه إثبات أن لله -تعالى- أسماء حسنى ثابتة في الكتاب والسنة والأسماء والصفات توقيفية، ليست مخترعة يخترعها الناس من عند أنفسهم، بل ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته الحسنى أثبتناه، وما لم يأت لا نثبته، فلا يصح أن نخترع من عند أنفسنا أسماء وصفات له سبحانه وتعالى.
وفي هذا الحديث إثبات أن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة.
وأسماء الله ليست محصورة بهذا العدد، وليس المراد من الحديث الحصر، بل أسماء الله كثيرة منها ما يعلمه العباد، ومنها ما لا يعلمونه، يدل على ذلك الحديث المشهور أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك... الحديث. فهناك أسماء استأثر الله بعلم الغيب عِنده، فدل على أن أسماء الله ليست محصورة بهذا العدد، لكن معنى الحديث (أن لله تسعة وتسعين اسما) موصوفة بهذا الوصف، وهو أن من أحصاها دخل الجنة.
واختلف العلماء في معنى قوله: (من أحصاها) فقيل: المعنى عَدُّها، وقيل: المعنى حفظها، وقيل: المعنى العمل بها، وقيل: التوسل إلى الله بها، وسؤال الله بها، والاستعاذة منها، ولعل جميع هذه المعاني مرادة. وهذه الأسماء لم تُحدَّد ولم تُعيَّن، والحكمة -والله أعلم- ليجتهد العباد، ويجتهد طالب العلم في البحث عنها، وتتبعها من الكتاب والسنة، كما أن الله -تعالى- أخفى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان؛ حتى يجتهد العباد في جميع العشر، وكما أخفى الله ساعة الجمعة؛ حتى يجتهد العباد في تحصيل ساعة العصر.
أما تعداد هذه الأسماء في بعض الأحاديث، فالصواب أنه مدرج، كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في البلوغ، فتعداد التسعة والتعين اسمًا مدرجًا، ليس من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ، والمقصود أن هذا الحديث: يفيد أن لله تسعة وتسعين اسمًا، موصوفة، كما ذكرنا أن من أحصاها دخل الجنة.
فائدة:
مسألة الاسم هل هو المسمى، أو غير المسمى المسالة فيها تفصيل، فإن أريد أن هناك أسماء مستقلَّة، فغير صحيح، أما إن أريد أن الله تعالى مسمى بهذا الاسم، وأن هذه الأسماء دالة على ذاته -سبحانه- فهذا هو المراد وهو الصحيح. والمقصود أنه لا يقال: إن الاسم هو المسمى، ولا يقال: إن الاسم غير المسمى، بل لا بد من التفصيل، كما ذكرنا.
(1/24)
باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة منها
حديث: "إذا جاء أحدكم فراشه فلْيَنفضه"
13 - باب السؤال بأسماء الله -تعالى- والاستعاذة منها
7393 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا جاء أحدكم فراشه، فلْيَنفضه بِصَنِفَة ثوبه ثلاث مرات، وليقل: باسمك رب وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فاغفر لها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين تابعه يحيى وبشر بن المفضل عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وزاد زهير وأبو ضمرة وإسماعيل بن زكريا عن عبيد الله عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، تابعه محمد بن عبد الرحمن والدراوردي وأسامة بن حفص .
الشرح:
هذا الباب، عقده المؤلف -رحمه الله- للسؤال بأسماء الله -تعالى- والاستعاذة بها، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فهذه الآية مناسبة لهذا الباب، وكان من المناسب، أن يأتي بها المؤلف -رحمه الله- للاستدلال بها في هذا الموضع. وأسماء الله الحسنى التي أخبر بها في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- يُدعى بها -سبحانه وتعالى- ويُتَعبَّد لله بالدعاء بها، فيقال: يا غفور اغفر لي، يا رحمن ارحمني، يا تواب تب علي.
وكذلك يُستَعاذ بأسماء الله -تعالى- وصفاته، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح، وهو دعاء عظيم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو به في سجوده، وعلمه الحسن بن علي -رضي الله عنه- في قنوت الوتر، وهو قوله: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك... الحديث.
فاستعاذ بصفة الرضى من صفة السخط، وبصفة المعافاة، من صفة العقوبة، واستعاذ بالله من الله في قوله (وبك منك).
فهذا دعاء عظيم، تضمن معاني عظيمة من معاني الربوبية والالتجاء إلى الله -تعالى-، وتفويض الأمر إليه، وبيان أنه المتصرف في خلقه كيف شاء، وقد سبق -أيضًا- ذكر الاستعاذة بصفات الله في موضع آخر، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- أعوذ بعزة الله وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر وقد سرد المؤلف أمثلة في هذا، كقصة الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا الجنة، إلى أن قال: لا وعزتك .
وأخبر الله -تعالى- عن إبليس أنه قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وفي قصة أيوب -عليه السلام- لما خر عليه جراد من ذهب... قال: لا وعزتك، لا غنى لي عن بركتك أو كما جاء في الحديث. فهذا استعاذة، وسؤال، وقسم بأسماء الله وصفاته.
وفي هذا الحديث الذي ساقه المؤلف -رحمه الله- مشروعية هذا الدعاء عن النوم، وأنه يشرع أن يأخذ بصنفة ثوبه، أو فراشه، وينفضه ثلاثًا، وصنفة إزاره وثوبه، أي: طرف الثوب، أو حاشية الثوب، وجاء في حديث آخر بيان الحكمة في هذا النفض أنه قال: فإنه لا يدري ما خلفه عليه فهذا يدل على استحباب نفضه لطرف الفراش، وأن يقول هذا الدعاء إذا أراد النوم، وهو قوله: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فاغفر لها وفي رواية أخرى: إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين وجاء في الحديث الآخر أنه يجعل يده تحت خده، ويقول هذا الدعاء .
قوله: إن أمسكت نفسي : المراد بالنفس الروح. والمعنى أنك إذا قبضتها، فاغفر لها، وارحمها. قوله: (وإن أرسلتها) المعنى أنك إن لم تقبضها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، والمراد احفظني يا الله إن أحييتني وأبقيتني، وإن أمتني، فاغفر لي وارحمني، كما قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ومعنى قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي: الأرواح في الأجساد، وقوله: حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا يسمى النوم ميتة صغرى، فالله -تعالى- يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت يتوفاها في منامها، ثم يرسلها. قوله: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ المعنى أنه يمسكها عنده، فمن الناس من يموت، إذا نام الموتة الصغرى، ثم الكبرى، تكون بعدها.
والروح لها تعلقات بالجسد:
فلها تعلق، وهو جنين في بطن أمه، ولها تعلق بالجسد عند النوم، ولها تعلق به في اليقظة، ولها تعلق به في القبر، ولها تعلق به يوم الحساب، وهذه التعلقات تختلف، فكل تعلق له صفات خاصة.
والشاهد قوله: (باسمك ربي)، فهذا استعانة وسؤال بالله وتبرك باسمه، بأن يغفر الله له إن توفَّاه، وأن يحفظه إن أحياه.
فائدة:
الأغلب أن هذا الدعاء يقال في نوم الليل، ولا يمنع أن يقال في نوم النهار، وهذا أمر، والأصل في الأوامر أنها للوجوب، لكن إذا كان من باب الآداب، فجمهور العلماء يرونه للاستحباب، وهو هنا للاستحباب.
فائدة:
ذكر العَيْنِيُّ عن ابن بطال: (أن الاسم هو المسمى؛ ولذلك صحت الاستعاذة بالاسم، كما تصح في الذات) قال: أي: العَيْنِيّ (كون الاسم هو المسمى، لا يتمشى إلا في الله تعالى).
وكل هذا ليس فيه تحقيق، والمسألة فيها تفصيل:
فالاسم -لا شك- أنه يدل على المسمى، فإن أريد أن هناك أسماء وصفات منفصلة عن الذات، فهذا ليس بصحيح، وإن أريد أن الله -تعالى- بأسمائه وصفاته وذاته هو الرب، وهو الخالق، وأن هذه الأسماء والصفات دالة عليه، فهذا صحيح، فالاسم لا يقال: إنه خارج عن الذات، ولا يقال: إنه من الذات، بل لا بد من التفصيل، أما قول: إن الاسم زائد عن الذات، أو غير زائد عن الذات، فكل هذا من كلام المتكلمين؛ لأن عندهم شبهًا كثيرة، فيزعمون أنه إذا قيل: إن الاسم زائد عن الذات، أو أن لله أسماء وصفات صار فيه تعدد، والخالق واحد لا يتعدد، وهذا كله من بحوث أهل الكلام، وكلها بحوث باطلة.
(1/25)
حديث: "اللهم باسمك أحيا وأموت"
7394 - حدثنا مسلم حدثنا شعبة عن عبد الملك عن ربعي عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم باسمك أحيا وأموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور .
الشرح:
يدل الحديث على مشروعية هذا الدعاء، عند النوم وعند اليقظة فيقول عند النوم ( باسمك اللهم أحيا وأموت ) وإن استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحياني، بعدما أماتني، وإليه النشور) فهذا أمر مستحب، ويفيد الحديث أن اليقظة بعد النوم حياة جديدة، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى والشاهد قوله: (باسمك اللهم) فهذا فيه استعانة بالله وتبرك باسمه، وسؤال به سبحانه.
وقد ورد دعاء آخر يقال عند النوم، وهو قوله: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه..) …الحديث. والمشروع الجمع بينهما، فيعمل بكلا الحديثين.
(1/26)
حديث: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا"
7395 - حدثنا سعد بن حفص حدثنا شيبان عن منصور عن ربعي بن حراش عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسمك اللهم نموت ونحيا، فإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور .
الشرح:
قوله: (إذا أخذ مضجعه) أي: إذا أراد النوم، والشاهد قوله: (باسمك نموت ونحيا) يفيد التبرك باسم الله تعالى.
(1/27)
حديث: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله"
7396 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن منصور عن سالم عن كريب عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك، لم يضره شيطان أبدًا .
الشرح:
هذا الحديث فيه مشروعية التسمية عند الجماع قوله: (يأتي أهله) أي: يجامع زوجته.
والفائدة من هذا الدعاء بينها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (فإنه إن يقدر بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبدًا) فينبغي للإنسان ألا يغفل عن التسمية في هذا الموضع، وأن يحسن ظنه بالله، وأن يرجو هذه الفائدة العظيمة، وهي إن يقدر بينهما ولد لم يضره شيطان أبدًا. فإذا قالها الإنسان ممتثلا لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محسنًا الظن بالله، فإنه يرجى له حصول هذه الفائدة العظيمة.
والشاهد من الترجمة الاستعانة بالله، والتبرك باسمه -سبحانه وتعالى-، وفيه دليل على أن هذا الدعاء مستحب؛ لأنه قال: ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: بسم الله...) ولم يقل (سموا) بصيغة الأمر؛ لأنه ولو كان أمرًا، لكان أصله الوجوب.
قوله: (لم يضره شيء) على عمومه، والمعنى لا يضره شيء في دينه، ولا دنياه، فالأصل أنه لا يضره الضرر الديني، أما الضرر الدنيوي، فهو تبع.
(1/28)
حديث: "إذا أرسلت كلابك المعلمة"
7397 - حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا فضيل عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- قلت: أرسل كلابي المعلمة؟ قال: إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله، فأمسكن، فَكُلْ، وإذا رميت بالمِعْرَاض، فخزق فكل .
الشرح:
هذا الحديث يفيد مشروعية التسمية عند إرسال الكلب المعلم للصيد وأن التسمية تحل الصيد، أما إذا لم يسمِّ، فلا يحل الصيد. ولا يحل صيد الكلب، أو الجارح إلا بشروط:
1- أن يكون الجارح معلمًا، وهو الذي إذا أرسله استرسل، وإذا زجره، انزجر، وإذا صاد لم يأكل من الصيد، أما إن كان الكلب غير معلم، فلا يحل الصيد به.
2- أن يسمِّ الله عند إرسال الكلب، أو الجارح.
3- ألا يأكل الكلب، أو الجارح من الصيد، فإن أكل من الصيد، فلا يحل للصائد، لما جاء في الحديث فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك لنفسه .
4- ألا يشارك الكلب في الإرسال كلابًا أخرى غير معلمة، فإن اختلطت مع كلاب أخرى غير معلمة، فلا يأكل؛ لأنه لا يدري ما الذي صاد، هل هو كلبه أو الكلاب الأخرى؟ فإن وجدت هذه الشروط صح، وحل الصيد.
وأما الرمي فقال: (وإذا رميت بالمِعْرَاض، فخزق فكل) أي: إذا ضربه بحدّ السهم، أو الرمح وخزق، أي: خرق الصيد، ودخل فيه، فإنه يأكل، أما إذا لم يخزق، ومات ضربًا، فإنه وقيذ، فلا يؤكل.
فدل على أنه لا بد في السهم، الذي يرمي به في الصيد، أن يخرق الصيد بأن يكون محددًا، كرأس السكين، أو الرصاصة التي تدخل، وتخرق الصيد، أما ضرب الصيد بعرض العصا، أو الحجر، أو ما يسمى بالنباطة، التي يعملها الأطفال، فهذا وقيذ؛ لأنه يقتل الصيد بثقله لا بحده.
والشاهد من الحديث قوله: (إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله) فهذا استعانة باسم الله.
(1/29)
حديث: "إن هاهنا أقوامًا حديث عهدهم بشرك"
7398 - حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو خالد الأحمر قال: سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قالوا: يا رسول الله، إن هاهنا أقوامًا حديث عهدهم بشرك، يأتونا بلحمان، لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا، قال اذكروا أنتم اسم الله وكلوا تابعه محمد بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن محمد وأسامة بن حفص
الشرح:
هذا الحديث فيه دليل على أنه لا ينبغي التشكك، وأنه إذا كان الإنسان مسلمًا، فالأصل فيه أنه يذكر اسم الله تعالى، وكذلك طعام أهل الكتاب اليهود والنصارى إذا جاءوا بلحم، فإنك تأكل إلا إذا علمت يقينًا أنهم لم يذكروا اسم الله، أو ذكروا اسم المسيح عند الذبح، فإنها لا تحل الذبيحة، أما إذا جهلت، فالأصل الحل؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ) أي: سموا عليه عند الأكل، ففيه دليل على أن الإنسان إذا أتي بلحم ذبحه مسلم، أو كتابي، فإنه لا يتشكك، بل يسمي الله عند الأكل، ويكفيه هذا، إلا إذا قيل له: إن فلانًا لم يسمِّ على الذبيحة، أو أنه ذبح باسم المسيح، أو خنق المذكى خنقًا، فلا يأكل، أما إذا لم يعلم، فالأصل الحل قال تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ والمراد بالطعام الذبائح. لكن الآن وفي هذا الوقت، لما صارت كثير من المجازر في الخارج يقال: إنهم يذبحون بالصعق الكهربائي، ولا يذبحون ذبحًا شرعيًّا، فهنا ينبغي أن يتورع الإنسان عنه، ويكتفي بما يذبح في بلاد المسلمين.
(1/30)
حديث: "ضحى النبي بكبشين"
7399 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا هشام عن قتادة عن أنس قال: ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين، يسمي ويكبر .
الشرح:
هذا الحديث فيه مشروعية الأضحية وأنها سنة مؤكدة، وهي من شعائر الإسلام العظيمة؛ ولهذا ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين وسمى وكبر.
والشاهد قوله: (وسمى وكبر) فيدل على مشروعية التسمية مع التكبير. فالتسمية واجبة، والتكبير مستحب، وهذا شاهد الترجمة، وهو الاستعانة والسؤال به -سبحانه- والتبرك باسمه تعالى، والتسمية واجبة لا بد منها في الذبح والصيد، فإذا تركها عمدًا لم تصح الذبيحة على الصحيح؛ لقوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ أما إذا تركها سهوا، ففيه خلاف، والأرجح أن الذبيحة تحل، إذا ترك التسمية سهوًا ونسيانًا.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- ضحى بكبشين أملحين، وفي رواية أنه قال في أحدهما: عن محمد وآل محمد، وفي الآخر قال: عمن لم يضحِّ من أمة محمد وهذا يدلُّ على مشروعية الأضحية عن الأموات خلافًا لمن أنكر ذلك؛ لأن في أمة محمد يدخل الحي والميت.
(1/31)
حديث: "من ذبح قبل أن يصلي"
7400 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الأسود بن قيس عن جندب أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، صلى، ثم خطب فقال: من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح، فليذبح باسم الله .
الشرح:
هذا الحديث فيه دليل على أن الأضحية لا تصح إلا بعد صلاة العيد فمن ذبح قبل صلاة العيد، فلا تجزئه؛ ولهذا لما ذبح أبو بردة بن نيار شاة، وقال: يا رسول الله، إني عجلت، وإن ناسًا من جيراني يشتهون اللحم، فقال: إن شاتك شاة لحم، لا تجزئك، فقال: يا رسول الله إن عندي عَناقًا هي أحبُّ لي من شاتين، فقال -صلى الله عليه وسلم- تجزيك، ولا تجزئ، عن أحد بعدك والعناق من المعز ما له ستة أشهر، وهذا على الصحيح خاص بأبي بردة حيث قال له: (تجزيك، ولا تجزئ عن أحد بعدك) لأنه من شروط إجزاء الماعز في الأضحية، أن يتم لها سنة.
والشاهد قوله: (فليذبح باسم الله) أي: متبركا باسم الله، تبارك وتعالى.
(1/32)
حديث: "لا تحلفوا بآبائكم"
7401 - حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفًا، فليحلف بالله .
الشرح:
الحديث يفيد تحريم الحلف بالآباء ؛ لأنه من الشرك وجاء في الحديث الآخر: من حلف بغير الله، فقد كفر، أو أشرك فلا يجوز للإنسان أن يحلف إلا بالله، أو أسمائه وصفاته.
والشاهد من الترجمة قوله: (فليحلف بالله) فالحلف بالله، فيه استعانة بالله -تبارك وتعالى- والحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، سواء حلف بالآباء، أو غير الآباء، كأن يحلف بالكعبة أو الأمانة، أو الشرف، أو بالحياة، وغير ذلك، فكل هذا من الشرك الأصغر، الذي لا يجوز، وقد جاء في الحديث قوله: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بالأنداد، فمن كان حالفًا، فليحلف بالله، أو ليصمت .
فائدة:
ما جاء في الحديث الصحيح، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: أفلح، وأبيه إن صدق أجيب عنه بأجوبة منها:
1 - قيل: إن ذلك مما يجرى على اللسان، ولا يقصد معناه.
2- وقيل: إن هذا كان قبل النهي عن الحلف بغير الله، وهذا الجواب أحسن من الذي قبله، وهو الصواب؛ لأن هذا قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر؛ لأنهم كانوا -أولا- يحلفون بآبائهم، فنهاهم عن ذلك؛ ولهذا لما أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة وسمع عمر يحلف بأبيه نهاه عن ذلك، وقال له: (لا تحلفوا بآبائكم).
(1/33)
باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله
حديث: "بعث رسول الله عشرة منهم خُبيب"
14 - باب ما يذكر في الذات والنعوت وأسامي الله عز وجل
وقال خبيب وذلك في ذات الإله، فذكر الذات باسمه تعالى.
7402 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي حليف لبني زهرة -وكان من أصحاب أبي هريرة - أن أبا هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة منهم خُبيب الأنصاري فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث أخبرته، أنهم حين اجتمعوا استعار منها مُوسى، يستحدُّ بها، فلما خرجوا من الحرم؛ ليقتلوه قال خُبيب الأنصاري
ولست أبالي حين أُقتلُ مسلمًا
على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شِلو ممزع فقتله ابن الحارث فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه خبرهم يوم أصيبوا .
الشرح:
هذه القصة اختصرها المؤلف -رحمه الله-، وفي موضع آخر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل عشرة، عينًا للمسلمين، وأَمَّرَ عليهم عاصم، فلحقهم المشركون فتحصنوا في جبل، فقالوا لهم: انزلوا، وأعطوهم الأمان، ثم غدروا بهم، فقتلوا عاصمًا وقتلوا جماعة، وقالوا: للبقية انزلوا ونعطيكم الأمان، فلما نزلوا -وكانوا ثلاثة- أسروا واحدًا، فأبى أن يذهب معهم، فعالجوه وجروه، وقال: لي أسوة بهؤلاء فقتلوه، وأخذوا خُبيبًا ومن معه، وذهبوا بهم إلى مكة وسلموه لبني الحارث ؛ لأنه قتل قتيلا لهم يوم بدر فأخذوا خُبيبا وجلس عندهم، ثم أخذ مُوسى عندهم من ابنة الحارث؛ ليستحد بها .
والاستحداد هو حلق العانة، وهذا يدل على قوة إيمان خُبَيْب -رضي الله عنه-، ففي هذا الوقت العصيب، وهو يعلم أنه سيقتل لم يترك سنة الاستحداد، وفي القصة أنهم رأوا معه قِطفًا من العنب، وهو موثق بالحديد، وهو يأكل منه، وليس بمكة عنب، فهذا من الكرامات، ومع ذلك رأوا هذه الآية، ولكن لا تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعلمون، حتى قالت المرأة التي هو أسير في بيتها: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خُبَيْب إنه ليأكل قِطفًا من العنب، وما مكة عنب. ولما أرادوا قتله خرجوا به عن الحرم فهم يعظمون البيت وهم كفار. ولما أرادوا قتله قال: …دعوني أصلي ركعتين، قالوا: صلِّ ما بدا لك، فصلى ركعتين، وأوجز فيهما، وقال: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لأطلتهما أو كما قال. ثم قال هذه الأبيات... ثم قتلوه.
والشاهد قوله: (في ذات الإله): فيه إثبات الذات لله -عز وجل-، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغه ذلك، وأقره على ذلك، ففيه أن لله ذاتًا لا تشبه الذوات، ذات مقدسة متصفة بالصفات، فله -سبحانه- الأسماء الحسنى والصفات العلى. فذاته لا تشبه الذوات، وأسماؤه لا تشبه الأسماء، وصفاته لا تشبه الصفات. فدل على جواز الإخبار عن الله أن له ذاتًا، بل كل موجود له ذات، والذي ليس له ذات لا يكون له وجود إلا في الذهن، بل حتى الجمادات لها ذات. ومن الأدلة على جواز الإخبار عن الله أن له ذاتا، ما جاء في قصة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: أنه كذب ثلاث كذبات قال: اثنتين منها في ذات الله.
وفيه مشروعية صلاة ركعتين لمن أريد قتله، لأن خُبَيبا قال: دعوني أصلي ركعتين.
وبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليه، ولهذا قيل: إن خُبيبا هو أول من سن الصلاة عند القتل، ولو كان هذا غير مشروع لأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لئلا يقتدى به. فلما سكت النبي -صلى الله عليه وسلم- دل على مشروعية صلاة الركعتين عند القتل، وقول خُبيب (وذلك في ذات الإله): أي: أن قتله من أجل الله فلا يبالي.
وقوله: في الترجمة (والنعوت وأسامي الله عز وجل)، المقصود بالنعوت أي: الصفات، فالله -تعالى- يوصف بالصفات، لكننا نصفه بالصفات التي جاءت في الكتاب والسنة، فلا نصفه بصفات نخترعها من عند أنفسنا، بل بالصفات التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيوصف الله -تعالى- بالعزة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحكمة... إلى غير ذلك من الصفات الواردة في الكتاب والسنة.
والأسامي كذلك: جمع اسم. فلله الأسماء الحسنى، فالله تعالى: هو (الله) أعرف المعارف، وهو (الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور... فكل هذه من أسمائه -سبحانه وتعالى-، فالله -تعالى- له أسامٍ، وله نعوت، وله ذات مقدسة -سبحانه وتعالى- لا تشبه الذوات، وأسماؤه حسنى لا تشبه الأسماء، وصفاته عليا لا تشبه الصفات.
فائدة:
تعليق على كلام الشارح -رحمه الله- في قوله: (والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث، والتفويض إلى الله في جميعها...) إلخ.
قلت: هذا غلط واضح. فالمتكلمون لهم طريقتان:
أ - طريقة التأويل.
ب - طريقة التفويض.
فمثلا: قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ فأهل التفويض، يقولون: لا ندري ما معنى اليد كأنها كلمة أعجمية. نفوضها إلى الله. وأهل التأويل يقولون: اليد معناها القدرة أو النعمة.
وهاتان الطريقتان كلتاهما غلط. وبعضهم ينسب التفويض إلى أهل السنة وهذا كذلك غلط. بل أهل السنة يثبتون اليد لله -تعالى- ويعلمون أنها يد حقيقية. وأن له يدين -سبحانه وتعالى- لكن لا نكيف، فنقول: إن يديه مثل يدي المخلوقين، فالذي لا نعلمه الكيفية أما المعنى فمعروف. كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة). فاستواء الله على عرشه معناه معروف، وهو الاستقرار والعلو والارتفاع والصعود. لكن كيفية الاستواء هذا ما لا نعلمه، فلا نقول: استوى كما يستوي الإنسان على الدابة. فهذا هو التشبيه المحرم.
فالخلاصة أن طريقة أهل التفويض، وطريقة أهل التأويل كلتاهما باطلتان. وطريقة أهل السنة هي الصواب، وهو أنهم يثبتون الأسماء والصفات، ويثبتون المعاني لله تعالى. وأنها أسماء حقيقية وصفات حقيقية معلومة المعنى. فالله -تعالى- متصف بالقدرة، ونعلم أن القدرة ضد العجز، والله تعالى متصف بالسمع وأن السمع ضد الصمم، وأن البصر ضد العمى كما قال -صلى الله عليه وسلم-: …(إن ربكم ليس بأعور) لكننا لا نعلم الكيفية.
(1/34)
باب: قول الله: "وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ"
15 - باب قول الله، تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وقوله جل ذكره: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات النفس لله -عز وجل-، وأن لله -تعالى- نفسًا لا تشبه أنفس المخلوقين قال -تعالى- عن المسيح عليه السلام: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ .
(1/35)
حديث: "ما من أحد أغير من الله"
7403 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله .
الشرح:
هذا فيه إثبات الغيرة لله والمحبة لله -تعالى- وهما من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والقدرة، فالله -تعالى- يوصف بالغيرة، ولكنها لا تشبه غيرة المخلوق، ويوصف بالمحبة، ولا تشبه محبة المخلوق، والصفات الفعلية تتعلق بالمشيئة والاختيار: كالإرادة، والغيرة، والمحبة، والكراهية، والسخط، والبغض، والغضب. والصفات الذاتية: هي التي لا تنفك عن البارئ، مثل: الوجه، واليد، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر.
قوله: (وما من أحد أحب إليه المدح من الله): اقتصر المؤلف على هذا. وفي رواية أخرى: ما من أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه وهذا هو الشاهد من الترجمة، وهو ذكر النفس، والمؤلف لم يأت بالشاهد، ومن عادته أنه يأتي بالحديث أحيانًا، ويشير به إلى طريق أخرى، فيها ما يدل على الترجمة. وهذه اللفظة جاء بها المؤلف في مكان آخر، وهي قوله: (ما من أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه): هذا هو الشاهد لإثبات النفس لله -تعالى-، فهو -سبحانه وتعالى- يحب أن يمدحه العباد؛ ولهذا مدح نفسه بالصفات التي هو بها أهل، سبحانه وتعالى.
وفي لفظ آخر: لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ففيه إثبات الغيرة والمحبة والنفس لله تعالى.
فائدة:
قال العَيْنيّ (النفس لفظ يحتمل معانيَ، والمراد بنفسه ذاته، فوجب أن يكون نفسه هي هو... إلى قوله: وقيل: إن إضافة النفس هنا إضافة ملك، وأن المراد بالنفس نفوس عباده...) إلخ قلت: هذا باطل. فالله -سبحانه- يثبت له النفس، ثم يقول: هنا نفوس عباده. فهذا من أبطل الباطل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن النفس والذات متقاربتان، والنفس ثابتة بالكتاب والسنة، وأما الذات فيخبر عن الله -تعالى- أن له ذاتًا.
فائدة:
قول العَيْنِيّ (غيرة الله هي كراهية إتيان الفواحش، أي: عدم رضاه...) إلخ.
قلت: هذا باطل. والصواب أن الغيرة صفة تليق بجلال الله وعظمته لا تكيف، ولكن من أثرها أن الله تعالى حرم الفواحش، وهي غير الكراهية، بل الكراهية صفة أخرى.
(1/36)
حديث: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه"
7404 - حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش، إن رحمتي تغلب غضبي .
الشرح:
هذا فيه إثبات الخلق والكتابة لله -تعالى- وأنه من الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة والقدرة: كالخلق والرزق، والإماتة، والإحياء، والكتابة.
وفيه إثبات الرحمة والغضب، وفي الحديث القدسي: إن رحمتي تسبق غضبي وفيه إثبات النفس لله -تعالى- لقوله: (وهو يكتب على نفسه). وهذا هو الشاهد، وهذه النفس موصوفة بهذه الصفات، كالغيرة، والمحبة، والخلق، والكتابة، والرحمة، والغضب. وقوله: (وهو وضع عنده على عرشة): فيه أن هذا الكتاب موضوع فوق العرش.
وهنا سؤال: كيف نجمع بين ما جاء أن العرش سقف المخلوقات، وهنا يقول: (وهو موضوع عنده فوق العرش). كما في الرواية الأخرى.
الجواب: أن نقول: إن هذا مستثنى، فهذا خاص، وهذا عام، أي: أن العرش سقف المخلوقات، ويستثنى هذا الكتاب؛ لأنه فوقه.
(1/37)
حديث: "أنا عند ظن عبدي بي"
7405 - حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي، حدثنا الأعمش سمعت أبا صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة .
الشرح:
هذا، حديث قدسي من قول الله -تعالى- لفظه ومعناه هذا هو الصواب، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أضافه إلى ربه بقوله: (يقول الله تعالى): فالحديث القدسي هو المنسوب إلى الملك القدوس -سبحانه وتعالى- المطهر المنزه، فهو من قول الله -عز وجل- لفظه ومعناه خلافًا لما قال بعضهم من أن الحديث القدسي معناه من الله، ولفظه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ؛ لأنه لو كان كذلك لما كان هناك فرق بين الحديث القدسي وبين غيره، لأن الأحاديث كلها وحي من الله، قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ثم أيضًا قوله: إن المعنى من الله، واللفظ من الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يقولون: إن الكلام معنى قائم بالنفس.
فالحديث القدسي من كلام الله -عز وجل- لكن يختلف عن القرآن بأمور منها:
أ - القرآن لا يمسه إلا متوضئ، والحديث القدسي يمسه غير المتوضئ.
ب - القرآن يتعبد بتلاوته، والحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، وغير ذلك من الفروق.
قوله: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني): فيه إثبات المعية لله عز وجل معيه خاصة، وهي معية الله -تعالى- مع الذاكرين بتوفيقه وإثباته وتسديده وحفظه، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فهي معية مع المتقين والمحسنين. وقوله: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فهي معية مع الصابرين بحفظهم وكلاءتهم وحفظهم وتوفيقهم. وهي غير المعية العامة، التي هي معية الله تعالى مع الخلق كلهم. كما قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ مع الخلق بإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته وعلمه وإطلاعه ونفوذ بصره فيهم، فهي تشمل الخلق كلهم، مؤمنهم وكافرهم، فالله -تعالى- معهم بالعلم لا يخفى عليه شيء من عباده. كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فافتتح أول الآية بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المعية معية العلم والإحاطة، والاطلاع والقدرة والمشيئة.
فيجتمع في حق المؤمن المعية الخاصة والعامة، فهو مع الذاكرين بعلمه وإحاطته وإطلاعه، ومعهم معية خاصة بتوفيقه وإعانته، وينفرد الكافر بالمعية العامة.
قوله: (أنا عند ظن عبدي بي): فيه أنه ينبغي للإنسان أن يحسن ظنه بالله تعالى.
قوله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي..): هذا هو الشاهد إثبات النفس لله تعالى. فهو -سبحانه- يذكر عبده في نفسه إذا ذكره في نفسه، وإذا ذكره عبده في ملأ ذكره في ملأ خير منهم.
قوله: (وإن تقرب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا، تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة): هذه كلها من الصفات الفعلية لله عز وجل. فتقرب الله -تعالى- من العبد إذا تقرب إليه، وذكر الله -تعالى- للعبد إذا ذكره وإتيان الله -تعالى- إلى العبد إذا أتى إليه. هذه كلها من الصفات الفعلية. لكن من ثمراتها أن الله -تعالى- أسرع بالخير إلى العبد وأسرع بالإثابة من فعل العبد للطاعة، فهذه من ثمراتها، وليست هي الصفات. بعض المؤولين كالنووي -رحمه الله- إذا أتى عند مثل هذه الصفات، فسرها فيقول في قوله: (تقربت إليه ذراعا): أي: أن الله تعالى أسرع بالثواب من العبد. والصحيح أن هذا من ثمرات الصفة، وليست هي الصفة.
وما ذُكر في الحديث صفات فعلية تليق بالله -تعالى- لا نعلم كيفيتها، فنثبت أن الله يذكر العبد إذا ذكره، وأن الله تعالى يتقرب إلى من تقرب إليه، وأنه -سبحانه- يأتي من أتى إليه، وهذه الصفات الفعلية توصف بها نفس الله عز وجل.
ومثل هذا الحديث ، حديث: إن الله لا يمل حتى تملوا هذه صفة لله -عز وجل-، فهو -سبحانه- أثبت أنه لا يمل حتى يمل العبد. وهي صفة ليس فيها نقص، مثل ملل المخلوق، لكن من ثمراتها أن الله -تعالى- يقطع الثواب إذا قطع الإنسان العمل. وأهل التأويل يقولون في قوله: (إن الله لا يمل حتى تملوا) يقولون: المعنى أن الله -تعالى- يقطع الثواب إذا قطع العبد العمل، والصواب أن هذا من ثمرات، وآثار الصفة، وليست هي الصفة.
فائدة:
يثبت لله -تعالى- الإتيان لمن أتى إليه أن من أتى إليه يمشي أتاه هرولة من باب المقابلة، ولا يقال: إن من صفات الله -تعالى- الهرولة،ولا يقال من صفات الله الماكر، بل يقال: إن الله يكيد من كاده.
فالكمال في المقابلة، فلا يقال من صفات الله -تعالى- أنه يمشي ومن صفاته الهرولة، بل على لفظ الصفة؛ لأنه لا يشتق من الصفات الفعلية أسماء له سبحانه وتعالى.
فائدة:
تقرب الله -تعالى- من عباده المؤمنين نوعان:
أ - تقرب من الداعين بالإجابة.
ب - تقرب من العابدين بالإثابة.
دليل الأول قوله -تعالى-: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ .
ودليل الثاني قوله -تعالى-: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ لأنك إذا سجدت عبدت الله واقتربت إليه.
(1/38)
باب: قول الله: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ"
حديث: "هذا أيسر"
16- باب قول الله -تعالى- كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
7406 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن زيد عن عمرو عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- أعوذ بوجهك، فقال: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعوذ بوجهك قال: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا أيسر .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات الوجه لله -عز وجل- وأن لله -تعالى- وجه لا يشبه وجوه المخلوقين، وهو من الصفات الذاتية، قال -تعالى-: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ .
وبعض المبتدعة يفسرون الوجه بالذات، وقصدهم من ذلك إنكار الصفة. ويقولون في قوله -تعالى-: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي: ذاته، فهؤلاء أنكروا الوجه. والآية فيها إثبات الذات لله -عز وجل- وإثبات الوجه، فالله -تعالى- هو الباقي بذاته، وجهه من صفاته الذاتية.
قوله: (أعوذ بوجهك.... إلى قوله (هذه أيسر): في رواية أخرى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الله -تعالى- بثلاث دعوات، فأجيب باثنتين، ومنع من الثالثة، دعا الله ألا يهلك أمته بعذاب من السماء فأجيب، وألا يهلكهم بعذاب من تحت أرجلهم فأجيب، ودعا الله ألا يهلك بعضهم ببعض فمنع فدل على أن الاقتتال، والتفرق حاصل في الأمة.
قوله: (هذه أيسر) في رواية (هذه أهون) .
فائدة:
قول العَيْنِيّ نقلا، عن ابن بطال (والحديث دلالة على أن لله وجهًا، وهو من صفة ذاته، وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها في المخلوقين...).
قلت: قوله: (وليس بجارحة) لا ينبغي ذكره، بل يقال: لله وجه لا يشبه وجوه المخلوقين، أما إطلاق لفظ الجارحة كل هذا لا دليل عليه، بل هو مما أحدث.
(1/39)
باب: قول الله: "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي"
حديث: "إن الله ليس بأعور"
17 - باب قول الله -تعالى- وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي تغذى، وقوله جل ذكره تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا
7407 - حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ذكر الدجال عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور -وأشار بيده إلى عينه- وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية .
7408 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة أخبرنا قتادة قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ما بعث الله من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر .
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف إثبات العين لله -تعالى- وأن لله عينين، وهما من الصفات الذاتية، فالله -تعالى- له عينان تليقان بجلاله وعظمته، لا يشبه المخلوق في شيء من صفاته كما قال -تعالى- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقوله -تعالى-: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي العين هنا جاءت مفردة مضافة إلى الضمير، والمراد إثبات جنس العين، وأن لله -تعالى- عين. وقوله -تعالى- تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جاءت بصيغة الجمع؛ لأنها مضافة إلى: (نا) وهي للعظمة على سبيل التعظيم.
قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي أي: تربى وتغذى على عيني. وقوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أي: على مرأى منا، وكلاءتنا وحفظنا. ففيه إثبات العين لله -تعالى- وإثبات الحفظ والكلأ والرعاية.
وأن موسى يربى، ويغذى على مرأى من الله وعناية من الله عز وجل.
وفي الحديثين اللذين ذكرهما المؤلف -رحمه الله- إثبات أن لله عينين سليمتين؛ لأنه قال: (أن الدجال أعور عين اليمنى، وإن ربكم ليس بأعور): فلما نفى عن الله أن يكون أعور، وهو الذي لا يبصر إلا بعين واحدة، دل على أن له عينين سليمتين، لا يشبه المخلوق في شيء من صفاته، سبحانه وتعالى.
وفي الحديث إثبات العين، وإثبات البصر لله -عز وجل- كما في الحديث: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ قوله -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (أشار بإصبعه إلى عينه وأذنه) وهذا ليس المراد منه التشبيه، إنما المراد تحقيق الصفة، والمعنى إثبات أن لله سمعًا وبصرًا، وأن لله عينًا حقيقية لا مجازًا.
وفيه دليل على عظم فتنة الدجال، وأنه أنذره جميع الأنبياء؛ وذلك لعظم أمره وفتنته، وقد ثبت في صحيح مسلم: ما بين خلق آدم وقيام الساعة أمر أعظم من الدجال ولهذا أمرنا بالاستعاذة بالله من فتنة المسيح الدجال في آخر كل صلاة، كما في حديث: أُمِرْنا بالاستعاذة بالله من أربع: من فتنة القبر الحديث. ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أبدأ فيه وأعاد، مع أنه لا يخرج في زمانه، وذلك حتى يكون أمره معلومًا ومنتشرًا.
والدجال رجل من بني آدم يدعي الصلاح أولا، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية،وهو أعور عين اليمنى ليس له إلا عين واحدة، كأن عينه عنبة طافية، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن، فهذه من العلامات الواضحة لمن أراد الله هدايته.
فائدة:
قال العَيْنِيّ -رحمه الله تعالى-: (.... أن له صفة سماها عينًا، ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح معقولة بيننا لقيام الدليل على استحالة وصفه بأن له جوارح وأعضاء، خلافًا لما يقوله المجسمة من أنه -تعالى- جسم لا كالأجسام، وقيل على عَيْنِي أي: على حفظي... ) إلخ.
قلت: كل هذا ليس بصحيح، فمسألة الجارحة: لا تثبت، ولا تنفى، فلله عين حقيقية هي صفة من صفاته، وليس في هذا تشبيه؛ لأن الله -تعالى- نفى التشبيه عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا وقال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ فالله -تعالى- لا يشبه المخلوقين لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، سبحانه وتعالى.
فائدة:
قال ابن حجر رحمه الله:(وقد سئلت: هل يجوز لقارئ هذا الحديث أن يصنع كما صنع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأجبت وبالله التوفيق: أنه إن حضر عنه من يوافقه على معتقده، وكان يعتقد تنزيه الله -تعالى- عن صفات الحدوث، وأراد التأسي محضًا جاز، والأولى به الترك خشية أن يدخل على من يراه شبهة التشبيه...) إلخ.
قلت: هذا ليس بصحيح، فالصحيح أن لا بأس أن يفعل الإنسان كما فعل الرسول، وينبه الناس أن المراد تحقيق الصفة وإثباتها، وليس المراد التشبيه. كذلك إذا أراد تحقيق صفة القدم لله -عز وجل- لا بأس أن يشير إلى القدم، وذلك بقصد تحقيق الصفة لا للتشبيه.
ولو أراد إثبات صفة النزول، ونزل من مكان عال، نقول: هذا غير صحيح؛ لأن النزول لا يكيف، ولا يقال: إن هذا من تحقيق الصفة؛ لأن صفة النزول معناها في اللغة معقول، ليس فيه شيء يشار إليه، ليست كالصفات التي في الإنسان. فإذا نزل وقال مثل هذا، فمعناه أنه كَيَّف الصفة؛ لأن هذا هو نزول المخلوق. أما أصل النزول، فمعناه في اللغة معروف.
(1/40)
باب قول الله "هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ"
حديث: "ما عليكم أن لا تفعلوا"
18 - باب قول الله هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ
7409 - حدثنا إسحاق حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى هو ابن عقبة حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: في غزوة بني المصطلق أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن، ولا يحملن، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن العزل فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة وقال مجاهد عن قزعة سمعت أبا سعيد فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات أربعة أسماء لله عز وجل (الله - الخالق - البارئ - المصور) وهذه الأسماء متضمنة للصفات ليست جامدة: (الله) أعرف المعارف، وهو متضمن لصفة الألوهية، فهو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، ففيه إثبات صفة الألوهية، و (الخالق) متضمن لصفة الخلق. و (البارئ) متضمن لصفة البرء، والبرء من التراب، وهي البرية. و (المصور) متضمن لصفة التصوير فهذه من الصفات الفعلية؛ لأنها تتعلق بالمشيئة والاختيار. فصفة الألوهية متصف بها الله -تعالى- في جميع الأوقات، وهو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، أما (الخلق والبرء والتصوير) فهذه صفات فعلية تتعلق بالمشيئة والاختيار. فالله -تعالى- هو الذي خلق الإنسان وأوجده. البرء من التراب وهي البرية. و (المصور): الذي صور المخلوقات، وأوجدهم على صور فخطط هذه الصور وطبعها. فهذه صفة عظيمة تبهر العقول، حيث طبع هذه الصور العظيمة، فهؤلاء الآلاف من الناس، كل واحد منهم طبع على صورة ولا تشبه صورة واحد من البشر، صورة الآخر. ولو كانت صورهم متشابهة لاختلّت حياة الناس، فكيف يفرق الإنسان بين الأخ وأخيه وبين الذكر والأنثى؟. فهذا من الدلائل العظيمة على قدرة الله وكماله ووحدانيته، فهو -سبحانه- متصف بالتصوير.
ومن كمال قدرة الله -تعالى-، أن النطفه حينما تتطور إلى علقة تجد أنها مصورة مخططة، كما يخط الخطاط والرسام، فتجد صورة العين والأنف والرأس مصورة ومخططة قبل أن يخلق، فالله -تعالى- يصور هذه النسمة، وهو في بطن أمه، ثم يوجدها، ويخلقها، ويكونها على وفق ما صوره -سبحانه وتعالى- وخططه لكل صورة.
فائدة:
الخلق يطلق على شيئين: أ - التقدير ب - الإيجاد. فالإيجاد خاص بالله، أما التقدير، فهذا يوصف به المخلوق. ومنه قوله -تعالى-: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أي: أحسن الخالقين المقدرين المنشئين، المخترعين الموجدين.
وقوله -تعالى-: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ استدل بها المعتزلة على أن الإنسان يخلق فعل نفسه، وقالوا: هذا فيه دليل على أن هناك خالقين كثيرين، إلا أن الله أحسنهم وأجودهم خلقًا، فقالوا: فالإنسان يقدر -أولا- ثم يوجد، وبعض الناس يقدر -أولا- ولا يستطيع أن يوجد ما قدره، ومنه الخراز أو الحذاء حينما يريد أن نجرز النعل ويقدرها يأتي بفحمة ثم يخطها ثم يوجد الحذاء على قدر ما خطط، هذا خلق تقدير، فقد يستطيع أن ينفذ وقد لا يستطيع أن ينفذ لذلك يقول القائل:
ولأنت تفري ما خلقت…وبعض
القوم يخلق ثم لا يفري
يمدحه ويقول: ولأنت تفري ما خلقت: أي: تستطيع أن تنفذ، وتوجد ما قدرت. وبعض القوم يخلق، ثم لا يفري: والتقدير منه قول الله -تعالى- في عيسى، عليه السلام: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي فعيسى -عليه السلام- يصور من الطين صورة على قدر الطير، فينفخ فيها فتكون طيرًا -بإذن الله- فيخلق الله -تعالى- فيها الروح. فعيسى -عليه السلام- منه التقدير والتصوير، والله -تعالى- منه الخلق والإيجاد، فمعنى قوله -تعالى-: (تخلق من الطين): أي: تصور من الطين. وهذا جعله الله -تعالى- من معجزات عيسى عليه السلام.
أما الحديث ففيه إثبات الكتابة لله -عز وجل- وأنه من الصفات الفعلية ؛ لأنها تتعلق بالمشيئة والاختيار، وأنه كتب من هو خالق، وفيه إثبات اسم الخالق وهو متضمن لصفة الخلق.
والحديث فيه جواز العزل في الإماء، لقول جابر -رضي الله عنه-: كنا نعزل والقرآن ينزل ولو كان شيئا ينهى عنه، لنهانا عنه القرآن ومعنى العزل: أنه إذا جامع الرجل زوجته، أو سريته، وأراد أن ينزل أخرج ذكره، فأنزل خارجًا حتى لا تحمل، فهذا جائز بالنسبة للإماء، أما الحرة، فقد جاء في الحديث أنه لا بد من إذنها.
والصحابة في غزوة أوطاس أصابوا بعض السبايا أي: بعض الإماء فأرادوا أن يستمتعوا بهن، ولا يحملن؛ لأنها إذا حملت لم يستطع أن يبيعها، وهذا مقيد بالأحاديث الأخرى أنه لا يستمتع بها حتى يستبرئها بحيضة، فلا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائض حتى تستبرأ بحيضة، حتى لا تختلط الأنساب. فالصحابة لما أرادوا أن يستمتعوا بهن سألوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن العزل فقال: (ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها): أي: أن العزل لا يمنع، فإذا قدر الله، وأراد أن يخلق شيئًا سبقه الماء إلى الرحم فتحمل؛ لذلك لم ينههم عن ذلك. فالعزل يمنع إذا لم يقدر الله شيئا، فلا يمنع العزل قدر الله الأزلي.
(1/41)
باب قول الله: "لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ"
حديث: "يجمع الله المؤمنين يوم القيامة"
19 - باب قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
7409 - حدثني معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن قتادة عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أما ترى الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك، ويذكر لهم خطيئته التي أصابها، ولكن ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا فيقول: لست هناك، ويذكر خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم خطاياه التي أصابها، ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما، فيأتون موسى فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عبدًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: لي ارفع محمد وقل: يُسمع وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ربي ثم أشفع فيحد لي، حدا فأدخلهم الجنة ثم أرجع، فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة .
الشرح:
قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الآية خطاب من الله -تعالى- لإبليس لما امتنع من السجود لآدم
وأراد المؤلف -رحمه الله- من الترجمة إثبات اليدين لله عز وجل وأن لله يدين اثنتين؛ ولهذا أخبر الله عنهما بالتثنية مضافة إليه -سبحانه- أي: إلى ضمير نفسه. أما قوله -تعالى-: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فالمراد إثبات جنس اليد مضافة إلى ضمير مفرد، وكذلك قوله -تعالى-: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أضيفت إلى نون الجمع للتعظيم، وهو أسلوب عربي معروف. أما قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ فهذا صريح في إثبات اليدين لله -عز وجل- وأن له -سبحانه- يدين اثنتين.
وقد أوّلها بعض أهل الكلام بالقدرة أو بالنعمة، وهذا تأويل باطل؛ لأن المعنى يفسد، فيكون التقدير: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي: بنعمتي أو بقدرتي؟ فهذا غير صحيح؛ لأن نعم الله -تعالى- كثيرة ليست محصورة في اثنتين، ولا يقال: إن معنى قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ بقدرتي؛ لأنه بذلك يحصر قدرة الله -تعالى- بقدرتين، فدل ذلك على فساد هذا المعنى وبطلانه. ولو كان اليد معناها القدرة لما كان هناك ميزة لآدم على إبليس. والله -تعالى- جعل خلقه لآدم بيديه ميزة له، ففي يوم القيامة يقول الناس لآدم (خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته..) ولو كان اليد معناها القدرة، لقال إبليس وأنا خلقتني بقدرتك، فما فضل آدم علي، فإبليس أعرف بالله من هؤلاء الذين نفوا يدي الله تعالى.
قوله: (يجمع الله المؤمنين يوم القيامة، كذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا...): هذا في موقف القيامة حينما يشتد الكرب على الناس، وتدنو الشمس من الرؤوس يقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا: أي: لو طلبنا أحدًا يشفع لنا. فيأتون -أولا- آدم ثم يأتون نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يأتون نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكلهم يعتذر حتى تصل النوبة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- فيقبل كلامهم، فيشفع عند الله -عز وجل- فيشفعه الله تعالى.
قوله: (خلقك بيده): هذا هو الشاهد من الحديث، وهو إثبات اليد لله تعالى.
قوله: (وعلمك أسماء كل شيء): هذه من الخصائص لآدم -عليه الصلاة والسلام-، خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء. وفي لفظ آخر: (ونفخ فيك من روحه).
قوله: (ويذكر خطيئته التي أصاب): خطيئته هي أكله من الشجرة هو زوجه حواء، لكنه -عليه الصلاة والسلام- تاب منها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والموقف عظيم فمع أنه تاب ورُفع عنه الذنب، فمع ذلك يعتذر، ولا يزال يذكر خطيئته، وإن كان قد تاب منها، وفي لفظ آخر أن كل نبي يقول: (إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب مثله، ولن يغضب بعده مثله): فيذكر آدم خطيئته وهي أكله من الشجرة، ونوح يذكر خطيئته ويقول: إني دعوت على أهل الأرض، وإبراهيم يذكر كذباته الثلاث، وموسى يذكر قتله للنفس قبل النبوة، وعيسى لا يذكر ذنبًا إلا أنه يذكر: إن الناس اتخذوه وأمه إلهين من دون الله.
قوله: (ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض): هذا من خصائص نوح -عليه السلام- وهو صريح أنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وآدم -عليه السلام- قبله رسول لكنه رسول إلى بنيه لا إلى أهل الأرض كلهم، لأنه ليس هناك إلا بنيه في ذلك الوقت؛ ولأن الشرك لم يقع في عهد آدم فأرسل إلى بنيه. كما قال ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله -تعالى- كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على التوحيد): فنوح أرسل إلى بنيه وغير بنيه، إلى قوم مشركين، وقع بينهم الشرك، وأما آدم فلم يرسل إلا لبنيه، ولم يقع بينهم الشرك، إنما وقعت بينهم المعاصي كقصة قابيل حينما قتل أخاه هابيل وقيل: إن آدم ليس رسولا إنما هو نبي نبأه الله بما يعمله في نفسه وبنيه. فآدم إن قيل: إنه رسول، فلم يرسل إلى قوم مشركين، وإن قيل: إنه نبي كان نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
قوله: فيأتون إبراهيم ويذكر لهم خطاياه التي أصابها): وهي الكذبات الثلاث التي يجادل بهن، عن دين الله، وهي في الحقيقة ليست كذبات، ولكنها تورية، لكن لما كان المقام مقامًا عظيمًا اعتذر. قال، عن نفسه: إِنِّي سَقِيمٌ فلما ذهبوا أخذ الفأس وكسر أصنامهم، وجعله على الصنم الأكبر، فلما جاءوا، وسألوه من فعل هذا بآلهتنا قال: كبيرهم. فالأولى: قوله: إني سقيم. والثانية: قوله: بل فعله كبيرهم. والثالثة: قوله: عن زوجته أنها أخته، وتأول أنها أخته في الإسلام. فهي تورية، ومع ذلك يعتذر؛ لهذا جاء في الحديث: (اثنتين في ذات الله) وهي قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم،والثالثة: تتعلق بزوجته.
قوله: (فيأتون موسى ويذكر لهم خطيئته التي أصابها): وهي قتله القبطي قبل النبوة؛ لأن موسى -عليه السلام- نصر الإسرائيلي، وضرب القبطي وهولا يريد قتله فمات؛ لذلك عيره فرعون بقتله القبطي بقوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ .
قوله: (ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه): هذه صفات عيسى عليه السلام. فهو عبد الله؛ لأنه من بني آدم من البشر، خلقه الله من أمه مريم بلا أب، وهو رسول أرسله الله إلى بني إسرائيل (وكلمته): أي: أنه مخلوق بالكلمة، خلقه الله بكلمة (كن) فكان، وليس المراد هو الكلمة كما تقوله النصارى ؛ لأن النصارى يقولون: هو نفسه الكلمة فهو جزء من الله. نعوذ بالله مما قالوا؛ ولذلك كفروا بذلك، فعيسى خلقه الله بكلمة (كن) وليس هو الكلمة كما قال -تعالى-: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقد كفر النصارى بقولهم: إنه جزء من الله، أو أنه ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة.
قوله: (ثم يقال لي: ارفع محمد قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع): هذا فيه دليل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يبدأ بالشفاعة -أولا- حتى يأتيه الإذن، فإذا رأى ربه يخرّ ساجدًا، فيحمد الله، ويثني عليه بمحامد، يفتحها الله عليه في ذلك الموقف، ثم لا يزال ساجدا، ويدعه الله ما شاء أن يدعه، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع. فهذا هو الإذن، دل عليه قوله -تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فأشرف الخلق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك لا يستطيع أن يشفع إلا بإذن من الله، سبحانه وتعالى.
والشفاعة لها شرطان:
1 - إذن الله للشافع أن يشفع. ولو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
2 - أن يرضى الله، عن المشفوع له. فتبين أن الشفاعة فضل من الله وإلى الله، لكنها كرامة يكرم الله -تعالى- بها الشافع.
قوله: (فيحد لي، حدا فأدخلهم الجنة ثم أرجع.... ثم أرجع فأقول: يا رب ما بقي في النار) هذا فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يشفع ثلاث شفاعات، في كل مرة يحد الله له حدا، ثم يقولك (يا رب ما بقي في النار، إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود): أي: لم يبق في النار إلا من أخبر الله أنه في القرآن مخلد، وهم الكفار. ولم يبق من عصاة الموحدين أحد في النار. وهذا قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- بحسب علمه، وإلا فإنه قد ثبت في حديث آخر أنه يبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم رب العالمين برحمته. وذلك بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والأفراط والشهداء، فيخرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط، أي: زيادة على التوحيد والإيمان. ولا يبق في النار أحد من عصاة الموحدين. ثم تغلق النار على الكفار بجميع أصنافهم، كما قال -تعالى-: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي: مطبقة مغلقة. وهؤلاء ليس لهم نصيب من الشفاعة والعياذ بالله.
قوله: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة... ما يزن من الخير ذرة): في لفظ آخر: يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل وفي لفظ آخر: أنه يشفع فيقال: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ثم يقال: في الثانية أخرج من النار من كان في قلبه مثقال أدنى حبة من إيمان، ثم في الثالثة أخرج من النار، من كان في قلبه مثقال أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان وفي بعضها أنه يشفع أربع شفاعات، عليه الصلاة والسلام.
والمراد أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى، وأقل شيء من الإيمان، ومعلوم أنه لا يبقى في قلبه شيء من الإيمان إلا إذا كان مُوحِّدًا، أما إذا كان مشركًا، فلا يبقى في قلبه شيء من الإيمان؛ لأن الشرك يُذهب الإيمان. والمراد من الحديث من كان مُوَحِّدًا لكن كثرت معاصيه، وعظمت حتى أضعفت إيمانه؛ لأن المُوَحِّد لا بد أن يبقى في قلبه شيء من الإيمان. والإيمان إنما يبقى إذا سلم من الشرك الأكبر والكفر الأكبر والنفاق الأكبر، فإذا سلم من هذه الأمور الثلاثة، فلا بد أن يبقى في قلبه شيء من الإيمان، ولو عظمت المعاصي، أو كثرت.
فائدة:
من ترك الصلاة ولو متساهلا، الصواب إن هذا كفر وردة تقضي على الإيمان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: بين الرجل والكفر ترك الصلاة ولأن الصلاة شرط في صحة الإيمان فإذا لم يصلِّ، فإنه غير مؤمن كما لو صلى بغير وضوء، فإذا كان الوضوء شرطًا في صحة الصلاة، فكذلك الصلاة شرط في صحة الإيمان. والمسألة فيها خلاف، فهذا الذي ذكرناه أجمع عليه الصحابة ومن بعدهم، والفقهاء المتأخرون اختلفوا، منهم من قال: إن المراد بالكفر بالحديث الكفر الأصغر، والصواب أنه كفر أكبر. وبعضهم أشكل عليه بعض الأحاديث التي فيها فضل التوحيد، وفضل من قال لا إله إلا الله، والجواب، عن هذا: أن فعل الصلاة شرط في صحة التوحيد والإيمان، فإذا لم يصلِّ لم يصحَّ إيمانه ولا توحيده، وحينئذ يزول الإشكال.
فائدة:
في الحديث إثبات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى ربه في الموقف؛ لقوله: (فإذا رأيت ربي) أما رؤية الناس لربهم في الموقف ففيها أقوال:
الأول: أن أهل الموقف كلهم يرون ربهم. جاء في بعض الأحاديث: أن أهل الموقف كلهم يرونه كافرهم ومؤمنهم، ثم يحتجب عن الكفار .
الثاني: أن الذي يراه المؤمنون والمنافقون: جاء في الحديث الآخر: أنه يراه المؤمنون والمنافقون، ثم يسجد المؤمنون، أما المنافقون فيجعل الله ظهر كل واحد منهم طبقًا واحدًا .
القول الثالث: أنه لا يراه إلا المؤمنون. أما الكفار فقال الله -تعالى- فيهم: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لكن بعض العلماء قال: إنهم يرونه في الموقف، ثم يحتجب عنهم. وقال آخرون: إن الله -تعالى- يحتجب، عن الكفار حتى في الموقف.
فائدة:
دخول من يخرج من النار إلى الجنة ظاهر الأحاديث، أنه يكون بعد مدة، ويكون بعد السابقين لدخولها وبعظم ذنبه+ تطول مدة مكثه في النار على حسب جرمه كالقاتل، قال -تعالى-: خَالِدًا فِيهَا أي: ماكثًا مكثًا طويلا. وقد ثبت أن آخر أهل النار خروجًا، وآخر أهل الجنة دخولا يعطى مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، وله مع ذلك ما اشتهت نفسه ولذة عينه.
ولا يفنى شباب أهل الجنة، ويؤمنون من المرض والشيخوخة والكبر والبصاق والمخاط والبول والغائط والهموم والأحزان، وهذه كلها زيادات لا تحصل لملوك الدنيا.
فائدة:
الخوارج والمعتزلة ينكرون شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إخراج عصاة المُوَحِّدين من النار ويقولون: العصاة مخلدون في النار، مثل الكفار سواء بسواء، وهذا من أبطل الباطل، فأحاديث الشفاعة متواترة، وفيها رد عليهم.
فائدة:
مسألة: هل تقع الكبائر والصغائر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟
الجواب: الأنبياء تقع منهم الصغائر ولا يُقرّون عليها، قال الله -تعالى-: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وقال عن موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وقال عن داود فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فهذا صريح في وقوع صغائر الذنوب منهم، لكن الأنبياء معصومون من الشرك والكبائر على الصحيح، وكذلك معصومون، عن الخطأ، فيما يُبَلغون، عن الله، لكن قد يقع منهم خلاف الأَوْلَى، وقد تكون صغائر في حقهم قال -تعالى-: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى الآية. هذا وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- ، عاتبه الله في ذلك، جاء في بعضها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا جاءه ابن أم مكتوم قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي .
(1/42)
حديث: " يد الله ملأى لا يغيضها نفقة"
7411 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يَغِض ما في يده، وقال: عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع .
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات اليد لله -عز وجل- وأن يد الله ملأى كريمة لا تغيضها أي: لا تنقصها نفقة، (سحاء): كثيرة الصب، والسح هو كثرة الصب. (الليل والنهار): هذا وصف (بيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع). جاء في حديث آخر يخفض أقواما ويضع آخرين .
وفي لفظ آخر: وبيده الأخرى القبض وروي (الفيض). وجاء في، حديث: وكلتا يديه يمين أي: في البركة والخير. وسيأتي إثبات الشمال لله تعالى.
وفي الحديث إثبات الميزان وهو ميزان حقيقي له كفتان عظيمتان، وله لسان. وتأوله أهل الكلام بالعدل، وأنه ليس هناك ميزان حِسي، وقالوا: إن الله -تعالى- منزه عن الميزان، فالميزان لا يحتاجه إلا البقال والفوال، أما الله فلا يحتاج إلى ميزان، وهذا إنما قالوه بسبب عقولهم الفاسدة.
قوله: (يخفض ويرفع) يفسره اللفظ الآخر: يضع أقواما ويرفع آخرين وجاء في الحديث الآخر: ما يدل على وزن الأشخاص ووزن الأعمال، قال -صلى الله عليه وسلم-: يؤتى بالرجل العظيم السمين، لا يزن عند الله جناح بعوضة والأعمال توزن قال -تعالى-: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ الآية. وأما ما جاء في بعض الآيات من إثبات الميزان بصيغة الجمع، كما في قوله -تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ فقيل: جمعها بالنسبة للموزون، وقيل: إن هناك موازين عِدّة.
(1/43)
حديث: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض"
7412 - حدثنا مقدم بن محمد بن يحيى قال: حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك رواه سعيد عن مالك
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات صفة القبض لله -تعالى- وهي من الصفات الفعلية، كما قال -تعالى-: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ .
(1/44)
حديث: " يقبض الله الأرض"
7413 - وقال عمر بن حمزة سمعت سالمًا سمعت ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: بهذا، وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبض الله الأرض .
الشرح:
هذا الحديث علقه البخاري ورواه مسلم وغيره موصولا، وفيه إثبات اليمين والشمال لله -تعالى- لكن كلتاهما يمين في البركة والشرف والفضل والعظمة، وعدم النقص، بخلاف المخلوق، فالمخلوق في الغالب تكون شماله فيها نقص وضعف، أما الله -تعالى- فلا يلحقه نقص، بل كلتا يديه يمين في البركة والفضل وعدم النقص، وإلا فله -سبحانه- يمين وشمال، وفي لفظ آخر أنا أختار يمين ربي، وكلتا يديه يمين لكن بعضهم قال: إن هذا تفرد فيه عمر بن حمزة وطعن فيه، والصواب إن هذا لا يعتبر علة.
(1/45)
حديث: "إن الله يمسك السماوات على إصبع"
7414 - حدثنا مسدد سمع يحيى بن سعيد عن سفيان حدثني منصور وسليمان عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله أن يهوديا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والجبال على إصبع، والشجر على إصبع والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قرأ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ .
قال يحيى بن سعيد وزاد فيه فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا وتصديقًا له .
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات الأصابع لله -عز وجل- وأنها من الصفات الذاتية التي تليق بالله وعظمته، وفيه إثبات خمسة أصابع لله -عز وجل- أن الله -تعالى- يضع السماوات والأرضين على أصبع والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر الخلق على إصبع، فهذه خمسة أصابع.
وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحك تعجبًا وتصديقًا لقول الحَبْر، وهو العالم عند اليهود
وأهل الكلام لهم كلام ولخبطة في هذا، كالخطابي وابن بطال والقرطبي وجماعة، فمنهم من تأول وقال: هذا على عادة العرب وأنكروها، ومنهم من قال: يحتمل أن يكون الإصبع خلقًا من خلق الله، ومنهم من قال غير ذلك، وكل هؤلاء استوحشوا من إثبات الأصبع لله تعالى. ومنهم من قال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما ضحك إنكارا على الحَبْر اليهودي. فسبحان الله! وفي الحديث يقول: إنما ضحك تعجبًا وتصديقًا، وهؤلاء يقولون: ضحك إنكارًا عليه. ومنهم من قال: إن لفظة (ضحك) وَهْمٌ من الرواة، فلا أصل لا وأنها من غلط بعض الرواة، وقالوا: كيف يضحك على التشبيه والتجسيم. فنسأل الله العافية من قول هؤلاء.
وسبب ذلك أنهم ظنوا أن في هذا تشبيه، واستوحشوا من إثبات الصفات. ونحن نقول: ليس في هذا تشبيه، بل نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله، فلله -تعالى- أصابع تليق بجلاله وعظمته لا نعلم كيفيتها. قال -تعالى-: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فالرسول أعلم الناس بربه، أثبت الأصابع لله عز وجل، والله -تعالى- أثبت لنفسه اليدين فقال: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فكيف تستوحشون من إثبات ما أثبته الله -تعالى- لنفسه، وما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فائدة:
ما وقع فيه العلماء الكبار من الزلات والهفوات والتأويلات، مع طول باعهم في العلم؛ سبب ذلك أنه لم يكن عندهم تحقيق في الاعتقاد وإثبات الصفات على مذهب أهل السنة والجماعة؛ وذلك لأنهم لم ينشئوا على معتقد أهل السنة والجماعة، وظنوا أن هذا هو التشبيه.
وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- في نونيته: (الكافية الشافية): أن من جهل في هذه المسألة، وأراد الحق وسلك طريقًا آخر لم يوصل إليه، أن أمرهم يدور بين أربعة أمور:
1 - الذنب: فإما أن يكون مذنبًا، أي: بقي عليه ذنب.
2 - المغفرة: أي بأن يكون مغفورًا له.
3 - الخطأ المغفور: أي بأن يكون قد اجتهد وأخطأ، فله أجر.
4 - أن يكون قد اجتهد، فأصاب، فله أجران.
ونرجوا للعلماء الكبار أن يكون مغفورًا لهم؛ لأنهم لم يتعمدوا هذا، بل ظنوا إن هذا هو الحق، أن هذا هو التنزيه، اجتهادًا منهم رحمهم الله. لكن هذا يوجب على طالب العلم، أن يعتني بمعتقد أهل السنة والجماعة حتى لا يَزِلَّ كما زَلَّ هؤلاء العلماء الكبار.
(1/46)
حديث: "إن الله يمسك السماوات على إصبع"
7415 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي، حدثنا الأعمش سمعت إبراهيم قال: سمعت علقمة يقول: قال عبد الله جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه ثم قرأ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ .
الشرح:
(النواجذ): هي الأسنان التي تلي الأضراس، وقيل: الأضراس. وتقدم معناه في الحديث الذي قبله.
(1/47)
باب قول النبي: "لا شخص أغير من الله"
حديث: "أتعجبون من غيرة سعد"
20 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم - لا شخص أغير من الله وقال عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك لا شخص أغير من الله .
7416 - حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك عن وراد كاتب المغيرة عن المغيرة قال: قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله؛ ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله؛ ومن أجل ذلك وعد الله الجنة .
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات أن الله -تعالى- شخص، بمعنى أنه يخبر عنه -سبحانه- أي: ذات مستقلة.
فيخبر عن الله بأنه شخص، كما يخبر عنه بأنه ذات وبأنه أحد، وبأنه شيء. فهذا من باب الخبر لا من الصفات. فباب الخبر أوسع من باب الصفات. ففي هذا الحديث إثبات أنه شخص، كما ثبت في قصة خُبيب أنه ذات، كما قال: …اثنين في ذات الله وقول خُبيب -رضي الله عنه- …وذلك في ذات الإله .
والحديث فيه إثبات الغيرة لله -عز وجل- وهي من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، ومن آثارها تحريم الفواحش. وفيه أنه يخبر عن الله -تعالى- أنه (أحد): لقوله: ( لا أحد أحب إليه المدح من الله؛ من أجل ذلك مدح نفسه). وقوله: (لا أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين): من أجل أن تنقطع المعذرة، قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .
وسعد -رضي الله عنه- قال: (لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح): أي لضربته بحد السيف لا بعرضه. وهذه غيرة عظيمة، فقال -صلى الله عليه وسلم -: (أتعجبون من غيره سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني).
(1/48)
باب "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ"
حديث: "أمعك من القرآن شيء؟"
21 - باب قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ
فسمى الله -تعالى- نفسه شيئًا، وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم - القرآن شيئا، وهو صفة من صفات الله، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ .
7417 - حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل: أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا لسور سماها .
الشرح:
فيه إثبات أنه يطلق على الله -تعالى- أنه شيء وذلك من باب الخبر، وقول البخاري (فسمي الله نفسه شيئًا) كما قال الله -تعالى-: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ فسمى الله نفسه شيئًا أي: أخبر عن نفسه بأنه شيء، فكل موجود شيء، والذي لا شيء معدوم، فالمعدوم يقال له: لا شيء والموجود يقال له: شيء. فلا يقال: من صفاته أنه شيء، لكن يخبر عنه أنه شيء، ولا يقال: من صفاته ذات، ولا يقال: من صفاته شخص، وأخبر عن نفسه بأنه أحد قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فباب الخبر أوسع من باب الصفات، فيخبر عن الله بأنه شيء، وبأنه ذات، وبأنه موجود، وبأنه أحد ولا يقال: من صفاته أنه موجود، ولا يقال: من صفاته أنه شيء، ولا يقال: من صفاته أنه أحد، بل يخبر عنه بأنه ذات وشخص وشيء وأحد وموجود.
قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أخذ البخاري من هذا الإخبار عن الله بأن شيء.
وفيه إثبات الذات والوجه، وأهل البدع يقولون: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي ذاته وقصدهم في ذلك إنكار الوجه.
قوله: (أمعك من القرآن شيء): هذا هو الشاهد، فسمى القرآن شيئًا، فيخبر عن القرآن بأنه شيء، وهو صفة من صفاته.
(1/49)
باب "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"
حديث: "كان الله ولم يكن شيء قبله"
22 - باب وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
قال أبو العالية اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارتفع فسواهن خلقهن وقال مجاهد استوى علا على العرش، وقال ابن عباس (المجيد): الكريم و (الودود): الحبيب يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد محمود من حمد.
7418 - حدثنا عبدان قال: أخبرنا أبو حمزة عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال: إني عند النبي -صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قبلنا جئناك لنتفقه في الدين؛ ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان، قال: كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء، ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك، فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، فإذا السراب ينقطع دونها، وأيم الله، لوددت أنها قد ذهبت، ولم أقم .
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف -رحمه الله- إثبات صفة الاستواء على العرش، وإثبات العرش، وأنه مخلوق عظيم وصف بالعظمة، ووصف بالكرم، وهو سقف المخلوقات، وهو أعظمها وأوسعها وأعلاها وأرفعها، وهو أول المخلوقات، والله -تعالى- مستوٍ عليه استواء يليق بجلاله وعظمته.
والاستواء من الصفات الفعلية، وكان بعد خلق السماوات والأرض، فالله -تعالى- خلق العرش، ثم بعد ذلك خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش، بعد خلق السماوات والأرض استواء يليق بجلاله وعظمته، كما بين الله ذلك في آيات كثيرة، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ و (ثم): للترتيب والتراخي.
فدل على أن الاستواء من الصفات الفعلية، فتارة كان مستويًا على العرش، وتارة لم يكن مستويًا عليه.
والاستواء على العرش علو خاص، وهو من الصفات الفعلية، بخلاف العلو، فإنه من الصفات الذاتية الملازمة للرب، فالرب لم يزل قط، ولا يزال عاليًا على مخلوقاته، فهو فوق المخلوقات سبحانه.
والمؤلف -رحمه الله- صدَّر الترجمة بهاتين الآيتين: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ؛ ليبين أن العرش مربوب، وكل مربوب، فهو مخلوق، فالعرش مع سعته وعظمه وكونه أكبر المخلوقات، فهو مربوب مخلوق كائن بعد أن لم يكن، والله استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، وهو -سبحانه- ليس بحاجة إلى العرش ولا إلى غيره، فهو -سبحانه- الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ .
وصفة الاستواء، وصفة العلو والرؤية، كلها من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وغيرهم، فالذين يثبتون الاستواء والعلو والرؤية هم أهل السنة ومن نفاها فهو من أهل البدع، فأراد الإمام البخاري -رحمه الله- أن يرد على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ممن ينكر الاستواء.
والاستواء معناه معلوم في اللغة العربية -كما ذكر الإمام البخاري هنا -: والسلف لهم عبارات أربع في معنى الاستواء: (صعد، وعلا، وارتفع، واستقر). هذا معناه اللغوي، وعبارات المفسرين في تفسير الاستواء تدور على هذه الكلمات الأربع. كما قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم): أي معلوم معناه في اللغة العربية، فمذهب أهل السنة والجماعة أن الله -تعالى- مستوٍ على عرشه بهذه المعاني الأربع، استواء يليق بجلاله وعظمته ولا يكيف، فكيفية الاستواء لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- كما أنه لا يعلم كيفية سمعه، وكيفية بصره، وكيفية غضبه ورضاه وقدرته إلا هو سبحانه، فالكيفية منفية؛ لذلك قال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب) وفي رواية أنه قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) وروي هذا عن ربيعة شيخ الإمام مالك وروي كذلك عن أم سلمة رضي الله عنها.
وهذه قاعدة في جميع صفات الله -عز وجل- فالسمع -مثلا- معلوم نعرف معناه في اللغة العربية، وأن السمع ضد الصمم والبصر ضد العمى، لكن لا نعلم كيفية سمعه ولا كيفية بصره لك قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ العرش والماء مخلوقان -أولا- قبل خلق السماوات والأرض، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ .
ووصف الله -تعالى- نفسه أنه: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وتمدح الرب بأنه ذو العرش كما قال سبحانه: إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ووصف العرش أنه كالقبة على العالم، ووصف بأن له قوائم. كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش .
ووصف بأن المقادير مكتوبة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء في ذلك الوقت. ووصف العرش بأنه سقف الفردوس الذي هو أعلى الجنة ووسط الجنة.
قوله: اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أي ارتفع. هذا هو المعنى اللغوي للاستواء.
قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ قرئت (المجيد): بضم الدال، وعلى هذا تكون صفة لله تعالى، وقرئت "المجيدِ " بكسر الدال، وعلى هذا فتكون صفة للعرش. والجهمية يقولون: ليس هناك عرش، بل هو معنوي وليس حسيًّا، ويقولون في قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ أي الملك، أي: استوى على الملك. وقولهم هذا باطل. بل هو أي: العرش: سرير عظيم ذو قوائم تحمله الملائكة، مقبب وهو سقف المخلوقات وأعظمها وأعلاها، فهو جسم، بمعنى أن له ذاتًا ليس معنويًّا، بل هو حسي.
قوله: الودود: الحبيب. هذا استطراد من المؤلف حيث فسر الآية التي قبلها وهي قوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ أي الحبيب المتودد لعباده.
قوله: إنك حميد مجيد كما في التشهد، وهما اسمان من أسماء الله، و (المجيد): كثير الصفات.
قوله: ( اقبلوا البشرى يا بني تميم....) إلخ. فيه أن بني تميم استعجلوا، فأراد -صلى الله عليه وسلم - أن يبشرهم بالخير، فاستعجلوا، فكأنهم أرادوا شيئا من الدنيا؛ فلذلك غضب النبي -صلى الله عليه وسلم - فلما جاء أهل اليمن قال: اقبلوا البشرى بعد إذ لم يقبلها بنو تميم فقالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين؛ ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان...: أي: يسألوه عن أول هذا الأمر المشاهد من المخلوقات كالسماوات، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية: (كان الله ولم يكن شيء معه) وفي لفظ: كان الله ولم يكن شيء غيره
وفيه إثبات وجود الله، وأن الله -سبحانه- هو الأول وليس قبله شيء. كما قال تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فسر النبي -صلى الله عليه وسلم - هذه الأسماء الأربعة في حديث الاستفتاح في قوله: اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء فقوله: الظاهر، فيه إثبات العلو، والباطن، الذي لا يحجبه شيء من خلقه.
قوله: (وكتب في الذكر كل شيء): الذكر هو اللوح المحفوظ، كتب فيه كل شيء. ففيه إثبات الكتابة لله -عز وجل- وأنها من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم كتب الله مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء إذًا المقادير مكتوبة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي حين كتابة المقادير كان العرش على الماء، فالعرش والماء مخلوقان قبل كتابة المقادير.
وهذا من الأدلة على أن العرش مخلوق قبل القلم، والمسألة فيها قولان لأهل العلم في أول المخلوقات، هل هو العرش أو القلم؟ حكاها ابن القيم في النونية فقال:
والناس مختلفون في القلم الذي
كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أم هو بعده
قولان عند أبي العلا الهمدانِي
والحق أن العرش كان قبلُ لأنه
قبل الكتابة كان ذا أركان
فالصواب أن العرش مخلوق -أولا- قبل القلم، كما في حديث الباب، وفي حديث آخر: أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ربي وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء وفي لفظ آخر: فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة فكتابة المقادير كانت عند أول خلق القلم، أي: قال له الله: اكتب عند أول خلقه، فالأولية مقيدة بالكتابة وهذا أصح القولين. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أفاد أنه عند كتابة المقادير، كان عرشه على الماء، فالعرش والماء موجودان أولا.
قوله: (ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك، فقد ذهبت... لوددت أنها ذهبت، ولم أقم): أي: ود عمران -رضي الله عنه- أنه جلس عند النبي -صلى الله عليه وسلم - حتى يستمع للعلم، ويستفيد، ولو ذهبت الناقة.
فائدة:
المراد بأهل اليمن كل من كان على يمين الكعبة يسمى يمن، وليس المراد به الحدود الجغرافية المعروفة الآن، فغامد وزهران وتهامة كلها تدخل في اليمن
(1/50)
حديث: "إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة"
7419 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام حدثنا أبو هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض -أو القبض- يرفع ويخفض .
الشرح:
فيه إثبات أن العرش على الماء، والله -تعالى- فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد.
وفيه إثبات اليمين لله -عز وجل- ومفهومه أن اليمين يقابلها الشمال، وثبت ذلك في الحديث الآخر: أن لله يمين وشمال، وكلتا يديه يمين في الشرف والفضل والكرم وعدم النقص.
فيد الله (ملأى) من الخير (لا يغيضها) أي: لا ينقصها نفقة (سحاء) أي: دائمة الصب، الليل والنهار. (وبيده الأخرى الفيض) الفيض أي: الإحسان والعطاء. و (القبض) أي: قبض الأرواح، وقيل: المعنى: (بيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع) كما في الحديث الآخر.
وهذا يتفق مع الرواية الأخرى، فيكون المراد بالقبض في هذه الرواية أي: الميزان.
قوله: (وعرشه على الماء) هذا هو الشاهد من الحديث.
(1/51)
حديث: "اتق الله وأمسك عليك زوجك"
7420 - حدثنا أحمد حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس -رضي الله عنه - قال: جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: اتق الله، وأمسك عليك زوجك. قال أنس لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئًا لكتم هذه قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله -تعالى- من فوق سبع سماوات وعن ثابت وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة .
الشرح:
زيد بن حارثة كان مولى للنبي -صلى الله عليه وسلم - وكان النبي تبناه في أول الإسلام، فكان يدعى زيد بن محمد ثم أبطل الإسلام التبني قال تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وزوجه النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو مولى بقرشية، وهي زينب بنت جحش وهي قريبة للنبي -صلى الله عليه وسلم -، فحصل بينها وبين زيد خلاف وسوء تفاهم، فكان يأتي للنبي -صلى الله عليه وسلم - ويشكو فيقول له النبي -صلى الله عليه وسلم - اتق الله وأمسك عليك زوجك ثم بعد ذلك طلقها، ثم تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك، بعد أن أمره الله -تعالى- أن يتزوجها وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي: أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه أنت بالعتق، ثم قال تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي: يخفي في نفسه أنه لو طلقها، فإن الله سيزوجها إياه بعد ذلك. ثم قال: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ أي: تخشى أن يقولوا: تزوج ابنة ابنه الدعي.
قال أنس لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتمًا شيئًا لكتم هذه، ثم بين الله -تعالى- الحكمة: من ذلك وهي إبطال التبني فقال: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا فهذا دعي ليس ابن صلب ولا ابن رضاع. وكان في الجاهلية، وأول الإسلام يتبنون، ثم أبطله الله تعالى. ثم قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا أي: انقضت عدتها زوجها الله إياه، فكانت -رضي الله عنها- تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات، فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم - من دون مهر، ومن دون عقد، فالله -تعالى- هو الذي زوج نبيه. وهذا فخر عظيم لها، رضي الله عنها.
والشاهد قوله: ( من فوق سبع سماوات ) ففيه إثبات العلو لله -عز وجل- وأنه فوق السماوات، سبحانه وتعالى.
(1/52)
حديث: "إن الله أنكحني في السماء"
7421 - حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عيسى بن طهمان قال: سمعت أنس بن مالك -رضي الله عنهم- يقول: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش وأطعم عليها يومئذ خبزًا ولحمًا، وكانت تفخر على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم - وكانت تقول: إن الله أنكحني في السماء .
الشرح:
هذا الحديث آخر ثلاثيات البخاري وهي تقارب ثلاث وعشرين، يكون بين البخاري والنبي -صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: شيخ البخاري والتابعي والصحابي، فيكون بذلك السند عاليًا.
قوله: (وأطعم الناس خبزًا ولحمًا) في رواية أخرى (وأشبع الناس خبزًا ولحمًا). فكان أنس -رضي الله عنه- يدعو حتى لا يجد أحدًا. وفي وليمته على صفية أطعم الناس حَيْسًا، وهو سمن وتمر وأقط، فدل على أنه لا يشترط أن يكون في الوليمة لحم.
قوله: إنها كانت تقول: (إن الله أنكحني في السماء): هذا هو الشاهد، أي: أن الله في العلو والعرش أعلى المخلوقات، والله -تعالى- له أعلى العلو، وهو ما فوق العرش.
(في السماء): (في ) ظرفية على الصحيح. وتأتي (في) بمعنى (على). فإذا أريد بالسماء الطباق المبنية صارت (في) بمعنى (على) تقول: الملائكة في السماء أي: على السماء كقوله تعالى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: على الأرض، وقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي: على جذوع النخل. وتقول: فلان في السطح، أي: على السطح، فهنا (في) بمعنى (على). وإذا أريد بالسماء العلو، فتكون (في) ظرفية على بابها.
(1/53)
حديث: "إن رحمتي سبقت غضبي"
7422 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي .
الشرح:
هذا فيه إثبات العلو لله تعالى، والشاهد من الحديث قوله: (كتب عنده فوق عرشه) سبق في الأحاديث أن العرش فوق المخلوقات، لكن هذا علو خاص بهذا الكتاب الذي كتبه الله فوق العرش. وقوله: (كتب عنده): العندية هنا بمعنى الفوقية، والمراد عنده في العلو، قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وفي الحديث إثبات الرحمة والغضب لله -عز وجل- لقوله: (إن رحمتي سبقت غضبي).
(1/54)
حديث: "إن في الجنة مائة درجة"
7423 - حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني محمد بن فليح قال: حدثني أبي، حدثني هلال عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما، كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة .
الشرح:
هذا الحديث فيه بشارة عظيمة، وهو أن من وحّد الله -تعالى- ومات على التوحيد دخل الجنة.
قوله: (هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه، التي ولد فيها): هذا فيمن أسلم، وجلس في بلده، أو باديته، فلا بأس في ذلك، لا سيما بعد فتح مكة فقبل فتح مكة كانت الهجرة واجبة، ثم لما فتحت مكة قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية). فقوله: (هاجر من بلده...) محمول على أن هذا بعد فتح مكة وهو مقيم في أرضه التي يقيم فيها دينه.
قوله: (إن في الجنة مائة درجة): فيه أن أهل الجنة يتفاضلون، والمجاهدون لهم هذه الدرجات العظيمة التي أعدها الله -تعالى- لهم.
قوله: (فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة): هذا فيه دليل على أن الجنة مقببة؛ لأنها لو كانت مربعة، أو مسدسة، لم يكن أعلاها هو وسطها، والذي يكون وسطه هو أعلاه هو المقبب، فالقبة وسطها أعلاها، والشاهد من الحديث قوله: (وفوقه عرشه الرحمن): والله -تعالى- فوق العرش مستوٍ عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، إذًا الجنة في أعلى العلو، وأعلاها الفردوس. قوله: (وفوقه): بفتح القاف، ورُوي بضم القاف، ويكون المعنى وسقفه عرش الرحمن.
(1/55)
حديث: "فإنها تذهب تستأذن في السجود"
7424 - حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم هو التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: دخلت المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - جالس، فلما غربت الشمس، قال: يا أبا ذر هل تدري أين تذهب هذه؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب تستأذن في السجود فيؤذن لها، وكأنها قد قيل: لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، ثم قرأ ذلك مستقر لها في قراءة عبد الله
الشرح:
المؤلف -رحمه الله- أشار إلى الرواية الأخرى أنها (تذهب، وتسجد تحت العرش): وهذا هو الشاهد، أي: أنها تسجد تحت وسط العرش، فالعرش سقف المخلوقات. فتسجد تحت العرش كل يوم إلا في الليلة التي يريد الله أن تطلع من مغربها، فلا يؤذن لها، فذلك مستقر لها.
(1/56)
حديث: "فتتبعت القرآن حتى وجدت"
7425 - حدثنا موسى عن إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت وقال الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن ابن السباق أن زيد بن ثابت حدثه قال: أرسل إليّ أبو بكر فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ حتى خاتمة براءة حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس بهذا وقال: مع أبي خزيمة الأنصاري
الشرح:
هذا في قصة جمع القرآن، لما أمر أبو بكر -رضي الله عنه- زيد بن ثابت بجمع القرآن، فكان زيد بن ثابت -رضي الله عنه- ومن معه من الشباب يجمعون القرآن، ويكتبونه في المصاحف، لكن لا يكتبون آية حتى يجدونها محفوظة في الصدور، ومكتوبة في سطور، حتى يجمعوا بين الأمرين، حتى أعوزتهم آية لم يجدوها، لم يجتمع فيها الشرطان، ثم وجدوها مع خزيمة الأنصاري وهي آخر آية من سورة براءة لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ومراد البخاري -رحمه الله- الاستدلال بقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ على إثبات العرش، وأن الله -تعالى- فوق العرش. فسياق الآية هو الذي يتبين فيه مناسبة الحديث للترجمة.
(1/57)
حديث: "كان النبي يقول عند الكرب"
7426 - حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن سعيد عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم .
الشرح:
هذا دعاء يدعى به عند الكرب والشدة، قوله: (لا إله إلا العليم الحليم) في رواية أخرى (العظيم الحليم) وقوله: (رب السماوات ورب الأرض): في رواية أخرى (رب السماوات): وليس فيها رب الأرض.
وهذا الدعاء دعاء عبادة، وفي ضمنة دعاء المسألة، فهو يذكر الله، ويثني عليه، ويهلل، يريد من الله أن يفكّ كربته، وأن يزيل عنه الشدة، فهو دعاء في المعنى ودعاء العبادة، مثل الصلاة والصدقة والصيام، كل هذه الأمور من دعاء العبادة، فالمصلي يطلب الثواب من الله -تعالى- في المعنى، والصائم كذلك، أما دعاء المسألة، فمثل إذا دعا ربه بلسانه، فقال: اللهم اغفر لي الهم ارحمني، وهكذا جميع العبادات التي يفعلها الإنسان كلها من دعاء المسألة؛ لأن المتعبد سائل في المعنى، فقوله (لا إله إلا الله العليم الحليم..): هذا دعاء عبادة؛ لأنه يريد بذلك أن يفرج الله كربته.
(1/58)
حديث: "الناس يصعقون يوم القيامة"
7427 - حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: الناس يصعقون يوم القيامة، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش .
7428 - وقال الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش .
الشرح:
قوله: (فأكون أول من بعث): على ما بينه المحققون، وهْمٌ من الرواة، وإنما صوابه: (فأكون أول من يفيق): لأن هذا الصعق، إنما هو صعق في موقف يوم القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء صعق الناس، سبب هذه الصعقة هو تجلي الله -تبارك وتعالى- للخلائق، وهي غشية تصيب الناس، ليس فيها موت. فقوله: (فأكون أول من بعث): انقلاب من بعض الرواة، تخالف الرواية الأخرى الصحيحة: (فأكون أول من يفيق): فَوَهمَ بعض الرواة، وانتقل به الأمر من صعقة التجلي إلى صعقة البعث؛ لأن البعث ليس فيه استثناء. هذا الذي عليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كَثير وجماعة من المحققين. والشيخ الألباني له كلام ليس بجيد في هذا الموضع، حيث وهَّم العلماء الكبار، واختار أن الرواية سليمة.
قوله في الرواية الأخرى: (فأكون أول من يفيق) جاء في رواية أنه -صلى الله عليه وسلم - قال: أنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة .
والناس يصعقون ثلاث صعقات، وتفصيل ذلك، أن الناس يصعقون في الدنيا صعقتين، صعقة الموت والفزع، ثم صعقة البعث، قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ هذه صعقة الموت.. ثم قال: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ هذه صعقة البعث. أما الصعقة الثالثة، فهي المذكورة في هذا الحديث، وهي صعقة التجلي تكون يوم القيامة، لما يتجلى الله -تعالى- للخلائق سبحانه وتعالى.
وهذه الترجمة فيها إثبات العلو لله -تعالى-، والترجمة السابقة فيها إثبات الاستواء والعرش.
والفرق بين صفة العلو وصفة الاستواء على العرش، أن صفة العلو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن البارئ أبًدا، فلم يزل -سبحانه وتعالى- عاليًا فوق المخلوقات، وأما صفة الاستواء على العرش، فهي صفة فعلية، كان في وقت لم يكن مستويًّا على العرش، وفي وقت كان مستويًا، فقبل خلق السماوات والأرض كان العرش موجودًا، ولم يكن الله مستويًا عليه، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض. كما بينه -سبحانه- في الآيات. أما العلو، فالرب -سبحانه- لم يزل قط عاليًا. ومن الفروق أيضًا بين صفة الاستواء على العرش، وبين صفة العلو، أن صفة الاستواء على العرش صفة دل عليها الشرع دون العقل، لولا أن الله أخبرنا أنه مستو على العرش لما علمنا، بخلاف صفة العلو، فإنه دل عليها الشرع والعقل والفطرة، فالناس فطروا على أن الله في العلو وأنه فوق المخلوقات، فهذه الترجمة أراد بها المؤلف إثبات صفة العلو والترجمة التي قبلها، أراد بها إثبات صفة الاستواء على العرش.
وصفة العلو وصفة الاستواء على العرش، من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وكلاهما من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع.
قوله: (فأكون أول من يفيق): فأول من يفيق نبينا -صلى الله عليه وسلم -، فإذا أفاق وجد موسى -عليه السلام- آخذ بقائمة من قوائم العرش، فيقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: لا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة يوم الطور؟ لأن موسى -عليه السلام- صعق يوم الطور في الدنيا لما قال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فالنبي -صلى الله عليه وسلم - شكّ هل موسى -عليه السلام- لم يصعق مجازاة له بالصعقة التي حصلت له في الدنيا، أو أنه صعق، فأفاق قبلي وفي كلتا الحالتين هي منقبة لموسى عليه السلام.
(1/59)
باب قول الله: "تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ"
حديث: "اعلم لي علم هذا الرجل"
23 - باب قول الله -تعالى-: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ وقوله جل ذكره: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وقال أبو جمرة عن ابن عباس بلغ أبا ذر مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال لأخيه: اعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء. وقال مجاهد (العمل الصالح، يرفع الكلم الطيب) يقال: ذي المعارج: الملائكة تعرج إلى الله .
الشرح:
قوله: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ العروج يكون من أسفل إلى أعلى، فدل أن الله في العلو.
قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والصعود يكون من أسفل إلى أعلى، فدل على أن الله في العلو، وله -سبحانه- أعلى العلو، وهو فوق العرش.
قوله: (يأتيه خبر من السماء): هذا هو الشاهد، فالخبر يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم - من السماء من فوق، فدل على أن الله -تعالى- في العلو.
قوله: (العمل الصالح يرفع الكلم الطيب): يرفع: بفتح الياء. والمعنى أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله، والله -تعالى- في العلو.
قوله: (الملائكة تعرج إلى الله): أي: أن الملائكة تعرج إلى الله من أسفل إلى أعلى، والله -تعالى- فوق العرش.
(1/60)
حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل"
7429 - حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم بكم- فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم، وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون .
الشرح:
هذا فيه أن بني آدم ليسوا مهملين، بل وَكَّلَ الله بهم ملائكة حفظة وكتبة، فكل واحد من بني آدم له كاتبان، وعليه حافظان، فالكاتبان واحد عن يمينه، وواحد عن شماله، والحافظان واحد من أمامه، وواحد من خلفه، أربعة أملاك في الليل، وأربعة في النهار، يتعاقبون اثنان كتبة واثنان حفظة، ويجتمعون في صلاة الصبح، وفي صلاة العصر، ففي صلاة الصبح يعرج ملائكة الليل، وينزل ملائكة النهار، وفي صلاة العصر يعرج ملائكة النهار، وينزل ملائكة الليل.
قوله: (فيعرج الذين باتوا فيكم): هذا هو الشاهد، فيعرجون من أسفل إلى أعلى، إلى الله -عز وجل-، فيسألهم -سبحانه وتعالى- وهو أعلم بهم (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم، وهم يصلون وأتيناهم، وهم يصلون).
هذا فيه فضل المصلي لصلاتي الفجر والعصر، حيث تنزل ملائكة النهار، وهو يصلي، وتعرج ملائكة الليل، وهو يصلي، لكن النائم ماذا تقول الملائكة لربها؟ فهذا يفيد الحذر من التهاون في هاتين الصلاتين بخاصة الفجر والعصر.
(1/61)
حديث: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب"
7430 - وقال خالد بن مخلد حدثنا سليمان حدثني عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:- من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يُربيها لصاحبه، كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل ورواه ورقاء عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم - لا يصعد إلى الله إلا الطيب .
الشرح:
قوله: (ولا يصعد إلى الله إلا الطيب): هذا هو الشاهد، فالصعود يكون من أسفل إلى أعلى، ففيه إثبات العلو لله عز وجل. فالطيب يصعد إلى الله، أما الخبيث فلا يصعد إليه.
قوله: (من تصدق بعدل تمرة...) أي: بما يعادلها.
قوله: ( ثم يتقبلها بيمينه): فيه إثبات اليمين لله -عز وجل- وأن لله يمين، وفي مفهومه أن لله شمالا كما جاء في الحديث، فله يمين، وله شمال، وفيه فضل الصدقة من الطيب، وأن الله -تعالى- يُرَبّيها إذا كانت من كسب طيب، ولو كانت قليلة، ولو كان عَدْل تمرة. والله -تعالى- يُربيها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه، يُرْوَى (فلوه): بفتح الفاء المعجمة وضم اللام وتشديد الواو، ويُرْوَى (فَلْوَه) بفتح الفاء وسكون اللام وفتح الواو. والفَلْوُ هو (ولد الفرس).
وأهل البدع ينكرون أن الله -تعالى- في العلو إنكارًا شديدًا، حتى أنك لو رفعت إصبعك إلى السماء، وعندك جهمي لو استطاع أن يقطع إصبعك لقطعه، من شدتها عليهم، والجهمية يقولون: إن الله -تعالى- في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فإذا قيل لهم: كيف تدفعون الضرورة؟ فما قال أحد: لا إله إلا الله إلا رفع بصره إلى السماء، حتى البهائم ترفع بصرها إلى السماء، قالوا: هذا على حسب العادة، أو لأن الأنوار تأتي من فوق، وإلا لو عصبت عينيه لما علم يدعو من أسفل، أو من أعلى، أو لأن الملائكة تنزل من فوق، لا لأن الله -تعالى- في العلو، تعالى الله عما قالوا علوًّا كبيرًا.
حتى أن بعض من انتكست فطرته كبِشْر المريسي الجهمي الملحد سمع، وهو يقول: في سجوده: (سبحان ربي الأسفل) قبحه الله تعالى.
وشبهت هؤلاء أنهم يقولون: لو كان الله في العلو لكان محصورًا، ولكان جسمًا محدودًا متحيزًا، والله لا يحصره شيء، ولا يحويه شيء، وهو ذاهب في الجهات كلها، ومعنى كلامهم أنه مختلط في المخلوقات، نعوذ بالله،ويقولون: لا يكون الله -تعالى- على العرش؛ لأنه لا يكون الشيء على الشيء إلا إذا كان جسمًا محدودا، وإذا كان جسمًا صار مكونًا من أشياء، وكان مخلوقًا، وبزعمهم أن هذا تنزيه لله -تعالى- وهو تعطيل. فقولهم هذا باطل؛ لأن ما قالوه يلزم من المخلوق، أما الخالق -سبحانه- فلا يماثل المخلوقات.
(1/62)
حديث: "لا إله إلا الله العظيم الحليم"
7431 - حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهن عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب العرش الكريم .
الشرح:
هذا دعاء الكرب، وفي الباب السابق: (لا إله إلا الله العليم الحليم... رب السماوات ورب الأرض). والشاهد قوله: (رب العرش العظيم): فالله -تعالى- رب العرش ورب المخلوقات، والعرش فوق المخلوقات وسقفها، والله -تعالى- فوق العرش لا يخفى عليه شيء من مخلوقاته، ولا من أعمال عباده. وفيه أن العرش مربوب، وكل مربوب فهو مخلوق.
(1/63)
حديث: "إن من ضئضئ هذا قومًا"
7432 - حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن أبيه، عن ابن أبي نعم أو أبي نعم -شكَّ قبيصة - عن أبي سعيد قال: بعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بذهبية، فقسمها بين أربعة وحدثني إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أبيه، عن ابن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: بعث عليٌّ -وهو باليمن - إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بذهبية في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي ثم أحد بني مجاشع وبين عيينة بن بدر الفزاري وبين علقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب وبين زيد الخيل الطائي ثم أحد بني نبهان فتغيظت قريش والأنصار فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا قال: إنما أتألفهم، فأقبل رجل غائر العينين ناتئ الجبين، كث اللحية، مشرف الوجنتين محلوق الرأس، فقال: يا محمد اتق الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: فمن يطيع الله إذا عصيته، فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني فسأل رجل من القوم قتله، أراه خالد بن الوليد فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم - فلما ولى قال النبي -صلى الله عليه وسلم - إن من ضئضئ هذا قومًا يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد .
الشرح:
هذا فيه أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما أمَّره النبي -صلى الله عليه وسلم - على أهل اليمن أرسل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بقطعة ذهبية بتربتها لم يزل عنها التراب، فقسمها النبي -صلى الله عليه وسلم - بين أربعة من رؤساء القبائل يتألفهم على الإسلام؛ لأن إيمانهم ضعيف فأعطاهم حتى يتقووا على الإسلام، ومن ثَمَّ يُطوعون قبائلهم عليه، فالرسول -صلى الله عليه وسلم - يعطي لله -تعالى- ومن أجل مصلحة الإسلام. والأقرع بن حابس هو رئيس بني تميم وعيينة بن حصن رئيس فزارة وعلقمة بن علاثة رئيس بني عامر ويزيد الخيل من رؤساء طي فتغيرت قريش والأنصار وقالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، جاء في بعضها أن الذي قال ذلك بعض الشباب من الأنصار فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم - بجمعهم فجمعوا في خيمة ليس معهم أحد، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم -: ما كلمة بلغتني عنكم، فسكتوا رضي الله عنهم وفي بعضها أنهم قالوا: أما كبارنا فلم يتكلم أحد، وأما الشباب منا حداث الأسنان، فقالوا: يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعطي أهل نجد ويدعنا، فقال -صلى الله عليه وسلم -: إني وكلتكم إلى إسلامكم، وإني أتألفهم على الإسلام، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم في قصة حنين أو في غيرها.
قوله: (يا محمد اتق الله): وفي لفظ أنه قال: (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) وفي لفظ: (اعدل يا محمد ).
قوله: (فيأمنني على أهل الأرض...) الحديث ليس فيه دليل على علو الله -تعالى- لكن المؤلف -رحمه الله- أراد أن يشير إلى الرواية التي فيها إثبات ذلك وهي قوله: (ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء) وفي لفظ: (يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء). فهذا هو الشاهد أن الله -تعالى- في العلو.
قوله: (من ضئضئ هذا): أي من جنسه وأصله.
قوله: (لا يجاوز تراقيهم) وفي لفظ (لا يجاوز حناجرهم): وفي لفظ: تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية وهم الخوارج ثم قال: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان) يقتلون أهل الإسلام؛ لأنهم عصاة عندهم. ولا يقاتلون أهل الأوثان، بل سهامهم موجهة للمسلمين.
وقد استدل بعض العلماء على كفر الخوارج وقالوا مما يدل على أنهم كفار قوله: (يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية) وفي رواية: يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه وقال: (لأقتلنهم قتل عاد): فشبههم بعاد، وهم قوم كفار. وقال آخرون من أهل العلم إنهم متأولون، وليسوا كفارًا، ولكنهم مبتدعة، وهذا الذي عليه أكثر الصحابة قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ولما سئل علي -رضي الله عنه عنهم: أكفار هم؟ قال: (من الكفر فروا). وذلك لأنهم متأولون.
(1/64)
حديث: "مستقرها تحت العرش"
7433 - حدثنا عياش بن الوليد حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، عن أبي ذر قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم - عن قوله وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا قال: مستقرها تحت العرش.
الشرح:
قوله: (تحت العرش): المراد وسط العرش، وإلا فالعرش سقف المخلوقات كلها، فكل شيء تحته، لكن المراد، تحت وسط العرش. والله -تعالى- فوق العرش، وهذا هو الشاهد، ففيه إثبات العلو لله تعالى.
(1/65)
باب قول الله: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ"
حديث: "إنكم سترون ربكم"
24 - باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
7334- حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد أو هشيم عن إسماعيل عن قيس عن جرير قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم - إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا .
7435 - حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي حدثنا أبو شهاب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: إنكم سترون ربكم عيانًا .
الشرح:
هذا الباب عقده المؤلف -رحمه الله- لبيان ثبوت رؤية الله -عز وجل- في القيامة، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة. وهذه من مسائل الاعتقاد، التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة والمخالفين لهم من أهل البدع، مع أنها واضحة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، فالآيات الكريمة صريحة في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وكذلك السنة المتواترة صريحة في ذلك؛ لهذا جاء عن كثير من السلف من أهل السنة إطلاق الكفر على من أنكر رؤية الله يوم القيامة، وقالوا: من أنكر الرؤية كفر. وهذا على وجه العموم، لكن الشخص المعين لا بد أن تقوم عليه الحجة.
ومن الأدلة الصريحة على رؤية المؤمنين لربهم الآية التي صَدَّر بها المؤلف ترجمة الباب، قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فإن الله -تعالى- أضاف النظر إليه، ونسب النظر إلى الوجوه، وعداه بحرف (إلى) الذي يدل على أن النظر يكون بالعين، التي تكون بالوجه إلى الرب جل جلاله. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ من النضرة والحسن والبهاء. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ من النظر بالعين وقوله -تعالى-: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ فاللقاء يكون معه نظر. وقوله -تعالى-: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ جاء تفسير المزيد بأنه النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ فالزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم. وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ استدل بها العلماء على رؤية المؤمنين لربهم قالوا: لما حجب الكفار في السخط، دل على أن المؤمنين يرون ربهم في الرضا، ولو كانوا لا يرون الله -تعالى- لتساووا مع أعداء الله في الحجب.
ومن السنة الأحاديث التي ساقها المؤلف -رحمه الله- وهي كثيرة جدًّا. ومع وضوح الأدلة على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فقد أنكرها أهل البدع كالجهمية وأَوَّلُوها بالعلم، فهي رؤية علم عندهم، مع أن الأحاديث صريحة في هذا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: ترون ربكم، كما ترون الشمس صحوًا، ليس دونها سحاب، وترون ربكم، كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته ثم قال: فإنكم ترونه كذلك فهل هناك دليل أصرح من هذا. وهل يقال: هذا رؤية علمية أم رؤية بصرية؟. نعم تأتي الرؤية بمعنى العلم القلبي، وتأتي بمعنى النظر بالبصر، وتكون بمعنى الحلم قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ هذه الآية قال بعضهم: إنها في رؤيا الحلم، ولكن المراد رؤية العيان التي رآها في الإسراء. أما رؤية الحلم الصريحة فقوله -تعالى-: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ لكن لا بد من قرينة ترجح أحد أقسام الرؤية الثلاث، وأي قرينة أعظم من قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس صحوًا، ليس من دونها سحاب) فهل يقال عن هذه رؤية علمية؟ لكن من أعمى الله بصيرته، فلا حيلة فيه.
فالجهمية والمعتزلة يقولون: إن الرؤية علمية، ويقولون: لا يمكن أن يرى الله؛ لأن الذي يرى لا بد أن يكون محدودًا، ولا يُرى إلا الأجسام، ولا بد أن يكون له جهة، والجهات من صفات الأجسام، فيلزم من الرؤية أن يكون في جهة، ولو كان في جهة لكان محتاجًا إلى جهة، ولكان محدودًا وجسمًا ومتحيزًا، وكل هذا لا يليق بالله.
والصواب أن نقول: إن كل هذه اللوازم باطلة، فالله -سبحانه وتعالى- في العلو.
وأما الأشاعرة فأثبتوا الرؤية، لكن لا إلى جهة، فقالوا: يرى لكن لا إلى جهة، وهذا غير معقول، فهم يقولون: نثبت الرؤية، لكن لا يرى من فوق، ولا من تحت، ولا من أمام، ولا من تحت، ولا عن يمين ولا عن شمال، وإذا قيل لهم: أين يرى؟ قالوا: يرى لكن لا إلى جهة، وهذا غير معقول وغير متصور، حتى أنه ضحك جمهور العقلاء من كلام الأشاعرة ؛ لأن المرئي لا بد أن يكون في جهة من الرائي، ولا بد أن يكون مقابلا له. فالقول أن هناك شيئًا يرى لا في جهة غير معقول؛ ولهذا تسلط عليهم المعتزلة وقالوا: أنتم مذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، إما أن تثبتوا الرؤية، فتكونوا أعداء لنا كأهل السنة، الذين يسمونهم مجسمة، وإما أن تنفوا الرؤية، فتكونوا إخوانًا لنا.
قوله: (فنظر إلى القمر ليلة البدر) وفي لفظ: (ليلة أربع عشرة): والقمر يكون بدرًا مستديرًا كاملا ليلة أربع عشرة، ويكون واضحًا جدًّا، ويكون في كبد السماء، كل يراه إلا الذي لا يبصر بخلاف القمر في أوله، أو آخره، فيكون ناقصًا.
قوله: إنكم سترون ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر هذا تشبيه للرؤية، وليس تشبيهًا له -تعالى- بالقمر، فهو تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس تشبيه المرئي بالمرئي، فالله -تعالى- لا يشابهه أحد من خلقه، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ومعنى الحديث: أنكم ترون ربكم رؤية واضحة، لا لبس فيها، كما أنكم ترون القمر الذي فوق رءوسكم رؤية واضحة لا لبس فيها.
قوله: (لا تضامون): فيها أوجه: (لا تضامون): بفتح التاء وضم وتخفيف الميم، وروي: (لا تضامون): بفتح التاء وتخفيف الميم، ورُوي: (لا تضامون): بضم التاء وتخفيف الميم، ورُوي: (لا تضامون): بضم التاء وتشديد الميم، والمعنى لا يصيبكم ضيم، ولا تعب، ولا مشقة في رؤيته. ومن المعلوم أنه لا يحصل لأحد زحام، ولا مشقة في رؤية القمر ليلة البدر، بل كل يراه من مكانه بدون مشقة، وليس كالشيء يكون في الأسفل، والناس صافون كل يريد أن ينظر إليه، هذا إذا زاحمك فيه الناس، أو من هو أطول منك، فإنك لا تراه ولا تبصره، أما إذا كان فوق رأسك فلا يضيرك أحد.
قوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس...): المراد بالصلاة قبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، والصلاة قبل غروبها هي صلاة العصر، فالحديث يفيد الحث على المحافظة على هاتين الصلاتين، وأن المحافظة عليهما لهما سر في رؤية الله -عز وجل- وإن كان جميع الصلوات يجب المحافظة عليها، لكن ينبغي تخصيص هاتين الصلاتين بمزيد عناية.
فصلاة الفجر تكون في أول النهار، وفي لذة النوم والراحة، وكذلك صلاة العصر.
ولأنه من حافظ على هاتين الصلاتين، فإنه في الغالب يكون محافظًا على جميع الصلوات، ومن ضيع هاتين الصلاتين، فهو لما سواهما أضيع.
قوله: (إنكم سترون ربكم عيانا): (عيانا): مصدر عاين يعاين عيانًا كقاتل يقاتل قتالا، ومعنى (عيانًا): أي: معاينة ورؤية بالأبصار، ففيه إثبات الرؤية وأنها بصرية. وفيه الرد على أهل البدع من المعتزلة والجهمية وغيرهم، الذين ينكرون الرؤية. فالمعتزلة يقولون: إن معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم.. لا تضامون في رؤيته) المعنى: أن تعلموا أن لكم ربًّا لا تشكون فيه، كما لا تشكون في القمر، أنه قمر هكذا أولوا الرؤية بالعلم، وهذا من أبْطل الباطل.
أما الرؤية في الدنيا، فالصواب أنها غير واقعة. فرؤية الله -تعالى- في الدنيا ليست مستحيلة عقلا، لكنها غير واقعة شرعًا، لأن أهل الدنيا لا يستطيعون، أن يثبتوا لرؤية الله عز وجل، فموسى -عليه السلام- كليم الرحمن لما سأل الرؤية بين الله -تعالى- له بأنه لا يستطيع تحمل ذلك رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فالجبل لم يثبت لرؤية الله -عز وجل- بل تدكدك، فصار دكا وصعق موسى فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يراك أحد في الدنيا إلا تدهده. أما الرؤية في الآخرة فجائزة عقلا، وواقعة شرعًا. والناس ينشئون تنشئة قوية، يتحملون فيها رؤية الله -عز وجل- قال تعالى: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ .
وهذا متفق عليه أنه لم ير الله أحد في الدنيا إلا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - ففيه خلاف بين العلماء على قولين:
1 - قال بعض أهل العلم: إن النبي -صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج.
2 - القول الثاني: وهو قول الجمهور: إن النبي -صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه ليلة المعراج، وهذا هو الصواب، أن الله -تعالى- كلمه من دون واسطة لكن لم يره؛ ولهذا قالت عائشة لما قال لها مسروق (هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قَفَّ شَعَرِي مما قلت، من حدثك أن محمدًا رأى ربه، فقد كذب). ومما يدل على صحة هذا القول، قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ والرسول -صلى الله عليه وسلم - بشر، ومن استثناه فعليه الدليل، وليس هناك دليل يدل على استثنائه، وكذلك في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام حجابه النور -وفي لفظ النار- لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وهذا عام يشمل النبي -صلى الله عليه وسلم - لأنه من خلق الله تعالى. ولما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه أي: أن النور حجاب بيني وبينه، يمنعني من رؤيته. وهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.
أما رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم - لربه في المنام فثابتة؛ لذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن جميع الطوائف أثبتوها إلا الجهمية فمن شدة إنكارهم لها، أنكروا رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم - لربه في المنام.
وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن من أثبت الرؤية في الدنيا من السلف أراد الرؤية القلبية، ومن منعها أراد الرؤية البصرية، وبهذا تجتمع الأدلة.
فائدة:
قوله: (نور أنى أراه): (أنى) اسم استفهام واستبعاد، والمعنى كيف أراه، والنور حجاب يمنعني من رؤيته، وفي لفظ: (رأيت نورًا). جاء في آثار ذكرها الخلال أن الله -تعالى- احتجب بحجب كثيرة.
وهذا النور، وهو الحجاب الذي منع نبينا من رؤية ربه، مخلوق وهو غير النور الذي هو صفة من صفات الله -عز وجل-، فصفات الله غير مخلوقة.
فائدة:
الجائز عقلا هو الذي يمكن وقوعه، لكن هناك مانع، والمستحيل هو الذي لا يمكن، ولا يتصور العقل وقوعه.
(1/66)
حديث: "إنكم سترون ربكم"
7436 - حدثنا عبدة بن عبد الله حدثنا حسين الجعفي عن زائدة حدثنا بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم حدثنا جرير قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته .
الشرح:
قوله: (كما ترون هذا): أي: القمر،والقمر إنما يكون بدرًا في منتصف الشهر، فيسمى بدرًا، وفي أول الشهر يسمى هلالا. والقمر ليلة البدر يكون كاملا مستديرًا من جميع الجهات، ويكون فوق الرءوس في وسط السماء، بخلاف الهلال في أول الشهر يكون ناقصًا وبعيدًا من جهة الغرب، فلا يزال يكمل شيئًا فشيئًا، حتى يتم استواؤه ليلة البدر، ثم بعد ذلك ينقص شيئًا فشيئًا في آخر الشهر، حتى يكون في جهة المشرق.
فائدة:
قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ الضمير يعود إلى الله عز وجل. قال بعضهم: أي: لا تراه في الدنيا. والمعنى الآخر: أن الأبصار تراه، لكن لا تحيط به رؤية لكمال عظمته، فنفي الإدراك قدر زائد على الرؤية، والمعنى أنه تراه الأبصار، ولكن لا تدركه رؤية يوم القيامة، فالله -تعالى- أجل من أن تدركه الأبصار، كما أن العباد يعلمونه، ولا يحيطون به علمًا، فكذلك يرونه ولا يحيطون به رؤية، فلا يمكن للمخلوق أن يحيط بالخالق، بل هناك بعض المخلوقات تراها في الدنيا، ولا تحيط بها رؤية، فأنت ترى الجبل العظيم، ولكن لا تحيط به رؤية، بل يخفى عليك شيء من جهاته، وكذلك ترى البستان، ولا تحيط به رؤية، وترى السماء ولا تحيط بها رؤية، فالسماء واسعة وأنت لا ترى إلا الذي أمامك، وهي مخلوق صغير لا تساوي شيئًا مع عظمة الله عز وجل. وأنت ترى مدينة الرياض ولكن لا تحيط بها رؤية. فإذا كانت هذه مخلوقات لا تحيط بها، فكيف يحاط بالخالق سبحانه وتعالى؟! فهو أجل من أن يحيط به العباد.
(1/67)
حديث: "هل نرى ربنا يوم القيامة؟"
7437 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة - رضي الله عنه-: أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا، يا رسول الله، قال: فهل تضارون في الشمس، ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا، فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها -شك إبراهيم- فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاءنا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه.
ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوة الرسل يومئذ الله سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم، يا رسول الله قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق، بقي بعمله، أو الموثق بعمله، ومنهم المخردل، أو المجازى، أو نحوه، ثم يتجلى حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يُخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد.
ويبقى رجل منهم مقبل بوجهه على النار- هو آخر أهل النار دخولا الجنة- فيقول: أيْ ربِّ اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيدعو الله بما شاء أن يدعوه، ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة، ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أيْ رب، قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيت أبدًا، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك!! فيقول: أيْ رب ويدعو الله حتى يقول: هل عسيت إن أُعطيت ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غيره، ويُعطى ما شاء من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة فإذا قام إلى باب الجنة انفهقت له الجنة، فرأى ما فيها من الحبرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب أدخلني الجنة فيقول الله: ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت، فيقول: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك!! فيقول: أي رب لا أكونن أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه، فإذا ضحك منه قال له: ادخل الجنة، فإذا دخلها قال الله له: تمنه، فسأل ربه وتمنى حتى إن الله ليذكره يقول: كذا وكذا حتى انقطعت به الأماني، قال الله: ذلك لك ومثله معه .
الشرح:
قوله: (هل ترون الشمس ليس دونها سحاب... فإنكم ترونه كذلك): هذا صريح في رؤية الله -عز وجل-، وأنها رؤية بصرية، وصريح في الرد على أهل البدع كالجهمية والمعتزلة الذين قالوا: إن الرؤية هنا رؤية علمية قلبية. وما ذاك إلا لأن الشُّبَه استولت عليهم، وأعمت بصائرهم، ووقع في أذهانهم أن رؤية الله فيها تنقص له، وقالوا: لو قلنا: إننا نراه لكان محدودًا في جهة معينة، والمحدود معناه أن يكون متحيزًا تحوزه الأشياء، وإذا كان مرئيًّا لا بد أن يكون جسمًا، والجسم مركب من أجزاء، والله منزه عن ذلك، فهو واحد لا يتجزأ، فلا يكون جسمًا ولا متحيزًا ولا في جهة؛ ولذلك أنكروا الرؤية ونفوها. ويقولون: كل هذا من لوازم الرؤية البصرية، فهذا يستلزم أنها ليست رؤية بصرية، فليس عندهم مستند على إنكارها إلا عقولهم وشبههم الفاسدة. وكل هذه الشبه باطلة، وكلها من زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار؛ لأن جميع هذه اللوازم تلزم المخلوق، فهو المحدود والمتحيز، وهو المركب من أجزاء، أما الله -تعالى- فلا يشبه خلقه، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فهو -سبحانه- يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون رؤية واضحة، ولا يحيطون به رؤية؛ لأنه سبحانه لا تدركه الأبصار.
قوله: (من كان يعبد شيئًا فليتبعه): أي: من كان يعبد شيئًا في الدنيا فليتبعه، فكل يتبع معبوده، (فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت): أي: يتبعونهم إلى النار، كما في الحديث الآخر أنهم يساقون على النار فمن كان يعبد الشمس كالوثنين يساقون مع الشمس إلى النار والشمس تكون معهم في النار، والقمر كذلك، وكذلك من كان يعبد الشجر والحجر، ومن كان يعبد الطواغيت كذلك، فكل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت، وهذا عام، إلا الأنبياء والصالحون الذين لم يرضوا، استثناهم الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وكذلك جاء في الحديث الآخر أن اليهود يقال لهم: ما كنتم تعبدون، فيقولون: نعبد عُزيرًا ابن الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولدًا، ثم يساقون إلى النار، وكذلك النصارى يقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولدًا، ثم يساقون إلى النار. وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فالمنافقون صاروا مع المؤمنين لأنهم ينتسبون إلى الإسلام في الدنيا، ثم بعد ذلك يحصل الانفصال بينهم وبين المؤمنين.
قوله: (فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم): لأنه لا يبقى إلا المؤمنين؛ لأن كل أمة تبعث معبودها، ولم يبق إلا هذه الأمة فيها منافقوها، فيقول: لهم ما كنتم تنتظرون، فيقولون: ننتظر ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، وقد جعل الله -تعالى- بينه وبينهم علامة، وهي كشف الساق.
قوله: (فيأتيهم الله صورته التي يعرفون): هذا فيه إثبات الصورة لله -عز وجل- وأن الله -تعالى- له صورة حقيقية، وهي صفة من صفاته الذاتية. وقوله: (فيأتيهم) فيه إثبات صفة الإتيان لله -عز وجل- وهي من الصفات الفعلية.
وقد خلط كثير من أهل الكلام وغيرهم في مسألة الصورة. ذكر ابن حجر منها أقوال:
1 - فمنهم من قال: إن الصورة هنا بمعنى الصفة.
2 - منهم من قال: الصورة بمعنى صورة الحال إلى غير ذلك من التأويلات الباطلة.
والصواب إثبات الصورة لله -عز وجل- وهذا الذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة والعلماء الأكابر كالإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم، استدلوا بهذه الأحاديث على إثبات الصورة لله -عز وجل- وأن الله له صورة لا تشبه الصور: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ كسائر صفاته، سبحانه وتعالى.
ثم بعد ذلك إذا رآه المؤمنون -كما في الحديث الآخر- سجدوا له، وأراد المنافقون أن يسجدوا، فيجعل الله ظهر كل واحد منهم طبقًا واحدًا، فلا يستطيع السجود، كما قال -تعالى-: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الآية.
ثم بعد ذلك ينطلق المؤمنون، ومعهم المنافقون كل معه نور، ثم ينطفئ نور المنافقين، ويصبحون في ظلام دامس، ويقولون للمؤمنين إذا ذهبوا أمامهم: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي: انتظرونا لعلنا نقتبس من نوركم، فيقال لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ فزال بهرجهم الذي ظنوا أنه ينفعهم يوم القيامة، فخادعوا الله -تعالى- والمؤمنين في الدنيا، وعاد وبال خداعهم عليهم، فخدعوا في الآخرة، وانطفأ نورهم، فصاروا مع الأشقياء نسأل الله -تعالى- العافية.
ثم يضرب الصراط على متن جهنم، والأمر في ذلك اليوم عظيم، فلا يتكلم إلا الرسل ودعوة الرسل (اللهم سلم سلم). وعلى الصراط (كلاليب مثل شوك السعدان، لكن لا يعلم عظم قدره إلا الله): شوك السعدان في الدنيا صغير، لكنه يشبه ما في الآخرة في الكيفية والهيئة، لكن عظمها وحقيقتها لا يعلمها إلا الله: (فتخطف الناس على قدر أعمالهم): تخطف، من خطف يخطف كفرح يفرح. وفي الحديث الآخر أن الناس يمرون على الصراط على قدر أعمالهم فيكون أولهم كالطرف، ثم كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاويد الخيل والركاب، أي: الإبل. تجري بهم أعمالهم، ونبينا -صلى الله عليه وسلم - يقول: (اللهم سلم سلم) ثم يأتي من يَعْدُو عَدْوا، ثم من يمشي مشيًا، ثم من يزحف زحفًا، وعلى الصراط كلاليب تخطف من شاء الله وتلقيه في النار، جاء في حديث ضعيف: ( أن النار تقول: جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي ) ومن سلم وتجاوز الصراط، فقد سلم ومآله إلى الجنة.
قوله: (فيأتيهم على الصورة التي يعرفون): سبق في موضع آخر في مسألة الصورة، أنهم يرون ربهم أربع مرات، جاء فيه: فيرونه على غير الصورة التي يعرفون، فيقولون: نعوذ بالله هذا مكاننا، ثم يرونه في الصورة التي يعرفون، ثم يسجدون له، ثم يرونه فيتحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وفي المرة الأولى لما رأوه في موقف يوم القيامة فهذه أربع مرات. وسبق إثبات مسألة الصورة في حديث: إن الله تعالى خلق آدم على صورته .
فائدة:
المؤمنون يرون الله -عز وجل- في المحشر في موقف القيامة، ويرونه بعد دخولهم الجنة، والكفار فيهم خلاف، من العلماء من قال: إنهم يرونه، ثم يحتجب عنهم، كما قال الله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ومنهم من قال: إنهم لا يرونه، وإنما يلقونه لقاء بدون رؤية؛ لقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ومنهم من قال: يراه المؤمنون والمنافقون على ما في الحديث: إن الكفرة يحشرون مع معبوديهم إلى النار، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيرون الله ثم يسجدون لله، والمنافق لا يستطيع السجود ومنهم من قال: إن المنافقين يرون الله، ثم يحتجب عنهم بعد ذلك. ومنهم من قال: إنهم لا يرونه رؤية رضى، بل رؤية غضب وأنه -سبحانه- يكلمهم كلام غضب.
قوله: (فمنهم الموبق بقي بعمله): الظاهر أنها: (يقي بعمله). والكلمة فيها خلاف في ضبطها.
قوله: (حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد): أي: قضى حسابهم، وانتهى الحساب، كما قال الله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ هذا أسلوب عربي معروف، ولا يلزم من ذلك الانشغال، بل هذا في حق المخلوق، تقول العرب: سأفرغ لك لمن تريد أن تهدده، وهو ليس مشغولا بشيء، والمعنى تهديد له بمعنى أنك سوف تلقى جزاءك، وليس المعنى أني مشغول لك، قوله: (وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار...) إلخ. هذه الشفاعة في عصاة الموحدين. ممن يشهد أن لا إله إلا الله، أي: يُوَحِّد الله، لكنهم دخلوا بكبائر عملوها، وماتوا عليها من غير توبة، كالزنا وشرب الخمر وعقوق الوالدين والسرقة، أو قطيعة الرحم،أو الْغِيبة والنميمة، أو التعامل بالربا، أو أكل مال اليتيم، أو غيرها من الكبائر، لكنهم مؤمنون مُوَحِّدون يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويصلون، فعلامة السجود لا تأكلها النار، وفي الحديث الآخر: إن الله حرم على النار أن تأكل صورهم أي: وجوههم قوله: (فيخرجون من النار، وقد امتحشوا): بفتح التاء على صيغة البناء للفاعل: أي احترقوا.
قوله: (كما تنبت الحبة في حميل السيل): الحبة: بكسر الحاء المهملة: أي البذرة التي تصلح للبذر، وليست (الحبة): بالفتح للحاء. فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة شيئًا فشيئًا.
قوله: (وأحرقني ذكاؤها): أي: حرها، وهذا الرجل آخر أهل النار خروجًا، وآخر أهل الجنة دخولا.
قوله: (لا وعزتك): هذا حلف بصفة من صفات الله -عز وجل-، وهي صفة العزة، كما قال الله -تعالى- عن إبليس: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) وكما جاء أن النار حلفت بعزة الله، فلا بأس بالحلف باسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، وفي لفظ آخر: أن الله -تعالى- يأخذ عليه العهود والمواثيق ألا يسأله غيرها، فإذا أخذ الله منه العهود والمواثيق صرف الله وجهه عن النار إلى الجهة الأخرى، ثم يبقى ما شاء الله. وهنا فيه أنه صار إلى الجنة، وفي اللفظ الآخر: أنه يرفع له شجرة، فيقرب إليها وهكذا من شجرة إلى شجرة، حتى يصل إلى باب الجنة، وفي كل مرة يأخذ الله عليه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، ثم يسأل بعد مدة وربه يعذره؛ لأنه يرى شيئًا لا صبر له عنه، حتى يصير إلى باب الجنة فيقول: يا رب أدخلني الجنة، فيقول الله له: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك!! ألم آخذ عليك العهود ألا تسأل غيرها، فيقول: يا رب، لا أكون أشقى خلقك، فيضحك الله، فإذا ضحك الله أدخله الجنة، ثم يقال له: تمنَّ، فيتمنى حتى تنقطع الأماني، وفي لفظ يذكره ربه، أسأل كذا وكذا، فإذا انقطعت أمانيه، قال الله له: لك ذلك، ومثله معه، وجاء في حديث أبي سعيد أنه قال: أما ترضى أن تعطى مثل ملك من ملوك الدنيا، ولك مع ذلك ما اشتهت نفسك ولذة عينك ولا موت، ولا مرض، ولا بول، ولا غائط، ولا شيخوخة، ولا هموم، ولا غموم، وهذه لا تحصل للملوك فيقول: رضيت يا رب، فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله خمس مرات وفي الحديث الذي بعده: قال له لك ذلك وعشرة أمثاله خمسين مرة، مثل ملك من ملوك الدنيا. وهذا آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة.
قوله: (انفهقت له الجنة): أي تفسحت أمامه واتضحت له الرؤية.
قوله: (فيرى ما فيها من الحبرة والسرور) الحَبْرة، بفتح الحاء المهملة وسكون الباء المعجمة، أي: اللذة والكرامة.
قوله: (حتى يضحك الله منه):فيه إثبات الضحك لله -عز وجل- وهو من الصفات الفعلية. وقد أنكر أهل البدع صفة الضحك لله تعالى، وتأولها بعضهم بالرضا أي أنه -رضي- عليه، وهذا باطل فالنبي -صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بربه أثبت لربه الضحك، وهو ضحك لا يشبه ضحك المخلوق، يليق بجلال الله وعظمته، ولا نعلم كيفيته.
قوله: (حتى إن الله ليذكره): أي: يذكره بالأشياء التي ليست على باله حتى يسألها، قال الله تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقال سبحانه: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ فكل ما يطلبونه وتشتهيه أنفسهم يحصل لهم، ومع ذلك هم خالدون لا ينقطع نعيمهم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
(1/68)
حديث: "قال ذلك لك ومثله معه"
7438 - قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئًا، حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله -تبارك وتعالى- قال ذلك لك، ومثله معه قال أبو سعيد الخدري وعشرة أمثاله معه، يا أبا هريرة قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله: ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد الخدري أشهد أني حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة فذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة.
الشرح:
هذا من حرص الصحابة -رضي الله عنهم- فأبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: سمعت الرسول -صلى الله عليه وسلم - يقول: (لك ذلك ومثله معه) فقط. قال أبو سعيد رضي الله عنه: (أنا سمعته قال وعشرة أمثاله) فقال أبو هريرة لم أسمعه إلا قال: (لك ذلك ومثله معه) فقط. لكن أبو سعيد حفظ من الرسول -صلى الله عليه وسلم - قوله: (وعشرة أمثاله) أي: لك ما حصل من التمني، ومثله معه وعشرة أمثاله. وفي الحديث الآخر أنه يعطى مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة.
(1/69)
حديث: "هل نرى ربنا يوم القيامة؟"
7439 -حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد عن عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوًا؟ قلنا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما، ثم قال: ينادي منادٍ: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، وغبرات من أهل الكتاب ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟
قالوا: كنا نعبد عزيرا ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم.
ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون فيقولون: نريد أن تسقينا فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم، وقد ذهب الناس فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيقولون: الساق فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا، ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم.
قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء تكون بنجد، يقال لها: السعدان، المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب فناجٍ مسلم، وناجٍ مخدوش ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم، يسحب سحبًا، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان، فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار، فأخرجوه فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا.
قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرءوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقوامًا قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول: أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه .
الشرح:
قوله: (فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ...) هذا صريح في رؤية الله -تعالى- يوم القيامة، وأنه يرى رؤية واضحة كرؤية الشمس والقمر، وهو صريح كذلك في أن الرؤية بصرية لا علمية، كما يقول المبتدعة.
قوله: (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم): أصحاب الصليب هم النصارى الذين يعبدون الصليب، ويزعمون أن عيسى صلب من قِبَل اليهود وهذا من جهلهم، فإذا كانوا بزعمهم يعظمون عيسى فكيف يعبدون الصليب الذي صلب عليه نبيهم؟ بل الواجب أن يعادوا الصليب ويكرهوه، مع كذبهم بزعمهم أن عيسى -عليه السلام- صلب قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بل عيسى -عليه السلام- رفعه الله إليه. قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ومعنى قوله: (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم...) أي: يتساقطون في النار.
قوله: (حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر وفاجر): أي: لا يبقى إلا من يعبد الله من العصاة والمطيعين، الذين ليس عندهم شرك ولا كفر، فالكفرة تساقطوا في النار، وبقي الذين يعبدون الله مؤمنهم وعاصيهم من جميع الأمم.
قوله: (وغُبَّرات من أهل الكتاب ): بضم الغين المعجمة، وفتح وتشديد الباء المعجمة: أي: بقايا الموحدين من أهل الكتاب
قوله: (نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا): يسلط عليهم العطش -والعياذ بالله - ويرون الناس كأنها سراب من بعد يحطم بعضها بعضا كأنها ماء. والسراب هو القاع: حينما تمشي في الصحراء والقاع أمامك، تظن أنه ماء. حيث: يخيل لمن يعبد غير الله أن النار ماء، فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: ألا تَرِدون فيَرِدون على النار، فيتساقطون فيها؛ لأنهم ليس لهم توحيد ولا إيمان، والعياذ بالله. وهكذا يُفعل بجميع أصناف الكفرة الذين لا يعبدون الله.
قوله: (فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم.. فيأتيهم الجبار): أي: يقال لهم: الناس كلهم ذهبوا وما بقي إلا أنتم ما تنتظرون؟ قالوا: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم: أي في الدنيا فارقناهم، فهم عبدوا غير الله، ونحن عبدنا الله وحده، ونحن الآن ننتظر ربنا سمعنا مناديًا ينادي ليتبع كل أمة ما تعبد، ونحن نعبد الله، فننتظر ربنا.
قوله: (فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته، التي رأوه فيها أول مرة) هذا فيه إثبات الإتيان لله -عز وجل- كما يليق بجلال الله وعظمته. قال -تعالى-: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وفيه إثبات الصورة لله عز وجل. وفيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم في موقف القيامة مرتين، الرؤية التي رأوه أول مرة هذه ظاهرها مع عموم الناس في المحشر.
والمرة الثانية: في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، بعد ما سيق الكفرة إلى النار.
فهذه الثانية في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، بعدما سيق الكفرة إلى النار.
فهذه رؤية خاصة بالمؤمنين برهم وفاجرهم، والرؤية الأولى التي مع عموم الناس، فيها خلاف هل هي رؤية عامة يدخل فيها عموم الناس؟ أم رؤية خاصة بهم؟ المؤمنون يرونه بالمحشر هذا بالاتفاق، لكن بقية الكفرة قيل: يرونه ثم يحتجب عنهم، وقيل: لا يرونه، وسيأتي مرة ثالثة، حينما يسجدون، فيتحول لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة.
فائدة:
العصاة من المؤمنين يدخلون فيمن يرى ربه في موقف القيامة، أما حديث: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم فهذا من باب الوعيد.
قوله: (فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه): هذا فيه إثبات الساق لله عز وجل، وأن لله -تعالى- ساق لا تشبه صفة المخلوق، والحديث صريح في ذلك؛ لقوله: (فيكشف لهم عن ساقه). وأما الآية الكريمة: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فلا تدل على إثبات الصفة وحدها، لكن إن ضممت إليها الحديث، دلت على إثبات صفة الساق، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
والساق صفة لله -تعالى- وعلامة بينه وبين المؤمنين، فإذا كشف لهم عن ساقه سجد له المؤمنون. وأهل البدع أنكروا هذا أشد الإنكار، وقالوا: إن معنى الساق كناية عن شدة الأمر، واستدلوا بقول العرب: (كشفت الحرب عن ساقها) أي: عن شدتها. والجواب عن ذلك أن نقول: نعم، تأتي الساق في اللغة العربية بمعنى الشدة، لكن المراد بها في الحديث الصفة.
قوله: (ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بيني ظهري جهنم): فيه الوجهان بفتح الجيم وكسرها وهو الصراط.
قوله: (مدحضة مزَلة): مزلة فيها الوجهان بفتح الزاي وكسرها، أي المزلقة.
قوله: (شوكة عقيفاء): عقيفة: تُروى بضم العين وبالفاء الممدودة، وتُروى (عقيفة) بفتح العين وكسر القاف، وهي المنعطفة المعوجة، كما قاله العيني.
قوله: (المؤمن عليها كالطرف): أي يمر على الجسر. قوله: (كأجاويد الخيل والركاب): أي الجيدة من الخيل والجمال المطية التي تسرع، وفي غير الصحيح قال: والرجل يعدو عدوا، والرجل يمشي مشيًا، والرجل يزحف زحفًا، حتى تعجز بهم أعمالهم.
قوله: فما أنتم بأشد مناشدة في الحق، قد تبين لكن من المؤمن يومئذ للجبار).
أي: أن المؤمنين يناشدون الله -عز وجل- فيشفعون في إخوانهم العصاة الذين دخلوا النار.
وسيأتي أنهم يقولون: (يا ربنا، إخواننا كانوا يصلون معنا، وكانوا يصومون معنا فيقول الله: اذهبوا فأخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان....) الحديث. والمعنى أن مناشدة المؤمن لربه أشد من مناشدتكم لي للحق، بعدما تبين لكم. وفيه إثبات شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض.
قوله: (ويحرم الله صورهم على النار): أي: وجوههم، فالوجه يسمى صورة، وسبب تحريمها على النار؛ لأنها موضع السجود. فهم مؤمنون موحدون، لكن دخلوا النار بسبب كبائر ماتوا عليها من غير توبة، طاعة للهوى والشيطان، ولم يستحلوها، كالزنا والسرقة وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وشرب الخمر، أو غير ذلك من الكبائر.
فائدة:
تطلق الصورة على الوجه خاصة، وتطلق الصورة على الجسم كاملا، الذي يشمل ذلك الوجه، والمراد بالصورة في الحديث: وجوههم؛ لأن أجسامهم داخلة في النار، لكن النار لا تأكل الوجوه؛ لأنها موضع السجود.
قوله: (فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه...): هذا بحسب أعمالهم، وهذا للعصاة من الموحدين، أما الكفار فتغمرهم النار، وتصلاهم من جميع الوجوه، قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ
والمؤمنون لا يخرجون من يشفعون فيهم إلا بالعلامة التي يجعلها الله -تعالى- على عصاة الموحدين، الذين في النار، فيعرفونهم بها، كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - لا يشفع حتى: (يحد الله له حدًّا): فيخرج من النار من حد الله له. حتى تبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، بل يخرجون برحمة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى. وجاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم - يشفع ويقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن أي: الكفار، وهذا في ظنه -صلى الله عليه وسلم - وإلا فقد ثبت أنه (يبقى بقية لم تنلهم الشفاعة، يخرجهم الله -تعالى- برحمته).
قوله: (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه..): أي: زيادة على التوحيد والإيمان.
قوله: (فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار...): يخرج الله -تعالى- من النار من كان موحدًا ممن لم تنلهم الشفاعة، وفي اللفظ الآخر: (لم يعملوا خيرًا قط): أي: زيادة على التوحيد والإيمان. أما الكفار فلا يخرجون من النار، كما أخبر الله -تعالى- وهو أصدق القائلين: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا .
وفي الحديث إثبات القبض لله -عز وجل- كما يليق بجلاله وعظمته، وهو من الصفات الفعلية.
قوله: (كما تنبت الحِبة في حميل السيل): الحِبة بكسر الحاء المهملة هي البذرة.
(وحميل السيل): أي: ما يحمله السيل. والمعنى أن السيل، حينما يمشي يحمل معه ما تحته ويجره معه فتكون الحبة وهي البذرة في وسط حميل السيل من التارث وغيره فتنبت في وسطه.
قوله: (فما كان إلى الشمس منها، كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض): هذا تمثيل من النبي -صلى الله عليه وسلم -، فالحِبة التي بجانب الصخرة أو بجانب الشجرة، ما كان منها إلى جانب الشمس فهو أخضر، وما كان منها بجانب الظل فهو أبيض.
قوله: (كأنهم اللؤلؤ): هذا بعدما يلقى عليهم الماء من نهر الحياة، يخرجون كأنهم اللؤلؤ، ذهب السواد عنهم، فأضاءت وجوههم، وذلك بعد أن كانوا فحمًا.
قوله: (فيجعل في رقابهم الخواتيم....): هؤلاء الذين يعتقون من النار، يختم على رقابهم ختمًا (عتقاء الله من النار) ثم بعد ذلك، يمحى عنهم.
قوله: (أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه) أي: زيادة على التوحيد والإيمان.
قوله: (فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه): أبو هريرة -رضي الله عنه- حفظ من النبي -صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأبو سعيد -رضي الله عنه- حفظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: (وعشرة أمثاله) وإن كان هذا الحديث، من رواية أبي سعيد وافق ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
فائدة:
الصراط لا يمر عليه إلا المؤمنون، أما الكفار، فلا يمرون على الصراط، بل يساقون إلى النار ويتساقطون فيها -والعياذ بالله- ومن يمر على الصراط من الموحدين، فعلى حسب عمله، فمن كان يمر كالبرق وكالريح، فلا يشعر بحر النار، ومن يمشي مشيًا، ومن يزحف زحفًا قد ينالهم الحر، ومنهم من يسقط. وكذلك من يرى ربه من المؤمنين يكون ذلك على حسب أعمالهم، منهم من يراه كل يوم، ومنهم من يراه كل جمعة... إلخ.
(1/70)
حديث: "يحبس المؤمنون يوم القيامة"
7440 - وقال حجاج بن منهال حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن أنس -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: يحبس المؤمنون يوم القيامة، حتى يهموا بذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء لتشفع لنا عند ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا قال: فيقول: لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب، أكله من الشجرة، وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحًا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن.
قال: فيأتون إبراهيم فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كلمات كذبهن، ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجيًّا قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا -صلى الله عليه وسلم - عبدًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطَ، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحدُّ لي حدًّا، فأخرج، فأدخلهم الجنة .
قال قتادة وسمعته -أيضا- يقول: فأخرج فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثانية فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطَ، قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأخرج فأدخلهم الجنة قال قتادة وقد سمعته يقول: فأخرج فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود قال: ثم تلا هذه الآية عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا قال: وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم، صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
حجاج بن منهال من شيوخ البخاري وهذا الحديث معلق، لكنه موصول من رواية أبي زيد المروزي ووصله الإسماعيلي وجماعة، ورواه مسلم وهنا علقه البخاري لاحتمال أنه سمعه بالمذاكرة، أو عن طريق العرض والمناولة، والحديث على كل حال ثابت.
قوله: (حتى يَهُمّوا): ضبطت (حتى يَهُمّوا): بفتح الياء وضم الهاء وتشديد الميم، كما في صحيح مسلم أي: يعتنوا بسؤال الشفاعة، وإزالة الكرب عنهم، وضبطت (حتى يَهِمّوا): بفتح الياء وكسر الهاء، وضبطت (حتى يُهِموا): بضم الياء، وكسر الهاء، أي: يصيبهم الهم.
قوله: (يحبس المؤمنون): المعلوم أن المؤمنين والكفار يحبسون في هذا الموقف العظيم، لكن سماه حبسًا للمؤمنين، حتى يهتموا، ويسألوا من يشفع لهم عند الله، وهو على الكفار شديد كما قال تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
قوله: (أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده.... وعلمك أسماء كل شيء): وفي لفظ (ونفخ فيك من روحه). وهذه كلها مبررات ذكروها لطلب الشفاعة من آدم -عليه السلام- وهذه كلها خصائص له، عليه السلام.
قوله: (ويذكر خطيئته التي أصاب، أكله من الشجرة): آدم -عليه السلام- يعتذر لأجل ذنب واحد فعله وتاب منه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى فكيف بمن عليه ذنوب كثيرة، ولم يتب منها!.
قوله: (ولكن ائتوا نوحًا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض): هذا صريح في أن نوحًا هو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض عمومًا؛ لأن آدم لم يبعث إلا لبنيه خاصة، ولم يوجد الشرك في زمنه، فهو نبي بعث إلى بنيه، أما نوح فبعث إلى بنيه وإلى غير بنيه، وبعث بعد وقوع الشرك.
والفرق بين النبي والرسول: أن النبي هو الذي ينبأ في نفسه، ويأتيه الوحي في مسائل خاصة بما يتعلق بالمؤمنين، أما الرسول فإنه يرسل على قوم كفار يؤمن به بعضهم، ويكفر به بعضهم هذا هو الصحيح في هذه المسألة.
قوله: (سؤاله ربه بغير علم): قال الله -تعالى- عن نوح: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ فسؤاله ما ليس له به علم، هو سؤاله لربه نجاة ابنه، وفي الرواية الأخرى يعتذر بأن خطيئته هي دعوته على أهل الأرض، حينما دعا عليهم، فأغرقهم الله عز وجل.
قوله: (ويذكر ثلاث كذبات كذبهن): هذه الكذبات يجادل بها عن دين الله، في اللفظ الآخر اثنتين في ذات الله عز وجل منها أنه لما كسر الأصنام جعل الفأس على الصنم الكبير، فلما سألوه: من فعل؟ هذا قال: كبيرهم. وهو -عليه السلام- يريدهم أن يتأملوا، ويراجعوا أنفسهم حتى يعلموا أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر؛ لأنها لو كانت كذلك لدفعت الضر عن نفسها، وهي تورية في الواقع وليست كذبًا.
والكذبة الثانية: لما ذهبوا إلى احتفالهم، وقالوا له: اذهب معنا قال: إني سقيم فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ يريهم بهذا أن النجوم لا تنفع ولا تضر.
والثالثة: لما قال عن زوجته سارة أنها أخته، وتأول أنها أخته في الإسلام، وهذا من باب التورية، قال: العلماء أنه قال للملك الظالم: إنها أخته حتى لا يغار؛ لأنه لو قال: إنها زوجته لقتلوه. وهذه الثالثة جعلها خاصة به، واثنتين في ذات الله -عز وجل-، وهي كلها تورية. ومع ذلك يعتذر -عليه السلام- لأن الموقف في ذلك اليوم عصيب.
وفي الحديث الآخر: أن كل نبي يقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري .
قوله: (ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجيًّا): هذه خصائص لموسى -عليه السلام- ومع ذلك يعتذر. وقد خط الله التوراة بيده لموسى -عليه السلام- وفي اللفظ الآخر: وخط لك التوراة بيده في قصة احتجاج آدم وموسى وكلمه الله من دون واسطة، وقربه نجيًّا.
قوله: (ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وروح الله وكلمته): هذا وصف عيسى -عليه السلام-،عبد الله ورسوله، لا كما تقوله النصارى إنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وهذا القول كُفْرٌ، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وقال لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فهو عبد وليس إلهًا، ولا ابن للإله مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا فهو عبد لله خلقه الله كسائر خلقه، خلقه الله من أنثى بلا ذكر، من النفخة التي نفخ فيها جبريل -عليه السلام- في جيب درع مريم فحملت بإذن الله.
قوله: (وروح الله): أي: روح من الأرواح التي خلقها سبحانه، وأضيف إلى الله من باب التشريف والتكريم. قوله: (وكلمته): أي: أنه مخلوق بالكلمة، بكلمة (كن) قال الله له: كن فكان، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهو مخلوق بالكلمة، وليس هو الكلمة كما تقوله النصارى ؛ لأن النصارى يقولون: هو نفس الكلمة، فجعلوه جزءًا من الله، تعالى الله عما يقولون، فهذا كفر، ولم يذكر عيسى -عليه السلام- ذنبًا.
وجاء في حديث آخر أنه قال: إني اتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله .
قوله: (فأستأذن على ربي في داره): أي في مكانه، وهو فوق العرش -سبحانه وتعالى-، وهذا شديد على أهل البدع، وهو إثبات المكان، فأهل البدع لا يثبتون المكان، ويتأولون هذا، فيعتقدون أن إثبات المكان... وأن الله -تعالى- في العلو... أن هذا تجسيمًا وتحيزًا.
قوله: (فيقول: ارفع محمد رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه): هذا فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم - إنما يشفع بعد الإذن، ولا يبدأ -أولا-من غير إذن، فقوله: (ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع) هذا هو الإذن.
قوله: (فيحدّ الله لي حدًّا) يكون ذلك بالعلامة بأن يجعل الله له علامة، يخرج من كذا إلى كذا، فيذهب فيخرجهم من النار. فالشفاعة من الله وإلى الله، لكن الله -تعالى- يكرم الشافع بهذه الشفاعة؛ لينال الفضل، وإذا كان هذا في محمد -صلى الله عليه وسلم - أنه لا يشفع إلا بعد إذن الله، فغيره من باب أولى، قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ كما لا يشفع إلا لمن ارتضى الله عمله، وهو الموحد، قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى فلا بد للشفاعة من هذين الشرطين:
1 - إذن الله للشافع أن يشفع.
2 - رضاه عن المشفوع له.
قال -تعالى- في آية أخرى جامعًا بين الشرطين: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى والله -تعالى- لا يرضى إلا عن الموحد.
فائدة:
هنا استشكال: وهو أنه عند ذكر الشفاعة العظمى، تذكر في بعض المواضع من غير تفصيل، ثم تذكر بعدها الشفاعة في إخراج عصاة الموحدين مفصلة؟
أجاب العلماء عن هذا الاستشكال، كشارح الطحاوية وغيره، فكان مما ذكروا: أن الشفاعة العظمى معروفة، ثم إن الشفاعة العظمى يُقرّ بها أهل البدع كالخوارج والمعتزلة وينكرون الشفاعة في عصاة الموحدين. فالعلماء قصدهم في هذا الرد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة في العصاة، الذين قالوا: إن من دخل النار لا يخرج منها.
فالعلماء يتركون التفصيل في ذكر الشفاعة العظمى؛ لأنه متفق عليها؛ وذلك لأن جميع أهل البدع يقرون بها.
قوله: (حتى ما يبقى في النار، إلا من حبسه القرآن أي: وجب عليه الخلود): وهم الكفار الذين أخبر الله -تعالى- في القرآن الكريم أنهم مخلدون في النار، وهذا قاله النبي -صلى الله عليه وسلم - على حسب علمه، وإلا فقد ورد أنه يبقى بقية بعد شفاعة الأنبياء والأفراط والملائكة، يخرجهم الله -عز وجل- برحمته من غير شفاعة أحد من خلقه؛ لقوله -تعالى- في الحديث القدسي: (بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، لم يعملوا خيرًا قط، فيخرجهم برحمته) وفيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم - شفع ثلاث شفاعات، وفي الحديث الآخر: أنه يشفع أربع شفاعات.
قوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا : قال: وهذا هو المقام المحمود الذي وعده نبيكم: والقائل هو أنس -رضي الله عنه-، والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى في أهل الموقف، يغبطه فيها الأولون والآخرون، وهذا هو المعروف في الأحاديث الصحيحة. وقال بعض العلماء عن المقام المحمود: هو أن الله -تعالى- يقعده معه على العرش، وجاء في هذا آثار تدل على ذلك، وفي هذا مخطوطة كاملة تأملتها وقرأتها كلها، فوجدتها كلها تدور على مجاهد -رحمه الله- وهي موقوفة عليه، ومثل هذا لا يكفي في ثبوت هذا، وذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وغيره، وقال: إنه في مسند أحمد، ومن المعروف أن مجاهدًا من أئمة التابعين، وقد يقال: إنه لا بد أن يكون أخذ هذا عن غيره من الصحابة.
وشيخ الإسلام -رحمه الله- نقل عنه بعض الشراح (ولم أقف على كلامه) أن هذا هو قول أهل السنة وأنه لم ينكر ذلك إلا الجهمية. وإذا ثبت هذا: فيكون المقام المحمود شيئان: الشفاعة العظمى، والقعود على العرش، وإلا فالأصل أن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى في أهل الموقف، حتى يقضى بينهم كما في الأحاديث الصحيحة. وعلى كل حال: يحتاج كلام شيخ الإسلام إلى مراجعة.
قوله: (فأخرج فأخرجهم من النار) أي: أخرج من عند ربي من تحت العرش، وأذهب إلى النار، فأخرجهم منها.
(1/71)
حديث: "اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله"
7441 - حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم حدثني عمي، حدثنا أبي، عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة وقال لهم: اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض .
الشرح:
قوله: (اصبروا حتى تلقوا الله.......) هذا هو الشاهد، فيه إثبات اللقاء؛ لأنه لا بد لكل إنسان من لقاء الله -عز وجل- كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ أي: إنك تسعى في الدنيا، وتعمل فملاقٍ ربك، أو ملاقٍ سعيك؛ لأن اللقاء يكون معه رؤية بالنسبة للمؤمنين.
ولقاء الله نوعان:
1 - نوع كامل: وهو لقاء الله -تعالى- للمؤمنين لقاء في البعث والنشور، وعند مجازاتهم على أعمالهم وتكليمه -سبحانه وتعالى- إياهم ورؤيتهم إياه، هذا هو اللقاء الكامل.
2 - النوع الثاني: لقاء الله لغير المؤمنين، وهو لقاء بالبعث والنشور، ومحاسبتهم، وجزاؤهم على أعمالهم، وتكليمهم تكليم غضب من وراء حجاب وليس فيه رؤية كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ .
(1/72)
حديث: "الله ربنا لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض"
7442 - حدثني ثابت بن محمد حدثنا سفيان عن ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم - إذا تهجد من الليل قال: الله ربنا لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، الله لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك خاصمت، وبك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، وما أنت أعلم به مني، لا إله إلا أنت قال أبو عبد الله قال قيس بن سعد وأبو الزبير عن طاوس قيام وقال مجاهد (القيوم): القائم على كل شيء، وقرأ عمر القيام، وكلاهما مدح .
الشرح:
ثابت بن محمد من كبار شيوخ البخاري قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب (صدوق يهم): لكن الحديث له شواهد، وهو ثابت ساقه المؤلف عنه وعن غيره، ساقه المؤلف في كتاب التهجد، وساقه مسلم -رحمه الله- في صلاة الليل؛ فلهذا أثبته المؤلف.
قوله: (أنت قيم السماوات والأرض): هذا من دعاء الاستفتاح كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يستفتح به في الليل. (أنت قيم...) وفي لفظ (أنت قيوم) وفي لفظ (أنت قيام) كلها جاءت بها الأحاديث. وزاد النووي في شرح مسلم لفظة رابعة، وهي (قائم).
قوله: (لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض....): كل هذا من الاستفتاحات العظيمة، حيث توسل -صلى الله عليه وسلم - بالله -عز وجل- بقيوميته وربوبيته، وأنه نور السماوات والأرض.
قوله: (ولقاؤك حق): هذا هو الشاهد من الحديث؛ لأن اللقاء يكون معه رؤية للمؤمنين؛ ولأن المؤلف ذكره في معرض ذكره لأحاديث رؤية المؤمنين لربهم.
قوله: (وقال مجاهد القيوم القائم على كل شيء): كما قال تعالى: قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ .
(1/73)
حديث: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه"
7443 - حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو أسامة حدثني الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه .
الشرح:
هذا الحديث فيه أن كل إنسان سيكلمه ربه، ليس بينه حجاب ولا ترجمان، وفيه إثبات الرؤية للمؤمنين، فالمؤمنون يرون ربهم، ويكلمهم، وقوله: (ولا حجاب يحجبه، أي: ليس هناك حاجب، فعلى هذا يرى ربه بدون حجاب؛ لأنه -سبحانه- يكشف له الحجاب).
وأخطأ من قال: إن الحجاب هنا بمعنى رفعه -سبحانه- الآفة عن أبصار المؤمنين. وهذا من العجب، فكيف يقال: إن المراد بالحجاب (إزالة الآفة عن أبصار المؤمنين، والرسول -صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم بربه يقول: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه).
قوله (تَرجُمان): رويت (تَرجَمان) بفتح التاء والجيم، ورويت (تُرجُمان) بضم التاء والجيم، ورويت (تَرجُمان) بفتح التاء وضم الجيم ثلاث روايات، وبعضهم زاد رواية رابعة (تُرجَمان) بضم التاء وفتح الجيم، ولكنها تحتاج إلى تأمل، والترجمان هو الواسطة الذي يعبر عن غيره، ويطلق على الشخص الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، يقال له: ترجمان، ومن ذلك ابن عباس -رضي الله عنه- كان له في مجلس حديثه ترجمان يبلغ عنه؛ لأن العدد كبير. فالحديث -كما ذكر- فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم؛ لأن كشف الحجاب لهم، يدل على رؤيتهم لربهم.
(1/74)
حديث: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما"
7444 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد عن أبي عمران عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن .
الشرح:
الحديث فيه إثبات النظر إلى الله -عز وجل- لقوله: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه...) وفيه إثبات رداء الكبرياء لله -عز وجل-؛ لقوله (إلا رداء الكبرياء) وهو صفة من صفاته، كما يليق بجلال الله وعظمته، خلافًا لأهل البدع الذين أنكروا هذا، وفي الحديث الآخر: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته فالعظمة إزار الله، والكبرياء رداؤه.
وأخطأ العَيْنِيّ -رحمه الله- لما قال: (إن هذا الحديث من المتشابهات، إذ لا رداء حقيقة، ولا وجه) فهذا خطأ والصواب أن الحديث من الواضحات، وهو رداء حقيقي، ووجه حقيقي.
فائدة:
لقاء المؤمنين لربهم لقاء معه نظر، والكفار فيهم الخلاف.
(1/75)
حديث: "من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة"
7445 - حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عبد الملك بن أعين وجامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن عبد الله -رضي الله عنهم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة، لقي الله، وهو عليه غضبان، قال عبد الله: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله، جل ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ الآية .
الشرح:
الحديث فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم؛ لأن اللقاء يكون معه نظر، والشاهد قوله: (لقي الله، وهو عليه غضبان). وفيه إثبات الغضب لله، عز وجل. وهو من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار.
قوله: (من اقتطع يمين امرئ مسلم بيمين كاذبة): المقصود أنه كأنه اشترى هذا المال بيمينه، وهي اليمين الغموس.
(1/76)
حديث: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة"
7446 - حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة، لقد أعطى بها أكثر مما أعطى، وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك .
الشرح:
قوله: (ولا ينظر إليهم) فيه إثبات النظر لله -عز وجل- وهو الشاهد من الحديث. فالمؤمنون ينظرون إلى الله، وهؤلاء لا ينظر الله إليهم.
قوله: (لقد أعطى بها) أي: اشتراها. قوله: (أكثر مما أعطى، وهو كاذب) بفتح الألف، أي: أكثر أعطاه المشتري الثاني، ورُوي بضم الألف، فيكون المعنى أنها سميت منه أكثر مما أعطي: أي أكثر مما سامها الثاني، وهو كاذب. قوله: (بعد العصر): هذا الشخص ختم نهاره بالحلف الكاذب، والواجب أن يختمه بالتسبيح. قوله: (ورجل منع فضل ماء): في حديث آخر (يمنع ابن السبيل): فهذا عنده ماء زائد فاضل عن حاجته، ومع ذلك يمنعه. قوله: (اليوم أمنعك فضلي): هذا ليس فيه تقييد بابن السبيل. وظاهره العموم، حتى وإن لم يكن في البرية، بل حتى لو كان في البلد، فلا يمنع ما يحتاجه المحتاج من فضل الماء، سواء كان من مياه العيون، أو من مياه القنوات والآبار. أما من أراد أن يأخذ الماء منك ليبيعه، فلا بأس من منعه.
(1/77)
حديث: "الزمان قد استدار كهيئته"
7447- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن محمد عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا: منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مضر، الذي بين جُمادى وشعبان، أيُّ شهرٍ هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه يسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة، قلنا: بلى، قال: أيُّ بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلدة؟ قلنا: بلى، قال: فأيُّ يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم، قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم، هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه، أن يكون أوعى له من بعض من سمعه .
الشرح:
قوله: (الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض): كان أهل الجاهلية يلخبطون في الأشهر، وكانوا إذا احتاجوا للقتال في المحرم قدموا صفرًا على المحرم؛ لأن هناك ثلاثة أشهر محرمة متوالية، فيشق عليهم فيها الإمساك عن القتال؛ فلذلك قدموا بعض الأشهر على بعض، فلخبطوا في الأشهر، فبين -صلى الله عليه وسلم - أن الزمان قد استدار ورجع كما شاء الله، وذلك في حجة الوداع.
وسؤال الرسول -صلى الله عليه وسلم - هذه الأسئلة الثلاثة عن البلد المحرم والشهر المحرم، واليوم المحرم لبيان تعظيم الله -عز وجل- لهذه الحرمات الثلاث، وهي الدماء والأموال والأعراض. قوله: (وستلقون ربكم فيسألكم): هذا هو الشاهد من الحديث، ففيه إثبات اللقاء لله تعالى، واللقاء يكون معه نظر.
(1/78)
باب ما جاء في قول الله: "إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"
حديث: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"
25 - باب ما جاء في قول الله -تعالى-: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
7448 -حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن أسامة قال: كان ابن لبعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي، فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى، فلتصبر، ولتحتسب، فأرسلت إليه، فأقسمت عليه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمت معه، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبادة بن الصامت فلما دخلنا ناولوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي ونفسه، تقلقل في صدره حسبته قال: كأنها شنة، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سعد بن عبادة أتبكي؟ فقال: إنما يرحم الله من عباده الرحماء .
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف إثبات صفة الرحمة لله -عز وجل-، وأن الله -تعالى- متصف بالرحمة، كما يليق بجلاله وعظمته كسائر صفاته لا تكيف، فرحمة الله صفة من صفاته. وهي غير الرحمة المخلوقة، فإن الرحمة رحمتان:
1 - رحمة هي صفة من صفات الله قائمة بذاته تليق بجلاله وعظمته.
2 - رحمة مخلوقة كما سيأتي في الحديث أن - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله -تعالى- قال، عن الجنة: أنت رحمتي فهذه رحمة مخلوقة، وكما في الحديث الآخر إن لله -تعالى- مائة رحمة، أنزل إلى الأرض رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق، حتى إن الدابة لترفع حافرها، عن ولدها خشية أن تصيبه وهذه الرحمة المخلوقة هي أثر من آثار رحمة الله -عز وجل- التي هي صفة من صفاته.
قوله: (فأقسمتْ عليه): أي: حلفت أن يأتيها. فبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقسمها، وهذا من حسن خلقه، صلى الله عليه وسلم.
قوله: (نفسه تقلقل) وفي لفظ نفسه تقعقع وهو صوت حشرجة الروح وخروجها من الصدر.
قوله: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء): وفي لفظ (هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) وهذا هو الشاهد من الحديث، ففيه إثبات الرحمة لله -عز وجل-، وفيه فضل الرحمة وأن رحمة الخلق سبب في رحمة الله، لذلك قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
قوله: (فبكى رسول الله، صلى الله عليه وسلم): أي: بكى بدمع العين، أي: أنه دمعت عيناه. وهذا لا بأس به، ولا يؤاخذ عليه الإنسان، وهو ليس من النياحة، وإنما النياحة ما يكون برفع الصوت والصراخ والعويل؛ لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بهذا، أو يرحم، أشار إلى لسانه .
(1/79)
حديث: "اختصمت الجنة والنار إلى ربهما"
7449 -حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم حدثنا يعقوب حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اختصمت الجنة والنار إلى ربهما: فقالت الجنة: يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: يعني: أوثرت بالمتكبرين، فقال الله -تعالى- للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدًا، وإنه ينشئ للنار من يشاء، فيلقون فيها، فتقول هل من مزيد، ثلاثًا حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ، ويرد بعضها إلى بعض، وتقول قط قط قط .
الشرح:
هذا الحديث فيه ذكر اختصام الجنة والنار عند الله عز وجل.
قوله: (اختصمت الجنة والنار) وفي لفظ احتجت الجنة والنار قوله: (فقالت الجنة يا رب: ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم) وفي لفظ (ضعفاء الناس ومساكينهم): ومعنى سقطهم، أي: من لا يؤبه لهم الذين كسقط المتاع، ليس لهم مكانة في المجتمع، لكنهم مؤمنون أتقياء، والمراد هنا الأغلب أي: أنه أغلب من يدخلها الضعفاء، وإلا قد يدخلها الأشراف كأشراف الصحابة -رضي الله عنهم- كأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وعمر وعثمان وعلي كل هؤلاء من الأشراف، وليسوا من السقط، ومع ذلك شهد لهم بالجنة، رضي الله عنهم أجمعين.
قوله: (وقالت: النار يعني: أوثرت بالمتكبرين): وفي رواية: في المتكبرون والمتجبرون وهذا في الأغلب -أيضا- أن غالب من يدخلها المتكبرون الذين يتكبرون، عن توحيد الله -عز وجل- وجحد حق الله، وكذلك يدخلها المتجبرون الذين يتجبرون على عباد الله بالظلم والطغيان. هؤلاء من أهل النار، وقد يدخل النار غير المتجبرين والمتكبرين من أهل الشرك، ولو كانوا من الضعفاء.
فالأتباع يدخلون النار، وإن لم يكونوا متجبرين ولا متكبرين، قال -تعالى-: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الآية. وفي الآية الأخرى يقول الله -تعالى- عنهم: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ فالأتباع والمتبوعين كلهم في النار، والأتباع في الغالب أنهم غير متجبرين وغير متكبرين.
فلما اختصمت الجنة والنار حكم الله -تعالى- بينهما فقال للجنة: ( أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء).
قوله: (ولكل واحدة منكما ملؤها): وفي لفظ: ولكليكما عليّ ملؤها فكل واحدة وعدها الله أن تملأ، فأما الجنة فلا تمتلئ، بل يبقى فيها فضل فينشئ الله -تعالى- لها خلقًا، فيدخلهم الجنة برحمته سبحانه وتعالى. وأما النار فلا تمتلئ، ولكن يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه.
وفي لفظ: حتى يضع رب العزة فيها رجله، فينزوي بعضها لبعض، فتقول: قط قط قط وفي لفظ بسكون الطاء. والمعنى حسبي حسبي، أو يكفي يكفي. ففيه إثبات القدم والرجل لله -عز وجل- كما يليق بجلال الله وعظمته، خلافًا لأهل البدع الذين أنكروا القدم والرجل وبالغوا في الإنكار، فأولوها وقالوا: إن معنى قوله: (حتى يضع رب العزة فيها قدمه): قالوا معنى القدم هنا أي: جماعة من الناس متقدمون يسمون القدم، وكذلك الرجل، تطلق على جماعة من الناس يقال لهم: الرجل، وبعضهم قال: إن هذا من المتشابهات، والحكم فيه إما بالتأويل وإما بالتفويض.
وسبب قولهم هذا أنهم لا يتحملون إثبات الصفات ولا يطيقونها، فهي شجن+ في حلوقهم، أما أهل السنة والجماعة، فأعطاهم الله البصيرة والطمأنينة وانشراح الصدر، ونور بصائرهم، فأثبتوها لله -عز وجل- كما يليق بجلال الله وعظمته والله -تعالى- لا يضره أحد من خلقه، والنار من خلقه، ومع ذلك فلا يضره أحد من خلقه سبحانه وتعالى.
فنؤمن أن الله -تعالى- يضع فيها قدمه على الكيفية التي يعلمها الله، سبحانه وتعالى.
قوله: (وأما النار فينشئ لها خلقًا): فهذا وهم وانقلاب من بعض الرواة، عند المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ؛ لأن الله -تعالى- من كمال عدله لا يعذب أحدًا من غير ذنب. والصواب: (فأما الجنة فينشئ الله لها خلقًا...).
وهذا مما ينتقد على الصحيحين. ومثله الحديث الذي رواه مسلم، رحمه الله حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله فانقلب على بعض الرواة، والصواب حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه والشاهد من الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء).
فقوله: (أنت رحمتي) أي: الرحمة المخلوقة، وهي أثر من آثار رحمة الله -عز وجل- التي هي صفة من صفاته.
فائدة:
قول بعض الشراح (لا محذور في تعذيب الله من لا ذنب له، إذ القاعدة القائلة بالحسن والقبح العقليين باطلة...) إلخ.
قلت: هذا الكلام ليس بصحيح، إنما يتمشى هذا الكلام مع مذهب الجبرية والأشاعرة فقوله (لا محذور في تعذيب الله..) على مسألة الحسن والقبح، هذا على مذهب الأشاعرة الذين يقولون: (إنه يجوز لله أن يعذب أحدًا بغير جرم، ولا يكون هذا ظلمًا؛ لأن الله -تعالى- يتصرف في خلقه كيف يشاء، إنما الظلم هو تصرف المالك بغير ملكه). هذا الكلام باطل كما ذكرت، فالصواب أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
فائدة:
قول الناظم:
ما للعباد عليه حق واجب
كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله وإن نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
هذا الكلام صحيح، وهو مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو عذب أهل السماوات والأرض لعذبهم، وهو غير ظالم لهم والمعنى لو وضع عدله فيهم، وحاسبهم بنعمه عليهم وأعمالهم لكانوا مدينين، وحينئذ لعذبهم وهو غير ظالم.
(1/80)
حديث: "ليصيبن أقوامًا سفع من النار"
7450 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا هشام عن قتادة عن أنس -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليصيبن أقوامًا سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم: الجهنميون وقال همام حدثنا قتادة حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الشرح:
قوله: (سفع): هو الأثر، يقال في وجهه سفع، وهو أثر وتغير بسبب لفح النار.
قوله: ( …الجهنميون ): هم العصاة الموحدون الذين ماتوا على التوحيد، ودخلوا النار بمعاصٍ ارتكبوها، فهؤلاء تسفعهم النار، وتصيبهم بلهبها، ويمكثون فيها ما شاء الله، ثم يخرجون منها بفضل رحمة الله -عز وجل-، فمنهم من يخرج بشفاعة الشافعين، ومنهم من يخرج برحمة أرحم الراحمين، هؤلاء يقال لهم: …الجهنميون وجاء تفصيل ذلك في حديث آخر، أنهم يلقون في نهر الحياة، وأنه تكون في رقابهم الخواتم يقال لهم: …الجهنميون ثم بعد ذلك يسألون الله أن يزيل ذلك عنهم، ثم يمحى عنهم.
(1/81)
باب قول الله: "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ"
حديث: "إن الله يضع السماء على إصبع"
26 - باب قول الله -تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا
7451 - حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات أفعال الله -عز وجل-، فيمسك ويضع هذه من صفات الأفعال. فالله -تعالى- يمسك السماوات والأرض بقوته وقدرته -سبحانه وتعالى- ففي رواية: إن الله يمسك السماء على إصبع فتكون مناسبة للترجمة. قال -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وهو الحامل -عز وجل- للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، وفيه إثبات الأصابع لله -عز وجل- وأنها خمسة أصابع، وأن الله -سبحانه- يضع السماء على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال على أصبع والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع،وفي رواية: ثم يهزهن بيده، ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض .
والأصبع: فيه عشر لغات، الألف مثلثة بضم الألف وفتحها وكسرها، والباء مثلثة بضم الباء وفتحها وكسرها، فإذا ضربت ثلاثة في ثلاثة صار المجموع تسعة، واللغة العاشرة: أصبوع.
(1/82)
باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق
حديث: " ثم خرج فصلى للناس الصبح"
27 - باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وكلامه، وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون.
7452 - حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس قال: بت في بيت ميمونة ليلة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها لأنظر كيف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر، أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: لِأُولِي الْأَلْبَابِ ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى للناس الصبح .
الشرح:
تخليق الرب فعل من أفعاله، وهي من صفات الأفعال. قوله (وأمره): وهو قوله للشيء كن فيكون، قال -تعالى-: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فأمره وتخليقه وفعله كلها من صفات الله -عز وجل-، بخلاف المفعول المنفصل المخلق، كالسماوات المخلوقة. فالتخليق فعل الرب صفة من صفاته، والمخلوق هو المفعول المنفصل، ففعل الرب صفة من صفاته، والمفعول هو المخلوق، وأمر الرب صفة من صفاته، والمأمور وهو المخلوق منفصل وهكذا.
والرب -سبحانه وتعالى- قائم بأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره، وهو الخالق المكون وما سواه -سبحانه وتعالى- مخلوق مفعول مكون، فالسماوات مخلوقة مكونة مفعولة لله -عز وجل- والتخليق فعل الرب صفة من صفاته، فلا بد من التفريق بين التخليق وهو فعل الرب، والمخلوق وهو المفعول المنفصل، وفعل الرب الذي هو صفة من صفاته، والمفعول وهو المخلوق المنفصل.
وأهل البدع لا يفرقون بينهما، فليس عندهم فعل ومفعول، بل عنده شيء واحد، أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق. وهذا غلط محض.
ولذلك البخاري -رحمه الله- دقيق في هذا، وهو من أئمة أهل السنة والجماعة فرق بين فعل الرب وبين المفعول المنفصل. فقال: ( ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب -تبارك وتعالى- وأمره...): والمعنى أن فعل الرب وتخليقه وأمره قائم بنفسه، فالرب -سبحانه وتعالى- بأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره قائم بنفسه، وهو الخالق المكون، وما سواه مخلوق مفعول مكون.
والحديث يدل على فوائد منها:
جواز نوم الصبي مع الرجل وأهله إذا كان محرمًا؛ لأنه جاء في رواية أخرى أنه قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طول الوسادة، ونمت في عرضها وهو صبي -رضي الله عنه-، وميمونة -رضي الله عنها- خالته. وقد نام عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لينظر صلاته، وكان صغيرا، وفيه مشروعية تحدث الرجل مع أهله ساعة ليؤنسهم، والمراد بالساعة الجزء من الزمن، وليس المراد الساعة المعروفة الآن، وهي ستون دقيقة.
وفيه مشروعية قيام الليل ، وقراءة هذه الآيات عند الاستيقاظ من النوم، وفي اللفظ الآخر: أنه لما انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الله، وقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ حتى ختم السورة .
وفي الحديث مشروعية التسوك عند الوضوء ، وفيه أنه صلى إحدى عشرة ركعة، وهذا هو الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم - وربما زاد كما في حديث ابن عباس الآخر أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وربما نقص كما جاء في البخاري أنه أوتر بثمان، وأوتر بأقل من ذلك، ثم جاء أذان بلال فصلى -عليه الصلاة والسلام- ركعتين، وهاتان الركعتان هما السنة الراتبة، ثم خرج، فصلى للناس الصبح.
والشاهد من الترجمة قوله -تعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فخلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، من خلق الله -عز وجل- فالله -تعالى- خلقها، فهي مخلوقة مكونة، فالتخليق فعل الرب، وهي مخلوقة مكونة منفصلة.
(1/83)
باب قوله: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ"
حديث: "إن رحمتي سبقت غضبي"
28 - باب قوله -تعالى-: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ
7453 -حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لما قضى الله الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي .
الشرح:
هذه الترجمة، وهي باب قول الله -تعالى-: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ قصد المؤلف -رحمه الله- بهذه الترجمة إثبات الكلام لله -عز وجل-، وأن كلام الله صفة من صفاته، وأن كلام الله سابق لخلقه، وأن كلام الله نوعان:
أ - كوني قدري لا يتخلف مراده.
ب- ديني شرعي قد يتخلف مراده.
وهذا من الكلمات الكونية، ومثال النوع الأول وهو الكلام الكوني الذي لا يتخلف فيه مراد الله قوله -تعالى-: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ومثال النوع الثاني، وهو الكلام الديني الشرعي الذي قد يتخلف فيه مراد الله قوله -تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فمن الناس من أقام الصلاة، ومنهم من لم يقم الصلاة، وقوله -تعالى-: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا فمن الناس من امتثل هذا النهي، ومنهم من لم يمتثل.
والمراد بكلمات الله التي سبقت في الآية: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ كلام الله السابق بالقضاء المتقدم على خلقه، أن الذي جرى به القلم، وسبق به القضاء، أن النصر لعباد الله المرسلين وأتباعهم، وأن جند الله هم الغالبون.
ففيه إثبات أن كلام الله ليس مخلوقًا، وأن كلام الله سابق لخلقه؛ لأن الخلق إنما يكون بالأمر، والأمر هو كلام الله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ هذا الكلام الكوني، والثاني كلام الله الديني الشرعي، وهو القرآن وكلامه في كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وهذا قد يتخلف مراده، أما الكلام الكوني، فلا يتخلف.
ففيه الرد على من قال: إن القرآن مخلوق، والرد على من أنكر كلام الله عز وجل.
وكلام الله اللفظ والمعنى جميعًا، وكلام الله بحرف وصوت يسمع، خلافًا للمعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة يقولون: كلام الله اللفظ والمعنى لكنه مخلوق، والأشاعرة يقولون: كلام الله المعنى فقط، فهو معنى في نفس الله لا يسمع، وأما الحروف والكلمات فهي مخلوقة.
والحديث في إثبات الكتابة والرحمة والغضب لله -عز وجل-، وهي من الصفات الفعلية، فصفات الله -عز وجل- قسمها أهل السنة إلى قسمين:
1 - صفات ذاتية لا تنفك عن البارئ: كالعلم والعزة والقدرة والسمع والبصر.
2 - صفات فعلية تتعلق بالمشيئة والاختيار: كالكلام والكتابة والخلق والرزق والإحياء والإماتة والرحمة والغضب. وضابطها أنها تقيد بالمشيئة، تقول: يرحم إذا شاء، ويغضب إذا شاء، ويكتب إذا شاء، بخلاف الصفات الذاتية، فلا تقول: يقدر إذا شاء، ويعلم إذا شاء، بل هو -سبحانه- عليم وقدير في جميع الأحوال.
والصفات الفعلية نوعها قديم، وأحادها حادثة؛ ولهذا في حديث الشفاعة يقول كل واحد من الأنبياء: إن ربي غضب اليوم غضبًا، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله فقال (غضب اليوم): فهذا الغضب حادث في ذلك اليوم، ولا يلزم من قولنا: إنه حادث، الحدوث في ذاته، فهذا غير صحيح؛ لأن هذا لازم لصفات المخلوقين.
ويقسم أهل السنة والجماعة الصفات كذلك إلى:
1 - صفات معنوية: كالعلم والقدرة والسمع.
2 - صفات خبرية: كالوجه واليد والرجل، فالصفات الخبرية جاء بها الخبر.
وهذا التقسيم مقابل تقسيم أهل الكلام، فقسمها أهل السنة للإيضاح وللرد على أهل الكلام.
وفي الحديث بيان أن رحمة الله تسبق غضبه، وفيه أن هذا الكتاب كتبه الله لما قضى الخلق، فكتب في كتاب هو عنده فوق العرش، فهذا الكتاب سابق. والخلق إنما خلقوا بأمر الله وكلامه، ففيه إثبات الكلام لله، وأنه سابق؛ لأن الخلق لا يكون إلا بأمر الله، وأمر الله هو كلامه، فوجه الدلالة من الترجمة أنه أخبر، أن هذا الكتاب كان بعد خلق الخلق، وهو سابق، وهو قديم، والخلق إنما كان بأمر الله وكلامه. وفيه أن هذا الكتاب فوق العرش، مع أن العرش سقف المخلوقات، لكن هذا الكتاب خاص، والقاعدة أن الخاص يقضي+ على العام، فالعرش سقف المخلوقات، لكن هذا الكتاب مستثنى منه. وهذا الكتاب مخلوق؛ لأن المكتوب غير الكتابة، فالكتابة فعل الله، والمكتوب هو المخلوق المنفصل. والسماوات مخلوق منفصل، وتخليق الله لها فعله سبحانه، وهي صفة من صفاته، فهناك فرق بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول، فالخلق والفعل صفة لله قائمة بذاته، والمخلوق هو المفعول المنفصل، وسبق بيان هذا في الترجمة السابقة.
(1/84)
حديث: "فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة"
7454 -حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الأعمش سمعت زيد بن وهب سمعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، أو أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربعة كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها .
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات القدر السابق، وأن كل إنسان صائر إلى القدر وإلى ما كتب له، وفيه أن كل إنسان يكتب عليه، وهو في بطن أمه كلمات أربع: الكلمة الأولى: يكتب الرزق، والكلمة الثانية: يكتب العمل، والكلمة الثالثة: الأجل، والكلمة الرابعة: يكتب الشقاوة والسعادة، وهذا القدر يوافق القدر السابق، وهو ما كتب في اللوح المحفوظ، والأصل ما كان في اللوح المحفوظ، وهذا قدر ثان يوافق ما في اللوح المحفوظ، ولا يخالفه، وجاء في الحديث الآخر: أنه بعد الأطوار الثلاثة: يأتي الملك فيقول: يا رب ما الرزق؟ ما العمل؟ ما الأجل؟ فيقول الله له: كذا، فيكتب الملك الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة، والسعادة، على حسب ما يقول الله -تعالى- له .
وفيه أنه لا بد أن يصير الإنسان إلى ما قدر له حتى في آخر حياته؛ ولهذا قال في آخر الحديث: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب...) أي: الكتاب الذي كتب عليه، وهو في بطن أمه. إلى أن قال: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب...) أي: الذي كتب عليه في القضاء والقدر السابق، وهو في بطن أمه، وقبل ذلك في اللوح المحفوظ. فدل على وجوب الدليل بالقدر، فمن لم يؤمن بالقدر، فليس بمؤمن.
والقدر له مراتب أربع:
1 - الكتابة في اللوح المحفوظ، وهو التقدير العام.
2 - ما يكتب عليه، وهو في بطن أمه، وهذا التقدير العمري.
3 - ما يكتب عليه في ليلة القدر، وهو التقدير السنوي.
4 - ما يكتب عليه كل يوم، وهو التقدير اليومي كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ سبحانه وتعالى، يرفع، ويخفض، ويعز، ويذل، ويحيي، ويميت، ويشقي، ويسعد.
وكل إنسان صائر على ما قُدِّر له، وليس معنى ذلك أن الإنسان يترك العمل، فهذا غير صحيح؛ لأن القدر من شئون الله -عز وجل- والإنسان عليه العمل؛ ولهذا لما استشكل الصحابة ذلك وقالوا: يا رسول، أفلا تنكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ الآية: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى .
والشاهد قوله: (فيؤذن بأربع كلمات): ففيه إثبات الإذن، وهذا إذن كوني، (فيؤذن بأربع كلمات) وفي الرواية الأخرى:(فيؤمر بأربع كلمات) …ففيه إثبات الإذن الكوني لله -عز وجل- وفيه إثبات الكلام لله -عز وجل-، وهذا كلام كوني قدري لا يتخلف أبدًا قال -تعالى-: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فما كتب عليه من الكلمات الأربع لا بد أن تقع، ولا بد أن يصير الإنسان إلى ما كُتب له، وهو في بطن أمه.
بخلاف الكلام الشرعي مثل قوله -تعالى-: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ هذا كلام شرعي في القرآن فهذا قد يتخلف؛ لأن من الناس من يصلي، ويمتثل هذا الأمر، ومنهم من لا يمتثل.
فالحديث فيه إثبات الإذن الكوني والكلام الكوني؛ لقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ فالإذن الكوني، والكلام الكوني سابق للخلق لا يتخلف، فالجنين وهو في أطوار خلقه تكتب عليه هذه الكلمات، وهذا هو الشاهد من الترجمة. قوله: (بأربعة كلمات): الصواب (بأربع كلمات): لأن العدد يخالف المعدود، والكلمات مؤنثة، وأربعة تكون مذكر، مثل قولنا: أربعة رجال وثلاث نسوة. فلما كان الرجال مذكر يؤنث العدد.
فائدة:
إِذْنُ الله -تعالى- ينقسم إلى قسمين:
1 - الإذن الكوني القدري.
2 - الإذن الشرعي.
فمثال الإذن الكوني قوله -تعالى-: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بإذن الله الكوني، وكما في حديث الباب: (فيؤذن بأربع كلمات) فهذا إذن كوني.
ومثال الإذن الشرعي قوله -تعالى- في سورة الحشر: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي: بإذن الله وشرعه، فرخص لهم -سبحانه وتعالى- في أن يقطعوا نخل بني النضير، أو يبقوها، فوجهة من قطع النخل أن يغيظ الكفار، ومن أبقى فلأنه مال يئول للمسلمين، فلكل وجهة، والله -تعالى- لم يعنف هؤلاء، ولا هؤلاء.
(1/85)
حديث: "يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر"
7455 -حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عمر بن ذر سمعت أبي يحدث، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا إلى آخر الآية قال: كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
والشاهد قوله: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وأمر الله هو كلامه، وهو سابق للفعل، وهو التنزل، فتنزل جبريل مخلوق؛ لأنه عمل لجبريل لكنه مسبوق بالأمر، والأمر هو كلام الله.
وهذا جواب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لجبريل (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا) فنزلت: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ أي: لا نتنزل إلا بأمر الله.
(1/86)
حديث: "سلوه عن الروح"
7456 - حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرث المدينة وهو متكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، قال بعضهم: لا تسألوه عن الروح، فسألوه، فقام متوكئا على العسيب، وأنا خلفه فظننت أنه يوحى إليه، فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم: لا تسألوه .
الشرح:
كان ابن مسعود يمشي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حرث بالمدينة أي: مزرعة فمر على بعض اليهود فقال بعضهم: سلوه، عن الروح وبعضهم قال: لا تسألوه، وفي اللفظ الآخر (لعله ينزل فيكم ما تكرهون) فلما سألوه، عن الروح، قال عبد الله -رضي الله عنه- (فظننت أنه يوحى إليه) وفي اللفظ الآخر (فعلمت أنه يوحى إليه) فالظن هنا بمعنى العلم. قال: فلما سُري عنه الوحي قرأ هذه الآية: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم: لا تسألوه: والشاهد قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: من مأمور ربي، أي: من مخلوقاته، فالأمر هنا ليس المراد به الكلام، بل معنى الأمر هنا: أي: من مأمورات ربي: أي: من مخلوقاته. والمخلوق إنما كان بأمر سابق، وهو كلام الله، فالروح خلق من مخلوقات الله، وهي مخلوقة بأمر الله السابق. ففيه إثبات أن كلام الله -تعالى- سبق لخلقه.
والمراد بالروح: أي: التي تحصل بها الحياة، هذا هو الظاهر، وهي ذات على الصحيح، وقد اختلف الناس فيها اختلافًا كبيرًا كالفلاسفة وغيرهم: فقال بعضهم: إنها صفة من صفات البدن، وبعضهم تكلم بأشياء، وقال: إنها الطبائع الأربع، وأحسن ما قيل فيها: ( أنها ذات نورانية تسري في البدن سريان النار في الفحم، والماء في العود. فهي ذات لطيفة لينة، ليست ثقيلة تسري في البدن، تكسبه الحياة). وقيل: المراد بالروح في الآية جبريل -عليه السلام- لقوله -تعالى-: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا والأرجح الأول أن المراد بها الروح، التي تحصل بها الحياة.
وفيه إثبات أن الروح مخلوقة، وفيه الرد على من قال: إنها قديمة كبعض الفلاسفة يقولون: أن لروح قديمة، وأن الأرواح قديمة، ليست مخلوقة ولا حادثة. ولا شك أن هذا باطل، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: من مأموراته، ومن مخلوقاته التي خلقت بأمره السابق، وهو كلامه سبحانه وتعالى.
وما جاء في اللفظ الآخر: (لعله ينزل فيكم ما تكرهون) حصل هذا على اليهود فنزلت الآية، وفيها تجهيل لهم؛ لقوله وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وإن كانوا يدعون أنهم أهل العلم والمعرفة.
(1/87)
حديث: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله"
7457 -حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تكفل الله لمن جاهد في سبيله -لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته-: بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر، أو غنيمة .
الشرح:
هذا فيه فضل عظيم للمجاهدين، الذين جاهدوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وأن الله تكفل، وضمن لهم أحد أمرين: إما الجنة إن استشهدوا، وإما إرجاعهم إلى أهلهم مع ما نالوا من أجر، أو غنيمة. فالمجاهد ضمن الله له الجنة إن مات، والغنيمة إن بقي. لكن هذا مقيد بالشرط، وهو قوله: لا يخرجه إلا جهادًا في سبيلي وتصديقًا لكلماتي والمعنى أنه جاهد لإعلاء كلمة الله لا لمقصد آخر، فلم يقاتل رياء ولا حمية ولا شجاعة، كما في الحديث: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله .
والشاهد من الترجمة قوله: (وتصديق كلماته): والمراد كلمات الله الشرعية الدينية، وهو ما أخبر به في كتابه مما يحصل للمجاهدين من الأجر والمغفرة والرحمة. فالذي أخرج المجاهد هو الإخلاص لله، وتصديق كلماته. فصدق الله بكلماته التي أخبر بها للمجاهدين، وأنهم ينالون الأجر العظيم والمغفرة والرحمة.
والمراد بالحديث الكلمات الشرعية، وهو ما تكلم الله به -سبحانه- في القرآن وكتبه المنزلة على أنبيائه ورسله، وكذلك الأحاديث القدسية تكلم الله بها. وكلمات الله الدينية قد يتحقق بها مراد الله، وقد يتخلف، أما كلمات الله الكونية، فهي ما قضى به وقدره -سبحانه وتعالى- أي: ما تكلم به قضاء وقدرًا، كقوله -تعالى- إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلا بد أن يحصل فيها مراد الله.
قوله: (من أجر، أو غنيمة): المعلوم أنه قد يحصل للمجاهد الأمرين الأجر والغنيمة، لكن إن لم يغنم يكون الأجر كاملا، وإذا غنم ينقص الأجر. كما جاء في الحديث الآخر: ما من سرية تقاتل، فتخفق إلا تم أجرها، وما من سرية تغنم إلا تعجلوا ثلثي أجرها رواه مسلم في صحيحه فإذا غنموا تعجلوا شيئًا من أجرهم، وإذا لم يغنموا، تم أجرهم. وهذا فيه تعزية للسرية، التي لم تغنم، وأن أجرها تام.
(1/88)
حديث: "الرجل يقاتل حمية"
7458 -حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن أبي موسى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله .
الشرح:
هذا فيه بيان المجاهد في سبيل الله، وأنه الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، أما الذي يقاتل حمية، أو شجاعة، أو رياء، أو غير ذلك من المقاصد كالعصبية للون، أو الجنس، أو للدم، أو لتطهير التراب والأرض فقط؛ وذلك لأن كل أرض يعبد فيها الله هي أرض للمسلمين. وكلمة (حمية) تشمل ذلك كله، سواء كان حمية للوزن، أو الجنس، أو العصبية، أو الدم، أو العرق. فهذا لم يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فلا بد أن يكون قصده إعلاء كلمة الله، والشاهد من الحديث قوله: (لتكون كلمات الله): والمراد بكلمات الله هنا: الكلمات الدينية الشرعية، وهي كلمة التوحيد، وهي المذكورة في قوله -تعالى-: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وهي المذكورة في قوله -تعالى-: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وهي كلمة التوحيد.
(1/89)
باب قول الله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ
حديث: "لا يزال من أمتي قوم ظاهرين "
29 - باب قول الله -تعالى-: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ
7459 -حدثنا شهاب بن عباد حدثنا إبراهيم بن حميد عن إسماعيل عن قيس عن المغيرة بن شعبة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس، حتى يأتيهم أمر الله .
الشرح:
هذا فيه إثبات الكلام لله -عز وجل- لقوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ وقوله: (حتى يأتي أمر الله): أي: كلام الله، وكلام الله سابق على خلقه؛ لأن الله -تعالى- يقول: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهو يكون بكن، وكن سابق ليكون، فيكون الكلام سابق للخلق، فكل شيء يريد الله إيجاده، إنما يخلقه بالكلام، فيقول له: كُنْ فَيَكُونُ .
وهذه الترجمة فيها الرد على من قال: إن كلام الله مخلوق كالمعتزلة ؛ لأن كلام الله سابق لخلقه؛ ولأن الخلق إنما يكون بأمر الله، وأمر الله هو كلامه، فلو كان مخلوقًا للزم أن يكون مخلوقًا بأمر آخر، والآخر بآخر إلى ما لا نهاية. وهذا من أبطل الباطل، بل كلام الله صفة من صفاته، ومن قال: إن كلام الله مخلوق، فقد كفر، كما قرر ذلك أهل السنة على وجه العموم.
ووجه الاستدلال من الآية وهي قوله: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أن الله -سبحانه- أخبر أنه يخلق بالكلام، وأن كلامه سابق لخلقه، وكذلك فإن الله فرق بين الخلق والأمر فقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ والعطف يقتضي المغايرة؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الله -تعالى- فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما، فقد كفر؛ ولأنه -كما ذكرنا- لو كان كلام الله مخلوقًا للزم أن يكون مخلوقًا بأمر آخر، والآخر إلى آخر، إلى ما لا نهاية، وهذا باطل كما ذكرنا.
قوله: حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أمر الله هو كلامه، والمراد بأمر الله الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات في آخر الزمان، والمعنى: لا تزال طائفة على الحق، حتى يأتي أمر الله، وهو كلامه بقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات. وجاء في حديث آخر: حتى لو كان أحدهم في كبد جبل، لدخلت عليه حتى تقبضه فإذا قبضت أرواح المؤمنين والمؤمنات، بقي الكفرة يتهارجون كما تتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة .
خلافًا لما قال الشارح -رحمه الله- حيث قال: إن المراد بأمر الله هنا هو قيام الساعة، فهذا ليس بصحيح، والصواب حتى يأتي أمر الله، وهو كلامه بقبض أرواح المؤمنين لا الساعة؛ ولأن الساعة لا تقوم على المؤمنين، إنما تقوم على الكفرة.
(1/90)
حديث: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله"
7460 -حدثنا الحميدي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن جابر حدثني عمير بن هانئ أنه سمع معاوية قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، ما يضرهم من كذبهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، فقال: مالك بن يخامر سمعت معاذًا يقول: وهم بالشام فقال معاوية هذا مالك يزعم أنه سمع معاذًا يقول: وهم بالشام .
الشرح:
وهذا كما سبق في الحديث الذي قبله أن المراد بأمر الله: هو أمره بقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات.
وهذا فيه فائدة حديثية وهي: رواية الأكابر عن الأصاغر، فمعاوية -رضي الله عنه- صحابي يروي، عن مالك بن يخامر وهو تابعي.
(1/91)
حديث: " لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها"
7461 -حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي حسين حدثنا نافع بن جبير عن ابن عباس قال: وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على مسيلمة في أصحابه، فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله .
الشرح:
وهذا قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة وذلك في عام الوفود في السنة التاسعة، فجلس مسيلمة وصاحب معه عند رحل قومهم، وذهب قومه ليبايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال مسيلمة لصاحبه -ولم يكن قد ظهر أمره بعد- قال: لو أشركني محمد في النبوة لبايعته. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه قطعة عصا وقال له: (لو سألتني هذه القطعة، ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله).
والشاهد قوله: (ولن تعدو أمر الله فيك): أي: كلامه -سبحانه- فيما قضاه وقدره عليك من الشقاوة والسعادة.، ثم قال: (ولئن أدبرت): أي: عن الإسلام. (ليعقرنك الله): أي: ليهلكنك الله. وجاء بعد ذلك أن مسيلمة قال في كتاب بعثه للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الأرض بيننا نصفين، ولكن قريشًا يعتدون) فكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم -: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين .
فالحاصل أن الشقاوة والسعادة، إنما كانت بأمر الله -تعالى- كما سبق في حديث ابن مسعود أن الملك يؤمر بأربع كلمات: عمله، وأجله، ورزقه، وشقي، أو سعيد. والكلمات هي كلمات الله.
(1/92)
حديث: "فمررنا على نفر من اليهود"
7462 -حدثنا موسى بن إسماعيل عن عبد الواحد عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: بينا أنا أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه، فمررنا على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه أن يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنه، فقام إليه رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمت أنه يوحى إليه، فقال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قال الأعمش هكذا في قراءتنا .
الشرح:
قوله: (أن يجيء فيه بشيء تكرهونه): التقدير خشية أن يجيء بشيء تكرهونه.
قوله: (فعلمت أنه يوحى إليه) هذا تفسير للحديث الذي مر قبل هذا، حيث قال ابن عباس (فعلمت أنه يوحى إليه) وفي الرواية السابقة: (فظننت أنه يوحى إليه) فدل على أن الظن هناك بمعنى العلم.
والشاهد قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: من مأمور ربي، أي: من مخلوقاته التي كانت بأمره وكلامه السابق. فالأمر يأتي بمعنى المأمور، كالخلق يأتي بمعنى المخلوق: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: هذا من مخلوقات الله تعالى.
قوله: (قال الأعمش هكذا في قراءتنا): أي: (وما أوتوا من العلم) وقراءة حفص وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ .
(1/93)
باب: قول الله: "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي"
30 - باب قول الله -تعالى-: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سخر: ذلل .
الشرح:
هذه الترجمة -أيضا- أراد بها المؤلف -رحمه الله- إثبات الكلام لله، وأنه صفة من صفاته، وليس مخلوقًا، وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: كلام الله مخلوق؛ لأنه لو كان مخلوقًا لنفد كما تنفد المخلوقات، وكلام الله ليس له نهاية. أما المخلوق، فهو ينفد، وينتهي؛ لذلك قال الله -تعالى-: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي أي: لو جعل البحر مدادًا، أي: حبرًا يكتب به كلام الله لانتهى البحر، ولم تنته كلمات الله. والآية الأخرى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ والمعنى أنه لو جعل ما في الأرض من شجر أقلام، يكتب بها، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر لتكسرت الأقلام، ونفد البحر، ولم تنفد كلمات الله، سبحانه وتعالى. قوله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هذا الشاهد من الآية، حيث فرق الله -تعالى- بين الخلق والأمر. فالأمر هو كلام الله، ولو كان كلام الله مخلوقًا لما فرق بينهما، ولو كان الأمر مخلوقًا لقال: ألا له الخلق فقط، ويدخل الأمر في الخلق، لكنه لما عطف بينهما والعطف يقتضي المغايرة دل على أن الخلق غير الأمر؛ لهذا قال الشافعي وغيره: (إن الله فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما، فقد كفر).
(1/94)
حديث: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله"
7463 -حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته، أن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه بما نال من أجر، أو غنيمة .
الشرح:
هذا الحديث مضى بيانه، وفيه أن الله -تعالى- ضمن لمن جاهد في سبيله بأحد أمرين: الجنة إن استشهد، أو يرجعه إلى مسكنه بما نال من أجر، أو غنيمة، إن لم يغنم تم أجره، وإن غنم نقص أجره، وحصل له أجر وغنيمة. وهو مقيد بشرط أن يكون في جهاده مخلصًا لله ولإعلاء كلمة الله وتصديقًا بكلمته، وهذا هو الشاهد، والمراد تصديق كلمته الدينية الشرعية، وهو ما أخبر به في كتابه من فضل الشهادة، والجهاد في سبيل الله.
(1/95)
باب: في المشيئة والإرادة
حديث: "إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء"
31 - باب في المشيئة والإرادة
وقول الله -تعالى- تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ قال سعيد بن المسيب عن أبيه: نزلت في أبي طالب يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .
7464 -حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعوتم الله، فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له .
الشرح:
هذه الترجمة لبيان إرادة الله ومشيئته. والإرادة عند أهل السنة والجماعة نوعان:
1 - إرادة كونية قدرية ترادف المشيئة.
2- إرادة دينية شرعية، بمعنى المحبة والرضا.
فالمشيئة واحدة أما الإرادة فهي نوعان: وهذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص في تقسيم الإرادة إلى نوعين.
وقد غلط كل من الجبرية والقدرية فلم يقسموا الإرادة إلى قسمين. فالإرادة واحدة عند الجبرية وهي الكونية فقط، وليس عندهم إرادة دينية. وهي واحدة عند القدرية وهي الإرادة الدينية، وليس عندهم الإرادة الكونية. فهدى الله أهل السنة والجماعة فقسموا الإرادة إلى قسمين، على حسب ما ورد في النصوص.
والجهمية والأشاعرة جبرية، ليس عنده إلا الإرادة الكونية، والمعتزلة قدرية، ليس عندهم إلا الإرادة الدينية، وأنكروا الإرادة الكونية، ومذهب كل منهما باطل.
والمؤلف -رحمه الله- ساق نصوصًا كثيرة في إثبات المشيئة، وهي كثيرة. كقوله -تعالى-: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وقوله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وقوله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقوله إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ التي نزلت في أبي طالب
وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ هذه إرادة دينية شرعية؛ لأنه بعد ما ذكر أحكام الصيام قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وقوله فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ هذه إرادة كونية قدرية، لا يتخلف مرادها، أما الدينية، فقد يتخلف مرادها. وقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ هذه إرادة دينية، والمعنى إنما يريد الله دينًا وشرعًا؛ لأن بعض أهل البيت لم يقع لهم التطهير كأبي جهل وأبي لهب، وهم من قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن بني هاشم ومع ذلك لم يطهروا من الشرك. وقوله: (ولكن الله يفعل ما يريد) هذه إرادة كونية.
وقوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ هذه إرادة دينية.
ومعنى قولنا: إن الإرادة الكونية ترادف المشيئة. أي: ترادفها في معناها، فمعناها معنى المشيئة فقوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أي: إلا أن يريد الله، فما تشاءون شيئًا إلا إذا أراده الله وشاءه كونًا وقدرًا. وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ المعنى، من يشأ الله أن يهديه، فهي بمعنى المشيئة. بخلاف الإرادة الدينية، فليست بمعنى المشيئة، بل هي بمعنى المحبة والرضا.
قوله: (قال سعيد بن المسيب نزلت في أبي طالب ): أي: لما حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هداية عمه، ولكن لم يرد الله له الهداية، أي ما أراد الله له الهداية كونًا وقدرًا، فهي بمعنى المشيئة.
فكل ما في الكون أراده الله كونًا وقدرًا، فلا يقع في ملك الله إلا ما يريد، فالمعاصي والشرور وقعت بإرادة الله الكونية، والله -تعالى- لا يرضاها دينًا وشرعًا، ولكن أرادها كونًا وقدرًا فوقعت، لما له في ذلك من الحكم التي تترتب عليها، التي منها ما يترتب على هذه المعاصي من العبادات المتنوعة كعبودية التوبة، وعبودية الصبر، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من أنواع مقامات العبودية. ومع ذلك فقد نهى -سبحانه- عنها، وغضب على فاعلها.
ومما يفرق بين الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية: أن الإرادة الكونية، لا يتخلف مرادها بخلاف الإرادة الدينية الشرعية، فقد يتخلف مرادها، فقد تقع، وقد لا تقع، فالله -تعالى- أمر بإقام الصلاة، ونهى عن شرب الخمر، فمن الناس من امتثل هذا الأمر ومنهم من لم يمتثل. فمن أراد الله له كونًا وقدرًا أن يمتثل، فلا بد أن يمتثل، فتجتمع في حق المؤمن الإرادتان: الشرعية والكونية، وأما الكافر والعاصي في فعله للمعصية، تنفرد في حقهما الإرادة الكونية.
قوله: (اعزموا في الدعاء...): أي: اجزموا في الدعاء، ولا تترددوا، ولا تستثنوا.
قوله: ( ولا يقولن أحدكم، إن شئت فأعطني...): هذا الشاهد من الحديث، ففيه إثبات المشيئة لله تعالى.
والحديث يفيد النهي، عن الاستثناء في الدعاء، وفي الحديث الآخر: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي، إن شئت، اللهم ارحمني، إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له وفي وليقل: اللهم اغفر لي، ولا يقل: إن شئت؛ لأن قوله: إن شئت، يدل على ضعف همته ورغبته فيما يطلبه ويدعوه، وكأنه مستغنٍ، عن المطلوب، وكأنه يقول: يا الله، إن شئت، فاغفر لي، وإن شئت، فلا تغفر لي، فأنا لست بحاجة إلى المغفرة. ولا شك أن هذا لا يصلح؛ لأن الإنسان في أشد الحاجة إلى مغفرة الله، عز وجل.
قوله: (فإن الله لا مكره له) وفي لفظ: فإن الله لا مستكره له وكأنه حينما قال: اللهم اغفر لي، إن شئت، اللهم ارحمني،إن شئت، كأنه يقول: لا ألزمك يالله بالمغفرة لي، ومفهومه أنه إن لم يقيد ذلك بالمشيئة، أن فيه إلزامًا لله، فهو يوحي بالإلزام والإكراه، والله -تعالى- لا مكره له.
وأما ما جاء في الحديث الآخر، كما سيأتي: لما زار النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا مريضًا، وقال له: طهور إن شاء الله فهذا ليس المراد به الدعاء، وإنما المراد به الخبر.
وما يحصل من بعض الناس، أنه إذا قابل صاحبه وقد حج، أو اعتمر قال له: تقبل الله منك -إن شاء الله- لعل هذا من باب التبرك بذكر اسم الله، ومع ذلك الأولى ألا يأتي به، بل يقول: تقبل الله منا ومنك غفر الله لنا ولك، من دون استثناء؛ لأن الدعاء ليس فيه استثناء.
(1/96)
حديث: " ألا تصلون؟"
7465 -حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري و حدثنا إسماعيل حدثني أخي عبد الحميد عن سليمان عن محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب عن علي بن حسين أن حسين بن علي -عليهما السلام- أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرقه، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فقال لهم: ألا تصلون؟ قال علي فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئًا، ثم سمعته، وهو مدبر يضرب فخذه، ويقول: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا .
الشرح:
هذا الحديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد عليًّا وفاطمة -رضي الله عنهما- إلى قيام الليل (فقال لهم: ألا تصلون) وفي اللفظ الآخر: (ألا تصليان). فأجابه علي -رضي الله عنه- بجواب لا ينبغي فقال: (إنما أنفسنا بيد الله): أي: أرواحنا (إن شاء أن يبعثها بعثها) والمعنى: أننا ننام، ولا نستيقظ إلا إذا أراد الله أن نستيقظ. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرغب في هذا الجواب؛ ولهذا ولى - صلى الله عليه وسلم - وهو يضرب فخذه، ويقول: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا لأن هذا من الجدل الذي لا ينبغي، وكان ينبغي لعلي -رضي الله عنه- أن يقول: إن شاء الله، ونسأل الله أن يعيننا، وسنبذل السبب في قيام الليل.
قوله: (ألا تصلون): قد يطلق على المثنى جمع، ومن العلماء من قال: أقل الجمع اثنان، مثل قوله -تعالى-: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا في عائشة وحفصة ولم يقل: فقد صغى قلباكما.
قوله: (إذا شاء أن يبعثها بعثها): هذا هو الشاهد من الحديث، ففيه إثبات المشيئة لله -عز وجل- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على المشيئة. ولا شك أن الأنفس بيد الله، لكن ليس هذا الجواب الذي ينبغي، فهو خلاف الأولى من علي رضي الله عنه.
فائدة:
الاحتجاج بالقدر له حالتان:
1 - الاحتجاج بالقدر على المصائب إذا نزلت، هذا لا بأس به.
2 - الاحتجاج بالقدر على المعاصي والمعائب، وهذا ممنوع، فليس القدر حجة على المعاصي.
(1/97)
حديث: "هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟"
7467 -حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم على المنبر يقول: إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا به حتى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أعطيتم القرآن، فعملتم به حتى غروب الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة ربنا هؤلاء أقل عملا، وأكثر أجرًا، قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، فقال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء .
الشرح:
هذا فيه مثل ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة، وللأمم السابقة. وفيه أن نسبة زمان هذه الأمة إلى ما سبق كنسبة ما بعد العصر إلى غروب الشمس، بالنسبة إلى أول النهار، فإذا نسبت ما بعد العصر إلى غروب الشمس، إلى أول النهار إلى العصر، تجد أن هذه الأمة سبقها أمم كثيرة، وهي في آخر الناس ونبينا - صلى الله عليه وسلم - هو نبي الساعة، فنسبة بقاء هذه الأمة في الدنيا إلى ما مضى كنسبة ما بعد العصر إلى غروب الشمس، إذا نسبته إلى ما مضى من النهار.
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأمة أقل عملا وأعظم أجورًا، وهذا فضل الله يوتيه من يشاء. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب مثلا لليهود والنصارى وهذه الأمة، فاليهود أعطوا التوراة، وقيل: لهم اعملوا بها، فعملوا من أول النهار إلى الظهر على قيراط قيراط، وفي اللفظ الآخر: مثلهم كمثل من استأجر أجيرًا فقال له: اعمل من أول النهار إلى الظهر على قيراط قيراط، فعمل وأخذ قيراطًا وفي هذا الحديث أنهم عملوا فعجزوا، فأخذوا قيراطًا قيراطًا، واستأجر آخرين من الظهر إلى العصر فعملوا، فأعطاهم قيراطًا قيراطًا، ثم استأجر آخرين من بعد العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضب الأولون، وقالوا: كيف تعطيهم قيراطين قيراطين، ونحن أطول زمنًا وأقل أجرًا، فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وفي اللفظ الآخر: (…فغضبت اليهود والنصارى لما أعطى هذه الأمة ) .
فهذا مثل فضل الله على هذه الأمة، أنهم أقل عملا وأكثر أجورًا.
قوله: (ذلك فضلي أوتيه من أشاء): هذا الشاهد من الحديث، ففيه إثبات المشيئة لله عز وجل.
(1/98)
حديث: "أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا"
7468 -حدثنا عبد الله المسندي حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط فقال: أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا، فهو له كفارة وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له .
الشرح:
هذه البيعة أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبادة بن الصامت وغيره من الصحابة وهذه البيعة التي بايع بها الرجال، بايع بها النساء، فهي كبيعة النساء، كما قال -تعالى- في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذه البيعة التي بايع بها النساء، بايع بها عبادة وأصحابه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - بايع الصحابة بيعات متعددة، فبايع بعض الصحابة على ألا يسألوا الناس شيئا قال الراوي: (فكان ذلك الرهط الذين بايعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يسقط سوط أحدهم، فلا يسأل أحدًا أن يناوله) وإن كان هذا جائزًا، لكن هذا ما بايعوا به رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ولا تأتوا ببهتان تفترونه، بين أيديكم وأرجلكم): هو كل ما خالف الشرع من الإثم. (بين أيديكم وأرجلكم): أي: أمامكم، أو خلفكم. كافتراء الكذب على الله ورسوله، أو الافتراء على الناس.
قوله: (فمن وفي منكم، فأجره على الله): أي: من التزم بهذه البيعة، ووفى بها، فأجره على الله، أي: أن أجره يقع كاملا.
قوله: (ومن أصاب من ذلك شيئا....): أي: من لم يفِ، واجترح شيئًا من ذلك كالزنا، أو السرقة، أو أتى ببهتان، ثم أخذ، وعوقب به، فهو كفارة له وطهور. وهذا فيه دليل على أن الحدود كفارات، وكذلك إذا تاب، فالتوبة طهور، والله -تعالى- أكرم من أن يجمع له بين عقوبتين: عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة. فإذا شرب المسلم الخمر، وأخذ وجلد، فهو كفارة له، أي: أن الحد يكفر هذه المعصية التي عملها، وكذلك إذا تاب بينه وبين الله. أما إن لم يتب، ولم يقم عليه الحد، فهذا أمره إلى الله -عز وجل- وهو تحت المشيئة قال -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ إن شاء الله عذبه بجريمته، ثم يدخله الجنة، وإن شاء عفى عنه، وهذا معنى قوله:
(ومن ستره الله فذلك إلى الله... إن شاء عذبه وإن شاء غفر له): وهذا الشاهد من الحديث ففيه إثبات المشيئة لله عز وجل.
(1/99)
حديث: "لأطوفن الليلة على نسائي"
7469 -حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه-: أن نبي الله سليمان -عليه السلام- كان له ستون امرأة، فقال: لأطوفن الليلة على نسائي فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارسًا يقاتل في سبيل الله، فطاف على نسائه، فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام، قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كان سليمان استثنى، لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارسًا يقاتل في سبيل الله .
الشرح:
هذا الحديث فيه أن سليمان -عليه السلام- طاف على ستين امرأة، وفي الرواية الأخرى أنه طاف على تسعين امرأة في ليلة واحدة، وهذا يدل على أن شريعة التوراة، فيها توسع في تعدد النساء.
وهذا يدل على بهت اليهود والنصارى وعدم إنصافهم، فهم يرون القذا في عين خصومهم، ولا يرون الجذع في أعينهم، فهم يعيبون على هذه الأمة التعدد، مع علمهم أن شريعة التوراة فيها تعدد وأن أنبياء الله يعددون، فهذا نبي الله سليمان -عليه السلام- طاف على ستين امرأة في ليلة واحدة، وفي الرواية الثانية: على تسعين امرأة.
قوله: (فلتحملن كل امرأة ولتلدن فارسًا..): وفي لفظ (فلتلد كل امرأة منهن غلامًا) كان -عليه الصلاة والسلام- همه الآخرة والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وليس همه الدنيا.
قوله: (لو كان سليمان استثنى.....): وفي اللفظ الآخر: قال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل وفي لفظ: قال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل نسي -عليه السلام- أن يقول: إن شاء الله؛ لذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو كان سليمان استثنى، لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارسًا، يجاهد في سبيل الله).
قوله: (فطاف على نسائه، فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام...): أي: نصف إنسان ليس كاملا. وهذا يدل على أن الاستثناء بقول: (إن شاء الله) له تأثير في الغالب؛ لذا قال -تعالى-: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .
والشاهد من الحديث قوله: (لو كان سليمان استثنى...): أي: لو قال: إن شاء الله، ففيه إثبات المشيئة لله عز وجل.
فائدة:
لا يصح قول: (إن الله على ما يشاء قدير): لأن هذا يتمشى مع مذهب المعتزلة ؛ لأن المعتزلة يرون هناك شيئًا لا يشاؤه الله، وهي أفعال العباد، فيقولون: إن الله على ما يشاء قدير، أما أفعال العباد، فلا يشاؤها الله، ولا يقدر عليها؛ لأنهم هم الخالقون لها. وهذا باطل، والواجب قول إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أما قوله -تعالى-: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ فهنا المشيئة مقيدة بالجمع، والمعنى إذا يشاء جمعهم.
(1/100)
زيارة المريض والدعاء له
7470 -حدثنا محمد حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على أعرابي يعوده، فقال: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله، قال: قال الأعرابي: طهور، بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فنعم إذا .
الشرح:
هذا الأعرابي زاره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: (طهور إن شاء الله) لكنه ما قبل هذا وقال: (طهور؟ بل هو حمى تفور...) فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فنعم إذا) أي: إذا كنت لا تقبل هذا، فحصل لك ما قلت. والظاهر أن الأعرابي مات بهذه الحمى.
قوله: (طهور إن شاء الله): هذا هو الشاهد، ففيه إثبات المشيئة لله عز وجل. وهذا الحديث لا يعارض ما سبق من وجوب العزم في الدعاء، وعدم التردد فيه؛ لأن هذا ليس من باب الدعاء، إنما هذا من باب الخبر.
(1/101)
قضاء الفجر والراتبة إذا طلعت الشمس
7471 -حدثنا ابن سلام أخبرنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه حين ناموا، عن الصلاة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء، فقضوا حوائجهم، وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس، وابيضت فقام فصلى .
الشرح:
قوله (فقضوا حوائجهم وتوضئوا...) وفي اللفظ الآخر: أنه أمر بلالا فأذن وفي اللفظ الآخر: أنهم لم يستيقظوا إلا بحَرِّ الشمس وقد حصل هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرات، ففي رواية: أنهم ضربتهم الشمس أما هنا فكان هذا قبل الشمس؛ ولذلك صلوا بعدما ابيضت الشمس.
وفي رواية: أنه أمر بلالا فأذن، ثم صلى السنة الراتبة، ثم صلى الفريضة فهذا فيه دليل على أن من فاتته الصلاة كالفجر مثلا، فإنه يصلي الراتبة، ثم يصلي بعد ذلك الفريضة.
والشاهد قوله: (إن الله قبض أرواحكم إذا شاء، وردها إذا شاء) ففيه إثبات المشيئة لله تعالى.
(1/102)
حديث: "لا تخيروني على موسى"
7472 -حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا إبراهيم عن ابن شهاب عن أبي سلمة والأعرج وحدثنا إسماعيل حدثني أخي، عن سليمان عن محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين -في قسم يقسم به- فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك، فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بالذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله .
الشرح:
هذا فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تفضيله على موسى -عليه السلام-، لما قال المسلم في قسمه: (والذي اصطفى محمدا على العالمين).
قوله: (لا تخيروني على موسى ): أي لا تفضلوني على موسى وهذا قاله - صلى الله عليه وسلم - من باب التواضع، وإلا فهو أفضل العالمين بالإجماع -عليه الصلاة والسلام-، أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التفضيل، إذا كان هذا من باب العصبية للجنس، وأجاب البعض بأجوبة غير هذه.
قوله: (فإن الناس يصعقون يوم القيامة...): هذا الصعق في موقف القيامة، حينما يتجلى الله -تبارك وتعالى- لفصل القضاء، فيصعق الناس، أي: تصيبهم غشية، فإذا صعقوا يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من يفيق، فإذا أفاق وجد موسى باطش بقائمة من قوائم العرش، وهذه منقبة لموسى عليه السلام.
قوله: (أكان فيمن صعق، فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله....): الرواية الصحيحة: (فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة يوم الطور): أما قوله: (أو كان ممن استثنى الله) فالصواب إنه وَهْمٌ من بعض الرواة، كما حقق ذلك المحققون كابن القيم وغيره؛ لأن الصعق هنا ليس فيه استثناء، إنما الاستثناء من صعقة الموت، كما في قوله -تعالى-: ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فصعقة الموت هي التي فيها استثناء، أما صعقة التجلي، فليس فيها استثناء، فحصل انقلاب من بعض الرواة، فانتقل من صعقة الموت إلى صعقة التجلي. فهذه من الحروف التي حصل فيها الوهم، وإن كانت في الصحيحين، وهذا ليس وَهْمًا من البخاري ؛ لأنه يروي ذلك بالسند، إنما الوَهْمُ من الراوي الذي حصل له انقلاب في هذا.
قوله: (أم كان ممن استثنى الله) فيه إثبات المشيئة لله -تعالى-، لكن كما تبين أن الحديث ليس فيه هذه اللفظة، وعلى هذا لا يكون هذا الحديث دليلا على إثبات المشيئة لله -تعالى- لأن الرواية الصحيحة أم جوزي بصعقة يوم الطور .
(1/103)
الملائكة تحرس المدينة من دخول الدجال
7473 -حدثنا إسحاق بن أبي عيسى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، ولا الطاعون إن شاء الله .
الشرح:
فيه أن المدينة لا يدخلها الدجال ولا يطؤها، وفي اللفظ الآخر: أن الدجال يرجف ثلاث رجفات في سبخة المدينة فيخرج إليه كل كافر وكافرة، وكل منافق ومنافقة، وكل خبيث وخبيثة وكذلك الطاعون لا يدخل المدينة وهذا من خصائص المدينة، والشاهد من الحديث قوله: (ولا الطاعون إن شاء الله): فيه إثبات المشيئة لله تعالى.
(1/104)
لكل نبي دعوة مستجابة
7474 -حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكل نبي دعوة، فأريد -إن شاء الله- أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة .
الشرح:
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع يوم القيامة أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله حدًّا فيدخلهم الجنة، والشاهد قوله: (فأريد -إن شاء الله...): ففيه إثبات المشيئة لله، عز وجل.
(1/105)
رؤيا النبي وفيها فضيلة لأبي بكر وعمر
7475 -حدثنا يَسَرة بن صفوان بن جميل اللخمي حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: بينا أنا نائم رأيتني على قليب، فنزعت ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع ذَنوبًا، أو ذَنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم أخذها عمر فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًّا من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس حوله بعَطَن .
الشرح:
هذه الرؤية التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - حق؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.
قوله: (فنزعت ما شاء الله...): نزع - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو الحاكم بين عباد الله في حياته، قوله: (ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا...): قال بعضهم إن هذا إشارة إلى القلاقل والفتن التي حصلت في زمنه، كأحداث الردة وغيرها، ومنهم من قال: إن هذا نص من النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، ومسالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على خلافة أبي بكر فيها خلاف، والصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص على خلافته، وأجيب أن هذا الحديث لو كان نصًّا في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- لكان نصًّا في خلافة عمر -رضي الله عنه-، ولم يقل أحد: إن خلافة عمر -رضي الله عنه- ثبتت بالنص، وعلى هذا فلا يكون نصًّا في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، وإنما ذلك من المُبَشِّرات وكشف للمستقبل.
قوله: (ثم أخذها عمر فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًّا من الناس يفري فريه..): أي: نزع نزعه، قوله: (حتى ضرب الناس بعَطَن): أي: حتى ضرب الناس بري، قال البعض هذا إشارة إلى طول مدته؛ لأنه -رضي الله عنه- حكم عشر سنوات ونصف، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- قد كفاه المؤمنة في حربه للمرتدين، فاستقرت الأحوال في خلافته، فتفرغ للفتوحات الإسلامية.
الشاهد من الحديث قوله: (فنزعت ما شاء الله أن أنزع): فيه إثبات المشيئة، لله عز وجل.
(1/106)
حديث: "اشفعوا فلتؤجروا"
7476 -حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه السائل، وربما قال: جاءه السائل، أو صاحب الحاجة قال: اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء .
الشرح:
هذا الحديث فيه الحث على الشفاعة، فيحسن للإنسان أن يشفع لمن يعرف حاله، كفقير يشفع له عند ولاة الأمور ليعطى من المال، أو للسجين حتى يُخرَج، فهو يؤجر في شفاعته تلك، سواء قبلت شفاعته، أم لم تقبل.
قوله: (ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء): هذا الشاهد من الحديث فيه إثبات المشيئة لله تعالى.
والله -تعالى- يقضي على لسان نبيه ما شاء، أي: أن شفاعته - صلى الله عليه وسلم - قد تقبل، وقد لا تقبل وكذلك من بعده -عليه الصلاة والسلام، قال -تعالى-: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا .
(1/107)
حديث: "لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت"
7477 -حدثنا يحيى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء لا مكره له .
الشرح:
هذا الحديث سبق وأعاده المؤلف -رحمه الله- ففيه أن الإنسان يعزم المسألة ولا يتردد، فيقول: اللهم اغفر لي إن شئت. والشاهد قوله: (اللهم اغفر لي إن شئت...): ففيه إثبات المشيئة لله عز وجل.
(1/108)
قصة موسى والخضر وفيها فضل العلم
7478 -حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو حفص عمرو حدثنا الأوزاعي حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه تمارى هو، والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى أهو خضر ؟ فمر بهما أبي بن كعب الأنصاري فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه، قال: نعم إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال موسى لا، فأوحي إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت، فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قال موسى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فوجدا خضرًا وكان من شأنهما ما قص الله .
الشرح:
قوله: (تماليت أنا وصاحبي...) في الرواية الأخرى (تماريت): والمعنى تجادلت، والمعنى أن ابن عباس تجادل هو والحر بن قيس هل الذي لقيه موسى هو الخضر أم لا؟ فلقيا أبي بن كعب فسألاه، فأخبرهم أنه الخضر .
قوله: (بلى عبدنا خضر ): أي: بلى عبدنا خضر أعلم منك. قوله: (هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: موسى لا...) وفي اللفظ الآخر: أن الله -تعالى- عاتب موسى ؛ لأنه لم ينسب العلم إليه قوله: (فسأل السبيل إلى لقيه): فيه فضل الرحلة لطلب العلم، حيث رحل موسى نبي الله -عليه السلام- إلى الخضر وفي لفظ: أن موسى قال للخضر جئت لأتعلم منك، فقال الخضر : ألا تكفيك التوراة التي أنزلها الله عليك فيه فضل الاستزادة من طلب العلم، قال -تعالى-: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا فإذا كان نبي كريم من أولي العزم الخمسة، يرحل في طلب العلم، ويركب البحر، ويسافر لطلب العلم، فكيف بغيره، فدل على أن العالم لا بأس أن يستزيد من العلم، وفيه فضل التواضع، حيث تواضع موسى كليم الرحمن للخضر فقال: هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت منه رشدا .
قوله: (فقال فتى موسى ): هو يوشع بن نون، صار نبيًّا بعد وفاة موسى -عليه السلام-، وهو الذي فتح بيت المقدس وهو الذي حبست له الشمس.
والشاهد من الحديث لم يأت به البخاري وهو قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ففيه إثبات المشيئة لله تعالى.
(1/109)
حديث: "ننزل غدًا إن شاء الله بخَيْف بني كنانة"
7479 -حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري وقال أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ننزل غدًا -إن شاء الله- بخَيْف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، يريد المحصب .
الشرح:
هذا في حجة الوداع لما قيل له: أين تنزل غدًا يا رسول الله فقال: (ننزل غدًا -إن شاء الله- بخَيْف بني كنانة ): والخَيْف هو الوادي، وهو الأبطح، وهما ليسا موجدان الآن بسبب البناء.
قوله: (حيث تقاسموا على الكفر): أي: تحالفوا على مقاطعة بني هاشم وحاصروا بني هاشم في الشعب ثلاث سنين، وكتبوا في ذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة على ألا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يؤاكلواهم، ولا يشاربوهم، حتى يسلموا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم. فدخل في الشِّعب بنو هاشم مؤمنهم وكافرهم، وبنو عبد المطلب كذلك. وهذا المكان الذي تقاسموا فيه على الكفر، أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يظهر فيه شعائر الإسلام، فنزل فيه في حجة الوداع.
والشاهد قوله: (ننزل غدًا إن شاء الله): ففيه إثبات المشيئة لله، عز وجل.
(1/110)
حصار النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف
7480 -حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن أبي العباس عن عبد الله بن عمر قال: حاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف فلم يفتحها فقال: إنا قافلون غدًا -إن شاء الله- فقال المسلمون: نقفل ولم نفتح قال: فاغدوا على القتال فغدوا، فأصابتهم جراحات قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا قافلون غدًا -إن شاء الله- فكأن ذلك أعجبهم، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الشرح:
قوله: (فتبسم رسول الله): أي: تبسم من ضعفهم، أولا: لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم-: ( إنا قافلون...) رفضوا وقالوا: (نقفل ولم نفتح) فلما أصابتهم الجراحات، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنا قافلون غدًا) أعجبهم ذلك.
والشاهد قوله: (إنا قافلون غدا إن شاء الله) ففيه إثبات المشيئة لله تعالى.
(1/111)
باب قول الله: "وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ"
إثبات صفة الكلام لله تعالى
32 - باب قول الله -تعالى-: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ولم يقل ماذا خلق ربكم؟ وقال جل ذكره: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئًا، فإذا فزع عن قلوبهم، وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان .
الشرح:
هذه الترجمة قصد منها المؤلف -رحمه الله- إثبات الكلام لله -عز وجل-، وأنه صفة من صفاته وأنه قائم بذاته، والرد على المعتزلة والجهمية القائلين إن القرآن مخلوق، فهؤلاء كفرهم السلف كالإمام أحمد وغيره، وهذا على العموم أما الشخص المعين، فلا بد من إقامة الحجة عليه، وفيه الرد على الكلابية والأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله معنى نفسي، ليس بحرف ولا صوت.
فقال المؤلف: قال مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ولم يقل: ماذا خلق ربكم، فالقول كلام، وهو غير الخلق، ولم تقل الملائكة: ماذا خلق ربكم، إنما قالوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فدل على أن كلام الله غير مخلوق.
قوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي: زال وذهب الفزع من قلوبهم، وذلك أن الملائكة يفزعون، فإذا تكلم الله بالوحي أخذت الملائكة والسموات منه رجفة، ويصعق الملائكة، فإذا فزع عن قلوبهم، وزال الفزع والخوف تنادوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فيقولون: قال الحق، وهو العلي الكبير. ولم يقولوا ماذا خلق ربكم.
قوله -تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ والإذن لا يكون إلا بالكلام والأمر، فدل على إثبات الكلام لله تعالى. ولم يقل: من ذا الذي يشفع عنده إلا بخلقه. فالله -تعالى- يأذن لنبينا بالشفاعة، ويأذن لغيره، لكن لا يشفع أحد إلا بإذنه، وقوله سبحانه وتعالى.
قوله: (وقال ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي...): فيه إثبات الكلام لله -عز وجل- وأنه بحرف وصوت؛ لقوله: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ .
الجهمية والمعتزلة يقولون: القرآن كلام الله، ولفظه ومعناه مخلوق، فصرحوا أنه مخلوق، والأشاعرة يقولون: كلام الله معنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت، والحروف والأصوات مخلوقة، فالكلام ليس لفظًا ولا حرفًا ولا صوتًا، بل هو معنى قائم بالنفس لا يسمع، لازم لذات الرب، كلزوم الحياة والعلم، وإذا قيل لهم: كيف تكلم الله بالوحي؟ قالوا: لم يتكلم، لكن اضطر جبريل ففهم معنى قائم بنفسه، فعبر جبريل بهذا القرآن، فالقرآن عبارة جبريل وأحيانًا يقولون: عبر عنه محمد فهو عبارة عبر به جبريل أو محمد فمنهم من قال: اضطر جبريل ففهم المعنى، ثم عبر عنه جبريل ومنهم من قال: ألقاه جبريل على نفس محمد فعبر به محمد ومنهم من قال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، ولم يتكلم الله -تعالى- بحرف ولا صوت؛ ولهذا يقول بعضهم: ليس في المصحف كلام الله حقيقة، والذي في المصحف كلام الله من باب المجاز، فعند المناظرة يقولون: ما في المصحف من كلام الله هو من باب المجاز، وأما في الواقع، فليس في المصحف كلام الله، فكلام الله معنى قائم بنفسه لا يسمع، وليس بحرف ولا صوت؛ ولهذا لو وطئ أحد الناس المصحف بقدميه عندهم، فإنه لا يؤثر؛ لأنه ليس فيه كلام الله. نعوذ بالله مما قالوا.
فتبين أن الأشاعرة جعلوا القرآن نصفه مخلوقًا، ونصفه غير مخلوق. نصفه غير مخلوق، وهو المعنى القائم بنفس الله، والحروف والأصوات مخلوقة، فهو نصف مذهب المعتزلة وهذا باطل، فالكلام اسم للفظ والمعنى، فكلام الله لفظه ومعناه بحرف وصوت كله كلام الله، ليس بمخلوق. وهؤلاء لم يكفرهم السلف ؛ لأن لهم شبهة، فهم متأولون.
قوله: (عن عبد الله بن أنيس يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من قرب...) إلخ.
هذا الآثر فيه إثبات الكلام لله -عز وجل-، وإثبات النداء، لقوله: (فيناديهم) والنداء نوع من أنواع الكلام، وهو الكلام من بعد، وفيه إثبات الصوت لله -عز وجل- لقوله: (فيناديهم بصوت) فهذا يدل على أنه بحرف وصوت، ففيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله ليس بحرف ولا صوت. وفيه أن كلام الله لا يشبه كلام المخلوقين؛ لأنه يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، بخلاف كلام المخلوقين؛ لأن كلام المخلوقين يسمعه القريب، أما البعيد فلا يسمعه. وأخطأ من قال من الشراح: إن معنى قوله: (بصوت) أنه مخلوق غير قائم به. فهذا باطل؛ لأن الصوت هو صوت الله -عز وجل- لقوله: (فيناديهم بصوت).
قوله: (ويذكر، عن جابر ): فيه كلام لأهل العلم، فابن القيم صححه، وقال: إن له شواهد وأن من فيه ضُعّف، ووافق في روايته الثقات فيقبل، وكلامه صحيح؛ لأن هناك أحاديث كثيرة تثبت الكلام لله، وأنه بحرف وصوت. والأثر فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه سوء حفظ. والبخاري علقه بصيغة التمريض. وفي موضع آخر في كتاب العلم، ذكره البخاري بصيغة الجزم فقال: (ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس شهرًا في حديث واحد) وهو حديث في المظالم، وهو هذا الحديث.
والكتب الآن مطبوعة، والأحاديث مجموعة، ولكن متى يقرأ الإنسان، وإذا قرا متى يفهم، وإذا فهم متى يعمل، فالله المستعان، فنسأله -سبحانه- أن يصلح الأحوال.
قوله: (أنا الديان) أي: المجازي المحاسب، من قوله -تعالى-: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
(1/112)
إثبات القول لله وأنه يقول ويتكلم
7481 -حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان .
قال علي وقال غيره: صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ .
قال علي وحدثنا سفيان حدثنا عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بهذا قال سفيان قال عمرو سمعت عكرمة حدثنا أبو هريرة - رضي الله عنه بهذا، قلت: لسفيان قال: سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة ؟ قال: نعم، قلت لسفيان إن إنسانًا روى عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يرفعه: أنه قرأ فرغ قال سفيان هكذا قرأ عمرو فلا أدري سمعه هكذا أم لا؟ قال سفيان وهي قراءتنا. .
الشرح:
قوله: (خُضْعانًا): فيها وجهان، بضم الخاء وسكون الضاد، وبفتح الخاء والضاد.
قوله: (إذا قضى الله بالأمر...): الحديث واضح الدلالة في إثبات الكلام والصوت لله -عز وجل-، ودليل ذلك قوله (خُضْعانًا لقوله): ففيه إثبات القول لله، وأنه يقول ويتكلم.
قوله: (كأنه سلسلة على صفوان): أي: الصوت المسموع من كلام الله، سلسلة على صفوان، والصفوان: هو الحجر الأملس. فالسلسلة إذا ضربت بها الحجر، يكون لها صوت، وليس المراد أن كلام الله يشبه صوت السلسلة، لأن كلام الله لا يشبه شيئًا من كلام المخلوقين، ولا أصواتهم، بل المراد إثبات الصوت، وأن كلام الله بصوت، كما أن السلسلة التي على صفوان يسمع منها صوت. فالمراد إثبات أن كلام الله بصوت مسموع، بحرف وصوت لا يشبه كلام ولا حروف المخلوقين، ولا أصواتهم. هذا الصواب من معتقد أهل السنة والجماعة
قوله: (أنه قرأ فرغ): بالراء المهملة، والمعنى أن علي ابن المديني يسأل شيخه سفيان أن بعضهم يقرؤها: (حتى إذا فرغ) فقال سفيان هذه قراءتنا. فقوله: (حتى إذا فرغ عن قلوبهم) هذه قراءة، والقراءة المشهورة حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بالزاي المعجمة.
(1/113)
إثبات الاستماع لله وهو من الصفات الفعلية
7482 -حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - يتغنى بالقرآن، وقال صاحب له: يريد أن يجهر به .
الشرح:
فيه إثبات أن القرآن كلام الله. قوله: (ما أذن الله لنبي): أي: ما استمع، ففيه إثبات الاستماع لله وهو من الصفات الفعلية، التي تليق بجلاله وعظمته، والمراد (بالنبي) في الحديث الجنس، أي: جنس النبي، وليس المراد به نبيًّا بعينه.
والمعنى: ما استمع الله لشيء، ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن، أي: يُحَسّن صوته بالقراءة.
قوله: (وقال صاحب له: يتغنى أي: يجهر به): أي: قال صاحب لأبي هريرة تفسير يتغنى أي: يجهر بالقراءة. والصواب أن معنى يتغنى بالقرآن: أي: يُحَسّن صوته بالقراءة؛ ولذا روي في الحديث: من لم يتغن بالقرآن فليس منا ورُوي عن سفيان: أن معنى (يتغنى) أي: يستغني بالقرآن عن غيره. وهذا قول ضعيف، وهو غريب من سفيان.
والمراد (بالقرآن) أي: المقروء، أي: جنس كلام الله، وهذا هو الشاهد من الحديث، فهو يتغنى بالقرآن الذي هو كلام الله. فدل على إثبات أن القرآن كلام الله، ومن ذلك تغني داود -عليه السلام- بالزبور فكان إذا قرأ القرآن، أي: المقروء؛ لأن القرآن هنا اسم جنس، والمراد به الزبور، فكان -عليه السلام- إذا قرأ اجتمعت الطير، وجاوبته الجبال، كما قال -تعالى-: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وفي الآية الأخرى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ فكان -عليه السلام- حسن الصوت، فإذا قرأ الزبور جاوبته الجبال، واجتمعت له الطيور والوحوش.
وكان أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- حسن الصوت، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود أي: أوتي صوتًا حسنًا. حتى قال أبو موسى لو علمت باستماعك لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا أي: حسنته لك تحسينًا. فهذا يفيد مشروعية تحسين الصوت والتخشع عند تلاوة القرآن، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة الفتح وجعل يرجع ترجيعا إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا آآآ .
بتكرار الهمزة. فالترجيع هو ترديد الصوت، والحرف لأجل التشخع، وليس سببه اضطراب دابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال بعضهم.
فكلام الله مكتوب في المصاحف، ومقروء بالألسن، ومحفوظ في الصدور. أما الأشاعرة فيقولون: ليس في المصحف كلام الله، وليس بحرف وصوت. بل كلام الله معنى قائم بنفسه؛ ولذا كما ذكرنا سابقًا، عندهم أن من وطئ المصحف بقدميه لم يكن عليه بأس؛ لأنه ليس في المصحف كلام الله.
فائدة:
من قال: إن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ، كلامه صحيح. فأنت تقرأ كلام الله بصوتك أنت. ولهذا يقال: فلان حسن الصوت، وفلان ليس بحسن الصوت. وسيأتي ما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عن الخوارج أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم فدل على أنها أفعال لهم.
أما الأشاعرة فلهم في كلام الله ثلاثة أقوال، كما ذكرنا من قبل:
1 - أن الكلام معنى قائم بنفسه، لا يسمع، وليس بحرف ولا صوت، فاضطر الله جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه، فعبر بهذا القرآن، فهو كلام جبريل
2 - أن جبريل هو الذي ألقاه على محمد -عليه الصلاة والسلام-، وعبر به محمد فهو عبارة، عن قول محمد عليه الصلاة والسلام.
3 - أن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، ولم يتكلم الله بالقرآن، فهو ليس بحرف ولا صوت يسمع، بل هو قائم بنفسه كالعلم قائم بنفسه. هذا قول الأشاعرة والكلابية
(1/114)
إثبات الكلام والنداء لله تعالى
7483 -حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي، حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار .
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات الكلام لله من وجوه متعددة: فقوله: (إن الله يقول: يا آدم ) ففيه إثبات القول لله، قوله: (فينادي): فيه إثبات النداء لله -تعالى-، والنداء نوع من أنواع الكلام، وهو النداء من بعد، أما النجاء فهو الكلام من قرب، يسمى المناجاة. والله -تعالى- أثبت لنفسه المناداة قال -تعالى-: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وأثبت النجاء بقوله: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا قوله: (فينادي بصوت) فيه إثبات الصوت لله -تعالى-، وأن كلام الله بحرف وصوت يسمع. وأهل البدع لا يطيقون هذا، فيقولون: معنى قوله: (بصوت) أي: صوت المخلوق.
قوله: (يا آدم ) ناداه الله -تعالى- لأنه أب للبشرية. قوله: (أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار..) جاء في حديث آخر: فيقول: ربي من كم، فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وواحد إلى الجنة، فشق ذلك على الصحابة فقال - صلى الله عليه وسلم -: أبشروا، من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد .
والشاهد من الحديث إثبات القول لله وإثبات النداء وإثبات الصوت له، سبحانه. وهذه النصوص شجن في حلوق الجهمية والمعتزلة والأشاعرة
(1/115)
إثبات الأمر لله وهو من الكلام وفضيلة لخديجة
7484 -حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة .
الشرح:
قوله: (ولقد أمره ربه): هذا الشاهد من الحديث، فالأمر لا يكون إلا بالكلام، والأمر نوع من أنواع الكلام، لأن الكلام أنواع: كالأمر والنهي والاستفهام. وأخطأ من قال من الشراح: (أنا المنادي ملك، يأمره الله بالنداء) فهذا هو التاويل بعينه.
قوله: (يبشرها ببيت في الجنة) في اللفظ الآخر ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب أي: من قصب اللؤلؤ والدر المجوف. وهذه منقبة لخديجة -رضي الله عنها- لهذا غارت منها عائشة وهي لم ترها. فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر خديجة كثيرًا، وكان يذبح الشاة، ثم يوزعها في خلائل خديجة حتى قالت عائشة مرة: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، ماتت في الدهر الأول، أبدلك الله خيرًا منها وهذا في الصحيحين. وجاء في بعض الروايات ما أبدلني خيرا منها وهو في غير الصحيح.
(1/116)
إثبات الكلام لله تعالى مع جبريل والملائكة
33 - باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة وقال معمر وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي: يلقى عليك، وتلقاه أنت أي: تأخذه عنهم ومثله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ .
الشرح:
هذه الترجمة فيها إثبات الكلام لله -عز وجل-، أي: كلام الله -تعالى- مع جبريل والملائكة، وأن كلام الله يسمعه جبريل والملائكة، فدل على أنه بحرف وصوت يسمع. ففيه الرد على الأشاعرة والكلابية الذين يقولون: إن كلام الله لا يسمع، وأنه معنى نفسي قائم بنفس الله، ليس بحرف ولا صوت. والعجيب أن صفة الكلام من الصفات السبع، التي يثبتها الأشاعرة فالأشاعرة لا يثبتون إلا سبع صفات هي:
الحياة، والكلام، والسمع، والبصر، والإرادة، والعلم، والقدرة. والحقيقة أنهم لم يثبتوا صفة الكلام كما ينبغي. فأثبتوا كلامًا على أنه معنى قائم بالنفس، ليس بحرف ولا صوت. ولم يثبتوا الكلام حقيقة. فنصف مذهبهم يوافق أهل السنة وهو المعنى، ونصفه يوافق المعتزلة وهو اللفظ. فقولهم اللفظ مخلوق، يوافق مذهب الجهمية والمعتزلة وقولهم: إن المعنى غير مخلوق، يوافق مذهب أهل السنة فالجهمية والمعتزلة يقولون: الكلام لفظه ومعناه مخلوقان، وأهل السنة يقولون: الكلام لفظه ومعناه كلام الله غير مخلوق، والأشاعرة قالوا: لفظه وهي الحروف والأصوات مخلوقة، ومعناه غير مخلوق وهو قائم بنفس الرب.
قوله: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي: يلقيه جبريل ففيه إثبات أن كلام الله مسموع، وأن الله -تعالى- يلقيه على جبريل بعد سماعه من الله، ثم يلقيه جبريل على النبي، صلى الله عليه وسلم.
(1/117)
حديث: "إذا أحب عبدًا نادى جبريل"
7485 -حدثني إسحاق حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن، هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه، عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله -تبارك وتعالى- إذا أحب عبدًا نادى جبريل إن الله قد أحب فلانًا، فأَحِبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانًا، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض .
الشرح:
هذا الحديث فيه إثبات الكلام لله -عز وجل-، لقوله: (فينادي جبريل ): فدل على أنه كلام يسمعه جبريل والنداء يكون من بعد، وهو من الكلام، وهو بحرف وصوت، وفيه إثبات المحبة لله -عز وجل- لقوله: (إن الله -تبارك وتعالى- إذا أحب عبدا...) وفي الحديث الآخر: وإذا أبغض عبدًا نادى جبريل إن الله يبغض فلانًا، فأبغضه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا، فأبغضوه فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فائدة:
صفة الكلام لله -تعالى- صفة ذاتية فعلية، فأصل الكلام قديم النوع، حادث الآحاد فالكلام قديم وآحاده حادثة. فالله -تعالى- يتكلم متى شاء إذا شاء كيف شاء.
(1/118)
حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"
7486 - حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم، وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون .
الشرح:
فيه إثبات الكلام لله -عز وجل- بدليل قوله: (فيسألهم وهو أعلم بهم...): فدل على أن الله -تعالى- يسأل الملائكة، وهو أعلم -سبحانه- وهم يسمعون كلامه، وفيه أن الله -تعالى- اعتنى ببني آدم، وأوكل بهم ملائكته، من الحفظة والكتبه، وأن لليل ملائكة وللنهار ملائكة، وأنهم يجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، ففي صلاة الصبح ينزل ملائكة النهار، ويصعد ملائكة الليل، وفي صلاة العصر ينزل ملائكة الليل، ويصعد ملائكة النهار، (فيسألهم الله -تعالى- وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ قالوا: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، فأتوهم في صلاة الصبح، وهم يصلون، وتركوهم في صلاة العصر، وهم يصلون. هذا في المصلي، والذي لا يصلي ماذا تكون حاله؟! فمن أتته الملائكة، وهو نائم، أو غافل، أو عاص لله -تعالى-، فهو في خسارة عظيمة.
قوله: (يتعاقبون فيكم...): يسمونها لغة (أكلوني البراغيث) وهي لغة قليلة، وهي اجتماع الظاهر والمضمر، أي: اجتماع الواو والملائكة، الأصل أن يقول: يتعاقب فيكم ملائكة، فيكون فاعل الملائكة، لكن أتى هنا بالضمير وبالمظهر فقال (يتعاقبون فيكم ملائكة) وهذه اللغة كما ذكرنا قليلة، لكن جاء بها القرآن ومنه قوله -تعالى-: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .
(1/119)
الموحد الذي مات على التوحيد مآله الجنة والسلامة
7487 -حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن واصل عن المعرور قال: سمعت أبا ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، قلت: وإن سرق وإن زنى، قال: وإن سرق وإن زنى.
الشرح:
هذا الحديث فيه بشارة عظيمة للمؤمن، وأن الموحد الذي مات على التوحيد مآله الجنة والسلامة، ولو مات على شيء من المعاصي والكبائر، لكن قد يصيبه قبل دخوله الجنة عذاب، سواء كان في القبر، أو أهوال تصيبه في موقف يوم القيامة، أو عذاب في النار، فقد يعذب بالزنا والسرقة وغيرها من الكبائر، وقد يعفى عنه، فهو تحت مشيئة الله -تعالى-، ولا يعني هذا التساهل في المعاصي، بل المعاصي شأنها عظيم، وقد توعد الله أصحاب الكبائر بوعيد شديد؛ لذلك قد تطول مدة بقاء بعض الموحدين في النار كقوله -تعالى- في القاتل عمدا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ولا يكون كافرًا إذا لم يستحله، والخلود هنا هو المكث الطويل.
والشاهد من الحديث خفي ليس بظاهر، وهو قوله: (أتاني جبريل فبشرني) فجبريل يبشره بما أمره، وأخبره به ربه، فهو يسمع الكلام من الله، ثم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما سمعه من ربه.
(/)
كلام الله منزل غير مخلوق حديث: "فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة"
34 - باب قول الله -تعالى- أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ
قال مجاهد يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بين السماء السابعة والأرض السابعة.
7488 -حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك، الذي أرسلت، فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت أجرًا .
الشرح:
هذه الترجمة قصد بها المؤلف -رحمه الله- إثبات الكلام لله، وأنه صفة من صفاته، وأنه قائم بذاته، وأن كلام الله منزل غير مخلوق، وفيه الرد على المعتزلة القائلين: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله -تعالى- يقول: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ فالقرآن منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود هذا قول أهل السنة والجماعة قال -تعالى-: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا وقال -تعالى- قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ وقوله أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ .
والمؤلف -رحمه الله- أطال في مسألة كلام الله -تعالى-، لأنها مسألة شائكة، خالف فيها أهل البدع وأهل الكلام.
قوله: قال مجاهد يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ يشير إلى قوله -تعالى-: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا .
قوله: ( اللهم أسلمت نفسي إليك...) هذا الحديث: يدل على فضل هذا الذكر، وأنه ينبغي للإنسان أن يقوله عند النوم، وأن يجعله آخر ما يقول؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: واجعلهن آخر ما تقول .
قوله: (وبنبيك الذي أرسلت) في بعض الروايات أن الراوي قال: (وبرسولك الذي أرسلت).
فقال: لا تقل ذلك بل قل: (وبنبيك الذي أرسلت) وهذا دليل على أنه ينهى أن يغير في الأذكار، فالأذكار لا تغير ولا تروى بالمعنى، وهذا الدعاء عظيم ينبغي أن يواظب المسلم عليه؛ لما فيه من الالتجاء إلى الله -عز وجل-، وإسلام النفس والوجه إلى الله، والتفويض إليه واللجوء، والرغبة إليه -سبحانه وتعالى-، وإعلان الإيمان بالكتاب المنزل، وبالرسول المرسل -عليه الصلاة والسلام- وفيه فضل هذا الذكر، وأنه إن مات مات على الفطرة، وإن أصبح أصاب أجرًا، وهذا الذكر يجعله في آخر أذكار النوم، وفي اللفظ الآخر (الأمر بالوضوء عند النوم، وأن يضطجع على شقه الأيمن، وأن يجعل يده تحت خده، ويقول هذا الذكر).
قوله: (فإنك إن مت من ليلتك، مت على الفطرة): أي: فطرة الإسلام، وهي الطريقة المستقيمة، وهي التوحيد، قال -تعالى-: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا .
قوله: (أصبت أجرًا) في الرواية الأخرى، (أصبت خيرًا).
والشاهد من الحديث قوله: (آمنت بكتابك الذي أنزلت) فالكتاب هو القرآن، فهو يدل على أن القرآن منزل غير مخلوق. وليس كما قال بعض الشراح (المراد بالإنزال إفهام العباد معاني الفروض، التي في القرآن، وليس إنزاله له كإنزال الأجسام...) فهذا ليس بصحيح، فليس المراد بالإنزال هو الإفهام، بل الإنزال إنزال حقيقي، فالله -تعالى- تكلم بالقرآن وحيًا وسمعه جبريل ونزله على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - قال -تعالى-: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ وقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ فقوله: (أن الإنزال هو الإفهام) تأويل باطل من قول الأشاعرة
(1/120)
حديث "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب"
7489 -حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، وزلزلهم زاد الحميدي حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي خالد سمعت عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
هذا الحديث يدل على أنه ينبغي الدعاء والتضرع إلى الله عند لقاء العدو، وذلك بعد إعداد العدة، فعليه بعد ذلك أن يستنصر الله، ويستنزل منه النصر على الكفار، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب. قوله: (الأحزاب): جمع حزب، وهم الكفار الذين تحزبوا وتجمعوا لقتال المؤمنين في غزوة الخندق، وذلك في السنة الخامسة. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ العدة وعمل بالأسباب كحفر الخندق ومشورته لأصحابه، ثم بعد ذلك دعا النبي ربه، واستنصره عليهم، ومن ذلك هذا الدعاء. قوله: (اهزمهم) وفي رواية أخرى زاد (وانصرنا عليهم). فقبل الله -تعالى- دعوة نبيه،ونصر حزبه المؤمنين، فأرسل الله على الكفار ريحًا تزلزلهم، وتقلع خيامهم، وتكفأ قدورهم، والملائكة تقذف الرعب في قلوبهم، حتى لم يقرَّ لهم قرار فارتحلوا خائبين، كما قال -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا وكان يومًا شديدًا على المؤمنين، بلغت الشدة بهم مبلغًا عظيمًا، وبلغت القلوب الحناجر، ونجم النفاق، وظهر المنافقون وأظهروا نفاقهم، كما قال -تعالى-: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا .
وقال سبحانه: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا .
والشاهد من الحديث قوله: (اللهم منزل الكتاب) ففيه أن القرآن منزل غير مخلوق، وفيه الرد على من قال إنه مخلوق. والمعتزلة من شبههم أنهم يقولون: كونه منزل لا يمنع أن يكون مخلوقًا، كقوله -تعالى-: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيقولون: الحديد منزل، وهو مخلوق، وقوله -تعالى-: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ وقوله وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا فيقولون: هذه مخلوقات، وهي منزلة، وكذلك القرآن.
والجواب أن ما ذكره الله -تعالى- من إنزال هذه الأشياء معروف ومعلوم، فالحديد معلوم أنه ينزل من الجبال ويؤخذ منها، كذلك إنزال الأنعام معلوم أنه من البطون، وإنزال المطر مقيد أنه من السماء. بخلاف القرآن فإنه صريح أنه منزل من عند الله -تعالى-، كما قال -تعالى-: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ وقوله وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي فحجة هؤلاء داحضة عليهم.
(1/121)
حديث: "فكان إذا رفع صوته سمع المشركون فيسبوا القرآن"
7490 -حدثنا مسدد عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا قال: أنزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوارٍ بمكة فكان إذا رفع صوته سمع المشركون، فسبوا القرآن، ومن أنزله ومن جاء به فقال الله -تعالى-: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ حتى لا يسمع المشركون وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عن أصحابك فلا تسمعهم وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أسمعهم، ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن .
الشرح:
هذه الآية -كما جاء في الحديث- أنزلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - متخفٍ بمكة من المشركين. قوله: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ أي: بقراءتك، فالمراد بالصلاة هنا القراءة. فالمعنى كما في الحديث: لا تجهر بقراءتك حتى لا يسمعه المشركون، فيسبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به وَلَا تُخَافِتْ بِهَا أي: لا تخفض صوتك؛ لأنك إذا خفضت صوتك لم يسمعه أصحابك، ولم يأخذوا عنك وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أي: وسطًا بين الجهر والإخفات، فهذا فيه جمع بين المصلحتين.
والشاهد قوله: (أنزلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - متوارٍ بمكة ) فهذا يدل على أن القرآن منزل غير مخلوق. وفيه التصريح أن هذه الآية نزلت من عند الله تعالى. وفي الرد على من قال: إن القرآن مخلوق من المعتزلة وغيرهم.
(1/122)
باب قول الله "يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ"
35 - باب قول الله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ حق وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ باللعب.
الشرح:
هذه الترجمة كالسابقة، فيها إثبات الكلام لله -عز وجل- وأن الله -تعالى- يتكلم بكلام مسموع، يسمعه من شاء من خلقه، بحرف وصوت يسمع، وفيه أن كلام الله منه القرآن وغير القرآن، فالقرآن من كلام الله، كذلك الكتب المنزلة تكلم الله بها، فقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ يشمل القرآن وغير القرآن. والله -تعالى- يسمع من يشاء من خلقه فسمعه جبريل وسمعه نبينا -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، وسمعه موسى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ويكلم الله -تعالى- العباد يوم القيامة، فيكلم آدم فيقول -سبحانه-: يا آدم أخرج بعث النار بحرف وصوت يسمع كما سبق.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ هذا جاء في المنافقين في سورة الفتح، كما قال تعالى: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا فالله -تعالى- أخبر أنهم لم يتبعوا المؤمنين لذلك قال: لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ .
قوله إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي: حق المقصود القرآن، ففيه إثبات أن القرآن قول، وأنه قول الله وكلامه، قوله: وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ أي: باللعب بل هو جد.
(1/123)
حديث: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر"
7491 - حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار .
الشرح:
هذا الحديث يفيد النهي عن سب الدهر، وأن من سب الدهر، فقد آذى الله، ولا يلزم من الإيذاء الضرر، فمن سب الدهر، فقد آذى الله، لكن الله -تعالى- لا يلحقه ضرر، ولا يضره أحد من خلقه، ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فهؤلاء يؤذون الله ورسوله، ولكن لا يضرون الله، ولا يضرون رسوله. ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله فهذا آذى الله ورسوله، ولا يلزم من الإيذاء الضرر، لأن الله لا يضره أحد من خلقه.
قوله: (من سب الدهر) والدهر هو الليل والنهار؛ ولذا قال: (يسب الدهر، وأنا الدهر).
قوله: (بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) وفي لفظ (أقلب ليله ونهاره) ومن سب الدهر، فقد سب المدبر للدهر، وهو الله تعالى؛ لذلك قال (بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) ومن أمثلة سب الدهر، لعن اليوم أو الساعة، أو الشهر، وكقول أحدهم:
عضنا الدهر بنابه
ليت ما حل بنا به
فهذا من سب الدهر المنهي عنه.
والدهر ليس من أسماء الله تعالى، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن الدهر هو الليل والنهار، وقد غلط العلماء كابن حزم في عده الدهر من أسماء الله تعالى، أخذًا منه بهذا الحديث، وهذا غلط واضح؛ لأن الحديث بين أن الدهر ليس هو الله، وهذا تفسير للحديث.
والشاهد قوله: (قال الله -تعالى- يؤذيني ابن آدم) ففيه إثبات القول لله -عز وجل- وأن الله يقول. وكذلك قوله: (بيدي الأمر) والأمر نوع من أنوع الكلام.
فائدة:
جاء في حديث الدنيا ملعونة ملعون ما فيها المراد بالدنيا أي: ما يكون فيها، وأنه يستثنى ما يكون فيها من الخير، فليس المقصود نفس الدهر؛ لأن الدهر هو الليل والنهار، وإنما الكلام فيما يفعله الناس في الليل والنهار، كما قال أحدهم:
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
والجديدان هما الليل والنهار، والمراد هو عمل الإنسان فيهما، ومعنى (ملعونة) أي: مذمومة فكل عمل بني آدم مذموم فيهما إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا .
فائدة:
وصف اليوم بأنه يوم شديد، أو نحس ليس من سب الدهر، إنما هو من باب الخبر، يدل عليه قوله تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ فوصف اليوم بأنه نحس، وهذا من باب الوصف، وليس من باب السب.
(1/124)
حديث: "الصوم لي وأنا أجزي به"
7492 - حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله -عز وجل- الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جُنة، وللصائم فرحتان فرحة حين يفطر وفرحة، حين يلقى ربه، ولَخَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .
الشرح:
هذا فيه فضل الصوم، حيث أضافه الرب -سبحانه وتعالى- إلى نفسه، فقال: (الصوم لي وأنا أجزي به...) ومن المعلوم أن الأعمال كلها لله -عز وجل-، لكن لما كان الصوم سرًّا بين العبد وبين ربه، أضافه الله إليه؛ لذلك قال -تعالى- (وأنا أجزي به) فالله -تعالى- يجزي على الصوم جزاء، ليس محددًا، على حسب إخلاص العبد؛ ولأنه من الصبر والله -تعالى- يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثم قال: (يدع شهوته وشربه وأكله من أجلي) ولو شاء لما فعل، فهو خفي وسر بين العبد وبين ربه، فكونه يدع هذه الأشياء من أجل الله، وهو يستطيع أن يفعلها، ويتناولها دل على فضله؛ ولهذا تولى الرب -سبحانه- جزاءه بنفسه.
قوله: (للصائم فرحتان فرحة حين يفطر) لأنه يفرح بتمام صومه، وأن الله -تعالى- أباح له المفطرات التي يميل إليها بالطبع، (وفرحة حين يلقى ربه) عندما يلقي جزاءه موفرًا ومدخرًا، لَهُو أحوج ما يكون إليه، واللقاء يلزم منه رؤية، قال -تعالى-: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ فهو يدل على رؤية المؤمنين لربهم، أما الكفار فيكون لهم لقاء ليس معه رؤية. والأشاعرة يثبتون الرؤية، لكن لا إلى جهة، فهم ينفون الجهة، والمعتزلة ينفون الرؤية والجهة، وأهل السنة يثبتون الرؤية، ويثبتون الجهة. فالأشاعرة على عادتهم مذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فأخذوا الرؤية التي أثبتها المؤمنون، ونفوا الجهة التي نفاها المعتزلة
فهو عندهم -سبحانه- يُرى لكن لا إلى جهة، لا أمام ولا خلف ولا يمين ولا شمال، ولا أعلى ولا أسفل، وهذا غير معقول وغير متصور، فلا بد في الرؤية أن يكون الرائي مواجهًا للمرئي، ومباينًا له. ولذلك أنكر جمهور العقلاء عليهم ذلك، وقالوا: إن كلامهم هذا غير متصور.
قوله: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله...) يقال: خَُلوف بفتح الخاء وضمها، والخلوف: هي الرائحة المستكرهة التي تنبعث من الصائم بسبب خلو المعدة، من الطعام والشراب، وهي وإن كانت مستكرهة عند الناس في الدنيا، إلا أنها محبوبة عند الله -تعالى- كونها نشأت عن طاعته وابتغاء مرضاته.
والشاهد من الحديث قوله: (يقول الله تعالى) فهذا حديث قدسي، وفيه إثبات القول لله -تعالى- وأن الله -تعالى- يقول ويتكلم بحرف وصوت يسمع.
(1/125)
حديث: "بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد"
7493 - حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أيوب يغتسل عريانًا خَرّ عليه رِجْلُ جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك .
الشرح:
هذا فيه آية عظيمة من آيات الله -تعالى-، وهو أن أيوب عليه السلام (خر عليه رجل جراد من ذهب) (رِجْلُ) أي: جماعة، ويطلق على الجماعة الكثيرة، والمعنى أن جرادًا كثيرًا نزل، وتساقط عليه، لكنه ليس جرادًا من لحم، بل جراد من ذهب، فهذا من آيات الله العظيمة قال -تعالى-: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهذا يدل على قدرة الله العظيمة، وأن الله -سبحانه وتعالى- لا يعجزه شيء.
والحديث يدل على جواز الاغتسال عريانًا، إذا كان الإنسان في مأمن من رؤية غيره له، وهذا يدل على خطأ من يرى أن الإنسان لا يجوز له أن يكشف عورته، ولو كان وحده، والصواب جواز الاغتسال عريانًا وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. وفيه أنه لا غنى للإنسان، عن بركة الله، عز وجل.
والشاهد من الحديث قوله: (فناداه ربه) ففيه إثبات النداء لله -تعالى-، والنداء نوع من أنواع الكلام، وهو الكلام من بعد، عكس النجاء، وهو الكلام من قرب، فدل الحديث على أن الله -تعالى- تكلم بحرف وصوت يسمع، سمعه أيوب -عليه السلام- بحرف وصوت، وفيه الرد على المعتزلة القائلين: إن كلام الله -تعالى- مخلوق لفظه ومعناه، وعلى الأشاعرة والكلابية القائلين: إن كلام الله ليس بحرف ولا صوت يسمع، بل الكلام قائم بنفس الرب لا يسمع، وهو ملازم لذات الرب كلزوم العلم، والحروف والأصوات مخلوقة، وهي من كلام جبريل أو كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبر به عن هذا القرآن، فليس في المصحف كلام الله عندهم. وهذا من أبطل الباطل، فالحديث فيه رد عليهم، وهذه كلمات سمعها أيوب -عليه السلام- من ربه بحرف وصوت. فعلم من هذا أن الصواب أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، حروف وأصوات، وهو كلام الله مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، متلو بالألسن.
فائدة:
الأشاعرة مذهبهم مذبذب بين أهل السنة وبين المعتزلة فهم يريدون أن يكونوا مع أهل السنة ولا يريدون أن يخالفوا المعتزلة فهم في مسألة الرؤية مع أهل السنة في إثبات الرؤية، ومع المعتزلة في نفي الجهة، وكذلك مسألة الكلام، هم مع أهل السنة في إثبات المعنى ومع المعتزلة في إثبات أن الحروف والأصوات مخلوقة، فهم مذبذبون؛ ولهذا يسميهم بعض العلماء مخانيث الفلاسفة، والخنثى هو الذي ليس بأنثى ولا ذكر، بل له آلة أنثى وآلة ذكر، فالأشاعرة كالخنثى، ليسوا من أهل السنة وليسوا من المعتزلة بل بين هؤلاء وهؤلاء.
(1/126)
حديث: "يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا"
7494 - حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن ابن شهاب عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتنزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له .
الشرح:
هذا حديث عظيم، فيه إثبات التنزل الإلهي، قوله (يتنزل ربنا) في لفظ آخر (ينزل ربنا) وهذا الحديث من الأحاديث المتواترة، التي وردت في الصحاح والسنن والمسانيد، فهو يثبت التنزل الإلهي إلى السماء الدنيا، نزولا يليق بجلال الله وعظمته.
قوله: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه...) الدعاء أعم، والسؤال أخص والاستغفار أخص، فبدأ بالأعم، ثم بالخاص، ثم الأخص، فالاستغفار نوع من السؤال، والسؤال دعاء، والله -تعالى- يقول: هذا حتى يطلع الفجر. ففيه فضل قيام الليل، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر من أول الليل ومن أوسطه، ثم انتهى وتره إلى السحر فثلث الليل الآخر وقت عظيم فاضل؛ لأنه وقت التنزل الإلهي، فينبغي للإنسان أن يتعرض لهذا الوقت العظيم،ونزول الرب -سبحانه وتعالى- من الصفات الفعلية التي تليق به -سبحانه- لا يصح أن يكيف، فمعنى النزول في اللغة العربية معلوم، لكن كيفيته مجهولة، لا يعلمها إلا هو -سبحانه وتعالى- ونزول ربنا -سبحانه- إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، في أي مكان من الدنيا وليس في هذا إشكال؛ لأن بعض الناس يستشكل ويقول: قد يكون ثلث الليل في قُطر، فإذا انتهى جاء إلى القُطر الثاني، وهكذا، فلا يزال ربنا يتنزل؟ وهذا الإشكال غير صحيح وغير وارد أصلا؛ لأن هذا تكييف بالنسبة لك؛ لأنه لا يصح لنا أن نكيف النزول، بل نثبت أن الله -تعالى- ينزل إلى السماء الدنيا، حين يبقى الثلث الآخر نزولا يليق بجلاله وعظمته، ولا نكيفه.
والشاهد من الحديث قوله: (فيقول: من يدعوني...) ففيه إثبات القول لله -عز وجل- وأنه -سبحانه- يتكلم بحرف وصوت.
فائدة:
الصفات الذاتية هي التي لا تنفك عن البارئ، كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعلو والعزة والعظمة والكبرياء والجلال، أما الصفات الفعلية فهي التي يفعلها الرب بمشيئته واختياره، مثل الكلام والنزول والاستواء والضحك والغضب والرضا والعجب، فالاستواء من الصفات الفعلية؛ لأنه كان بعد خلق السماوات والأرض، فالله -تعالى- خلق العرش ثم خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش. أما الصفات الذاتية الفعلية فهي بالنسبة إلى نوع الصفة ذاتية، وبالنسبة إلى أفرادها هي فعلية، فالكلام والخلق والرزق والإحياء والإماتة، كلها قديمة النوع حادثة الآحاد والأفراد.
(1/127)
حديث قول الله "أنفق أنفق عليك"
7495 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد أن الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة .
7496 - وبهذا الإسناد قال الله: أَنْفِقْ، أُنْفِق عليك .
الشرح:
هذا الحديث فيه فضل النفقة، وأن من أنفق فهو موعود بالخلف، قال -تعالى-: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسماء -رضي الله عنها-: أنفقي وانفحي، وانضحي، ولا توكي، فيوكي الله عليك وفي الحديث الآخر: ما من يوم يطلع إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا .
والشاهد قوله: (قال الله: أنفق، أنفق عليك) ففيه إثبات القول لله عز وجل.
(1/128)
حديث: "فأقرئها من ربها السلام"
7497 - حدثنا زهير بن حرب حدثنا ابن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال: هذه خديجة أتتك بإناء، فيه طعام، أو إناء فيه شراب، فأقرئها من ربها السلام، وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب .
الشرح:
قوله: (فأقرئها السلام..) القائل هو جبريل عليه السلام، وفي الرواية الأخرى قال جبريل أقرئها السلام من ربها ومني والحديث فيه منقبة عظيمة لخديجة -رضي الله عنها- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأم أولاده إلا إبراهيم وكانت -رضي الله عنها- امرأة عاقلة دَيِّنة ثَبّتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدأت من روعه أول البعثة فقالت له: والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر قوله: أقرئها من ربها السلام ومني هذه منقبة عظيمة لم نعلم أحدًا نالها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقوله: (أقرئها من ربها السلام ومني) فمن يدرك هذه المنقبة؟.
وعائشة -رضي الله عنها جاء فيها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا جبريل يقرأ عليك السلام، فقالت: عليه السلام، ترى ما لا نرى قوله: (بشرها ببيت في الجنة من قصب) أي: من قصب اللؤلؤ والدر المجوف. قوله: (لا صخب فيه ولا نصب) الصخب الصوت، والنصب هو التعب.
والشاهد قوله: (فأقرئها من ربها السلام) ففيه إثبات الكلام لله عز وجل.
(1/129)
حديث: "أعددت لعبادي الصالحين"
7498 - حدثنا معاذ بن أسد أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
الشرح:
هذا فيه فضل الثواب الذي يعطاه المؤمنون، وهذا فيمن تحقق فيه الصلاح والإيمان والتقوى، فإنه يتحقق فيه هذا الثواب، ولا يتحقق الصلاح إلا للمؤمن. قوله: (ما لا عين رأت...) أي: في الجنة والمعنى: أن العيون لم تر مثله؛ ولهذا لا يستطيع أن يصفه الواصفون على حقيقته؛ لأن العيون لم تره ولا سمعت بمثله الآذان، ولا خطر على قلب بشر من النعيم والثواب والجنان، وأما ما في الدنيا مما يشابه ما في الآخرة، فهو يشابهه في الاسم فقط دون الحقيقة قال -تعالى-: فِيهَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ أما اللون والطعم والرائحة، فمختلف.
وهذا حديث قدسي، والشاهد قوله: (قال الله...) ففيه إثبات القول لله -عز وجل-، وأن الله -تعالى- يتكلم بحرف وصوت يُسمع.
(1/130)
حديث: "لك الحمد أنت نور السماوات والأرض"
7499 - حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني سليمان الأحول أن طاوسًا أخبره أنه سمع ابن عباس يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تهجد من الليل قال: الله لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق ووعدك الحق، وقولك الحق ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت .
الشرح:
هذا نوع من أنواع الاستفتاحات التي وردت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح به في قيام الليل في صلاة التهجد، قوله: (أنت نور السماوات والأرض): على لفظ الآية: (الله نور السماوات والأرض) والنور صفة من صفات الله، كما في الحديث الآخر أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- في النونية أنه اسم من أسماء الله، فالنور اسمه وصفته سبحانه. قوله: (قيم السماوات) في رواية (أنت قيام) وفي رواية (أنت قيوم) والقيوم اسم من أسماء الله، قال -تعالى-: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والعلة في الجمع بين الحي والقيوم؟ لأنه ترجع إليهما جميع الأسماء، فـ (الحي) متضمن لصفة الحياة. و (القيوم) متضمن للقيومية، وهو القائم بنفسه المقيم لغيره، ولا قيام لأحد إلا به، قال -تعالى- أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لهذا قال بعضهم: هذا هو الاسم الأعظم، الذي إذا سئل به -سبحانه- أعطى، وإذا دعي به أجاب، وجاء في ثلاث مواضع في القرآن، "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" في آية الكرسي، وفي سورة آل عمران في أولها اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي سورة طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ .
وجاء في صحيح مسلم نوع آخر من الاستفتاحات، وهو ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم فهذه الرواية فيها توسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بربوبية الله -تعالى- لهؤلاء الأملاك الثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل ؛ لأنهم أوكلوا بما فيه الحياة، فجبريل أوكل بالوحي الذي فيه حياة القلوب والأرواح، وميكائيل أوكل بالقَطْر الذي تحيا به الأجساد والنبات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، الذي فيه إعادة الأرواح بعد موتها، وهؤلاء هم أفضل الملائكة ومقدمهم.
وأصح ما ورد في الاستفتاحات، وهو مختصر، ما أخرجه الشيخان، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في استفتاح النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة عمومًا قال: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد هذا من أصح ما ورد في الاستفتاحات؛ لإخراج البخاري ومسلم له. ومن الاستفتاحات المختصرة، ما ورد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك هذا من أخصر الاستفتاحات وأفضلها في ذاته؛ لأنه ثناء على الله عز وجل. وهذا رواه مسلم لكن بسند منقطع، لكن يعضده أن عمر -رضي الله عنه- كان يلقنه الناس على المنبر.
والحديث فيه إثبات أن الله نور السماوات والأرض، وأن قيام السماوات والأرض، إنما هو بأمره، كما قال -تعالى-: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقال وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وفيه إثبات ربوبية الله للسماوات والأرض كما قال: ( ولك الحمد، أنت رب السماوات والأرض)، وفيه إثبات أن الله هو الحق، وأن قول الله هو الحق، ووعده حق، والجنة حق والنار حق، و النبيون حق، والساعة حق، ثم التجأ إلى الله في آخره فقال: (اللهم بك أسلمت...) ثم سأل الله المغفرة فقال: (فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت...) ثم اعترف بربوبية الله -تعالى- فقال: (أنت ربي، لا إله إلا أنت) فهو استفتاح عظيم.
والشاهد من الحديث قوله: (وقولك الحق) ففيه إثبات الكلام لله -عز وجل-، وأن الله يتكلم بحرف وصوت يُسمع، وأن الكلام صفة من صفاته قائمة بذاته -سبحانه وتعالى-، وأن الكلام أنواع، والقرآن من كلام الله -عز وجل-، فقوله في الحديث السابق: (يقول الله -تعالى-: أعددت لعبادي الصالحين..) هذا من كلام الله، وليس من القرآن.
(1/131)
حديث تبرئة الله تعالى لعائشة من حادث الإفك
7500 - حدثنا حجاج بن منهال حدثنا عبد الله بن عمر النميري حدثنا يونس بن يزيد الأيلي قال: سمعت الزهري قال: سمعت عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا، وكل حدثني طائفة من الحديث الذي حدثني، عن عائشة قالت: ولكني والله ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فأنزل الله -تعالى- إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ العشر الآيات .
الشرح:
هذا الحديث مختصر من قصة الإفك، والزهري رواه، عن مجموعة من التابعين (كل حدثه طائفة) أي: قطعة منه، وقصة الإفك معروفة، وهو أن عائشة -رضي الله عنها- في إحدى الغزوات وكانت في الهودج: (وهو ما يوضع على البعير، تجلس فيه النساء) وكان قد أوكل تنزيل الهودج ورفعه إلى اثنين من الناس، فلما نزلوا منزلا نزلت عائشة -رضي الله عنها- وقضت حاجتها، ثم علمت أن عِقدها قد انقطع، فذهبت تبحث عنه وكأنها أبعدت، عن الجيش، ثم أذن بالرحيل، ثم حملوا الهودج ظنًا منهم أنها فيه، وكانت خفيفة اللحم، ولما جاءت لم تجد الجيش، فقالت: أجلس في مكاني لعلهم يفقدوني، وكان صفوان بن معطل السلمي قد عرس في آخر الجيش، فرأى سواد إنسان فعرفها، ثم جعل يسترجع، قالت: فاستيقظت باسترجاع صفوان، فخمرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب، (وهذا من الأدلة القوية على وجوب ستر المرأة وجهها، وأن النساء كن لا يحتجبن، ثم بعد ذلك أمرن بالحجاب) ثم أناخ الجمل وركبت، قالت: ولم يكلمني، فلما قدما المدينة، تكلم المنافقون، وجعلوا يشيعون الإفك ولا يصرحوا به، وعلى رأسهم عبد الله بن أُبَي بن سلول
وانقطع الوحي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهرًا، وعائشة لا تدري بما يقال فيها، فلما خرجت بالليل مع أم مِسْطَح عثرت أم مِسْطَح في مِرْطِهَا، فقالت: تعس مِسطح فأنكرت عليها عائشة وقالت: بئس ما قلت، تسبين رجلا من أهل بدر فقالت: أما علمت ما قال، فقالت: وما قال؟ فأخبرتها بأنه تكلم بالإفك، فازداد مرضها، وصار النبي - صلى الله عليه وسلم - يشاور الناس فيها حتى أتاها - صلى الله عليه وسلم - وهي في بيت أبويها، وكلمها فقالت: يا أبت أجب عني رسول الله، فقال أبو بكر والله ما أدري ما أقول، وقالت لأمها: أجيبي رسول الله، فقالت: والله ما أدري ما أقول، حتى نزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببراءتها، حتى أنزل الله عشر آيات إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ إلى قوله: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ وهو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول هذا سياق القصة مختصرا.
والشاهد قولها: (ولشأني في نفسي، كان أحقر أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى) فهو يدل على أن الله يتكلم، ويدل كذلك على أن الله برأها من فوق سبع سماوات، فمن قذفها بما برأها الله به، فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله.
(1/132)
حديث: "إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها"
7501 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي، فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة، فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، إلى سبعمائة .
الشرح:
هذا من فضل الله وإحسانه، أن السيئة لا تكتب إلا إذا عملها، وفيه بيان أن السيئة إذا تركها الإنسان من أجل الله كتبت له حسنة، وأنه إذا هم بها ولم يعملها، فلا تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه واحدة، والسيئة إذا عملها الإنسان، فلها ثلاثة أحوال:
1 - الحالة الأولى: أن يتركها خوفًا من الله، ففي هذا الحال تكتب له حسنة، كما في هذا الحديث إنما تركها من أجلي وفي الحديث الآخر إنما تركها من جرائي فإذا هم بالسيئة، ثم تركها من أجل الله وخوفًا منه كتبت له حسنة؛ لأن هذا الخوف وهذا الترك من أجل الله حسنة يؤجر عليها.
2 - الحالة الثانية: أن يترك السيئة عجزًا عنها، فيرد أن يعملها لكنه عجز، عن فعلها، وفعل بعض الأسباب التي تمكنه من فعلها، فهذا تكتب عليه سيئة؛ لحديث القاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول، قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه فالمقتول في النار؛ لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه، لكن غلبه صاحبه وبذل الأسباب التي تمكنه من قتله، لكن ما استطاع ذلك، فعوقب على هذه السيئة لأنه تركها عجزا، فإذا ترك السيئة عجزًا عنها كتبت عليه سيئة. وهذا له حالتان:
أ - الحالة الأولى: أن يفعل بعض الأسباب التي تمكنه من فعلها، فهذا يعاقب بالنية وبفعل الأسباب.
ب - الحالة الثانية: أن لا يعمل شيئًا من السيئات لكن ينوي فعلها، وهناك مانع يمنعه، فيعاقب على هذه النية السيئة.
3 - الحالة الثالثة: أن يترك السيئة ذهولا وغفلة، لا خوفًا من الله، ولا عجزًا عنها، فهذا لا تكتب له ولا عليه.
فالخلاصة أن السيئة إن تركها خوفًا من الله، فتكتب له حسنة، وإن تركها عجزًا عنها، فتكتب عليه سيئة، وإن تركها ذهولا وإعراضًا، فلا تكتب له ولا عليه.
أما الحسنة فإذا هم بها، ولم يعملها كتبها الله حسنة، وإن هم بها وعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، على حسب هذا العمل وتأثيره، وعلى حسب ما يقوم في القلب من الإخلاص، فقد تكتب له الحسنة عشرين، وقد تكتب له ثلاثين، وقد تكتب أربعين، وقد تكتب سبعمائة، كما في النفقة في الجهاد، قال -تعالى-: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ فهذه سبعمائة حسنة، وهي النفقة في الجهاد، وهذا من فضل الله وإحسانه.
والشاهد قوله: (يقول الله) ففيه إثبات القول لله -تعالى-، وأنه -سبحانه- يتكلم بحرف وصوت.
فائدة:
كما ذكرنا من قبل، أن الأحاديث القدسية، لفظها ومعناها من الله على الصحيح، لأن الأحاديث كلها معناها من الله، قال -تعالى- وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم بهواه، فالسنة كلها معناها من الله ولفظها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الأحاديث القدسية، لفظها ومعناها من الله، لكن الحديث القدسي غير القرآن، فله أحكام تخالف أحكام القرآن.
فالقرآن تعبدنا الله بتلاوته في الصلاة وخارج الصلاة، ومنها أنه لا يمس المصحف إلا متوضئ وله أحكام أخرى، أما الأحاديث القدسية، فيجوز أن يمسها وإن لم يكن طاهرًا، ولم يتعبدنا الله بتلاوته، وإنما يقرأ كما تقرأ سائر الأحاديث.
(1/133)
حديث: "ألا ترضين أن أصل من وصلك"
7502 - حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثني سليمان بن بلال عن معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة -رضي الله عنهم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك، ثم قال أبو هريرة فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ .
الشرح:
هذا فيه وجوب صلة الرحم، وأنه يجب على الإنسان أن يصل رحمه، فالله -تعالى- يصل من وصل الرحم، ويقطع من قطعها، والحديث فيه وعيد شديد على من قطع الرحم، وأن قطيعة الرحم من الإفساد في الأرض، وأنه متوعد باللعن والصمم وإعماء الأبصار والعياذ بالله. والرحم هو القرابة من جهة الأب ومن جهة الأم، وأقرب الرحم أمك وأبوك، ثم الأبناء والبنات، ثم أبناء البنين وأبناء البنات، ثم الأخوة والأخوات الأشقاء، ثم الأخوة والأخوات لأب، والأخوة والأخوات لأم، ثم أبناء الأخوة والأشقاء، وأبناء الأخوة لأب، وأبناء الأخوة لأم، ثم الأعمام الأشقاء أو لأب أو لأم، ثم أبناء الأعمال وهكذا، الأقرب فالأقرب كما قال أحدهم: (أمك وأباك، أختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك).
وليس واجبًا في صلة الرحم أن يكون الواصل محرمًا للموصولة، فيجوز أن يصل بنت عمه ويبلغها السلام، وإن كانت فقيرة فعليه الإنفاق عليها.
والشاهد قوله: (ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك) ففيه إثبات القول لله، وأنه صفة من صفاته. وكلام الله قديم النوع حادث الآحاد، فنوع الكلام قديم، لكن أفراده حادثة، قال -تعالى-: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فهذا نص القرآن، أما الأشاعرة فيقولون: كلام الله قديم؛ لأنه المعنى وهو قائم بذاته، وينكرون أن يكون الحرف والصوت من كلام الله، والعَيْنِيّ -رحمه الله- على مذهب الأشاعرة في هذا.
(1/134)
حديث: "أصبح من عبادي كافر بي ومؤمن بي"
7503 - حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن صالح عن عبيد الله عن زيد بن خالد قال: مطر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قال الله: أصبح من عبادي كافر بي، ومؤمن بي .
الشرح:
قوله: (قال الله: أصبح من عبادي...) فيه إثبات القول لله -عز وجل-، وأنه تكلم بكلام حادث بعد أن مطرت السماء، فالله -سبحانه وتعالى- يتكلم متى شاء كيف شاء، وهذا هو الكمال، فهو -سبحانه- يتكلم بمشيئته واختياره -سبحانه وتعالى-، فنوع كلام الله قديم، وأفراده حادثة.
قوله: (أصبح من عبادي كافر بي، ومؤمن بي) إكمال الحديث: فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا مؤمن بي، كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهذا كفر، لكن إن كان يعتقد أن للنجم تأثيرًا في إنزال المطر، فهو كفر أكبر، وهو مشرك في الربوبية، وإن كان يعتقد أن مُنَزّل المطر هو الله، وأن النجم والنوء سبب، فهذا كفر أصغر.
(1/135)
حديث: "إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه"
7504 - حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه .
الشرح:
هذا فيه أن المؤمن يحب لقاء الله -تعالى-، وأن الكافر يكره لقاء الله، وجاء في آخر الحديث أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله أكراهة الموت؟! كلنا يكره الموت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس ذلك، إن المؤمن إذا حضره الموت بشر بالجنة والكرامة، فأحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بالنار، فكره لقاء الله، فكره الله لقاءه والمقصود أن الإنسان عند موته يكشف له، عن المستقبل، فالمؤمن تبشره الملائكة بالجنة، فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، والكافر يبشر بالنار -والعياذ بالله- فيكره لقاء الله، فيكره الله لقاءه. وليس المراد ما استشكلته عائشة أن المقصود كراهية الموت؛ لأن كل إنسان يكره الموت، كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لها.
والشاهد قوله: (قال الله: إذا أحب عبدي..) ففيه إثبات القول لله -عز وجل-، وأنه -سبحانه- يتكلم بحرف وصوت يسمع.
(1/136)
حديث: "أنا عند ظن عبدي بي"
7505 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه .
الشرح:
قوله: (قال الله: أنا عند ظن عبدي بي) فيه إثبات القول لله -عز وجل- وأن الله يتكلم.
قوله: (أنا عند ظن عبدي بي) جاء في اللفظ الآخر (فليظن بي ما شاء) فالواجب على الإنسان أن يحسن العمل، فإذا أحسن العمل حسنت ظنونه بالله، ومن أساء العمل ساءت ظنونه بالله، فالمؤمن يحسن العمل، فإذا أحسن العمل حسنت ظنونه بالله، ومن أساء العمل ساءت ظنونه بالله، فالمؤمن يحسن ظنه بالله؛ لأن عمله صالح، وغير المؤمن يسيء ظنه بالله؛ لأن عمله سيئ.
(1/137)
حديث الرجل الذي أوصى بإحراقه بعد الموت خوفا من الله
7506 - حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رجل: لم يعمل خيرًا قط، فإذا مات فحرقوه وأذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا، لا يعذبه أحدًا من العالمين، فأمر الله البحر، فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم، فغفر له .
الشرح:
هذا الرجل كان فيمن قبلنا، لم يعمل خيرًا، وقد أمر أهله أن يحرقوه بعد موته، ثم يسحقوه ثم يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وظن أنه يفوت الله في هذا، وأنه لا يبعث في هذه الحالة، فأمر الله البر أن يجمع ما فيه، وأمر البحر أن يجمع ما فيه من الذرات، فقال الله -تعالى-: (كن) فإذا هو رجل قائم، فقال الله: ما حملك على ذلك، فقال: خشيتك يا رب، فغفر الله له.
وهذا سيأتي تفصيله في الحديث الآخر، وهو أن هذا الشخص أنكر شيئًا خفيًّا بالنسبة إليه، عن جهل لا عن عناد وعمد، حمله على ذلك الخوف العظيم، فكان معذورًا، فغفر الله له، فالإنسان إذا أنكر الشيء الخفي الذي مثله يجهله، كان معذورًا في هذا الشيء؛ لأنه لم تقم عليه الحجة.
والشاهد قوله: (فأمر الله البحر، فجمع ما فيه...) والأمر من أنواع الكلام، وكذلك قوله: (ثم قال لم فعلت؟) ففيه إثبات الكلام لله عز وجل.
فائدة:
الميت يناله ما قدر عليه في قبره من النعيم أو العذاب، ولو كان مذرورًا في البحر، ولو أكلته السباع.
(1/138)
حديث فيه بيان عظيم سعة رحمة الله تعالى
7507 - حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام حدثنا إسحاق بن عبد الله سمعت عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: سمعت أبا هريرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عبدًا أصاب ذنبًا، وربما قال: أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا، أو أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت، أو أصبت آخر، فاغفره فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا، يغفر الذنب، ويأخذ به غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، -وربما قال: أصاب ذنبًا- فقال: رب أصبت، أو قال: أذنبت آخر، فاغفره لي فقال: أعلم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به غفرت لعبدي ثلاثًا، فليعمل ما شاء .
الشرح:
هذا حديث عظيم فيه بيان سعة رحمة الله -تبارك وتعالى- وفضله على عباده، قوله: (فليعمل ما شاء) هذا ليس إذنًا في المعاصي، ولكن المراد أنه ما دام كذلك، كلما أذنب تاب، فلا يضره الذنب بعد التوبة؛ لأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، لكن على الإنسان الحذر من المعاصي؛ لأنه قد لا يوفق للتوبة. والتوبة لا بد أن تكون نصوحًا بشروطها المعروفة وهي:
1 - الإقلاع عن الذنب.
2 - الندم على ما مضى.
3 - العزم على ألا يعود للذنب الذي فعله، وقد يبتلى بفعل الذنب مرة أخرى أو بغيره، فالتوبة الماضية تمحو الذنب السابق، والذنب الجديد يحتاج إلى توبة جديدة وهكذا، قال -تعالى-: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أجمع العلماء أن هذه الآية في التائبين، والمعنى أن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب، والواجب تعاهد النفس بالتوبة دائمًا.
أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله -تعالى- في أهل بدر اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم المعنى أنهم مسددون وموفقون للتوبة، فمن أذنب منهم فإن الله -تعالى- يوفقهم للتوبة، وهل يشترط التوبة من جميع الذنوب حتى تقبل التوبة، أم أن التوبة تتبعض، الصواب الثاني، وهو أن التوبة تتبعض، فقد يتوب من ذنب ويصر على الذنب الآخر، فإذا كان يشرب الخمر، ويسرق ثم تاب من شربه الخمر، ولم يتب من السرقة، صحت توبته من شربه للخمر، وبقي عليه إثم السرقة.
والشاهد قوله: (فقال ربي أعلم عبدي...) ففيه إثبات القول لله عز وجل.
(1/139)
حديث فيه بيان واسع رحمة الله وأن العبد يعذر بجهله
7508 - حدثنا عبد الله بن أبي الأسود حدثنا معتمر سمعت أبي، حدثنا قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر رجلا فيمن سلف - أو فيمن كان قبلكم - قال كلمة يعني: أعطاه الله مالا وولدًا، فلما حضرت الوفاة قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر -أو لم يبتئز- عند الله خيرًا، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحمًا، فاسحقوني -أو قال فاسحكوني- فإذا كان يوم ريح عاصف، فأذروني فيها. قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف فقال الله -عز وجل- كن، فإذا هو رجل قائم قال الله: أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك، أو فَرَق منك، قال: فما تلافاه أن رحمه عندها وقال مرة أخرى: فما تلافاه غيرها فحدثت به أبا عثمان فقال: سمعت هذا من سلمان غير أنه زاد فيه: أذروني في البحر، أو كما حدث، حدثنا موسى حدثنا معتمر وقال: لم يبتئر، وقال خليفة حدثنا معتمر وقال: لم يبتئز، فسره قتادة لم يدخر .
الشرح:
قوله: (لم يبتئر) أي: لم يعمل خيرًا قط، وجاء في بعض الروايات أنه كان نباشًا للقبور، قوله: (فاسحقوني، أو فاسحكوني) من السحق، ومن السحك، وفي رواية (فاسحلوني) وكلها بمعنى واحد، والمعنى أنه يحرق، ثم يطحن، ثم يذر في الأرض، قوله: (فإذا كان يوم ريح عاصف) قال ذلك، حتى تزيل الريح ذراته.
قوله: (لم يدخر) أي: لم يدخر خيرًا.
وهذا فيمن كان قبلنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره وأقره، واختلف العلماء في هذا، فمنهم من قال: إن هذا كان في شرع من قبلنا، وإن هذه الأمة لا يشملها هذا، وقيل غير ذلك لكن أصح ما قيل فيه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن هذا الرجل خفي عليه هذا الأمر، وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة، وهو أنه إذا أحرق، وسحق وذر في الأرض أنه يفوت الله -عز وجل-، والذي حمله على ذلك أمران:
1 - شدة الخوف من الله، عز وجل.
2 - جهله وعدم علمه بالله، عز وجل.
فغفر الله له وعذره، بخلاف ما لو كان عالمًا وفعل ذلك، عن عمد فإنه لا يعذر؛ لأنه أنكر قدرة الله -تعالى- وأنكر البعث، لكن هذا لم ينكر البعث، ولم ينكر قدرة الله -عز وجل- بل هو يعلم أن الله -تعالى- يقدر، ويعلم أن الله يبعثه لو مات، لكنه ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة، وهو مذرور في البر والبحر، أنه يفوت على الله -عز وجل-، كما أن الإنسان إذا هرب من ملك من ملوك الدنيا في البحر، أو البرية يظن أنه يفوت عليه. فاستدل به العلماء على أن الإنسان إذا أنكر شيئًا خفيًّا من الأشياء الخفية الدقيقة التي مثله يجهلها أنه يكون معذورًا كمثل إنسان أسلم في بلاد بعيدة، وأنكر تحريم الخمر، أو إنسان أسلم في مجتمع ربوي، والناس يتعاملون بالربا، ثم أحل الربا، فهؤلاء لا يكفرون حتى تقام عليهم الحجة.
ويشترط في هؤلاء أن تبلغهم الحجة، وأن يعلموا أن هذه حجة، وأنها دليل، وإن لم يفهموها فهمًا كاملا، كما قال -تعالى-: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا فهؤلاء قامت عليهم الحجة، ولا فهموها، ولم يعذرهم الله -تعالى- وقال سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقال سبحانه: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ومع ذلك لم يعذرهم الله -عز وجل-، فهؤلاء لم يفهموا من الحجة إلا كما يسمع الراعي حينما ينعق بالغنم، فالغنم تسمع الصوت، فسماع الصوت للغنم، مثل سماع هؤلاء للحجة، ولا يشترط الفهم.
وهذا الرجل لم ينكر القدرة، إنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، وهم لم تقُم عليه الحجة، وحمله على ذلك الجهل والخوف العظيم، فغفر الله -تعالى- له. أما المعاند والمكابر، أو من أنكر شيئًا معلومًا من الدين بالضرورة، وهو بين المسلمين، فلا يقبل منه عذره.
الشاهد قوله: (قال الله (كن) ففيه إثبات القول لله، وأن الله -تعالى- يتكلم، وأن الكلام صفة من صفاته، قائم بذاته.
(1/140)
باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم
حديث: "أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة"
36 - باب كلام الرب -عز وجل- يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم
7509 - حدثنا يوسف بن راشد حدثنا أحمد بن عبد الله حدثنا أبو بكر بن عياش عن حميد قال سمعت أنسًا -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب، أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء، فقال أنس كأني أنظر إلى أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الشرح:
البخاري -رحمه الله- أطال في مسألة كلام الرب سبحانه وتعالى؛ لأن هذه المسألة مما اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وأهل البدع؛ فلهذا نوع التراجم -رحمه الله- في إثبات الكلام لله -عز وجل- وأنه صفة من صفاته.
وهذه الترجمة معقودة لكلام الرب -سبحانه وتعالى- مع الأنبياء ومع غيرهم. قوله: (إذا كان يوم القيامة شفعت...) والذي يشفع هو الله -عز وجل-، والمعنى أن الله -تعالى- يشفعه بالكلام فيقول -سبحانه-: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع والحديث وإن لم يكن صريحًا في إثبات كلام الرب سبحانه، إلا أن معنى قوله: (شفعت) أي: أن الله -تعالى- شفعه، والله -تعالى- يشفعه بكلام يقول له. قوله: (يا رب، أدخل الجنة من كان في قلبه مثقال خردلة) أي: من كان في قلبه مثقال حبة صغيرة من الإيمان، ثم يشفعه المرة الثانية فيقول: (ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه مثقال أدنى شيء) أدنى شيء من الإيمان، فمن كان في قلبه أدنى شيء من الإيمان، فإنه يخرج من النار ولا يبقى فيها، إما بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين، أما إذا فقد الإيمان، ولم يبق منه شيء، فحينئذ لا يبقى إلا الكفر، والعياذ بالله، والكفرة لا يخرجون من النار أبد الآبدين؛ لأنهم أهلها المخلدون فيها.
والشفاعة إنما تكون بعد الإذن، ويحدُّ الله له حدًّا، فيدخلهم الجنة كما سبق بيانه.
قوله: (كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي: يحكي كيفية إخراجهم من النار. ويبين أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى شيء من الإيمان، وهذا من توضيح القول بالفعل.
(1/141)
حديث: "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض"
7510 - حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا فأذن لنا، وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت لا تسأله، عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة.
فقال: حدثنا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدًا فيقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدًا فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأخرجه فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدًا فيقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع فأقول: يا رب، أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل .
فلما خرجنا من عند أنس قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه، فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هيه فحدثناه بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه، فقلنا: لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني، وهو جميع منذ عشرين سنة، فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا، قلنا: يا أبا سعيد فحدثنا فضحك، وقال: خلق الإنسان عجولا، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به قال: ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدًا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع وسل تعطه، واشفع تشفع فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله .
الشرح:
قوله: (وذهبنا معنا بثابت البناني ) العلة في ذلك، أن ثابتًا البناني كان من خواص أنس -رضي الله عنه-، فيستفاد منه أن الإنسان إذا أراد أن يكلم عالمًا أو غيره في مسألة أو غيرها، أن يذهب ومعه أحد من خواص هذا العالم؛ ليكون هذا أدعى إلى قبول العالم منه، وأدعى إلى انشراح صدره.
قوله: (فإذا هو في قصره) أي: في بستان له خارج البصرة وكأنه خرج -رضي الله عنه- إلى البصرة لكثرة أولاده؛ لأنه -رضي الله عنه- أدرك من أولاده وأولاد أولاده ما يقارب المائة، وذلك ببركة دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - له. قوله: (فأذن لنا، وهو قاعد على فراشه) بسبب كبر سنه، رضي الله عنه.
قوله: (لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة) أي أنهم قالوا لثابت أول شيء تسأل عنه أنس -رضي الله عنه- حديث الشفاعة لأهميته عندهم. قوله: (يا أبا حمزة ) القائل هو ثابت البناني وأبو حمزة هذه كنية أنس رضي الله عنه.
قوله: (ماج الناس في بعض) وذلك من شدة الهول والكرب، والموج هو الحركة والاختلاط؛ لأن الأمر شديد حيث تدنو الشمس من الرؤوس، فيموج الناس بعضهم إلى بعض، وفي الحديث الآخر: (فيطلبون من يشفع لهم) وكأن المراد بهؤلاء المؤمنون، كما جاء في حديث آخر (فيأتي المؤمنون) لأن الكفار مشغولون بما هم فيه من الشدة والكرب العظيم، والمؤمنون أصابهم كرب لكنه أقل من الكفار.
قوله: (فيأتون إبراهيم ) الحديث فيه اختصار؛ لأنه في اللفظ الآخر (فيأتون نوحًا عليه السلام) وفيه أن كل نبي يقول: (لست لها) أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: (أنا لها) وفي لفظ آخر أن كل نبي يقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله وفي الحديث الآخر أن آدم يعتذر بأنه أكل من الشجرة وهو قد تاب منها، لكن الموقف موقف عظيم ونوح يعتذر بأنه دعا على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، وإبراهيم يعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات اثنتان منهن في ذات الله، وموسى يعتذر بأنه قتل نفسًا بغير حق وذلك قبل النبوة وعيسى لا يذكر ذنبًا، إلا أنه يقول: إن الناس اتخذوه وأمه إلهين من دون الله .
قوله: (فيلهمني ربي محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن) يفتح الله عليه في ذلك الموقف محامد، لا يحسنها الآن. تكون هذه المحامد مقدمات للشفعة، حتى يشفعه الله.
قوله: (يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع...) هذا هو الإذن من الله -عز وجل-، فلا أحد يشفع إلا بالإذن حتى نبينا الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أشرف الخلق لا يشفع إلا بالإذن من الله -تعالى- وهو الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبدأ بالشفاعة أولا، إنما يحمد الله، ثم يخر له ساجدًا، ثم يأتيه الإذن بثلاثة أوامر من الله، سبحانه وتعالى (يا محمد ارفع رأسك) أي من السجود (وقل يسمع) أي: يسمع لقولك (واشفع تشفع) وهذه منقبة عظيمة للنبي الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (فأقول: يا رب أمتي أمتي) هنا سؤال وهو أنه في أول الحديث ذكر الشفاعة العظمة، وهي الشفاعة لإراحة الناس من موقف يوم القيامة، وهو المقام المحمود، ثم بعد ذلك ذكر الشفاعة في إخراج العصاة من النار؟ والجواب أن في هذا اختصارًا، كما ذكرنا من قبل، وهو أن العلماء حينما يسوقون الحديث يأتون بما فيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا إخراج العصاة من النار، أما الشفاعة العظمى، فلا ينكرونها، فيذكرون أول الحديث ويذكرون آخره، ويتركون ذكر الشفاعة العظمى وتفاصيلها؛ لأنها معلومة؛ ولأنه لا خلاف فيها بين أهل البدع من المعتزلة والجهمية والأشاعرة إنما يأتون بما فيه الرد على أهل البدع من إنكار إخراج العصاة من النار.
فالخوارج والمعتزلة ينكرون إخراج العصاة من النار، ويقولون: لا يمكن أن يخرج أحد من النار بعد دخولها، ويحكمون على العصاة بأنهم مخلدون في النار؛ لأنهم يكفرونهم بالمعاصي، فيقولون: من دخل أحد الدارين لا يخرج منها، فمن دخل الجنة لا يخرج منها، ومن دخل النار لا يخرج منها، فهذا فيه الرد عليهم.
قوله (فأنطلق فأفعل) فيه أن أنسًا -رضي الله عنه- حدثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع ثلاث شفاعات في أهل النار، وهذه الشفاعات غير الشفاعة العظمى؛ لأن الشفاعة العظمى خاصة في الموقف، لكن هذه الشفاعات بعد دخول العصاة في النار، فيشفع فيهم الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات، فيشفعه الله، ففي المرة الأولى يقول: (أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان) أي: مقدار حبة شعيرة من إيمان، وفي المرة الثانية يشفع فيقول الله -تبارك وتعالى-: (أخرج من كان في قلبه مثقال ذرة، أو خردلة من إيمان) وفي المرة الثالثة يشفع فيقول الله -تعالى- له: (أخرج من كان في قلبه مثقال أدنى، أدنى حبة من إيمان) فهذه ثلاث مرات، ووقف أنس -رضي الله عنه- عند هذا، وسيأتي بعد ذلك الشفاعة الرابعة، وكأن أنسًا -رضي الله عنه- نسيها. قوله: فلما خرجنا من عند أنس قلت لأصحابي...) القائل هو معبد بن هلال العنزي راوي الحديث.
قوله: (لو مررنا بالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة ) المقصود الحسن البصري -رحمه الله- من كبار التابعين ومن أصحاب أنس -رضي الله عنه-، وكان الحسن مختفيًا في دار أبي خليفة من الحجاج بن يوسف وذلك بسبب ظلمه وجبروته، قوله: (فحدثنا بما حدثنا أنس ) الصواب (فحدثناه بما حدثنا به أنس ) أي: أن معبدا العنزي يقول: حدثنا الحسن بما حدثناه أنس لننظر ما عنده؛ لأن الحسن صاحب لأنس وروى عنه كثيرًا، قوله: (فقلنا: يا أبا سعيد ) هي كنية الحسن البصري قوله: (هيه) هذا للاستزادة، والمعنى: هاتوا ما عندكم مما حدثكم به أنس رضي الله عنه.
قوله: (فقلنا: لم يزد لنا على هذا) أي: لما وصلوا إلى قوله: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شفع ثلاث شفاعات، قال: (هيه) أي: هاتوا ما عندكم، فقالوا: (لم يزد لنا) أي: أن أنسًا وقف عند هذا.
قوله: (لقد حدثني منذ عشرين سنة... فلا أدري أنسي أم خاف أن تتكلوا) يقول الحسن إن أنسًا حدثه منذ عشرين سنة بهذا الحديث، وهو جميع، أي: مجتمع القوى، في وقت قوته ونشاطه (فلا أدري أنسي) لكبر سنه، أم خاف أن تتكلوا) فاقتصر على ما حدثكم، ولم يذكر الشفاعة الرابعة، حتى لا تعتمدوا على رحمه الله.
قوله: (ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك) هذه المرة الرابعة التي أسقطها أنس -رضي الله عنه-، فيشفع نبينا الله - صلى الله عليه وسلم - أربع شفاعات في العصاة، قوله: (يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله) أي: من كان معه التوحيد، وهذا مثل قوله في الحديث الآخر: فيخرج من النار قوم لم يعملوا خيرًا قط أي: زيادة على التوحيد والإيمان، ومعنى الحديث من قال: لا إله إلا الله عن إخلاص وصدق، ولم يقع في عمله شرك؛ لأنه لا بد من إخلاص التعلق والتأله بالله -عز وجل-، وليس المراد أن يقولها بلسانه فقط. والدليل على ما ذكرنا، وهو أن المشرك لا تنفعه الشفاعة، ولا تصل إليه، قوله -تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وقوله سبحانه إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وقوله وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ فالكافر ليس له شفاعة، ولا يخرج من النار، قال -تعالى-: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ وقال كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ فدل على أن الشفاعة الرابعة فيمن معه أصل التوحيد فقط، أما الذين قبله فمعهم مع التوحيد شيء من الإيمان والأعمال الصالحة، فالأول معه مقدار شعيرة من إيمان، والثاني معه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، والثالث معه أدنى، أدنى شيء من إيمان، والرابع ليس معه إلا التوحيد والإيمان فقط.
ولا يضيع عند الله -تعالى- شيء قال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .
وتارك الصلاة ليس معه توحيد ولا إيمان، بل انتقض توحيده وإيمانه بتركها، فلا تنفعه لا إله إلا الله، فحال تارك الصلاة مع قوله: لا إله إلا الله كحال من قالها، وهو يذبح، أو يدعو غير الله، ومثله كمثل من صلى وأحدث في صلاته، فتنتقض صلاته، فكذلك إذا ترك الصلاة انتقضت عليه لا إله إلا الله. لكن لو ترك الزكاة كسلا وتهاونًا، فالصواب أن معه التوحيد ولإيمان، إذا لم ينكرها،ويكون بذلك عاصيًا، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن تارك الزكاة، أنه يوم القيامة إذا كان صاحب إبل، أو غنم تبطح له في قاع قرقر فتطأه، وإذا كان له دراهم ولم يؤدِّ زكاتها أنها تصفح له صفائح من نار ثم قال في آخر الحديث: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار) ولو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنة. هذا هو الصواب في مسألة تارك الصلاة متهاونًا أنه كافر كفر أكبر مخرج، عن الملة، لأن ما لا يصح التوحيد والإيمان إلا به فلا بد أن يوجد حتى يصح التوحيد، فالصلاة لا بد منها؛ لأنه لا يصح التوحيد إلا بها، أما الزكاة إن تركها كسلا وتهاونًا مع إيمانه بها، يكون مرتكب لكبيرة، وهو متوعد بالنار، لكن لا يكفر؛ لأن معه التوحيد والإيمان، ومن يرى من العلماء إن تارك الصلاة كفره كفر أصغر، يرى أن الإيمان معه ولا يخرج، عن الملة.
وبعض العلماء يرى أن تارك الزكاة والحج والصوم متكاسلا، أنه كافر كفر أكبر ليس معه شيء من الإيمان، وهو قول قوي، لكن -كما ذكرنا- أن الصواب الذي تدل عليه النصوص، أن تارك الزكاة والصيام والحج كسلا يعتبر مرتكب لكبيرة، وهو متوعد لكنه لا يكفر، بل كفره كفر أصغر.
أما من جحد شيئًا من أركان الإسلام، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهو كافر بالإجماع.
قوله: (وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي) هذا في إثبات العزة والكبرياء والعظمة والجلال لله -تعالى-، وهي من صفات الله -عز وجل- كما يليق بالله وعظمته، قال -تعالى- عن إبليس فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وفي الحديث الآخر: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته وفي حديث آخر أهل النار دخولا الجنة، قال: (بلى وعزتك) وهذه الصفات ليست مترادفة، ولا يصح قول من قال: إن المراد لوازمها.
فهذا الحديث، فيه فضل نبينا الله - صلى الله عليه وسلم - حيث خصه الله -تعالى- بالشفاعة العظمى يوم القيامة، وفيه الرد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة في العصاة لإخراجهم من النار.
فائدة:
تارك الصلاة إذا أقيمت الحجة عليه يكفر بعينه. كذلك يشهد على الكافر اليهودي، أو النصراني بالكفر بعينه، إذا أقيمت الحجة عليه، وليس عنده شبهة، وكلام العلماء: أنه لا يكفر أحد بعينه، إنما هذا فيمن لم تقم الحجة عليه.
(1/142)
حديث آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولا
7511 - حدثنا محمد بن خالد حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا من النار رجل يخرج حبوًا، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، فكل ذلك يعيد عليه الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار .
الشرح:
هذا آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولا، يعطى مثل الدنيا عشر مرات، وفي الحديث الآخر: أنه يعطى مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، ففي الحديث إن الله -تعالى- قال له: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ قال: بلى يا رب، فيقول: لك ذلك، ومثله ومثله، ومثله، ومثله فهذه خمس مرات، ثم يقول له: (لك ذلك وعشرة أمثاله) فإذا ضربت خمسة في عشرة، أصبح مجموعها خمسين، فيكون حاله مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة. وهذا حال آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولا، فكيف بالمتقين والأبرار؟ فهؤلاء لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما قال -تعالى-: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ نسأله الله -تعالى- من فضله وكرمه.
والشاهد قوله: (فيقول له ربه: ادخل الجنة) ففيه إثبات الكلام لله -عز وجل- مع آخر أهل النار خروجًا، وآخر أهل الجنة دخولا.
(1/143)
حديث: "ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه"
7512 - حدثنا علي بن حجر أخبرنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة قال الأعمش وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة مثله، وزاد فيه، ولو بكلمة طيبة. .
الشرح:
هذا فيه دليل على أن الصدقة والأعمال الصالحة سبب في الوقاية من النار. قوله: (ليس بينه وبينه ترجمان) أي: ليس بينه وبين الله واسطة، والترجمان هو الذي ينقل الكلام من شخص إلى شخص. قوله: (فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم...) أي: أنه يرى عمله، والمعنى أنه ينظر يمينًا ويسارًا، فلا يرى إلا عمله، قوله: (وينظر بين يديه...) أي: ينظر أمامه وخلفه، فلا يرى إلا النار. فدل -كما ذكرنا- على أن الصدقة والأعمال الصالحة سبب للوقاية من النار.
والشاهد قوله: (ما منكم من أحد، إلا سيكلمه ربه) ففيه إثبات الكلام لله يوم القيامة، مع الأنبياء وغير الأنبياء
(1/144)
إثبات الأصابع لله وأنها خمسة
7513 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: جاء حَبْر من اليهود فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى بدت نواجذه تعجبًا وتصديقًا لقوله، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى قوله: يشركون .
الشرح:
قوله: (جاء حبر) بفتح الحاء وكسرها، وهو العالم من علماء اليهود. قوله: (جعل الله السماوات على إصبع...) في الرواية الأخرى أن الله يضع السماوات على ذه، وأشار إلى أصبعه، ويضع الأرضين على ذه، ويضع الماء والثرى على ذه، ويضع سائر الخلق على ذه، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك فهذه أربع أصابع، وجاء في الرواية الأخرى: والشجر والجبال على إصبع فتكون خمسة أصابع، فهذا يدل على إثبات الأصابع لله -عز وجل- وأنها خمسة، كما يليق بجلال الله وعظمته. قوله: ( رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى بدت نواجذه تعجبًا وتصديقًا) أي: تصديقًا لقول الحبر، وبعض المبتدعة وبعض الشراح يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحك تعجبًا وإنكارًا لقول الحبر؛ لأنه أثبت الأصابع، وهذا فيه مشابهة للمخلوقين.
وهذا خطأ منهم وسبب قولهم هذا أنهم لا يتحملون إثبات الصفات. قوله: (ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ قوله -تعالى-: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ .
والشاهد قوله: (ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك): ففيه إثبات كلام الله -تعالى- يوم القيامة مع الأنبياء وغير الأنبياء.
(1/145)
إثبات أن كلام الله لموسى حقيقة
37 - باب ما جاء في قوله عز وجل: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا .
الشرح:
هذه الترجمة -أيضا- فيها إثبات الكلام لله -عز وجل-، واستدل المؤلف -رحمه الله- بهذه الآية، وهي قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا حيث أكد الله -تبارك وتعالى- إثبات صفة الكلام له بالمصدر وهو قوله: (تكليمًا) وهذا الإثبات أن كلام الله لموسى حقيقة؛ لأن الفعل إذا جاء مجردًا، فقد يحتمل أن يراد به غير المعنى المتبادر، أما إذا جاء المصدر، فإنه يكون مؤكدًا للفعل، ولا يمكن أن يراد به غير الحقيقة.
وموسى -عليه السلام- كليم الرحمن، كلمه الله تعالى بدون واسطة؛ ولهذا يسمى كليم الرحمن، وشاركه نبينا محمد الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقد كلمه ربه -سبحانه وتعالى- ليلة المعراج من دون واسطة، وفرض عليه الصلاة.
(1/146)
حديث احتجاج آدم وموسى
7515 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث حدثنا عقيل عن ابن شهاب حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احتج آدم وموسى فقال موسى أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة، قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق، فحَجَّ آدمُ موسى .
الشرح:
قوله: (فحج آدم موسى ) في لفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر ذلك ثلاثا، والمعنى أنه غلبه بالحجة وخصمه، وذلك أن آدم وموسى التقيا فقال موسى (أنت آدم الذي أخرجت ذريتك الجنة) وفي اللفظ الآخر أن موسى قال: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء قوله: (ثم تلومني على أمر، قد قدر علي) فموسى -عليه السلام لام آدم -عليه السلام- على الذنب، والذنب قد تاب منه آدم ولا يلام الإنسان على ذنب تاب منه، أو أنه لامه على المصيبة التي لحقته وذريته بخروجه من الجنة، والمصيبة مقدرة، فاحتج آدم بالقدر، والاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، ولا بأس به بخلاف الاحتجاج بالقدر على المعاصي، فهذا لا يجوز؛ لهذا حج آدم موسى أي: غلبه بالحجة؛ لأنه احتج على المصيبة بالقدر، والله -تعالى- قدر هذا لما له في ذلك من الحكمة، من إهباط آدم، وانتشار ذريته في الأرض؛ ليبلوهم بالتكاليف؛ وليخرج من ذريته الأنبياء والرسل والصالحين والأخيار؛ وليعبد -سبحانه- ويشكر، ويذكر، فله -سبحانه- الحكمة البالغة.
والشاهد قوله: (أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه) ففيه إثبات الكلام لله تعالى.
(1/147)
حديث: "لو استشفعنا إلى ربنا"
7516 - حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا قتادة عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يجمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون له: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربنا، حتى يريحنا فيقول لهم: لست هناكم، فيذكر لهم خطيئته التي أصاب .
الشرح:
هذا الحديث مختصر من حديث الشفاعة الطويل، وليس فيه موضع الشاهد، لكن مقصود المؤلف وضع الشاهد في آخر الحديث، ولم يأت به المؤلف، (وهو أنهم يأتون آدم ويعتذر، ثم يأتون نوحًا إلى قوله: ثم يأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت كليم الرحمن) وهذا هو الشاهد، ولم يأت به المؤلف، ففيه إثبات الكلام لله، عز وجل.
(1/148)
حديث الإسراء والمعراج
7517 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني سليمان عن شريك بن عبد الله أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه، ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتي بطست من ذهب فيه تَوْرٌ من ذهب محشوًا إيمانًا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده، يعني: عروق حلقه، ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بُعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبًا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض، حتى يعلمهم.
فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل هذا أبوك آدم فَسَلِّمْ عليه، فَسَلَّمَ عليه، ورد عليه آدم وقال: مرحبًا وأهلا بابني، نِعْمَ الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل ؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده، فإذا هو مسك أذفر قال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك، ثم عرج به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى، من هذا؟ قال: جبريل قالوا: ومن معك؟ قال: محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به وأهلا، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية ثم عرج به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، فأوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى رب لم أظن أن يرفع عليّ أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا للجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة، على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟
قال: عهد إلي خمسين صلاة، كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال: وهو مكانه يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه، حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا، فتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب، إن أمتي ضعفاء: أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنا فقال الجبار: يا محمد قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضته عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت، فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها، قال موسى قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك، فتركوه ارجع إلى ربك، فليخفف عنك -أيضا- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا موسى قد والله استحييت من ربي، مما اختلفت إليه، قال: فاهبط باسم الله، قال: واستيقظ وهو في مسجد الحرام .
الشرح:
الشاهد من الحديث قوله: (بفضل كلامه لله) دل على إثبات الكلام لله -عز وجل- ويلزم من كلام موسى لله أن الله -تعالى- يكلمه؛ لأن التكليم من الجانبين، وقد جاء في رواية الكشميهني (بتفضيل كلام الله له).
وهذا الحديث من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر وشريك هذا له أوهام بينها العلماء، حتى قال الإمام مسلم -رحمه الله-، عن رواية شريك هذه: (فزاد ونقص وقدم وأخر) ومن الأوهام التي وقع فيها شريك
أ - أنه قال (ليلة أسري به.. وذلك قبل أن يوحى إليه) وهذا غلط، وهو من أوهامه؛ لأن الإسراء كان بعد الوحي، وليس قبل الوحي، فالإسراء كان قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو ثلاث، ومما يدل على أنه بعد الوحي أن الصلوات فرضت عليه، فكيف يكون قبل الوحي.
ب - وقوله: (وهو نائم في المسجد الحرام ) وهذا من أوهامه، والصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسري به في اليقظة لا في النوم. هذا الصواب الذي عليه المحققون، والعلماء دون جسده، ومنهم من قال عرج به مرارًا، والصواب أنه عرج به مرة واحدة بروحه وجسده يقظة لا مناما، قال -تعالى-: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ .
والصواب كذلك أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكبًا البراق صحبة جبرائيل (والبراق دابة دون البغل، وفوق الحمار، وخطوها مد البصر؛ ولهذا قطعت هذه المسافة بسرعة) ولما وصل إلى المسجد الحرام ربط البراق بحلقة باب المسجد الذي كان يربط به الأنبياء، وجمع له الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وصلى بالناس إمامًا، ثم أتي بالمعراج (وهو كهيئة السلم) فصعد إلى السماء وعرج به الله - صلى الله عليه وسلم - من بيت المقدس وقطع هذه المسافة العظيمة في ليلة واحدة (فيما بين سماء وسماء مسافة خمسمائة عام، وكثف كل سماء خمسمائة عام، وفوق السماء السابعة بحر، ما بين أسفله وأعلاه، كما بين السماء والأرض) ثم رجع - صلى الله عليه وسلم - قبل الفجر.
وبعض الملاحدة يقولون: لا يمكن أن تصعد الأجسام إلى السماء؛ لأن الأجسام ثقيلة، فلا تصعد إلا الأرواح، وهذا باطل؛ لأن الله -تعالى- على كل شيء قدير، وهذا مثل شق جبريل لصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج إلى عملية جراحية، بل التأم في الحال، فالله -سبحانه- قادر على كل شيء، كما قال جل شانه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقد شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مرة، فمرة شق صدره وهو صغير يلعب مع الصغار، ومرة عند البعثة.
ج - ومن أوهامه قوله في آخر الحديث: (واستيقظ وهو في مسجد الحرام ) وقد بينا أن المعراج كان يقظة لا منامًا.
د - ومن أوهامه قوله: (فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان) والصواب أنهما في السماء السادسة أو السابعة.
هـ - ومن أوهامه قوله: (ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر... قال هذا للكوثر.. ثم عرج به إلى السماء الثانية) فقوله هذا يدل على أن الكوثر في السماء الدنيا، وهذا خطأ، والصواب أن الكوثر في الجنة.
و - ومن أوهامه أمكنة الأنبياء كقوله: (فرأى إبراهيم في السماء السادسة، وموسى في السابعة) فهذا من أوهامه، وما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى ابني الخالة في السماء الثانية، ورأى إدريس في السماء الثالثة، ورأى يوسف في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، ورأى موسى في السماء السادسة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور.
ز - ومن أوهامه قوله: (حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى ) فهذا يدل على أن موسى عليه السلام طلب من الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع إلى ربه، فيسأله التخفيف بعد أن فرض الله عليه خمس صلوات، والصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تردد بين ربه وموسى حتى وصل إلى خمس صلوات، فقال له موسى ارجع فاسأل ربك التخفيف فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إني سألت ربي، حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم) ولم يرجع إلى ربه بعد فرض الصلوات الخمس عليه.
ح - ومن أوهامه قوله: (ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى) فهذا من أوهامه، والصواب أن الدنو والتدلي إنما هو لجبريل -عليه السلام- كما في سورة النجم، لكن ذكر ابن القيم -رحمه الله- (أن الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، غير الدنو والتدلي الذي في آية النجم، الذي هو وصف لجبريل ) وتبعه في ذلك شارح الطحاوية، لكن الدنو والتدلي للجبار -سبحانه- لم يرد إلا في حديث جبريل فإن كان قد ورد في حديث آخر صحيح قلنا به، وإن لم يرد إلا في هذا الحديث، فهو من رواية شريك ابن أبي نمر وله أوهام كما ذكرنا، وهذا من أوهامه. وعلى هذا يكون الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، هو الدنو والتدلي الذي في سورة النجم، وهو دنو جبريل وتدليه.
وحديث الإسراء معروف في الأحاديث الصحيحة في كتب الصحاح وغيرها، وهي بطرق غير طريق شريك هذا.
قوله: (فوجد في السماء الدنيا آدم ) رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء، الأقرب كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رآهم بأرواحهم؛ لأن الروح تأخذ شكل الجسد، وذلك في الإسراء عند صلاته بهم، وكذلك في المعراج، فالروح لها أحكام فلها عروج وصعود سريع كلمح البصر؛ ولهذا لما أسري به الله - صلى الله عليه وسلم - مر بموسى وهو في الأرض قائم يصلي في قبره، ثم لما عرج به إلى السماء وجده في السماء السادسة.
أما مسألة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه، فالصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه بعيني رأسه، إنما رآه بعيني قلبه، وذهب بعض العلماء إلى أنه رأى ربه ليلة المعراج، وأنه انفرد بهذه عن الأنبياء؛ لذلك قال بعض الأنبياء: (الرؤية لمحمد والخُلة لإبراهيم والتكليم لموسى ) وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك إبراهيم -عليه السلام- في مسألة الخُلة، وشارك موسى في مسألة التكليم، فالصواب كما ذكرنا والذي عليه الجمهور والمحققون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه رؤية بصرية، إنما رآه رؤية قلبية. ففي الحديث (واعلموا أنكم لن تروا ربك حتى تموتوا) رواه مسلم في صحيحه.
أما رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه في منامه فثابتة، كما في حديث اختصام الملأ الأعلى كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت ربي في أحسن صورة)، وذكر شيخ الإسلام أن جميع الطوائف أثبتوها، أي: الرؤية القلبية، ولم ينكرها أحد إلا الجهمية من شدة إنكارهم للرؤية. وذكر شيخ الإسلام أن رؤية الرب في المنام تكون لغير الأنبياء، وهي رؤية حقيقية لكن على حسب عمل الإنسان، فإن كان عمله صالحًا رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان غير ذلك رأى ربه رؤية تناسب عمله.
(1/149)
باب كلام الرب مع أهل الجنة
حديث: "أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا "
38 - باب كلام الرب مع أهل الجنة
7518 - حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا .
الشرح:
نوع المؤلف -رحمه الله - التراجم في مسألة الكلام، فهنا ذكر كلام الرب -سبحانه وتعالى- مع أهل الجنة، وفيما سبق ذكر كلام الله -تعالى- مع الأنبياء وغيرهم، وسبب ذلك أن مسألة الكلام من المسائل التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وأهل البدع؛ فلهذا أطال التراجم في هذا ونوعها.
والحديث فيه بيان كلام الله -تعالى- مع أهل الجنة، وفيه الرد على أهل التعطيل كالأشاعرة والكلابية والمعتزلة والجهمية الذين ينكرون كلام الرب سبحانه وتعالى.
(1/150)
حديث: "دونك يا بن آدم فإنه لا يشبعك شيء"
7519 - حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا هلال عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة -رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يومًا يحدث، وعنده رجل من أهل البادية أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: أولست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، فأسرع وبذر، فتبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال، فيقول الله -تعالى-: دونك يا بن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيًّا، أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله .
الشرح:
هذا فيه أن بعض أهل الجنة يخاطبه الله فيقول العبد: يا رب أريد الزرع... قوله: (أولست فيما شئت) أي: أنك في نعيم مقيم كما قال -تعالى-: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ قوله: (ولكني أحب الزرع) أعطاه الله ما يريد؛ لأن أهل الجنة لهم ما يشاءون فيها، كما قال سبحانه: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ .
قوله: (فتبادر الطرف نباته واستواؤه..) المعنى أنه بذر وزرع، فبمجرد ما رفع طرفه خرج النبت، واستوى، وحصد، وتكور فصار أمامه مكدسًا فيقول الله -تعالى-: (دونك يا ابن آدم ) أي: خذ يا بن آدم (فإنه لا يشبعك شيء). والشاهد قوله: (فيقول الله دونك يا ابن آدم) ففيه كلام الله -تعالى- مع أهل الجنة.
(1/151)
باب ذكر الله بالأمر وذكر العباد بالدعاء
39 - باب ذكر الله بالأمر، وذكر العباد بالدعاء والتضرع والرسالة والإبلاغ؛ لقوله -تعالى-: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غمة هم وضيق، قال مجاهد اقضوا إلي ما في أنفسكم. يقال: افرق: اقض.
وقال مجاهد: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ إنسان يأتيه، فيستمع ما يقول، وما أنزل عليه، فهو آمن حتى يأتيه، فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء. النبأ العظيم: القرآن. صوابًا: حقًّا في الدنيا، وعمل به.
الشرح:
هذه الترجمة فيها نوع خفاء، ومقصود المؤلف -رحمه الله- أن ذكر الله -تعالى- لعباده غير ذكر العباد لله، فقال: (ذكر الله بالأمر) أي: أن ذكر الله لعبده يكون بالأمر، ويكون بغير الأمر، وهذا مجرد مثال لذكر الله لعبده، فالله -تعالى- يكون ذكره لعبده بالأمر بأن يأمره وينهاه؛ لأن الأمر نوع من أنواع الكلام، ويكون ذكره لعباده بالخبر، كأن يخبرهم بالأمور الماضية والأمور المستقبلة، ويكون -أيضًا- ذكر الله للعبد بالثناء عليه في الملأ الأعلى، ومن ذلك صلاة الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما قيل فيها: إنها ثناء الله عليه في الملأ الأعلى، كما رواه أبو العالية هذا ذكر الله للعبد، أما ذكر العبد لربه، فيكون بالدعاء والتضرع والرسالة والبلاغ، فإذا دعا الإنسان ربه ذكره، ويكون بالعبادة؛ لأن العبادات كلها ذكر لله، فالمصلي ذاكر لله والصائم والحاج والمزكي والداعي كلهم ذاكرون لله، ويكون ذكر العبد لربه بالبلاغ حينما يبلغ النبي الذي أرسله الله رسالة الله، هذا ذكر منه لربه.
فالترجمة فيها إثبات الكلام لله -عز وجل-، لأن ذكر الله لعبده بالأمر كلام، وذلك إذا أمر عباده ونهاهم، والأمر نوع من أنوع الكلام. قوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فيه أن ذكر الله -تعالى- لعبده غير ذكر العبد لربه، والمعنى اذكروني بالعبادة والطاعة والدعاء والتضرع وتبليغ الرسالة (أذكركم) أي: أثني عليكم، فمن ذكر الله ذكره الله، وفي الحديث القدسي يقول الله -تعالى-: ومن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم فمن ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه، ومن ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير منهم، وهم الملائكة، فذكر الله للعبد ثناء عليه عند الملائكة
قوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي وجه الدلالة من الآية أن فيه ذكر العبد، وهو نوح -عليه السلام- لربه حيث قال: وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ حيث ذكر الله بتبليغه رسالة ربه، وفيها ذكر الله -تعالى- لعبده؛ لقوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لأن من أمثلة ذكر الله لعبده الأمر، إذا أمره ونهاه، فهذه الترجمة دقيقة وفيها نوع خفاء. قوله: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي: ضيق وشدة وحرج. ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي: أفصلوا وأوضحوا الأمر الذي بأنفسكم، حتى لا يكون فيه شبهة ولا التباس، ثم بعد ذلك اعملوا ما تريدون، وعاجلوني بالعقوبة إن استطعتم، ومنه قول هود -عليه السلام-: ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي فآيته أنه وقف أمام قومه وحيدًا، وهم معروفون بالقوة والجبروت وتحداهم، وقال: أنا واحد أمامكم، وإن استطعتم أن تهلكوني فعاجلوني، ولم يستطيعوا. قوله: فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي: أنني لا أطلب منكم ثمنًا، ولا عوضا من الدنيا على تبليغ الرسالة، بل أجري على الله تعالى.
قوله: (افرق: افصل) ومنه قوله -تعالى- فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ لما امتنع بنو إسرائيل عن القتال مع موسى لما أمرهم بالقتال، دعا موسى ربه وقال: (افرق بيننا...) أي: افصل واحكم بيننا وبينهم، فاستجاب الله لنبيه موسى وعاقبهم بالتيه؛ حتى يهلك هذا الجيل الذي به خور عن القتال وجبن من فرعون وقومه، وحتى ينشأ جيل جديد فيه القوة والشجاعة، وكان الأمر كذلك حيث هلك هذا الجيل، ومات موسى -عليه السلام- معهم في التيه، ونشأ جيل جديد فتح بهم يوشع بن نون فتى موسى -عليه السلام- بيت المقدس لما قال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور.... وذلك في ليلة السبت؛ لأنهم يعظمون يوم السبت.
قوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ أي: إذا طلب أحد المشركين الأمان، فيؤمن حتى يسمع كلام الله، وإذا انتهى يبلغ إلى مأمنه، ولا يغدر به، وكلام الله فيه الأمر، وهو ذكر لله -تعالى- لعبده وتبليغه كلام الله، هذا من ذكر العبد لربه، فالآية فيها ذكر الله -تعالى- للعبد وذكر العبد للرب، فكلام الله فيه الأمر والنهي والخبر والثناء على عبده، وهو من ذكر الله لعبده، وتبليغ العبد لرسالة الله هذا من ذكر العبد لربه.
قوله: (النبأ العظيم: القرآن) وذلك في قوله -تعالى-: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ فالنبأ العظيم هو القرآن، والقرآن هو كلام الله، فيه الأمر والنهي والوعد والوعيد، وكلام الله ذكر من الله -تعالى- لعبده، وتبليغه ذكر من العبد لربه.
قوله: (صوابًا: حقًّا في الدنيا، وعمل به) وذلك في قوله -تعالى-: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا فالقول الصواب هو القول بالحق والعمل به، والعمل بالحق يكون بالأقوال والأعمال والاعتقاد، وهذا ذكر من العبد لربه، فإنه حينما يقول الحق، ويعمل بالحق، فقد ذكر الله -تعالى- وكلام الله الذي أنزله هو قول الحق، وهو ذكر من الله -تعالى- للعباد، ولم يتبين هذا للعيني -رحمه الله- حيث ذكر أن البخاري ذكر قوله: (صوابًا) على سبيل التبعية.
(1/152)
باب قول الله: "فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا"
40 - باب قول الله -تعالى-: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وقوله جل ذكره: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقوله وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وقال عكرمة: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ و مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره، وما ذكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم؛ لقوله -تعالى-: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وقال مجاهد مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ بالرسالة والعذاب لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ المبلغين المؤدين من الرسل وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ عندنا وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ القرآن وَصَدَّقَ بِهِ المؤمن يقول يوم القيامة: هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه.
الشرح:
قوله: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أول الآية قوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ آية البقرة وهذه الآية من أول الأوامر في القرآن الكريم، والآية الأخرى قوله: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ والمعنى كيف تجعلون له أندادًا وهو رب العالمين؟!، والآيتان فيهما النهي عن جعل الند مع الله تبارك وتعالى، فمن جعل لله ندًّا مع الله -تبارك وتعالى- وهو معبودهم وخالقهم، فقد أشرك بالله، ومن أشرك بالله، فقد حبط عمله.
والتنديد نوعان:
1 - تنديد أكبر يخرج من الملة: كأن يجعل مع الله ندًّا في الربوبية، أو يجعل مع الله ندًّا في الخلق، فيزعم أن هناك خالقًا مع الله، أو يجعل مع الله ندًّا في الفعل، فيزعم أن هناك من يشارك الله في الفعل، أو يجعل الله ندًّا في الاسم كما تسمى مسيلمة الكذاب بالرحمن، أو يجعل لله ندًّا في الصفة كأن يصف أحدًا بأنه يعلم كعلم الله، أو يقدر كقدرة الله، أو يجعل لله ندًّا في العبادة والألوهية، كأن يجعل لله ندًّا يستحق العبادة يذبح له، ويسجد له، وينذر له وغير ذلك من أنواع العبادات، فمن جعل لله ندًّا في هذه الأمور، فقد أشرك الشرك الأكبر، وحبط عمله.
2 - تنديد أصغر لا يخرج عن الملة: وهو الذي دون الشرك الأكبر كالحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشئت، فهذا شرك بين الله وغيره بالمشيئة، وجاء في الحديث أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندًّا، قل: ما شاء الله وحده .
قوله -تعالى-: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ بين الله -تعالى- أن من أشرك، فقد حبط عمله، ومن جعل لله ندًّا فقد أشرك وحبط عمله. قوله: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ بين الله -تعالى- أن من صفات عباد الرحمن أنهم لا يجعلون مع الله إلها آخر، ومن جعل ندًّا مع الله، فقد جعل معه إلهًا آخر وحبط عمله. قوله: وقال عكرمة وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره، المعنى أن المشركين بالله، أي: بالربوبية، فيعتقدون أن الله هو الخالق الرازق؛ ولهذا قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ هذا إيمانهم، لكن مع ذلك يُشركون في العبادة، تنديد يحبط أعمالهم، ويبطل إيمانهم بربوبية الله. كما أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لما لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نفى الله عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر، فقال -تعالى-: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فنفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر. قوله: (وما ذكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم...).
هذا تابع للترجمة، فيكون محل هذا الكلام بعد قوله وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ومعنى كلام المؤلف أن أفعال العباد، وما يكسبونه من الأعمال مخلوق لله -عز وجل- داخل في عموم قوله -تعالى-: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وقوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ فكل شيء في الوجود خلقه الله. وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لهم، وليست مخلوقة لله، بزعمهم أنهم ينزهون الله.
فيقولون: لو قلنا: إن الله خلق أفعال العباد وأكسابهم، ثم عذبهم عليها لكان ظالمًا، ففرارًا من ذلك قالوا: إن العباد خالقون لأفعالهم، فوقعوا في أشر مما فروا منه؛ لأنه يلزم من قولهم هذا أنه يقع في ملك الله ما لا يريد، فالعبد مثلا يريد المعصية والله -تعالى- يريد منه الطاعة، فتغلب إرادة العبد إرادة الله، فتقع المعصية، فيقع في ملك الله ما لا يريد.
ولا شك أن هذا من آثار انحرافهم، عن الكتاب والسنة حيث فروا من شيء، فوقعوا في أشر مما فروا منه. قوله: وقال مجاهد مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ المعنى أن أكساب العباد مخلوقة لله -تعالى- فالملائكة من أفعالها التنزل، وهو مخلوق لله؛ لأن الله خالق كل شيء في هذا الوجود. قوله: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ المبلغين المؤدين من الرسل، المبلغين من الرسل الذين أدوها بأفعالهم التي هي خلق لله، هذه أعمالهم وهي مخلوقة لله. قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ جاء في تفسيرها أن الذي جاء بالصدق هو محمد -عليه الصلاة والسلام- وصدق به هو أبو بكر -رضي الله عنه-، ويشمل كل مؤمن. قوله: (هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه) أي أن من تصديق المؤمنين للقرآن العمل به، وعملهم كسب لهم، وهو مخلوق لله -تعالى-، والقرآن كلام الله غير مخلوق وقد اعتنى البخاري بهذه المسألة، فألف رسالة كاملة سماها خلق أفعال العباد، حيث رد بها على المعتزلة
فائدة:
معتقد الأشاعرة في الكسب غير معقول، وغير متصور، فالأشاعرة جبرية يقولون: إن العباد ليست لهم أفعال، بل هم مجبورون عليها، ثم بعد ذلك يقولون: هناك كسب، كيف يتصور هذا أن يكون، ليس لهم أفعال، ولهم كسب؟ لا شك أن هذا غير متصور، فهذه من المستحيلات الثلاث، وهي: كسب الأشعري، وطفرة النظام ومُحاولات أبي هاشم
فالنظام حينما قيل له: كيف يكون للنملة أن تنتقل من مكان إلى مكان، ولم تتحرك، قال طفرت طفرة؟ فصارت طفرة النظام من الأشياء المعقولة. والأشعري يقول: إن العبد مجبور على فعله، ثم يقول: له كسب، فلا شك أن الكسب غير معقول، ولا قيمة له.
وهنا تنبيه: من أراد بالكسب -كما قصده- الأشاعرة فقوله غير صحيح، أما من أراد بالكسب أي: كسب العمل، فهذا صحيح، فإن الله -تعالى- يقول: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فالإنسان له كسب وله عمل. وأفعال العباد خلق الله، وكسب للعباد.
فمقصود المؤلف بهذه الترجمة بيان تحريم اتخاذ الند لله، وأن من اتخذ ندًّا مع الله يساويه به في الخلق، أو الفعل، أو الاسم، أو الصفة، أو العبادة، فقد أشرك وحبط عمله.
(1/153)
حديث: "أي الذنب أعظم عند الله؟"
7520 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني بحليلة جارك .
الشرح:
هذا الحديث فيه أن أعظم ذنب يعصى الله به، هو جعل الند مع الله تبارك وتعالى ؛ لأن من جعل ندًّا مع الله، فقد أشرك به وحبط عمله؛ لأن الشرك لا يغفر إن لم يتب منه، ومات عليه كما قال -تعالى-: (إن الله لا يغفر أن يشرك به...) ثم يلي هذا الذنب قتل الولد خشية أن يطعم معه، وهذا من أعظم العقوق، فهو يقتل أقرب الناس إليه مع هذه النية السيئة، وهي خشية أن يطعم معه مع أن رزقه على الله قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ثم يلي هذا الذنب أن يزاني بحليلة جاره، لما فيه من خيانة الجار.
(1/154)
باب: "قول الله: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ"
حديث: "أترون أن الله يسمع ما نقول؟"
41 - باب قول الله -تعالى-: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ .
7521 - حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا منصور عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله -رضي الله عنه - قال: اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا فأنزل الله -تعالى- وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ الآية.
الشرح:
هذه الترجمة كالتراجم السابقة، فيها إثبات أن الكلام صفة لله -عز وجل-، وأن نوع كلام الله قديم، وأفراده حادثة، وأن الله -تعالى- يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء؛ فلذلك لما تكلم هؤلاء الثلاثة أنزل -سبحانه- الآية بعد كلامهم، فأفراد كلام الله حادثة قال -تعالى-: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ونوع الكلام وأصله قديم؛ لأن الله -تعالى- يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء، ولا يلزم من ذلك من كون أفراد كلام الله حادثة، أن يكون مخلوقًا -تعالى- الله، عن ذلك؛ لأن حدث الله لا يشبه حدث المخلوق كما سيأتي، والحديث فيه إثبات السمع لله -عز وجل- لقوله -تعالى-: وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ فالله -تعالى- سمع كلامهم، فأنزل هذه الآية.
(1/155)
باب قول الله: "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ"
حديث: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء"
42 - باب قول الله -تعالى-: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ و مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ وقوله -تعالى-: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقوله -تعالى- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة .
الشرح:
قصد المؤلف بهذه الترجمة أن يبين أن كلام الله صفة من صفاته وأن نوعه قديم، وإن كانت أفراده حادثة قال سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ومن ذلك أن الله -تعالى- يتكلم بما شاء، ويخلق -سبحانه وتعالى- بالكلام كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فيخلق -سبحانه- ويرزق، ويعافي، ويمرض، ويعز، ويذل، ويشقي، ويسعد، فالترجمة فيها إثبات الكلام لله -عز وجل- وأنه حادث ومحدث بمعنى، جديد قال -تعالى-: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ في سورة الأنبياء، وفي سورة الشعراء وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ .
وحدث الله ليس كحدث المخلوق، فالمخلوق حدثه مخلوق، وأفعاله مخلوقة، أما الخالق -سبحانه- فحدثه صفة من صفاته، بمعنى أن الله -تعالى- إذا تكلم فكلامه صفة من صفاته، فهو يتكلم بما شاء متى شاء إذا شاء، ويحدث -سبحانه- من أمره ما يشاء، واستدل المؤلف بقوله -تعالى-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ على أن حدث الله ليس كحدث المخلوق، وفيه أن القرآن محدث أي: أنه حديث عهد بربه، فهو أحدث الكتب عهدًا بالله عز وجل. والعجيب أن كثيرًا من أهل البدع يقولون في قوله -تعالى-: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ يقولون: ليس المقصود بالمحدث هنا كلام الله بل - صلى الله عليه وسلم - هو المحدث، وبعضهم يقول: محدث بالنسبة إلى الرسول وبالنسبة إلينا؛ لأنه لما نزل على الرسول صار محدثًا له والينا، أما بالنسبة إلى الرب، فليس بمحدث؛ لأن الله تكلم به قديمًا، وكلامهم هذا قالوه حذرًا بزعمهم أن يحدث الكلام في ذاته -سبحانه وتعالى- لأنه يلزم من ذلك أن يكون مخلوقًا، والمحدث والمخلوق شيء واحد، وهذا باطل، فكل كلام هؤلاء فرارًا من إثبات أن كلام الله يتعلق بقدرته ومشيئته.
والترجمة فيها الرد على الأشاعرة والكلابية الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه، وأنه ليس بحرف ولا صوت، وأنه لا يتكلم إذا شاء. ويقول الأشاعرة كذلك: إن القرآن نوعًا واحدًا هو المعنى القائم بالنفس، لكن التي تختلف العبارات إن عبر عنه بالعبرانية لغة اليهود فهو التوراة، وإن عبر عنه بالسريانية لغة النصارى فهو الإنجيل، وإن عبر عنه بالعربية، فهو القرآن، وإن عبر عنه بالداودية لغة داود، فهو الزبور، أما الكلام فواحد، لكن يوصف بأوصاف كالخبر والأمر والنهي والاستفهام، فهذه عندهم أوصاف، وليست أنواعًا كما أن الإنسان يوصف بأوصاف، فأنت توصف بأنك أب بالنسبة لأبنائك، وعم بالنسبة لأبناء أخيك، وخال بالنسبة لأبناء أخواتك، وأنت واحد لك هذه الصفات.
فكذلك القرآن يوصف بأنه أمر أو نهي... إلخ وإلا فهو واحد، وكونه توراة وإنجيل وقرآن هذا من اختلاف العبارات وتنوعها.
وفيه الرد على السالمية الذين يقولون: إن الله لم يزل، ولا يزال يتكلم، فيقولون: لم يزل في الأزل يقول: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ لأنهم يقولون: لو قلنا: إن الله يتكلم بعد مجيء المجادلة للزم في ذلك الحدث في ذاته، فهم يقولون كما يقول أهل السنة إن الكلام بحرف وصوت، لكن لا يقولون: إن الكلام يتعلق بقدرته ومشيئته، بل كلامه مستمر ولا يتكلم إذا شاء، بل الكلام لازم لذاته، وإن كان بحرف وصوت، فالرب عندهم منذ الأزل يتكلم، ولا تكون أفراده حادثه، بل هو مستمر، وقولهم هذا -لا شك- أنه باطل.
وكذلك الترجمة فيها الرد على الفلاسفة الذين يقولون: إن كلام الله فيض فاض من العقل الفعال، وفيه الرد كذلك على الكرَّامية الذين يقولون: ليس نوع كلام الله قديم، بل كان الكلام ممتنعًا على الله، ثم انقلب فجأة ممكنا ويقولون: الكلام له أول وبداية، وكلامهم هذا باطل؛ لأن الصواب أن كلام الله نوعه قديم وأفراده حادثة. والبخاري -رحمه الله- أطال التراجم في مسألة كلام الله -تعالى- لاشتداد النزاع فيها بين أهل السنة وغيرهم من أهل البدع؛ ولأن فيها ما يقرب من خمسة عشر قولا في بيان ما هو كلام الله.
قوله: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء" ... هذا دليل على أن كلام الله -تعالى- أفراده حادثة، فالله -تعالى- أنزل هذا وحيًا إلى نبيه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بلغه إلى الأمة.
فائدة:
كثير من الشراح تأولوا هذه المسألة وغيرها بتأويلات باطلة، وهم من العلماء الكبار، وإن كان قصدهم الخير؛ لأنهم ظنوا أن هذا هو تنزيه الرب تبارك وتعالى، وسبب ذلك أنهم لم يوفقوا إلى ما يبين لهم معتقد أهل السنة والجماعة في سن الطلب، فنشئوا على هذا. وهذا يفيد طالب العلم الحذر مما وقع فيه هؤلاء العلماء الكبار، مع كثرة علمهم وعلو مكانتهم في زمانهم.
(1/156)
حديث: "كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم"
7522 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا حاتم بن وردان حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم، وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدًا بالله تقرءونه محضًا لم يشب .
الشرح:
الشاهد قوله: (اقرب الكتب عهدًا بالله) أي: القرآن، قوله: (تقرؤونه محضًا) أي: خالصًا. قوله: (لم يشب) أي: لم يحصل فيه التغيير والتبديل، كما حصل في التوراة والإنجيل.
(/)
حديث: "أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟"
7523 - حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أحدث الأخبار بالله محضًا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله، وغيروا، فكتبوا بأيديهم الكتب قالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا بذلك ثمنًا قليلا أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
الشرح:
الشاهد من الحديث قوله: (أحدث الأخبار) والمعنى أن القرآن أحدث الأخبار عهدًا بالله -تعالى- تكلم الله به منجمًا على حسب الحوادث، فكلما حدث حادث تكلم الله. فلما جاءت المجادلة تجادل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنزل الله قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ ولما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة بدر أنزل الله -تعالى-: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ .
قوله: (قالوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ) يشير إلى قوله -تعالى-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ .
(1/157)
باب قول الله: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ"
حديث: "أنا مع عبدي حيثما ذكرني "
43 - باب قول الله -تعالى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي وقال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله -تعالى- أنا مع عبدي، حيثما ذكرني، وتحركت بي شفتاه .
الشرح:
مقصود المؤلف -رحمه الله- من هذه الترجمة لبيان أن أفعال العباد حسنها وسيئها تنسب إليهم وتضاف إليهم فيثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها وهي مخلوقة لله -تعالى-، وهي أكساب لهم؛ لأنهم باشروها باختيارهم، وإن كان الله خلقهم وخلق أفعالهم كما قال -سبحانه-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ لكنهم الكاسبون والمباشرون لها، والذي يضاف إلى الله منها الخلق، والذي يضاف إلى العباد المخلوق المنفصل، فقوله -تعالى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ نسب التحريك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ففعل الرسول فعل له وقوله: أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه فأضاف فعل العبد، وهو الذكر وتحريك الشفتين إليه.
والحديث فيه الرد على الجبرية الذين يقولون: إن أفعال العبد هي أفعال الله، فهو المصلي والصائم وأنها تنسب إليهم على سبيل المجاز؛ لأنهم مجبورون على أفعالهم، فهم وعاء للفعال فقط كالكوز الذي يصب فيه الماء، والله كصباب الماء فيه، وأن حركات العباد كلها اضطرارية كحركة المرتعش والنائم ونبض العروق، هكذا يقول الجبرية وزعيمهم الجهم بن صفوان فالجهمية هم جبرية. فالمؤلف أراد الرد عليهم، وبيان أن الأفعال هي أفعال العباد تنسب إليهم؛ لأنهم هم الذين باشروها باختيارهم.
قوله: (وفعل النبي حين ينزل عليه الوحي) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا إذا قرأ جبريل يحرك شفتيه حتى يضبط القرآن فقال الله -تعالى- له: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فقوله إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ أي: جمعه في صدرك، (وقرآنه) أي: قراءته عليك فَإِذَا قَرَأْنَاهُ أي: قرأه جبريل فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ينصت، فإذا فرغ جبريل قرأه وثبته الله في صدره قوله: (أنا مع عبدي...) هذا حديث قدسي من قول الله -عز وجل- لفظه ومعناه، والله -تعالى- فوق العرش، لكن هذه المعية معية خاصة، تقتضي الحفظ والكلاءة والتسديد والتوفيق، وهو مع المخلوقين جميعًا بعلمه واطلاعه وإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته.
قوله: وتحركت بي شفتاه قوله: (بي شفتاه) أي: تحركت باسمي شفتاه، أي: تحركت شفتاه باسم الله عز وجل.
(1/158)
حديث: "فإذا انطلق جبريل قرأه النبي كما أقرأه"
7524 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله -تعالى-: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما، فقال سعيد أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله -عز وجل- لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه في صدرك ثم تقرؤه فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال: فاستمع له، وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه جبريل -عليه السلام- استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أقرأه .
الشرح:
قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة) لأنه - صلى الله عليه وسلم - يخشى أن يضيع القرآن، فلا يضبطه، لكن الله وعده أن يجمعه في صدره، ويثبته في قلبه قوله: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ أي: جمعه في صدرك وقراءته عليك، قوله: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ أي: قرأه جبريل أضافه إليه؛ لأن جبريل نزل بالوحي بأمر الله، فأضافه إليه.
والحديث واضح في إضافة أفعال العباد إليهم فقال: (لا تحرك به لسانك) فأضاف التحريك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه دليل أن القراءة فعل القارئ، والمقروء كلام البارئ -سبحانه وتعالى-، فالقراءة فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مضافة إليه، والمقروء كلام الله تعالى.
(1/159)
باب قول الله: "وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ"
44 - باب قول الله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ "يتخافتون": يتسارون.
الشرح:
هذه الترجمة فيها بيان أن أفعال العباد منسوبة إليهم ؛ لأنه وصفها بالإسرار والجهر، فالقول والجهر من أفعال العباد، ثم قال: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فيه إثبات العلم لله -عز وجل-، وأن هذه الأشياء مخلوقة لله، ثم قال -سبحانه- أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ فالإسرار والجهر من صفات العباد، ولكن أفعالهم مخلوقة، كما أنهم مخلوقون لله وأعمالهم تنسب إليهم؛ ولهذا وصف الأقوال بالسر والجهر. قوله: (يتخافتون: يتسارون) مثل الذي سبق أن الإسرار منسوب للعباد.
(1/160)
حديث: "فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن"
7525 - حدثني عمرو بن زرارة عن هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا قال: نزلت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختف بمكة فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به فقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ أي: بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن: وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عن أصحابك، فلا تسمعهم وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا .
الشرح:
القراءة والإسرار والجهر كلها أفعال للرسول -صلى الله عليه وسلم- منسوبة إليه، وهذه الأوصاف أوصاف لأفعال العباد، وليست أفعال الله، فدل على أن أفعال العباد أفعالا لهم منسوبة إليهم وفيه الرد على الجبرية الذين يقولون: إن أفعال العباد أفعال الله، قوله: وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أي: وسطًا بين الإسرار والجهر.
(1/161)
حديث: "نزلت هذه الآية "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" في الدعاء"
7526 - حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: نزلت هذه الآية وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا في الدعاء.
الشرح:
هذا أحد الأقوال في نزول هذه الآية، أنه في الدعاء وعدم رفع الصوت به وإخفاته، بل ابتغاء الوسط في ذلك، والقول الثاني أنها نزلت -كما سبق- في الحديث الذي قبل هذا، أنها نزلت في قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورفع الصوت وإخفاته. وعلى كلا القولين في سبب نزول الآية، فوجه الدلالة واضح منهما، وهو أنه نسب القراءة والجهر والإسرار للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أفعاله منسوبة إليه، فدل على أن أفعال العباد منسوبة إليهم وإن كانت خلقًا لله -تعالى-؛ لأن الله خلق العباد وخلق أفعالهم، لكنها منسوبة إليهم؛ لأنهم باشروها، وكسبوها، وفعلوها مختارين.
(1/162)
حديث: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"
7527 - حدثنا إسحاق حدثنا أبو عاصم أخبرنا ابن جريج أخبرنا ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، وزاد غيره يجهر به .
الشرح:
قوله: (لم يتغن) التغني هو تحسين الصوت بالقراءة، والشاهد أنه أضاف التغني إليه، وهو فعل العبد، فالعبد يكون حسن الصوت، ويكون غير حسن الصوت، والصوت صوته، وهو فعله ينسب إليه وسبق أن سفيان فسر قوله: (يتغنى بالقرآن) أي: يستغني به من الغناء، وهذا قول ضعيف والصواب أن معنى (يتغنى) أي يحسن صوته بالقراءة.
(1/163)
باب: قول النبي: رجل آتاه الله القرآن
45 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت، كما يفعل فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله وقال: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ وقال: -جل ذكره-: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
الشرح:
المقصود بهذه الترجمة بيان أن أقوال وأفعال الإنسان منسوبة إليه ومن ذلك تلاوته للقرآن، فهو فعل للإنسان؛ لذلك قال: (رجل آتاه الله القرآن) والبخاري -رحمه الله- وجه الدلالة فقال: (فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله) أي: أن قيامه به هو عمله منسوب إليه، فالذي يقوم بالقرآن، ويعمل به، ويتلوه فتلاوته وقيامه عمل له منسوب إليه، والمتلو هو كلام الله -عز وجل- غير مخلوق، وإتيان هذه الترجمة بعد الترجمة السابقة، فيها تعميم بعد تخصيص؛ لأن الترجمة السابقة، وهي قوله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ وهي في أقوال الإنسان، وهذه الترجمة عامة في الأقوال والأفعال، وكلها منسوبة إلى العبد، وفيه كما ذكرنا رد على الجبرية الذين يقولون: إن الأفعال أفعال الله، فهو المصلي والصائم والقائم، والناس وعاء لهذه الأفعال مجبورون عليها، وهذا -كما ذكرنا- باطل من أوجه كثيرة. قوله: (فعلت كما يفعل): فنسب الفعل إليه، ونسب الفعل إلى الأول. وجاء في الحديث الآخر أنهما في الأجر سواء، بسبب التمني الذي تمناه.
قوله: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ هذا هو الشاهد من الآية، فنسب اختلاف الألسن إليهم، وهذا يشمل الكلام كله، ومن ذلك تلاوة القرآن، فاختلاف كلام الناس منسوب إليهم، أما المتلو وهو القرآن فهو كلام الله، عز وجل.
قوله: (وافعلوا الخير...) وجه الدلالة منها أن من فعل الخير تلاوة القرآن، فهي عمل الإنسان يفعله، ويثاب عليه، أما المتلو فهو كلام الله.
وهذا يدل على دقة فهم البخاري -رحمه الله- في استنباطاته.
(1/164)
حديث: "لا تحاسد إلا في اثنتين"
7528 - حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا، لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه في حقه، فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل .
الشرح:
فيه أنه لا تحاسد إلا في اثنتين، والمراد بالتحاسد هنا الغبطة، وهو أن يتمنى أن يكون له مثل ما لأخيه من غير تمني زوالها عنه. فإن تمنى زوالها، فهو حسد مذموم يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وهو محرم؛ قال -تعالى-: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ .
ومعنى الحديث أن الأول: فرجل يعمل بالقرآن، وفي اللفظ الآخر: (رجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها) .
والثاني: رجل ينفق أمواله في سبل الخيرات، فهؤلاء يغبطون، فيأتي رجل فيقول: لو أن لي مثل هذا لفعلت كما فعل، فهما في الأجر سواء هذا بعمله، وهذا بنيته.
والشاهد قوله: (لفعلت كما يفعل) فنسب الفعل إليه، فالذي آتاه الله القرآن، يقوم به آناء الليل والنهار، هذا عمل، ومن القيام به تلاوته، فالتلاوة فعل القارئ، أما المقروء فكلام البارئ، سبحانه وتعالى.
(1/165)
حديث: "لا حسد إلا في اثنتين"
7529 - حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال الزهري عن سالم عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار سمعت سفيان مرارًا لم أسمعه يذكر الخبر، وهو من صحيح حديثه.
الشرح:
قوله: (لا حسد إلا في اثنتين) المعنى أنه لا حسد جائز أو مباح إلا في اثنتين، والحسد هنا -كما ذكرنا- المراد به الغبطة، فهذا الذي يغبط عليه المرء في الحقيقة، أما من آتاه الله العلم، ولم يعمل به، فهذا لا يغبط، أو إنسان آتاه الله مالا يجمعه من حلال وحرام، ويتخبط به، فهذا لا يغبط في الحقيقة، قوله: (فهو يتلوه...) المراد بالتلاوة هنا أي: العمل به، ومن العمل التلاوة؛ لأن التلاوة نوعان:
1 - تلاوة حروفه.
2 - العمل به: يسمى تلاوة، ومنه قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أي: يعملون به. ومنه ما جاء في الحديث في قصة الرجل الذي يضرب في قبره حينما يسأل: من ربك ما دينك من نبيك، فيقول: ها ها لا أدري، فيضرب بمرزبة من جديد، فيقال له: لا دريت ولا تليت …لا دريت: أي: لم تعمل بنفسك، ولا تليت: أي: ولا تبعت من يعمل به، فعملت مثل عمله، فالمراد بالتلاوة هنا العمل به.
ومعنى الحديث -كما سبق في الحديث الذي قبله- أن الأول رجل آتاه الله القرآن، فهو يعمل به ومن ذلك تلاوته، فعمله منسوب إليه، وفي الحديث الآخر: رجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها والحكمة هي العلم النافع المأخوذ من القرآن والسنة، ومن العمل بالقرآن العمل بالسنة؛ لأن السنة موضحة للقرآن وشارحة له وتابعة له، فالذي آتاه الله القرآن يقرؤه آناء الليل وآناء النهار، هو الذي يعمل بالكتاب والسنة، والثاني من أعطاه الله مالا ينفقه في سبل الخيرات كما سبق.
والشاهد بيان أن هذه أعمالهم نسبت إليهم، فالأول نسب إليه القيام بالقرآن،والثاني نسبت إليه النفقة في سبل الخير، فهي فعل له، فدل على أن أفعال العباد منسوبة إليهم ويثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها، لا كما تقوله الجبرية الذين يقولون: إن العبد لا فعل له، وأفعاله أفعال الله.
فائدة:
الجبرية هم الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أعماله، وغلاة الصوفية الذين يقولون: بوحدة الوجود. أول الأمر كانوا جبرية ينكرون أفعال العبد، ويجعلونها أفعالا لله، ثم ينكرون العبد، ويقولون: ليس هناك عبد ولا رب، فالعبد هو الرب، والرب هو العبد.
فائدة:
اشتهر عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: (من قال لفظي القرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع) فسد الباب من الجهتين؛ لأن اللفظ قد يراد به الملفوظ عند بعض الناس، فيكون معنى قوله: (لفظي بالقرآن مخلوق) أي: ملفوظه، وهذا خطأ، ومن قال: (غير مخلوق) لأن الملفوظ قد يراد به اللفظ أيضًا، فسد -رحمه الله الباب- من الجهتين.
(1/166)
باب قول الله: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ"
حديث: "بعث النبي خاله حراما إلى قومه"
46 - باب قول الله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وقال الزهري من الله الرسالة، وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البلاغ، وعلينا التسليم وقال الله -تعالى-: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وقال تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وقال كعب بن مالك حين تخلف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وقالت عائشة إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ولا يستخفنك أحد، وقال معمر ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ بيان ودلالة كقوله -تعالى- ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ هذا حكم الله لَا رَيْبَ لا شك تِلْكَ آيَاتُ يعني: هذه أعلام القرآن ومثله حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ يعني: بكم، وقال أنس بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خاله حراما إلى قومه، وقال: أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم .
الشرح:
المراد بهذه الترجمة بيان أن أفعال العباد تنسب إليهم لأن التبليغ فعله بنفسه، والمراد بالتبليغ: أن يبلغ كلام الغير، فالمبلغ شخص يبلغ كلام الغير عن الغير.
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- مبلغ عن الله، وليس مبتدئًا للكلام، ولا منشئًا له، بل الذي أنشأ الكلام هو الله -عز وجل- فالله -تعالى- تكلم بالقرآن، والرسول -صلى الله عليه وسلم- بلغه، وتبليغ القرآن فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- منسوب إليه من جملة أفعاله التي هي مخلوقه لله، والكلام لله -عز وجل- ولهذا فإن الإنسان إذا قرأ كلام الغير، فيكون مبلغًا ولا يكون مبتدئًا له، فلو قرأت مثلا قصيدة امرئ القيس
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
..................... إلخ
فإنك تقول: الكلام ليس لي بل لامرئ القيس، وإنما أنا مبلغ. فدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبلغ عن الله، والله -تعالى- هو المتكلم بالقرآن، فالقرآن كلام الله غير مخلوق، وأما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتبليغه فهي أفعال له منسوبة إليه. قوله: (قال الزهري من الله تعالى الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) هذا كلام عظيم من الإمام الزهري -رحمه الله- فالله -تعالى- هو الذي أنزل الكتاب، وأرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المبلغ عن الله -عز وجل-، ونحن علينا التسليم والانقياد والطاعة.
والشاهد قوله (وعلى الرسول البلاغ) فالبلاغ فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه مبلغ عن الله، والكلام كلام الله عز وجل.
قوله: (قد أبلغوا رسالات ربهم) فالرسل عليهم البلاغ، والمبلغ كلام الله عز وجل، وتبليغهم فعل من أفعالهم ينسب إليهم.
قوله: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي جاء هذا عن نوح وعن هود فنوح وهود مبلغان عن الله، والله -تعالى- هو المتكلم، وتبليغهم فعل من أفعالهم. قوله: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ نسب العمل إليهم.
قوله: (قالت عائشة إذا أعجبك عمل امرئ، فقل فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ الشاهد أنها -رضي الله عنها- نسبت العمل إليه، فالأعمال أعمال العباد منسوبة إليهم، وليست أفعالا لله، وإن كان الله -تعالى- خلق العباد، وخلق أفعالهم كما قال سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ فالعباد باشروا أعمالهم باختيارهم يعاقبون على سيئها، ويثابون على حسنها، قال العيني: (معنى كلامها أي: لا تغتر بعمل أحد، فتزكيه حتى تراه واقفًا على حدود الشريعة).
قوله: (قال معمر ذَلِكَ الْكِتَابُ هذا القرآن) المراد بمعمر هو ابن المثنى اللغوي المشهور، والمعنى أن تفسير ذَلِكَ الْكِتَابُ هو (هذا القرآن) وتفسير هُدًى لِلْمُتَّقِينَ أنه (بيان ودلالة) وهما نوع من التبليغ، والبيان والدلالة يكون من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فالقرآن فيه بيان ودلالة، لكن الذي بلغه عن الله -عز وجل- هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فيكون تبيينه عمل له.
وقوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ (ذا) إشارة إلى البعيد وأراد بها الإشارة إلى القريب (هذا) أي: هذا الكتاب، وقوله: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ أي: (هذا حكم الله) فاستعمال الإشارة التي هي للبعيد بمعنى القريب قوله: وَجَرَيْنَ بِهِمْ هذا فيه إثبات الضمير فالمعنى: وجرين بكم، لكن ناب ضمير الغيبة عن ضمير المخاطين، أي: ناب الضمير الذي للبعيد عن الضمير الذي للقريب.
قوله: (وقال أنس وبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خاله حِراما...) القصة معروفة، وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث حراما خال أنس ومعه جماعة إلى قوم من العرب، يبلغونهم رسالات الله، فقال حرام لأصحابه: سأتقدم عليكم فإن أصابني شيء سلمتم، فلما ذهب إليهم قال لهم: أتؤمنوني أبلغ رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نعم، فجعل -رضي الله عنه- يتحدث، فأشاروا إلى واحد منهم فطعنه من خلفه، فلما نفذت فيه قال: فزت ورب الكعبة فقتل شهيدًا، رضي الله عنه.
والشاهد قوله: (أتؤمنوني، أبلغ رسالة رسول الله؟) فالتبليغ فعله هو منسوب إليه، والمبلغ والكلام ليس له، بل بلاغ الرسول وكلامه، عليه الصلاة والسلام.
(1/167)
حديث: "من قتل منا صار إلى الجنة"
7530 - حدثنا الفضل بن يعقوب حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي حدثنا المعتمر بن سليمان حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي حدثنا بكر بن عبد الله المزني وزياد بن جبير بن حية عن جبير بن حية قال المغيرة أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن رسالة ربنا أنه: من قتل منا صار إلى الجنة .
الشرح:
هذا فيه أن المؤمن الشهيد إذا مات أنه من أهل الجنة ولا شك في ذلك، والشاهد قوله: (أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن رسالة ربنا) فالرسالة من الله، والتبليغ من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والتبليغ فعله -عليه الصلاة والسلام- منسوب إليه، والله تعالى هو المتكلم.
(1/168)
حديث: "من حدثك أن النبي كتم شيئًا من الوحي فلا تصدقه"
7531 - حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من حدثك أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كتم شيئًا، وقال محمد حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتم شيئًا من الوحي، فلا تصدقه إن الله -تعالى- يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .
الشرح:
معنى الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ رسالة ربه؛ ولهذا لما خطب الناس -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع يوم عرفة قال: ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، فرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكبها إلى الناس، يستشهد الله -تعالى- عليهم، وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد فالرسول -صلى الله عليه وسلم- بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. ونحن نشهد له بالبلاغ -عليه الصلاة والسلام- فجزاه الله عن أمة الإسلام خير ما جزى نبي عن أمته، وصلى -عليه سبحانه وتعالى- في الملأ الأعلى.
والشاهد قول عائشة -رضي الله عنها- إن الله -تعالى- يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فالرسول مبلغ عن الله، والله -تعالى- هو المتكلم، فالكلام كلام الله منزل غير مخلوق، والتبليغ فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، و أفعال العباد مخلوقة ومن ذلك: تبليغهم وكلامهم وقراءتهم وأعمالهم وصلواتهم وإنفاقهم وجهادهم، كل هذه أعمال لهم.
(1/169)
حديث: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"
7532 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله ندًّا وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديقها وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ الآية .
الشرح:
هذا فيه بيان أعظم الذنوب، ومما يلي في التدريج، وأن أعظم الذنوب هو الشرك بالله -عز وجل- وهو أن يجعل لله ندًّا في العبادة والألوهية، فيعبده مع الله يدعوه، أو يذبح له، أو ينذر له، أو يحبه كمحبة الله، أو يخافه خوف السر كخوف الله، أو يرجوه، أو يجعل مع الله ندًّا في الربوبية كأن يعتقد أنه يخلق، أو يرزق مع الله، أو يحيي، أو يميت، أو يدبر الأمر، أو يجعل لله ندًّا في أسمائه وصفاته، أو يجعل لله ندًّا في أفعاله بأن يعتقد أن هناك أحدًا يفعل كفعل الله.
وقد يكون التنديد تنديدًا أصغر، كالحلف بغير الله وقول ما شاء الله وشئت. قوله: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) هذا من أعظم الذنوب؛ لأنه ارتكب جريمتين، الجريمة الأولى القتل، والجريمة الثانية العقوق وقطيعة الرحم؛ لأن ولده من أقرب الناس إليه، ثم قال: (أن تزاني حليلة جارك) هذا ذنب عظيم؛ لأن الإنسان مأمور بحسن جواره وكف الأذى عنه، فكونه يزني بامرأته هذا من أعظم الذنوب؛ لأنه من الخيانة للجار، وقد جاء في الحديث الآخر: لأن يزني الإنسان بعشر نسوة أيسر عند الله، من أن يزني بحليلة جاره فأنزل الله -تعالى- تصديق ما سبق: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ .
والشاهد قوله: (ندًّا لله وهو خلقك...) إلخ. فأضاف أفعال العباد إليهم، فالند فعله، وقتل النفس فعله، والزنا فعله، فهي منسوبة إلى فعل العبد.
(1/170)
باب قول الله: "قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا"
حديث: "أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام"
47 - باب قول الله -تعالى-: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها، وأعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به، وأعطيتم القرآن فعملتم به وقال أبو رَزِين يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يتبعونه، ويعملون به حق عمله يقال (يتلى) يقرأ حسن التلاوة، حسن القراءة للقرآن (لا يمسه) لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا الموقن لقوله -تعالى-: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام والإيمان والصلاة عملا.
قال أبو هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لبلال: أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، قال: ما عملت عملا أرجى عندي، أني لم أتطهر إلا صليت وسئل أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، ثم الجهاد، ثم حج مبرور .
الشرح:
المقصود من هذه الترجمة بيان أن تلاوة القرآن على قسمين:
1 - تلاوة لفظية.
2 - تلاوة حكمية: والمقصود بها العمل به، قال -تعالى-: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أي: يعملون به حق عمله. وليس المراد هنا التلاوة اللفظية؛ لأنه قال بعد ذلك: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فدل على أن المراد العمل به.
وكلا القسمين من التلاوة منسوب إلى الإنسان، فهو عمله؛ لذلك قال -تعالى-: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا أي: اقرءوها، فهذا عملهم نسبه إليهم. وسبب نزول هذه الآية أن اليهود ادعوا أن الله حرم عليهم لحوم الإبل، فأكذبهم الله فأنزل قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا .
قوله: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها، وأعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به، وأعطيتم القرآن فعملتم به) فأضاف العمل إليهم، فدل على أن الأعمال تنسب إلى العبد خيرها وشرها، ويثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، وفيه الرد على الجبرية القائلين: إن الأفعال أفعال الله، فالله هو المصلي والصائم، وإنما تنسب إلى العبد على سبيل المجاز أما العبد فلا فعل له، وفيه كذلك الرد على المعتزلة القائلين: إن القرآن مخلوق، فلم يفرقوا بين القراءة وبين المقروء.
فالقراءة فعل القارئ، والمقروء كلام البارئ.
قوله: (قال أبو رَزِين يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ يعملون به...) ففسر التلاوة بالعمل، فالقراءة تفسر بالعمل به، وهي القراءة الحكمية، وتفسير بالقراءة اللفظية، والمهم والغاية هو التلاوة العملية، أي: العمل به، والتلاوة اللفظية وسيلة إلى العمل به.
فهذه الترجمة فيها بيان أن التلاوة بنوعيها عمل العبد، وهي منسوبة إليه، وليست من عمل الله تعالى.
قوله: (حسن التلاوة للقرآن..) هذا يدل على أن التلاوة عمل العبد، يقال: حسن التلاوة ورديء التلاوة، فهذا وصف له وعمل له، وليست أفعالا لله. قوله: ( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ لا يجد طعمه ونفعه...) أي: أنه فسر لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ بأنه لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، وهذا تفسير باللازم، أي: تفسر بالقياس الجلي، والمعنى أنه لا يمسه بيده إلا المتطهر هذا الأصل، لكن هنا فسره أنه لا يجد نفعه إلا المؤمنين، فإذا كان القرآن لا يمسه إلا المتطهر من الأحداث، وغير المتطهر لا يمسه، فمن باب أولى أنه لا يجد نفعه إلا المؤمن، ففسره بقياس الأولى؛ ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى فدل على أنه لا يجد طعم ونفع القرآن إلا المؤمن وهذا عمله.
قوله: (ولا يحمله بحقه إلا الموقن) بحمله: أي: عمل به، والمعنى أنه لا يعمل بالقرآن إلا الموقن الذي عنده اليقين، ولولا يقينه وإيمانه الراسخ لما عمل به، فعمله به دليل على يقينه وصدقه وإخلاصه وإيمانه.
قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا لم يحملوها: أي: لم يعملوا بها، فالذين حملوا التوراة الزموا بالعمل بها، فلما لم يعملوا بها صاروا كالحمار الذي يحمل على ظهره أسفارًا، وهي الكتب، ولا ينتفع بها.
وبئس المثل مثلهم؛ لأن الله شبه اليهود الذين لم يعملوا بالتوراة بالحمار، الذي لا يستفيد من الكتب التي على ظهره.
قوله: (وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام والإيمان والصلاة عملا) وذلك لأن الإسلام الإيمان والصلاة عمل الإنسان، فالصلاة فيها ركوع وسجود... إلخ وهذه أعمال، والإيمان تصديق بالقلب وعمل بالجوارح، وهي من عمل الإنسان، فدل على أن عمل الشخص منسوب إليه
قوله: (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لبلال أخبرني بأرجي عمل عملته...) فالشاهد أنه نسب العمل إليه، فالعمل هنا عمل بلال ينسب إليه، والأعمال أعمال العباد يثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها، قوله: (أني لم أتطهر إلا صليت) يفيد أنه يشرع للمسلم إذا توضأ بليل أو نهار أن يصلي بهذا الوضوء، وهي سنة الوضوء، حتى ولو كان في وقت النهي على الصحيح؛ لأن لها سبب، وذوات الأسباب مستثناة من النهي عن الصلاة في أوقات النهي.
قوله: (أي العمل أفضل قال: إيمان بالله ورسوله...) الشاهد قوله (أي العمل أفضل) فدل على أن ما ذكر من أفعال العباد.
والمؤلف -رحمه الله- أراد أن يرد على الجبرية والجهمية الذين يتزعمهم الجهم بن صفوان والذي قد اشتهر بعقائد أربع فاسدة:
1 - العقيدة الأولى: نفي الصفات.
2 - العقيدة الثانية: القول بالجبر، وأن الإنسان مجبور على عمله، وأن الأفعال أفعال الله.
3 - العقيدة الثالثة: القول بالإرجاء، أي: القول بأن الإيمان مجرد المعرفة بالقلب، والأعمال ليست من الإيمان، فالإنسان إذا عرف ربه بقلبه، فهو موقن عند الجهم وعلى هذا يكون فرعون مؤمن على رأي الجهم وإبليس عنده مؤمن؛ لأنه عرف ربه بقلبه.
4 - العقيدة الرابعة: القول بفناء الجنة والنار جميعًا.
وأمر الجبرية ظاهر ومنتشر؛ ولذلك ركز البخاري -رحمه الله- في الرد عليهم.
(1/171)
حديث: "فهو فضلي أوتيه من أشاء"
7533 - حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني سالم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتيتم القرآن، فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب هؤلاء أقل منا عملا وأكثر أجرًا، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء .
الشرح:
هذا الحديث فيه بيان نسبة زمن هذه الأمة إلى ما سبق من الأمم، فنسبتها كما بين صلاة العصر على غروب الشمس، وإذا قدرنا أن الدنيا كلها يوم واحد، فنسبة بقاء الأمم السابقة هو من طلوع الشمس إلى العصر، فلا شك أن زمن بقاء هذه الأمة بالنسبة إلى الأمم السابقة قليل.
قوله: (أوتي أهل التوراة التوراة...) إلخ. في الحديث الآخر: مثلكم ومثل الأمم الذين من قبلكم، كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من الصبح إلى الظهر بقيراط؟ فعملت اليهود فقال: من يعمل لي من الظهر إلى العصر بقيراط؟ فعملت النصارى فقال: من يعمل لي من العصر إلى المغرب بقيراطين؟ فعملت هذه الأمة، فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: نحن أكثر زمنًا، وأقل أجرة، فقال: هل ظلمتكم من حقكم شيئًا، قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء .
والشاهد من الحديث قوله: (أوتي أهل التوراة.... فعملوا بها، وأوتي أهل الإنجيل فعملوا به.... ثم أوتيتم القرآن فعملتم به) فأضاف الأعمال إليهم، فدل على أن الأعمال أعمالهم.
(1/172)
باب وسمى النبي الصلاة عملا
حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
48 - باب وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة عملا، وقال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب .
الشرح:
الصلاة عمل، وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة عملا في قوله: لما سئل عن أي العمل أفضل، قال: الصلاة على وقتها فسماها عملا، والعمل ينسب إلى العبد، قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) هل النفي هنا لنفي الصحة أو لنفي الكمال؟ أي: هل النفي لصحة الصلاة، أو نفي لكمالها؟ الجواب: أن النفي هنا لنفي الصحة؛ لأنه إن لم يأت بالفاتحة لم تصح صلاته.
(1/173)
حديث: "أي الأعمال أفضل؟"
7534 - حدثني سليمان حدثنا شعبة عن الوليد وحدثني عباد بن يعقوب الأسدي أخبرنا عباد بن العوام عن الشيباني عن الوليد بن العيزار عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله .
الشرح:
هذا الحديث واضح في أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأن الأعمال تنسب إلى العباد وعباد بن العوام وإن وصف بالرفض، لكن البخاري لم يرو عنه إلا بعد أن تثبت من صدقه، وهذا قليل في الرافضة ثم إنه لم يرو عنه منفردًا، بل روى عنه بالمتابعة؛ لأن البخاري أخرج الحديث من طريقين.
(1/174)
باب قول الله: "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا"
49 - باب قول الله -تعالى-: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (هلوعا): ضجورًا.
الشرح:
هذا فيه بيان لبعض صفات الإنسان التي خلقه الله تعالى بها، ومقصود الترجمة أن الله -تعالى- خلق الإنسان على صفات منها: الهلع والجزع وغيرها.
(1/175)
حديث: "أعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الجزع والهلع"
7535 - حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم عن الحسن حدثنا عمرو بن تغلب قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- مال فأعطى قومًا ومنع آخرين، فبلغه أنهم عتِبوا، فقال: إني أعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي، أعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب فقال: عمرو ما أحب أن لي بكلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُمر النعم .
الشرح:
هذا فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوزع المال لمصلحة الإسلام والمسلمين؛ ولهذا في غزوة حنين أعطى رؤساء القبائل الذين أسلموا جديدًا، فأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وهكذا أعطى البقية على مائة مائة، حتى يقوي إيمانهم، فهو -صلى الله عليه وسلم- يعطي لمصلحة الإسلام والمسلمين.
قوله: (ما أحب أن لي بكلمة رسول الله حمر النعم) المعنى: ما أحب أن لي بدل كلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمر النعم، أي: أنه لو أعطي الدنيا كلها، وأُخِذَت منه مُقابل هذه الكلمة لفَضَّل هذه الكلمة، ولا يبالي.
قوله: (حمر النعم) أي: الإبل الحمر، وهي أغلى وأنفس أموال العرب، وهذا مجرد مثال، والمراد الدنيا كلها، وما عليها.
والشاهد قوله: (أعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الهلع والجزع) فهذه أوصاف للإنسان، والله -تعالى- خلق الإنسان على أوصاف، فخلقه بصفاته وأفعاله، وإن كان العباد، هم وأفعالهم مخلوقون لله كما قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ .
(1/176)
باب: ذكر النبي وروايته عن ربه
50 - باب ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وروايته عن ربه.
الشرح:
هذه الترجمة فيها بيان ما يرويه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -عز وجل- من الأحاديث وهي ما تسمى بالأحاديث القدسية، كهذه الأحاديث التي يرويها عن ربه. وكحديث أبي هريرة الصوم لي، وأنا أجزي به وحديث أبي ذر يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا فهذه تسمى بالأحاديث القدسية منسوبة إلى قدسية الرب -عز وجل-، وهي من كلام الله -عز وجل- لفظًا ومعنى كالقرآن؛ ولهذا ينسبها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه فيقول: (قال الله تعالى) أو يقول: (فيما يرويه النبي عن ربه، أنه قال) بخلاف الأحاديث الأخرى غير القدسية، فهي كلام الله معنى لا لفظًا، بل لفظها من الرسول، ومعناها من الله عز وجل، كما قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى فالأحاديث القدسية لفظها ومعناها من الله -عز وجل-، أما غيرها من الأحاديث، فمعناها من الله، ولفظها من الرسول، هذا الصواب خلافًا للأشاعرة وخلافًا لما قررت بعض كتب علوم القرآن، كالإتقان للسيوطي وغيره، فليس عندهم تحقيق في هذا، بل غالب مؤلفي هذه الكتب يتمشى مع مذهب الأشاعرة
والصواب -كما ذكرنا- أن الحديث القدسي كالقرآن كلام الله لفظًا ومعنى وهو صفة من صفاته -عز وجل-، لكن الأحاديث القدسية، تختلف عن القرآن في الأحكام، فالقرآن يتعبد الناس بتلاوته والأحاديث القدسية، لا يتعبد الناس بتلاوتها، والقرآن معجز بتلاوته وألفاظه، والأحاديث القدسية ليست معجزة كالقرآن وهكذا.
فائدة:
الأحاديث القدسية لا يصح أن تروى بالمعنى كالأحاديث الأخرى، وإلا ما الفرق بين كون الرسول يرويه عن ربه فيقول: (قال الله تعالى) وبين غيرها، ولو كانت تروى بالمعنى لصارت كسائر الأحاديث الأخرى، والأحاديث القدسية كأذكار الصباح والمساء لا نرويها بالمعنى، بل نتعبد الله بذكرها، يدل على ذلك حديث الذكر عند النوم قال في آخره:.... آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت فلما قال الراوي من الصحابة (وبرسولك الذي أرسلت)، قال الرسول: قل: وبنبيك الذي أرسلت .
(1/177)
حديث: "وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة "
7536 - حدثني محمد بن عبد الرحيم حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع الهروي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه عن ربه قال: إذا تقرب العبد إليّ شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة .
7537 - حدثنا مسدد عن يحيى عن التيمي عن أنس بن مالك عن أبي هريرة قال: ربما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا تقرب العبد مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا أو بوعًا وقال معتمر سمعت أبي، سمعت أنسًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه عن ربه، عز وجل.
الشرح:
قوله: (تقرب مني شبرًا، تقربت منه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا، تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) هذه كلها من الصفات التي تمر، كما جاءت من غير تفسير لمعنى الكيفية؛ ولهذا قال السلف -رحمهم الله-: أَمِرُّوها كما جاءت من غير كَيْفٍ، فهي تثبت لله -عز وجل- على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف لمعناها، وآثارها أن الله -تعالى- أسرع بالخير من العبد، وأن الله -تعالى- لا يقطع الثواب عن العبد، حتى يكون العبد هو الذي يقطع العمل.
وأخطأ من قال: إن هذه الصفات الواردة في الحديث هي على سبل المجاز، على الله، أو على وجه المشاكلة، أو على وجه الاستعارة، أو إرادة لوازمها، فكل هذا غلط، فالصواب أنها تطلق على الله كما أطلقها الله على نفسه على لسان رسوله، وهو أعلم الخلق بالله، تعالى.
قال تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وفي الحديث أن المطيع متقرب إلى الله -عز وجل- فالعابد، والسائل أقرب إلى الله من غيرهم؛ ولهذا جاء في الحديث: أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد ولما ارتفعت أصوات الصحابة بالتكبير في بعض الغزوات، كما في حديث أبي موسى الأشعري قال لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته اربعوا: أي: ارفقوا، وقال تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ فالساجد مقترب من الله -تعالى- بالطاعة.
(1/178)
حديث: "لكل عمل كفارة"
7538 - حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرويه عن ربكم قال: لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .
الشرح:
الشاهد قوله: (فيما يرويه عن ربكم) فهو من الأحاديث القدسية لفظه ومعناه من عند الله -عز وجل-، والكلام صفة من صفات الله -تعالى- لفظه ومعناه، لا كما تقول الأشاعرة الذين يقولون: إن الكلام معنى قائم بالنفس، أما اللفظ فليس من الكلام، فالأشاعرة والكلابية عندهم أن الكلام هو المعنى، والحروف والأصوات عبارة عند الأشاعرة وحكاية عند الكلابية ومخلوقة عند المعتزلة فالكلام مخلوق عند المعتزلة ألفاظه وحروفه ومعانيه.
قوله: (لكل عمل كفارة إلا الصوم) أي: أن لكل عمل كفارة، أما الصوم فإنه لا يتحدد، بل أضافه الله إليه، وهي إضافة اختصاص وتشريف، وإذا كان الصوم لله، فلا يعلم قدر ثوابه إلا هو -سبحانه وتعالى- لأن الله -تعالى- تولى الجزاء عليه بنفسه، فلا يدخل تحت حصر عدد؛ ولهذا جاء في الحديث: أن الصوم من الصبر والله -تعالى- يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ .
قوله: (ولخلوف) يقال: (ولخَلوف) بالفتح للخاء، ويقال (ولخُلوف) بالضم للخاء، وهي الرائحة التي تنبعث من المعدة عند خلوها من الطعام والشراب، فهذه مستكرهة عند الناس، لكنها عند الله أطيب من ريح المسك؛ لأنها ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته.
(1/179)
حديث: "لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن مَتَّى "
7539 - حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة وقال لي خليفة حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه قال: لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن مَتَّى ونسبه إلى أبيه .
الشرح:
والسبب في هذا أن الله -تعالى- لما ذكر قصته في القرآن الكريم، وأنه ذهب مغاضبًا ورمى نفسه في البحر، وهو مليم، قد يظن بعض الناس النقص في هذا النبي الكريم، وأنه خير منه؛ ولهذا قال: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتَّى ) وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري من قال: أنا خير من يونس بن مَتَّى فقد كذب لأنه نبي كريم، ولا يمكن أن يكون أحد أفضل من النبي، والنبي من أنبياء الله لا يمكن أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتَّى ومن قاله من غير الأنبياء، فهو كاذب لأنه لا يصل إلى درجة الأنبياء
أما قصته -عليه السلام- فإن الله أرسله إلى أهل نِينوى ودعاهم في أول الأمر، فردوا عليه دعوته فلم يصبر -عليه الصلاة والسلام-، وذهب مغاضًبا وقال: سيأتيكم العذاب وتركهم وركب البحر، لكنهم ندموا بعدما ذهب عنهم، وتمنوا أن يرجع إليهم، ثم حصل له قصة في القرآن الكريم، أنه ركب السفينة، فثقلت السفينة، فأرادوا أن يستهموا فوقع السهم عليه، قال -تعالى-: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فسقط في بطن الحوت، فجعل يسبح حتى أخرجه الله، وأنبت الله له شجرة اليقطين في الحال من لطف الله به، ويقال: إنها شجرة لا يقع عليها الذباب ولا النامس (البعوض) وكان جلده ضعيف جدًّا بسبب وجوده في بطن الحوت، فلو وقع عليه الذباب لأثر على جلده؛ لأنه رقيق جدًّا، فأنبت الله له هذه الشجرة في الحال، حتى يتقوى جلده شيئًا فشيئًا، ثم بعد ذلك أرسله الله إلى قومه مرة أخرى، وكانوا مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا في الحال، فكشف الله عنهم العذاب، كما قال تعالى: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين .
والشاهد من الحديث قوله: (فيما يرويه عن ربه) فهو حديث قدسي، يرويه النبي عن الله -عز وجل- بلفظه ومعناه.
قوله: (ونسبه إلى أبيه) أي: أن أباه اسمه …مَتَّى وليست أمه، والذي نسبه هو النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الإنسان قد ينسب إلى أمه مثل: يعلى ابن أمية ويعلى ابن منية فيعلى هذا أبوه اسمه أمية وأمه اسمها منية فيقال: يعلى بن أمية إذا نسب إلى أبيه، ويقال يعلى ابن منية إذا نسب إلى أمه.
(1/180)
حديث: "رأيت رسول الله يوم الفتح على ناقة له"
7540 - حدثنا أحمد بن أبي سريج أخبرنا شبابة حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن عبد الله بن مغفل المزني قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح على ناقة له، يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح قال: فَرَجَّع فيها قال: ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت لمعاوية كيف كان ترجيعه؟ قال آ آ آ ثلاث مرات.
الشرح:
الترجيع هو ترديد الصوت بالحلق، والجهر به بعد خفائه مكررًا لأجل التخشع، فعبد الله بن مغفل رجع كما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعاوية بن قرة رجع ما رجع ابن مغفل مثل قوله: إنا فتحنا لك فتحا مبينا آآآ، وإذا كان الترجيع يكون بالجهر به بعد خفائه، فتكون (آ) الأولى خفية ثم يجهر بالثانية ثم الثالثة أرفع، وقال بعضهم: إن هذا الترجيع بسبب حركة الناقة.
والترجيع بالأذان هو أن يأتي بالشهادتين سرًّا، ثم يرفع بهما صوته، كأذان أبي محذورة الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- الترجيع. فيأتي بالشهادتين سرًّا فيقول: أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله بصوت خافت، ثم يرفع صوته بالشهادتين، فتكون جمل أذان أبي محذورة تسعة عشر جملة، وأذان بلال خمس عشرة جملة؛ لأنه ليس فيه ترجيع.
والشاهد من الحديث أنه شامل لرواية الرسول عن ربه عمن يكون بواسطة، أو بغير واسطة، وعن أن يكون قرآنًا، أو غير قرآن.
(1/181)
باب: ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها
51 - باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها، من كتب الله بالعربية وغيرها؛ لقول الله -تعالى-: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
الشرح:
المقصود بهذه الترجمة أنه يجوز ترجمة المعاني لمن لا يفهمها إلى لغة أخرى فمثلا يترجم معاني التوراة بالعربية، أو معاني الإنجيل، أو معاني الزبور لمن لا يفهمها، فلا بأس في ذلك، وهو حينما يترجم، فإنما يترجم شيئًا يقوم به، فدل على أنه صفاته منسوبة إليه، فالترجمة عمل الإنسان، واستدل المؤلف -رحمه الله- على ذلك بقوله -تعالى-: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ومعلوم أن التوراة ليست باللغة العربية، فالله -تعالى- يقول لنبيه قل لهم: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وثبت أنه لما ترافع اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة اليهودي الذي زنا بامرأة يهودية، قال لهم الرسول: ما تجدون في التوراة، قالوا: نسخمهم... قال: فأتوا بالتوراة، فلما قرأ أحدهم التوراة يقال له: ابن صوريا ولما وصل إلى آية الرجم وضع يده عليها، قال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم تلوح... فأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم الله وهو الرجم، وهذا ما وافق فيه القرآن مما في التوراة، وهو الرجم. فالشاهد قوله: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ومن المعلوم أنهم إذا أتوا بالتوراة، ليست باللغة العربية، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يفهم اللغات الأخرى كلغة اليهود فحينئذ لا بد من الترجمة حتى تترجم له، فدل على جواز الترجمة، وأن الترجمة لا بأس بها، وأنها عمل الإنسان وفعله، فدل على أن أعمال الإنسان تنسب إليه، أما المترجم كالتوراة والإنجيل والقرآن، فهو كلام الله، وكلام الله منزل غير مخلوق.
(1/182)
حديث: "من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل"
7541 - وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه، ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل و يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الآية .
الشرح:
وجه الدلالة من الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابه إلى هرقل وهرقل رومي، وليس عربيًّا، كتب له الرسول -صلى الله عليه وسلم- آية من القرآن، وهي قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ومعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنه لا يقرؤها، وأنه لا بد أن تترجم له؛ ولهذا دعا بترجمانه.
وهذا رواه ابن عباس عن أبي سفيان وكان مشركًا في ذلك الوقت، وكان قد ذهب إلى الشام لتجارة له، فلما أتى كتاب النبي إلى هرقل دعا من كان موجودًا من قوم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما جاءوا سألهم، وقال: أيكم أقرب نسبًا إلى هذا الرجل؟ فأشاروا إلى أبي سفيان فجعله أمامهم، وهم خلفه وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل عن أسئلة، فإن كَذَبني، فَكَذِّبوه، فجعل يسأله الأسئلة المعروفة الطويلة، التي استدل بها على نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، إلى أن قال هرقل لأبي سفيان إن كنت صادقًا، فسيملك موضع قدمي هاتين، وإنه لنبي، ولو استطعت أن أغسل عن موضع قدميه لفعلت... إلخ.
والمقصود أنه دعا بترجمانه، فترجم له كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا إذن منه -صلى الله عليه وسلم- بالترجمة؛ لأنه أرسل كتابًا عربيًّا إلى رومي، فدل على جواز ترجمة معاني القرآن إلى غير العربية وهي فعل الإنسان أما المترجم فهو كلام الله.
أما الترجمة الحرفية للقرآن فغير جائزة، ولا تصح.
(1/183)
حديث: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم "
7542 - حدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ الآية .
الشرح:
الشاهد من الحديث قوله (كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية) فهذا دليل على الترجمة، وأنه لا بأس بها، وقوله: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) هذا في الأشياء التي لا يعلم صدقها من كذبها، أما ما علم صدقه، فيصدق، وما علم كذبه فيكذب، فأخبار بني إسرائيل على ثلاثة أقسام:
1 - القسم الأول: ما جاء شرعنا بتصديقه فيصدق.
2 - القسم الثاني: ما جاء شرعنا بتكذيبه فيكذب.
3 - القسم الثالث: ما لم يأت شرعنا بتصديقه، ولا تكذيبه، فلا يصدق ولا يكذب. وهو المراد بهذا الحديث. فلا يصدقون خشية أن يكون كذبًا، ولا يكذبون خشية أن يكون صدقًا.
(1/184)
حديث: "فإذا فيه آية الرجم تلوح "
7543 - حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل عن أيوب عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فقال لليهود ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما، ونخزيهما، قال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فجاءوا فقالوا لرجل: ممن يرضون، يا أعور اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، قال: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد إن عليهما الرجم، ولكنا نكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما، فرأيته يجانئ عليها الحجارة .
الشرح:
قوله: (نسخم) التسخيم: هو تسويد الوجه، فيسودون وجه الزاني والزانية بفحم، أو غيره، ثم يُركبونهما على بعير، أو حمار مقلوبين، وجه هذا إلى وجه هذا، ويطاف بهما في الأسواق، وهذا بدل الحد الذي شرعه الله، وهو الرجم، وهذا من التغيير الذي غيروه، فلما حصلت الواقعة قالوا: نترافع إلى محمد لعله يسقط عنا الرجم، فيكون حجة لنا عند الله.
قوله: (يا أعور) يقال له: ابن صُوريا قوله: (فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها) أي: أنه قرأ التوراة فلما وصل إلى آيه الرجم، وضع يده عليها، وقرأ ما قبلها وما بعدها، قوله: (تلوح) أي: تظهر واضحة، وفي الرواية الأخرى (أن عبد الله بن سلام الصحابي الجليل، هو الذي قال: ارفع يدك) قوله: (ولكنا نتكاتمه بيننا) أي: يكتمون الرجم، ولا ينفذونه فيما بينهم، وفي الرواية الأخرى (أنه كثر في أشرافهم) وفي رواية أخرى أنه زنى رجل من الأشراف، فلم يقيموا عليه الحد، فزنى رجل من الضعفاء، أرادوا أن يقيموا عليه الحد، فقال بعضهم: لا تقيموا عليه الحد حتى تقيموه على صاحبكم، أي: الغنى، فاتفقوا على أمر يقيموه على الشريف والوضيع، وهو تسخيم الوجه وفضحهم بأن يركبوهم على دابتين مقلوبين، ويطوفون بهما في الأسواق، وفي بعضها (زيادة الجلد). قوله: (يجانئ عنها الحجارة) وفي رواية أخرى (يجنئ) وفي رواية (يقيها الحجارة بنفسه) والمعنى: أنه لما أقيم الحد على الرجل والمرأة صار من محبته لها، يقيها بنفسه الحجارة حتى عند الموت.
(1/185)
باب قول النبي: "الماهر بالقرآن مع الكرام البررة"
حديث: "وزينوا القرآن بأصواتكم"
52 - باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: الماهر بالقرآن مع الكرام البررة وزينوا القرآن بأصواتكم .
7544 - حدثني إبراهيم بن حمزة حدثني ابن أبي حازم عن يزيد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به .
الشرح:
المقصود بهذه الترجمة إضافة أفعال العباد إليهم وأن العباد فاعلون لأفعالهم، ومن ذلك قراءتهم للقرآن؛ لهذا ترجم المؤلف الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة وفي اللفظ الآخر مع السفرة الكرام البررة وهم الملائكة، والسفير هو حامل الوحي، ومنه جبريل لأنه سفير بين الله وبين رسله، قوله: الماهر بالقرآن أي: المجود لتلاوته حسن التلاوة والحفظ، وحفظه وجودته ومهارته هذه فعل من أفعاله تضاف إليه، وأفعال العباد مخلوقه كما أنهم مخلوقون، والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق ؛ ولهذا قال: زينوا القرآن بأصواتكم والمعنى: زينوا القراءة بأصواتكم، والتزيين: هو تحسين الصوت بالقراءة من فعل الإنسان، والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق، فالقراءة فعل القارئ، والمقروء كلام البارئ.
قوله: (ما أذن الله لشيء) أي: ما استمع، فالإذن هنا بمعنى الاستماع، ففيه إثبات أن الله -تعالى- يستمع إلى قراءة النبي من أنبيائه، وهذا استماع يليق بجلال الله وعظمته، وهو من الصفات الفعلية، يثبت لله كما تثبت سائر الصفات، لا يشابهه أحد من خلقه، وأخطأ من قال: المراد بالاستماع هنا لازمه وهو الرضا به.
والشاهد قوله: (حسن الصوت بالقرآن، يجهر به) فأضاف حسن الصوت إليه، فهذا من أفعال العباد، فأراد المؤلف أن يبين أن أفعال العباد منسوبة إليهم، وفيه رد على الجبرية الذين يقولون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، وأن أفعالهم هي أفعال الله، فهذا من أبطل الباطل، والمعتزلة يقولون: العباد خالقون لأفعالهم، وهذا باطل أيضًا، والصواب أن العباد ليسوا مجبورين على أفعالهم، بل هم مختارون، والإنسان يدرك هذا، ويجده من نفسه، فتجده يقوم، ويذهب، ويأكل، ويشرب، ويتكلم، ويقرأ باختياره لم يجبره أحد على ذلك، فدل على أفعاله، والله -تعالى- خلق العباد، وخلق أفعالهم قال -تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وليست أفعالهم مخلوقة لهم كما يقول المعتزلة بل كل شيء خلقه الله، أفعال العباد وغير أفعال العباد، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .
قوله: (ما أذن لنبي) المقصود جنس النبي، وليس نبيًا معينًا؛ لقوله (حسن الصوت، يجهر بالقرآن) أي: يجهر بالقراءة، والقراءة قد تكون بالقرآن، وقد تكون بالتوراة، وقد تكون بالزبور، وقد تكون بالإنجيل. كما جاء في الحديث: أن داود -عليه السلام- كان إذا قرأ القرآن، جاوبته الجبال والمقصود بالقرآن هنا أي المقروء وهو الزبور، قال تعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ فالوحوش تخشع، وتستمع لقراءته، عليه السلام.
فائدة:
حكم التجويد أثناء التلاوة، الصحيح أنه مستحب؛ لأنه قدر زائد على تحسين التلاوة.
(1/186)
حديث: "وأنا حينئذ أعلم أني بريئة"
7545 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكل حدثني طائفة من الحديث قالت: فاضطجعت على فراشي، وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله يبرئني، ولكني والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، وأنزل الله -عز وجل-: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر الآيات كلها.
الشرح:
هذا مختصر من حديث الإفك، وهو حديث طويل، أتى به البخاري في موضع آخر مطولا. قوله: (الإفك) هو أسوأ الكذب، وذلك أن المنافقين رموا عائشة بالفاحشة، فبرأها الله من فوق سبع سماوات.
والشاهد قولها: (ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيًا يُتلى) فقولها: (يُتلى) فأضافت التلاوة إلى العباد، والتلاوة وصف من أوصاف العباد، والمتلو هو كلام الله منزل غير مخلوق.
وقد أجمع العلماء، أن من رمى عائشة بما برأها الله منه أنه كافر؛ لأنه كذب الله، عز وجل.
(1/187)
حديث: "فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه"
7546 - حدثنا أبو نعيم حدثنا مسعر عن عدي بن ثابت أراه عن البراء قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا، أو قراءة منه .
الشرح:
الشاهد من الحديث قوله: (أحسن صوتًا منه) فأضاف الحسن والصوت للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فصوت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقراءة والتين والزيتون ينسب إليه، فهو فعله، وأفعال العباد مخلوقة أما قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فهذا كلام الله منزل غير مخلوق.
قوله: (يقرأ في العشاء) الغالب أنه -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العشاء بأوساط السور أي: أوساط المفصل، وأحيانًا يقرأ بقصار السور، كما في هذا الحديث.
(1/188)
حديث: "كان النبي متواريًا بمكة "
7547 - حدثنا حجاج بن منهال حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متواريًا بمكة وكان يرفع صوته، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن جاء به، فقال الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا .
الشرح:
قوله: (ولا تجهر بصلاتك) أي: لا تجهر بقراءتك، فالمراد بالصلاة هنا القراءة، كما أن الفاتحة تسمى صلاة، كما في الحديث القدسي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال عبدي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي الحديث.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متواريًا بمكة قبل الهجرة، وكان يرفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن جاء به، ومن أنزله فأنزل الله عليه وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ ألا لا تجهر بقراءتك حتى لا يسبه المشركون وَلَا تُخَافِتْ بِهَا حتى لا يسمعك أصحابك وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أي: وسطًا بين الجهر وبين الإخفات، فلا يرفع حتى لا يسبه المشركون، ولا يخفض حتى لا يسمعه أصحابه، بل يكون وسطًا.
والشاهد قوله: (وكان يرفع صوته) فأضاف الصوت إليه، ووصفه بالرفع.
(1/189)
حديث: "إني أراك تحب الغنم والبادية"
7548 - حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
هذا الحديث فيه مشروعية الأذان في الأسفار وفي البادية، فيشرع للإنسان إذا كان في غنم، أو بادية، أو في مزرعة، وأراد الصلاة أن يؤذن، ويرفع صوته بالنداء، ولو كان وحده، وفيه فضل الأذان؛ لأنه كل من سمع أذانه شهد له يوم القيامة، سواء كان جنًا أو إنسًا أو شجرًا أو حجرًا، فكيف يحرم الإنسان نفسه من هذا الأجر.
والشاهد قوله: (فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن) فأضاف الصوت إلى المؤذن وهو فعل من أفعاله ومن ذلك القراءة، فالأذان فعله والقراءة فعله كلها منسوبة إليه، وأفعال العباد منسوبة إليهم يثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها؟
(1/190)
حديث: "كان النبي يقرأ القرآن ورأسه في حجري"
7549 - حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن منصور عن أمه، عن عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض .
الشرح:
هذا فيه دليل على جواز قراءة القرآن عن ظهر قلب ولو على غير طهارة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يذكر الله على جميع أحواله ومن ذلك القرآن؛ لأنه من الذكر، إلا إذا كان عليه جنابة، فلا يقرأ القرآن، ولو كان عن ظهر قلب حتى يغتسل، وفيه جواز قراءة الإنسان للقرآن وهو مضطجع وفيه حسن خلقه -عليه الصلاة والسلام- وإيناسه أهله حيث إنه يقرأ القرآن على فخذ عائشة وفيه أنه لا حرج أن يقرأ الإنسان القرآن، وهو متكئ على حائض.
والشاهد قوله: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ القرآن) فأضاف الفعل للرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو من أفعاله، وأفعاله مخلوقة، والقرآن كلام الله غير مخلوق.
(1/191)
باب قول الله: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ"
حديث: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف"
53 - باب قول الله -تعالى-: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
7550 - حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب حدثني عروة أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبدٍ القاري حدثاه، أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال: أرسله، اقرأ يا هشام فقرأ القراءة التي سمعته فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك أنزلت، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اقرأ يا عمر فقرأت التي أقرأني، فقال: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه .
الشرح:
قوله: ( فاقرءوا ما تيسر منه) أي: ما زاد على الفاتحة، وهذا إذا كان في الصلاة، أما قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (فاقرءوا ما تيسر منه) أي ما سهل عليكم من الأحرف، فاقرءوا بها، قوله (عَبْدٍ القاري) بتنوين الدال، و (القاري) لقب له.
وهذه القصة فيها قوة عمر -رضي الله عنه-، قوله: (كدت أساوره في الصلاة) أي: أجره، وأمسكه وأواثبه، قوله: (لببته بردائه) أي: آخذ الرداء على حلقه، وجعل يجره حتى جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قوله: (كذبت) أي: أخطأت، قوله: (أرسله) أي: أطلقه قوله: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) هذا من رحمة الله -تعالى- وإحسانه إلى عباده، وقد اختلف العلماء بالمراد بهذه الأحرف، فقيل: إن المراد بالأحرف أي: اللغات وقيل: الأوجه والمعاني، وقيل: غير ذلك، والأقرب أنها حروف متقاربة في المعنى، وإن كانت مختلفة في اللفظ، ويدخل في ذلك الاختلاف في اللغات، مثل قوله -تعالى-: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وما أشبه ذلك. وهذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، وكان الناس يقرءون بهذه الأحرف السبعة.
وفي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن القرآن مجموعًا؛ لأن الوحي لا يزال يتنزل، ثم بعد ذلك جمع القرآن على سبعة أحرف في زمن أبي بكر -رضي الله عنه-، وذلك بعد أن كان متوقفًا أول الأمر عن جمعه، ثم شرح الله صدره لجمع القرآن بعد أن قيل له: إن القتل قد استحر في القراء يوم اليمامة، وانتدب لذلك زيد بن ثابت وجماعة، وقال للفتيان: إذا اختلفتم مع زيد فاكتبوه بلغة قريش فإن القرآن أنزل بلغتهم.
ثم بعد ذلك بقي المصحف الذي جمعوه عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة على سبعة أحرف، ثم لما حصل نزاع بين الناس في القراءة في أثناء غزوهم لأرمينية وأذربيجان جاء حذيفة -رضي الله عنه- إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وقال له: (يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة، قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى إني سمعت كذا وكذا) فاستشار عثمان الصحابة فجمع القرآن جمعًا آخر، وأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها، ثم نردها إليك فجمع القرآن على حرف واحد، وألغى ستة حروف، وقال: (إن هذا القرآن أنزل بلغة قريش ) فجمعها على لغة قريش حتى لا يحصل الخلاف بين الناس، فجمع القرآن على حرف واحد، وهو حرف قريش والقراءات السبع أو العشر كلها داخلة في هذا الحرف، ثم نسخت هذه المصاحف، ثم أرسل إلى كل مصر من الأمصار مصحفًا، يسمى بالمصحف الإمام، أو المصحف العثماني، وأحرقت بقية المصاحف. والمراد بهذه الترجمة بيان أن أفعال العباد، تضاف إليهم ومن أفعالهم القراءة للقرآن.
(1/192)
باب قول الله: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ"
54 - باب قول الله -تعالى-: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: كل ميسر لما خلق له يقال: ميسر مهيأ، وقال مجاهد يسرنا القرآن بلسانك هونا قراءته عليك، وقال مطر الوراق وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال: هل من طالب علم فيعان عليه.
الشرح:
قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي: يسر الله القرآن للتذكر والقراءة، فهل من متعظ قوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) المعنى: أن كل ميسر لما خلق له من العمل، ومن العمل قراءته للقرآن، هي عمل من أعماله تضاف إليه، وأفعالهم مخلوقة، والقرآن كلام الله غير مخلوق فهذه الترجمة كالترجمة السابقة، فيها إضافة أفعال العباد إليهم.
قوله: (قال: مجاهد يسرنا القرآن بلسانك: هونا قراءته عليك) وقراءته فعل من أفعاله، وهي مضافة إلى العبد، قوله: (قال مطر الوراق وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هل من طالب علم فيعان عليه) الله أكبر ! دل هذا على فضل طلب العلم؛ لأن الله -تعالى- يعينه ويوفقه إذا طلب العلم، والشاهد أن تعلم القرآن فعل من أفعاله منسوب إليه.
(1/193)
حديث: "كل ميسر لما خلق له "
7551 - حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث قال يزيد حدثني مطرف بن عبد الله عن عمران قال: قلت: يا رسول الله، فيما يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له .
الشرح:
قوله: (كل ميسر لما خلق له) أي: كل ميسر لما خلق له من العمل، ومن العمل قراءته للقرآن ييسرها الله -تعالى- على العبد، فهي فعل من أفعاله منسوبة إليه، وإن كان القرآن كلام الله، عز وجل.
(1/194)
حديث: "ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار أو من الجنة"
7552 - حدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن منصور والأعمش سمعا سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان في جنازة، فأخذ عودًا، فجعل ينكت في الأرض فقال: ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار أو من الجنة، قالوا: ألا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى الآية .
الشرح:
هذا الحديث فيه بيان الإيمان بالقضاء والقدر والكتابة، وأن الله -تعالى- كتب كل شيء كما جاء في الحديث: ما من نفس منفوسة، إلا كتب مقعدها من النار فهذا أمر قد فرغ منه، كما جاء في الحديث: كتب الله مقادير الخلائق، قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء فالله -تعالى- كتب أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم، كل هذا مكتوب.
قوله: (ألا نتكل) أي: على الكتاب الذي كتبه الله، والمعنى لماذا نعمل؟ ففي لفظ آخر قالوا: فلماذا العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر وفي اللفظ الآخر: أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى والشاهد من الحديث قوله: (اعملوا فكل ميسر) أي: أن كل ميسر لما خلق له من العمل، ومن ذلك قراءته للقرآن، وتعلمه للعلم وصلاته وزكاته وصيامه، وغيرها من الأعمال كلها ييسر لها العبد، وهي أفعاله منسوبة إليه، وهي مخلوقة لله، فقراءته للقرآن من العمل الذي يسر له، والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
(1/195)
باب قول الله: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ"
55 - باب قول الله -تعالى-: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ قال قتادة مكتوب " يسطرون " يخطون (في أم الكتاب) جملة الكتاب وأصله مَا يَلْفِظُ ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه، وقال ابن عباس يكتب الخير والشر (يحرفون) يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله -عز وجل- ولكنهم يحرفونه يتأولونه، على غير تأويله، دراستهم تلاوتهم (واعية) حافظة، (وتعيها) تحفظها وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يعني: أهل مكة وَمَنْ بَلَغَ هذا القرآن، فهو له نذير.
الشرح:
المقصود بهذه الترجمة بيان أن القرآن كيفما تصرف، فهو كلام الله وأن القرآن مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، موعى في القلوب، مقروء بالألسن، منزل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيفما تصرف، فهو كلام الله؛ ولذا قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أي: أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومحفوظ في الصدور، ومكتوب في المصاحف، ومقروء بالألسن فهو كلام الله منزل غير مخلوق.
أما الصدور والألسن والمداد والورق والكتابة كلها مخلوقة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مخلوق والمنزل عليه غير مخلوق، والصدور والقلوب مخلوقة، والقرآن موعى في الصدور والقلوب، فدل على أن القرآن كيفما تصرف، فهو كلام الله، قوله: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فالكتاب مسطر، قوله: (يسطرون: يخطون في أم الكتاب) فالقرآن يخط، فالمصحف فيه خط الخطاط، ومداد الكاتب والورق وفيه كلام الله، والظرفية تختلف، فيقال في المصحف كلام الله، ويقال فيه مداد وورق، ويقال: فيه خط فلان الكاتب، قوله: (جملة الكتاب وأوصله) أي: أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ كما قال -تعالى-: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ وقال يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ أي: أصله وهو اللوح المحفوظ.
قوله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه، فالشيء المكتوب غير الكتابة.
قوله: (قال ابن عباس يكتب الخير والشر) تكتب الحفظة على الإنسان كل شيء الخير والشر، ومنه قوله -تعالى-: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ أي: يمحو الله ما يشاء، ويثبت في صحف الملائكة؛ ليوافق ما في اللوح المحفوظ؛ ولهذا قال: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ حتى يوافق ما في اللوح المحفوظ، فما في اللوح المحفوظ لا يغير، ولا يبدل لكن ما في صحف الملائكة، قد يمحى منه شيء ليوافق ما في اللوح المحفوظ.
قوله: (وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله -عز وجل- ولكنهم يحرفونه: يتأولونه عن غير تأويله) هذا قول البخاري يقول: إنه ليس هناك أحد يغير اللفظ، مما في كتب الله كالتوراة والإنجيل والقرآن، والكتب التي أنزلت، فليس هناك تغيير حرفي إنما التغيير يكون في المعنى، وهذا قول.
والقول الثاني: أن التغيير يكون في اللفظ والمعنى، فالكتب السابقة كالتوراة والإنجيل فيها ما هو محرف، وفيها ما هو باق من كلام الله، قوله: (دراستهم: تلاوتهم) في قوله -تعالى-: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أي: تلاوتهم.
والشاهد أنه أضاف الدراسة والتلاوة إليهم، والمدروس هو كلام الله، والدراسة هي فعل العبد، فدل على إضافة أفعال الله إليهم، ودل على أن كتاب الله متلو بالألسن، فكيفما تصرف، فهو كلام الله، قوله: (واعية: حافظة) في قوله -تعالى-: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فالأذن والقلوب مخلوقة، وهي تحفظ كلام الله، والموعى فيها كلام الله.
قوله: (ومن بلغ هذا القرآن، فهو له نذير) دل على أن القرآن نذير وبلاغ، أما المنذر والمبلغ فهو الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكذلك أتباعه، والإنذار والتبليغ فعل له منسوب إليه، أما المنذر والمبلغ به فهو كلام الله عز وجل، قيل: إن هذه الآية أشد شيء على جهم، وأتباعه وهي قوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ فالقرآن نذارة وبلاغ لمن بلغه إلى يوم القيامة.
(1/196)
حديث: "لما قضى الله الخلق كتب كتابًا عنده"
7553 - و قال لي خليفة بن خياط حدثنا معتمر سمعت أبي، عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما قضى الله الخلق كتب كتابًا عنده، غلبت أو قال: سبقت رحمتي غضبي، فهو عنده فوق العرش .
الشرح:
هذا فيه إثبات الغضب والرحمة والكتابة لله -عز وجل- وهي من الصفات الفعلية التي لا تشابه صفات المخلوق، وفيه كذلك إثبات العلو والفوقية وإثبات العرش، وأن الله -تعالى- فوق العرش، وفيه إثبات أن هذا الكتاب خاص، فالعرش سقف المخلوقات، وهذا الكتاب فوقه، فهذا الكتاب مستثنى، فهو مخلوق، وهو فوق العرش.
(1/197)
حديث: "فهو مكتوب عنده فوق العرش"
7554 - حدثني محمد بن أبي غالب حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا معتمر سمعت أبي يقول: حدثنا قتادة أن أبا رافع حدثه أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق، إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش .
الشرح:
هذا فيه إثبات الصفات كما سبق، وأهل الكلام يقولون: مستحيل أن يكون الله فوق العرش ؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون جسمًا ومحدودًا ومتحيزًا، وأولوا فوقيته -سبحانه- على العرش بالمكانة، وهذا -لا شك- أنه باطل غير صحيح.
(1/198)
باب قول الله: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ"
حديث: "مرنا بجُمَلٍ من الأمر إن عملنا بها دخلنا الجنة"
56 - باب قول الله -تعالى-: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ويقال للمصورين أحيوا ما خلقتم إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قال ابن عيينة بين الله الخلق من الأمر؛ لقوله -تعالى-: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عملا، قال أبو ذر وأبو هريرة سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله وقال: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال: وفد عبد القيس للنبي -صلى الله عليه وسلم-: مرنا بجُمَلٍ من الأمر إن عملنا بها دخلنا الجنة، فأمرهم بالإيمان والشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فجعل ذلك كله عملا .
الشرح:
مقصود البخاري في هذه الترجمة بيان أن أفعال العباد مخلوقة قوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ دلت الآية على أن الله -تعالى- خلق العباد وخلق أفعالهم، وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن العباد خالقون لأفعالهم وأعمالهم، وهذا باطل؛ لأن الله -تعالى- قال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ فيدخل فيه كل شيء مخلوق، وقال -سبحانه-: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فالأعمال والطاعات والمعاصي كلها مخلوقة لله تعالى.
وقالت المعتزلة والقدرية أنه يجب على الله إثابة الطائع على طاعته؛ لأن الجزاء عوض عن أعمالهم، وكذلك يجب على الله أن يعذب العاصي، فحجروا بذلك على الله وقاسوه بخلقه، قوله: (أحيوا ما خلقتم) أضاف الخلق إليهم، والمراد به هنا التصوير، والتقدير، وهذا يكون للمخلوق، فالخلق قسمان:
1 - الاختراع والإيجاد والبرء، فهذا خاص بالله عز وجل.
2 - التصوير والتقدير، وهذا يجوز للمخلوق، كقوله -تعالى-: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فعيسى -عليه السلام- لا يوجد، ولا يخترع إنما يصور، ويقدر، وينفخ فيه، والله -تعالى- هو الذي يخلق ويوجد. وأفاد تحريم التصوير كما سيأتي، وهذا التكليف بالإحياء للصور المراد منه التعجيز؛ وذلك لتعذيبهم على ذلك، والشاهد أنه أضاف الخلق إليهم، فهذه أعمال تنسب إليهم، فيعذبون بها.
قوله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فرق الله -تعالى- بين الخلق والأمر، والأمر هو كلامه -سبحانه-، ولما فرق الله بينهما دل على التفريق بينهما، أما المعتزلة فقالوا: إن الأمر هو الخلق؛ ولذلك قالوا: إن القرآن مخلوق، وهذا باطل؛ لأن الله -تعالى- قال: مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ فكيف يكون المعنى مسخرات بخلقه، فدل على أن المراد بالأمر هو كلام الله -تعالى- ولو كان كلام الله مخلوقًا للزم أن يوجد بأمر آخر، والآخر إلى آخر، واستمرار هذا باطل بلا ريب.
قوله: (وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عملا) دل على أن أعمال العباد تضاف إليهم، يثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها.
قوله: وقال: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: أن الله -تعالى- جازاهم على أعمالهم، فأضافها الله تعالى إليهم، فهي أعمالهم تنسب إليهم، وليس كما قالت الجبرية أنهم مجبورون على أعمالهم.
قوله: (مرنا بجُمَل من الأمر، إن عملنا بها) دل على أن كل ما أمرهم هي أعمال لهم مضافة إليهم.
(1/199)
حديث: "لست أنا أحملكم ولكن الله حملكم"
7555 - حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن أبي قلابة والقاسم التميمي عن زهدم قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء، فكنا عند أبي موسى الأشعري فقرب إليه الطعام فيه لحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم الله كأنه من الموالي، فدعاه إليه فقال: إني رأيته يأكل شيئًا، فقذرته فحلفت لا آكله فقال: هلم فلأحدثك عن ذاك: إني أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفر من الأشعريين نستحمله، قال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم، فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بنهب إبل فسأل عنا، فقال: أين النفر الأشعريون فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى، ثم انطلقنا قلنا: ما صنعنا حلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يحملنا وما عنده ما يحملنا، ثم حملنا تغفلنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمينه، والله لا نفلح أبدًا، فرجعنا إليه، فقلنا له: فقال: لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم، وإني والله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منه، وتحللتها .
الشرح:
قوله: (إني رأيته يأكل شيئًا فقذرته) أي: أنه رأى الدجاج يأكل شيئًا نجسًا، فقذره لأجل ذلك.
قوله: (فأمر لنا بخمس ذود) الذود: ما بين الثلاثة إلى العشرة. قوله: (غر الذرى) أي: بيض الأسنمة. قوله: (لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم) هذا هو الشاهد؛ لأنه نسب الحمل لنفسه، وفيه رد على القدرية ؛ لأنه قال: (الله حملكم).
قوله: (إني والله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها...) دل على أن اليمين لا تمنع من فعل الخير، فمن حلف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها فإنه يكفر عن يمينه، ويأتي التي هي خير. وسواء كان التكفير قبل الحنث، أو بعده.
(1/200)
حديث: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع"
7556 - حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبو جمرة الضبعي قلت لابن عباس فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم، فمرنا بجُمَل من الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليها من وراءنا قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: لا تشربوا في الدباء والنقير والظروف المزفتة والحنتمة .
الشرح:
سبق بيان هذا الحديث في الكلام على الترجمة، وفيما سبق من الأبواب، قوله: (الدباء) هي القرع، كانت العرب يأخذون اللب الذي في وسطه، ثم ينبذون فيه العصير من العنب وغيره، ثم إذا مضى يومان أو ثلاثة تخمر، ولا يتبين؛ لأن الدباء قوية؛ لذلك أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينتبذوا في الأسقية من الجلد، حتى إذا تخمرت تمزقت، قوله: (والنقير) هو الجذع ينقر، ثم يوضع فيه العصير، فيتخمر إن ترك، قوله: (الظروف المزفتة) وهي المطلية بالزفت.
قوله: (والحنتمة) وهي من الطين الفخار، مثل الأزيار المعروفة الآن، فهذه ينتبذ فيها من العصير وغيره، فيتخمر، ولا يعلم عنه، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا ينتبذوا بهذه الأشياء، بل ينتبذوا في الأشياء الرقيقة، التي إذا تخمرت تمزقت من شدتها، وهذا كان في أول الأمر، ثم بعد ذلك نسخ هذا النهي، بعد أن عرف الناس الشريعة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (انتبذوا في كل شيء، ولا تشربوا مسكرًا) .
(1/201)
حديث: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة"
7557 - حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم .
7558 - حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم .
7559 - حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله -عز وجل- ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة .
الشرح:
هذه الأحاديث الثلاثة فيها تحريم الصور وأن التصوير من كبائر الذنوب، وأن المصور من أظلم الناس، فهو يعذب يوم القيامة، ويؤمر بإحياء ما خلق تعجيزًا له، وتبكيتًا وتعذيبًا له؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: من صور صورة، كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ وفي الحديث الأول قال: (أحيوا ما خلقتم). والحديث الثالث حديث قدسي من كلام الله -عز وجل- يقول الله -تعالى-: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) أي: لا أشد ظلمًا منه. ثم قال: فليخلقوا حبة...) إلخ. هذا تعجيز لهم؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، والخلق -كما سبق- يطلق على شيئين:
1 - يطلق على الإيجاد والاختراع والبرء، وهذا لا يقدر عليه، إلا الله عز وجل.
2 - يطلق على التقدير والتصوير وضم الأشياء بعضها إلى بعض، فهذا ينسب إلى المخلوق، ومنه قوله: (أحيوا ما خلقتم) أي: ما صورتم وقدرتم، ومنه قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أي: أحسن الخالقين المقدرين المصورين، لا المنشئين المخترعين، فليس هناك منشئ ولا مخترع إلا الله -عز وجل-، ومنه قوله -تعالى- في عيسى -عليه السلام-: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي: تصور وتقدر، فعيسى -عليه السلام- يصور، ويقدر، وينفخ فيه، ثم يخلق الله -تعالى- فيه الروح، فالخلق والإيجاد من الله -تعالى- والتصوير والتقدير لعيسى عليه السلام. فالمصورون لا ينشئون، إنما يصورون، ويقدرون.
وفي الحديث تحريم الصور التي من ذوات الأرواح؛ ولهذا قال: (أحيوا ما خلقتم) وفي الحديث الآخر كلف أن ينفخ فيها الروح فدل على أن المحرَّم هو تصوير ذوات الأرواح كالآدميين، أو الحيوانات، أو الطيور والحشرات، فكل ما فيه روح حران، أما صور غير ذوات الأرواح كالأشجار، أو النباتات، أو الجبال، أو السيارات، أو الطائرات، فلا بأس به؛ لأن هذه الأشياء ليست من ذوات الأرواح والشاهد من الحديث قوله: (أحيوا ما خلقتم) فأضاف الخلق إليهم، فهو عملهم، فدل على أن الأعمال تضاف إلى العباد، وإن كان الله -تعالى- خلق العباد، وخلق أعمالهم.
فائدة:
التحنيط ليس تصويرًا، لكنه ممنوع من جهة أخرى؛ وذلك لأن فيه إضاعة للمال، ويكون ذريعة للتساهل بالتصوير؛ لأن من رآه يظن أنه صورة.
(1/202)
باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم
حديث: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأُتْرجَةِ"
57 - باب قراءة الفاجر والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم.
7560 - حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأُتْرجَةِ، طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل الذي لا يقرأ كالتمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر ولا ريح لها .
الشرح:
المقصود بهذه الترجمة بيان أن الناس يتفاوتون في القراءة، فالفاجر والمنافق لا تجاوز قراءتهم حناجرهم وتراقيهم، والمؤمن تتجاوز ذلك، وترفع إلى السماء، فدل على أن الناس يتفاوتون في القراءة؛ لأنها عملهم، وأعمالهم منسوبة إليهم، ودل كذلك على أن التلاوة غير المتلو، فالتلاوة عمل العبد، وهي مخلوقة، وأما المتلو، فهو كلام الله -عز وجل- منزل غير مخلوق؛ ولهذا بوب البخاري -رحمه الله- بهذه الترجمة حتى قال: (لا تجاوز حناجرهم) فدل على أن تلاوة القارئ عمل له. أما المتلو، فهو كلام الله يقرؤه البر والفاجر، فالفاجر لا تجاوز تلاوته حنجرته، أي: تَرْقُوتَه، والمؤمن تتجاوز ذلك، ويرفع عمله إلى السماء.
وفي حديث أبي موسى هذا، قَسَّمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الناس في تلاوة القرآن إلى أربعة أقسام: مؤمن يقرأ القرآن، ومؤمن لا يقرأ القرآن، وفاجر يقرأ القرآن، وفاجر لا يقرأ القرآن، وكل واحد ضرب له مثل، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن ضرب له مثل بالأُترجة طعمها طيب، وريحها طيب؛ وذلك لأن المؤمن طعمه طيب؛ لأن معه الإيمان، ورائحته طيبة؛ لأن معه القرآن، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب؛ لأن معه الإيمان، لكن لا ريح لها؛ لأنه ليس معه القرآن، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، مثل الريحانة طعمها مر؛ لأنه ليس معه الإيمان، ولها رائحة؛ لأن معه القرآن، ومثل الفاجر أو المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها؛ لأنه ليس معه إيمان ولا قرآن، وهذا يدل على أن الناس يتفاوتون في التلاوة فهي أعمالهم، وأعمالهم مخلوقة، وأما كلام الله فمنزل غير مخلوق.
(1/203)
حديث: "تلك الكلمة من الحق يخطَفها الجني"
7561 - حدثنا علي حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري وحدثني أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير قال، قالت: عائشة -رضي الله عنها- سأل أناس النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقًّا، قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الكلمة من الحق يخطَفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة .
الشرح:
(الكهان) جمع كاهن، وهو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وله رأي من الجن يأتيه بالأخبار. وهو يدعي الغيب في المستقبل عن طريق هذا الرأي، وإذا كان ذلك عن طريق العقد والرقى والعزائم، التي يفعلها سمي ساحرًا، وإذا كان ادعاؤه للغيب بسبب النظر في النجوم، أو الخط في الأرض، أو ضرب الحصى والودع سمي منجمًا، وإذا كان ادعاؤه للغيب بمقدمات يستدل بها على معرفة المسروق، ومكان الضالة سمي عرافًا، فكلهم يجمعهم شيء واحد، وهو دعوى علم الغيب، لكن بطرق مختلفة.
قوله: (إنهم ليسوا بشيء) أي: أن إخبارهم لا يوثق بها، ولا ينبغي أن يعتمد عليها، قوله: (إنهم يحدثون بالشيء، يكون حقًّا أي: أنه أحيانًا يقع ما قالوا، فقال: تلك الكلمة يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه..) في لفظ (فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة قرقر) وجاء في حديث آخر: (إن الشياطين يركب بعضهم بعضًا، فيسترقون السمع من السحاب)، أو من السماء الدنيا؛ لأن الله -تعالى- إذا تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، فإذا صعقوا (أي: الملائكة ) يكون أول من يرفع رأسه جبريل فيخبره الله من وحيه ما أراد، فيتكلم جبريل ثم يتكلم أهل السماء السابعة، وهكذا حتى يصل إلى السماء الدنيا، وأحيانًا يكون الملائكة في السحاب، فيتكلمون بالوحي، فيسمعه الشيطان الفوقاني، ثم يلقيها من تحته، ثم يلقيها إلى من تحته، حتى تصل إلى الشيطان الذي في الأسفل، فيقرقرها في أذن وليه، أي: الكاهن كقرقرة الدجاجة قرقر، فإذا وصلت إلى الكاهن خلط معها مائة كذبة، فصار يخبر الناس بهذا الكذب الكثير، وإن كان معه خبر واحد صحيح مسموع من السماء، فالناس يصدقون الكاهن بجميع الكذب من أجل واحدة.
فهذا فيه دليل على قبول النفس للشر والباطل، فكيف يعتبرون بواحدة ولا يعتبرون بالمائة، والشهب تلاحق الشياطين وتحرقهم، فربما أدرك الشهاب الشيطان الأسفل قبل أن يلقيها في أذن الكاهن، وربما ألقاها في أذنه، ثم يحرقه الشهاب، فهذا يدل على أن الشياطين كثرة، وهذا فيه تفاوت الناس، فتكلم الكاهن بالكلمة التي سمعت من السماء غير تكلم الجني، وغير تكلم الملائكة، فهم يتفاوتون بالكلمة الواحدة التي تسمع من السماء، فدل على أن الناس يتفاوتون بهذا، وأن هذه أعمالهم، والوحي كذلك يسمع من السماء، وهو كلام الله، لكن تلاوة الناس له مختلفة، فدل على أن التلاوة من أعمال العباد وأما المتلو، فهو كلام الله عز وجل.
(1/204)
حديث: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمية"
7562 - حدثنا أبو النعمان حدثنا مهدي بن ميمون سمعت محمد بن سيرين يحدث عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرءون القرآن لا يجاوز تَراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه، قيل: ما سيماهم؟ قال: سيماهم التحليق، أو قال: التسبيد .
الشرح:
هؤلاء هم الخوارج والشاهد من الحديث قوله: (ويقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم) فدل على أن قراءتهم عمل لهم، لا تجاوز تَراقيهم، وغيرهم من الصحابة يقرءون القرآن، وتجاوز قراءتهم تراقيهم، وترفع أعمالهم إلى السماء، فالناس يتفاوتون، منهم من يقرأ القرآن، ولا تتجاوز قراءته حنجرته، ومنهم من يقرأ القرآن، ويرفع عمله إلى السماء، فدل على أن تلاوته القرآن عمل العبد، أما المتلو فهو كلام الله، منزل غير مخلوق .
قوله: (لا يجاوز تراقيهم) في رواية: تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم فدل على أن عندهم اجتهاد في العبادة، قوله: (يمرقون من الدين...) أي: يمرقون مروقًا عظيمًا (كما يمرق السهم من الرمية) أي: كما ينطلق السهم من القوس سريعًا، ويصيب (الرمية) وهي الصيد، فإذا كان السهم قويًّا نفذ في المصيد، وخرج منه سريعًا، فكذلك هم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، أي: الصيد (ثم لا يعودون إليه) استدل به بعض العلماء على كفر الخوارج ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه) وإذا كانوا لا يعودون إليه دل على أنهم كفار، (حتى يعود السهم إلى فوقه) وهل يمكن أن يعود السهم إلى فوقه؟.
الجواب لا؛ لأن السهم إذا خرج من القوس، فإنه لا يعود، فهم لا يعودون إلى الدين إلا إذا عاد السهم إلى فوقه، وذهب جمهور العلماء إلى أنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون، واستدلوا بقول علي -رضي الله عنه- لما قيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قوله: (سيماهم التحليق) أي: علامة الخوارج والمراد حلق الرأس، فهي علامة لهم، وليس كل من حلق رأسه يكون من الخوارج لكن الخوارج يشددون في الحلق، حتى أنهم لا يجعلونه ينبت، ويتعبدون الله بذلك، ويتخذون ذلك شعارًا، وديدنًا لهم. وليس المراد حلق اللحية، كما قال بعضهم.
فائدة:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحلق رأسه إلا في حج أو عمرة قال الإمام أحمد (هو سنة، لو نقوي عليه لاتخذناه، لكن له كلفة ومشقة، ومن كان له شعر فليكرمه) فحلق الشعر في غير الحج والعمرة جائز، لا سيما إذا كان شعر الفاسق.
(1/205)
باب قول الله: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ"
58 - باب قول الله -تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وأن أعمال بني آدم، وقولهم يوزن، وقال مجاهد القسطاس: العدل بالرومية، ويقال: القسط: مصدر المقسط، وهو العادل، وأما القاسط فهو الجائر.
الشرح:
المقصود بهذه الترجمة بيان أن أعمال العباد وأقوالهم توزن وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ومن أقوال العباد تسبيحهم وتهليلهم وتكبيرهم وتلاوتهم للقرآن، كلها توزن، وأما المتلو فهو كلام الله منزل غير مخلوق. قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ أصل الميزان: موزان، سكنت الواو وكسر ما قبلها فقلبت ياء، وهذه قاعدة صرفية معروفة.
والحديث فيه إثبات الموازين، وأنها حق، واختلف العلماء هل هي موازين متعددة؟ أو ميزان واحد؟ الجواب: قيل: إنها موازين متعددة، وقيل: إنه ميزان واحد، وإنما جمع الموازين باعتبار تعدد الأعمال التي توزن. وهو ميزان حسي، له لسان وكِفتان، هذا الصواب الذي عليه معتقد أهل السنة والجماعة وأنكر المعتزلة الميزان الحسي، وقالوا: المراد به العدل، أي: أن الله عادل، وقالوا: لأنه لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، أما الرب، فلا يحتاج إلى الميزان الحسي، فهكذا تراهم يعارضون النصوص بعقولهم؛ لأن المعتزلة أهل عقول يقدمونها على النصوص، وقولهم هذا من أبطل الباطل، لأن النصوص دلت على أن الميزان ميزان حقيقي، كما قال -تعالى-: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وجاء في الحديث (إثبات الميزان، وأن له كفتين ولسان).
ودل الحديث كذلك على أن أعمال العباد وأقوالهم توزن، وجاء في بعض الأحاديث أن الأشخاص يوزنون يؤتي بالرجل السمين، لا يزن عند الله جناح بعوضة ولما كشفت الريح عن ساقي ابن مسعود -رضي الله عنه- ضحك بعض الصحابة، قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: مما تضحكون؟، قالوا: من دقة ساقيه، يا رسول الله، قال: والذي نفسي بيده، لهما في الميزان أثقل يوم القيامة من جبل أحد فدل على أن الأشخاص يوزنون، والكفرة لا يقيم الله لهم وزنًا قال -تعالى-: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا .
قوله (القسط): هو العدل، كما ذكر المؤلف والمقسط هو العادل من الرباعي، أقسط يقسط، أي: العادل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (المقسطون على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) .
والقاسط هو الجائز الظالم، من الثلاثي قسط يقسط أي: جار وظلم، ومنه قوله -تعالى-: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا .
(1/206)
حديث: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن"
7563 - حدثني أحمد بن إشكاب حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم .
الشرح:
هذا حديث عظيم، ختم به المؤلف -رحمه الله- كتابه الصحيح، وهاتان الكلمتان -كما وصفهما النبي صلى الله عليه وسلم- خفيفتان على اللسان، لا تكلفان شيئًا على قائلهما+.
قوله: (حبيبتان إلى الرحمن) فيه إثبات المحبة للرب -عز وجل- وهي صفة من صفاته، تليق بجلاله -سبحانه وتعالى- وليست هي الإرادة كما تؤولها به الأشاعرة إنما الإرادة صفة أخرى.
قوله: (ثقيلتان في الميزان) فيه إثبات الموازين، وأن الأعمال والأقوال توزن، ومن ذلك هاتان الكلمتان: سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، فهما توزنان، ولهما ثقل عظيم في الميزان، وإذا كان التسبيح والتحميد والأقوال والأعمال توزن، فمن ذلك تلاوة العبد للقرآن، فهي عمل له يوزن كذلك، أما المقروء فهو كلام الله منزل غير مخلوق، وهذا هو الشاهد للترجمة.
والمؤلف -رحمه الله- ابتدأ صحيحه بحديث: إنما الأعمال بالنيات لبيان الإخلاص، وأنه يجب على الإنسان، وعلى طالب العلم أن يخلص عمله لله تعالى، ثم ابتدأ بعد ذلك بكتاب (بدء الوحي) لأن الوحي، هو الذي تكون به الرسالات والشرائع، وختم صحيحة بكتاب التوحيد، وما ذاك إلا لأن التوحيد فيه عصمة المال والدم في الدنيا، والسلامة من النار، أو التخليد فيها في الآخرة.
وختم -أيضا- كتابه بحديث وزن الأعمال؛ لأن وزن الأعمال هي التي يتبين بها فلاح العبد يوم القيامة، أو خسارته، فإذا ثقلت موازينه تبين فلاحه، وإذا خفت تبين خسارته، فبدأ صحيحه بالكلام، وهو الوحي، وختمه بالكلام ووزن الأعمال؛ لأن الكلام هو الذي تكون به الرسالات والشرائع والأوامر والنواهي، رحمه الله، وغفر له.
هذا نهاية شرح كتاب التوحيد، والحمد لله ظاهرًا وباطنًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(1/207)