بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
كتاب التوحيد
للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
الموقع على الإنترنت
www.almotaqeen.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد .
فإن كتاب التوحيد ( الذي هو حق الله على العبيد ) للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، كتاب عظيم في بابه ،
وفيه توضيح وبيان للعقيدة الصحيحة ، ولأهميته فقد قمت بشرحه للطلاب في المسجد على مدار ثلاث سنوات ، جمعت
كلام أهل العلم فيما يتعلق بالآيات والأحاديث ، مع ذكر الفوائد المتعلقة بالآية أو الحديث .
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف :
م/ ( بسم الله الرحمن الرحيم )
ابتدأ المؤلف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز ، وتأسياً بالنبي ( في مكاتباته ومراسلاته ، كما في كتابه ( إلى هرقل وفيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ... ) . رواه البخاري ومسلم
( الله ) لفظ الجلالة على الباري جل وعلا ، وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء ولا يسمى به غيره .
ومعناه : المألوه ، أي المعبود محبة وتعظيماً .
( الرحمن ) اسم من الأسماء المختصة بالله ، لا يطلق على غيره .
ومعناه : المتصف بالرحمة الواسعة .
( الرحيم ) اسم يطلق على الله عز وجل وعلى غيره .
ومعناه : ذو الرحمة الواصلة .
فإذا جمعا صار المراد بـ ( الرحيم ) الموصل رحمته من يشاء من عباده .
والمراد بـ ( الرحمن ) الواسع الرحمة .
م/ ( كتاب التوحيد )
التوحيد : هو إفراد الله بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .
وأنواعه ثلاثة :
(1) ـ توحيد الربوبية(1/1)
وهو توحيد الله بأفعاله ، والإفراد الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره والمتصرف فيه .
قال تعالى : ? قل من رب السموات والأرض قل الله ?
وقال تعالى : ? ألا له الخلق والأمر ?
وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام ، بل لا بد أن يأتي مع ما يلازمه من توحيد الألوهية ، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مُقِرُّون بهذا التوحيد لله وحده ، قال تعالى :
? قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ?
وقال تعالى : ? ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ?
وقال تعالى : ? ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله ?
فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا مسلمين ، بل قال الله تعالى :
? وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ?
قال مجاهد في الآية : ( إيمانهم بالله قولهم : إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا ، فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره ) .
وهذا التوحيد لم يدخل الكفار في الإسلام ، فوجب على كل من عقل عن الله أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم ، مع هذا الإقرار والمعرفة ، وما ذاك إلا إشراكهم في توحيد العبادة ( الألوهية ) الذي هو معنى " لا إله إلا الله " .
(2) ـ توحيد الألوهية
هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة ، ودليله قوله تعالى : ? إياك نعبد وإياك نستعين ? .
وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره ، وباطنه وظاهره ، وهو أول دعوة الرسل وآخرها ، وهو معنى قول : ( لا إله إلا الله ) فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والتعظيم ، وجميع أنواع العبادة ، ولأجل هذا التوحيد خُلِقت الخليقة ، وأرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار ، وسعداءٌ أهل الجنة , وأشقياءٌ أهل النار .(1/2)
قال تعالى : ? ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ? فهذه دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك .
وقال هود لقومه : ? اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ?
وقال صالح لقومه : ? اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ?
وقال شعيب لقومه : ? اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ?
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح ، وأبدأ فيه وأعاد ، وضرب لذلك الأمثال ، بحيث أن كل سورة في القرآن فيها الدلالة على هذا التوحيد .
وهذا النوع هو الذي ضلّ فيه المشركون الذين قاتلهم النبي ( واستباح دماءهم وأموالهم وأرضهم .
فمن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات ، وهذا التوحيد بني على إخلاص التأله لله تعالى ، من المحبة ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والرغبة ، والرهبة والدعاء لله وحده ، وجميع العبادات له ، لا يجعل منها شيء لغيره ، لا ملك مقرب , ولا نبي مرسل ، فضلاً عن غيرهما .
(3) ـ توحيد الأسماء والصفات
هو الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ، ووصفه به رسوله ( من الأسماء الحسنى والصفات العُلى ، وإقرارها كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل ومن غير تكييف ولا تمثيل .
قال تعالى : ? ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ?
# لم يأت المؤلف رحمه الله بخطبة ومقدمة ، تنبيء عن مقصوده كما صنع غيره ، فقيل والله أعلم :
اكتفى بدلالة الترجمة الأولى على مقصوده ، فإنه صدره بقوله : ( كتاب التوحيد ) ، وبالآيات التي ذكرها وما يتبعها ، مما يدل على مقصوده ، فكأنه قال : قصدت جمع أنواع توحيد الألوهية التي وقع أكثر الناس في الإشراك فيها وهم لا يشعرون ، وبيان شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك ، فاكتفى بالتلويح عن التصريح .
الباب الأول
وجوب التوحيد
م/ ( ويقول الله تعالى : ? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ? [ الذاريات 56 ] )(1/3)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( وما خلقت ) أي : أوجدت . ( الجن ) : هو عالم غيبي مستتر عن الأنظار .
( والإنس ) : هم بنو آدم ، وسمّوا بذلك لأنهم لا يعيشون بدون إيناس ، فهم يأنس بعضهم ببعض ، ويتحرك بعضهم ببعض
( إلا ليعبدون ) أي : يوحدون ، روي ذلك عن ابن عباس .
والعبادة : قال شيخ الإسلام : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
المعنى الإجمالي للآية :
يخبر الله تعالى أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته ، فهذا هو الحكمة من خلقهم ، ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام ، ولهذا قال تعالى : ? ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ? بل هو سبحانه الرازق ذو القوة المتين ، الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَم ، كما قال تعالى : ? قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعَم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكوننَّ من المشركين ? . [ الأنعام 14 ]
ولما كانت الحكمة من خلق الإنسان هي عبادته سبحانه ، أعطى البشر عقولاً ، وأرسل إليهم رسلاً ، وأنزل عليهم كتباً ، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم لضاعت الحكمة من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت ونمت وتحطمت ، ولهذا قال تعالى : ? إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ? .
مناسبة الآية للباب :
هذه الآية تدل على وجوب التوحيد ، إذ أن الإنس والجن ما خلقوا إلا لعبادة الله .
من فوائد الآية :
1- أن الحكمة من خلق الخلق عبادة الله .
وعبادته سبحانه هي : طاعته بفعل المأمور وترك المحظور ، وذلك هو حقيقة دين الإسلام ، لأن معنى الإسلام هو الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد في غاية الذل والخضوع .
2- وفي الآية دليل على إثبات وجود الجن .(1/4)
قال تعالى : ? يا معشر الإنس والجن ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم . . . ?
قال تعالى : ? ولقد ذرأنا لجهنم كثير من الجن والإنس ?
وقال ( : ( لا يسمع صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) .
3- أن الجن خلقوا للغاية نفسها التي خلق الإنس من أجلها وهي عبادة الله .
ففي يوم القيامة يقول الله مخاطباً كفرة الجن والإنس موبخاً ومبكتاً :
? يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ? . [ الأنعام/ 130 ]
وعليه فمن كفر منهم دخل النار بالاتفاق ن ومن آمن منهم دخل الجنة على القول الصحيح .
ـ يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتاوى [ 4 / 233 ] : ( الجن مأمورون بالأصول ، والفروع بحسبهم ، فإنهم ليسوا مما ثلين للإنس في الحد والحقيقة ، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما على الإنس في الحد ، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي ، والتحليل والتحريم ، هذا ما لم أعلم فيه نزاعاً بين المسلمين ).
4- أن الله هو الخالق .
كما قال تعالى : ? الله خالق كل شيء ? وقال تعالى : ? والله خلقكم وما تعملون ? .
5- بيان الحكمة في أفعال الله حيث أن الله خلقنا للعبادة ولم يخلقنا هملا .
قال تعالى : ? أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ?
وقال تعالى : ? أيحسب الإنسان أن يترك سدى ? قال الشافعي : ( لا يؤمر ولا ينهى ) .
م/ ( قال تعالى ? ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ? )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? بعثنا ? أرسلنا .
? أمة ? طائفة من الناس ، وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معان :
1. الطائفة : كما في هذه الآية .
2. الإمام : كقوله تعالى ? إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله ? .(1/5)
3. الملّة : ومنه قوله تعالى ? إنا وجدنا آباءنا على أمة ? .
4. الزمن : ومنه قوله تعالى ? وادكر بعد أمة ? .
? رسولاً ? : هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، ورسول هنا نكره تعم جميع الرسل .
? أن اعبدوا الله ? : أي تذللوا له بالعبادة .
? اجتنبوا ? : أي ابتعدوا عنه .
? الطاغوت ? : الطاغوت مشتق من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد ، كما في قوله تعالى : ? إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ? ، أي تجاوز حده ، وقد اختلف السلف في تفسير الطاغوت :
قال عمر بن الخطاب : الطاغوت الشيطان .
وقال مالك : الطاغوت هو كل ما عبد من دون الله .
وهذه صحيح لكن لا بد فيه من استثناء من لا يرضى بعبادته .
وأجمع ما قيل في تعريفه ، ما قاله ابن القيم : وهو أن الطاغوت : ( ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ) .أ.ه.
ومراده رحمه الله أن من كان راضياً بذلك ، أو يقال طاغوت باعتبار عابده وتابعه ومطيعه ، لأنه تجاوز به حده ، حيث نزّله فوق منزلته التي جعلها الله له .
فالمتبوع مثل : الكهان ، السحرة ، علماء السوء .
والمعبود مثل : الأصنام .
والمطاع مثل : الأمراء الخارجين عن طاعة الله ، فإذا اتخذوهم أرباباً يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له ، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له ، فهؤلاء طواغيت .
ـ المعنى الإجمالي للآية :
أخبر سبحانه وتعالى أنه بعث في كل أمة ، أي في كل طائفة وقرن من الناس رسولاًً بهذه الكلمة : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه ، فلهذا خلقت الخليقه وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، كما قال ? وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه إلا إله إلا أنا فاعبدون ? . وقال تعالى : ? قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ، إليه أدعو وإليه مئاب ? .
هذه الآية هي معنى لا إله إلا الله ، فإنها تضمنت :
النفي في قوله ? اجتنبوا الطاغوت ? .
والإثبات في قوله ? اعبدوا الله ? .(1/6)
يثبت العبادة لله وحده وينفي عبادة ما سواه .
مناسبة الآية للباب :
قوله تعالى : ? أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ? وهذا أمر بالتوحيد وترك الشرك والأمر يقتضي الوجوب .
من فوائد الآية :
1- دلت الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل هي عبادة الله وحده وترك ما سواه .
لم يزل الله تعالى يرسل الرسل بذلك ، منذ حدث الشرك في قوم نوح الذين أرسل إليهم ، وكان أول رسول بعثه الله إلى الأرض ، إلى أن ختمهم الله بمحمد ( الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال تعالى : ? وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ? .
2- دلت الآية على أن الرسل اتفقت دعوتهم على التوحيد وإن اختلفت شرائعهم .
كما قال تعالى : ? لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ? .
وقال تعالى : ? وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ? .
وقال ( : ( الأنبياء أولاد عَلاّت ) .
أولاد العلات : هم الأخوة للأب من أمهات شتى .
معنى الحديث : أن الأنبياء أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة ، فإنهم متفقون في أصول التوحيد وأما فروع الشرائع فوقع فيها الخلاف .
3- أن الله أرسل في كل أمة رسولاً .
كما قال تعالى : ? وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ? .
وقال تعالى : ? وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ? .
4- عظم شأن التوحيد وأنه واجب على جميع الأمم .
5- دلت الآية على أن الله بعث وأرسل الرسل فيجب التصديق الجازم بأن الله تعالى بعث في كل أمة رسولاً منهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، والكفر بما يعبد من دونه ، وأن جميعهم صادقون مصدقون ، بارّون راشدون ، كرامٌ بررة ، أتقياء أمناء ، هداة مهتدون ، والبراهين الظاهرة والآيات الباهرة من ربهم مؤيدة ، وأنهم بلغوا جميع ما أرسلهم الله به ، لم يكتموا ولم يغيروا ، ولم يزيدوا فيه من عند أنفسهم حرفاً ولم ينقصوه .(1/7)
م / قوله : ? وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? وقضى ? : قال مجاهد يعني وصى , وكذلك أقر أبي بن كعب وابن مسعود .
وروى ابن جرير عن ابن عباس ? وقضى ? : وأمر .
? أن لا تعبدوا إلا إياه ? : والمعنى أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره . وهذا معنى لا إله إلا الله .
? وبالوالدين إحساناً ? : أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحساناً كما قضى بعبادته وحده لا شريك له .
المعنى الإجمالي للآية :
أخبر الله سبحانه وتعالى وأمر ووصى على ألسنة رسله أن يعبد وحده دون ما سواه وأن يحسن الولد إلى والديه إحساناً بالقول والفعل ولا يسيء إليهما لأنهما اللذان قاما بتربيته في حال صغره وضعفه حتى قوي واشتد .
مناسبة الآية للباب :
أن التوحيد هو آكد الحقوق وأوجب الواجبات ، ولأن الله بدأ به في الآية ولا يبتدأ إلا بالأهم فالأهم .
من فوائد الآية :
1- أن التوحيد هو أول ما أمر الله به من الواجبات .
2- ما في كلمة ( لا إله إلا الله ) من النفي والإثبات ، ففيها دليل على أن التوحيد لا يقوم إلا على النفي والإثبات ( نفي العبادة عما سوى الله وإثباتها لله ) .
3- وفي هذه الآية دلالة على أن الرسول ( مربوب لا رب , عابد لا معبود , فهو داخل في قوله ? اعبدوا ? وكفى بذلك شرفاً أن يكون عبداً لله .
ـ قال ابن كثير : وقد سمى الله رسوله ( بعبده في أشرف مقاماته , فقال : ? الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ? ? وأنه لما قام عبد الله يدعوه ? ? سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ? فسماه عبداً عند إنزاله عليه وعند قيامه في الدعوة وإسرائه به .
وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخاليق , حيث يقول : ? ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين , واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ? .(1/8)
4- عظم حق الوالدين ، حيث عطف حقهما على حق الله تعالى دليل على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله , وهذا كثير في القرآن أن يقرن بين حقه عز وجل وبين حق الوالدين , كقوله : ? أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير ? وقوله : ? وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ?
5- وجوب الإحسان إلى الوالدين بجميع أنواع الإحسان القولي والفعلي .
القولي : يكون بالكلام الجميل اللين ، كما قال تعالى : ? وقل لهما قولاً كريماً ? وقوله : ? وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً ? .
الفعلي : يكون بالنفقة عليهما والمصاحبة والخدمة .
ولقد تواترت النصوص عن النبي ( بالأمر ببر الوالدين , والحث على ذلك وتحريم عقوقهما كما في القرآن ، ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال : ( سألت الرسول ( , أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها , قلت : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين , قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ) .
وعن أبي بكرة ( قال : قال رسول الله ( : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى , يا رسول الله , قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين , وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وقول الزور , ألا وشهادة الزور , فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) متفق عليه .
وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( : ( رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين ) . رواه الترمذي وصححه.
وعن أبى هريرة ( أن النبي ( قال : ( رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما ولم يدخل الجنة ) رواه أحمد .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً .
? واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ?
المعنى الإجمالي للآية :
قال ابن كثير : في هذه الآية يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له , فإنه الخالق الرازق , المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات , وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته . أ.ه(1/9)
ـ وقرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه . فدلت على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة
? شيئاً ? , نكرة في سياق النهي فتعم كل شيء , لا نبياً ولا ملكاً ولا ولياً ولا أمراً من أمور الدنيا , فلا يجعل الدنيا شريكاً مع الله , والإنسان إذا كان همه الدنيا كان عابداً لها , كما قال ( : ( تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم , تعس عبد الخميلة ) رواه البخاري .
? واعبدوا ? دليل على أن التوحيد هو أول واجب على المكلف , لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك في الله , كما هي أقوال لمن يدر ما بعث الله به رسوله ( من معاني الكتاب والحكمة , قال النبي ( لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب , فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ـ وفي رواية ـ أن يوحدوا الله ) . متفق عليه .
وهو آخر ما يخرج به من الدنيا كما قال ( : ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ) . رواه أبو داود ? واعبدوا ? , العمل والعبادة لا تقبل إلا بشرطين :
1. الإخلاص : قال ( ( إنما الأعمال بالنيات ) متفق عليه عن عمر .
2. أن يكون موافقاً لما جاء به الرسول ( , قال النبي ( : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا هذا فهو رد ) . رواه مسلم عن عائشة .
? ولا تشركوا به شيئاً ? , الشرك بالله هو أعظم ذنب عصي الله به ، وهو هضم للربوبية وتنقص للألوهية , وهو [ تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله ] .
ـ فالشرك صاحبه مخلد في النار ، قال تعالى : ? إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ?
ـ وهو محبط للعمل ، قال تعالى : ? لئن أشركت ليحبطن عملك ?
ـ وهو أكبر الكبائر ، لقول النبي ( : ( أكبر الكبائر الإشراك بالله )
ـ أن الله لا يغفر لصاحبه إذا مات ولم يتب منه ، كما قال تعالى : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? .(1/10)
وكيف لا يكون أعظم ذنب عصي الله به وقد جعل لله شريكاً في عبادته وقد أوجده من العدم , وغذاه بالنعم .
والشرك ينقسم إلى قسمين :
أولاً : شرك أكبر : وهو الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة , وصاحبه إن لقي الله به فهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين ودهر الداهرين , قال تعالى : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? .
ثانياً : شرك أصغر : وصاحبه إن لقي الله به فهو تحت المشيئة , إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة , وإن شاء عذبه , ولكن مآله إلى الجنة .
ومن أنواع الشرك الأصغر : الحلف بغير الله , وإن لم يقصد تعظيم المحلوف به ومنه يسير الرياء والتصنع للخلق .
م/ ( قوله : ? قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ... ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ? المائدة .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى لنبيه ورسوله محمد ( : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله ، وقتلوا أولادهم ، كل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة ، وتسويل الشيطان لهم .
? تعالوا ? أي : هلمّوا وأقبلوا .
? أتلُ ما حرم ربكم عليكم ? أي : أقصص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً ، لا تخرُّصاً ولا ظنّاً .(1/11)
? ألا تشركوا به شيئاً ? قال : وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق ، وتقديره : وصاكم ألا تشركوا به شيئاً )
# وابتدأ الله تعالى هذه الآيات المحكمات بتحريم الشرك والنهي عنه ، فدل أن التوحيد أوجب الواجبات ، وأن الشرك أعظم المحرمات .
ولفظ الشرك يدل على أن المشركين كانوا يعبدون الله ، ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام ، ولهذا سئلوا عما يقول لهم ، قالوا : اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، كما قاله أبو سفيان .
? وبالوالدين إحساناً ? أي : وأتل عليكم الأمر بالإحسان إلى الوالدين .
قال القرطبي : الإحسان إلى الوالدين : برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما .
? ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ? هذه الوصية الثالثة وهي تحريم قتل الأولاد ( الأولاد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى ) بسبب الإملاق وهو الفقر ، وكانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر .
? ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ?
قال ابن عطية : نهي عام عن جميع الفواحش ، وهي المعاصي .
? ما ظهر منها وما بطن ? قيل : ما ظهر فحشه وما خفي ، وقيل : ما أظهرتموه وما أسررتموه ، وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً : " لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن "
? ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ? النفس التي حرم الله هي النفس المعصومة ، وهي : نفس المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن .
قال ابن كثير : هذا مما نص تعالى على النهي عنه تأكيداً ، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش .
قال تعالى : ? ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ? .
وقال النبي ( : " اجتنبوا السبع الموبقات ... وذكر منها : قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق " متفق عليه(1/12)
وقال ( : " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " . رواه النسائي
والحق الذي أثبته الشرع في قتل النفس المعصومة ، ما جاء في الحديث عنه ( : " لا يحل دم امريء مسلم إلا بثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " متفق عليه
? ذلكم وصاكم به ? المشار إليه ما سبق من هذه المحرمات ، والوصية : هي الأمر المؤكد المقرر
? لعلكم تعقلون ? لعل : للتعليل أن الله وصانا بهذه الوصايا ، وأمرنا بهذا ، وأكد علينا فيها لنعقلها ونعمل بها .
? ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ? هذا حماية لأموال اليتامى أن لا نقربها إلا بالخصلة التي هي أحسن ، فإذا لاح للولي تصرفات أحدهما أكثر ربحاً فالواجب عليه أن يأخذ بما هو أكثر ربحاً لأنه أحسن
اليتيم هو من مات أبوه وهو صغير .
? حتى يبلغ أشده ? قال مالك وغيره : هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ بعد أن نختبره .
? وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ? قال ابن كثير :
( يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والعطاء ، كما توعد عليه في قوله تعالى : ? ويلٌ للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ... ? ) . أ . ه
وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان وهم قوم شعيب .
? لا نكلف نفساً إلا وسعها ? قال ابن كثير :
( أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه ) .
? وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ? هذا أمر بالعدل في القول والفعل ، على القريب والبعيد ، قال تعالى : ? ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ? .
? وبعهد الله أوفوا ? قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : الظاهر أن الآية فيما هو أخص ، كالبيعة والذمة والأمانة والنذر ونحو ذلك ، وهذه الآية كقوله تعالى : ? وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ? .(1/13)
? ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ? يقول تعالى : هذا وصاكم وأمركم به وأكد عليكم فيه لعلكم تذكرون ، أي : تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه .
? وأن هذا صراطي مستقيماً ? يحتمل أن المشار إليه ما سبق ، ويحتمل أن المراد ما علم من دين الله ، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه ، وإخلاص العبادة له .
قال ابن القيم في الصراط المستقيم : ( وحقيقته شيء واحد ، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه ، ولا طريق إليه سواه ، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله ، وجعله موصلاً لعباده إليه ، وهو إفراده بالعبودية ، وإفراد رسله بالطاعة ) . أ . ه
? ولا تتبعوا السبل ? السبل : قال مجاهد : هي البدع والشهوات .
وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية ، وعباد القبور ، والبدع والضلالات .
وقد أخبر النبي ( : (أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي ما عليه أنا وأصحابي ، وفي رواية : الجماعة )
? ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ? أي ذلكم المذكور وصاكم به لتنالوا به درجة التقوى والالتزام بما أمر الله به ورسوله
مناسبة الآيات للباب :
أن الله سبحانه ذكر فيها جملاً من المحرمات فبدأ بالنهي عن الشرك فدل هذا على أن الشرك أعظم المحرمات .
م/ ( قال ابن مسعود : من أراد ينظر إلى وصية محمد ( التي عليها خاتمه ، فليقرأ قوله تعالى : ? قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً ... إلى قوله : وأن هذا صراطي مستقيماً ? . رواه الترمذي وحسنه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
ابن مسعود هو : عبد الله بن مسعود بن غافل صحابي جليل من السابقين الأولين ، ومن أهل بدر ، وأحد ، والخندق ، وبيعة الرضوان ، وهو من كبار الصحابة ، مات سنة ( 32 ه ) .(1/14)
# معنى هذا الأمر : من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها ، فلم تُغيَّر ولم تُبدَّل فليقرأ قوله تعالى : ? قل تعالوا ... ? إلى آخر الآيات .
شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم ، فلم يزاد فيه ولم ينقص ، فإن النبي ( لم يوصي إلا بكتاب الله سبحانه وتعالى ، كما قال ( فيما رواه مسلم : ( وإني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله ) .
فابن مسعود يرى أن هذه الآيات قد شملت الدين كله ، فكأنها الوصية التي ختم عليها النبي ( وأبقاها لأمته .
وكأن سبب هذا القول من ابن مسعود ـ والله أعلم ـ هو ما رواه البخاري عن ابن عباس ( قال : ( لما اشتد بالنبي ( وجعه ، قال : " ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تختلفوا بعده " ، قال عمر : إن النبي ( غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : " قوموا عني ، ولا ينبغي عندي التنازع ، فخرج ابن عباس وهو يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول ( وكتابه ) . البخاري (114) ، ومسلم (1637)
م/ ( وعن معاذ بن جبل ( قال : كنت رديف رسول الله ( ، فقال لي : " يا معاذ ! أتدري ما حق الله على العباد ؟ وما حق العباد على الله ؟ " قلت الله ورسوله أعلم ، قال : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً " ، قلت : يا رسول الله ، أفلا أبشر الناس ؟ قال : " لا تبشرهم فيتكلوا " ) . رواه البخاري (128) ومسلم (30)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
معاذ هو: معاذ بن جبل بن أوس الأنصاري ، صحابي مشهور من أعيان الصحابة ، شهد بدراً وما بعدها .
قال النبي ( : ( معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة ) . أخرجه ابن سعد وأبو نعيم
قال في النهاية : ( إنه يتقدم العلماء برتوة أي : برمية سهم ، وقيل : بميل ، وقيل : مد البصر ) . أ . ه(1/15)
وهذه الثلاث أشبه بمعنى الحديث .
مات سنة (18ه) بالشام في طاعون عمواس .
( كنت رديف النبي ( ) رديف : بمعنى رادف ، أي راكب خلفه .
ـ جواز الإرداف على الدابة إذا لم يشق عليها .
ـ فيه فضيلة لمعاذ ( من جهة ركوبه خلف النبي ( ، وقد قال النبي ( لمعاذ : ( إني أحبك في الله ) . رواه أبو داود
( على حمار ) فيه تواضع النبي ( والركوب على الحمار خلاف ما عليه أهل الكبر .
( فقال لي : يا معاذ ، أتدري ) أتدري : أتعلم .
( ما حق الله على العباد ) حق الله على العباد : هو ما يستحقه عليهم ، ويجعله متحتماً ، وما يجب أن يعاملوه به .
( حق العباد على الله ) أي : ما يجب أن يعاملهم به ، والعباد لم يوجبوا شيئاً ، بل الله أوجبه على نفسه فضلاً على عباده .
فأهل السنة يقولون : هو الذي كتب على نفسه الرحمة ، وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق .
المعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق ، وغلطوا في ذلك .
( قلت : الله ورسوله أعلم ) : فيه حسن أدب المتعلم ، وأنه ينبغي لمن سُئل عما لا يعلم ، أن يقول ذلك ، خلاف أكثر المتكلفين .
( أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) أي يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئاً .
وفائدة هذه الجملة : بيان أن التجرد من الشرك لا بد منه في العبادة ، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتياً بعبادة الله وحده .
( وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ) وهذا حق تفضل الله به على عباده ، ولم يوجبه عليه أحد .
المعنى الإجمالي للحديث :
أراد النبي ( أن يبين وجوب التوحيد على العباد وفضله فألقى ذلك بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم ، فلما بيّن لمعاذ فضل التوحيد ، استأذنه معاذ أن يخبر بذلك الناس ليستبشروا ، فمنعه النبي ( من ذلك خوفاً من أن يعتمد الناس على ذلك فيقللوا من الأعمال الصالحة .
فوائد الحديث :(1/16)
1- يستحب للعالم أو المدرس أن يطرح بعض المعلومات على وجه الاستفسار ليكون أوقع في النفس ، وأبلغ في فهم المتعلم ، فإن الإنسان إذا سُئل عن مسألة لا يعلمها ، ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها ، فإن ذلك أوعى لفهمها وحفظها ، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه ( ، والأمثلة من السنة كثيرة جداً .
2- ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم .
ولنا في رسول الله ( قدوة حيث قال لا أدري حينما سئل عما لا يعلم كما جاء في الحديث :
3- استحباب بشارة المسلم بما يسره ، سواءً كان من أمر الدنيا أو الدين .
ولذلك بشرت الملائكة إبراهيم ( ، قال تعالى : ? وبشروه بغلام عليم ? .
وقال تعالى : ? فبشرناه بغلام حليم ? ، وقال تعالى : ? يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحي ? .
ولهذا لما أنزل الله توبة كعب بن مالك وصاحبيه ذهب إليه البشير فبشره .
( البشارة هي الإخبار بما يسر ) .
4- جواز كتمان العلم للمصلحة ، أما كتمانه على سبيل الإطلاق فلا يجوز .
لقول النبي ( : ( من سُئِل عن علمٍ فكتمه أُلجم بلجامٍ من نار ) .
وأما كتمه أحياناً أو عن بعض الأشخاص فجائز إذا ترتب على إظهاره مفسدة متحققة ، ولذلك قال ( لمعاذ : ( لا تبشرهم فيتكلوا ) ، وقد أخبر بها معاذ عند موته متأثماً ، أي : تحرجاً من الإثم .
5- أن هذه المسألة لا يعرفها كثير من الصحابة ، وذلك أن معاذ أخبر بها عند موته خروجاً عن إثم الكتمان بعد أن مات كثير من الصحابة .
6- الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله ، لأن الاتكال على سعة رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي : الأمن من مكر الله .
7- جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض ، وذلك أن النبي ( خص هذا العلم بمعاذ دون أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم افتتن .
قال ابن مسعود : ( إنك لن تحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . رواه مسلم(1/17)
وقال علي ( : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ) . رواه البخاري
8- فضيلة معاذ ومنزلته من العلم ، لكونه خُص بما ذكر .
9- استئذان المتعلم في إشاعة ما خُص به من العلم .
10- فضل التوحيد وفضل التمسك به .
ـ ذكر المصنف في هذا الباب من النصوص ما يدل على أن الله خلق الخلق لعبادته والإخلاص له ، وأن ذلك حقه الواجب المفروض عليهم .
فجميع الكتب السماوية ، وجميع الرسل ، دعوا إلى هذا التوحيد ، ونهوا عن ضده من الشرك والتنديد ، خصوصاً محمد ( .
وهذا القرآن الكريم فإنه أمر به وفرضه وقرره أعظم تقرير ، وبيّنه أعظم بيان ، وأخبر أنه لا نجاة ولا سعادة إلا بهذا التوحيد ، وأن جميع الأدلة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلة وبراهين على هذا الأمر بهذا التوحيد ووجوبه .
فالتوحيد هو حق الله الواجب على العبيد ، وهو أعظم أوامر الدين ، وأصل الأصول كلها ، وأساس الأعمال .
الباب الثاني
فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
لما ذكر في الترجمة السابقة وجوب التوحيد ، وأنه الفرض الأعظم على جميع العبيد ، ذكر هنا فضله ، وآثاره الحميدة ، ونتائجه الجميلة ، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة ، والفضائل المتنوعة ، مثل التوحيد ، فإن خير الدنيا والآخرة من ثمرات هذا التوحيد وفضائله .
وقول المؤلف : ( وما يكفر من الذنوب ) من باب عطف الخاص على العام ، فإن مغفرة الذنوب وتكفير الذنوب من بعض فضائله وآثاره .
م/ ( وقول الله تعالى : ? الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? الذين آمنوا ? أي : وحدوا الله ، وأخلصوا له العبادة ، وآمنوا أن إلههم الحق .
? ولم يلبسوا ? لم يخلطوا ، ولبس الشيء بالشيء : تغطيته به ، وإحاطته به من جميع جهاته .
? إيمانهم ? توحيدهم .
? بظلم ? الظلم هنا المقصود به الشرك .(1/18)
ولذلك روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : ( لما نزلت هذه الآية ? ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ? قلنا يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسه ، فقال ( : " ليس الأمر كما تظنون ، إنما المراد به الشرك ، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح : إن الشرك لظلم عظيم " ) .
قال شيخ الإسلام : ( الذي شق عليهم ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه ، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه ، فبين لهم النبي ( ما دلهم على أن الشرك ظلمٌ في كتاب الله ، وحينئذٍ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبسوا إيمانهم بظلم ) .
? أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ?
قيل : ? لهم الأمن ? أي في الآخرة ، ? وهم مهتدون ? أي في الدنيا .
وقيل : ? لهم الأمن ? أي الأمن الكامل إذا لم يأتوا بكبيرة ، ? وهم مهتدون ? أي في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل ، وفي الآخرة إلى الجنة .
? لهم الأمن ? هل أمن كامل أم لا ؟
نقول : إن كان إيمانه كاملاً وسليماً من المعاصي فله الأمن الكامل ، وأما إذا سلم من الشرك الأكبر ولم يسلم من الشرك الأصغر وبعض الذنوب ، فهدايته وأمنه ليس كاملاً .
مثال ذلك : مرتكب الكبيرة آمن من الخلود في النار ، وغير آمن من العذاب ، بل هو تحت المشيئة .
وأما من وافى الله محققاً للتوحيد ، فإنه آمن أمناً مطلقاً ، آمن من الخلود في النار ، وآمن من العذاب .
قال شيخ الإسلام : ( فمن سلم من أجناس الظلم الثلاث ، يعني الظلم الذي هو الشرك ، وظلم العباد ، وظلمه لنفسه بما دون الشرك ، كان له الأمن التام والاهتداء التام ) . أ . ه
المعنى الإجمالي للآية :
يخبر سبحانه أن الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يخلطوا توحيدهم بشرك هم الآمنون المهتدون في الدنيا والآخرة
مناسبة الآية للباب :
أنها دلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب .
من فوائد الآية :(1/19)
1- دلت الآية على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب ، لأنه من أتى به تاماً فله الأمن والاهتداء التام ، ودخل الجنة بلا عذاب .
2- أنه كلما انتفى الظلم وُجد الأمن والاهتداء ، وكلما كمل التوحيد ، وانتفت المعصية ، عظم الأمن والاهتداء
3- أن الشرك أعظم الظلم .
( والظلم أنواع :
أولاً / الشرك بالله ، وهو أعظم الظلم كما قال تعالى : ? إن الشرك لظلم عظيم ? .
ثانياً / ظلم العبد نفسه بالمعاصي ، قال تعالى : ? ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ? .
ثانياً / ظلم العبد لغيره ، وهو ظلم العباد بعضهم لبعض . قال تعالى : ? إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب عظيم ? .
4- أن الشرك يسبب الخوف في الدنيا والآخرة .
م/ ( عن عبادة بن الصامت ( أن رسول الله ( قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " [ رواه البخاري (2/486) ، ومسلم (28) ]
ولهما من حديث عتبان : " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " [ رواه البخاري (1/154) ، ومسلم (33) ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
عبادة هو : عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري ، بدري مشهور ، مات بالرملة عام (34ه) ، وله 72 سنة .
( ( ) أصح ما قيل في صفة صلاة الله على عبده ، ما ذكره البخاري عن أبي العالية : ( صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة ) . الفتح ( 8/532 ) ، ونصره ابن القيم .
( من شهد أن لا إله إلا الله ) أي من تكلم بها عارفاً لمعناها ، عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً ، كما قال تعالى :
? فاعلم أنه لا إله إلا الله ? وقوله : ? إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ? .(1/20)
أما النطق بها من غير معرفة بمعناها ، ولا يتبين ولا يعمل بما تقتضيه من نفي الشرك وإخلاص القول والعمل ، فغير نافع بالإجماع .
وقوله في حديث عتبان ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله )
مسائل لا إله إلا الله :
( معناها :
أي لا معبود بحق إلا الله ، وأما من فسرها : لا إله في الوجود إلا الله ، فهذا ليس بصواب ، لأن الله أخبر عن وجود آلهة كثيرة للمشركين ، كما في قوله تعالى : ? وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ? .
وقوله ( لا إله بحق إلا الله ) توضح بطلان جميع الآلهة ، وتبين أن الإله الحق والمعبود بالحق هو الله وحده ، كما نبّه على ذلك جمع من أهل العلم منهم : أبو العباس ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم .
ومن أدلة ذلك قوله سبحانه : ? ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ? .
( دليلها :
قوله تعالى : ? شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ? .
وقوله تعالى : ? فاعلم أنه لا إله إلا الله ? .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن : لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط ، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها ، وهي :
1. العلم المنافي للجهل ، والدليل قوله تعالى : ? إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ? أي : بـ لا إله إلا الله ـ وهم يعلمون ـ بقلوبهم .
وقال النبي ( : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) . رواه مسلم عن عثمان
2. اليقين المنافي للشك ، قال تعالى : ? إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ? .
وقال ( : ( أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ) . رواه مسلم
وقال ( لأبي هريرة : ( من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة ) . رواه مسلم(1/21)
3. الانقياد لها المنافي للترك ، قال تعالى : ? ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ?
4. القبول المنافي للرد ، قال تعالى : ? احشروا الذين كفروا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ـ إلى قوله ـ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ? .
5. الإخلاص المنافي للشرك ، قال تعالى : ? ألا له الدين الخالص ? .
وقال النبي ( : ( إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) . رواه البخاري ومسلم
وقال ( : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) . رواه البخاري
6. الصدق المنافي للكذب ، قال تعالى : ? ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ? .
وقال النبي ( : ( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من قلبه إلا حرم الله على
النار ) . رواه البخاري
7. المحبة لها ولأهلها ، والمعاداة لأجلها ، قال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ?
وقال تعالى : ? لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ? .
وفي قوله ( من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) رد على المرجئة الذين يقولون يكفي قول لا إله إلا الله ، وهو مذهب فاسد ، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة .
( وحده لا شريك له ) : ( وحده ) للإثبات ، ( لا شريك له ) للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .
( وأن محمداً عبده ورسوله )
محمد : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، خاتم النبيين .
عبده : فليس له من الربوبية والإلهية شيء ، إنما هو عبد جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيء واحد ، هو ما يعود بأسافل الأخلاق فهو ممنوع منه .
قال تعالى : ? قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ? .(1/22)
وقال تعالى : ? قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ? .
فهو بشر مثلنا إلا أنه يوحى إليه ، قال تعالى : ? قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ? .
وقد وصفه الله بالعبودية في أعلى المقامات :
في إسرائه ، وفي حال قيامه بالدعوة ، وفي حال التحدي مع الكفار أن يأتوا بمثل القرآن ( كما سبق ) .
ويقول ( : ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ) . رواه البخاري
بل وصف الله تعالى الرسل في أعلى مقاماتهم ، وفي سياق الثناء عليهم .
فقال تعالى في نوح ( : ? إنه كان عبداً شكوراً ? .
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام : ? واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ? .
وقال في عيسى بن مريم ( : ? إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل ? .
? ورسوله ? أي ويشهد أن محمداً رسول الله إلى كافة الورى ، قال تعالى : ? محمد رسول الله ? وقال تعالى : ? وما أرسلناك إلا كافة للناس ? وقال تعالى : ? وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً ? .
وقال النبي ( : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، ... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ) . متفق عليه
( ومقتضى هذه الشهادة هو الإقرار باللسان ، والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي رسول إلى جميع الخلق من الجن والإنس .
( ومقتضى هذه الشهادة أيضاً أن تصدق رسول الله فيما أخبر ، وأن تتمثل أمره فيما أمر ، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
فالرسول عبد لا يعبد ، ورسول فلا يكذب .
? وأن عيسى عبد الله ورسوله ?
? عبد الله ? رد على النصارى الذين يقولون إنه الله أو ابن الله ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ? ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من آلهة ? .
فيشهد المؤمن أنه عبد الله ، أي عابد مملوك ، فليس له من الربوبية ولا من الإلهية شيء .(1/23)
? ورسوله ? رد على اليهود الذين يقولون إنه ولد بغي ، بل يقال فيه ما قال عن نفسه ، كما قال تعالى : ? قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً ?
( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )
( وكلمته ) إنما سمي عيسى ( بكلمته ، لوجوده بقوله ? كن ? كما قاله السلف من المفسرين .
وليس عيسى هو نفسه كلمة ، لأنه يأكل ويشرب ويبول ، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية ، كما قال تعالى :
? إنما مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ? .
( ألقاها إلى مريم ) قال ابن كثير : ( خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ( إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل ، فكان عيسى بإذن الله ) .
( وروح منه ) من : ابتدائية ، وليست تبعيضية ، كقوله تعالى : ? وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ? أي : روح صادرة من الله ، وليست جزءاً من الله كما تزعم النصارى .
قال أبي بن كعب : ( عيسى روحٌ من الأرواح التي خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله : ? ألست بربكم ؟ قالوا بلى ? ) . رواه عبد بن حميد
( والجنة حق والنار حق ) أي : وشهد أن الجنة التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق ثابتة لا شك فيها ، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة ، كما قال تعالى : ? سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله ... ? .
وقال تعالى : ? فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ? .
وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافاً للمبتدعة .
( أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ) وفي رواية : ( أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ) . رواه البخاري [3435]
إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين :
1. إدخال كامل لم يُسبق بعذاب لمن أتم العمل .
2. إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل .(1/24)
قال الحافظ : ( ومعنى قوله : ( على ما كان من العمل ) أي من صلاح أو فساد ، لكن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة ، ويحتمل أن يكون معنى قوله ( على ما كان من العمل ) أي يدخل أهل الجنة الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات ) . أ . ه
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
( [ على ما كان من العمل ] أي : على ما كان عنده من صلاح وفساد ، ولكن هذا الدخول قد يكون من أول وهلة ، أي يدخل ابتداءً إذا مات على توبة وعمل صالح وصدق ، وقد يكون بعد ما يبتلى به من جزاء السيئات والمعاصي ، وبعد ما يمحص في النار ويعذب فيها ثم مصيره إلى الجنة ) . أ.ه
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه بياناً لفضل التوحيد ، وأنه سبب لدخول الجنة وتكفير الذنوب .
من فوائد الحديث :
1- هذا الحديث فيه فضل من فضائل التوحيد ، وهو دخول الجنة .
ومن الأحاديث التي تدل على ذلك قوله ( : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ) .
وقال ( لأبي هريرة : ( من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة )
2- سعة فضل الله وإحسانه سبحانه وتعالى .
3- وجوب تجنب الإفراط والتفريط في حق الأنبياء والصالحين .
4- أن أعظم ما يشرف الإنسان أن يكون عبداً لله ، فكلما كملت عبودية الإنسان زادت منزلته عند الله .
5- أن أبواب الجنة ثمانية .
م/ ( وعن أبي سعيد الخدري ( عن رسول الله ( قال : " قال موسى ( : يا رب ، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به ؟ قال : قل يا موسى ، لا إله إلا الله ، قال : كل عبادك يقولون هذا ، قال : يا موسى ، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفه ولا إله إلا الله في كفة ، مالت لا إله إلا الله " ) . رواه ابن حبان والحاكم وأبو نعيم
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/25)
أبو سعيد : اسمه سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي ، صحابي جليل وأبوه كذلك ، اسْتُصْغِرَ أبو سعيد بأحد ، وشهد ما بعدها ، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع وستين .
موسى : هو موسى بن عمران رسول الله إلى بني إسرائيل .
( أذكرك وأدعوك به ) أي : أثني عليك وأسألك به .
( قال : قل لا إله إلا الله ) فيه أن هذه الكلمة ذكر ودعاء ، فهي ( ذكر ) : لأن فيها شهادة لله بالوحدانية ، ( ودعاء ) : لأن قائلها يرجو ثوابها .
( كل عبادك يقولون هذا ) ليس المعنى أنها كلمة هينة كلٌ يقولها ، لأن موسى ( يعلم عظم هذه الكلمة ، ولكنه أراد شيئاً يختص به ، ولذلك جاء في سنن النسائي والحاكم بعد قوله ( كل عبادك يقولون هذا ) قال : ( إنما أريد أن تخصني به ) أي : بذلك الشيء من بين عموم عبادك ، فإن من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحاً شديداً إلا بشيء يختص به دون غيره ، كما لو كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره .
( لو أن السموات السبع وعامرهن غيري ... ) أي : لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمال غير الله ، والأرضين السبع ومن فيهن ، واستثنى سبحانه نفسه لأنه العظيم ، وهو سبحانه فوق العرش ، وبه قامت السموات والأرض ، وهو الذي أمسكهن ، قال تعالى : ? ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ? .
( في كفة ) أي : في كفة الميزان ، و " لا إله إلا الله " في الكفة الأخرى لمالت بهن "لا إله إلا الله " ، أي مالت بمعناها وليس بأجرامها ، وذلك لما اشتملت عليه من توحيد الله الذي هو أفضل الأعمال ، وأساس الملّة ، ورأس الدين .
المعنى الإجمالي للحديث :
أن موسى ( طلب من ربه عز وجل أن يعلمه ذكراً يثني عليه به ويتوسل إليه به فأرشده الله أن يقول : لا إله إلا الله ، فأدرك موسى أن هذه الكلمة كثير ذكرها على ألسنة الخلق وهو إنما يريد أن يخصه بذكر يمتاز به عن غيره فبين الله له عظم فضل هذه الكلمة وأنه لا شيء يعادلها في الفضل .
مناسبة الحديث للباب :(1/26)
أن فيه بيان فضل كلمة التوحيد وأنه لا شيء يعادلها في الفضل .
من فوائد الحديث :
1- فضل كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " ، ومما يدل على فضلها :
عن عبد الله بن عمر ( قال : قال رسول الله ( : ( يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجل منها مُدُّ البصر ، ثم يقال : أتنكر من هذا شيئاً ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقال : ألك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول لا ، فيقال : بلى ، إن لك عندنا حسنات ، وإنه لا ظلم عليك ، فيخرج له بطاقة فيها : " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ) . رواه الترمذي وحسنه .
أن " لا إله إلا الله " أفضل الذكر .
2- عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) . رواه الترمذي
وقال ( : ( أفضل الذكر : لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء : الحمد لله ) . رواه الترمذي
3- أن السموات سبع ، وهذا بنص القرآن .
قال تعالى : ? قل من رب السموات السبع ?
وأما الأرض فقد ورد تلميحاً لا تصريحاً .
قال تعالى : ? الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ? .
فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة والكيفية ، فبقيت المثلية بالعدد .
وأما السنة فهي صريحة بأنها سبع .
قال النبي ( : ( من اقتطع شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين ) . رواه مسلم
4- فضل موسى ( وحرصه على التقرب إلى الله .
5- إثبات ميزان الأعمال وأنه حق .
6- أن الأراضين سبع كالسموات .(1/27)
وللترمذي وحسنه ، عن أنس ( قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( قال الله تعالى : يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) . رواه الترمذي وأحمد
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أنس بن مالك : هو أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي ، خادم رسول الله ( ، خدمه عشر سنوات ، وقال له : " اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة " مات سنة (92 ه) وقد جاوز المائة .
( قال الله تعالى ) هذا يسمى حديثاً قدسياً ، والحديث القدسي هو ما يضيفه الرسول ( إلى الله تعالى .
( لو أتيتني بقراب الأرض ) بضم القاف ، وهو ملؤها أو ما يقارب ملؤها .
( خطايا ) جمع خطيئة ، وهي الذنب ، والخطايا الذنوب ولو كانت صغيرة ، لقوله تعالى : ? بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ? .
( لا تشرك بي شيئاً ) شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة ، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله ، صغيره وكبيره ، ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله .
( لأتيتك بقرابها مغفرة ) أي أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة إذا لقي الله وهو لا يشرك به شيئاً.
المعنى الإجمالي للحديث :
يخبر النبي ( عن ربه أنه يخاطب عباده ويبين لهم سعة فضله ورحمته وأنه يغفر الذنوب مهما كثرت ما دامت دون الشرك .
( مناسبة الحديث للباب :
دل على أن من مات خالصاً من الشرك بجميع أنواعه ، دخل الجنة ولو كانت ذنوبه ملء الأرض .
من فوائد الحديث :
1- فضل التوحيد وأنه سبب في تكفير الذنوب .
2- سعة فضل الله وجوده ورحمته وعفوه .
3- إثبات البعث والحساب والجزاء .
الباب الثالث
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله ، لأن الذي قبله : ( باب فضل التوحيد ... ) .
فمن فضله هذا الفضل العظيم الذي يسعى إليه كل عاقل ، وهو دخول الجنة بغير حساب .(1/28)
وتحقيق التوحيد : هو تهذيبه وتصفيته من الشرك الأصغر ، ومن البدع القولية والاعتقادية ، والبدع الفعلية والعملية ، ومن المعاصي .
م/ ( وقول الله تعالى : ? إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
إبراهيم : هو إبراهيم الخليل ( أحد أولي العزم من الرسل .
? إن إبراهيم كان أمة ? أي قدوة وإماماً ومعلماً للخير ، وإماماً يقتدى به ، وما كان كذلك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين بهما نال الإمامة في الدين ، كما قال تعالى : ? وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ? .
? قانتاً لله ? أي خاشعاً مطيعاً ، دائماً على عبادته وطاعته ، كما قال شيخ الإسلام : القنوت في اللغة دوام الطاعة.
? حنيفاً ? الحنف : الميل ، أي / مائلاً منحرفاً عن الشرك .
قال ابن القيم : الحنيف / المقبل على الله المعرض عما سواه .
? ولم يكُ من المشركين ? أي / موحد خالص من شوائب الشرك مطلقاً ، ويوضح هذا قوله تعالى : ? قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ? .
وذكر تعالى عن خليله ( أنه قال لأبيه آزر : ? وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي ? إلى قوله تعالى :
? فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً ? .
فهذا هو تحقيق التوحيد ، وهو البراءة من الشرك وأهله ، واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم .
المعنى الإجمالي للآية :
أن الله سبحانه وتعالى يصف خليله إبراهيم بأربع صفات :
الصفة الأولى : أنه كان قدوة في الخير .(1/29)
الصفة الثانية : أنه كان خاشعاً مطيعاً مداوماً على عبادة الله .
الصفة الثالثة : أنه كان معرضاً عن الشرك .
الصفة الرابعة : بعده عن الشرك ومفارقته للمشركين .
مناسبة الآية للترجمة :
من جهة أن الله تعالى وصف إبراهيم ( في هذه الآية بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد ، ترغيباً في اتباعه في التوحيد ، حيث أمرنا بالاقتداء به في قوله : ? لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ? .
من فوائد الآية :
1- فضيلة أبينا إبراهيم (
2- وجوب الاقتداء بإبراهيم بإخلاصه .
3- ينبغي للداعية أن يكون قدوة بنفسه عن غيره .
4- دوام العبادة من صفات الأنبياء .
5- الرد على قريش الجاهلية الذين زعموا أنهم على ملة إبراهيم في شركهم .
( قال المصنف رحمه الله في هذه الآية :
? إن إبراهيم كان أمة ? لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين .
? قانتاً لله ? لا للملوك ولا للتجار المترفين .
? حنيفاً ? لا يحيد يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين .
? ولم يكُ من المشركين ? خلافاً لمن كثر سوادهم ، وزعم أنه من المسلمين .
م ( وقوله تعالى : ? الذين هم بربهم لا يشركون ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? لا يشركون ? لا يعبدون معه غيره ، ولا يشركون معه لا شركاً أكبر ولا أصغر .
مناسبة الآية للترجمة :
من جهة أن الله تعالى وصف المؤمنين السابقين إلى الجنات بصفات ، أعظمها : الثناء عليهم بأنهم بربهم لا يشركون ، أي شيئاً من الشرك في وقت من الأوقات ، فإن الإيمان النافع مطلقاً لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقاً ، ولما كان المؤمن قد يعرض له ما يقدح له في إيمانه من شرك جلي أو خفي ، نفى عنهم ذلك ، ومن كان كذلك فقد بلغ من تحقيق التوحيد النهاية ، وفاز بأعظم التجارة ، ودخل الجنة بلا حساب ولا عذاب .(1/30)
قال ابن كثير : ( ? والذين بربهم لا يشركون ? أي : يعبدون معه غيره ، بل يوحدون ويعلمون أن لا إله إلا الله ، أحدٌ صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، وأنه لا نظير له ) .
من فوائد الآية :
1- أن من صفات المؤمن الموحد أنه لا يشرك .
2- وجوب الابتعاد عن الشرك .
م/ ( وعن حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لُدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت ، قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقيةٍ إلا من عينٍ أو حُمَةٍ ، قال : أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن ، حدثنا ابن عباس ( عن النبي ( أنه قال : " عُرضت علي الأمم ، فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رُفِعَ لي سوادٌ عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، فنظرت فإذا سوادٌ عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " ثم نهض فدخل منزله ، فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ( ، وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً ، وذكروا أشياء ، فخرج إليهم رسول الله ( فأخبروه ، فقال : " هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " أنت منهم " ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " سبقك بها عكاشة " ) . رواه البخاري ومسلم
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن حصين بن عبد الرحمن ) هو السلمي الكوفي ، ثقة ، مات سنة (130ه ) .(1/31)
( سعيد بن جبير ) : هو الإمام الثقة الفقيه ، من جِلَّة أصحاب ابن عباس ، قتل بين يدي الحجاج سنة (95 ه ) .
( أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ) ( انقض ) : أي سقط . ( البارحة ) هي أقرب ليلة مضت .
وفيه اهتمام السلف بالآيات الكونية والاعتبار بها .
( فقلت أنا ) أي حُصَين .
( أما إني لم أكن في صلاة ) القائل هو حصين ، خاف أن يظن الحاضرون أنه ما رأى النجم إلا لأنه يصلي ، فأراد أن ينفي عن نفسه إبهام العبادة وأنه يصلي ، مع أنه لم يكن فعل ذلك .
( صلاة ) نكرة ، فتعم ، فنفى جميع الصلوات ، سواءً صلاة الفرض أو صلاة النفل .
واقتصر على نفي الصلاة لأنها غالب فعل الناس في الليل .
( ولكني لدغت ) بضم أوله ، أي : لدغته عقرب أو نحوها .
( ارتقيت ) وفي لفظ لمسلم ( استرقيت ) أي طلبت من يرقيني .
( فما حملك على ذلك ) أي قال سعيد بن جبير : ما السبب أنك استرقيت ؟
( حديثٌ حدثناه الشعبي ) أي حملني عليه حديث حدثناه الشعبي ، واسمه : عامر بن شرحبيل الشعبي ، ولد في خلافة عمر وهو من ثقات التابعين ، وحفاظهم وفقهائهم ، مات سنة ( 103ه ) .
( عن بريدة بن الحصيب ) بُرَيدة : بضم أوله وفتح ثانيه ابن حصيب الأسلمي صحابي شهير مات عام (63ه ) .
( لا رقية إلا من عينٍ أو حُمَةٍ ) الرقية : هي القراءة على المريض أوالمصاب ، هكذا روي هنا موقوفاً ، وقد رواه أحمد وابن ماجه عن النبي ( مرفوعاً .
العين : هي إصابة العائن غيره بعينه . الحُمَة : سم العقرب وشبهها .
قال الخطابي : ( ومعنى الحديث : لا رقية أشفى أو أولى من رقية العين والحُمَة ) .(1/32)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : ( وليس المراد من الحديث الحصر ، بل حمله العلماء على الأولوية ، أي لا رقية أولى من رقية العين والحُمَة ، لأن الأحاديث دلت على جواز الرقي من غير العين والحُمَة ، كحديث : " لا بأس بالرقى ما لم تكن شرطاً " وهذه الرقية نافعة بالنص والتجارب ، فيستحب لمن أصاب بها أن يرقي نفسه أو يرقي أخوه ، لحديث : " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل " رواه مسلم
والاسترقاء وطلب الرقى تركه أولى ) . أ . ه
( قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ) أي : من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به ، فقد أحسن ، لأنه أدى ما وجب ، وعمل بما بلغه من العلم .
(وفيه عمق علم السلف ، لقوله ( قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن كذا وكذا ) ، فَعُلِمَ أن الحديث الأول لا يخالف الثاني .
( وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم ، وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم وإرشادهم من أخذ بشيء ـ كان مشروعاً ـ إلى ما هو أفضل منه .
( وفيه أن من عمل بما بلغه عن الله ورسوله فقد أحسن .
( ولكن حدثنا ابن عباس ) أراد سعيد بن جبير أن يبين ما هو أفضل من الاسترقاء ،فقال ( حدثنا ابن عباس )
ابن عباس : هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي ( دعا له النبي( فقال : ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل ) . رواه أحمد والحاكم ، وهو في الصحيح غير قوله : ( وعلمه التأويل ) ، مات بالطائف سنة (68ه) .
( عرضت علي الأمم ) كان هذا في ليلة الإسراء على القول الصحيح ، فقد جاء في رواية عن ابن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء ، ولفظه : ( لما أسري بالنبي ( جعل يمر بالنبي ومعه الواحد ... ) .
العارض هو الله سبحانه وتعالى .
( فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد )
الرهط : الجماعة دون العشرة . قاله النووي .
( والنبي ومعه الرجل والرجلان ) .(1/33)
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : ( الظاهر أن الواو بمعنى أو ، أي : ومعه الرجل أو الرجلان ، لأنه لو كان معه الرجل والرجلان صار يغني أن يقول : ومعه ثلاثة ) .
( إذ رفع إلي سواد عظيم ، فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي هذا موسى وقومه )
السواد : ضد البياض ، والمراد هنا الشخص الذي يُرى من بعيد ، أي رفع إلي أشخاص كثيرة .
( فيه فضيلة موسى ( .
( وفيه كثرة أتباع موسى ( .
( فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ) أمة محمد ( على قسمين :
1. أمة دعوة ، وهذه تشمل كل الناس من بعد عهد النبي ( .
2. أمة الإجابة ، وهم المسلمون .
( فنظرت فإذا سواد عظيم ) هذا السواد أعظم من الأول ، لأنه جاء في رواية : ( قد سد الأفق ) .
( ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنـ ة بغير حساب ولا عذاب ) في حديث أبي هريرة ( في الصحيحين أنهم ( تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر ) .
وروى الإمام أحمد في حديث أبي هريرة : ( فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً ) . قال الحافظ : سنده جيد .
( فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية .
أما الكمية : فلأن النبي ( رأى سواداً عظيماً أعظم من السواد الذي مع موسى ( .
وأما الكيفية : فلأن معهم هؤلاء الذين لا يسترقون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون .
( بغير حساب ولا عذاب ) أي لا يعذبون ولا يحاسبون كرامة لهم ، وظاهره : لا يعذبون في قبورهم ولا بعد قيام الساعة .
( ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك ) ( ثم نهض ) أي قام . ( فخاض الناس في أولئك ) أي تكلموا وتناظروا .
قال النووي : ( وفي هذا إباحة المناظرة في العلم ، والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق ) .
( فخاض الناس في أولئك ) هذا من العام الذي أريد به الخصوص ، أي / جملة الحاضرين .
( فقال هم الذين لا يسترقون ) أي / لا يطلبون من يرقيهم لقوة اعتمادهم على الله ، ولما في ذلك من التعلق بغير الله .(1/34)
قال شيخ الإسلام : ( ... فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون أي / لا يطلبون من أحد أن يرقيهم ، والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحدٍ ذلك ) . أ . ه
لم ينهى عنها وإنما ذكر فضل تركها فقط ، فإذا دعت الحاجة إليه فلا بأس من العلاج ، وتركه أفضل عند عدم الحاجة .
وفي رواية لمسلم : ( ولا يرقون ) . قال شيخ الإسلام : ( وهذه الزيادة وهمٌ من الراوي ، لم يقل النبي ( ـ ولا يرقون ـ لأن الراقي محسنٌ إلى أخيه ، وقد قال النبي ( وقد سُئل عن الرقى : " من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل " ، وقال : " لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً " ) . أ . ه
وقال رحمه الله : ( والفرق بين الراقي والمسترقي في أن المسترقي سائلٌ مستعطٍ ملتفت إلى غير الله بقلبه ، والراقي محسن ) .
( ولا يكتوون ) أي / لا يسألون غيرهم أن يكويهم ، فتركه أفضل عند عدم الحاجة لأنه نوع من التعذيب
( ولا يتطيرون ) أي / لا يتشاءمون بالطيور ونحوها ، وهذا شرك لقوله ( : ( الطيرة شرك ) .
وكانت العرب معروفة بالتطير ، فمنهم من يتشاءمون بشهر صفر ، ومنهم من يتشاءمون بشهر شوال بالنسبة للنكاح ، ومنهم من يتشاءم بصوت . ( وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها )
( وعلى ربهم يتوكلون ) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال ، وهو التوكل على الله ، وصدق الالتجاء إليه ، والاعتماد بالقلب عليه .
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً ، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمرٌ فطريٌ ضروري ، لانفكاك لأحدٍ عنه ، وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله ، كالاكتواء والاسترقاء .
( فقام عكاشة بن محصن ) عُكاشة : بضم العين . ومِحصن : بكسر الميم ، كان من السابقين إلى الإسلام ، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها ، ومناقبه مشهورة ، استشهد في قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد عام (12ه) .(1/35)
( ادع الله أن يجعلني منهم ) وللبخاري في رواية : ( اللهم اجعله منهم ) وفي بعض الروايات قال : ( أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال : نعم ) .
( ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : سبقك بها عُكَّاشة ) هذا الرجل الآخر ذُكِرَ مبهماً ، فلا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه . ( قاله في فتح المجيد 171 )
واختلف العلماء لماذا قال الرسول ( هذا الكلام لهذا الرجل ؟
فقيل / أنه كان منافقاً ، وهذا فيه نظر من وجهين :
1) أن الأصل في الصحابة عدم النفاق ، فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح .
2) أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصدٍ صحيح ، ويقين بتصديق الرسول ( ، وكيف يصدر ذلك من منافق .
وقيل / أنه قال ذلك سداً للباب لئلا يقوم من ليس من أهلها فيطلبها فيتسلسل الأمر ، فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلاً .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه شيئاً من بيان معنى تحقيق التوحيد وثواب ذلك عند الله .
من فوائد الحديث :
1- وفيه فضل السلف الصالح وحرصهم على الإخلاص ، وشدة ابتعادهم عن الرياء ، والتزين بما ليس فيهم ، وهذا بخلاف من يقول فعلت وفعلت ، ليوهم أنه من الأولياء ، وربما علق السبحة في عنقه أو أخذها في يده يمشي بها بين الناس ، إعلاماً للناس أنه يسبح عدد ما فيها من الخرز ، وقد قال الإمام محمد بن وضاح ... عن الصلت بن بهرام : ( مر ابن مسعود بامرأة تسبح بسبحة فقطعها وألقاها ، ثم مرّ برجلٍ يسبح بحصى ، فضربه برجله ، ثم قال : لقد جئتم ببدعة ظلماً ، أو : لقد غلبتم أصحاب محمد ( علماً ) .
2- يجوز للإنسان إذا خشي أن يظهر فيه شيء أن يبادر لنفيه ، كقول الإنسان : ( لن آكل ولست بصائم ) وليس هذا من باب الرياء .
3- طلب الحجة على صحة المذهب وعناية السلف بالدليل .
4- حرص السلف على مذاكرة العلم .
5- أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم .
6- فضيلة نبينا محمد ( حيث عرضت عليه الأمم .
7- عرض الأمم على النبي ( لفائدتين :(1/36)
أ ) تسلية النبي ( حيث رأى من الأنبياء من ليس معه إلا الرجل والرجلان .
ب ) بيان فضيلته ( وشرفه حيث كان أكثرهم أتباعاً .
8- أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها لقوله : ( رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان . . )
ولولا أن كل نبي متميز عن النبي الآخر لاختلط بعضهم ببعض ولم يعرف الأتباع من غير الأتباع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ? وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها ? .
9- قلة من استجاب للأنبياء .
10- أن المتبعين للحق قليل .
كما قال تعالى : ? وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ? .
وقال تعالى : ? وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ? .
والأدلة كثيرة على أن أهل الإيمان أقل من أهل الفجور والكفر .
11- فيه فضيلة موسى وقومه ، وأنهم أكثر الأمم بعد أمتنا .
12- عظم أمة محمد ( وأنهم أكثر الأمم اتباعاً لنبيهم ( ، ففي الحديث : ( فنظرت فإذا سواد عظيم قد سد الأفق ) .
13- أن ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد .
14- تحريم التطير بالطيور وغيرها ( وسيأتي باب خاص به ) .
15- حرص السلف على الخير والمنافسة على الأعمال الصالحة .
16- علم من أعلام نبوته ( حيث أخبر أن عكاشة من السبعين الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب .
الباب الرابع
الخوف من الشرك
لما كان الشرك أعظم ذنب عُصي الله به ، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتُبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله وأموالهم ، وسبي نساءهم وأولادهم ، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه .
نبّه المصنف في هذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره ، ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه ، ولهذا قال حذيفة : ( كان الناس يسألون رسول الله ( عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه ) . رواه البخاري
م/ ( وقول الله عز وجل : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? . { النساء الآيتان 48 ، 116 } ) .(1/37)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? لا يغفر أن يشرك به ? ، أي لا يغفر لعبدٍ لقيه وهو مشرك به .
? ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? أي من الذنوب لمن يشاء من عباده .
المعنى الإجمالي للآية :
يخبر الله عز وجل أنه لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ليحذرنا من الشرك وأنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب .
وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله .
مناسبة الآية للباب :
أنها تدل على أن الشرك أعظم من الذنوب لأن من مات عليه لا يغفر له وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه .
من فوائد الآية :
1- أن الشرك أعظم الذنوب وهو أظلم الظلم ، وإنما كان كذلك :
* لأن مضمونه تنقيص رب العالمين ، وصرف خالص حقه لغيره .
* ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع ، والعطاء والمنع .
2- أن ما عدا الشرك من الذنوب إذا لم يتب منه داخل تحت المشيئة إن شاء غفره بلا توبة وإن شاء عذب به .
م/ ( وقال الخليل ( : ? واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ? { إبراهيم 35 } ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? واجنبني وبنيَّ ? أي اجعلني في جانب والأصنام في جانب .
وإنما دعا إبراهيم ( بذلك ، لأن كثيراً من الناس افتتنوا بها ، كما قال تعالى : ? رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ? فخاف من ذلك ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها .
? وبنيّ ? قيل المراد / إسماعيل وإسحاق ، وعلى هذا القول استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء ، وجنبهم عبادة الأصنام .
وقيل / ذريته وما توالد من صلبه ، وهذا الراجح .
واقتضت حكمته ألا تجاب دعوته في بعضهم ، كما أن الرسول ( دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم فلم يجب الله دعوته
? أن نعبد الأصنام ? الأصنام : جمع صنم ، وهو ما جُعل على صورة إنسان أو غيره يعبد من دون الله .(1/38)
والوثن: ما عبد من دون الله على أي شكل كان ، وفي الحديث الشريف : ( لا تجعل قبري وثناً يعبد ) . رواه مالك
فالوثن أعم من الصنم .
والمشركون كانوا أقسام ، منهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار .
المعنى الإجمالي للآية :
أن إبراهيم الخليل ( يدعو ربه أن يجعله هو وبنيه في جانب بعيد عن عبادة الأصنام وأن يباعد بينه وبينها لأن الفتنة بها عظيمة ولا يأمن الوقوع فيها .
مناسبة الآية للترجمة :
إذا كان إبراهيم ( إمام الحنفاء ، يخاف من الشرك ، ويسأل الله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام ، فما ظنك بغيره ؟
ولذلك قال إبراهيم التميمي : ( ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ) . رواه ابن خزيمة
وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك .
من فوائد الآية :
1- الخوف من الشرك ، فإن إبراهيم ( وهو إمام الحنفاء والذي كسر الأصنام بيده خافه على نفسه فكيف بمن دونه .
2- مشروعية الدعاء لدفع البلاء وأنه لا غنى للإنسان عن ربه .
3- مشروعية دعاء الإنسان لنفسه ولذريته .
م/ ( وفي الحديث : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، فَسُئِلَ عنه ، فقال : الرياء ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
هذا الحديث رواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد ، وإسناده جيد ، وله زيادة : ( يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ) .
( أخوف ما أخاف عليكم ) أي أشد خوفاً أخافه عليكم ، الخطاب للمسلمين ، إذ المسلم هو الذي يخاف عليه الشرك الأصغر .
( الرياء ) وهو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدونه عليها ، هذا من باب المثال لا من باب الحصر ، إذ الشرك الأصغر أنواعه متعددة ، كالحلف بغير الله ، وقول ما شاء الله وشئت ، ولبس التمائم .(1/39)
( الشرك الأصغر ) قد يفهم بعض الناس أنه سُميَ بذلك لقلة أهميته ، وليس كذلك ، ولكن لما كان بمقابل الأكبر سُميَ أصغر ، وإلا فهو أعظم من الكبائر .
المعنى الإجمالي للحديث :
لكمال شفقته ( ورحمته بأمته ونصحه لهم فإنه يحذرهم من الظهور بمظهر العبادة لقصد تحصيل ثناء الناس لأنه شرك في العبادة ، وهو وإن كان شركاً أصغر فخطره عظيم لأنه يحبط العمل الذي قارنه .
مناسبة الحديث للباب :
إذا كان الشرك الأصغر مُخافاً على أصحاب رسول الله ( ، مع كمال علمهم وقوة إيمانهم ، فكيف لا يخافه ـ وما فوقه ـ من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب .
من فوائد الحديث :
1- شدة الخوف من الوقوع في الشرك الأصغر ، وذلك من وجهين :
الأول / أن الرسول ( تخوف من وقوعه تخوفاً شديداً .
الثاني / أنه ( تخوف من وقوعه في الصالحين الكاملين فمن دونهم من باب أولى .
2- وفيه الخوف من الرياء ، وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين ، لأن النفوس مجبولة على حب الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق إلا من سلمه الله وعصمه .
3- أنه ينبغي على الإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر ، فإذا كان الأصغر مخوفاً على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم ، فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته بالله .
4- أن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر .
الأكبر : هو أن يسوي غير الله بالله في ما هو من خصائص الله .
والأصغر : هو ما أتى في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى حد الأكبر .
والفرق بينهما :
* الشرك الأكبر يخرج من الملة ، والأصغر لا يخرج من الملة .
* الشرك الأكبر يخلد صاحبه في النار ، والأصغر لا يخلد صاحبه فيها إن دخلها .
* الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال ، والأصغر يحبط العمل الذي قارنه .
5- العبادة إذا اتصل بها الرياء لها أحوال :
أ- أن يكون الباعث على العبادة مراعاة الناس من الأصل ، فهذا مبطل للعبادة ، قال النبي ( :(1/40)
( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ) . رواه مسلم
ب- أن يكون مشاركاً للعبادة في أثنائها ، بمعنى : أن يكون الحامل له في أمره الإخلاص لله ، ثم طرأ الرياء في أثناء العبادة ، فهذه العبادة لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى / أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها ، فأولها صحيح بكل حال ، وآخرها باطل ، مثاله : رجل عنده مائة ريال ، يريد أن يتصدق بها ، فتصدق بخمسين منها صدقة خالصة ثم طرأ عليه الرياء في الخمسين الباقي ، فالأولى صدقة صحيحة مقبولة ، والخمسون الثانية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص .
الحالة الثانية / أن يرتبط أول العبادة بآخرها ، فلا يخلو الإنسان حينئذٍ من أمرين :
* أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه ، بل يعرض عنه ويكرهه ، فإنه لا يؤثر شيئاً .
* أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه ، فحينئذً تبطل جميع العبادة ، لأن أولها مرتبط بآخرها .
* أن يطرأ الرياء بعد انتهاء العبادة ، فإنه لا يؤثر عليها ولا يبطلها ، لأنها تمت صحيحة .
م/ ( وعن ابن مسعود ( أن النبي ( قال : " من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار " ) [ رواه البخاري 3 / 196 ]
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( النِّد ) : الشبيه ، قال تعالى : ? فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ? ، وقال تعالى : ? وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار ? .
ومعنى اتخاذ الأنداد : تشريك غير الله معه في العبادة من الصالحين والأنبياء والأشجار والأحجار .
المعنى الإجمالي للحديث :(1/41)
يخبر النبي ( أن من مات وهو يدعو لله ندّاً فيما يختص به تعالى ويستحقه من الربوبية والإلهية دخل النار لأنه مشرك ، لأن الله هو المستحق للعبادة لذاته ، لأنه المألوه المعبود الذي تأله القلوب وترغب إليه ، وتفزع إليه عند الشدائد ، وما سواه فهو مفتقر إليه ، مقهور بالعبودية له ، قال تعالى : ? يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ? .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه التخويف من الشرك ببيان عاقبة المشرك ومصيره .
واعلم أن اتخاذ الند مع الله على قسمين :
1. أن يجعله لله شريكاً في أنواع العبادة ، وهو شرك أكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة .
2. ما كان من نوع الشرك الأصغر ، كقول الرجل : ما شاء الله وشئت ، وكيسير الرياء ، فقد جاء في الحديث أن النبي ( لما قال له رجلٌ : ما شاء الله وشئت ، قال : " أجعلتني لله نداً ؟ بل ما شاء الله وحده " رواه أحمد
من فوائد الحديث :
1- فيه أن اتخاذ الأنداد من أسباب دخول النار .
2- التخويف من الشرك والحث على التوبة منه قبل الموت .
3- أن كل من دعا مع الله نبياً أو ولياً ـ حياً أو ميتاً ـ أو حجراً أو شجراً فقد جعل نداً لله .
م/ ( ولمسلم عن جابر ( أن رسول الله ( قال : " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار " ) . رواه مسلم ( 93 ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
جابر : هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، صحابي جليل ، له ولأبيه مناقب مشهورة ، مات بالمدينة بعد السبعين ، وقد كف بصره ، له أربع وتسعون سنة .
( من لقي الله ) أي من مات .
( لا يشرك به ) أي لم يتخذ معه شريكاً .
( شيئاً ) أي شركاً قليلاً أو كثيراً .(1/42)
قال القرطبي : ( أي لم يتخذ معه شريكاً في الإلهية ، ولا في الحلف ، ولا في العبادة ، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة ، أن من مات على ذلك ، فلا بد له من دخول الجنة ، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة ، وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من رحمة الله ، ويخلد في النار أبد الآبدين من غير انقطاع عذاب ، وهذا معلوم ضروري من الدين ، مجمع عليه من المسلمين ) .
قال النووي : ( أما دخول المشرك إلى النار فهو على مجموعه ، فيدخلها ويخلد فيها ، ولا فرق بين الكتابي واليهودي والنصراني ، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين ) .
ـ وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له ، لكن ، إن لم يكن صاحب كبيرة ـ مات مصراً عليها ـ دخل الجنة أولاً ، وإن كان صاحب كبيرة مات مصراً عليها ، فهو تحت المشيئة فإن عفا عنه دخل الجنة أولاً ، وإلا عذب ثم أخرج فيدخل الجنة .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه التغليظ في النهي عن الشرك مما يوجب شدة الخوف منه .
من فوائد الحديث :
1- أن من لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار ، فإن كان شركه أكبر ، فهو خالد مخلد ، قال تعالى : ? إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ? ، وإن كان أصغر ، عُذِّب بقدر ذنوبه ثم دخل الجنة .
2- أن من مات على التوحيد لا يخلد في النار .
3- فضيلة من سلم من الشرك .
4- إثبات الجنة والنار .
5- أن العبرة بالخواتيم .
6- قرب الجنة والنار ، والجمع بينهما في حديث واحد .
الباب الخامس
الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وهذا الترتيب الذي صنَّفه المؤلف في هذه الأبواب في غاية المناسبة ، فإنه ذكر في الأبواب السابقة وجوب التوحيد وفضله ، والحث عليه وعلى تكميله ، والتحقيق به ظاهراً وباطناً ، والخوف من ضده ، وبذلك يُكمِّل العبد نفسه .(1/43)
ثم ذكر في هذا الباب ، تكميله لغيره بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، فإنه لا يتم التوحيد حتى يكمل العبد جميع مراتبه ، ثم يسعى في تكميل غيره ـ وهذا طريق جميع الأنبياء ـ فإنهم أول ما يدعون إليه قومهم عبادة الله وحده لا شريك له ، وهي طريقة سيدهم وإمامهم ( .
فكما أن على العبد أن يقوم بتوحيد الله ، فعليه أن يدعو العباد إلى الله بالتي هي أحسن ، وكل من اهتدى على يديه فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً .
إذاً نبه في هذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك ، أن يقتصر على نفسه ، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما هو سبيل المرسلين .
م/ ( وقول الله تعالى : ? قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ? يوسف (108) ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? أدعو إلى الله ? لأن الدعاة إلى الله ينقسمون قسمين :
1- داع إلى الله .
2- داع إلى نفسه .
فالداعي إلى الله هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى .
والداعي إلى نفسه يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم .
? على بصيرة ? أي : علم ، والعلم هنا يشمل :
1. العلم بحال المدعو .
2. العلم فيما تدعو إليه .
3. العلم بكيفية الدعوة .
? أنا ومن اتبعني ?
اختلف العلماء في قوله : ? ومن اتبعني ? على قولين :
فقيل / أنا أدعو إلى الله على بصيرة ، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة .
وقيل / أنا وأتباعي على بصيرة .
وعلى القولين : فالآية تدل على أن أتباعه هم أهل البصائر الداعين إلى الله .
المعنى الإجمالي للآية :
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى لرسوله ( آمراً له على أن يخبر الناس أن هذه سبيله ، أي طريقته وسنته ، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، يدعو إلى الله بها على بصيرة ، أي على علم وبرهان ويقين ) . أ . ه
مناسبة الآية للباب :(1/44)
أن الله ذكر فيها طريقة الرسول ( وأتباعه وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله على علم بما يدعون إليها .
من فوائد الآية :
1- يجب أن تكون الدعوة إلى الله قائمة على الحجة والبرهان .
2- وجوب الإخلاص في الدعوة إلى الله .
3- أنه يجب على الدعية أن يكون عالماًَ وبصيراً فيما يدعو إليه ، والعلم هنا يشمل :
أولاً / العلم بحال المدعو :
ولهذا قال ( لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) ليعرف حالهم ويستعد لهم ، فتعرف مستواه العلمي ومستواه الحديثي ، حتى تتأهب له وتجادله .
ثانياً / العلم فيما تدعو إليه :
بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي .
ثالثاً / أن يكون عالماً في كيفية الدعوة :
قال تعالى : ? ادع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ? .
فائدة :
وقد ذكر ابن القيم عن هذه الآية مراتب الدعوة بالنسبة لحال المدعو :
أ- طالباً للحق ، فهذا يدعو بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال .
ب- منشغلاً بضد الحق لكنه لو عرفه آثره واتبعه ، فهذا يحتاج إلى الموعظة والترغيب والترهيب
ج- معانداً معارضاً يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع وإلا ترك .
م/ ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله ( لما بعث معاذاً إلى اليمن قال : " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية : ... إلى أن يوحدوا ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ) .(رواه البخاري ومسلم )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( لما بعث معاذاً ) قال الحافظ في الفتح ( 3 / 358 ) :(1/45)
كان بعث معاذ إلى اليمن سنة (10ه) قبل حج النبي ( كما ذكره المصنف ـ يعني البخاري ـ في أواخر المغازي ، وقيل : كان ذلك في آخر سنة تسع ، واتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ( ، ثم توجه إلى الشام فمات فيها .
قال شيخ الإسلام : ومن فضائل معاذ ( أنه بعثه ( إلى اليمن مبلغاً عنه ، ومفقهاً ومعلماً وحاكماً .
( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ) قال القرطبي : يعني به اليهود والنصارى ، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب وأغلب ، وإنما ينبه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ، ويُعد الأدلة لامتحانهم ، لأنهم أهل علم سابق ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان .
قال الحافظ : هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها .
( وفيه دليل على معرفته ( بأحوال الناس ، وما يعلمه النبي ( من أحوال الناس له طريقان :
1) الوحي . 2) العلم والتجربة .
وأخبره ( بذلك لأمرين :
1. أن يكون بصيراً بأحوال من يدعو .
2. أن يكون مستعداً لهم ، ولأنهم أهل كتاب وعندهم علم .
( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) وفي رواية ( إلى أن يوحدوا الله ) هذه الرواية في كتاب التوحيد من صحيح البخاري .
أشار بها المصنف إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن معناها : توحيد الله بالعبادة ، ونفي عبادة ما سواه.
وفي رواية : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ) ذلك هو الكفر بالطاغوت ، والإيمان بالله ، كما قال تعالى :
? فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ? والعروة الوثقى : ( لا إله إلا الله )
قال شيخ الإسلام : ( وقد علم بالاضطرار من دين الرسول ( واتفقت عليه الأمة : أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فبذلك يصير الكافر مسلماً ، والعدو ولياً ، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال ... ) أ . ه(1/46)
( فإن هم أطاعوك لذلك ) أي شهدوا وانقادوا لذلك .
( وإياك وكرائم أموالهم ) الكرائم : جمع كريمة ، أي نفيسة ، وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً .
( واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) اتق : أي اجعل بينك وبينها وقاية ، بالعدل وترك المظالم .
وهذان الأمران يقيان من رُزقهما من جميع الشرور ، دنيا وأخرى .
( ليس بينها وبين الله حجاب ) أي لا تحجب عن الله تعالى ، بل ترفع إليه فيقبلها وإن كان عاصياً ، كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً : ( دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ) . إسناده حسن
المعنى الإجمالي للحديث :
أن النبي ( لما وجه معاذ إلى اليمن داعياً إلى الله ومعلماً بين له أنه سيواجه قوماً أهل علم وجدل من اليهود والنصارى ليكون على أهبة لمناظرتهم ورد شبههم ثم ليبدأ في دعوته في الأهم فالأهم فيدعو الناس إلى إصلاح العقيدة أولاً لأنها الأساس ، فإذا انقادوا لذلك أمرهم بالصلاة لأنها أعظم الواجبات بعد التوحيد ، فإذا أقاموها أمر أغنياءهم بدفع زكاة أموالهم إلى فقرائهم ، ثم حذره من أخذ جيد المال لأن الواجب الوسط ، ثم حثه على العدل وترك الظلم .
مناسبة الحديث للباب :
فيه أن أول ما يدعى إليه شهادة أن لا إله إلا الله .
من فوائد الحديث :
1- أن شهادة أن لا إله إلا الله هي أول ما يدعى إليه الناس .
2- وفيه أن أول واجب يجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله ، لا النظر ولا القصد إلى النظر ، ولا الشك ، كما هي أقوالٌ لأرباب الكلام المذموم ، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان ، كما قال ( : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمداً رسول الله ) . متفق عليه
3- مشروعية بعث السعاة في الدعوة إلى الله .
4- أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل .(1/47)
5- التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة في دينه ليتخلص من شبهات المشبهين .
6- فيه أن البداءة بالدعوة والتعليم بالأهم فالأهم .
7- التنبيه على التعليم بالتدريج .
8- أن الصلوات أعظم واجب بعد الشهادتين .
9- أن عدد الصلوات المفروضة خمس صلوات ، ويدل لذلك حديث الأعرابي الذي قال له رسول الله ( :
( خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع ) . متفق عليه
10- دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة .
11- أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء ، وإنما خص النبي ( الفقراء بالذكر مع أنها تدفع إلى المجاهد والعامل ونحوهما لأن الفقراء ـ والله أعلم ـ هم أكثر من تدفع إليهم .
12- وفيه أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها ، إما بنفسه أو نائبه .
13- وفي الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد .
14- فيه أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى غني .
15- ففيه أنه يحرم على العامل أن يأخذ كرائم المال ، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال ، بل يخرج الوسط ، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز .
16- فيه التحذير من جميع أنواع الظلم .
17- لم يذكر في الحديث الصوم والحج ، فأشكل ذلك على كثير من العلماء .
قال شيخ الإسلام : أجاب بعض الناس ، أن بعض الرواة اختصر الحديث ، وليس كذلك ، فإن هذا طعن في الرواة ، والصحيح أن النبي ( أمره بما حضر وجوبه ، وهو التوحيد والرسالة والصلاة والزكاة ، فهذه فرضت من حين الإسلام ، وأما الصوم والحج فلم يحضر وقتهما لأن بعثه كان في ربيع الأول .(1/48)
م/ ( ولهما عن سهل بن سعد ( أن رسول الله ( قال يوم خيبر : " لأعطيّن الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها ، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ( كلهم يرجو أن يُعطاها ، فقال ( : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه فأتي به ، فبصق في عينيه ودعا له فبريء كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ، فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) يدوكون : أي يخوضون . رواه البخاري (3701) ومسلم ( 2406 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن سهل ) هو سهل بن سعد بن مالك الأنصاري ، أبو العباس ، صحابي شهير ، وأبوه صحابي أيضاً ، مات عام ( 88 ه ) .
( يوم خيبر ) أي في غزوة خيبر ، وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال : ( كان علي ( قد تخلف عن النبي ( في خيبر ، وكان أرمد ، فقال : أنا أتخلف عن رسول ؟ فخرج علي ( فلحق بالنبي ( ، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها قال ( : لأعطين ... ) الحديث .
وهذا يبين أن علي ( لم يشهد أول خيبر ، وأنه ( قال هذه المقالة مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها .
( لأعطين الراية غداً ) قال الحافظ في رواية بريدة : ( إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله ... ) :
والراية : بمعنى اللواء ، وهو العلم الذي يحمل في الحرب ، يعرف به موضع صاحب الجيش ، وقد صرح جماعة من أهل العلم بترادفهما ، لكن روى الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس : ( كانت راية رسول الله ( سوداء ولواؤه أبيض ) فهذا ظاهر في التغاير .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : فلعل التفرقة بينهما عرفية .(1/49)
( غداً ) يراد به ما بعد اليوم . والأمس : يراد به ما قبله .
والأصل : أنه يراد بالغد ما يلي يومك ، ولكن قد يراد بالغد ما وراء ذلك ، قال تعالى : ? ولتنظر نفس ما قدمت لغد ? أي يوم القيامة .
( وفيه فضيلة عظيمة لعلي ( ، لأن النبي ( شهد له بذلك ، لكن ليس هذا من خصائصه .
قال شيخ الإسلام : ليس وصفاً مختصاً بعلي ولا بالأئمة ، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله ، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرؤون منه ولا يتولونه ، بل قد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج .
( يفتح الله على يديه ) أي يفتح الله خيبر على يديه .
( فبات الناس يدوكون ليلتهم ) يدوكون : أي يخوضون . والمراد أنهم باتوا تلك الليلة في خوض واختلاف فيمن يدفعها إليه .
( فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ( كلهم يرجو أن يُعطاها ) أي ذهبوا إليه في الغدوة مبكرين كلهم يرجو أن يُعطاها لينال محبة الله ورسوله .
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال : ( ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ ) .
فإن قيل : أن كانت هذه الفضيلة لعلي ( ليست من خصائصه فلِمَ تمنَّى بعض الصحابة أن يكون له ذلك ؟
قيل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن في ذلك شهادة من النبي ( لعلي ( بإيمانه ظاهراً وباطناً ، وإثبات لموالاته لله ورسوله ، ووجوب موالاة المؤمنين له ، وإذا شهد النبي ( لمعين بشهادة ، أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ، ومثل ذلك الدعاء ، وإن كان ( يشهد لخلق كثير ويدعو لخلق كثير ، وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه ، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس وعبد الله بن سلام وغيرهما ، وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين ) . أ . ه
( وفيه حرص الصحابة على الخير .(1/50)
( فقال : أين علي بن أبي طالب ) قال بعضهم : كأنه ( استبعد غيبة علي عن حضرته في مثل ذلك الموطن ، لا سيما وقد قال : ( لأعطين الراية ... ) وقد حضر الناس كلهم طمعاً بأن يكون هو الذي يفوز بذلك الوعد .
( فقيل له : هو يشتكي عينيه ) أي من الرمد ، كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص : ( ادعوا لي علياً ، فأتي به أرمد فبصق في عينيه ) .
( فأرْسِلُوا إليه ) أي أمرهم بأن يرسلوا إليه فيدعوه له ، ولمسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال : ( فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد ) .
( ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع ) أي عوفي في الحال عافية كاملة ، كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر أصلاً ، وعند الطبراني من حديث علي ( : ( فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي النبي ( الراية ) .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : ( قوله : فبرأ ، فيه فائدتان :
1. أنها من علامات صدق النبي ( .
2. وهي آية من آيات الله الدالة على قدرته العظيمة ) .
( انفُذ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم ) انفذ / بضم الفاء ، أي : امضِ .
ورسلك / بكسر الراء وسكون السين ، أي : على رفقك من غير عجلة .
وساحتهم / فناء أرضهم ، وما حولها .
( ثم ادعهم إلى الإسلام ) أي : الذي هو معنى : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
ومن هذا الوجه طابق الحديث الترجمة ، وفي حديث أبي هريرة ( عند مسلم : ( فدعا رسول الله ( علي بن أبي طالب ... قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) .
( وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ) أي أنهم إذا أجابوا إلى التوحيد فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله كالصلاة والزكاة ، وهذا كقوله في حديث أبي هريرة ( : ( فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) .(1/51)
فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقاً ، وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باقٍ بحاله .
( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) حمر النعم / بتسكين الميم ، أي خير لك من الإبل الحمر ، وهي أنفس أموال العرب .
قال النووي : ( وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا ، إنما هي للتقرب إلى الأفهام ، وألا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها ) . أ . ه
قيل المراد : خير من أن تكون لك فتتصدق بها .
وقيل : خير لك من أن تقتنيها وتمتلكها ، وهذا أظهر .
المعنى الإجمالي للحديث :
أن النبي ( بشر الصحابة بانتصار المسلمين على اليهود من الغد على يد رجل له فضيلة عظيمة وموالاة لله ولرسوله فاستشرف الصحابة لذلك كل يود أن يكون هو ذلك الرجل من حرصهم على الخير فلما ذهبوا على الوعد طلب النبي ( علياً وصادف أنه لم يحضر لما أصابه من مرض عينيه ثم حضر فتفل النبي ( فيهما فزال ما يحس به من الألم زوالاً كاملاً وسلمه قيادة الجيش وأمره بالمضي على وجهه برفق حتى يقرب من حصن العدو فإن أجابوا أخبرهم بما يجب على المسلم من فرائض ، ثم بين ( لعلي فضل الدعوة إلى الله وأن الداعية إذا حصل على يديه هداية رجل واحد فذلك خير له من أنفس الأموال الدنيوية .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه مشروعية الدعوة إلى الإسلام الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وبيان فضل الدعوة إلى ذلك .
من فوائد الحديث :
1- فضيلة ظاهرة لعلي وشهادة من الرسول ( بموالاته لله ولرسوله .
2- فيه إشارة إلى أن علياً تام الاتباع لرسول الله ( حتى أحبه الله ، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان ، وبغضه علامة النفاق .
3- فيه إثبات المحبة لله ، وأنه يحب ، وأجمع السلف على ثبوت المحبة لله ، يُحِب ويُحَب ، فيجب إثبات ذلك حقيقة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، وهي محبة حقيقية تليق بالله تعالى .
قال تعالى : ? إن الله يحب المحسنين ?(1/52)
وقال تعالى : ? إن الله يحب المتقين ?
وقال تعالى : ? إن الله يحب المقسطين ?
وقال تعالى : ? إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ?
4- وفي ذلك البشارة بحصول الفتح على يدي علي .
5- وهو علم من أعلام النبوة .
6- فيه شهادة أن محمداً رسول الله .
7- فيه حرص الصحابة على الخير ، ومزيد اهتمامهم به ، وذلك يدل على علو مراتبهم في العلم والإيمان .
8- فيه سؤال الإمام عن رعيته ، وتفقده أحوالهم ، وسؤاله عنهم في مجامع الخير .
9- فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسْعَ ومنعها عمن سعى ، لأن الصحابة غدوا على رسول الله ( مبكرين كلهم يرجو أن يُعطاها ولم يعطوها ، وعلي بن أبي طالب ( مريض ولم يسع لها ومع ذلك أعطي الراية .
10- فيه أن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة ، لا ينافي التوكل .
11- فيه الأدب عند القتال ، وترك العجلة والطيش ، والأصوات التي لا حاجة لها .
12- فيه أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة .
13- فيه أن الدعوة إلى شهادة ( لا إله إلا الله ) المراد بها الدعوة إلى الإخلاص بها وترك الشرك ، وإلا فاليهود يقولونها ، ولم يفرق النبي ( في الدعوة إليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب ، فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها واعتقاد معناها والعمل بها .
14- فيه مشروعية الدعوة قبل القتال ، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداءً ، لأن النبي ( أغار على بني المصطلق وهم غارون .
15- فيه أن النطق بالشهادتين هو العصمة بشرط العمل .
16- فيه بعث الإمام الدعاة إلى الله ، كما كان ( وخلفاؤه الراشدون يفعلون . كما في المسند عن عمر بن الخطاب ( أنه قال في خطبته : ( ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أشباركم ولا ليأخذوا أموالكم ، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم ) .
17- فيه فضل الدعوة إلى الله ، وقد قال ( : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) .(1/53)
18- فيه فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد .
19- فيه جواز الحلف من غير استحلاف .
الباب السادس
تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
أي تفسير هاتين الكلمتين ، والعطف لتغاير اللفظين ، وإلا فالمعنى واحد .
ولما ذكر المصنف في الأبواب السابقة التوحيد وفضائله ، والدعوة إليه والخوف من ضده الذي هو الشرك ، فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة هذا الأمر الذي خلقت له الخليقة ، الذي بلغ من شأنه عند الله ، أن من لقيه به غفر له وإن لقيه بملء الأرض خطايا ، بيّن رحمه الله في هذا الباب أنه ليس اسماً لا معنى له ، أو قولاً لا حقيقة له كما يظنه الجاهلون ، الذين يظنون أن غاية التحقيق فيه هو النطق بكلمة الشهادة من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني .
بل التوحيد اسم لمعنى عظيم ، وقولٌ له معنى جليل ، وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله تعالى ، والإقبال بالقلب والعبادة على الله ، وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، كما قال تعالى : ? وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ، ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ، إني إذاً لفي ضلال مبين ? .
م/ ( وقول الله تعالى : ? أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ?) . الإسراء (57)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
يبين معنى الآية التي قبلها ، وهي قوله : ? قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ? .
والمعنى : أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له .
? أولئك الذين يدعون ? أي : أولئك الذين يدعوهم من الملائكة أو البشر أو الجن .(1/54)
? يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ... ? يخبر الله تعالى أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون مع الله من الملائكة والصالحين ، هم أنفسهم يطلبون التقرب إلى الله بالطاعة والعبادة ، ويمتثلون أوامره ، ويجتنبون نواهيه خوفاً من عذابه .
قال شيخ الإسلام : ( ? أولئك ... ? الآية تشمل كل من كان معبوده عابداً لهم ، سواءً كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر ، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوّاً ، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ، ويرجو رحمته ، فكل من دعا ميتاً ، أو غائباً من الأنبياء والصالحين ، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها ، فقد تناولته هذه الآية ، كما تناول من دعا الملائكة والجن ، فقد نهى الله عن دعائهم ، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله ، ولا يرفعونه بالكلية ، ولا يحولونه من موضع إلى موضع ، كتغيير صفته أو قدره ، ولهذا قال : ? ولا تحويلاً ? نكرة تعم أنواع التحويل ، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين ، أو دعا الملائكة ، أو دعا الجن ، فقد دعا من لا يعينه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله ) . أ . ه
المعنى الإجمالي :
قال ابن كثير : يقول تعالى للمشركين : ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأنداد وارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ، أي بالكلية ، ولا تحويلا ، أي أن يحولوه إلى غيركم .
مناسبة الآية للترجمة :
حيث دلت الآية على أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو ترك ما عليه المشركون من دعاء الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم إلى الله ، وأنه لا يكفي النطق بالشهادة ما لم يكفر بكل معبود سوى الله .
من فوائد الآية :
1- تبين من ذلك أن التوحيد ترك ما عليه المشركون من دعوة غير الصالحين والاستشفاع بهم إلى الله في كشف الضر وتحويله .
2- وفيها أن دعاء الصالحين لكشف الضر وتحويله هو الشرك الأكبر .(1/55)
3- الرد على الذين يدعون الأولياء والصالحين في كشف الضر أو جلب النفع ، لأن هؤلاء المدعوين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف يملكون ذلك لغيرهم .
4- بيان شدة خوف الأنبياء والصالحين من الله ، وبيان رجائهم لرحمته .
م/ ( وقوله : ? وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني ? )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? لأبيه ? آزر .
? براء ? تبرأ من معبوداتهم .
المعنى الإجمالي للآية :
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ، ووالد من بعث من بعده من الأنبياء ، أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان ، فقال : ? إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ? أي هذه الكلمة وهي عبادتهم الله وحده لا شريك له ، وخلع ما سواه من الأوثان ـ وهي لا إله إلا الله ـ وجعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم ( ) .
ـ تبين من الآية أن معنى لا إله إلا الله هو : البراءة مما يعبد من دون الله ، وإفراد الله بالعبادة ، وذلك هو التوحيد
? لعلهم يرجعون ? أي إليها .
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله ? وجعلها كلمة باقية في عقبه ? يعني ( لا إله إلا الله ) : ولا يزال في ذريته من يقولها .
فائدة : في قول إبراهيم : ? إلا الذي فطرني ? ، ولم يقل إلا الله ، فائدتان :
1 - الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة ، لأنه كما أنه متفرد بالخلق ، فيجب أن ينفرد بالعبادة .
2- الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام ، ولأنها لم تفطركم حتى تعبدوها ، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين
النفي والإثبات .
مناسبة الآية للترجمة :
حيث دلت على أن توحيد الشخص لا يصح إلا إذا تبرأ من عبادة ما سوى الله .
من فوائد الآية :(1/56)
1- أن معنى لا إله إلا الله توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من عبادة كل ما سواه .
2- إظهار البراءة من دين المشركين .
3- أن أصل دين الأنبياء واحد وهو التوحيد .
4- الجهر بالحق من صفات المرسلين .
5- وجوب إنكار المنكر ولو على الأقربين .
6- يجب معاداة الكفار ولو كان أقرب قريب ، قال تعالى : ? لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم ... ? الآية .
فائدة :
أبو إبراهيم مات على الكفر ، واسمه آزر ، كما قال تعالى : ? وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة ... ?
وقال تعالى : ? وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ? لأنه قال : ? سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً ?
وقال تعالى : ? فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ?
م/ ( وقوله : ? اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ? ) التوبة ( 31 ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? اتخذوا ? أي جعلوا .
? أحبارهم ? هم العلماء .
? ورهبانهم ? العباد .
? أرباباً ? جمع رب ، أي يجعلونهم أرباباً من دون الله ، أي معبودين من دون الله .
? من دون الله ? من غير الله .
? والمسيح ابن مريم ? أي واتخذوا المسيح ابن مريم أيضاً رباً .
المعنى الإجمالي للآية :
هذه الآية فسرها النبي ( لعدي بن حاتم ، وذلك أنه لما جاء مسلماً دخل على رسول الله ( فقرأ عليه هذه الآية ، قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال : " بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " رواه أحمد والترمذي وحسنه .(1/57)
قال السدي : ( استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، ولهذا قال تعالى : ? وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ? فإن الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه الله ، والدين ما شرعه الله ) .
ـ دلت هذه الآية على أن من أطاع غير الله ورسوله ، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة ، في تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، وأطاعه في معصية الله ، واتبعه في ما لم يأذن به الله ، فقد اتخذه رباً ومعبوداً ، وجعله لله شريكاً ، وذلك ينافي التوحيد .
ـ قال شيخ الإسلام في معنى قوله ? اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ? : هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، يكون على وجهين :
أ- أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله ، فيتبعونهم على التبديل ، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل ، فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم .
ب- أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً ، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب ) .أ.ه
مناسبة الآية للترجمة :
حيث دلت الآية على أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله إفراد الله بالطاعة في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ، وأن من اتخذ شخصاً من دون الله يحلل ما أحل ويحرم ما حرم فهو مشرك .
من فوائد الآية :
1- أن طاعة غير الله في مخالفة أمر أحكام الله من الشرك بالله .
2- أن من أطاع مخلوقاً في تحليل الحرام وتحريم الحلال فقد اتخذه شريكاً لله .
3- أنه لا يعتبر العمل صالحاً إلا بشرطين : الإخلاص لله ، والمتابعة للرسول ( .
4- بيان انحراف اليهود والنصارى عن دينهم الصحيح .(1/58)
5- خطر العلماء الضالين على الأمة .
م / ( قوله : ? ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ? ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? من الناس ? : بعض الناس .
? يتخذ ? : يجعل .
? أنداداً ? : نظراء .
المعنى الإجمالي :
قال ابن كثير : ( يذكر الله تعالى حال المشركين في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة ، حيث جعلوا لله أنداداً : أي أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه ، ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ، ولا ضد له ولا ند له ) .
? كحب الله ? قال شيخ الإسلام في الفتاوى ( 7/188،187) :
( قوله ? ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ... ? فوصف الذين آمنوا بأنهم أشد حباً لله من المشركين لأندادهم ، وفي الآية قولان :
قيل / يحبونهم كحب المؤمنين لله ، والذين آمنوا أشد حباً لله منهم لأوثانهم .
وقيل / يحبونهم كما يحبون الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله منهم ، وهذا هو الصواب ، والأول قول متناقض وهو باطل ) .
ذكر عز وجل عن هؤلاء الكفار أنهم يحبون أندادهم كحب الله ، فدل هذا على أنهم يحبون الله حباً عظيماً ، ولم يدخلهم في الإسلام ، فكيف بمن أحب الندَّ حباً أكبر من حب الله ؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟!
مناسبة الآية للترجمة :
حيث دلت على أن معنى التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله هو : إفراد الله بأصل الحب الذي يستلزم إخلاص العبادة جميعها لله .
من فوائد الآية :
1- أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله إفراد الله تعالى بالمحبة المقتضية للذل والخضوع .
2- إثبات أن المشركين يحبون الله ، لكن مع هذا لم ينفعهم لوجود الشرك فيه .
3- نفي الإيمان عمَّن أشرك مع الله في المحبة .
قال ابن القيم : ( وههنا أربعة أنواع من المحبة يجب التفريق بينها ، وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها :(1/59)
أحدها / محبة الله ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ، فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله .
الثاني / محبة ما يحب الله ، وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر ، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة ، وأشدهم فيها .
الثالث / الحب لله وفيه ، وهي من لوازم محبة ما يحب الله .
الرابع / المحبة مع الله ، وهي المحبة الشركية ، وكل من أحب شيئاً مع الله ، لا لله ولا من أجله ولا فيه ، فقد تخذه ندّاً من دون الله ، وهذه محبة المشركين ) .
م / ( وفي الصحيح عن النبي ( أنه قال : " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حَرُم ماله ودمه وحسابه على الله عزَّ وجل " ) . رواه مسلم ( 25 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( حرم ماله ودمه ) أي مُنِع أخذ ماله وقتله بناء على ما ظهر منه .
( وحسابه على الله ) أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى أمر حسابه ، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم ، وإن كان منافقاً عذبه العذاب الأليم ، وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر .
ـ اعلم أن النبي ( علق عصمة المال والدم بأمرين :
الأول / قول لا إله إلا اله .
الثاني / الكفر بما يعبد من دون الله .
فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى ، بل لا بد من قولها والعمل بها .
المعنى الإجمالي للحديث :
قال المصنف : ( هذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله ، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه ، فيالها من مسألة ما أجلها ، وياله من بيان ما أوضحه ، وحجة ما أقطعها للمنازع ) . أ . ه
مناسبة الحديث للباب :(1/60)
أنه من أعظم ما يبين لا إله إلا الله ، وأنه الكفر بكل ما يعبد من دون الله .
من فوائد الحديث :
1- أن معنى لا إله إلا الله هو الكفر بما يعبد من دون الله من الأصنام والقبور وغيرها .
2- أن مجرد التلفظ بلا إله إلا الله مع عدم الكفر بما يعبد من دون الله لا يحرم الدم والمال ولو عرف معناها وعمل بها ما لم يضف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله .
3- أن من أتى بالتوحيد ولم يأتِ بما ينافيه ظاهراً ، والتزم شرائع الإسلام ، وجب الكف عنه .
4- فضيلة الإسلام ، حيث يعصم دم معتنقه وماله .
5- أن الحكم في الدنيا على الظاهر وأما في الآخرة فعلى النيات والمقاصد .
الباب السابع
من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما
لرفع البلاء أو دفعه
( من الشرك ) من هنا للتبعيض ، أي هذا من الشرك .
ولبس هذه الأشياء قد يكون شركاً أصغر وقد يكون أكبر بحسب اعتقاد لابسها .
وكان لبس هذه الأشياء من الشرك لأن كل من أثبت سبباً لم يجعله الله شيئاً شرعياً ولا قدرياً فقد أشرك بالله .
قال الشيخ السعدي رحمه الله في القول السديد : ولا بد في معرفة ثلاثة أمور في الأسباب :
أولاً : ألا يجعل منها سبباً إلا ما ثبت أنه سبب شرعاً أو قدراً .
ثانياً : ألا يعتمد العبد عليها ، بل يعتمد على مسببها ومقدرها مع قيامه بالمشروع منها ، وحرصه على النافع منها .
ثالثاً : أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره ، ولا خروج لها عنه .
( لبس الحلقة والخيط ) الحلقة : من حديد أو ذهب أو فضة . والخيط : معروف .
( ونحوهما ) كمن يضع شيئاً معيناً من نحاس أو غيره لدفع البلاء ، أو يعلق على نفسه شيئاً من أجزاء الحيوانات .
( لرفع البلاء ) إزالته بعد حصوله .
( أو دفعه ) منعه قبل نزوله .
ومن هنا بدأ المصنف في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله بذكر شيء مما يصاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر ، فإن الضد لا يعرف إلا بضده .(1/61)
كما قيل : بضدها تتبين الأشياء .
فمن لا يعرف الشرك لا يعرف التوحيد وبالعكس .
م / ( وقول الله تعالى : ? قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هنَّ كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هنّ ممسكات رحمته ، قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ? ) . { سورة الزمر 38 }
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
?أفرأيتم ? أخبروني
? ما تدعون ? تعبدون وتسألون .
? ضر ? مرض أو فقر أو بلاء .
? كاشفات ? مزيلات .
أمر الله نبيه ( أن يقول للمشركين : أرأيتم أي أخبروني عما تدعون من دون الله ، أي تعبدونهم وتسألونهم من الأنداد والأضداد والآلهة .
? إن أرادني الله بضر ? أي بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة .
? هل هنّ كاشفات ضره ? أي لا يقدرون على ذلك أصلاً .
? أو أرادني برحمة ? أي صحة وعافية وخير وكشف بلاء .
? هل هنّ ممسكات رحمته ? قال مقاتل : فسألهم النبي ( فسكتوا ، أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها ، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله ، لا لأنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر ، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده ، كما قال تعالى : ? ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ? وقد دخل في ذلك كل من دعي من دون الله ، من الملائكة والأنبياء والصالحين فضلاً عن غيرهم .
فلا يقدر على كشف ضر ولا إمساك رحمة ، كما قال تعالى : ? ما يفتح الله من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ? .
مناسبة الآية للترجمة :
( حيث دلت على أن دفع الضر من خصائص الله فيكون طلبه من غير الله كالحلقة والخيط ونحوهما شركاً .
من فوائد الآية :
1- في هذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله ، في جلب نفع أو دفع ضُر ، وأن ذلك شركٌ بالله .
2- التحذير من لبس الحلقة والخيط وغيرها لجلب النفع أو دفع الضر لأنه شرك .(1/62)
3- بطلان عبادة الأصنام .
4- أن كشف الضر وجلب النفع من خصائص الله عز وجل .
5- وجوب التوكل على الله ، والاكتفاء به عما سواه ، وهذا لا ينافي عمل الأسباب المشروعة .
وعن عمران بن حصين ( أن النبي ( رأى رجلاً وفي يده حلقة من صُفْر ، فقال : ( ما هذا ؟ ) قال : من الواهنة ، فقال :
( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً ، فإنك لو مُتَّ وهي عليك ما أفلحت أبداً ) . رواه أحمد بسند لا بأس به ( 4/445)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عمران بن حصين ) أي بن عبيد بن خلف الخزاعي ـ أو نُجَيد ـ صحابي بن صحابي ، أسلم عام خيبر ، ومات سنة 52ه بالبصرة .
( رأى رجلاً ) وفي رواية للحاكم ( دخلت على رسول الله ( وفي عضدي حلقة صفر ، فقال : ما هذه ؟ ... ) .
فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث .
( ما هذه ) يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها ، ويحتمل أن يكون للإنكار ، قال صاحب فتح المجيد : هو أظهر .
( فإنها من الواهنة ) قال أبو السعادات : الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها .
وقيل : هو مرضٌ يأخذ في العضد ، وهي تأخذ الرجال دون النساء .
وإنما نهاه عنها لأنه اتخذها على معنى أنها تعصمه من الألم .
( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً ) النزع : هو الجذب بقوة ، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفاً ، وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالباً ، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه .
( فإنك لو مُت وهي عليك ما أفلحت أبداً ) لأنه شرك في هذه الحال ، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة .
مناسبة الحديث للترجمة :
حيث دل الحديث على إنكار لبس الحلقة لدفع الضر ، لأن جلب النفع ودفع الضر من الأفعال الخاصة بالله ، وطلبها من غير الله شرك به .
من فوائد الحديث :
1- أن لبس الحلقة وغيرها للاعتصام بها من الأمراض من الشرك .
2- فيه استفصال المفتي .(1/63)
3- ينبغي لمن أراد إنكار المنكر أن يسأل أولاً عن الحال .
4- وجوب إزالة المنكر لقوله ( انزعها ) .
5- أن مراتب الإنكار تتفاوت ، فإذا نفع الكلام حرم التغليظ فيه .
6- النهي عن تعليق الحلق والخرز ونحوهما على المريض أو غيره .
7- التنبيه على النهي بالتداوي بالحرام ، وروى أبو داود بإسناد حسن والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعاً في حديث :
( تداووا ولا تداووا بحرام ) .
8- أن الأسباب التي لا أثر لها بمقتضى الشرع أو العادة أو التجربة لا ينتفع بها الإنسان .
9- أن الحرام لا ينفع في الأصل وإن نفع في بعض فمضرته أكبر .
10- أن لبس الحلقة وشبهها لدفع البلاء أو رفعه من الشرك .
11- أن الأعمال بالخواتيم لقوله : ( لو مت وهي عليك ) فعُرف أنه لو أقلع عنها قبل موته لم تضره .
12- أن المسلم إذا فعل ذنباً أُنكر عليه فتاب منه فإن ذلك لا ينقصه ، وأنه ليس من شرط أولياء الله عدم الذنوب
فائدة :
فإن قيل : كيف قال الرسول ( ( لا تزيدك إلا وهناً ) وهي ليس لها تأثير ؟
قال الشيخ محمد رحمه الله : ( لا تزيدك إلا وهناً أي وهناً في النفس لا في الجسم ، وربما تزيده وهناً في الجسم ، أما وهن النفس فلأن الإنسان إذا تعلقت نفسه بهذه الأمور ضعفت واعتمدت عليها ونسيت الاعتماد على الله ، والانفعال النفسي له أثر كبير في إضعاف الإنسان ... ) أ . ه
م / وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً : ( من تعلّق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودَعة فلا ودَع الله له ) . وفي رواية : ( من تعلق تميمة فقد أشرك ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عقبة بن عامر ) هو الجهني صحابي مشهور ، مات قريباً من الستين .
( من تعلق تميمة ) علقها على نفسه أو أحد من ولده .
والتمائم : قال أبو السعادات : التمائم جمع تميمة ، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم ، يتقون بها العين في زعمهم .(1/64)
( فلا أتم الله له ) دعاء عليه بأن الله لا يتم أموره .
( ودعة ) هو شيء يستخرجونه من البحر يشبه الصدف ، يعتقدون أنه يشفي من العين .
( فلا ودَع الله له ) أي لا جعله في دَعة وسكون .
( من تعلق تميمة فقد أشرك ) قال أبو السعادات : إنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم ، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث أن تعليق التميمة معتقداً فيها النفع شرك ، لأن جلب النفع ودفع الضر من الأفعال الخاصة بالله
من فوائد الحديث :
1- نفي النفع المعتقد في التميمة والودعة .
2- جواز الدعاء على العصاة على سبيل العموم .
3- أن التميمة نوع من الشرك .
4- الوعيد الشديد لمن فعل ذلك ، فإنه مع كونه شركاً ، فقد دعا عليه رسول الله ( بنقيض مقصوده .
م/ ولابن أبي حاتم عن حذيفة : ( أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمَّى فقطعه وتلا قوله : ? وما يؤمن أكثرهم إلا وهم مشركون ? ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ابن أبي حاتم ) هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، محمد بن إدريس الرازي ، الحافظ , مات سنة ( 327ه ) .
( حذيفة ) هو ابن اليمان حليف الأنصار ، صحابي جليل من السابقين ، ويقال له صاحب السر ، وأبوه أيضاً صحابي ، مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ( 36ه ) .
( رجلاً في يده خيطاً من الحمَّى ) أي من أجل الحمَّى لدفعها ، وكان الجهال يعلقون لذلك التمائم والخيوط ونحوها .
وروى وكيع عن حذيفة ( أنه دخل على مريض يعوده ، فلمس عضده فإذا فيه خيط ، فقال : ما هذا ؟ قال : شيء رُقي لي فيه ، فقطعه وقال : لو مت وهو عليك ما صليت عليك ) .
( فقطعه ) أي قطع الخيط ثم تلا قوله : ? وما يؤمن أكثرهم إلا وهم مشركون ? .
معنى الأثر إجمالاً :(1/65)
أن حذيفة بن اليمان أبصر رجلاً قد ربط في عضده خيطاً يتقي به مرض الحمى فأزاله عنه منكراً فعله هذا ، واستدل حذيفة بالآية على أن هذا شرك أي أن كثيراً من الناس يكون مؤمناً بالله ولكن يخلط إيمانه بالشرك .
مناسبة الأثر للباب :
أن فيه اعتبار لبس الخيط لدفع المرض شركاً يجب إنكاره .
من فوائد الأثر :
1- أن اتخاذ الخيط ونحوه لدفع الضر شرك .
2- فيه إزالة المنكر باليد ولو لم يأذن صاحبه .
3- وجوب إنكار المنكر .
4- أن الشرك يوجد في هذه الأمة .
5- عمق فهم الصحابة وسعة علمهم .
6- أن قلب الشخص قد يجتمع فيه الإيمان والشرك .
الباب الثامن
( ما جاء في الرقى والتمائم )
أي في حكمها ، ولما كانت الرقى على ثلاثة أقسام : قسم يجوز ، وقسم لا يجوز ، وقسم في جوازه خلاف ، لم يجزم المصنف بكونها من الشرك ، لأن في ذلك تفصيلاً بخلاف لبس الخيط ونحوهما لما ذكر ، فإن ذلك شرك مطلق .
م/ في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري ( : ( أنه كان مع رسول الله ( في بعض أسفاره ، فأرسل رسولاً أن لا يبقيَّن في رقبة بعير قلادة من وتر ، أو قلادة إلا قطعت ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( في الصحيح ) الحديث في الصحيحين .
(عن أبي بشير الأنصاري ) اسمه قيس بن عبيد ، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين .
( في بعض أسفاره ) قال الحافظ : لم أقف على تعيينها .
السفر : مفارقة محل الإقامة ، وسمِّي سفراً لأمرين :
1. لأنه يسفر ويظهر كل غريب .
2. ولأنه يسفر عن أخلاق الرجال .
( فأرسل رسولاً ) هو زيد بن حارثة ، وروى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، قاله الحافظ .
( قلادة من وتر ) الوتر : واحد أوتار القوس ، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره ، وقلدوا به الدواب ، اعتقاداً منهم أنه يدفع عن الدابة العين .(1/66)
قال البغوي في شرح السنة : ( تأول مالك أمره ( بقطع القلائد على أنه من أجل العين ، وذلك أنهم كانوا يشدُّون بتلك الأوتار التمائم والقلائد ، ويعلقون عليها العوذ ، يظنون أنها تعصم من الآفات ، فنهاهم النبي ( عنها ، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئاً ) .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : ( كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين ، فأمرهم النبي ( بإزالتها إعلاماً لهم بأن الأوتار لا ترد شيئاً ، وكذلك قال ابن الجوزي وغيره ) .أ. ه
المعنى الإجمالي للحديث :
أن النبي ( بعث في بعض أسفاره من ينادي في الناس بإزالة القلائد التي في رقاب الإبل التي يراد بها دفع العين ودفع الآفات لأن ذلك من الشرك الذي تجب إزالته .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم تعليق القلائد لدفع الضرر .
من فوائد الحديث :
1- أن تعليق الأوتار لدفع الآفات في حكم التمائم في التحريم .
2- أنه ينبغي لكبير القوم أن يكون مراعياً لأحوالهم فيتفقدهم وينظر في أحوالهم .
3- أنه يجب عليهم رعايتهم بما تقتضيه الشريعة ، فإذا فعلوا محرماً منعهم منه ، وإن تهاونوا في واجب حثهم
عليه.
4- أنه لا يجوز أن تعلق في أعناق الإبل أشياء تجعل سبباً في جلب منفعة أو دفع مضرة ، وهي ليست كذلك لا
شرعاً ولا قدراً لأنه شرك .
5- ولا يلزم أن تكون القلادة في الرقبة بل لو جعلت في اليد أو الرجل فلها حكم الرقبة .
6- وجوب إنكار المنكر .
7- نائب الإمام يقوم مقامه فيما أسند إليه .
م/ وعن ابن مسعود ( قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شرك ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( الرقى ) ، مباحث في الرقية :
تعريفها : قال في لسان العرب : الرقية العوذة .
وقال ابن الأثير : الرقية العوذة التي يرقى بها أصحاب الآفة كالحمّى والصرع وغير ذلك من الآفات .
أنواعها : 1. رقى شرعية . 2. رقى شركية .(1/67)
أولاً : الرقى الشرعية :
ما كان خالياً من الشرك ، بأن يقرأ على المريض شيء من القرآن أو يعوذ بأسماء الله وصفاته ، فهذا مباح .
قال الإمام السيوطي : قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط :
1. أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته .
2. أن تكون الرقى باللسان العربي وما يُعرف معناه .
3. أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها ، بل بتقدير الله تعالى .
قال ابن حجر في الفتح : قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع هذه الشروط .
مشروعية الرقية :
- النبي ( رقى ورُقي وأمر بالرقية وأجازها .
عن جابر ( قال : كان خالي يرقي من العقرب فنهى رسول الله ( عن الرقى ، قال : فأتاه فقال : يا رسول الله ، إنك نهيت عن الرقى وأنا أرقي من العقرب ، فقال : ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ) . رواه مسلم
وعن جابر قال : كان أهل بيت من الأنصار يقال لهم آل عمرو بن حزم ، يرقون من الحمة ، وكان رسول الله ( قد نهى عن الرقى ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله ، إنك قد نهيت عن الرقى ، وإنا نرقي من الحمة ، فقال لهم : ( اعرضوا علي ) ، فعرضوها عليه فقال : ( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً ) . رواه مسلم
- استحباب رقية المريض ، ورقية النبي ( :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله ( إذا اشتكى منَّا إنسان مسحه بيمينه ثم قال : ( أذهب البأس رب الناس ، واشفِ أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سقماً ) . رواه مسلم
وعن عثمان بن أبي العاص ( أنه اشتكى إلى رسول الله ( وجعاً يجده في جسده منذ أسلم ، فقال له رسول الله ( : ( ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاثاً ، وقل سبع مرّات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ) . رواه مسلم(1/68)
وعن ابن عباس ( أن النبي ( كان يعوذ الحسن والحسين : ( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ويقول : ( إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق ) . رواه البخاري
الرقية من العين :
قد دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي ( على الرقية من العين ، ومنها :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( أمرني رسول الله ( أو أمر أن نسترقي من العين ) . متفق عليه
حديث ابن عباس السابق .
عن عمران بن حصين ( أن رسول الله ( قال : ( لا رقية إلا من عين أو حُمَة ) . رواه أحمد وأبو داود
معنى الحديث : أي لا رقية أولى وأنفع منها .
رقية العين :
* ( بسم الله أرقيك من كل داءٍ يؤذيك ، ومن شر كل نفس أوعين حاسد الله يشفيك ، بسم الله أرقيك ) . رواه مسلم
* ( بسم الله يبريك ، من كل داءٍ يشفيك ، ومن كل سر حاسد إذا حسد ، ومن كل ذي عين ) . رواه مسلم
* القراءة على الإناء كالمائعات ، ثم يتناوله المريض .
اختلف العلماء :
1. لا يجوز ، لأنها لم ترد .
2. أنها تجوز .
أ) ـ لعموم قوله تعالى : ? وننزل من القرآن ما هو شفاء ? .
ب) ـ حديث أم سلمة : ( أنها كانت عندها جلجل من فضة فيه شعيرات للرسول ( ، فكانت
إذا جاء المريض تضع الشعرات في الماء للاستشفاء ) .
فإذا كانت أبعاض الرسول ( مباركة يستشفى بها فكذلك القرآن .
ج) عند أبي داود في الطب : ( أن الرسول ( قرأ في إناء وصبه على مريض ) .
وهذا القول هو الصحيح .
الوسائل الشرعية لدفع العين :
[1] ـ أحسنها القراءة .
قال ( : ( لا رقية إلا من عين أو حُمَة ) .
وعن أم سلمة زوج النبي ( : ( أن رسول الله ( قال لجارية في بيت أم سلمة ، رأى بوجهها سَفْعَة فقال : " بها نظرة فاسترقوا لها " ) . متفق عليه
[2] ـ الاغتسال من ماء العائن :
وهذا أفضل علاج للعين ، فإذا اغتسل العائن أتي بالماء الذي اغتسل به ويصب على رأس المصاب .(1/69)
دليله : عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال : والله ما رأيت كاليوم ، ولا جلد مخبأة ، قال : فلبط سهل فأتي رسول الله ( فقيل له : يا رسول الله ، هل لك في سهل بن حنيف ، والله ما يرفع رأسه ؟ فقال : ( هل تتهمون له أحداً ؟ ) قالوا : نتهم عامر بن ربيعة ، قال : فدعا رسول الله ( عامراً ، فتغلظ عليه فقال : ( علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا برّكت ؟ اغتسل له ) فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب عليه ، فراح مع الناس ليس به بأس . رواه مالك وأحمد
قالت عائشة : ( كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين ) . رواه أبو داود
وهذا الاغتسال واجب عند بعض العلماء ، لأن النبي ( قال : ( إذا استغسلتم فاغسلوا ) . رواه مسلم
[3] ـ التعوذ عليه :
كما كان الرسول ( يعوذ الحسن والحسين .
ثانياً : الرقى الشركية :
وهي التي يستعان فيها بغير الله ، من دعاء غير الله والاستغاثة والاستعاذة به ، كالرقى بأسماء الجن ، أو بأسماء الملائكة والأنبياء والصالحين .
فهذا دعاء لغير الله وهو شرك أكبر ، أو يكون بغير اللسان العربي ، أو بما لا يُعرف معناه ، لأنه يخشى أن يدخلها كفر أو شرك ولا يعلم عنه ، فهذا النوع من الرقية ممنوع .
( والتمائم شرك ) التمائم : جمع تميمة ، وهي خرز أو قلادة في الرأس ، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات .
أنواعها : وهي على نوعين :
1. التي تعلق على الأشخاص ما كان من غير القرآن ، كالخرز والعظام والودع والخيوط والنعال والمسامير وأسماء الشياطين والجن والطلاسم ، فهذا محرم قطعاً ، وهو من الشرك لأنه تعلق بغير الله ، وفي الحديث : ( من تعلق شيئاً وكل إليه ) . رواه أحمد
وبعض الناس يعلق هذه الأشياء على نفسه أو سيارته أو باب بيته أو أولاده ، زعماً منه أنها تدفع العين والحسد ، وهذا كله لا يجوز .(1/70)
2. ما كان من القرآن ـ كأن يكتب آيات من القرآن ـ أو من أسماء الله وصفاته وتعليقها للاستشفاء بها .
فهذا النوع قد اختلف العلماء في حكم تعليقه على قولين :
القول الأول : الجواز : وهو قول جماعة من الصحابة ، منهم : عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو ظاهر ما روي عن عائشة وبه قال أبو جعفر الباقر ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه . الأدلة :
عموم قوله تعالى : ? ونُنَزل من القرآن ما هو شفاء ? .
وحملوا الحديث الوارد في المنع من التعليق على التمائم التي فيها شرك .
القول الثاني :المنع من ذلك : وهو قول جماعة من الصحابة ، منهم : ابن مسعود ، وابن عباس ، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم ، وبه قال جماعة من التابعين ، منهم : أصحاب ابن مسعود ، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه .
ورجح هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب صاحب فتح المجيد ، حيث قال : وهذا هو الصحيح ص244 .
ورجح هذا القول الشيخ بن باز ، والشيخ الألباني ، والشيخ ابن عثيمين .
لحديث ابن مسعود قال : ( سمعت رسول الله ( يقول : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " ) . رواه أحمد
وهذا القول هو الصحيح لوجوه ثلاثة :
الوجه الأول : عموم النهي ولا مخصص للعموم .
الوجه الثاني : سد الذريعة ، فإنها تفضي إلى تعليق ما ليس مباحاً .
الوجه الثالث : أنه إذا علق شيئاً من القرآن فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك .
( والتولة ) قال المصنف : هو شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والزوج إلى امرأته ، وبهذا فسره ابن مسعود راوي الحديث ، كما في صحيح ابن حبان والحاكم : ( قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما ، فما التولة ؟ قال : شيء يصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن ) .(1/71)
قال الحافظ : التولة شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها ، وهو ضرب من السحر ، وإنما كان ذلك من الشرك ، لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله .
من فوائد الحديث :
1- تحريم الرقى ، وأنها من الشرك إلا ما كان منها مشروعاً .
2- تحريم التمائم ، وأنها من الشرك .
3- تحريم التولة ، وأنها من الشرك .
م / وعن عبد الله بن عُكيْم مرفوعاً : ( من تعلق شيئاً وُكِلَ إليه )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( من تعلق ... ) التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل ، ويكون بهما جميعاً ، أي : من تعلق شيئاً بقلبه ، أو تعلقه بقلبه وفعله وُكِلَ إليه ، أي : وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه ، فمن تعلقت نفسه بالله وأنزل حوائجه بالله ، والتجأ إليه وفوّض أمره كله إليه ، كفاه كل مؤنه ، وقرب إليه كل بعيد ، ويسر له كل عسير ، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه ، واعتمد على حوله وقوته ، وكله الله إلى ذلك وخذله ، وهذا معروف بالنصوص والتجارب .
قال تعالى : ? ومن يتوكل على الله فهو حسبه ? .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل على تحريم طلب النفع من غير الله تعالى .
من فوائد الحديث :
1- التحذير من التعلق على غير الله في جلب المنافع ودفع المضار .
2- وجوب التوكل على الله ، وهذا لا ينافي فعل الأسباب .
3- خذلان من انصرف عن الله وطلب النفع من غيره .
4- بيان مضرة الشرك وسوء عاقبته .
5- أن الجزاء من جنس العمل .
6- أن نتيجة العمل ترجع إلى العامل خيراً أو شراً .
م / وروى أحمد عن رويفع قال : قال لي رسول الله ( : ( يا رُويفع ، لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمداً بريء منه )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/72)
( لعل الحياة تطول بك ) فيه علم من أعلام النبوة ، فإن رويفعاً طالت حياته إلى سنة ست وخمسين ، فمات ببرقة من أعمال مصر أميراً عليها ، وهو من الأنصار .
( فأخبر الناس ) دليل على وجوب إخبار الناس بذلك على رويفع ، وليس هذا مختصاً به ، بل كل من كان عنده مما ليس عند غيره مما يحتاج الناس إليه ، وجب عليه تبليغه للناس ، وإعلامهم به .
( من عقد لحيته ) قال الخطابي : وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يُفسَّر على وجهين :
أحدهما / ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب ، كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم ، وذلك زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها .
ثانيها / أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجمد ، وذلك من فعل أهل الوضيع والتأنيث .
( تقلد وتراً ) أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته ، يزعمون أنه يبعد العين .
قال في فتح المجيد : ( فإذا كان هذا فيمن تقلد وتراً فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات ، وما يترتب على ذلك من العبادة التي لا يستحقها إلا رب الأرض والسماوات الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات ) . أ . ه
( واستنجى برجيع دابة أو عظم ) استنجى : إزالة أثر الخارج من السبيلين .
رجيع دابة : روثها .
( فإن محمداً بريء منه ) فيه وعيد شديد وليس معناه أنه مشرك .
المعنى الإجمالي للحديث :
يخبر ( أن هذا الصحابي سيطول عمره حتى يدرك أناساً يخالفون هديه ( في اللحى الذي هو توفيرها وإكرامها إلى العبث بها على وجه يتشبهون فيه بالأعاجم أو بأهل الترف والميوعة أو يرتكبون ما نهى عنه نبيهم من الاستجمار بروث الدواب والعظام فأوصى النبي ( صاحبه أن يبلغ الأمة أن نبيها يتبرأ ممن يفعل شيئاً من ذلك .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم تعليق الوتر لدفع الضرر .
من فوائد الحديث :
1- معجزة النبي ( حيث طال عمر رُويفع كما أخبر .
2- تحريم عقد اللحية .
3- تحريم تقلد الوتر .(1/73)
4- النهي عن الاستنجاء بالرجيع أو العظم ، وقد ورد في ذلك أحاديث ، منها ما رواه مسلم عن ابن مسعود مرفوعاً : ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن ) .
5- أن هذه الجرائم المذكورة من الكبائر .
وكل ذنب قرن بالبراءة من فاعله فهو من كبائر الذنوب .
م / وعن سعيد بن جبير قال : ( من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة ) . رواه وكيع
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( كعدل رقبة ) أي كان له مثل ثواب من أعتق رقبة .
هذا عند أهل العلم له حكم الرفع ، لأن مثل ذلك لا يُقال بالرأي .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : ( وفي الحديث فضل قطع التمائم وأنه كعدل رقبة ، لأنه سيخلص هذه الرقبة من النار ومن الشرك ، فيكون أفضل من عتق الرقبة ) .
من فوائد الأثر :
1- فيه فضل قطع التمائم لأن ذلك من إنكار المنكر وتخليص الناس من الشرك .
2- فضل إنكار المنكر .
3- تحريم التميمة .
4- فضل إعتاق الرقبة .
5- تحريم السلف للتمائم .
6- حرص السلف على صيانة العقيدة عن الخرافات .
الباب التاسع
( من تبرك بشجر أو حجر أو نحوهما )
( تبرك ) أي طلب البركة ورجاها واعتقدها .
( ونحوهما ) كبقعة وغار وعين وقبر ونحو ذلك كما يعتقد كثير من عباد القبور وأشباههم أن فيه البركة فيقصدونه رجاء البركة .
م / ( وقول الله تعالى : ? أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى . تلك إذاً قسمة ضيزى ? ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? أفرأيتم ? أخبروني .
? اللات ? قرأها الجمهور بتخفيف التاء ، وعلى هذا سمّوا اللات من الإله ، والعزى من العزيز .
قال ابن جرير : كانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى ، فقالوا : اللات مؤنثة منه تعالى الله عما يقولون علوّاً كثيراً .(1/74)
قال ابن كثير : اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة ، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تبعها ، يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش .
قال ابن هشام : وبعث رسول الله ( المغير بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار .
وقرأ ابن عباس ( اللات ) بتشديد التاء .
وعلى الثانية : قال ابن عباس : كان رجلاً يلت السويق للحجاج ، فلما مات عكفوا على قبره . ذكره البخاري ( 6118 )
ولا منافاة بين القولين ، والجمع بينهما : أن الصخرة قريبة من القبر فشملها البناء فصار معبوداً واحداً .
? العزى ? قال ابن جرير : كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، بين مكة والطائف ، كانت قريش يعظمونها ، كما قال أبو سفيان يوم أحد : لنا عزى ولا عزى لكم ، فقال رسول الله ( : ( قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ) .
? ومناة ? كانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها .
قال البخاري : في حديث عروة عن عائشة أنها صنم بين مكة والمدينة ، وأصل اشتقاقها من اسم الله المنان ، وقيل لكثرة ما يُمن ـ أي يراق ـ عندها من الدماء للتبرك بها .
معنى الآية : كما قال القرطبي :
أن بها حذفاً تقديره : أتجعلون له ولداً ، وتجعلون ولده الأنثى ، وتختارون لكم الذكور .
? تلك إذاً قسمة ضيزى ? أي جور وباطلة ، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً ، فتنزهون أنفسكم عن الإناث وتجعلونهن لله تعالى .
المعنى الإجمالي للآية :
يحاج تعالى المشركين في عبادتهم ما لا يعقل من هذه الأوثان الثلاثة ماذا أجدتهم ويوبخهم على دورهم في القسمة حيث نزهوا أنفسهم عن الإناث وجعلوها لله .
مناسبة الآية للترجمة :
من جهة أن عباد الأوثان كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجون منها ويأملونه ببركتها وشفاعتها وغير ذلك .(1/75)
فالتبرك بقبور الصالحين ـ كاللات ـ وبالأشجار والأحجار ـ كالعزى ومناة ـ من فعل جملة أولئك المشركين مع تلك الأوثان ، فمن فعل مثل ذلك أو اعتقد في قبر أو حجر أو شجر ، فقد ضاهى عبّاد هذه الأوثان فيما يفعلونه معها من هذا الشرك .
من فوائد الآية :
1- دلت الآية أن عبادة المشركين لهذه الأوثان إنما كانت لطلب النفع ودفع الضر ، فكل من تبرك بشجر أو قبر أو عبد أو غير ذلك ، قاصداً بذلك جلب النفع أو دفع الضرر فقد شابههم ودخل في شركهم .
2- أن التبرك بالأشجار والأحجار شرك .
3- وجوب إنكار المنكر .
4- بطلان عبادة الأوثان .
5- وجوب تنزيه الله عن البنين والبنات .
6- فساد الفطرة عند المشركين ، حيث أضافوا البنات إلى الله مع كراهيتهم لها .
م/ عن أبي واقد الليثيّ قال : ( خرجنا مع رسول الله ( إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط ، فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله ( : " الله أكبر ، إنها السَّنن ، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ? اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قومٌ تجهلون ? لتركبنّ سُنن من كان قبلكم " ) . رواه الترمذي وأحمد
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( أبو واقد ) : اسمه الحارث بن عوف ، صحابي مشهور ، مات عام 68ه .
( مع رسول الله ( إلى حنين ) أي بعد غزوة الفتح ، لأن النبي ( لما فتح مكة تجمعت له ثقيف وهوازن بجمع عظيم .
( ونحن حدثاء عهد بكفر ) أي قريبون عهدٍ بكفر .
* ففيه دليل على أن غيرهم ممن تقدمه إسلامه من الصحابة لا يجهل ذلك .
( يعكفون عندها ) العكوف : هو الإقامة على الشيء في المكان ، ومنه قول الخليل ( : ? ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ?
( ينوطون بها أسلحتهم ) أي يعلقونها عليها للبركة .(1/76)
( اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ) أي سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركاً بها ، ونعكف حواليها ، ظنّوا أن هذا أمر محبوب عند الله فقصدوا التقرب إلى الله بذلك وإلا فهم أجل قدراً من أن يقصدوا مخالفة النبي ( .
( الله أكبر ) وفي رواية ( سبحان الله ) كبّر ( تعظيماً لهذا الطلب ، أي استعظاماً له ، وتعجباً لا فرحاً به .
( إنها السُنن ) بضم السين ، أي الطرق .
( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى ? اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ? ) أي أن الرسول ( قاس ما قاله الصحابة رضي الله عنهم على ما قاله بنو إسرائيل لموسى حين قالوا ? اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ? فأنتم طلبتم ذات أنواط كما أن لهؤلاء المشركين ذات أنواط .
( لتركبن سنن من كان قبلكم ) أي لتفعلنّ مثل فعلهم ولتقولنّ مثل قولهم .
وهذه الجملة لا يراد بها الإقرار وإنما يراد بها التحذير .
وهذا خبر صحيح ، والواقع من كثير هذه الأمة يشهد لها .
المعنى الإجمالي للحديث :
يخبر أبو واقد عن واقعة وهي أنهم غزوا مع رسول الله ( قبيلة هوازن وكان دخولهم في الإسلام غريباً فخفي عليهم أمر الشرك ، فلما رأوا ما يصنع المشركون من التبرك بالشجرة طلبوا من الرسول ( أن يجعل لهم شجرة مثلهم فكبر النبي ( استنكاراً وتعظيماً لله وتعجباً من هذه المقالة ، وأخبر أن هذه المقالة تشبه مقالة قوم موسى له لما رأوا من يعبد الأصنام ( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) ، ثم أخبر ( أن هذه الأمة ستتبع طريق اليهود والنصارى ، وتسلك مناهجهم .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن اتخاذ الأشجار للتبرك والعكوف عندها شرك ، فيدخل فيه كل ما يتبرك به من شجر أو حجر أو قبر أو غير ذلك .
من فوائد الحديث :
1- أن التبرك بالأشجار شرك ، ومثلها الأحجار وغيرها .
2- وفيه أن المتنقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة .(1/77)
3- فيه تكبير الله وتنزيهه عند التعجب أو ذكر الشرك .
4- وفيه علم من أعلام النبوة ، من حيث أنه وقع كما أخبر النبي ( .
5- النهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد ( .
6- أن نفي التبرك بالأحجار ونحوها من معنى ( لا إله إلا الله ) ، فإن ( لا إله إلا الله ) تنفي كل إله سوى الله .
7- أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ، ولهذا جعل طلبهم كطلب بني إسرائيل ولم يلتفت إلى كونهم سمّوها ذات أنواط .
8- أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافاً لمن ادعى خلاف ذلك .
9- وفيه الغضب عند التعظيم .
10- استحباب إظهار ما يدفع الغيبة حيث قال : ( ونحن حدثاء عهدٍ بكفر ) .
11- صعوبة انتزاع العادات من نفوس البشر .
12- يعذر الجاهل بجهله إذا ارتدع بعد العلم .
13- وجوب سد الذرائع .
14- جواز الحلف على الفتيا .
15- جواز الحلف بدون استحلاف لمصلحة .
مبحث في التبرك وأنواعه :
التبرك على قسمين :
1. تبرك مشروع .
2. تبرك باطل .
أولاً / التبرك المشروع . وله ثلاث أنواع :
1. التبرك بالأقوال والأفعال والهيئات :
فهناك أقوال وأفعال وهيئات إذا جاء بها المسلم ملتمساً للخير والبركة حصل له ما أراد إذا اتبع بذلك السنة ولم يكن في ذلك مانع ، فمن هذه الأقوال :
ذكر الله : عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال : ( إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون حِلق الذكر ... وفيه أن الله تعالى يقول : أُشْهدكم أني قد غفرت لهم قال : يقول ملك من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة ، قال : هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم ) . رواه البخاري
ومن بركات القرآن أن الحرف الواحد بعشر حسنات ، وأنه شفاء للناس وهدى ورحمة ، قال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ? .(1/78)
ومن الأفعال التي تكون سبباً للبركة طلب العلم وتعلمه ، فمن بركاته : الرفعة في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك أداء الصلاة جماعة مع المسلمين ، فمن بركة ذلك مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات .
ومن الهيئات : الاجتماع على الطعام ، قال ( : ( اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه ) .
رواه أحمد وأبو داود
وكذلك الأكل من جوانب القصعة ، قال ( : ( البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطها ) . رواه أحمد وأبو داود .
وكذلك لعق الأصابع ، فقد أمر الرسول ( بلعق الأصابع وقال : ( فإنه لا يدري في أيتهنّ البركة ) . أخرجه أحمد
2. التبرك بالأمكنة :
هناك أمكنة جعل الله فيها البركة إذا تحقق في العمل الإخلاص والمتابعة ، فمن هذه الأماكن : المساجد ، والتماس البركة فيها يكون بأداء الصلاة فيها ، ومن المساجد ما يكون له مزيّة وزيادة في البر كالمسجد الحرام : جاء في الصحيحين عن أبي هريرة ( أن النبي ( قال : ( صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) .
وعند ابن ماجه عن جابر قال : قال ( : ( صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ) .
وفضل الصلاة في المسجد الحرام لا يختص بالفريضة ، بل يعم الفرض والنفل جميعاً على الصحيح .
وهذا الثواب العظيم من أعظم البركات التي شرف الله بها هذا المسجد الحرام .
المسجد النبوي : فالصلاة فيه بألف صلاة مما سواه كما سبق في حديث أبي هريرة السابق .
المسجد الأقصى : والصلاة فيه بخمسمائة صلاة .
عن أبي الدرداء قال : قال النبي ( : ( صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة ) قال البزار : إسناده حسن .(1/79)
مسجد قباء : عن ابن عمر ( قال : ( كان رسول الله ( يأتي قباء راكباً وماشياً ) وفي رواية : ( فنصلي فيه ركعتين ) . متفق عليه
وعن سهل بن حنيف أن رسول الله ( قال : ( من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه صلاة ، كان كأجر عمرة ) . رواه أحمد والنسائي
ومن الأمكنة المباركة : مكة والمدينة والشام .
قال رسول الله ( : ( إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ) .
وقال ( في المدينة : ( اللهم اجعل في المدينة ضعف ما جعلت بمكة من البركة ) . متفق عليه
وقال ( : ( من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح بالماء ) . متفق عليه
وقال ( : ( من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت ، فإني أشفع لمن يموت بها ) . رواه الترمذي
وقال ( : ( طوبى للشام ، فقلنا : لأي شيء ذلك ؟ فقال : لأن ملائكة الرحمة باسطة أجنحتها عليه ) . رواه الترمذي
فمن سكن مكة أو المدينة أو الشام طلباً لما فيها من البركة التي أخبر عنها النبي ( فقد وفق إلى خير كثير ، بخلاف ما لو طلب التبرك بجدرانها وترابها وأشجارها وغير ذلك مما لم يرد به الشرع ، فإنه بدعة .
3. التبرك بالأزمنة :
هناك أزمنة خصها الله بزيادة فضل وبركة ، مثل شهر رمضان وليلة القدر والعشر الأول من شهر ذي الحجة ، ويوم الجمعة ... الخ .
ثانياً / التبرك الباطل :
1. التبرك بالأماكن المباركة على غير ما ورد في الشرع ، كتقبيل أبواب المساجد والتمسح بأعتابها ، والاستشفاء بتربتها ، والتمسح بجدران الكعبة أو مقام إبراهيم .
ومن ذلك أيضاً : الذهاب إلى القبور لا بقصد الزيارة ، وإنما لقصد الدعاء عندها لأجل بركتها ، واعتقاد أن الدعاء عندها أفضل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين تبركاً بالصلاة في تلك البقعة ، فهذا عين المحادّة لله ورسوله ، والمخالفة لدينه ، وابتداع دين لم يأذن به الله ) .(1/80)
وقال ابن القيم : ( ليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني ) . أ.ه
2. ومن التبرك الباطل تخصيص أزمنة معينة بنوع من التعظيم والاحتفالات والعبادات ، كيوم الرسول ( ويوم الهجرة .
أدلة عدم شرعية التبرك والاحتفال بالمولد النبوي :
* هذا العمل ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ، ولم يفعله السلف الصالح .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن اتخاذ مولد النبي ( عيداً : ( إن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع فيه لو كان خيراً ، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحق به منّا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله ( وتعظيماً له منّا ، وهم على الخير أحرص ) . أ.ه
وقال الإمام تاج الدين الفاكهاني رحمه الله : ( لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين والمتمسكون بآثار المتقدمين ) .
* يعتبر هذا العمل من البدع المحدثة في الدين .
* أن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً فيه تشبه بأهل الكتاب في أعيادهم الذين نهينا عن التشبه بهم
وتقليدهم .
3. من التبرك الباطل التبرك بذوات الصالحين ، وهذا فيه مباحث :
أولاً / التبرك بالنبي ( :
إن مما لا شك فيه أن نبينا ( مبارك في ذاته وآثاره كما كان مباركاً في أفعاله ( ، وهذا مما أكرم الله تعالى به أنبياءه ورسله جميعاً عليهم الصلاة والسلام .
ولهذا فإن صحابة الرسول ( ورضي الله عنهم تبركوا بذاته ( وبآثاره الحسيّة المنفصلة منه ( في حياته ، وأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم ، ثم إنهم رضي الله عنهم تبركوا ومن بعدهم من سلف هذه الأمة الصالح بآثار الرسول ( بعد وفاته ، مما يدل على مشروعية هذا التبرك .
ثانياً / نماذج من تبرك الصحابة بالرسول ( في حياته :(1/81)
عن أنس بن مالك ( أنه قال : ( كان رسول الله ( إذا صلى الغداة جاءه خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء ، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها ، فربما جاءوه بالغداة الباردة فيغمس يده فيها ) . رواه مسلم
وعن أبي صحيفة ( قال : ( خرج رسول الله ( بالهاجرة إلى البطحاء ، فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين ... وفيه ... وقام الناس فجعل يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم ، قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك ) . رواه البخاري
وعن أنس بن مالك ( قال : ( لقد رأيت رسول الله ( والحلاق يحلقه ، وأطاف به أصحابه ، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل ) . رواه مسلم
وجاء في صحيح البخاري في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود ( قال عن أصحاب النبي ( : ( فوالله ما تنخم رسول الله ( نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فَدَلَكَ بها وجهه وجلده ) .
ثالثاً / هل يقاس عليه ( غيره من الصالحين ؟
ذهب بعض العلماء إلى قياس الصالحين على الرسول ( في جواز التبرك بذواتهم وآثارهم .
والصحيح أنه لا يجوز ، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غير النبي ( ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه .
قال الإمام ابن رجب في معرض سياقه للنهي عن المبالغة في تعظيم الأولياء والصالحين : ( وكذلك التبرك بالآثار فإنما كان يفعله الصحابة مع النبي ( ، ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم ... ولا يفعله التابعون مع الصحابة ، مع علوّ قدرهم ، فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي ( ) . أ.ه(1/82)
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ تعليقاً على قول بعض شرّاح الحديث ( لا بأس بالتبرك بآثار الصالحين ) إذا مرّوا بذكر شعر النبي ( ونحوه ، قال رحمه الله : ( وهذا غلط ظاهر لا يوافقهم عليه أهل العلم والحق ، وذلك أنه ما ورد إلا بحق النبي ( ، فأبو بكر وعمر وذو النورين عثمان وعلي ، وبقية العشرة المبشرين بالجنة ، وبقية البدريين ، وأهل بيعة الرضوان ، ما فعل السلف هذا مع واحد منهم ... فاقتصارهم على النبي ( يدل على أنه من خصائص النبي ( ) . أ.ه
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : ( التبرك جائز لوجهين :
الوجه الأول : أن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع غير النبي ( ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه .
الوجه الثاني : سد ذريعة الشرك ، لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله ، فوجب المنع من ذلك ) .
الباب العاشر
( ما جاء في الذبح لغير الله )
أي من الوعيد .
( في الذبح ) أي ذبح البهائم .
( لغير الله ) اللام للتعليل ، والقصد : أي قاصداً بذبحه غير الله ، فيشمل الأنبياء والملائكة والأولياء .
والذبح ينقسم إلى قسمين :
1. ذبح عادة : مثل الذبح للأكل ، فهذا عادة الأصل فيه أنه مباح .
2. ذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً : وهذا شرك ، وهو مراد المؤلف .
مناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن فيه بياناً لنوع من أنواع الشرك المضاد للتوحيد .
م / وقول الله تعالى : ? قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? قل ? الخطاب للنبي ( .
? نسكي ? ذبحي ، كما روي عن مجاهد وسعيد بن جبير .
? محياي ومماتي ? أي وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح .(1/83)
قال ابن كثير : ( يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه بأنه خالصٌ لله صلاته وذبيحته ، لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه ) . أ.ه
? لله رب العالمين ? خالصاً لوجهه .
? لا شريك له ? الإخلاص .
? وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ? أي من هذه الأمة ، لأن إسلام كل نبي متقدم إسلام أمته .
قال ابن كثير : ( وهو كما قال ، فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ?وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ? .
المعنى الإجمالي للآية :
يأمر الله نبيه أن يقول للمشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغيره إني أخلص لله صلاتي وذبحي وما أحيا وما أموت عليه من الإيمان والأعمال الصالحة ، أصرف كل ذلك له وحده لا أشرك به أحداً .
مناسبة الآية للباب :
أنها تدل على أن الذبح لغير الله شرك .
من فوائد الآية :
1- أن الذبح لغير الله شرك أكبر لأنه قرنه بالصلاة .
2- أن الصلاة والذبح من أعظم العبادات .
3- وجوب الإخلاص لله في جميع العبادات .
4- أن جميع أعمال العبد الصالحة في الحياة إذا أراد بها التقرب إلى الله انقلبت عبادة .
5- أن العبرة بالأعمال خواتيمها .
6- أن الإخلاص شرط لقبول العمل .
م / وقوله ? فصلِّ لربك وانحر ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? فصلِّ ? أدّ الصلوات خالصة لوجه الله .
? وانحر ? المراد بالنحر : الذبح ، أي اجعل نحرك لله كما أن صلاتك لله .
? وانحر ? مطلق ، فيدخل فيه كل ما ثبت في الشرع مشروعيته ، وهي ثلاثة أشياء : الأضاحي ـ الهدايا ـ العقائق .
المعنى الإجمالي للآية :
أفادت هذه الآية الكريمة أن النحر من العبادة ، ولهذا أمر الله به وقرنه بالصلاة .(1/84)
وإذا كان الذبح عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه بنص الآية السابقة ، فلا يجوز صرفها لغير الله ، فإذا ذبح الإنسان شيئاً لغير الله تعظيماً له وتذللاً وتقرباً إليه كما يتقرب بذلك إلى الله كان مشركاً بالله عز وجل ، وإذا كان مشركاً فإن الله تعالى قد بيّن أنه حرّم على المشركين الجنة ومأواهم النار .
وبناءً على ذلك نقول : إن ما يفعله بعض الناس من الذبح للقبور ـ قبور الذين يزعمون بأنهم أولياء ـ شرك مخرج من الملة .
من فوائد الآية :
1- أن الذبح لغير الله شرك أكبر لأنه عبادة وصرف العبادة لغير الله شرك .
2- أن الصلاة والذبح من أعظم العبادات .
3- وجوب التقرب إلى الله بالصلاة .
4- وجوب التقرب بالذبيحة إلى الله دون ما سواه .
م / وعن علي ( قال : حدثني رسول الله ( بأربع كلمات : ( لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثاً ، لعن الله من غيّر منار الأرض ) . رواه مسلم
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن علي ) هو علي بن أبي طالب ، أمير المؤمنين ، أبو الحسن الهاشمي ، ابن عم النبي ( وزوج ابنته فاطمة ، وكان من أسبق السابقين الأولين ، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، ورابع الخلفاء الراشدين ، ومناقبه مشهورة ، قتله ابن مُلجم الخارجي في رمضان عام 40ه .
( لعن الله ) اللعن من الله : الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
( من ذبح لغير الله ) أراق الدم متقرباً به إلى غير الله ، سواء أذكر اسم الله عليه أم لم يذكر .
( من ذبح ... ) عام يشمل من ذبح بعيراً أو بقرة أو دجاجة أو غيرها .
( لغير الله ) يشمل كل من سوى الله ، حتى لو ذبح لنبيّ أو ملك أو جنيّ أو غيرهم .
( من لعن والديه ) يعني أباه وأمه وإن عليَا ، أي سبهما وشتمهما .(1/85)
ومن هذا أن يلعن غيره فيلعن الآخر والديه ، فيكون سبباً في لعن والديه ، كما في الصحيحين أن النبي ( قال : ( من الكبائر شتم الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه ) .
وسب الناس من الكبائر إن كان بغير حق .
قال رسول الله ( : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) . متفق عليه عن ابن مسعود
وقال ( : ( لعن المسلم كقتله ) . متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك
وقال ( : ( لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ) . رواه مسلم عن أبي الدرداء
وعن أبي مسعود ( قال : قال رسول الله ( : ( ليس المسلم بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء ) .
( من آوى محدثاً ) آوى : أي ضم إليه وحمى .
المحدث : يشمل الإحداث في الدين كالبدع ، كالجهمية والمعتزلة وغيرهم ، ويشمل الإحداث في شؤون الأمة كالجرائم وشبهها ممن آوى محدثاً وكذا من ناصرهم ، ويشمل كذلك من يمنع إقامة الحد عليهم .
( من غير منار الأرض ) قال النووي : منار الأرض علامات حدودها ، وقيل : تغييرها أن يقدمها أو يؤخرها ، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه ( : ( من ظلم شبراً من الأرض طوقه من سبع أراضين ) . رواه مسلم من حديث سعيد بن زيد
المعنى الإجمالي للحديث :
يحذر ( أمته من أربع جرائم ، وأن الله قد لعن من ارتكب واحدة منها :
الأولى / التقرب بالذبح إلى غير الله ، لأنه صرف للعبادة إلى غير مستحقها .
الثانية / من دعى على والديه باللعنة أو سبهما أو تسبب في ذلك .
الثالثة / من حمى جانياً مستحقاً للحد الشرعي أو رضي ببدعة في الدين وأقرها .
الرابعة / من تصرف في مراسيم الأرض التي تفرز الحقوق فقدمها أو أخرها عن مكانها فينشأ عن ذلك اقتطاع شيء من أرض غيره ظلماً .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه دليلاً على غلظ تحريم الذبح لغير الله ، حيث أن فاعله أول من يستحق لعنة الله .
من فوائد الحديث :(1/86)
1- تحريم الذبح لغير الله ، وبدأ به في الحديث لأن الشرك أعظم الذنوب .
2- أن الذبح عبادة يجب صرفها لله وحده .
3- فالذي يغير منار الأرض فهو ملعون ، لأنه قد يؤدي إلى المشاكل والمصائب والمقاتلة .
4- تحريم لعن الوالدين مباشرة أو تسبباً .
5- تحريم مناصرة المجرمين والرضا بالبدع .
6- تحريم تغيير المراسيم لاغتصاب أراضي الغير .
7- وفي هذا التحذير من البدع ، قال النبي ( : ( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) . رواه أبو داود من حديث العرباص بن سارية .
8- في الحديث دليل على جواز لعن الفسّاق كقوله : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) ونحو ذلك
قال النووي : ( وأما اللعن بالوصف فليس بحرام ، كلعن الواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ، وآكل الربا وموكله ، والمصورين ، والظالمين ، والفاسقين ، والكافرين ، ولعن من غير منار الأرض ، وغير ذلك مما جاءت النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ) . أ.ه
وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان ذكرهما شيخ الإسلام بن تيمية :
أحدهما : أنه جائز ، واختاره بن الجوزي وغيره .
الثاني : أنه لا يجوز ، واختاره أبو بكر عبد العزيز ، وشيخ الإسلام قال : ( المعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله ، وأن يقول كما قال الله تعالى : ? ألا لعنة الله على الظالمين ? ) .
م / وعن طارق بن شهاب أن رسول الله ( قال : ( دخل الجنة رجلٌ في ذباب ، ودخل النار رجل في ذباب ، قالوا : وكيف يا رسول الله ؟ قال : مرَّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحدٌ حتى يقرِّب له شيئاً ، فقالوا لأحدهما : قرِّب ، قال : ليس عندي شيء أقرِّب ، قالوا له : قرّب ولو ذباباً فقرَّب ذباباً فخلوا سبيله ، وقالوا للآخر : قرِّب ، فقال : ما كنت لأقرّب لأحد شيئاً دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة ) . رواه أحمد وأبو نعيم(1/87)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
(طارق بن شهاب ) : البجلي الأحمسي ، أبو عبد الله ، قال البغوي : ونزل الكوفة ، وقال أبو داود : رأى النبي ( ولم يسمع منه شيئاً .
قال الحافظ : ( إذا ثبت أنه رأى النبي ( فهو صحابي ، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي ، وهو مقبول على الراجح ) . أ.ه
وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنة ثلاث وثمانين .
( في ذباب ) أي بسبب ذباب ، في : للسببية .
( قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ) كأنهم تقالوا ذلك ، وتعجبوا منه لأنهم علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالأعمال الصالحة ، كما قال تعالى : ? ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ? ، وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالأعمال السيئة ، فكأنهم تقالوا ذلك وتعجبوا واحتقروا ، فبين لهم النبي ( ما صيّر هذا الأمر عندهم عظيماً ، يستحق هذا عليه الجنة ، ويستحق الآخر عليه النار .
( لهم صنم ) الصنم ما كان مختوماً على صورة .
المعنى الإجمالي للحديث :
يخبر النبي ( عن خطورة الشرك وشنعاته حيث بين ( أنه دخل الجنة رجل بسبب ذباب ودخل النار رجل في ذباب ، وذلك أنهما أرادا العبور من مكان فيه صنم فطلب عباد الصنم من الرجلين أن يذبحا له تقرباً إليه وتعظيماً فأما أحدهما فاعتذر بالعدم فقنعوا منه بأيسر شيء فذبح للصنم ذباباً فتركوه يمر فدخل بسبب فعله هذا نار جهنم لأنه فعل الشرك ووافقهم عليه ، وطلب من الآخر أن يقرب للصنم فاعتذر بأن هذا شرك ولا يمكن أن يفعله فقتلوه فدخل الجنة لامتناعه من الشرك .
مناسبة الحديث للباب :
1- أنه دل على أن الذبح عبادة .(1/88)
2- بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل ، وأنه يوجب النار ، ألا ترى لهذا الرجل لما قرّب لهذا الصنم أرذل حيوان وأخسه وهو الذباب ، كان جزاؤه النار لإشراكه في عبادة الله ، إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة ، وهذا مطابق لقوله تعالى : ? إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ? .
3- وفيه الحذر من الوقوع في الشرك .
4- الحذر من الذنوب ولو كانت صغيرة ، كما قال أنس : ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنّا نعدها على عهد رسول الله ( من الموبقات ) . رواه البخاري
5- في قوله ( ما كنت لأقرب لأحد شيئاً ... ) قال الشيخ ابن باز رحمه الله : ( فهذا أعرض وبين أنه لا يجوز وامتنع فدخل الجنة ، وهذا يحتمل أمرين :
أولهما : إما أن شريعتهم ليس فيها عذر بالإكراه ، ولهذا لم يأخذ بالرخصة ويتخلص من شرهم .
الثاني : أنه ترك الرخص وأخذ بالعزيمة لقوة إيمانه ويقينه فقتلوه .
وفي شريعتنا أن من أكره على الشرك يفعل ما أكره عليه بقصد التخلص من شرهم ولم يطمئن قلبه بذلك ، فلا حرج ، لقوله تعالى : ? إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ? ) . أ.ه
6- وفيه أن الذي دخل النار مسلم ، لأنه لو كان كافراً لم يقل : ( دخل النار في ذباب ) .
7- أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان .
8- وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ، وكيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر .
9- فضيلة التوحيد والإخلاص والصلابة في الدين .
10- وفيه معنى قوله في الحديث : ( وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار ) . متفق عليه
11- فيه شاهد للحديث الصحيح : ( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك ) .
12- التنبيه على سعة مغفرة الله ، وشدة عقوبته ، وأن الأعمال بالخواتيم .
13- قرب الجنة والنار من الإنسان .
14- أن الجنة والنار موجودتان .(1/89)
فائدة :
هل الأولى للإنسان أن يصبر إذا أكره على الكفر ويُقتل ؟ أو يوافق ظاهراً ويتأول ؟
المسألة فيها تفصيل :
أ- أن يوافق ظاهراً وباطناً ، فهذا لا يجوز لأنه ردّة .
ب- أن يوافق ظاهراً لا باطناً ، ولكن بقصد التخلص من الإكراه ، فهذا جائز .
ج- أن لا يوافق لا ظاهراً ولا باطناً ويقتل ، وهذا جائز وهو من الصبر .
لكن ، أيهما أفضل : أن يصبر ويقتل ؟ أو أن يوافق ظاهراً ؟ فيه تفصيل :
إذا كان الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة ، فإن الأولى أن يوافق ظاهراً لا باطناً ، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للناس كصاحب العلم ونحوه .
وأما إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الإسلام فإنه يصبر ، وقد يجب الصبر .
والإمام أحمد رحمه الله في المحنة المشهودة لو وافقهم ظاهراً لحصل في ذلك مضرّة على الإسلام .
فائدة :
ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب ( قال : ( لما نزلت هذه السورة على النبي ( ? إنا أعطيناك الكوثر ، فصلّ لربك وانحر ? قال رسول الله ( لجبريل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ قال : إنها ليست بنحيرة ، ولكن يأمرك إذا أحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ) .
وهذا حديث منكرٌ جداً ، في إسناده إسرائيل بن حاتم . قال ابن حبّان : يروي عن مقاتل الموضوعات والأوابد والطامّات .
الباب الحادي عشر
( لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله )
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى :
ما أحسن إتباع هذا الباب بالباب الذي قبله ، فالذي قبله من المقاصد ، وهذا من الوسائل ، ذاك من باب الشرك الأكبر ، وهذا من وسائل الشرك القريبة ، فإن المكان الذي يذبح فيه المشركون لآلهتهم تقرباً إليها وشركاً بالله ، وقد صار مَشْعراً من مشاعر الشرك ، فإذا ذبح فيه المسلم ذبيحته ولو قصدها لله فقد تشبه بالمشركين ، وشاركهم في مَشْعرهم ، والموافقة الظاهرة تدعو إلى الموافقة الباطنة والميل إليهم .(1/90)
ومن هذا الباب نهى الشارع عن مشابهة الكفار في شعائرهم وأعيادهم وهيئاتهم ولباسهم وجميع ما يختص بهم ، إبعاداً للمسلمين عن الموافقة لهم في الظاهر التي هي وسيلة قريبة للميل والركون إليهم ، حتى أنه نهى عن الصلاة النافلة في أوقات النهي التي يسجد المشركون فيها لغير الله ، خوفاً من التشبه المحذور .
م / وقول الله تعالى : ? لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? لا تقم ? والضمير عائد على مسجد الضرار .
المعنى الإجمالي للآية :
ينهى الله عز وجل رسوله ( أن يقوم في مسجد الضرار في الصلاة فيه أبداً ، والأمة تبع له في ذلك ، لأن مسجد الضرار أسس على معصية الله ، كما قال تعالى : ? والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ? .
فلهذه الأمور نهى الله نبيه ( عن القيام فيه والصلاة ، وكان المنافقون الذين بنوه جاءوا إلى رسول الله ( قبل خروجه إلى تبوك ، فسألوه أن يصلي فيه ليحتجوا بصلاته على تقريره ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : ( إنا على سفر لكنا إذا رجعنا إن شاء الله ) فلما قفل ( راجعاً إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوماً أو بعض يوم نزل الوحي بخبر المسجد ، فبعث إليه فهدمه قبل مقدمه إلى المدينة .
مناسبة الآية للباب :
لأنه إذا منع الله رسوله ( عن القيام لله تعالى في هذا المسجد المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم إلا لله ، فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله لا يذبح فيها الموحد لله ، لأنها قد أسست على معصية الله والشرك به ، ويؤيده حديث ثابت الآتي .
من فوائد الآية :(1/91)
1- دلت الآية على أنه لا يجوز فعل الطاعة في مكان يعصى الله فيه ، ومن ذلك الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله .
2- تحريم كل ما يؤدي إلى الشرك .
3- وجوب إنكار المنكر بخذل أهله .
4- مشروعية سد الذرائع المفضية إلى الشرك .
5- أن النية تؤثر في البقاع .
م / عن ثابت بن الضحاك ( قال : ( نذر رجلٌ أن ينحر إبلاً ببُوانة ، فسأل النبي ( فقال : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ " قالوا : لا ، قال : " فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا ، فقال رسول الله ( : " أوْف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " ) . رواه أبو داود
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ببُوانة ) قال البغوي : موضع في أسفل مكة .
( وثن من أوثانهم ) الوثن : كل ما عبد من دون الله من شجر أو حجر .
( عيد ) قال شيخ الإسلام : العيد اسم لما يعود ـ من الاجتماع العام ـ على وجه معتاد .
( نذر ) النذر هو : إلزام المكلف نفسه شيئاً غير واجب عليه أصلاً .
المعنى الإجمالي للحديث :
يذكر الراوي أن رجلاً التزم لربه أن ينحر إبلاً في موضع معين على وجه الطاعة والقربة ، وجاء يسأل النبي ( عن التنفيذ فاستفصل النبي ( عن ذلك المكان هل سبق أن وجد فيه شيء من معبودات المشركين أو سبق أن المشركين يعظمونه ويجتمعون فيه فلما علم ( بخلو هذا المكان أفتى بتنفيذ النذر .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه المنع من الذبح في المكان الذي فيه وثن من أوثان الجاهلية أو فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله .
من فوائد الحديث :
1- استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك .
2- أنه لا يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله ، والحكمة من ذلك أنه يؤدي إلى التشبه بالكفار .
3- المنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله .(1/92)
4- ينبغي للمسلم أن يبتعد عن أماكن الجاهلية ، ولا يخصصها بعبادة حتى لا يتشبه بهم وينسب إليهم .
5- أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع .
6- سد الذريعة وترك مشابهة الكفار .
7- وجوب الوفاء بالنذر إذا لم يقصد مشابهة الكفار .
8- تحريم الوفاء بنذر المعصية ، كأن يقول : نذرت لله أن أشرب الخمر ، فلا يوفي بنذره هذا بالإجماع .
واختلف العلماء هل فيها الكفارة على قولين :
القول الأول : لا تجب عليه الكفارة .
لقوله ( : ( لا وفاء لنذر في معصية الله ) ، ولم يذكر ( كفارة ، ولو كانت واجبة لذكرها .
القول الثاني : تجب الكفارة .
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة ، لحديث عائشة مرفوعاً : ( لا نذر في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين ) . رواه أحمد والترمذي
وهذا القول هو الراجح ، ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله .
9- أنه لا وفاء لنذر فيما لا يملكه ابن آدم ، كأن يقول : لله علي نذر أن أعتق عبد فلان ، فنذره هذا باطل .
10- تقرر في الشريعة أنه لا يجوز للمسلم أن يتشبه بالكفار ، سواء في عبادتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم وهذه قاعدة عظيمة لها أدلتها من الكتاب والسنة الصحيحة :
من الكتاب : قال تعالى : ? ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد ... ? .
قال ابن كثير : ( نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية ) .
من السنة : قال رسول الله ( : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) . رواه أبو داود عن ابن عمر
قال شيخ الإسلام : ( وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم ، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم ) . أ.ه
فتبين من ذلك أن ترك هدي الكفار والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها وجاء بها القرآن الكريم ، وفصلها النبي ( لأمته .(1/93)
وأذكر نتفاً قليلة لتقف على أهمية هذا الأمر ، حيث أنه لم يقتصر على العادات بل تعداها إلى غيرها من العبادات والآداب :
أولاً : الصلاة .
عن جندب بن عبد الله قال : ( سمعت رسول الله ( يقول قبل أن يموت بخمس : " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك ) . رواه مسلم
وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله ( : ( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم ) . رواه أبو داود
وعن ابن عمر ( : ( أن النبي ( نهى رجلاً وهو جالس معتمداً على يده اليسرى في الصلاة ، فقال : " إنها صلاة اليهود " ) . رواه البخاري
وعن مسروق عن عائشة : ( أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته ، وتقول إن اليهود تفعله ) رواه البخاري
ثانياً : الصوم .
عن عمرو بن العاص ( أن رسول الله ( قال : ( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) . رواه مسلم
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( ما يزال الدين ظاهراً ما عجّل الناس الفطر ، لأن اليهود والنصارى يؤخرون ) . رواه أبو داود
وعن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : ( أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال : إن رسول الله ( نهاني عن ذلك وقال : " إنما يفعل ذلك النصارى " ) . رواه أحمد
ثالثاً : الجنائز .
ما رواه جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله ( : ( اللحد لنا والشق لغيرنا ) . رواه أبو داود وأحمد
وفي رواية لأحمد : ( والشق لأهل الكتاب ) .
رابعاً : اللباس والزينة .
عن عبد الله بن عمر ( قال : رأى رسول الله ( عليّ ثوبين معصفرين فقال : ( إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها ) . رواه مسلم
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ) . متفق عليه
وعنه ( قال : قال رسول الله ( : ( غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا النصارى ) . رواه أحمد والترمذي(1/94)
خامساً : الآداب والعادات .
عن جابر بن عبد الله مرفوعاً : ( لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة ) . رواه الترمذي
الباب الثاني عشر
( من الشرك النذر لغير الله )
أي أنه من العبادة ، فيكون صرفه لغير شركاً ، فإذا نذر طاعة وجب عليه الوفاء بها ، وهو عبادة وقربة إلى الله ، ولهذا مدح المؤمنين به ، فإن نذر لمخلوق تقرباً إليه ليشفع له عند الله ، ويكشف ضره ونحو ذلك ، فقد أشرك في عبادة الله
أمثلة للنذر لغير الله تعالى :
كأن يقول : للقبر الفلاني علي نذر .
أو يقول : إن نجح ابني فللولي الفلاني كذا من المال .
والنذر لغير الله لا ينعقد إطلاقاً ، ولا تجب فيه الكفارة ، بل هو شرك تجب التوبة منه كالحلف بغير الله .
م / وقول الله تعالى : ? يوفون بالنذر ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المعنى الإجمالي للآية :
يمدح الله تعالى عباده الأبرار في هذه الآية أنهم يوفون بالنذر وبما ألزموا به أنفسهم من النذر تقرباً إلى الله .
مناسبة الآية للباب :
قال الشيخ السعدي : ( فإن النذر عبادة مدح الله المؤمنين بها ، وأمر النبي ( بالوفاء بنذر الطاعة ، وكل أمر مدحه الشارع أو أثنى على من قام به فهو عبادة ، فإن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، والنذر من ذلك ) .
من فوائد الآية :
1- وجوب الوفاء بالنذر إذا لم يكن في معصية .
2- امتدحت الآية الوفاء بالنذر ، والله لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم ، لذا يكون الوفاء بالنذر عبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
3- الحث على الوفاء بالنذر .
م / وقوله ? وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من نصير ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/95)
( ما أنفقتم من نفقة ) يشمل كل صدقة مقبولة وغير مقبولة .
( أو نذرتم من نذر ) يشمل كل نذر مقبول وغير مقبول .
المعنى الإجمالي للآية :
قال ابن كثير : ( يخبر تعالى بأنه عالم بجميع المخلوقات وما يعمله العاملون من الخيرات ، ومن النفقات والمنذورات ، وتضمّن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه ) . أ.ه
إذا علمت ذلك فإن النذور الواقعة من عباد القبور تقرباً بها إليهم ليقضوا بها حوائجهم ، أو ليشفعوا لهم ، هذا شرك في العبادة بلا ريب .
قال شيخ الإسلام : ( وأما ما نذر لغير الله ، كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك ، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات ، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة ، وكذلك الناذر للمخلوقات ، فإن كلاهما شرك ، وليس له حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا ... ) . أ.ه
مناسبة الآية للباب :
أنها دلت أن الله يعلم ما يصدر منّا من نفقات ونذور وسيجازينا على ذلك ، فدل ذلك على أن النذر عبادة ، وما كان عبادة فصرفه لغير الله شرك .
من فوائد الآية :
1- أن النذر عبادة فيكون صرفه لغير الله شرك أكبر .
2- إثبات علم الله تعالى بكل شيء .
3- إثبات الجزاء على الأعمال .
4- الحث على الوفاء بالنذر .
م / وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ( قال : ( من نذر أن يطيع الله فليُطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) . رواه البخاري
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
عن عائشة : هي أم المؤمنين ، وزوج النبي ( ، وبنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، تزوجها النبي ( وهي بنت سبع سنين ودخل بها وهي بنت تسع سنين ، وهي أفقه النساء مطلقاً ، وأفضل أزواج النبي ( إلا خديجة ففيها خلاف كبير ، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح . قاله الحافظ .
النذر : إلزام المكلف نفسه شيئاً يتقرب به إلى الله .(1/96)
( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) أي فليفعل ما نذره من طاعة .
وظاهر هذا الحديث يشمل ما إذا كانت الطاعة المنذورة جنسها واجب كالصلاة والحج وغيرهما ، أو غير واجب كتعليم العلم وغيره .
وظاهر الحديث يشمل من نذر نذراً مطلقاً ليس له سبب ، مثل : ( لله علي أن أصوم ثلاثة أيام ) ، ومن نذر نذراً معلقاً ، مثل : ( إن نجحت فلله عليّ أن أصوم ثلاثة أيام ) .
المعنى الإجمالي للحديث :
أن النبي ( يأمر من صدر منه نذر طاعة أن يوفي بنذره كمن نذر صلاة أو صدقة أو غير ذلك ، وينهى من صدر منه نذر معصية عن تنفيذ نذره كمن نذر الذبح لغير الله أو الصلاة عند القبور أو غيرها من المعاصي .
مناسبة الحديث للباب :
أنه دل على أن النذر يكون طاعة ويكون معصية ، فدل على أنه عبادة ، فمن نذر لغير الله فقد أشرك به في عبادته
من فوائد الحديث :
1- أن النذر عبادة فصرفه لغير الله شرك .
2- وجوب الوفاء بنذر الطاعة .
3- تحريم الوفاء بنذر المعصية .
فائدة :
أقسام النذر :
1. نذر الطاعة :
وهذا يجب الوفاء به ، لقول النبي ( : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) .
2. نذر المعصية :
لا يجوز الوفاء به ، قال في فتح المجيد : ( وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية ) .
قال رسول الله ( : ( ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه ) . واختلف العلماء هل تلزمه الكفارة ؟
سبق أن القول الراجح أن عليه كفارة يمين ، وهذا مذهب الحنابلة ، لحديث عائشة مرفوعاً : ( لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ) .
3. النذر المباح :
فهو بالخيار . مثال : لو نذر أن يلبس هذا الثوب .
نقول : هو بالخيار ، إن شاء لبسه ، وإن شاء لم يلبسه ويكفر كفارة يمين .
4. نذر اللجاج والغضب :(1/97)
وسمي بهذا الاسم ، لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالباً ، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب ، مثل لو قال : حصل اليوم كذا وكذا ، فقال الآخر : لم يحصل ، فقال : إن كان حاصلاً فعلي لله نذر أن أصوم ستة أيام ، فالغرض من هذا النذر التكذيب ، فإذا تبين أنه حاصل ، فالناذر مخير بين الصوم ، وبين أن يكفر كفارة يمين .
الباب الثالث عشر
( من الشرك الاستعاذة بغير الله )
الاستعاذة : الالتجاء والاعتصام ، وحقيقتها : الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه .
وقال ابن كثير : الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر .
فتبين بهذا أن الاستعاذة بالله عبادة لله ، ولهذا أمر الله بالاستعاذة به في غير آية ، وتواترت السنن عن النبي ( بذلك .
قال تعالى : ? وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ? .
وقال تعالى : ? وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ? .
وقال تعالى : ? قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ? .
فإذا كان تعالى هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ، ولا معبود لنا غيره ، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه .
م / وقول الله تعالى : ? وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
نزلت هذه الآية في أناس كانوا يعوذون بسادات الجن ، وكانت العرب في الجاهلية إذا نزلوا منزلاً قالوا : نعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهاء قومه ، فهذا كان من عمل الجاهلية .
قوله ? فزادوهم ? الواو للجن ، والهاء للإنس ، أي زاد الجن الإنس رهقاً ، وهو الخوف والذعر .
وقال بعض السلف : الواو للإنس ، والهاء للجن ، أي زاد الإنس الجن رهقاً ، ويكون معنى الرهق الطغيان والاستكبار .
المعنى الإجمالي للآية :(1/98)
أن الله يخبر أن بعض الإنس يلجأون إلى بعض الجن لتأمنهم مما يخافون ، وأن الملتجئ بهم زادوا الملتجئين خوفاً بدلاً من أن يؤمنوهم وهذا معاملة لهم بنقيض قصدهم .
مناسبة الآية للترجمة :
حيث دلت على تحريم الاستعاذة بغير الله ، لذا تكون الاستعاذة عبادة لله ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
من فوائد الآية :
1- تحريم الاستعاذة بغير الله .
2- ذم المستعيذين بغير الله ، والمستعيذ بالشيء لا شك أنه علق رجاءه به ، واعتمد عليه ، وهذا نوع من الشرك
3- أن من التجأ بغير الله خذله .
4- إثبات وجود الجن ، وأن فيهم رجالاً ونساءً .
5- أن الاستعاذة بغير الله تورث الخوف والضعف .
6- يفهم من الآية أن الاستعاذة بالله تورث قوة وأمناً .
م / وعن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله ( يقول : ( من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك ) . رواه مسلم
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( خولة ) هي بنت حكيم السلمية كانت زوجة لعثمان بن مظعون وكانت صالحة فاضلة .
( من نزل منزلاً ) يشمل من منزله على سبيل الإقامة الدائمة أو الطارئة ، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط فتعم .
( أعوذ ) أعتصم وألتجئ .
( بكلمات الله ) قال القرطبي : قيل : الكلمات هنا القرآن ، فإن الله أخبر عنه بأنه ? هدىً وشفاء ? .
( التامات ) تمام الكلام بأمرين :
الأول : الصدق بالإخبار .
الثاني : العدل في الأحكام .
كما قال تعالى : ? وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ? .
( من شر ) أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان وغيره ، إنسياً كان أو جنياً ، أو هامة أو دابة ، أو ريحاً أو صاعقة .
( لم يضره شيء ) نكرة في سياق النفي ، فتعم كل شيء .
لا يضره شيء لا من شياطين الإنس ولا من شياطين الجن ، لا من الظاهر ولا من الخفي ، حتى يرتحل من منزله .
المعنى الإجمالي للحديث :(1/99)
يرشد النبي ( أمته إلى الاستعاذة النافعة التي يندفع بها كل محظور يخافه الإنسان عند ما ينزل بقعة من الأرض بأن يستعيذ بكلام الله الشافي الكافي الكامل من كل عيب ونقص ليأمن في منزله ذلك .
من فوائد الحديث :
1- هذا ما شرعه الله لأهل الإسلام ، أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن ، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته .
2- فضل هذا الدعاء ، وأنه ينبغي العمل به .
قال القرطبي : ( هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة ، فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغني عقرب بالمهدبة ليلاً ، فتفكرت في نفسي فإذا قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات ) .
3- فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره .
4- يستحب قول هذا الدعاء عند نزول منزل ، ويدل على فضل هذه الاستعاذة وأنها من أسباب العافية من شر الجن والإنس .
5- أن القرآن منزل غير مخلوق ، والرد على الجهمية والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن ، لأنه لو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر بها النبي ( بالاستعاذة بها ، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك .
6- بيان كيفية الاستعاذة المشروعة .
7- أن الاستعاذة لا تكون إلا بالله أو بصفة من صفاته .
8- وفيه التوسل بصفات الله .
فائدة : مبحث في التوسل :
التوسل هو : التقرب إلى الشيء والتوصل إليه ، والوسيلة : القربة .
قال تعالى : ? وابتغوا إليه الوسيلة ? .
والتوسل قسمان :
أ- توسل مشروع .
ب- توسل غير مشروع .
التوسل المشروع أنواع :
1. التوسل إلى الله باسم من أسمائه الحسنى ، أو صفة من صفاته العليا .
كأن يقول المسلم في دعائه : ( اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم ، اللطيف الخبير ، أن تعافيني ) ، ودليل مشروعية هذا النوع من التوسل :
قوله تعالى : ? ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ? .
والمعنى : ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى .(1/100)
ومن الأدلة قول النبي ( في أحد أدعيته الثابتة عنه قبل السلام من صلاته ( : ( اللهم بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق ، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ... ) . رواه النسائي
ومنها أنه ( سمع رجلاً يقول في تشهده : اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، أن تغفر لي ذنوبي ، إنك أنت الغفور الرحيم ، فقال ( : ( قد غفر له قد غفر له ) . رواه أبو داود
ومنها ما رواه أنس ( أن النبي ( كان إذا حزبه أمر قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) . رواه الترمذي
بهذه الأحاديث وما شابهها تبين مشروعية التوسل إلى الله باسم من أسمائه أو صفة من صفاته .
2. التوسل إلى الله بعمل صالح قام به الداعي .
كأن يقول المسلم : ( اللهم بإيماني بك ، ومحبتي لك ، واتباعي لرسولك اغفر لي ) . وأدلته :
قوله تعالى : ? الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ? .
وقال تعالى : ? ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ? .
ومن ذلك حديث أصحاب الغار الثلاثة ، حيث انطبقت عليهم الصخرة فسدّت عليهم باب الغار ، فلم يستطيعوا الخروج ، فتوسلوا إلى الله بصالح الأعمال ففرج الله عنهم فخرجوا يمشون . متفق عليه
3. التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح .
كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله ، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى ، فيطلب منه أن يدعو له ربه .
فهذا مشروع وقد دلت عليه الشريعة المطهرة .
فمن ذلك ما رواه أنس ( قال : ( أصاب الناس سنة على عهد النبي ( ، فبينما النبي ( يخطب على المنبر قائماً يوم الجمعة ، دخل أعرابي فاستقبل رسول الله ( فقال : يا رسول الله ، هلك المال وجاع العيال وانقطعت السبل فادع الله لنا ... ) . متفق عليه(1/101)
ومن ذلك ما رواه أنس : ( أن عمر بن الخطاب ( كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ( فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون ) . رواه البخاري
ومعنى قول عمر : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا ( وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ، أي : كنا نقصد نبينا ونطلب منه أن يدعو لنا ، ونتقرب إلى الله بدعائه ، والآن وقد انتقل ( إلى الرفيق الأعلى ، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا ، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ، ونطلب منه أن يدعو لنا .
وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم : اللهم بجاه نبيك أسقنا ، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته ( : اللهم بجاه العباس أسقنا .
لأن مثل هذا الدعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة .
ومن ذلك ما رواه الحافظ بن عساكر في تاريخه ( 18/151/1 ) بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم بن عامر : ( أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون ، فلما قعد معاوية على المنبر قال : أين يزيد بن الأسود الجرشي ؟ فناداه الناس ، فأقبل يتخطى ، فأمره معاوية فصعد على المنبر ، فقعد عند رجليه ، فقال معاوية : اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا ، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي ، يا يزيد ارفع يديك إلى الله ، فرفع يديه ، ورفع الناس أيديهم ، فما كان أوشك أن ثاوت سحابة في الغرب كأنها ترس ، وهبت لها ريح ، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم ) .
فهذا معاوية ( لا يتوسل بالنبي ( ، وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح .
التوسل غير المشروع :
1. طلب الدعاء من الأموات :(1/102)
فهذا لا يجوز ، لأن الميت لا يقدر على الدعاء كما كان يقدر عليه في الحياة ، وطلب الشفاعة من الأموات لا يجوز ، لأن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حياً كالعباس ويزيد بن الأسود ، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا ولم يتوسلوا بالنبي ( لا عند قبره ولا عند غيره ، ولقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به لو كان جائزاً ، فترْكهم لذلك دليل على عدم جواز التوسل بالأموات لا بدعائهم ولا بشفاعتهم .
2. التوسل بجاه النبي ( :
فهذا لا يجوز ، سواء في حياته أو بعد مماته ، لأن جاه الرسول ( لا ينتفع به إلا الرسول ( ، وعلى هذا لا يجوز للإنسان أن يقول : اللهم إني أسألك بجاه نبيك أن تغفر لي .
وأما حديث : (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) . قال شيخ الإسلام في الفتاوى [1/319] :
( وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث ، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث ) .
3. التوسل بحق المخلوقين : فهذا لا يجوز لأمرين :
أحدهما / أن الله سبحانه لا يجب عليه حق لأحد ، وإنما هو الذي يتفضل سبحانه على المخلوق بذلك .
الثاني / أن هذا الحق الذي تفضل به الله على عبده هو حق خاص به ، لا علاقة لغيره به .
وأما حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : ( من خرج من بيته إلى الصلاة ، فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وأسألك بحق ممشاي هذا ... ) . رواه أحمد واللفظ له وابن ماجه .
فهو حديث ضعيف ، لأنه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري ، وعطية ضعيف كما قال النووي في ( الأذكار ) ، وابن تيمية في ( القاعدة الجليلة ) ، والذهبي في ( الميزان ) ، بل قال في ( الضعفاء ) : مجمع على ضعفه .
الباب الرابع عشر
( من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره )(1/103)
الاستغاثة : هي طلب الغوث ، وهو إزالة الشدة ، كالاستنصار طلب النصر .
وقال بعض العلماء : الفرق بين الاستغاثة والدعاء : أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب ، والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره ، فعطف الدعاء على الاستغاثة من باب عطف العام على الخاص .
( فكل استغاثة دعاء ، وليس كل دعاء استغاثة ) .
قوله ( أو يدعو غيره ) المراد بالدعاء هنا هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى .
ـ وقول المؤلف : ( من الشرك أن يستغيث بغير الله )
هذا الكلام ليس على إطلاقه ، بل إن الاستغاثة بالمخلوق على نوعين :
النوع الأول : الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه ، هذا جائز . قال تعالى : ? وتعاونوا على البر والتقوى ? .
وقال تعالى في قصة موسى ( : ? فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ? .
وكما يستغيث الرجل بأصحابه في الحرب ، وغيرها مما يقدر عليه المخلوق .
النوع الثاني : الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه إلا الله ، كالاستغاثة بالأموات ، والاستغاثة بالأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله من شفاء المرضى وتفريج الكربات ودفع الضر .
وهذا النوع غير جائز وهو شرك أكبر ، وأدلة هذا النوع كثيرة سيذكره المصنف في هذا الباب .
م / وقول الله تعالى : ? ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين ? . [ يونس 106 ـ 107 ]
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ما لا ينفعك ) إن عبدته .
( ولا يضرك ) إن لم تعبده .
( فإن فعلت ) أي دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك .
( من الظالمين ) من المشركين ، فإن الشرك أعظم الظلم .
المعنى الإجمالي :(1/104)
قال أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية : يقول تعالى ذكره : ولا تدع يا محمد من دن الله معبودك وخالقك شيئاً لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ولا يضرك في دين ولا دنيا ، يعني بذلك الآلهة ( الأصنام ) ، يقول : لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها ، فإنها لا تنفع ولا تضر فإن فعلت فدعوتها من دون الله ? فإنك إذاً من الظالمين ? يقول : من المشركين .
قوله ( من الظالمين ) نوع الظلم هنا ظلم شرك ، قال تعالى : ? إن الشرك لظلم عظيم ? .
ـ وهذه الآية لها نظائر :
كقوله تعالى : ? فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين ? .
وقوله : ? ولا تدع مع الله إلهاً آخر ، لا إله إلا هو ? .
وهذا التوحيد الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، كما قال تعالى : ? وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ? .
قال تعالى في الأنبياء : ? ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ? .
فإذا كان هذا الأمر إذا صدر من الأنبياء وحاشاهم من ذلك ، لم يفكّوا أنفسهم من عذاب الله ، فما ظنك بغيرهم .
قال تعالى : ? ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ? .
مناسبة الآية للترجمة :
أن فيها النهي عن دعاء غير الله ، وأنه شرك ينافي التوحيد .
من فوائد الآية :
1- الآية نصٌّ في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شركٌ أكبر .
2- أن جلب النفع ودفع الضر من خصائص الله عز وجل .
3- أن أصلح الناس لو دعا غير الله صار من الظالمين ، أي المشركين فكيف بغيره .
4- أن من دعا غير الله معتقداً أنه يملك النفع والضر من دون الله فقد أشرك .
5- بيان عجز آلهة المشركين ، وبطلان عبادتهم .
6- اعتبار الشرك ظلماً ، وهو أكبر الظلم
م / قوله : ? وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ? [ يونس 17 ](1/105)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? وإن يمسسك الله ? وإن ينزل .
? بضر ? بفقر أو مرض ، أو غير ذلك من أنواع الضر .
? فلا كاشف له ? فلا مزيل له .
? وإن يردك بخير ? يقدر لك خيراً .
? فلا راد لفضله ? فلا مانع لفضله .
المعنى الإجمالي :
يخبر الله نبيه ( في هذه الآية : أن الخير والشر كليهما من الله عز وجل ، وأنه لا يملك أحد من الخلق كائن من كان كشف الضر عن أحد ولا دفع الخير عن أحد ، وأن التصرف المطلق كله لله يحرم من يشاء بحكمته ويعطي من يشاء بحكمته وبفضله ، وأنه كثير المغفرة لمن تاب حتى من الشرك كثير الرحمة لمن أناب .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت على أن كشف الضر وجلب النفع من خصائص الله ، فيكون طلبهما من غير الله شركاً به .
من فوائد الآية :
1- أن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع ، كما قال سبحانه وتعالى : ? ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ? .
2- أنه لا يكشف الضر إلا الله ، وهذا كقول النبي ( : ( . . . واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ) . رواه الترمذي
3- أن الخير والشر مقدران من الله .
4- إثبات صفة الإرادة لله .
5- إثبات صفة المشيئة لله .
6- إثبات كمال ملك الله وسلطانه .
7- إثبات اسمين من أسماء الله وهما : الغفور والرحيم ، ويتضمنان صفتي المغفرة والرحمة .
م / وقوله : ? فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ? [ العنكبوت 17 ]
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال ابن كثير : ( ? فابتغوا ? أي اطلبوا .
? عند الله الرزق ? أي لا عند غيره لأنه المالك له ، وغيره لا يملك شيئاً من ذلك .
? واعبدوه ? أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له .
? واشكروا له ? أي على ما أنعم عليكم .(1/106)
? إليه ترجعون ? أي يوم القيامة يجازي كل عامل بعمله ) أ . ه
المعنى الإجمالي :
أمر الله تعالى بابتغاء الرزق عنده لا عند غيره ، ممن لا يملك رزقاً من الأوثان وغيرها ، لما قال تعالى في أول الآية : ? إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً ? .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية الكريمة أن الرزق لا يطلب إلا من الله ، فيكون طلبه من غير الله شركاً به .
من فوائد الآية :
1- أن أصل دين الرسل هو التوحيد .
2- بطلان عبادة الأوثان
3- أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله ، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه .
4- وجوب عبادة الله .
5- وجوب شكر الله ، والشكر : هو طاعة المنعم .
وقال بعض العلماء : أنه يكون في ثلاثة مواضع :
الموضع الأول / في القلب :
وهو أن يعترف بقلبه أنم هذه النعمة من الله فيرى لله فضلاً عليه .
الموضع الثاني / على اللسان :
وهو أن يتحدث بها علة وجه الثناء على الله والاعتراف ، وعدم الجحود لا على سبيل الفخر والخيلاء .
الموضع الثالث / على الجوارح :
وهو أن يستعملها بطاعة المنعم .
6- إثبات البعث والجزاء .
م / وقوله : ? ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون . وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرون ? . [ الأحقاف 5 ـ 6 ]
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( من أضل ) أي لا أحد أشد ضلالاً .
( من دون الله ) غير الله .
( لا يستجيب له ) لا يقدر على إجابته بإعطائه ما طلب منه .
( وهم ) أي المدعوون .
( عن دعائهم ) أي دعاء من دعاهم من المشركين .
( وإذا حشر الناس ) جمعوا ليوم القيامة .
( كانوا ) أي الآلهة التي يدعونها من دون الله .
( لهم أعداء ) أي يتبرؤون ممن دعاهم ويعادونهم .
( كافرين ) جاحدين لعبادة من عبدهم .
المعنى الإجمالي :(1/107)
نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره ، وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة .
والاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه ، حيث يتركون السميع المجيب القادر على تحصيل بُغيه ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم .
قوله ? وهم عن دعائهم غافلون ? أي لا يشعرون بدعاء من دعاهم لأنهم إمّا عبّاد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كالملائكة ، وإمّا أموات كالأنبياء والصالحين ، وإمّا أصنام وأوثان .
? وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً ? أي إذا قامت القيامة وحشر الناس للحساب عادوهم ، وكانوا بعبادتهم كافرين ، كما قال تعالى : ? واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً . كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً ? .
? وكانوا بعبادتهم كافرين ? أي وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا ، لعبادتهم جاحدين لأنهم يقولون يوم القيامة ما أمرنا بعبادتنا ولا شعرنا بعبادتهم إيانا ، تبرأنا إليك منهم يا ربنا .
قال الشيخ بن باز رحمه الله :
( هذه الآية تبين أنه لا أحد أضل ممن يدعو من دون الله ، ووصف المدعو من دون الله بأربع أوصاف :
الأولى : عدم استجابتهم لهم إلى يوم القيامة .
الثانية : أنهم غافلون عن دعائهم ، إما لأنهم أموات ، أو جماد لا إحساس لهم ، أو حي مشغول ، أو ملك لا علم له بمن دعاه .
الثالثة : أنهم يكونون أعداءً لمن عبدوهم يوم القيامة .
الرابعة : أنهم يبرؤون من عبادتهم وينكرونها ) . أ . ه
مناسبة الآيتين للباب :
أن فيها الحكم على من دعا غير الله بأنه أضل الضالين ، وأن الدعاء عبادة فمن صرفه لغير الله فهو مشرك .
من فوائد الآيتين :
1- الآية تعم كلَّ من يُدعى من دون الله ، كما قال تعالى : ? قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ? .
2- أن الشرك أعظم الضلال .
3- أجهل الناس وأضلهم من دعا غير الله .(1/108)
4- إثبات أن المدعوين غافلون عن عبادتهم ولا يستطيعون إجابتهم .
5- تسمية هذا الدعاء عبادة .
6- أن هذه الدعوة سبب لعداوة المدعوين للعابدين يوم القيامة .
7- بيان أن المعبودين يستبرؤون يوم القيامة من عبادة عابديهم .
8- أن الأوثان لا تسمع من دعاها ، ولا تستجيب له ، عكس ما يتصور المشركون فيها .
م / وقوله : ? أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكرون ? . [ النمل 62 ]
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( أمن ) أي من هو ؟
( المضطر ) المكروب الذي مسه الضر .
( خلفاء الأرض ) أي يخلف كل قرن القرن الذي قبله في الأرض .
المعنى الإجمالي :
يبين سبحانه أن المشركين من العرب ونحوهم ، قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلا الله وحده ، فذكر ذلك سبحانه محتجاً عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه ، ولهذا قال : ? أءله مع الله ? يعني يفعل ذلك ، فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار ، فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .
مناسبة الآية للباب :
أن فيها بطلان الاستغاثة بغير الله ، لأنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء النازل ، ويحي ويميت سواه .
من فوائد الآية :
1- إثبات بركة الدعاء .
2- أن الله يستجيب دعاء المضطر ويكشف السوء .
3- معرفة الله بالفطرة .
4- بطلان لاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
م / وروى الطبراني بإسناده :
( أنه كان في زمن النبي ( منافق يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله ( من هذا المنافق ، فقال النبي ( : إنه لا يُستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
روى الحديث الصحابي عبادة بن الصامت .
قوله ( أنه كان في زمن النبي ( منافق يؤذي المؤمنين )(1/109)
المنافق : هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر .
والمنافق هذا يحتمل أنه عبد الله بن أبي ، كما في رواية ابن أبي حاتم ، فإنه معروف بالأذى للمؤمنين بالكلام في أعراضهم ونحو ذلك .
قوله ( فقال بعضهم ) أي بعض الصحابة ، وهذا البعض القائل لذلك يحتمل أن يكون واحداً ، وأن يكون جماعة ، والظاهر أنه واحد ، وقد جاء في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق .
( نستغيث برسول الله ( ) أي نطلب الغوث وهو إزالة الشدة .
ومرادهم : الاستغاثة به فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم .
قوله ( لا يستغاث بي ) قال بعضهم :
فيه التصريح بأنه لا يستغاث برسول الله ( في الأمور وإنما يستغاث بالله .
وقال بعض العلماء : الظاهر أن مراده ( إرشادهم إلى التأدب مع الله في الألفاظ ، وهذا القول أصح .
لأن استعانتهم بالنبي ( من المنافق من الأمور التي يقدر عليها ، إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك .
فظهر أن مقصود النبي ( التأدب في الألفاظ ، وفعل ذلك ( :
أ- حماية لجانب التوحيد .
ب- سداً لذرائع الشرك .
ج- أدباً وتواضعاً لربه .
د- تحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال .
* الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى : ? فاستغاثه الذي من شيعته ? أن الآية تفيد جواز الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه ، وأن الحديث لا يحرم ذلك ، لكن النبي ( نهاهم لحسن التأدب مع الله ، وعدم إطلاق العبارات المحتملة للحق والباطل .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه إنكار النبي ( الاستغاثة بغير الله .
من فوائد الحديث :
1- بيان ضرر المنافقين على المسلمين .
2- أنه لا يستغاث بالنبي ( ، وغيره من باب أولى .
3- تحريم الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
4- الإرشاد إلى حسن اللفظ وحماية التوحيد .
5- أنه ينبغي أن يكون الإنسان قلبه معلق بالله .
6- سد الطرق المفضية إلى الشرك .
7- حماية المصطفى ( حمى التوحيد والتأدب مع الله .
8- ذم النفاق .
الباب الخامس عشر(1/110)
م / قول الله تعالى : ? أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون . ولا يستطيعون لهم نصراً ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ما لا يخلق ) أي مخلوقات لا تقدر على الخلق .
( وهم يخلقون ) أي هؤلاء المعبودين مخلوقون محدثون .
المراد من هذه الترجمة بيان حال المدعوين من دون الله ، أنهم لا ينفعون ولا يضرون ، وسواء في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون والأصنام ، كل من دعي من دون الله فهذه حاله ، كما قال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين يدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ? .
ويكفيك في ذلك قوله تعالى لأكرم الخلق : ? قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً إلا بلاغاً من الله ورسالاته ? .
المعنى الإجمالي :
قوله ? أيشركون ? الاستفهام للاستنكار والتوبيخ .
قال المفسرون في هذه الآية : هذا توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ، والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها ، وبيّن أنهم لا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه ؟!
وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله ، وهذا وصف كل مخلوق حتى الملائكة والأنبياء والصالحين .
وأشرف الخلق محمد ( قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول : ( اللهم أنت عضدي ونصيري ، بك أحول وبك أصول ، وبك أقاتل ) . رواه أبو داود
وقد بين الله تعالى في هذه الآية صفات هؤلاء المعبودين من دون الله ، وهي أربعة :
1. أنهم لا يخلقون شيئاً .
2. أنهم مخلوقون مربوبون .
3. أنهم لا يستطيعون لهم نصراً .
4. أنهم لا ينصرون أنفسهم .
مناسبة الآية للباب :(1/111)
بطلان الشرك من أساسه ، لأنه تعلق على مخلوق عاجز .
من فوائد الآية :
1- بيان جهل المشركين .
2- بطلان الشرك من أساسه ، لأنه تعلق على مخلوق عاجز .
3- إثبات عجز المعبودين غير الله وعدم صلاحيتهم للعبادة بالدليل العقلي .
4- أن الخالق هو المستحق للعبادة .
وقوله : ? والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( والذين تدعون من دونه ) أي الذين تدعونهم غير الله ، من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرهم .
( قطمير ) القطمير هو اللفافة التي تكون على نواة التمر .
المعنى الإجمالي :
يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه ـ من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها ـ مما يدل على عجزهم وضعفهم ، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو، وهي :
الملك ، وسماع الدعاء ، والقدرة على الاستجابة .
فمتى لم توجد هذه الشروط تامّة بطلت دعوته ، فكيف إذا عدمت بالكلية .
فنفى عنهم الملك بقوله : ? ما يملكون من قطمير ? .
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة : " القطمير : اللفافة التي تكون على نواة التمر "
أي لا يملكون من السموات والأرض شيئاً ، ولا بمقدار هذا القطمير ، كما قال تعالى : ? ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون ? .
وقال تعالى : ? قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات والأرض ? .
فمن كان هذا حاله ، فكيف يُدعى من دون الله ، ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله تعالى : ? إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ? يعني الآلهة التي تدعونها لا يسمعون دعاءكم لأنهم أموات ، أو ملائكة مشغولون بأحوالهم مسخرون لما خلقوا له ، أو جماد .(1/112)
ولأنه قد يقول المشرك : هذا في الأصنام ، أما الملائكة والأنبياء والصالحون فيسمعون ويستجيبون .
فنفى سبحانه ذلك بقوله : ? ولو سمعوا ما استجابوا لكم ? أي لا يقدرون على ما تطلبونه منكم .
قوله : ? ويوم القيامة يكفرون بشرككم ?
قال ابن كثير : " يتبرؤون منكم " .
? ولا ينبئك مثل خبير ? أي لا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها ، وما تصير إليه ، مثل خبير بها .
قال قتادة : " يعني نفسه تبارك وتعالى ، فإنه أخبر بالواقع لا محالة " .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت على نفي النفع والقدرة عن المعبودين دون الله .
من فوائد الآية :
1- أن الأصنام لا تملك لعبّادها نفعاً ولا ضراً ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
2- أن الشرك سبب للعداوة بين العابدين والمعبودين .
3- بيان الشروط التي يجب توافرها في المدعو المُستَغَاث به ، وهي :
1. ملكه لما طلب منه .
2. سماعه لدعاء من دعاه .
3. القدرة على إجابته .
4- إثبات علم الله بعواقب الأمور .
وفي الصحيح عن أنس قال : ( شُجَّ النبي ( يوم أحد ، وكُسِرَت رباعيته ، فقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ، فنزلت : ? ليس لك من الأمر شيء ?.
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قوله ( شُجَّ النبي ( ) الشج : في الرأس خاصة ، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويسقه .
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة قال : ( رمى عبد الله بن قمئة رسول الله ( يوم أحد ، فشجّه في وجهه ، وكسر رباعيته ، فقال : خذها وأنا ابن قمئة ، فقال رسول الله ( : مالك أقماك الله ، فسلط الله عليه تيس جبل ، فلم يزل ينطحه حتى قطّعه قطعة قطعة ) .
( وكسرت رباعيته ) قال القرطبي : " الرباعية بفتح الراء ، كل سنٍ بعد ثنية .
قال النووي : " وللإنسان أربع رباعيات " .
قوله ( يوم أحد ) جبل معروف إلى الآن ، كانت عنده الوقعة المشهورة ، فأضيفت إليه .(1/113)
قوله ( فقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ) زاد مسلم من طريق ثابت عن أنس : ( وكسروا رباعيته وأدموا وجهه ) .
والاستفهام يراد به الاستبعاد ، أي : بعيد أن يفلح قومٌ شجّوا نبيهم .
قوله ( فنزلت : ليس لك من الأمر شيء ) قال ابن عطية : " كان النبي ( لحقه في تلك الحال يأسٌ من كفار قريش ، فقيل له بسبب ذلك : ? ليس لك من الأمر شيء ? أي : عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ، ودُمْ على الدعاء لربك " .
وقال غيره : " المعنى : أن الله تعالى أمرهم ، فإما أن يهلكهم ، أو يكبتهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذّبهم إن أصروا ، وليس لك من أمرهم شيء ، وإنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم " .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل على أن الأنبياء أصلح الناس لا يملكون نفعاً ولا ضراً ، فكيف فيمن دونهم .
من فوائد الحديث :
1- وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء لينالوا جزيل الأجر والثواب ، ولتعرف أقوامهم ما أصابهم ويتأسوا بهم
2- بطلان الشرك بالأولياء والصالحين ، لأنه إذا كان النبي لا يملك من الأمر شيئاً ، فغيره من باب أولى
3- أن الأنبياء بشر ، تصيبهم محن الدنيا ، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ، ليُتَيقن أنهم مخلوقون مربوبون ، ولا يُفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات .
4- أن الأنبياء لا يقدرون على شيء إلا ما أقدرهم الله عليه ، فكيف بحال من دونهم .
5- أنه لا يعلم خواتيم الأعمال إلا الله .
6- أن التوبة تمحو ما قبلها .
7- أن الظلم سبب للعذاب .
8- أن جلب النفع ودفع الضر من الأعمال الخاصة بالله ، فيكون طلبها من غير الله شركاً به .
9- مشروعية الصبر وتحمل الأذى والضرر في سبيل الله .
وفيه :(1/114)
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع النبي ( : ( يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : اللهم العن فلاناً وفلاناً ، بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ، فأنزل الله : ? ليس لك من الأمر شيء ? ) .رواه البخاري ( 4069 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( وفيه ) أي في صحيح البخاري .
( عن ابن عمر ) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، صحابي جليل ، شهد له رسول الله ( بالصلاح ، مات سنة ( 73 ه )
( اللهم العن فلاناً وفلاناً ) وفي رواية : ( على صفوان ابن أمية ، وسهل بن عمرو ، والحارث بن هشام .
وأصل اللعن : الطرد والإبعاد من رحمة الله .
( بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ) :
( سمع الله ) أي استجاب لمن دعاه وتقبل .
( لمن حمده ) الحمد ضد الذم ، وحقيقة الحمد : الثناء على المحمود مع المحبة له والإجلال .
( فأنزل الله : ليس لك من الأمر شيء ) فتاب الله عليهم وآمنوا مع أنهم فعلوا أشياء لم يفعلها أكثر الكفار ، منها :
غزوهم نبيهم ( ، وشجهم له ، وكسر رباعيته ، وقتلهم بني عمهم المؤمنين ، وقتلهم الأنصار ، والتمثيل بقتلى المسلمين ، وإعلانهم لشركهم وكفرهم .
ومع هذا كله لم يقدر النبي ( أن يدفعهم عن نفسه ولا عن أصحابه ، بل لجأ إلى ربه المالك القادر على النفع والضر وإهلاكهم ، ودعا عليهم ( في الصلاة المكتوبة جهراً ، وخلفه سادات الأولياء يؤمنون على دعائه ، ما استجاب الله له فيهم ، بل تاب عليهم وآمنوا ، فلو كان عند النبي ( من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقونه على هذه الأفعال العظيمة .
وفي هذا كله معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، الذي له الأمر كله ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، فهو المستحق أن يعبد وحده .(1/115)
وفي هذا أن من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين ، بل في الطواغيت ، من أنهم ينفعون من دعاهم ، ويمنعون من لاذ بهم .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه بيان أن النبي ( لم يقدر أن يدفع أذى المشركين عن نفسه ولا عن أصحابه ، بل لجأ إلى ربه القادر المالك ، مما يدل على بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين .
من فوائد الحديث :
1- جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة ، وأن ذلك لا يضر في الصلاة .
2- مشروعية القنوت عند النوازل .
3- بطلان التعلق بالأولياء والصالحين لطلب قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات .
4- أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد .
5- إثبات أن القرآن منزل غير مخلوق .
6- بيان أن الأنبياء لا يملكون نفعاً ولا ضراً ، ولا يعلمون الغيب .
وفيه :
عن أبي هريرة ( قال : ( قام رسول الله ( حين أنزل عليه ? وأنذر عشيرتك الأقربين ? فقال : يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم ، لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عبّاس بن عبد المطلب ، لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله ( لا أغني عنكِ من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئاً ) .
رواه البخاري ( 2753 ) ومسلم ( 1 / 192 ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( وفيه ) أي في صحيح البخاري .
( عن أبي هريرة ) قال الحافظ في الفتح ( 1 / 67 ) :
" وقد اختلف في اسمه اختلافاً كثيراً ، قال ابن عبد البر : لم يختلف في اسم في الجاهلية والإسلام مثل ما اختلف في اسمه ، اختلف فيه على عشرين قولاً ، قلت : وسرد ابن الجوزي فيها في التلقيح ثمانية عشر قولاً ، وقال النووي : تبلغ أكثر من ثلاثين قولاً ، قلت : وقد جمعتها في ترجمة تهذيب التهذيب فلم تبلغ ذلك ، ولكن كلام الشيخ محمول على الاختلاف في اسمه وفي اسم أبيه معاً .(1/116)
ومجموع ما أخرجه له البخاري من المتون المستقلة أربعمائة حديث وستة وأربعون حديثاً على التحرير " . أ.ه
وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم ، حفظ عن النبي ( أكثر مما حفظ غيره ، مات سنة سبع أو ثمان وخمسين ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة ، رُوي له في كتب السنة أكثر من خمسة آلاف حديث .
( قام رسول الله ( ) في الصحيح من رواية ابن عباس : ( صعد النبي ( على الصفا ) .
( حين أنزل الله عليه : وأنذر عشيرتك الأقربين ) عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته .
( الأقربين ) أي الأقرب فالأقرب منهم ، لأنهم أحق الناس ببرك .
( اشتروا أنفسكم ) أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، وعدم الإشراك به ، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر .
( يا عباس بن عبد المطلب ) هو عم النبي ( ، وعبد المطلب جد النبي ( .
فإن قيل : كيف يقول النبي ( عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله عز وجل ؟
الجواب : أن هذا ليس إنشاءً بل هو خبر ، فاسمه عبد المطلب ولم يسمه النبي ( ، لكن اشتهر بعبد المطلب ، ولهذا انتمى إليه النبي ( فقال :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
وفي قوله ( اشتروا أنفسكم ) دفع ما عساه أن يتوهمه بعضهم أنه يغني عنهم من الله شيئاً بشفاعته ، فإذا كان لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه ولو عصا ، فكيف يملك لغيره نفعاً أو ضراً ، أو يدفع عنه عذاب الله .
وفي قوله ( لا أغني عنكم من الله شيئاً ) حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه ، أو يدفعوا عنه ، فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى ، وأقام نبيه ( بالإنذار عنه ، كما أخبر تعالى عن المشركين بقوله : ? الذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ? وقوله ? هؤلاء شفعاؤنا عند الله ? .(1/117)
قوله ( سلوني من مالي ) بيّن ( أنه لا ينجيهم من عذاب الله ، ولا يدخلهم الجنة ، ولا يقربهم إلى الله ، إنما الذي يقرب إلى الله ويدخل الجنة ، وينجي من النار برحمة الله ، هو طاعة الله ، وأما ما يقدر عليه ( من أمور الدنيا فلا يبخل بها عنهم ، كما قال : ( سلوني من مالي ما شئتم ) .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه أنه لا يجوز أن يطلب من الرسول ( ولا من غيره من باب أولى إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا ، أما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله .
من فوائد الحديث :
1- أن أحق الناس ببرك وإحسانك أقاربك ، كما قال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ? .
وقد أمره الله بالنذارة العامة ، كما قال تعالى : ? لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ? .
وقال تعالى: ? وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ? .
2- أن الأنبياء لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضرّاً فكيف بمن دونهم .
3- إذا كان النبي ( لا يستطيع نفع أحد دون الله ، فغيره أولى .
4- ينبغي للإنسان أن يشتري نفسه من عذاب الله بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، فإن ذلك ثمن النجاة والخلاص من عذاب الله .
5- بطلان الاعتماد على الأنساب وترك الأسباب ، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب ، كما قال ( :
( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) . رواه مسلم
6- أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح .
7- لا يجوز أن نسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا ، أما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله ، فلا يجوز أن يطلب إلا منه .
8- الرد على عباد الأنبياء والصالحين الذين يغلون بالمخلوقين .
9- أولى الناس برسول الله ( أهل طاعته لا أقاربه .
10- مسارعة النبي ( إلى امتثال أمر ربه وتبليغ رسالته .(1/118)
11- وفيه دليل على الاجتهاد بالأعمال وترك البطالة والاعتماد على مجرد الانتساب إلى الأشخاص ، كما يفعله أهل الطيش والحمق ممن ينتسب إلى نبي أو صالح ونحو ذلك .
12- أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح ، لا الاعتماد على الانتساب للأشخاص .
13- قال الحافظ في الفتح ( 8 / 362 ) :
" والسر بالأمر بإنذار الأقربين : أولاً : أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم ، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع ، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيما بينهم في الدعوة والتخويف ، فلذلك نص على إنذارهم " . أ.ه
14- أن مجرد القرابة من الرسول ( لا تنفع بدون إيمان وعمل صالح وعقيدة صحيحة .
الباب السادس عشر
قول الله تعالى : ? حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ? . [ سبأ 23 ]
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) أي زال النزع عنها . [ قاله ابن عباس وابن عمر والشعبي ]
والفزع : الخوف المفاجئ ، لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعاً .
( عن قلوبهم ) أي الملائكة ، وهذا ما اختاره ابن جرير وغيره .
وقال ابن كثير : " وهو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار " .
وقال أبو حيّان : " تظاهرت الأحاديث عن رسول الله ( أن قوله ? حتى إذا فزع عن قلوبهم ? إنما هي في الملائكة " .
( قال ماذا قال ربكم ) أي قال بعضهم لبعض .
ولم يقولوا ماذا خلق ربكم ، ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا : ماذا خلق ربكم .
( قالوا الحق ) أي قالوا : قال الله الحق ، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله وصعقوا ، ثم قاموا ، أخذوا يتساءلون فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق .
( وهو العلي الكبير ) علو القدر وعلو القهر وعلو الذات ، فله العلو الكامل من جميع الوجوه ، قال تعالى :(1/119)
? الرحمن على العرش استوى ? . الكبير : الذي لا أكبر منه ولا أعظم تبارك وتعالى .
أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عُبد من دون الله ، فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى وهيبتهم منه ، وخشيتهم له ، فكيف يدعوهم أحد من دون الله .
وإذا كانوا لا يدعون مع الله تعالى لا استقلالاً ولا وساطة بالشفاعة ، فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى ولا يعبد ، ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم ، وقد قال الله تعالى فيهم : ? وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ? .
فهذه حالهم وصفاتهم ، وليس لهم من الربوبية والإلهية شيء ، بل ذلك لله وحده لا شريك له .
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى : " . . . فالمخلوقات بأسرها خاضعة لجلاله ، معترفة بعظمته ومجده ، خاضعة خائفة منه ، فمن كان هذا شأنه فهو الرب الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر والتعظيم والتأله إلا هو ، ومن سواه ليس له من هذا الحق شيء ، فكما أن الكمال المطلق والكبرياء والعظمة ونعوت الجلال والجمال المطلق كلها لله ، لا يمكن أن يتصف بها غيره ، فكذلك العبودية الظاهرة والباطنة كلها حقه سبحانه وتعالى الخالص الذي لا يشاركه فيها مشارك . . . " . أ.ه
المعنى الإجمالي :
يخبر تعالى عن الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي من الله إلى جبريل فزعت عند ذلك تعظيماً وهيبة ، وأرعدت حتى يصيبها مثل الغشي ، فإذا أزيل الفزع من قلوبهم أخذوا يتساءلون ، فيقولون : ? ماذا قال ربكم ? فيقولون : ( قال الحق وهو العلي فوق كل شيء ، الذي لا أكبر منه ولا أعظم ) .
مناسبة الآية للباب :(1/120)
حيث دلت الآية على خوف الملائكة من الله ، وتذللهم له ، فإذا كان الملائكة كذلك يخشون الله ويخافونه ، فكيف يُدعون من دون الله ، وإذا لم تصح عبادتهم لا استقلالاً ولا وساطة بالشفاعة ، فعبادة غيرهم كالقبور لا تصح من باب أولى .
من فوائد الآية :
1- إثبات عظمة الله وهيبته ، كما قال تعالى : ? يخافون ربهم من فوقهم ? .
2- الرد على جميع فرق المشركين الذين يعبدون مع الله من لا يُداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم .
3- إثبات القلوب للملائكة ، لقوله : ? عن قلوبهم ? .
4- أن لهم عقولاً ، إذ أن القلوب هي محل العقول .
5- إثبات القول لله سبحانه وتعالى .
6- إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى بنوعيه : علو الذات ـ علو الصفات .
7- إثبات اسمين من أسماء الله ، وهما : العلي والكبير .
في الصحيح :
عن أبي هريرة ( أن النبي ( قال : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ، وصفه سفيان بكفه ، فحرفها وبدد بين أصابعه ، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء ) . رواه البخاري ( 2473 ) وأبو داود ( 4738 ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قوله ( في الصحيح ) أي في صحيح البخاري .
( إذا قضي الأمر في السماء ) أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبرائيل بما أراده .
( ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ) أي لقول الله عز وجل .(1/121)
قال الحافظ : " خَضَعاناً : بفتحتين من الخضوع " .
( كأنه سلسلة على صفوان ) أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس .
وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه : ( إذا تكلم الله بالوحي ، سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان . . . ) .
( ينفذهم ذلك ) بفتح الياء وسكون النون وضم الفاء .
ذلك : أي القول ، والضمير في : ينفذهم : للملائكة ، أي : ينفذ ذلك القول الملائكة ، أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه .
( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) أي أزيل عنها الخوف والغشي .
( قالوا الحق ) أي قالوا : قال الله الحق ، علموا أن الله لا يقول إلا حقاً .
( فيسمعها مسترق السمع ) أي يسمع الكلمة التي قضاها الله مسترق السمع ، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضاً ، فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر يقضيه الله ، كما قال تعالى : ? وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ? .
وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعاً : ( أن الملائكة تنزل في العنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضي في السماء ، فتسرق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان ) .
( ومسترق السمع هكذا ، وصفه سفيان بكفه ) أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض .
وسفيان : هو ابن عيينة ، أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي ، ثقة حافظ فقيه حجة ، مات سنة ثمان وتسعين ومائة .
( وبدّد ) أي فرق بين أصابعه .
( فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ) أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته ، ثم يلقيها إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن .
السحر : عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره .
الكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل .
( فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ) الشهاب : هو شعلة من نار قد تدرك الشيطان فتحرقه ، وقد يفلت منها .(1/122)
( فيكذب معها مائة كذبة ) أي يكذب الساحر أو الكاهن مع الكلمة التي ألقاها إليه وليّه من الشياطين مائة كذبة .
( مائة ) هل هذا على سبيل التحديد ؟ أو المعنى أنه يكذب معها كذبات كثيرة ؟
الثاني هو الصحيح .
( فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ ) المعنى : أن الذين يأتون الكهان يصدقونهم في كذبهم ، ويستدلون على ذلك بكونهم يَصْدقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي ، ويذكرون أنه أخبرهم بشيء مرة فوجدوه حقاً ، وتلك الكلمة من الحق ، كما في الصحيح عن عائشة قالت : ( قلت : يا رسول الله ، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقاً ، قال : تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليّه ، ويزيد فيها مائة كذبة ) .
المعنى الإجمالي :
يخبر النبي ( عن تعظيم الملائكة لكلام الله ، وما يعتريهم من الخوف وتساؤلهم عما قال ربهم ، وإجابة بعضهم لبعض ، وما تعمله الشياطين الذين يختطفون كلام الملائكة في ذلك لتلقيه إلى السحرة والكهان من الناس ، وما تلاقيه الشياطين من الرمي بالشهب حينئذٍ ، وأنه قد يتمكن الشيطان من إيصال الكلمة المسموعة من الملائكة إلى الساحر أو الكاهن لحكمة يعلمها الله ـ وإلا فهو سبحانه لا يفوته شيء ـ فيزاد مع تلك الكلمة من قبل الشيطان أو الآدمي تسع وتسعون كذبة وتذاع كلها في الناس ، فيصدقونها كلها بسبب تلك الكلمة المسموعة .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه الرد على المشركين ، فإنه إذا كان هذا حال الملائكة عند سماع كلام الله مع ما أعطاهم الله من القوة ، عُلم أنه لا يجوز صرف شيء من العبادة لهم ، فكيف بمن دونهم .
من فوائد الحديث :
1- بيان حال الملائكة وأنهم يخافون الله ويخشونه .
2- أن الملائكة أنفسهم يعبدون الله ويخافونه ، فإذا لم يصح دعاؤهم وعبادتهم لا استقلالاً ولا وساطة بالشفاعة ، فعبادة غيرهم لا تصح من باب أولى .
3- إثبات القول لله تعالى .(1/123)
4- عظمة الله تعالى ، قال تعالى : ? وما قدروا الله حق قدره ? .
5- إثبات الأجنحة للملائكة .
6- أنه لا يصدر عن الله إلا الحق .
7- إثبات استراق الشياطين للسمع ، وأن الله قد يمكنهم من ذلك ابتلاءً .
8- كثرة الجن .
9- أن مصدر علم الكهنة والسحرة هو الشياطين .
10- أن الكهان من أكذب الناس .
11- استعمال الأمثال الحسية في توضيح الأشياء المعنوية .
12- قبول النفوس للباطل ، يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة .
13- أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله .
14- أن الرمي بالشهب كان قبل المبعث .
واختلف العلماء هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول ( إلى الأبد ؟ أو انقطعوا في وقته فقط ؟
الصحيح أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط ، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي ، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا .
الباب السابع عشر
باب الشفاعة
لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة ، كما قال تعالى : ? ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ? قطع الله أطماع المشركين فيها وأخبر أنه شرك ، ونزه نفسه عنه ، ونفى أن يكون للخلق من دونه ولي أو شفيع .
أراد المصنف في هذا الباب إقامة الحجة على أن ذلك هو عين الشرك .(1/124)
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " إنما ذكر المصنف الشفاعة في تصانيف هذه الأبواب لأن المشركين يبرّرون شركهم ودعاءهم للملائكة والأنبياء والأولياء بقولهم : نحن ندعوهم مع علمنا أنهم مخلوقون مملوكون ، ولكن حيث أن لهم عند الله جاهاً عظيماً ومقامات عالية ، ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى ، وليشفعوا لنا عنده كما يتقرب إلى الوجهاء عند الملوك والسلاطين ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم ، وإدراك مآربهم ، وهذا من أبطل الباطل ، وهو تشبيه الله العظيم ملك الملوك الذي يخافه كل أحد ، وتخضع له المخلوقات بأسرها ، بالملوك والفقراء المحتاجين للوجهاء والوزراء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم ، فأبطل الله هذا الزعم ، وبين أن الشفاعة كلها لله ، والملك كله لله ، وأنه لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه " . أ.ه
تعريف الشفاعة :
الشفاعة في اللغة : جعل الشيء شفيعاً .
وفي الاصطلاح : التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
والشفاعة تنقسم إلى قسمين :
1. شفاعة منفية .
2. شفاعة مثبتة [ صحيحة ] .
فالشفاعة المنفية :
هي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .
وسميت منفية لأنه جاء نفيها في القرآن .
وهذه الشفاعة باطلة ، كما قال تعالى : ? فما تنفعهم شفاعة الشافعين ? .
وقد ذكر المصنف بعض الآيات في هذا الباب .
وأما الشفاعة الصحيحة :
هي التي أثبتها الله تعالى في كتابه ، أو أثبتها رسول الله ( ، ولا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص ، وهذه الشفاعة لها شروط ثلاث :
1. رضى الله عن الشافع .
2. رضى الله عن المشفوع .
3. إذن الله للشافع أن يشفع .
وقد ذكر المصنف بعض الآيات التي تدل على هذه الشفاعة .
وقول الله عز وجل : ? وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ? . الأنعام ( 51 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/125)
الإنذار : هو الإعلام بأسباب المخافة والتحذير منها .
قوله ( به ) قال ابن عباس " بالقرآن " ، كما قال تعالى : ? وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها ? ، وقال تعالى : ? لتنذر به وذكرى للمؤمنين ? .
( الذين يخافون أن يحشروا ) هذا إنذار خاص ، خص الله به هؤلاء لأنهم منتفعين بالقرآن .
( يحشروا ) الحشر هو الجمع ، وشرعاً : هو جمع الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد .
( إلى ربهم ) إلى معبودهم وخالقهم .
( ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ) أي ليس لهم نصير ينصرهم ، ولا شفيع : أي شافع يتوسط لهم .
المعنى الإجمالي للآية :
يقول تعالى لنبيه : خوّف بالقرآن الذين يخشون ربهم من أصحاب العقول الواعية الذين يتذكرون الوقوف بين يدي ربهم ، متخلين عن قريب ينصرهم ، وواسطة تشفع لهم ـ عنده ـ بغير إذنه ، لعلهم يعدون العدة لذلك فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة .
مناسبة الآية للباب :
في هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله ـ أي بغير إذنه ـ ومفهومها أنها ثابتة بإذنه ، وهذا هو المقصود .
من فوائد الآية :
1- نفى سبحانه وتعالى عن المؤمنين أن يكون لهم وليٌّ أو شفيع من دون الله ، كما هو دين المشركين ، فمن اتخذ من دون الله شفيعاً ، فليس من المؤمنين ، ولا تحصل له الشفاعة .
2- لا تنفع الموعظة إلا المؤمنين .
3- إثبات البعث .
4- نفي الشفاعة إلا بشروطها .
5- الرد على المشركين الذين يتقربون إلى الأنبياء والصالحين يطلبون منهم الشفاعة .
6- مشروعية الوعظ والتذكير بيوم القيامة .
وقوله : ? قل لله الشفاعة جميعاً ? . الزمر ( 44)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
وقبل هذه الآية ? أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ? .(1/126)
( أم اتخذوا ) أي بل اتخذوا ، أي المشركين ، والهمزة للإنكار من دون الله شفعاء ، أي أتشفع لهم عند الله بزعمهم ، كما قال تعالى : ? ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ? .
( من دون الله ) أي من دون إذنه وأمره ، والحال أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه .
( أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ) أي : أيشفعون ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم أو أموات كذلك .
( قل لله الشفاعة جميعاً ) أي هو مالكها كلها ، فليس لمن تدعونهم منها شيء .
والمعنى : أنه مالك الشفاعة كلها ، لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ، ولا يستقل بها .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الشفاعة بجميع أنواعها ملك لله فلا تُنال إلا بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له .
من فوائد الآية :
1- أن طلب الشفاعة من غير الله شرك أكبر .
2- تعدد الشفاعة . [ وسيأتي ذكر أنواعها إن شاء الله ]
3- إثبات البعث .
وقوله : ? من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ? . البقرة ( 255)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عنده ) أي عند الله .
( إلا بإذنه ) أي بإذن الله .
والمعنى : لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه .
المعنى الإجمالي للآية :
يخبر تعالى في هذه الآية أنه لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه سبحانه وتعالى ، فمن شروط الشفاعة إذن الله تعالى للمشفوع .
من فوائد الآية :
1- إثبات الشفاعة ، لكن بشرط أن يأذن الله ، لأنه لولا ثبوتها لكان الاستثناء في قوله ? إلا بإذنه ? لغواً لا فائدة فيه .
2- نفي الشفاعة عن المخلوق استقلالاً بدون إذن الله .(1/127)
3- الرد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصور على صور الصالحين وغيرهم ، وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه ، فأنكر ذلك عليهم ، وبين عظيم ملكوته وكبريائه ، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، كقوله : ? لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ? وقوله : ? يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ? .
4- إثبات الشفاعة لمن أذن الله له بها .
وقوله : ? وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرض ? . النجم ( 26 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المعنى الإجمالي :
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن في السموات كثيراً من الملائكة ، ومع كثرتهم وعلو منزلتهم عند الله فإن شفاعتهم لا تغني أحداً إلا من بعد أن يأذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له .
مناسبة الآية للباب :
أن فيها الرد على المشركين الذين يطلبون الشفاعة من الملائكة وغيرهم من المخلوقين .
من فوائد الآية :
1- ففي هذه الآية رد على من عبد الملائكة والصالحين لشفاعة أو غيرها ، لأنهم إذا كانوا لا يشفعون إلا بإذنه سبحانه وتعالى ، فلأي معنى يدعون ويعبدون ؟ وأيضاً فإن الله لا يرضى إلا لمن ارتضى قوله وعمله ، وهو الموحد لا المشرك .
2- هذه الآية فيها شروط الشفاعة الصحيحة ، وهي :
1. رضى الله عن الشافع .
2. رضى الله عن المشفوع له .
3. إذن الله تعالى للشافع أن يشفع .
وهذه الشروط مجملة في الآية السابقة : ? وكم من ملك في السموات . . . ? .
ومفصلة في قوله تعالى : ? من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ? .
تضمنت هذه الآية إذن الله .
وقوله : ? يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن الله الرحمن ورضي له قولاً ? .
بين الله تعالى في هذه الآية أن الشفاعة لا تقع إلا بشرطين :(1/128)
إذن الرب للشافع أن يشفع ، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه .
3- وقد قسم العلماء رحمهم الله الشفاعة الصحيحة إلى أقسام :
1. الشفاعة العظمى :
وهي خاصة بنبينا محمد ( ، فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء .
عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( أنا سيّد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممَّ ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، فتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ، فيقول الناس : ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ . . . ثم ذكر الحديث ، فيأتون آدم . . . ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى . . . وكلهم يردها إلى الآخر ، حتى يأتون إلى محمد ( فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فأنْطلِق ، فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي عز وجل ، ثم يفتح لي على محامده ، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتح على أحد قبلي ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : أمتي يا رب أمتي يا رب . . . ) . متفق عليه
2. شفاعته ( بدخول أهل الجنة الجنة :
وهذه خاصة بالرسول ( ، فإن أهل الجنة إذا عبروا الصراط ، أوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فتمحص قلوب بعضهم من بعض حتى يهذبوا وينقوا ، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة ، فتفتح أبواب الجنة بشفاعة النبي ( .
عن أبي هريرة وحذيفة ـ رضي الله عنهما ـ قالا : قال رسول الله ( : ( يجمع الله تبارك وتعالى الناس ، فيقوم المؤمنون حتى تُزْلق [ أي تقرب ] لهم الجنة ، فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا ، استفتح لنا الجنة . . . فذكر الحديث وفيه : فيأتون محمداً ( فيقوم فيؤذن له . . . ) . رواه مسلم(1/129)
وعن أنس بن مالك ( أن النبي ( قال : ( آتي باب الجنة يوم القيامة ،فأستفتح ، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد ، فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحدٍ قبلك ) . رواه مسلم
3. شفاعته ( لعمّه أبي طالب للتخفيف عنه من عذاب النار :
عن العباس بن عبد المطلب ( أنه قال للنبي ( : ( ما أغنيت عن عمّك فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . متفق عليه
وعن أبي سعيد الخدري ( أنه سمع النبي ( وقد ذكر عنده عمه فقال : ( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ) . متفق عليه
هذان الحديثان يدلان على أن أبا طالب مات كافراً ، إذ لو كان مسلماً لخرج من النار مع الموحدين ، كما تواترت الأحاديث بخروج الموحدين من النار . [ وسيأتي إن شاء الله ذكر بعض هذه الأحاديث ]
4. الشفاعة في خروج الموحدين من النار :
الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار متواترة ، وقد اتفق عليها أهل السنة والجماعة .
عن أنس بن مالك ( أن النبي ( قال : ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برّة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ) . متفق عليه
وعن أبي سعيد الخدري ( قال : قال رسول الله ( : ( لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ) . رواه مسلم
وعن أبي سعيد الخدري ( أن النبي ( قال : ( يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ثم يقول الله تعالى : أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل ما إيمان ، فيُخْرَجون منها وقد اسودوا ، فيلقون في نهر الحيا ـ أو الحياة ـ فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل . . . ) . متفق عليه(1/130)
وهذه الشفاعة ينكرها من أهل البدع طائفتان : المعتزلة والخوارج ، لأن المعتزلة والخوارج مذهبهما في فاعل الكبيرة أنه مخلد في النار ، فيرون من زنى كمن أشرك بالله ، لا تنفعه الشفاعة ولن يأذن الله لأحدٍ بالشفاعة له .
وقولهم مردود بما تواترت به الأحاديث في ذلك كما سبق .
وهذه الشفاعة لنبينا ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم .
5. الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها :
وقد يستدل لها بقول النبي ( : ( ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعين رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه ) . رواه مسلم
6. الشفاعة في رفع درجات بعض أهل الجنة :
وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض ، كما قال النبي ( لأبي سلمة : ( اللهم اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديين ، وافسح له في قبره ونور له فيه ، واخلفه في عقبه ) . رواه مسلم
7. شفاعته ( في دخول بعض المؤمنين الجنة بلا حساب ولا عذاب :
كشفاعته ( في عكاشة بن محصن ( ، حيث دعا له النبي ( أن يكون من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب .
وقد انقسم الناس في أمر الشفاعة إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : غلو في إثباتها ، وهم النصارى والمشركون وغلاة الصوفية والقبوريون ، حيث جعلوا شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا عند الملوك ، فطلبوها من دون الله ، كما ذكر الله ذلك عن المشركين .
الصنف الثاني : هم أهل السنة والجماعة ، أثبتوا الشفاعة على وفق ما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، فأثبتوا الشفاعة بشروطها .
الصنف الثالث : هم المعتزلة والخوارج ، غلوا في نفي الشفاعة ، فأنكروا شفاعة النبي ( وشفاعة غيره في أهل الكبائر .
أسباب الشفاعة :
أولاً / القرآن الكريم .
عن أبي هريرة ( عن النبي ( قال : ( إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي : تبارك الذي بيده الملك ) . رواه الترمذي ، وقال حديث حسن ، ورواه أبو داود(1/131)
وعن أبي أمامة ( قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ) .
رواه مسلم
ثانياً / سكنى المدينة والموت بها .
عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال : ( لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحدٌ من أمتي إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة أو شهيداً ) . رواه مسلم
وعن ابن عمر ( قال : قال رسول الله ( : ( من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها ) . رواه الترمذي
ثالثاً / الصلاة على النبي ( وطلب الوسيلة له .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع النبي ( يقول : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلّوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله بها عشراً ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) . رواه مسلم
وعن جابر بن عبد الله ( أن رسول الله ( قال : ( من قال حين يسمع النداء : اللهم ربِّ هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة ) . رواه البخاري
المسلم الذي لا تقبل شفاعته :
عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة ) . رواه مسلم
الشفاعات الدنيوية :
الشفاعات الدنيوية منها ما هو مشروع ، ومنها ما ليس بمشروع ، قال تعالى : ? من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ، وكان الله على كل شيء مقيتاً ? .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى :
" وقوله تعالى : ? من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ? اي من سعى في أمر فترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك .(1/132)
? ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفلٌ منها ? أي يكون عليه وزرٌ من ذلك الأمر الذي ترتب عليه سعيه ونيته ، كما ثبت في الصحيح عن النبي ( أنه قال : ( اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ) " . أ.ه
وقد جاءت السنة المطهرة ببيان ما يحل من هذه الشفاعة وما يحرم :
عن أبي موسى الأشعري ( قال : ( كان رسول الله ( إذا جاءه السائل أو طلب إليه حاجة ، قال : اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ) . رواه البخاري
وعن وهب بن منبه عن أخيه عن معاوية : ( اشفعوا تؤجروا ، فإني لا أريد الأمر فأوخره كيما تشفعوا فتؤجروا ، فإن رسول الله ( قال : اشفعوا تؤجروا ) . رواه أبو داود
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ( أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث ، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته ، فقال النبي ( لعباس : يا عباس ، ألا تعجب من حب مغيث بريرة ، ومن بغض بريرة مغيثاً ، فقال النبي ( : لو راجعته ، قالت : يا رسول الله ، تأمرني ؟ قال : إنما أشفع ، قالت : لا حاجة لي فيه ) .
مالا يحل من الشفاعة فيه :
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ( أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله ( ؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ( ، فكلمه أسامة فقال رسول الله ( : أتشفع في حدٍ من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب ثم قال : إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيعم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) . متفق عليه
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله فقد ضادَّ الله ) . رواه أبو داود وأحمد(1/133)
وقوله : ? قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك ومالهم منهم من ظهير . ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . . . ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( قل ) أي للمشركين .
( زعمتم ) أي زعمتموهم آلهة .
( مثقال ) وزن .
( ذرة ) من خير أ, شر ، والمراد بالذرة : النملة الصغيرة .
( مالهم ) أي للأصنام .
( فيهما ) أي السموات والأرض .
( شرك ) مشاركة .
( وماله ) أي الله .
( منهم ) من الأصنام .
( ظهير ) معين .
المعنى الإجمالي :
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه ( أن يقول للمشركين على وجه التحدي : اطلبوا من آلهتكم التي زعمتم أنها تنفعكم وتكشف الضر عنكم ، فإنهم لا يقدرون على ذلك .
لأنه لا بد من توفر أربعة شروط في المدعو حتى يقدر على إجابة من دعاه ، وهي :
الشرط الأول : الملك .
وقد نفاه الله بقوله : ? لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا الأرض ? .
الشرط الثاني : إذا لم يكن مالكاً فيكون شريكاً للمالك .
وقد نفاه الله بقوله : ? ومالهم فيهما من شرك ? .
الشرط الثالث : إذا لم يكن مالكاً ولا شريكاً للمالك ، فيكون عوناً ووزيراً .
وقد نفاه الله بقوله : ? وماله منهم من ظهير ? .
الشرط الرابع : إذا لم يكن مالكاً ولا شريكاً ولا عوناً ، فيكون شفيعاً .
وقد نفى الله الشفاعة عنده إلا بإذنه .
فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله ، إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة ، كما قال تعالى : ? واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون . ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً ? .
مناسبة الآيتين للباب :
أن فيهما الرد على المشركين الذين يتقربون للأولياء ، يطلبون منهم الشفاعة ويدعونهم لجلب النفع ودفع الضر .
من فوائد الآيتين :(1/134)
1- الرد على المشركين الذين يدعون مع الله آلهة من الملائكة وغيرهم .
2- مشروعية محاجة المشركين لإبطال الشرك ومناظرتهم في ذلك .
3- قط الأسباب التي يتعلق بها المشركون .
4- إثبات الشفاعة التي تكون لله .
5- أن المشركين لا تنفعهم الشفاعة ، لأن الله لا يأذن فيها لمشرك .
الباب الثامن عشر
قول الله تعالى : ? إنك لا تهدي من أحببت ? . القصص ( 56 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( إنك ) الخطاب للنبي ( .
( لا تهدي ) هداية توفيق للدخول في الإسلام ، وأما هداية الدعوة والبيان فإن الرسول يملكها ، قال تعالى : ? وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ? .
( من أحببت ) هدايته .
أراد المؤلف رحمه الله تعالى الرد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون أو يضرون ، فيسألونهم مغفرة الذنوب ، وتفريج الكروب ، وهداية القلوب ، وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية ، ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة .
فإذا عرف الإنسان معنى الآية ومن نزلت فيه ، تبين لهم بطلان قولهم وفساد شركهم ، لأن رسول الله ( أفضل الخلق وأقربهم إلى الله ، وأعظمهم جاهاً عنده ، ومع ذلك حرص واجتهد في هداية عمه أبو طالب في حياة أبي طالب وعند موته ، فلم يتيسر ذلك ولم يقدر عليه .
المعنى الإجمالي :
قال ابن كثير رحمه الله : " يقول تعالى لرسوله ( : إنك يا محمد لا تهدي من أحببت ، أي : ليس لك ذلك ، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، كما قال تعالى : ? ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ? .
( وهو أعلم بالمهتدين ) أي أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية .
وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب ، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في حقه .
مناسبة الآية للباب :(1/135)
أن فيها دلالة واضحة أن الرسول ( لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا عطاءً ولا منعاً ، وأن الأمر كله بيد الله ، ففيها الرد على الذين ينادونه لتفريج الكربات وقضاء الحاجات .
من فوائد الآية :
1- دلت الآية على نفي هداية التوفيق عن النبي ( وهو أكرم الخلق ، فإذا انتفت عنه وهو بهذه المنزلة فنفيها عن غيره أولى .
2- أن الحب الطبيعي للقريب الكافر الذي لم يحارب الإسلام لا يتعارض مع الإيمان .
3- إثبات العلم لله سبحانه وتعالى .
4- إثبات صفة المشيئة لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه .
5- إثبات الحكمة لله سبحانه .
6- إبطال التعلق بغير الله .
في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : ( لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله ( وعند عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له : يا عم ، قل لا إله إلا الله ، كلمةً أحاج لك بها عند الله ، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي ( ، فأعادا ، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله ، فقال النبي ( : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله عز وجل : ? ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ? وأنزل الله في أبي طالب : ? إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ? ) . رواه البخاري ( 1360 ) ومسلم ( 204 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( في الصحيح ) أي في الصحيحين .
( عن ابن المسيب ) هو سعيد بن المسيب بن حذن بن أبي طالب وهب بن عمرو بن عائد القرشي المخزومي ، أحد العلماء الأثبات ، الفقهاء الكبار الحفاظ العبّاد .
قال ابن المديني : " لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه ، مات بعد التسعين " .
وأبو المسيب صحابي بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنهما .(1/136)
( لما حضرت أبا طالب الوفاة ) قال النووي : " قربت وفاته ، وحضرت دلائلها ، وذلك قبل المعاينة والنزع ، ولو كان في حال المعاينة والنزع لما نفعه الإيمان ، لقول الله تعالى : ? وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ? ويدل على أنه قبل المعاينة محاورته للنبي ( مع كفار قريش " . أ.ه
وقال بعض العلماء : " يحتمل أن يكون انتهى إلى المعاينة ، لكن رجا النبي ( أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه ، وتسوغ شفاعته ( لمكانه منه ، ولهذا قال : أجادل لك بها وأشفع لك " .
( جاءه رسول الله ( ) يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الاثنين ، فإنهما من بني مخزوم ، وهو أيضاً مخزومي وكان الثلاثة إذ ذاك كفاراً ، فقتل أبو جهل على كفره ، وأسلم الآخران .
( أحاج لك ) بتشديد الجيم ، من المحاجّة ، أي أذكرها حجة لك عند الله .
وفي رواية : ( أشهد ) .
وفي رواية مجاهد عند الطبري : ( أجادل عنك بها ) .
زاد الطبري : ( أي عمّ إنك أعظم الناس علي حقاً ، وأحسنهم عندي يداً ، فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة فيك يوم القيامة ) .
( فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ) ذكّراه الحجة الملعونة ، التي يحتج بها المشركون من الأولين والآخرين ، ويردون بها على الرسل ، وهي تقليد الآباء والكبراء ، كقول فرعون لموسى : ? فما بال القرون الأولى ? ، وقوله تعالى : ? وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون ? .
( فأعاد عليه النبي ( ) وفي رواية : ( فلم يزل النبي ( يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة ) أي : أعاد عليه قول : لا إله إلا الله .
( فأعادوا عليه ) أي : أترغب عن ملة عبد المطلب .
( فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ) وأراد بذلك نفسه ، أي على دين عبد المطلب .(1/137)
وقوله ( هو على ... ) الظاهر أن أبا طالب قال : أنا ، فغيره الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحاً للفظ المذكور ، وهي من التصرفات الحسنة . [ قاله في الفتح 8 / 367 ]
وقد رواه أحمد بلفظ : ( أنا ) .
وقد وقع في رواية مجاهد : ( يا ابن أخي ملة الأشياخ ) .
ووقع في حديث أبي هريرة ( عند مسلم والترمذي : ( قال : لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت لأقررت بها عينك ) .
( وأبى أن يقول لا إله إلا الله ) قال الحافظ في الفتح ( 8 / 367 ) :
" هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب ، وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه ذلك منه في تلك الحال ، وهذا القدر هو الذي يمكن اطلاعه عليه ، ويحتمل أن يكون أطلعه النبي ( على ذلك " .
( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) وفي رواية : ( والله لأستغفر لك ) .
أقسم النبي ( ليستغفرن له ، إلا أن ينهى عن ذلك .
( فأنزل الله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ... ) أي ما ينبغي ذلك وهو خبر بمعنى النهي .
وقد روى الطبراني عن عمرو بن دينار قال : قال رسول الله ( : ( استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي ، فقال أصحابه : لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه ، فنزلت : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) .
( وأنزل الله في أبي طالب : إنك لا تهدي من أحببت ) قال النووي : " فقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب ، وكذا نقل إجماعهم على هذا الزجاج وغيره ، وهي عامة فإنه لا يهدي ولا يضل إلا الله " .
وقال الحافظ ابن حجر : " لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب " .
المعنى الإجمالي للحديث :(1/138)
كان أبو طالب يحمي النبي ( من أذى قومه ، وفعل من حمايته ما لم يفعله غيره من الناس ، فكان ( حريصاً على هدايته ، ومن ذلك أنه عاده لما مرض فجاءه وهو في سياق الموت وعرض عليه الإسلام ، ليكون خاتمة حياته ليحصل له بذلك الفوز والسعادة ، وطلب منه أن يقول كلمة التوحيد ، وعرض عليه المشركون أن يبقى على دين آبائه الذي هو الشرك ، لعلمهم بما تدل عليه هذه الكلمة من نفي الشرك وإخلاص العبادة لله وحده ، وأعاد النبي ( طلب التلفظ بالشهادة من عمه ، وأعاد المشركون المعارضة وصاروا سبباً لصده عن الحق وموته على الشرك .
وعند ذلك حلف النبي ( ليطلُبَنَّ له من الله المغفرة ما لم يمنع من ذلك ، فأنزل الله المنع من ذلك وبين له أن الهداية بيد الله يتفضل بها على من يشاء ، لأنه يعلم من يصلح لها ممن لا يصلح .
مناسبة الحديث للباب :
أن الرسول ( لا يملك نفعاً لمن هو أقرب الناس إليه ، مما يدل على بطلان التعلق عليه ( لجلب النفع أو دفع الضر ، وغيره من باب أولى .
من فوائد الحديث :
1- دل الحديث على نفي هداية التوفيق عن النبي ( ، فإذا انتفت عنه وهو أكرم الخلق ، فنفيها عن غيره أولى .
2- أن هداية التوفيق خاصة بالله سبحانه ، فيكون طلبها من غير الله شركاً .
3- أن الأعمال بالخواتيم .
4- أن النبي ( أمر أبا طالب أن يقول : لا إله إلا الله ، لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك وإخلاص العبادة لله وحده .
5- جواز عيادة المشرك إذا رجي إسلامه .
عند البخاري من حديث أنس ( قال : ( كان غلام يهودي يخدم الرسول ( فمرض ، فأتاه النبي ( يعوده ، فقعد عند رأسه فقال له : أسلم ، فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم ( ، فأسلم ، فخرج النبي ( وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار ) .
6- أن أبا طالب مات على الشرك ، ففيه الرد على من قال بإسلامه ، ويدل على أنه مات مشركاً :
أولاً : حديث الباب .(1/139)
ثانياً : عن العباس بن عبد المطلب أنه قال للنبي ( : ( ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . متفق عليه
ثالثاً : عن أبي سعيد الخدري ( أنه سمع النبي ( وقد ذكر عنده عمه فقال : ( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار ، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ) . متفق عليه
هذان الحديثان يدلان على أن أبا طالب مات كافراً ، إذ لو كان مسلماً لخرج من النار مع الموحدين ، كما توترت الأحاديث بخروج الموحدين من النار .
رابعاً : عن علي ( قال : ( لما توفي أبو طالب أتيت النبي ( فقلت : إن عمك الشيخ الضال قد مات ، قال : اذهب فواره ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني ، فقال : إنه مات مشركاً ، قال : اذهب فواره ... ) . رواه أحمد وأبو داود
قال الحافظ ابن حجر : " ووقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض ، أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب ، ولا يثبت من ذلك شيء " .
قال النووي في شرحه لمسلم : " وكانت وفاة أبي طالب بمكة ، قبل الهجرة بقليل ، قال ابن فارس : مات أبو طالب ولرسول الله ( تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً ، وتفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام " . أ.ه
7- حكمة الرب سبحانه وتعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه ، وهو القادر عليه دون من سواه ، فلو كان عند النبي ( ـ الذي هو أفضل خلقه ـ من هداية القلوب وتفريج الكروب ومغفرة الذنوب والنجاة من العذاب ، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ، فسبحان من بهرة حكمته العقول ، وأرشد العباد إلى ما يدلهم إلى معرفته وتوحيده وإخلاص العمل له وتجريده .
8- مضرة أصحاب السوء على الإنسان :(1/140)
1. فإن الجليس السوء قد يشكك في معتقداتك الصحيحة ، كما قال تعالى : ? فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قال قائل منهم إني كان لي قرين . يقول أءنك لمن المصدقين . أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمدينون ? .
2. والمرء بطبيعته يتأثر بعادات جليسه وأخلاقه وأعماله ، وقد قال ( : ( المرءعلى دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) . رواه أبو داود
فإذا كان الجليس سيئاً تأثر به المرء واصطبغ بصبغته .
3. أن الصداقة السيئة تنقلب إلى عداوة وبغضاء يوم القيامة ، كما قال تعالى : ? الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ? .
بعض الأقوال في الجليس :
قال أبو الأسود الدؤلي : " ما خلق الله أضر من الصاحب السوء " .
وقال عثمان : " ودّت الزانية لو زنى النساء كلهن " .
وقال عبد الله بن المعتز : " إخوان السوء ينصرفون عند النكبة ويقبلون مع النعمة " .
وقال أبو الحسن التهامي :
شيئان ينقسمان أول وهلة ظل الشباب وخلة الأشرار
وقال مالك بن دينار :
وصاحب خيار الناس تنج مسلماً وصاحب شرار الناس يوماً فتندما
9- الحرص على مصاحبة الأخيار . [ وهذا نستفيده بالمفهوم ]
قال أبو الفضل الجوهري : " إن من أحب أهل الخير نال بركتهم ، كلب أحب أهل الفضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله " .
ويعني بالكلب : كلب أهل الكهف المذكور في قوله تعالى : ? وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ? .
وقال القرطبي في تفسيره بعد إيراده لكلام الجوهري : " قلت : إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء ، حتى أخبر الله بذلك في كتابه جل وعلا ، فما ظنك بالمؤمنين الموحدين ، المخالطين المحبين للأولياء والصالحين " . أ.ه
قال لقمان لابنه : ( يا بني لا تعد بعد تقوى الله من أن تتخذ صاحباً صالحاً ) .
وقال علي : ( عليكم بالإخوان ، فإنهم عدة في الدنيا والآخرة ، ألا تسمع قول أهل النار : ? فمالنا من شافعين . ولا صديق حميم ? ) .(1/141)
قال أبو الدرداء : ( لولا ثلاث لأحببت أن أكون في بطن الأرض لا على ظهرها ، لولا إخوان لي يأتونني ينتقون طيب الكلام كما ينتقى طيب التمر ، أو أعفر وجهي ساجداً لله ، أو غدوةٌ أو روحةٌ في سبيل الله ) .
قال عدي بن زيد : "
عن المرء لا تسأل واسأل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
10- وفيه الحرص في الدعوة إلى الله ، والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
11- مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر ، زيادة على المشروع ، بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع .
12- تحريم الاستغفار للمشركين .
قال النووي في المجموع : " الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة حرام بنص القرآن والإجماع " .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " فأعمام الرسول ( عشرة ، أدرك الإسلام منهم أربعة ، فبقي إثنان منهم على الكفر وأسلم إثنان :
فالكافران : أبو لهب ، وأبو طالب .
واللذان أسلما هما : العباس وحمزة " . أ.ه
13- تلقين المحتضر الشهادة .
عن أبي سعيد الخدري ( أن رسول الله ( قال : ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) . رواه مسلم
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في كيفية تلقينه :
" ينبغي في هذا أن يُنظر إلى حال المريض ، فإن كان المريض قوياً يتحمل ، أو كان كافراً فإنه يؤمر ، فيقال له : قل لا إله إلا الله ، وإن كان مسلماً ضعيفاً فإنه لا يؤمر ، وإنما يذكر الله عنده حتى يسمع فيتذكر " . أ.ه
الباب التاسع عشر
ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/142)
لما ذكر المصنف رحمه الله بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك ، أراد أن يبين السبب في ذلك ليحذر ، وهو الغلو مطلقاً وخاصة في الصالحين ، فإنه أصل الشرك قديماً وحديثاً ، لقرب الشرك في الصالحين إلى النفوس ، فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم .
وقول الله عز وجل : ? يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ? . النساء ( 171 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
تعريف الغلو :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " الغلو : مجاوزة الحد ، بأن يزاد في الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك " .
وعرفه الحافظ ابن حجر بقوله " المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد " .
وبمثل هذا التعريف عرفه الإمام الشاطبي .
وهذه التعاريف كلها متقاربة ، وتقيد أن :
الغلو هو : تجاوز الحد الشرعي بالزيادة .
المعنى الإجمالي :
قال ابن كثير في تفسيره : " ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيّز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه .
قوله ? ولا تقولوا على الله إلا الحق ? أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ولهذا قال تعالى : ? إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ? أي إنما هو عبد من عباد الله ، وخلْق من خلقه ، قال له : كن فكان ، ورسول من رسله .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت على أن سبب خروج أهل الكتاب من دينهم هو غلو النصارى في تعظيم عيسى ، وغلو اليهود في ذمه .
وإنما اعتبر مثل هذا شركاً لأن النصارى دفعوا عيسى إلى منزلة الله فعبدوه معه .
من فوائد الآية :
1- تحريم الغلو في الصالحين وذلك لما يتضمن من المفاسد :
أولاً : أنه تنزيل للمغلي فيه فوق منزلته .(1/143)
ثانياً : أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه .
ثالثاً : أنه يصد عن تعظيم الله سبحانه وتعالى .
2- تحريم القول بالرأي في الدين الذي لا يستند إلى دليل .
3- قال شيخ الإسلام : " ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى ، وغلا في الدين فإفراط فيه أو تفريط ، فقد شابههم " .
4- الخطاب في الآية وإن كان لأهل الكتاب ، فإنه عام يتناول جميع الأمة ، تحذيراً لهم أن يفعلوا فعل النصارى في عيسى بن مريم ( ، واليهود في عزير ، كما قال تعالى : ? ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ? .
فكل من دعا ولياً أو نبياً من دون الله فقد اتخذه إلهاً ، وضاهى النصارى في شركهم ، وضاهى اليهود في تفريطهم.
فإن النصارى غلو في عيسى ( ، واليهود عادَوه وسبوه وتنقصوه .
فالنصارى أفرطوا ، واليهود فرطوا ، وقد قال تعالى : ? ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ? .
5- الحث على لزوم اعتدال في الدين وجميع الأمور بين جانبي الإفراط والتفريط .
6- التحذير من الشرك وأسبابه ووسائله .
في الصحيح :
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قول الله عز وجل : ? وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ وَدّاً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ? . قال :
( هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، ولم تُعبَد ، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت ) . رواه البخاري [ 4920 ]
وقال ابن القيم : " قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/144)
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد قال : حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس : ( أن يغوث ويعوق ونسرا ، كانوا قوماً صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا ، قال أصحابهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس ، فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر ، فعبدوهم ) .
( أنِ انصبوا ) بكسر الصاد ،
( أنصاباً ) جمع نصب ، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صورهم ، المنصوبة في مجالسهم وسموها بأسمائهم .
( حتى إذا هلك أولئك ) أي الذين صوروا تلك الأصنام .
( ونُسِيَ العلم ) وفي رواية ( وينسخ ) أي : درست آثاره بذهاب العلم ، وزالت المعرفة بحالها ، وما قصدوه من صورها ، وعمَّ الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك ، فوقعوا في الشرك ، ظناً منهم أنه ينفعهم عند الله تعالى .
( عُبِدَت ) تقدم أنه دبَّ إليهم إبليس ، فقال : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يُسقون المطر ، فعبدوهم .
وفي رواية أنهم قالوا : ( ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله ، فعبدوهم ) .
فهو ـ أي إبليس ـ الذي زيّن لهم عبادة الأصنام ، وأمرهم بها ، فصار هو معبودهم في الحقيقة ، كما قال تعالى : ? ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين . وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم . ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون ? .
( قال ابن القيم ) هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ، المعروف بابن قيم الجوزية ، تلميذ شيخ الإسلام ، وصاحب المصنفات الكثيرة في فنون العلم ، مات عام 751 ه .
( لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم . . . ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ) أي طال عليهم الزمان ونسوا ما قصده الأولون ، بتصوير صورهم فعبدوهم .
فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم .
المعنى الإجمالي :(1/145)
يفسر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هذه الآية الكريمة بأن هذه الآلهة التي ذكر الله أن قوم نوح تواصوا بالاتمرار في عبادتها بعدما نهاهم نبيهم نوح ( ـ عن الشرك بالله ـ أنها في الأصل أسماء رجال صالحين منهم ، غلوا فيهم بتسويل الشيطان لهم حتى نصبوا صورهم ، فآل الأمر بهذه الصور إلى أن صارت أصناماً تعبد من دون الله .
وما ذكره ابن القيم هو بمعنى ما ذكره البخاري إلا أنه ذكر أن عكوفهم على قبورهم كان قبل تصويرهم ، فهو يضيف إلى ما سبق أن العكوف على القبور سبب لعبادتها أيضاً .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية أن الغلو في الصالحين شرك ، وذلك أن الغلو فيهم صرف شيء من حقوق الله الخاصة به لهم ، وذلك إشراك لهم مع الله .
من فوائد الآية :
1- الحذر من الغلو ووسائل الشرك ، وإن كان القصد منها حسناً ، فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين ، والإفراط في محبتهم .
2- قال الشيخ السعدي رحمه الله : " الناس في معاملة الصالحين ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم ، ولا يقومون بحقهم من الحب والوالاة لهم والتوقير والتبجيل .
القسم الثاني : أهل الغلو الذي يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها .
القسم الثالث : أهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية ، ولكنهم يبرؤون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم .
والصالحون أيضاً يبرؤون من أن تدعو لأنفسهم حقاً من حقوق ربهم الخاصة ، كما قال تعالى عن عيسى :
? سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ? " أ . ه .
وفي القصة فوائد نبه المصنف إلى بعضها ، منها :
1- أن من فهم هذا الباب وما بعده تبين له غربة الإسلام ، ورأى من قدرة الله وتقليبه القلوب العجب .
2- ومنها : أن أول شرك حدث في الأرض سببه محبة الصالحين ، أي المحبة التي فيها غلو .
3- ومنها : معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء .(1/146)
4- معرفة سبب قبول البدع ، مع كون الشرائع والفطر تنكرها ، وأن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل ، بأمرين :
الأمر الأول : محبة الصالحين .
الأمر الثاني : فِعْلُ أُناسٍ من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيره .
5- أن فيها شاهداً لما نقل عن بعض السلف : أن البدعة سبب الكفر ، وأنها أحب إلى إبليس من المعصية .
6- معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ، ولو حَسُنَ قصد الفاعل .
7- ومنها : معرفة القاعدة الكلية وهي : النهي عن الغلو ، ومعرفة ما يؤول إليه ، أي : من الشرك .
8- مضرة العكوف على قبر لأجل عمل صالح .
9- النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها .
10- التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة .
11- ظنهم أن الذي صوروا الصور أرادوا ذلك .
12- التحذير من التصوير وتعليق الصور ولا سيما العظماء .
13- التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم .
14- أن سبب فقد العلم موت العلماء .
وعن عمر ( أن رسول الله ( قال : ( لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عَبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله ) . أخرجه البخاري ( 3445 ) ومسلم ( 1691 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن عمر ) هو ابن الخطاب بن نفيل ، أمير المؤمنين ، أفضل الصحابة بعد الصديق ـ رضي الله عنهما ـ ، ولي الخلافة عشر سنين ونصف ، استشهد في ذي الحجة سنة ( 23 ه ) .
( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم )
الإطراء : مجاوزة الحد في المدح ، والكذب فيه .
( إنما أنا عبد الله ورسوله ) أي لا تمدحوني ، فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى .
فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه ، فعظموه بما ينهاهم عنه وحذرهم منه ، وناقضوه أعظم مناقضة ، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم ، ووقعوا في المحذور ، وجرى منهم الغلو والشرك شعراً ونثراً ما يطول عده .
المعنى الإجمالي :(1/147)
يقول ( : لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ( فادَّعوا فيه الألوهية ، إني لا أعدو أن أكون عبداً لله ورسولاً منه فصفوني بذلك ولا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل على حديث على أن الغلو في النبي ( وهو أشرف الخلق يخرج المسلم من دينه ، كما أخرج النصارى من دينهم غلوّهم في عيسى ( .
من فوائد الحديث :
1- أن الغلو في الصالحين شرك .
2- قال الشيخ السعدي رحمه الله : " واعلم أن الحقوق ثلاثة :
حق خص لله لا يشاركه فيه مشارك ، وهو التأله وعبادته وحده لا شريك له ، والرغبة والإنابة إليه حباً وخوفاً ورجاءً .
وحق خاص بالرسل عليهم صلوات الله ، وهو توقيرهم وتبجيلهم والقيام بحقوقهم الخاصة .
وحق مشترك ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وطاعة الله ورسله ، ومحبة الله ورسله ، ولكن هذه لله أصلاً وللرسل تبعاً لحق الله " . أ.ه
3- حرص النبي ( على سد الذرائع .
4- أن الغلو في الصالحين سبب للوقوع في الشرك .
5- إثبات غلو النصارى .
6- أن الرسول ( عبدٌ لا يُعبد ، ورسول لا يُكذب .
7- التحذير من التشبه بالكفار .
8- أن أشرف وصف للإنسان أن يكون عبد لله ، قال تعالى : ? وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ? وقال تعالى : ? ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ? ، فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة ، مع أن الرسالة شرف عظيم .
قال رسول الله ( : ( إياكم والغلوّ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ ) . رواه أحمد ( 1/215/347 ) وابن ماجه ( 3064 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
هذا الحديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث عباس قال : قال لي رسول الله ( غداة جمع : ( هلمّ الْقط لي ، فلقطت له حصيات هنّ حصى الحذف ، فلما وضعهن في يده قال : نعم ، بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلوّ في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين ) .(1/148)
( إياكم ) أحذركم .
( من كان قبلكم ) من الأمم .
المعنى الإجمالي للحديث :
يحذر النبي ( أمته من الزيادة في الدين على الحد المشروع ، وهو عام في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال ، ثم علل النهي عن الغلوّ بأنه هو السبب في هلاك الأمم السابقة ، وذلك يقتضي مجانبة هديهم في هذا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلَّ على أن سبب هلاك الأمم السابقة هو الغلوّ .
من فوائد الحديث :
1- أن الغلو في الدين أو في المخلوقين يخرج الإنسان عن الحدود التي أنزلها الله ، فيكون متبعاً لهواه ، وهذا من الشرك المنافي للتوحيد .
2- تحريم الغلوّ ويستفاد من وجهين :
الوجه الأول : تحذير النبي ( ، والتحذير نهي وزيادة .
الوجه الثاني : أنه سبب لإهلاك الأمم ، كما أهلك من قبلنا .
3- لقد جاءت النصوص الشرعية دعية إلى الاستقامة ، وناهية عن الغلوّ ، بأساليب عدة :
1. تعليم المسلمين أن يدعو الله أن يسلمهم من كلا الانحرافين ـ انحراف اليهود وانحراف النصارى ـ المضيعين لحدود الله والمجاوزين لها ، قال تعالى : ? اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ? ولما أمرنا سبحانه أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم . . . كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين .
2. التحذير من تعدي الحدود ، والأمر بلزومها ، قال تعالى : ? تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ? .
والحدود : هي النهايات لكل ما يجوز من الأمور المباحة ، المأمور بها وغير المأمور بها ، وتعديها : هو تجاوزها وعدم الوقوف عليها ، وهذا التعدي هو الهدف الذي يسعى إليه الشيطان ، إذ أن مجمل ما يريده تحقيق أحد الانحرافين ، الغلوّ أو التقصير .(1/149)
3. الدعوة إلى الاستقامة ولزوم الأمر ، وعدم الغلوّ والزيادة ، قال تعالى : ? فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ? فإن الله يأمر بالاستقامة التي هي الاعتدال ، والمضي على النهج دون انحراف ، ويعقب هذا بالنهي عن الطغيان ، مما يفيد أن الله سبحانه يريد الاستقامة ، كما أمر بدون غلوّ ولا مبالغة تحيل هذا الدين من يسر إلى عسر .
4. النهي عن الغلوّ ، وتوجيه الخطاب لأهل الكتاب على وجه الخصوص ، قال تعالى : ? يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم . . . ? وقال تعالى : ? قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ? .
وهذه النصوص وإن تعلقت بأهل الكتاب ابتداءً فإن المراد منها موعظة هذه الأمة لتجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة .
5. نهى الرسول ( أمته عن الغلوّ ، وذلك لئلا يقع المسلمون فيما وقع فيه من سبقهم من الأمم ، كما في حديث الباب : ( وإياكم والغلوّ . . . ) .
6. بيان مصير الغالي وعاقبته ، حيث وردت أحاديث تبين مآل من غلا ، وأنه صائر إلى الهلاك ، كما قال النبي ( : ( هلك المتنطعون ثلاثاً ) . [ كما سيأتي ]
وجاء في أحاديث أخر أن التشديد على النفس سبب لوقوع التشديد من الله ، فعن أنس بن مالك أن النبي ( كان يقول : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) . رواه أبو داود وأبو يعلى
ولمسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله ( قال : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثاً . رواه مسلم ( 2670 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( هلك المتنطعون ) قال النووي : " المتنطعون : أي المتعمقون المغالون المتجاوزون للحدود في أقوالهم وأفعالهم .(1/150)
( قالها ثلاثاً ) أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات ، مبالغة في التحذير والتعليم .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن التنطع في الأمور كلها بما في ذلك تعظيم الصالحين ، من أساب الهلاك .
من فوائد الحديث :
1- أن التنطع في الأمور كلها بما في ذلك تعظيم الصالحين من أسباب الهلاك .
2- بيان مصير الغالي وعاقبته ، وأنه صائر إلى الهلاك ، وكما أنه صائر إلى الهلاك ، فقد جاءت السنة وبينت أن عاقبة صاحبه إلى الانقطاع ، وأنه ما من مشادّ لهذا الدين إلا ويغلب وينقطع .
فعن أبي هريرة ( عن النبي ( قال : ( إن الدين يسر ، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) . وفي رواية : ( القصد القصد تبلغوا ) . رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر : " والمعنى : لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق وإلا عجز وانقطع فيغلب .
أنواع الغلوّ :
إن الغلوّ ليس نوعاً واحداً ، بل يتنوع باختلاف متعلقه من أفعال العباد ، فهو على نوعين :
النوع الأول : اعتقادي .
النوع الثاني : عملي .
النوع الأول : الاعتقادي :
والمراد به ما كان متعلقاً بباب العقائد ، فهو محصور في الجانب الاعتقادي .
وأمثلة هذا كثيرة : منها : الغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم ، أو الغلو في البراءة من المجتمع العاصي وتكفير أفراده واعتزالهم .
والغلو الاعتقادي أشد خطراً وأعظم ضرراً من الغلو العملي ، إذ الغلو الاعتقادي هو المؤدي إلى الانشقاقات ، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم .
النوع الثاني : الغلو العملي :
والمراد به ما كان متعلقاً بباب العمليات ، فهو محصور في جانب الفعل سواءً كان قولاً باللسان أو عملاً بالجوارح.
مثاله : الذي يقوم الليل كله .
وقد عالج رسول الله ( كثيراً من أحداث الغلو العملي في عصره :(1/151)
فعن أنس بن مالك ( قال : ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ( يسألون عن عبادته ، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها فقالوا : أين نحن من النبي ( ؟ فقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً ، قال الآخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله ( فقال : إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . رواه البخاري ومسلم
وعن أنس بن مالك ( قال : ( دخل النبي ( المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين ، فقال : ما هذا الحبل ؟ قالوا : هذا حبل لزينب ، فإذا فترت تعلقت به ، فقال النبي ( : حلّوه ، ليصلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد ) . رواه البخاري ومسلم
وفي هذا الحديث كما قال الحافظ ابن حجر : " الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها " .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( بينما كان النبي ( يخطب إذا برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ويصوم ، فقال النبي ( : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد ، وليتم صومه ) . رواه البخاري
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ( دخل وعندها امرأة فقال : ( من هذه ؟ قالت : فلانة تذكر من صلاتها ، قال : مه عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا ، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه ) . رواه البخاري ومسلم
قال الحافظ ابن حجر : " عليكم بما تطيقون ، أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه ، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصاد على ما يطاق من العبادة ، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق " . أ.ه(1/152)
فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين ، فما ترك شيئاً يقرب من الجنة ويبعد عن النار إلا أخبر به ، وإنما ضلَّ الأكثرون بتنطعهم وغلوهم فهلكوا ، ولو اقتصروا على ما جاءهم من ربهم على يدي رسوله ( لسلموا وسعدوا ، قال تعالى : ? أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ?
الباب العشرون
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( فكيف إذا عبده ) أي عبد القبر أو الرجل الصالح .
في الصحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ( كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور ، فقال : أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجداً ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله ) . رواه البخاري ( 427 ) ومسلم ( 528 )
ولهما عن عائشة قالت : ( لما نُزِلَ برسول الله ( طَفِقَ يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتمَّ بها كشفها ، فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذّر ما صنعوا ، ولولا ذلك أُبرز قبره ، غير أنه خُشِيَ أن يُتخذ مسجداً ) . رواه البخاري ( 435 ) ومسلم ( 531 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( أن أم سلمة ) هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية ، تزوجها النبي ( بعد أبي سلمة ، سنة أربع وقيل ثلاث ، ماتت سنة 62 ه .
( كنيسة ) هي معبد النصارى .
( بنوا على قبره ) أي قبر ذلك الرجل الصالح .
( مسجداً ) أي موضعاً للعبادة .
( وصوروا فيه تلك الصور ) الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة .
( أولئك شرار الخلق عند الله ) مقتضى هذا تحريم ما ذكر .(1/153)
( فهؤلاء جمعوا بين فتنتين . . . ) هذا من كلام شيخ الإسلام ، يعني أن الذي بنوا هذه الكنيسة جمعوا بين فتنتين ضل بها كثير من الخلق :
الأولى / فتنة القبور ، لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها تعظيماً مبتدعاً ، فآل بهم إلى الشرك .
والثانية / فتنة التماثيل ، أي الصور ، فإنهم لما فتتنوا بقبور الصالحين وعظموها ، وبنوا عليها المساجد ، وصوّروا فيها الصور لقصد تذكر أعمالهم ـ أي الصالحين ـ فآل الأمر إلى أن عُبِدَت الصور ومن هي صورته من دون الله .
وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين .
( لما نزل ) أي نزل ملك الموت .
( طفق ) جعل .
( قميصه ) كساء له أعلام .
( لعن الله اليهود والنصارى ) لعنهم ( على هذا الفعل بعينه ، وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ، أي كنائس وبيَع يتعبدون ويسجدون فيها لله ، وإن لم يسموها مساجد ، فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم ، ومثل ذلك القباب والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين ، فإنها هي المساجد الملعون من بناها على قبورهم .
( ولولا ذلك لأبرز قبره ) أي لولا تحذير النبي ( ما صنعوا ، ولعن من فعل ذلك لدفن خارج بيته .
( غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ) وروي بفتح الخاء أو ضمها .
فأما رواية الفتح : فإنها تقتضي أن النبي ( هو الذي أمرهم بذلك .
وأما رواية الضم : فيحتمل أن تكون عائشة هي التي خشيت .
مناسبة الأحاديث للباب :
دلت الأحاديث على التحذير من بناء المساجد على القبور لما في ذلك من تعظيم أصحابها ، والتعظيم عبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
مسائل :
أولاً : أحاديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد :
أ. حديث عائشة ـ حديث الباب ـ : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، قالت : فلولا ذلك ... ) . متفق عليه
ب. عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال : ( قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .متفق عليه(1/154)
ج. حديث عائشة : ( أن رسول الله ( لما حضرته الوفاة ، جعل يلقي على وجهه طرف قميصة له ، فإذا اغتم كشف عن وجهه وهو يقول : ( لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
قال الحافظ ابن حجر : " وكأنه ( علم أنه مرتحل من ذلك المرض ، فخاف أن يعظم قبره كما فعل من مضى فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم " أ.ه
د. عن الحارث النجراني قال : ( سمعت النبي ( قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك ) . رواه ابن أبي شيبة
ثانياً : ما معنى اتخاذ القبور مساجد ؟
لقد تبين من الأحاديث السابقة خطر اتخاذ القبور مساجد وما على ذلك من الوعيد الشديد عند الله ، فعلينا أن نفقه معنى الاتخاذ المذكور حتى نحذره .
معنى اتخاذ القبور مساجد ، نقول : أنه يشمل ثلاث معانٍ :
أ. الصلاة على القبور ، بمعنى السجود عليها .
ب. السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء .
ج. بناء المساجد عليها ، وقصد الصلاة فيها .
وبكل واحد من هذه المعاني قال طائفة من العلماء ، وجاءت بها نصوص صريحة عن سيد الأنبياء ( .
فأما المعنى الأول :
يشهد له حديث أبي سعيد الخدري : ( أن رسول الله ( نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها ) . رواه أبو يعلى
وعن ابن عباس أن رسول الله ( قال : ( لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر ) . رواه الطبراني
وأما المعنى الثاني :
فقد جاء ما يشهد له من حديث أبي مرثد الغنوي أن رسول الله ( قال : ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) رواه مسلم
قال الشيخ القاري معللاً النهي : " لما فيه من التعظيم البالغ ، كأنه من مرتبة المعبود ، ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظم . . . " أ.ه
وأما المعنى الثالث ( بناء المساجد عليها . . . ) :(1/155)
هذا المعنى هو الذي أشارت إليه السيدة عائشة ، تقول في آخر الحديث : . . . ( فلولا ذلك أبرز قبره ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ) .
إذ المعنى : فلولا ذلك اللعن الذي استحقه اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد المستلزم البناء عليها ، لجعل قبره ( في أرض بارزة مكشوفة ، لكن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يفعلوا ذلك خشية أن يبنى عليه مسجد من بعض من يأتي بعدهم فتشملهم اللعنة .
وجملة القول :
أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة ، فهو من جوامع كلمه ( .
ثالثاً : حكم اتخاذ المساجد على القبور :
إن من يتأمل تلك الأحاديث الكريمة يظهر له أن الاتخاذ حرام بل كبيرة من الكبائر ، لأن اللعن الوارد فيها ن ووصف المخالفين بأنهم شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى ، لا يمكن أن يكون في حق من يرتكب ما ليس كبيرة كما لا يخفى .
قال شيخ الإسلام في الاختيارات العلمية : " ويحرم الإسراج على القبور ، واتخاذ المساجد عليها ، وبنيها ويتعين إزالتها ، ولا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين " .
رابعاً : شبهات !! والواجب عليها :
الشبهة الأولى / قد يقول قائل : إذا كان من المقرر شرعاً تحريم بناء المساجد على القبور ، فهناك أمور كثيرة تدل على خلاف ذلك :
أ. قوله تعالى : ? قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنّ عليهم مسجداً ? .
ووجه الدلالة : أن الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى ، على ما هو مذكور في كتب التفسير ، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم وشريعة من قبلنا شريعة لنا .
والجواب على هذه الشبهة :
1. ( أن شريعة من قبلنا شريعة لنا ) هذا مشروط عند أصحاب هذا القول ، بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، وهذا الشرط معدوم هنا ، لأن الأحاديث تواترت في النهي عن البناء المذكور كما سبق .(1/156)
2. أنه لا يسلّم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة من قبلنا ، غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا : ? لنتخذنّ عليهم مسجداً ? فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين .
فلا يصح الاحتجاج بالآية .
الشبهة الثانية / كون قبر النبي ( في مسجده الشريف ، ولو كان ذلك لا يجوز ، لما دفنوه ( في مسجده .
والجواب عن هذه الشبهة :
أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم ، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه لما مات ( دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده ، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب كان النبي ( يخرج منه إلى المسجد ، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء ، وإنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً ، ولكن وقع بعدهم : أن الوليد بن عبد الملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجَر أزواج رسول الله ( إليه ، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة ، فصار القبر بذلك في المسجد ، ولم يكن في المدينة النبوية أحدٌ من الصحابة حينذاك .
الشبهة الثالثة / صلاة النبي ( في مسجد الخيف مع أن فيه قبر سبعين نبياً ، كما قال ( .
والجواب عن هذه الشبهة :
نقول : أننا لا نشك في صلاة النبي ( في مسجد الخيف ، لكن ما ذُكِر أنه دفن فيه سبعون نبياً لا صحة فيه من وجهين :
الوجه الأول : أن الحديث الوارد فيه لا يصح ، وقد رواه الطبراني عن ابن عمر مرفوعاً : ( في مسجد الخيف قبر سبعين نبياً ) .
الوجه الثاني : أن القبور ليست ظاهرة وبارزة ، ومن المعلوم أن الشريعة تبني أحكامها على الظاهر .
من فوائد الأحاديث :
1- أن اتخاذ الصور في مواضع العبادة من عادات النصارى .
2- تحريم بناء المساجد على القبور .
3- التحدث عما يفعله الكفار ليحذره المسلمون .
4- جواز لعن الكفار على سبيل العموم .
5- أن البناء على القبور من سنن اليهود والنصارى .
6- أن من بنى مسجداً عند قبر صالح فهو من شرار الخلق وإن حسنت نيته .(1/157)
7- في الحديث بيان سبب دفن الرسول ( في حجرته .
8- بيان ما حصل للرسول( من شدة النزع .
9- شدة اهتمام الرسول ( واعتنائه بالتوحيد .
10- أن النبي ( بشر يجري عليه ما يجري على البشر من الموت وشدة النزع .
11- حرص النبي ( على أمته .
فائدة :
قال السفاريني في شرح : ( ثلاثيات مسند الإمام أحمد ) :
" وفي تسميتهم بذلك خمسة أقوال :
أحدها : قولهم ? إنا هدنا إليك ? .
الثاني : أنهم هادوا من عبادة العجل ، أي تابوا .
الثالث : أنهم مالوا عن دين الإسلام ودين موسى .
الرابع : أنهم يتهودون عند قراءة التوراة ، أي يتحركون ، ويقولون : السموات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة ، قاله أبو عمر بن العلاء .
الخامس : نسبتهم إلى يهوذا بن يعقوب .
ولمسلم عن جندب عن جندب بن عبد الله قال : ( سمعت النبي ( قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) . رواه مسلم ( 532 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( جندب بن عبد الله ) أي ابن سفيان البجلي ، وينسب إلى جده ، صحابي مشهور ، مات بعد الستين .
( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ) أي امتنع من هذا وأنكره .
والخليل : هو المحبوب غاية المحبة .
قال القرطبي : " وإنما كان ذلك لأن قلبه ( قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته ، فلا يسع لمخالفة غيره " .
( فإن الله قد اتخذني خليلاً ) هذا تعليل لقوله : ( إني أبرأ ... ) فالنبي ( ليس في قلبه خلة لأحد إلا الله عز وجل ، وهذا دليل على أن الخلة أكمل من المحبة .
( ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ) فيه دليل على أن الصديق أفضل الصحابة .(1/158)
( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون ... فإني أنهاكم عن ذلك ) قال صاحب فتح المجيد : " قلت : وكيف يسوغ مع هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ، ويبنى عليها ، ويصلى عندها وإليها ، وهذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله ( لو كانوا يعقلون " .
مناسبة الحديث للباب :
فيه النهي عن اتخاذ القبور أمكنة للعبادة ، لأنه وسيلة إلى الشرك ، كما تفعل اليهود والنصارى وغيرهم من أهل البدع
من فوائد الحديث :
12- أن الخلة أعظم من المحبة ، ولم يثبتها الله إلا لأثنين من خلقه وهما : إبراهيم ( في قوله تعالى : ? واتخذ الله إبراهيم خليلاً ? ، ومحمد ( في قوله : ( إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ) .
13- إثبات خلة النبي ( لله .
قال ابن القيم ( الجواب الكافي 325 ـ 326 ) :
" وما يظنه بعض الغالطين أن المحبة أكمل من الخلة ، وأن إبراهيم ( خليل الله ، ومحمد ( حبيب الله فمن جهله ، فإن المحبة عامة والخلة خاصة ، والخلة نهاية المحبة ، وقد أخبر النبي ( أن الله اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ونفى أن يكون له خليل غير ربه مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم ، وأيضاً فإن الله سبحانه : ? يحب التوابين ويحب المتطهرين ? و ? يحب الصابرين ? و ? يحب المحسنين ? و ? يحب المقسطين ? والشاب التائب حبيب الله ، وخلّقه خاصة بالخليلين ، وإنما هذا من قلة العلم والفهم عن الله ورسوله ( " أ.ه
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ( المجموع الثمين 1/87 ) :
" النبي ( حبيب الله لا شك ، فهو حاب لله ومحبوب لله ، ولكن هناك وصف أعلى من ذلك هو : خليل الله ، فالرسول ( خليل الله ، ولهذا من وصفه بالمحبة فقط فإنه نزله عن مرتبته ، فالخلة أعظم من المحبة وأعلى " أ.ه
14- إثبات صفة المحبة لله .
15- إثبات خلة إبراهيم لله .
16- إن الصديق أفضل الصحابة .(1/159)
17- الإشارة إلى خلافة أبي بكر ، لأن من كانت محبته لشخص أشد ، كان أولى به من غيره ، لا سيما وقد قال ذلك في مرض موته .
وأبو بكر الصديق هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ، مات بعد النبي ( بسنتين وأشهر ، في آخر جمادى الآخرة ، يوم الاثنين سنة ثلاث عشرة ، وله ثلاث وستين سنة ، ودفن مع النبي ( في بيته . قال تعالى : ? إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ... ? .
وروى البخاري في صحيحه عن أنس عن أبي بكر قال : ( كنت مع النبي ( في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم ، فقلت : يا نبي الله ، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا ، قال : اسكت يا أبا بكر ، اثنان الله ثالثهما ) .
والآثار الصحاح كثيرة والتي تدل على فضل الصديق وعلو منزلته ، وعلى استحقاقه للخلافة في هذه الأمة بعد النبي (
ومن هذه الآثار :
1. ما أسنده البخاري عن جبير بن مضعم قال : ( أتت امرأة إلى النبي ( فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : أرأيت إن جئت فلم أجدك ؟ كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر ) . متفق عليه
2. عن عائشة قالت : ( قال لي رسول الله ( في مرضه : ادع لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإني أخاف أن يتمنى مُتمن ويقول : أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) . متفق عليه
3. قصة تقديمه في الصلاة معروفة مشهورة في كتب السنة : قوله ( : ( مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ... ) .
4. وعن عمرو بن العاص : ( أن النبي ( بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة ، فقلت : من الرجال ؟ فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب ، فعدَّ رجالاً ) . متفق عليه
إلى غير ذلك من الآثار .
18- تحريم اتخاذ المساجد على القبور .
19- أن بناء المساجد على القبور من سنن الأمم السابقة .
20- وجوب سد الذرائع .(1/160)
21- أن تحريم اتخاذ القبور مساجد خوفاً من الوقوع في الشرك ، وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم .
22- حرص النبي ( على أمته في إبعادهم عن الشرك .
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود ( مرفوعاً : ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد ) . ورواه أبو حاتم في صحيحه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( من شرار الناس ) من للتبعيض ، شرار : جمع شرّاً .
( من تدركهم الساعة وهم أحياء ) أي إنما تقوم عليهم الساعة ، بحيث ينفخ في الصور وهم أحياء .
فإن قلت : كيف الجمع مع حديث : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة ) ؟
الجواب : نقول : إن المراد بقوله : ( حتى تقوم الساعة ) أي قرب قيام الساعة .
( والذين يتخذون القبور مساجد ) فهم من شرار الخلق .
قال شيخ الإسلام : " هذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين ، أو الملوك وغيرهم ، تتعين إزالتها بهدم أو بغيره ، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين " .
قال ابن القيم : " يجب هدم القباب التي بنيت على القباب والقبور ، لأنها أسست على معصية الرسول ( .
المعنى الإجمالي :
يخبر ( عمن تقوم الساعة عليهم وهم أحياء أنهم شرار الناس ، ومنهم الذين يصلون عند القبور وإليها ويبنون عليها القباب ، وهذا تحذير لأمته أن تفعل مع قبور نبيهم وصالحيهم مثل فعل هؤلاء الأشرار .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه التحذير من اتخاذ القبور مساجد ، يصلّى في ساحتها ويتبرك بها ، لأنه ذريعة إلى الشرك .
من فوائد الحديث :
1- تحريم بناء المساجد على القبور والصلاة عندها ، فكيف بمن عبد أصحابها ؟
2- وَصَفَ الحديث متخذي المساجد على القبور بشرار الناس ، وذلك لما فيه من التعظيم لأصحابها ، والتعظيم نوع من العبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .(1/161)
3- معجزة النبي ( ، حيث وقع ما أخبر به من بناء المساجد على القبور .
4- أن الساعة لا تقوم على مؤمن .
5- إثبات قيام الساعة .
6- أحكام القبور أربعة :
1. زيارة الرجل لها بدون سفر ، وهذا مستحب لأنه يذكر بالآخرة .
2. البناء على القبور وإبقاء السرج ، وهذا محرم لأنه وسيلة إلى الشرك .
3. دعاء أصحابها استقلالاً أو توسطاً بهم ، وهذا شرك أكبر .
4. زيارة النساء للقبور ، وهذا حرام على القول الراجح ، لقول النبي ( : ( لعن الله زائرات القبور ) .
الباب الواحد والعشرون
ما جاء في أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أموراً :
أولاً : التحذير من الغلو في قبور الصالحين .
ثانياً : أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها .
ثالثاً : أنها إذا عبدت سميت أوثاناً ، ولو كانت قبور صالحين .
رابعاً : التنبيه إلى العلة من البناء عليها واتخاذها مساجد .
روى مالك في الموطأ أن رسول الله ( قال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) . رواه مالك ( 261 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( روى مالك في الموطأ ) هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ، أبو عبد الله المدني الفقيه ، إمام دار الهجرة ، وأحد الأئمة الأربعة ، مات سنة 179 ه .
( وثناً ) كل ما عبد من دون الله لا صورة لها ، كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها .
المعنى الإجمالي :(1/162)
خاف ( أن يقع في أمته مع قبره ما وقع من اليهود والنصارى مع قبور أنبيائهم من الغلو فيها حتى صارت أوثاناً فرغب إلى ربه أن لا يجعل قبره كذلك . ثم نبه ( على سبب لحوق شدة الغضب واللعنة باليهود والنصارى ، أنه ما فعلوا في حق قبور الأنبياء حتى صيروها أوثاناً تعبد ، فوقعوا في الشرك العظيم المضاد للتوحيد .
مناسبة الحديث للباب :
أن الغلو في القبور يجعلها أوثاناً تعبد ، لأن النبي ( قال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) وبين ذلك بقوله : ( اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن اتخاذ القبور مساجد وسيلة لعبادة أصحابها ، وذلك شرك منافي للتوحيد .
2- ( اللهم لا تجعل ... ) قد استجاب الله دعاء رسوله ( ، فمنع الوصول إلى قبره لئلا يعبد ، استجابة لدعائه ( كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاءه بدعائه في عزة وحماية وصيان
3- أن قبر الرسول ( لو عبد لكان وثناً ، فما ظنك بقبر غيره من القبور ، التي لو عبدت هي وأربابها من دون الله وقد عظمت الفتنة بالقبور بتعظيمها وعبادتها .
كما قال ابن مسعود : " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ، وينشأ فيها الصغير ، وتجري على الناس يتخذونها سنة إذا غيّرت قيل غيرت السنة " أخرجه الدارمي والحاكم
4- ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين كقبورهم ومجالسهم ومواضع صلاتهم للصلاة ، والدعاء عندها ، فإن ذلك من البدع .
5- عن المقرور بن سويد قال : ( خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر : ? ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ? و ? لإيلاف قريش ? فلما قضى حجه ورجع الناس يبتدرون ، فقال : ما هذا ؟ فقال : مسجد صلى فيه رسول الله ( ، فقال : هكذا هلك أهل الكتاب ، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً ، من عرضت له منكم فيها الصلاة فليصلّ ، ومن لم يعرض منكم فيه الصلاة فلا يصلّ ) . رواه ابن أبي شيبة(1/163)
6- وأخرج البخاري في صحيحه في كتاب ـ المغازي ـ من طريق طارق بن عبد الرحمن قال : ( انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون ، قلت : ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله ( بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد ابن المسيب فضحك فقال : حدثني أبي أنه فيمن بايع رسول الله ( تحت الشجرة خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ـ وفي رواية : فعميت علينا فقال سعيد : إن أصحاب محمد ( لم يعلموها وعلمتموها أنتم ! فأنتم أعلم ) .
قال الحافظ : " والحكمة في ذلك : أن لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير ، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أقصى بهم الأمر إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهداً فيما هو دونها " .
7- وعن قزعة قال : ( سألت عمر ، آتي الطور ؟ فقال : دع الطور لا تأتها ، لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )
8- قوله ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا ... ) هذه الجملة بعد الأولى تنبيه على سبب لحوق اللعن بهم ، وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثاناً تعبد .
9- وجوب سد الذرائع .
10- تحريم البناء عند القبور وتحريم الصلاة عندها .
11- قال شيخ الإسلام ( 27 / 105 ، 106 ) :
" إن قول القائل : إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين قول ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ( ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين .
ولم يكن في الصحابة والتابعين والأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول أن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين ، لا مطلقاً ولا معيناً ، ولا منهم من قال : أن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة " . أ . ه
ولابن جرير بسنده عن سفيان بن منصور عن مجاهد :
( ? أفرأيتم اللت والعزى ? قال : كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره ) .(1/164)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ابن جرير ) الإمام اللحافظ ، محمد بن جرير بن مزيد الطبري ، صاحب التفسير والتاريخ وغيرهما ، قال ابن خزيمة :
" لا أعلم على وجه الأرض أعلم من محمد بن جرير " .
قوله ( كان يلت لهم ... ) لت السويق : هو خلطه بسمن ونحوه .
( فمات فعكفوا على قبره ) وفي رواية : ( فعبدوه ) .
مناسبة الآية للترجمة :
أنهم غلو فيه لصلاحه حتى عبدوه ، وصار قبره وثناً من أوثان المشركين .
فعلى هذا : كل قبر غلا الناس في تعظيمه سيؤدي إلى عبادته وإن لم يسمونه عبادة .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن الغلو أصل الشرك في الأولين والآخرين إلى يوم القيامة ، ولهذا نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والكتابة عليها .
عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ) . رواه مسلم
2- وقد أمرنا الله عز وجل بمحبة أوليائه وإنزالهم منازلهم من العبودية ، وسلب خصائص الإلهية عنهم ، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم ، ونهانا عن الغلو فيهم ، فلا نرفعهم فوق منزلتهم ولا نحطهم منها ، لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم ، فما وقع الشرك إلا بسبب الغلو فيهم ، فإن الشرك بهم غلو فيهم .
وعن ابن عباس ( قال :
( لعن رسول الله ( زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسّرُج ) . رواه أبو داود ( 3436 ) والترمذي ( 320 ) وابن ماجه ( 1575 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
اللعن : هو الإبعاد والطرد من رحمة الله .
في هذا الحديث يلعن النبي ( ثلاثة أصناف من الناس هم :
الصنف الأول: النساء اللاتي يزرن القبور ، والعلة في ذلك : قيل : لما فيهن من الضعف المؤدي إلى الجزع والندب والنياحة(1/165)
الصنف الثاني : المتخذي مواضع العبادة على القبور ، لأن ذلك يؤدي إلى تعظيمها وبالتالي إلى عبادتها .
الصنف الثالث : المشعلين السرج عليها ، لما في ذلك من إضاعة المال بدون فائدة ، ولأنه يؤدي إلى تعظيمها المشابه لتعظيم أصحاب الأصنام لأصنامهم .
قوله ( السرج ) جمع سراج ، توقد عليها السرج ليلاً ونهاراً تعظيماً وغلواً فيها .
المعنى الإجمالي للحديث :
يدعو ( باللعنة وهي الطردُ والإبعاد عن رحمة الله للنساء اللاتي يزرن القبور ، لأن زيارتهن يترتب عليها مفاسد من النياحة والجزع وافتتان الرجال بهن ، ولعن الذين يتخذون المقابر مواطن عبادة أو يضيؤونها بالسرج والقناديل ، لأن هذا غلو فيها ومدعاة للشرك بأصحابها .
مناسبة الحديث للباب :
أن اتخاذ المساجد على القبور وإسراجها غلو فيها ، فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم زيارة القبور للنساء . ( وسيأتي بسط المسألة )
2- جواز لعن الفساق على سبيل العموم .
3- أن الغلو في القبور من الكبائر .
4- تحريم اتخاذ المساجد والسرج على القبور .
5- من مقاصد الشريعة سد كل ما يؤدي إلى الشرك .
6- تحريم إضاعة المال بدون فائدة .
7- زائر القبور لا يخلو من أربع حالات :
الحالة الأولى : يدعو للأموات ، فيسأل الله تعالى لهم المغفرة والرحمة ، فهذه زيارة شرعية .
الحالة الثانية : أن يدعو الله تعالى لنفسه ولمن أحب عند القبور ، أو عند صاحب قبر خاص ، معتقداً أن الدعاء في المقابر أو عند قبر الميت فلان ، أنه أفضل وأقرب للإجابة من الدعاء في المساجد ، فهذه بدعة منكرة .
الحالة الثالثة : أن يدعو الله تعالى متوسلاً بجاههم أو حقهم ، فهذه بدعة محرمة .
الحالة الرابعة : أن لا يدعو الله ، وإنما يدعو أصحاب القبور أو صاحب هذا القبر ، فهذا شرك أكبر .
8- مشروعية زيارة القبور للرجال ، واتفقت المذاهب الأربعة على مشروعيتها ، بل نقل النووي عن الطيبي الإجماع على استحباب زيارتها .(1/166)
وقال ابن قدامة : " لا نعلم خلافاً في استحبابها " .
الأدلة :
1. عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله ( قال : ( إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) . رواه مسلم
وزاد الترمذي : ( فإنها تذكر الآخرة ) .
وزاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود : ( وتزهد في الدنيا ) .
2. وعن أبي سعيد الخدري ( قال : قال رسول الله ( : ( إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها فيها عبرة ، ولا تقولوا ما يسخط الرب ) . رواه أحمد والحاكم
3. وعن أنس بن مالك أن رسول الله ( قال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ، فإنها ترقق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هجراً ) . رواه الحاكم
قال النووي في المجموع ( 5/510 ) :
" والهجر : الكلام الباطل " .
9- حكم زيارة المقابر للنساء :
اختلف العلماء :
القول الأول : الجواز . وهذا قول الحنفية ، الأدلة :
أ - عموم قوله ( : ( ... فزوروا القبور ) فيدخل فيه النساء .
ب - عن أنس قال : ( مرّ النبي ( بامرأة تبكي عند قبر فقال : اتقي الله واصبري ، قالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه ، فقيل لها : إنه النبي ( ، فأتت النبي ( فلم تجد عنده بوابين ، فقالت : لم أعرفك ، فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) . متفق عليه
وجه الدلالة : قال الحافظ في الفتح : " وموضع الدلالة منه أنه ( لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر ، وتقريره حجة .
ج- ما روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : ( كيف أقول يا رسول الله ـ تعني إذا زارت القبور ـ قال قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم الله المتقدمين منّا والمتأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) .(1/167)
د- عن عبد الله بن أبي مليكة : ( أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر ، فقلت لها يا أم المؤمنين ، من أين أقبلتِ ؟ قالت : من قبر عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقلت لها : أليس رسول الله ( نهى عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم ، ثم أمر بزيارتها ) . رواه الحاكم والبيهقي ، قال عنه البوصيري في الزوائد : " وإسناده صحيح ورجاله ثقات "
القول الثاني :الكراهة . وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وابن سيرين والشعبي والنخعي ، الأدلة :
أ- حديث أم عطية قالت : ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) . متفق عليه
ب- حديث اللعن يدل على التحريم ، وحديث الأذن يرفع التحريم ويبقى أصل الكراهة .
القول الثالث : يحرم زيارة القبور للنساء . وهذا قول أبو إسحاق الشيرازي ، والشافعية ، وهو اختيار شيخ الإسلام ، وقول للمالكية ، الأدلة :
أ- حديث ابن عباس : ( أن النبي ( لعن زوارات القبور ) . رواه الترمذي
وفي لفظ : ( زائرات القبور ) .
ب- سداً للذريعة ، فإن المرأة ضعيفة ، فيخشى أن تكون زيارتها سبب في فعلٍ غير مشروع .
وهذا القول هو الراجح .
الباب الثاني والعشرون
ما جاء في حماية المصطفى ( جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
الجناب : هو الجانب ، والمراد : حمايته عما يقرب إليه أو يخالطه من الشرك وأسبابه .
واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئاً من حمايته ( لجناب التوحيد ، ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته الخاصة ، ولقد بالغ ( وحذر وأنذر وأبدأ وأعاد وخص وعمّ في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " ... ثم في مقابلة ذلك نهى عن أقوال وأفعال فيها الغلو ونهى عن التشبه بالمشركين ، لأنه يدعو إلى الميل إليهم ، ونهى عن أقوال وأفعال يخشى أن يتوصل بها إلى الشرك ، كل ذلك حماية للتوحيد .(1/168)
ونهى عن كل سبب يوصل إلى الشرك ، وذلك حماية بالمؤمنين ليتحققوا بالقيام بما خلقوا له من عبودية الله الظاهرة والباطنة ، وتكميلها لتكمل لهم السعادة والفلاح " . أ . ه
وقول الله تعالى : ? لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ? .التوبة ( 28 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المعنى الإجمالي :
قال ابن كثير : " يقول الله تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم ، أي من جنسهم وعلى لغتهم ، كما قال إبراهيم ( : ? ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم ? .
? لقد جاءكم رسول من أنفسكم ? أي منكم .
? عزيز عليه ما عنتم ? أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ، ويشق عليها ، ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه ( أنه قال : ( بُعثت بالحنفية السمحة ) وفي الصحيح : ( إن هذا الدين يسر ) وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة ، يسيرة على من يسرها الله عليه .
? حريص عليكم ? أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم .
? بالمؤمنين ? لا بغيرهم .
? رؤوف ? أي بليغ الشفقة ، قال أبو عبيدة : " الرأفة أرق من الرحمة " .
? رحيم ? أي بليغ الرحمة ، كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه .
ما ستفاد من الآيات :
1- تأمل هذه الآية وما فيها من أوصافه الكريمة ومحاسنه الجمّة التي تقتضي أن ينصح لأمته ، ويبلغ البلاغ المبين ويسد الطريق الموصل إلى الشرك ، ويحمي جناب التوحيد ، غاية الحماية ، ويبالغ أشد المبالغة في ذلك لئلا تقع الأمة في الشرك ، وأعظم ذلك الفتنة في القبور .
2- واقتضت هذه الآية ن يكون الرسول ( حريصاً على أمته فيما ينفعهم .
قال أبو ذر : ( تركنا رسول الله ( وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً ) . رواه الطبراني
وقال : قال رسول الله ( : ( ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم ) .(1/169)
3- التنبيه على هذه النعمة العظيمة ، وهي إرسال الرسول ( فينا ، كما قال تعالى : ? لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليه آياته ويزكيهم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ? .
4- بيان حرص النبي ( على أمته .
5- التنبيه على أن هذا النبي منّا ، وهذه نعمة أخرى عظيمة .
6- مدح نسب الرسول ( فهو أشرف العرب نسباً وبيتاً .
7- رأفة النبي ( بالمؤمنين ، وغلظته على الكفار والمنافقين .
عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ) . رواه أبو داود ( 2042 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ) وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً : ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ) .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ( المجموع الثمين 2/116 ) :
" اختلف في المعنى المراد من قوله : ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ) على قولين :
القول الأول : أن المعنى لا تدفنوا فيها موتاكم ، وهذا ظاهر اللفظ ولكنه أُورد على ذلك دفن النبي ( في بيته ، وأجيب بأنه من خصائصه .
القول الثاني : أنه لا تجعلوا البيوت مثل المقابر لا تصلون فيها ، لأن من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها.
وكلا المعنيين صحيح " . أ . ه
ويؤيد الثاني الحديث السابق : ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ... ) .
قال شيخ الإسلام : " أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة ، فتكون بمنزلة القبور ، فأمر بتحري العبادة في البيوت ، ونهى عن تحرِّيها عند القبور ، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة "
( ولا تجعلوا قبري عيداً ) قال شيخ الإسلام : " العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد ، عائداً إما بعود السنة ، أو بعود الأسبوع ، أو الشهر ، أو نحو ذلك " .(1/170)
ومعنى الحديث : النهي عن زيارة قبره على وجه مخصوص ، في زمان مخصوص ، وذلك يدل على المنع في جميع القبور ، لأن قبر رسول الله ( أفضل قبر على وجه الأرض ، وقد نهى عن اتخاذه عيداً ، فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان .
( وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ) صلّوا علي : وهذا أمر ، قولوا : اللهم صلّ على محمد .
وقد أمر الله بذلك في قوله : ? إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً ?
قال شيخ الإسلام في قوله ( وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ) :
" يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم ، فلا حاجة منكم إلى اتخاذه عيداً " . أ . ه
وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً : ( ما من أحد يسلم علي إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام )
فإن قيل : كيف تبلغه الصلاة عليه ؟
ورد حديث عن النبي ( أنه قال : ( إن لله ملائكة سياحين يسيحون في الأرض يبلغون النبي ( سلام أمته عليه ).رواه النسائي ، وقال ابن القيم : " إسناده صحيح
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم اتخاذ قبره عيداً وذلك حماية منه لجانب التوحيد وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك .
ما ستفاد من الحديث :
1- أن الصلاة في المقبرة لا تجوز .
2- السنة أن الدفن في المقبرة ، لأن النبي ( كان يدفن الموتى في مقبرة البقيع ، كما تواترت الأخبار بذلك .
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" ولم ينقل عن أحد من السلف أنه دفن في غير المقبرة ، إلا ما تواتر أن النبي ( دُفن في حجرته ، وذلك من خصوصياته ( ، كما دل عليه حديث عائشة قالت : ( لما قبض رسول الله ( اختلفوا في دفنه ، فقال أبو بكر : سمعت من رسول الله ( شيئاًَ ما نسيته : ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه ، فدفنوه في موضع فراشه ) . رواه الترمذي
3- أن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد .(1/171)
عن زيد بن ثابت أن النبي ( قال : ( صلوا أيها الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) . متفق عليه
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ( قال : ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ) . متفق عليه
وعن جابر ( قال : قال رسول الله ( : ( إذا قضى أحكم صلاته في مسجده ، فليجعل في بيته نصيباً من صلاته ، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً ) . رواه مسلم
4- ويكره في المقابر القراءة .
لقوله ( : ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، فإن الشيطان يفرّ من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه ) . رواه مسلم
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عن حكم الاجتماع عند القبر والقراءة :
" هذا العمل من الأمور المنكرة التي لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح ، وهو الاجتماع عند القبر والقراءة "
وقال رحمه الله : " قراءة القرآن الكريم على القبور بدعة لم ترد عن النبي ( ولا عن أصحابه ، وقد قال ( : ( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) " .
5- تحريم زيارة قبره ( على وجه مخصوص في زمن مخصوص ، وكذلك زيارة كل قبر .
6- وجوب الصلاة على النبي ( .
7- فضل الصلاة على النبي ( ، ومما يدل على فضلها :
أ- عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله ( يقول : ( من صلى علي صلاة صلّى الله عليه بها عشراً ) . رواه مسلم
ب- وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( : ( من صلى عليّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً ، أدركته شفاعتي يوم القيامة ) . رواه الطبراني وحسنه الألباني
ج- وعن ابن مسعود ( أن النبي ( قال : ( أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة ) . رواه الترمذي وقال حديث حسن
8- الصلاة والسلام على النبي تبلغه حيث كان المصلي .
9- انتفاع الأموات بدعاء الأحياء .
10- ملاحظة :
قال بعضهم : نهي النبي ( عن اعتياد قبره يقتضي ملازمة القبر والمداومة على زيارته ، وهذا التأويل باطل من عدة وجوه :(1/172)
أحدها : أن هذا فيه تلبيس وإيهام ، والشريعة لم تأتِ إلا بالوضوح والصراحة .
الثاني : لو كان قصد النبي ( ما ذكره هؤلاء لفعله أهل بيته ولأمروا به .
الثالث : أن الصحابة ( لم يؤثر عنهم أنهم أمروا بذلك أو عملوه ، وهم أدرى بقصد النبي ( .
وعن علي بن الحسين ( :
( أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجةٍ كانت عند قبر النبي ( فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه وقال : ألا أحثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ( قال : لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا بيوتكم قبوراً ، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم ) . رواه الضياء في المختارة ( 428 ) وأبو يعلى ( 469 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن علي بن الحسين ) أي ابن علي بن أبي طالب ، المعروف بزين العابدين ، وهو أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم ، مات سنة 93 ه على الصحيح .
( يجيء إلى فرجة ) بضم الفاء وسكون الراء ، واحدة الفُرج وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما .
( فيدخل فيها فيدعو ... ) وهذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها ، لأن ذلك من اتخاذها عيداً ، كما فهمه علي بن الحسين من الحديث ، فنهى ذلك الرجل عن المجيء إلى قبر النبي ( للدعاء عنده ، فكيف بقبر غيره ؟
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه النهي عن قصد قبر النبي ( لأجل الدعاء عنده ، فغيره من القبور من باب أولى ، لأن ذلك نوعاً من اتخاذها عيداً وهو وسيلة إلى الشرك .
من فوائد الحديث :
1- في الحديث دليل على تحريم شد الرحال إلى قبره ( وإلى غيره من القبور والمشاهد ، لأن ذلك من اتخاذها عيداً ، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها ، وهذه المسألة أفتى فيها شيخ الإسلام وعُذب من أجلها ، وهذا القول هو الصواب ، لقوله ( : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) . متفق عليه(1/173)
2- تحريم قصد قبر النبي ( لأجل الدعاء عنده ، وكذا كل قبر .
3- وجوب إنكار المنكر ، وتعليم الجاهل .
4- تحريم تعطيل البيوت من عبادة الله وذكره .
5- تحريم الصلاة في المقابر .
6- أن الغرض الشرعي من زيارة قبره ( هو السلام عليه فقط ، وذلك يبلغه من القريب والبعيد .
الباب الثالث والعشرون
ما جاء في أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أراد المصنف بهذه الترجمة الرد على عباد القبور ، الذين يفعلون الشرك ويقولون : أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه ، وأنه أمرٌ واقع في هذه الأمة لا محالة ، والرد على من زعم : أن من قال لا إله إلا الله ، وتسمى بالإسلام أنه يبقى على إسلامه ولو فعل ما ينافيه من الاستغاثة بأهل القبور ودعائهم .
وقول الله تعالى : ? ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ? . النساء ( 51 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
يقول تعالى لنبيه ( : ? ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً ? ؟ أي أعطوا نصيباً ، أي حظاً من الكتاب .
? يؤمنون بالجبت والطاغوت ? الجبت : قال عمر بن الخطاب : هو السحر ، وقيل : الشيطان ، وقيل : الصنم .
والصحيح أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك .
الطاغوت : قيل هو الشيطان .
والصحيح أنه ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، كما سبق .
المعنى الإجمالي للآية :
يقول الله سبحانه لنبيه ( على وجه التعجب والاستنكار ! ألم تنظر إلى هؤلاء اليهود والنصارى الذين أعطوا حظاً من كتاب الله الذي فيه بيان الحق من الباطل ، ومع هذا يصدقون بالباطل من عبادة الأصنام والكهانة والسحر ، ويطيعون الشيطان في ذلك .(1/174)
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على وجود الشرك في أهل الكتاب ، وقد ثبت أن هذه الأمة ستعمل ما عمله أهل الكتاب ، ومن ذلك الشرك .
من فوائد الآية :
1- إثبات انحراف أهل الكتاب .
2- أن الكفر بالجبت والطاغوت واجب في جميع الكتب السماوية .
3- وجوب العمل بالعلم .
وقوله تعالى : ? قل هل |أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ? . المائدة ( 60 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المعنى الإجمالي للآية :
يقول تعالى لنبيه محمد ( : قل يا محمد ، هل أخبركم بشرِّ جزاءً عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله : ? من لعنه الله ? أي أبعده وطرده من رحمته .
? وغضب عليه ? أي غضباً لا يرضى بعده أبداً .
? وجعل منهم القردة والخنازير ? أي مسخ منهم الذين عصوا أمره ، فجعلهم قردة وخنازير ، كما قال تعالى : ? ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ? .
? وعبد الطاغوت ? أي الأوثان .
قال شيخ الإسلام : " الصواب أنه معطوف على قوله ? من لعنه الله وغضب عليه وجعل ... ? " .
أي من لعنه الله ، ومن غضب عليه ، ومن جعل منهم القردة والخنازير ، ومن عبد الطاغوت .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على وجود الشرك في أهل الكتاب بعبادتهم للطاغوت ، وقد ثبت أن هذه الأمة ستعمل ما عمله أهل الكتاب ، ومن ذلك الشرك .
من فوائد الآية :
1- جواز لعن الكفار على سبيل العموم .
2- إثبات صفة الغضب لله سبحانه على الوجه للائق به سبحانه .
3- إثبات مسخ قوم من أهل الكتاب قردة وخنازير .
وهل المراد بالقردة والخنازير الموجودة الآن ؟(1/175)
الجواب : لا ، لما ثبت في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : ( سئل رسول الله ( عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله ؟ فقال : إن الله لم يهلك قوماً ـ أو قال : لم يمسخ قوماً ـ فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة ، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ) .
4- وجود الشرك في أهل الكتاب .
5- اختلاف الناس بالمنزلة عند الله .
6- قد تكون المعاصي سبباً في العقوبة في الدنيا ، كما هي سبب للعقوبة في الآخرة .
7- أن طاعة الشيطان هي منشأ الشرك بالله .
وقوله تعالى : ? قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنّ عليهم مسجداً ? . الكهف ( 21 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا هذه المقالة : ? لنتخذنّ عليهم مسجداً ? .
وقد حكى ابن جرير في القائلين في ذلك قولين :
أحدهما : أنهم المسلمون .
الثاني : أنهم المشركون .
وعلى القولين فهم مذمومون ، لأن النبي ( قال : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا .
المعنى الإجمالي للآية :
يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف على وجه الذم لهم أنهم قالوا لنتخذنّ حولهم مصلى يقصده الناس ويتبركون بهم .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت على أن أهل الكتاب قد بنوا المساجد على القبور ، وقد لعنهم النبي ( من أجل ذلك ، لما أفضى بهم عملهم هذا إلى عبادة أصحابها ، وقد ثبت أن هذه الأمة ستعمل ما عمله أهل الكتاب .
ما يستفاد من الآية :
1- إثبات قصة أهل الكهف .
2- إثبات البعث بعد الموت .
3- اتخاذ المساجد على القبور من سنن الأمم السابقة .
4- التحذير من الغلو في الصالحين .(1/176)
وعن أبي سعيد الخدري ( أن رسول الله ( قال : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ، حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ) . رواه البخاري ( 3456 ) ومسلم ( 2669 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
جاء في رواية أخرى : ( لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ) .
معاني الكلمات :
( سنن ) قال النووي : " السَنن بفتح السين والنون ، وهو الطريق ، والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم ، والمراد : الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر " .
( حذو القذة بالقذة ) مساوي ويشبه السهم ، أي : لتفعلنّ أفعالهم ، ولتتبعنّ طريقتهم حتى تشبهوهم وتحاذوهم كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى .
( قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ) أي : أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سنتهم ؟
قال : فمن ، استفهام إنكار ، أي : فمن هم غير أولئك .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على أن هذه الأمة ستعمل ما عمله أهل الكتاب ، ومن عمل أهل الكتاب عبادة الأوثان .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم مشابهة أهل الكتاب في معصية الله .
2- بيان معجزة النبي ( حيث تحقق ما أخبر به ، فلقد قلد بعض المسلمين الكفار وتشبهوا بهم ، وتخلقوا بأخلاقهم ، وأعجبوا بهم .
قال ابن بطال : " أعلم النبي ( بأن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم ، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شرّ ، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس ، وإن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس " .
قال الحافظ ابن حجر : " وقد وقع معظم ما أمر به ( ، وسيقع بقية ذلك " . أ . ه(1/177)
قال النووي : " والمراد بالشبر وجحر الضب ، التمثيل بشدة الموافقة لهم ، والمراد الموافقة في المعصي والمخالفات لا في الكفر ، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله ( ، فقد وقع ما أخبر به ( " . أ . ه
ففي هذا الزمان تشبه رجالنا برجالهم ، ونساؤنا بنسائهم ، وافتتنوا بهم ، حتى أدى الأمر ببعض الناس أن خرجوا عن الإسلام ، ولذلك جاء في أحاديث : ( حتى لو كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك ) . رواه الترمذي عن ابن عمر
وفي حديث آخر : ( حتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه ) .
وقال ( : ( أبشروا وأمّلوا ما يسركم ، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتلهيكم كما ألهتهم ) . متفق عليه
ومن الأمور التي اتبعت فيها هذه الأمة السابقة : تعظيم القبور واتخاذها مساجد ، وزخرفة المساجد ، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء ، والتسليم بالأصابع ، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله .
3- ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره .
4- توضيح الأشياء المعنوية بالأمثلة الحسية من أساليب التعليم في الإسلام .
5- سؤال أهل العلم عما خفي علمه .
ولمسلم عن ثوبان ( أن رسول الله ( قال :
( إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُويَ لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض ، وإن سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة ، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد ، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة ، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ) . رواه مسلم ( 2889 )
ورواه البرقاني في صحيحه وزاد :(1/178)
( وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ) . رواه أبو داود ( 4252 ) وابن ماجه ( 4000 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
هذا الحديث رواه أبو داود في سننه ، وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف .
( عن ثوبان ) ثوبان مولى النبي ( ، صحبه ولازمه ، ونزل بعده الشام ، مات بحمص سنة 54 ه .
( زوى لي الأرض ) جمعها لي .
قال القرطبي : " أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملك أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها " .
( فرأيت ) قيل أن الله قوى إدراك بصره ورفع عنه الموانع المعتادة فأدرك البعيد من موضعه .
وقيل : أي أن الله جمعها له ، وهذا القول أقرب ، وما ذلك على الله بعزيز .
( إن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) أي أمة الإجابة .
قال القرطبي : " هذا الخبر وجد مخبره كما قاله ، فكان ذلك من دلائل نبوته ، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة الذي هو منتهى عمارة الغرب ، وإلى أقصى المشرق " .
( وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ) قال القرطبي : " يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الروم ، وكنز قيصر وهو ملك الروم " .
وعبر بالأحمر عن كنز قيصر ، لأن الغالب عندهم كان الذهب ، وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة .
( أن لا يهلكها بسنة بعامة ) وفي رواية : ( بسنة عامة ) .
السنة العامة : الجدب والقحط العام الذي يكون به الهلاك العام ، قال تعالى : ? ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ? وقال النبي ( : ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف ) .(1/179)
( وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ) سوى أنفسهم : أي من غيرهم ، يعني الكفار .
فيستبيح بيضتهم : قال الجوهري : " بيضة كل شيء حوزته ، وبيضة القوم ساحتهم .
وقيل بيضتهم معظمهم وجماعتهم .
( وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ) قال بعضهم : أي إذا حكمت حكماً مبرماً فإنه لا يرد بشيء ، ولا يقدر أحد على رده ، كما قال ( : ( لا رادّ لما قضيت ) . رواه عبد الرزاق
( حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ) أي حتى يوجد ذلك منهم ، فإن وجد فإنه يسلط عليهم عدوهم من الكفار فيستبيح جماعتهم وإمامهم .
وكذلك وقع ، فإن الأمة لما جعل بأسها بينها اقتتلوا فأهلك بعضهم بعضاً ، فلما فعلوا ذلك تفرقت جماعتهم ، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو ، واستولوا عليهم .
( وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ) أي الأمراء والعلماء والعباد الذي يقتدي بهم الناس ، ويحكمون لهم بغير علم ، فيَضلِّون ويُضلُّون ، فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم .
( وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ) أي إذا وقعت الفتنة والقتال بينهم بقي إلى يوم القيامة ، وكذلك وقع ، فإن السيف لما وضع فيهم بقتل عثمان لم يرفع إلى اليوم ، وكذلك يكون إلى يوم القيامة ، ولكن يكثر تارة ويقل تارة
( ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين ) الحي : واحد الأحياء وهي القبائل .
وفي رواية لأبي داود : ( ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين ) .
وهل المراد باللحوق هو اللحوق البدني أو اللحوق الحكمي ؟ أو الأمران جميعاً ؟
الظاهر الأمران معاً بحيث يصدقان جميعاً أو أحدهما .
( حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ) الفئام : الجماعات ، وهذا هو وجه شاهد الترجمة .(1/180)
( وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي ) قال القرطبي : " وقد جاء عددهم معيناً في حديث حذيفة قال : قال رسول الله ( : ( يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربع نسوة ) . أخرجه أبو نُعيم
( وأنا خاتم النبيين ) أي آخر النبيين ، كما أخبر تعالى بقوله : ? ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ? .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن بعض هذه الأمة سيعبد الأوثان .
ما يستفاد من الحديث :
1- فيه الرد على من قال بخلافه من عبّاد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة .
وفي معنى هذا الحديث ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء بني دوس حول ذي الخلصة ) .
وذي الخلصة : طاغية دون التي كانوا يعبدون في الجاهلية .
أليات : جمع الألية ، والمراد بها هنا أعجازهن ، أي أن أعجازهن تضطرب في أطرافهن كما كنّ يفعلن في الجاهلية
قال الشيخ يوسف في أشراط الساعة : " وقد وقع ما أخبر به النبي ( في هذا الحديث ، فإن قبيلة دوس وما حولها من العرب قد افتتنوا بذي الخلصة عند ما عاد الجهل إلى تلك البلاد ، فأعادوا سيرتها الأولى ، وعبدوها من دون الله ، حتى قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى التوحيد ، وجدد ما اندرس من الدين ، وعاد الإسلام إلى جزيرة العرب ... ، ثم قال : ولا يزال هناك صور من الشرك في بعض البلدان ، وصدق رسول الله ( إذ يقول : ( لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ) . رواه مسلم
2- بيان معجزة النبي ( .
3- حرص النبي ( على أمته .
4- إثبات صفة القول لله عز وجل .
5- أن سبب هلاك هذه الأمة هو النزاع فيما بينهم .(1/181)
6- بيان خطر الأئمة المضلين والتحذير منهم ، وهم الأمراء والعلماء والعباد ، الذي يقتدي بهم الناس ويحكمون فيهم بغير علم فيَضلّون ويُضلون ، فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم ، كما قال تعالى عن أهل النار : ? حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار ? وقال تعالى : ? ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل? ولشدة الضرورة إلى اتباع أئمة الهدى ومعرفتهم ، والتفريق بينهم وبين أئمة الضلال المغضوب عليهم والضالين ، أمرنا الله تعالى أن نسأله الهداية إلى سلوك صراط أئمة الهدى ، وهم المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وغير المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يعملون به ، ولا الضالين الذين يعملون على غير شرعٍ من الله ، فصراط المنعم عليهم هو الجامع بين العلم والهدى والعمل به .
والضابط في الفرق بين أئمة الهدى والأئمة المضلين :
قوله تعالى : ? قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ? .
وعن زياد بن خدير قال : قال لي عمر : ( هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا ، قال : يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين ) . رواه الدارمي
قال ابن المبارك :
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
7- محمد ( هو خاتم النبيين .
قال تعالى : ? ولكن رسول الله وخاتم النبيين ? .
وفي الصحيحين قال رسول الله ( : ( إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر ، ... وأنا العاقب ، والعاقب الذي ليس بعده نبي ) .
وفي صحيح مسلم أنه ( قال : ( فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ... وختم بي النبيون ) .
8- تكذيب كل من يدعي النبوة بعد النبي ( .
9- استمرار الحق في هذه الأمة ، حتى يأتي أمر الله ، لا يضرها تخاذل المتخاذلين ، ولا خلاف المخالفين .(1/182)
عن المغيرة بن شعبة أن النبي ( قال : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ).متفق عليه
وعن جابر بن سمرة أن النبي ( قال : ( لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) . رواه مسلم
وعن أبي عتبة الخولاني ( قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته ) . رواه بن ماجه
قوله (حتى يأتي أمر الله ( قال النووي :
" الريح التي تأتي فتأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة " .
الباب الرابع والعشرون
ما جاء في السحر
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" وجه إدخال السحر في أبواب التوحيد أن كثيراً من أقسامه لا يتأتى إلا بالشرك والتوسل بالأرواح الشيطانية إلى مقاصد الساحر ، فلا يتم للعبد توحيد حتى يدع السحر كله قليله وكثيره ، ولهذا قرنه بالشرك .
فالسحر يدخل في الشرك من جهتين :
من جهة ما فيه من استخدام الشياطين والتعلق بهم ، وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه .
ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ، ودعوى مشاركة الله في علمه ، وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك ، وذلك من شعب الشرك والكفر " . أ . ه
وقول الله تعالى : ? ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ? . البقرة ( 102 )
وقوله : ? يؤمنون بالجبت والطاغوت ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المعنى الإجمالي :
أي لقد علموا اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل ، والإيمان بالله لمن استبدل السحر بكتاب الله ومتابعة رسله ما له نصيب في الآخرة ، وفي الآية الثانية : يخبر تعالى عن اليهود أنهم يصدقون بالجبت الذي منه السحر .
( لمن اشتراه ) أي رضي بالسحر عوضاً عن شرع الله ودينه .
( ما له في الآخرة من خلاق ) قال ابن عباس : ( من نصيب ) .
( بالجبت والطاغوت ) قال عمر : ( الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان ) .(1/183)
مناسبة الآيتين للباب :
أنهما يدلان على تحريم السحر وأنه من الجبت .
ما يستفاد من الآية :
1. تحريم السحر ، وهو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام .
قال تعالى : ? ولا يفلح الساحر حيث أتى ? .
2. نفي النفع عن السحر .
3. ذم من اشترى الدنيا بالآخرة . [ وسيأتي مباحث السحر في آخر الباب إن شاء الله ]
4. الوعيد الشديد لمن أعرض عن كتاب الله ، واستبدل به غيره .
5. أن السحر من الشرك المنافي للتوحيد ، لأنه استخدام للشياطين وتعلق بهم .
عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال :
( اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله ، وما هنّ ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) رواه البخاري ( 2766 ) ومسلم ( 89 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( اجتنبوا ) السبع ) أي أبعدوا ، وهو أبلغ من قوله : دعوا أو اتركوا ، لأن النهي عن القربان أبلغ ، كقوله تعالى : ? ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ?
( الموبقات ) المهلكات ، وسميت موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها مت العقوبات ، وفي الآخرة من العذاب .
( الشرك بالله ) قال الذهبي : " وهو أن تجعل لله نداً وهو خلقك ، وتعبد معه غيره من حجر أو بشر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو غير ذلك " .
قال تعالى : ? إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ? .
وقال تعالى : ? إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ? .
وقال تعالى : ? إن الشرك لظلم عظيم ? .
وعن ابن مسعود ( قال : سألت النبي ( : أي الذنب أعظم عند الله ؟ فقال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) . متفق عليه(1/184)
وعن أبي بكرة ( قال : قال رسول الله ( : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثاً ـ ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متكئاً وقال : ألا وقول الزور ، قال : فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) . متفق عليه
( السحر ) هذا دليل على أنه حرام وأنه من الموبقات . [ وسيأتي تعريفه ومباحثه في نهاية الباب إن شاء الله ]
( وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ) قال تعالى : ? ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً ? .
وقال تعالى : ? والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ... ? .
وقال تعالى : ? ومن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ? .
وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( : ( أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس ) . رواه البخاري
وعن بريدة قال : قال رسول الله ( : ( لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) . رواه النسائي
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ) . رواه البخاري
وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً ) . رواه البخاري
( إلا بالحق ) أي مما يوجب القتل ، مثل :
التارك لدينه المفارق للجماعة ، والثيب الزاني ، والنفس بالنفس .
عن ابن مسعود ( قال : قال رسول الله ( : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) . متفق عليه
( وأكل الربا ) أي تناوله بأي وجه كان .
قال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ? .(1/185)
وقال تعالى : ? الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ? .
وعن ابن مسعود ( قال : قال رسول الله ( : ( لعن الله آكل الربا وموكله ) . رواه مسلم والترمذي وزاد : ( وشاهديه وكاتبه ) .
وقال ( : ( آكل الربا وموكله وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد ( يوم القيامة ) . أخرجه النسائي
( وأكل مال اليتيم ) يعني : التقوي عليه ، وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع .
واليتيم : هو الذي مات أبوه قبل بلوغه سواء كان ذكراً أم أنثى .
قال تعالى : ? إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ? .
وقال تعالى : ? ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ? .
( التولي يوم الزحف ) أي الإدبار من وجوه الكفار وقت ازدحام الطائفتين في القتال ، وإنما يكون كبيرة إذا فرّ إلى غير فئة ، أو غير متحرّف لقتال ، كما قال تعالى : ? ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغض من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ? .
( وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )
القذف : الرمي .
المحصنات : الحرائر .
الغافلات : العفيفات عن الزنا ، البعيدات عنه .
المؤمنات : احترازاً من الكافرات .
قال تعالى : ? إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ? .
وقال تعالى : ? والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ? .
وقال تعالى : ? الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً ? .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم تعلّم السحر وتعليمه وأنه من الكبائر .
ما ستفاد من الحديث :
1- أن المعاصي سبب للإهلاك في الدنيا والآخرة .
2- تحريم الشرك وأنه هو أكبر الكبائر .
3- تحريم قتل النفس بغير حق .
4- تحريم الربا وغلظ أمره .
5- تحريم القذف .(1/186)
6- أن قذف الكافر ليس من الكبائر .
وعن جندب ( مرفوعاً :
( حدّ الساحر ضربة بالسيف ) . رواه الترمذي ( 1460 ) والحاكم ( 4/360 ) والدار قطني ( 3/114 ) والطبراني ( 1665 )
وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال :
( كتب عمر بن الخطاب ( : أن اقتلوا كل ساحرٍ وساحرةٍ ، قال : فقتلنا ثلاث سواحر ) . رواه أحمد ( 1/190،191 ) وأبو داود ( 3043 )
وصح عن حفصة ـ رضي الله عنها ـ :
( أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ، فقتلت ) . رواه مالك في الموطأ ( 46 ) والبيهقي
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
هذا الحديث ضعفه بعض العلماء .
قال القرطبي : " حديث ضعيف " .
قال الحافظ ابن حجر : " فيه ضعف " .
قال البيهقي : " إسماعيل بن مسلم ضعيف " .
وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، ورمز لصحته السيوطي ، وحسنه البغوي .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على عقوبة السحر بالقتل ، وعلى تحريم السحر .
من فوائد الآثار :
1- وجود تعاطي السحر في المسلمين على عهد عمر ، فكيف بمن بعده .
2- الأثر الذي عن بجالة رواه البخاري كما قال المصنف ، لكن لم يذكر قتل السواحر ، ولفظه عند البخاري :
( 3156 ) : عن بجالة بن عبدة قال : ( كنت كاتباً لجزء بن معاوية عم الأحنف ، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة : فرقوا بين كل محرم من المجوس ، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس ) .
وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فرواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وصححه ابن حزم .
3- أورد المصنف هذه الآثار في الباب ، ليبين لنا أن رأي الصحابة المذكورين هنا في الساحر أن يقتل حداً .
مناسبة الآثار للباب :
أن فيها بيان حدّ الساحر بأنه القتل ، مما يدل على عظم جريمة السحر وأنه من الكبائر .
مباحث في السحر :
أولاً : تعريفه :
في اللغة هو كل ما لطف وخفي سببه .
وسمي السحور سحوراً لأنه يقع خفياً آخر الليل .(1/187)
ومنه قول العرب في الشيء إذا كان شديداً خفاؤه : [ أخفى من السحر ]
ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري :
جعلت علامات المودة بيننا مصائد لحظٍ هن أخفى من السحر
قال ابن قدامة المقدسي : " هو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له ، وله حقيقة ، فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل من امرأته فيمنعه وطأها ، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يحبب بين اثنين " .
ثانياً : حكم تعلم السحر وتعليمه :
حرام وهو من الكبائر .
قال النووي : " عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع ، فقد عدّه النبي ( من السبع الموبقات " .
قال تعالى : ? وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ? .
حيث صرحت هذه الآية بكفر من تعلم السحر .
قوله ( : ( اجتنبوا السبع الموبقات ... وذكر منها : السحر ) . متفق عليه
قال ابن قدامة : " تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم " .
ثالثاً : هل للسحر حقيقة ؟
اختلف الناس في السحر هل له حقيقة فيؤثر في الأجسام كغيره من الأمراض ، أم هو تخيل فقط ولا حقيقة له ؟
فذهب جمهور العلماء إلى أن له حقيقة .
قال الإمام النووي : " الصحيح أن له حقيقة ، وبه قطع الجمهور ، وعليه عامة العلماء ، ويدل عليه الكتاب والسنة " .
وقال المازري : " جمهور العلماء على إثبات السحر ، وأن له حقيقة ، ونفى بعضهم حقيقته ، وأضاف على ما يقع منه إلى خيالات باطلة ، وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر " .
وقال أيضاً : " مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء ".
الأدلة :
أ- قال تعالى : ? سحروا أعين الناس وجاءوا بسحر عظيم ? .
دلت الآية على إثبات حقيقة السحر بدليل قوله : ? وجاءوا بسحر عظيم ? .
ب- قوله تعالى : ? فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ? .(1/188)
أثبتت هذه الآية أن للسحر حقيقة ، وحيث أمكنهم بواسطته أن يفرقوا بين الرجل وزوجته ، فدلت على أثره وحقيقته .
ج- قوله تعالى : ? ومن شرّ النفاثات في العقد ? .
دلت الآية على حقيقة السحر ، وإلا لم يأمر الله بالاستعاذة منه .
د- ومن السنة حديث عائشة في سحر النبي ( قالت : ( سحر رسول الله ( رجل من بني زُريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله ( يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله ، حتى إذا كان ذات يوم ـ أو ذات ليلة ـ وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال : يا عائشة ن أشعرتِ أن الله أفتاني فيما أستفتيه فيه ؟ أتاني رجلان ، فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجليّ ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال : مطبوب ، فقال : من طبّه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : في أي شيء ؟ قال : في مُشط ومُشاطة وجُف طلعِ نخلةٍ ذكر ، قال : وأين هو ؟ قال : هو في بئر ذروان ، فأتاها رسول الله ( في ناس من أصحابه فجاء فقال : يا عائشة ، كأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن رؤوس نخلها الشياطين ، قلت : يا رسول الله ، أفلا استخرجته ؟ قال : قد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرّاً ، فأمر بها فدفنت ) . رواه البخاري
قال ابن القيم في زاد المعاد : " وقد أنكر هذا طائفة من الناس ـ أي سحر النبي ( ـ وقالوا لا يجوز هذا عليه ، وظنوا أنه نقصاً وعيباً ، وليس الأمر كما زعموا ، بل هو من جنس ما كان يعتريه ( من الأسقام والأوجاع ، وهو مرضٌ من الأمراض ، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما " . أ . ه
وقال القاضي عياض : " والسحر مرض من الأمراض ، وعارض من العلل يجوز عليه ( كأنواع الأمراض مما لا ينكر ، ولا يقدح في نبوته ، وأما كونه أنه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله ، فليس هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه ، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا ... " . أ . ه
رابعاً : حكم الساحر :
اختلف العلماء في الساحر ، هل يكفر أم لا ؟(1/189)
أ- أنه يكفر .
وهذا مذهب الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وعليه الجمهور .
قال تعالى : ? وما كفر سليمان ? .
قال الحافظ ابن حجر : " وقد استُدل بهذه الآية ? وما كفر سليمان ? على أن السحر كفر ومتعلمه كافر " .
ب- أنه ينظر .
وهذا مذهب الشافعي .
فإذا تعلم السحر يقال له : صف لنا سحرك ، فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل ، من التقرب للكواكب ، وأنها تفعل ما يطلب منها ، فهو كافر ، وإن كان لا يصل إلى حد الكفر واعتقد إباحته ، فهو كافر لاستحلاله المحرم ، وإلا فلا .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله :
" والتحقيق في هذه المسألة هو التحقيق :
فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب ، والجن ، وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر ، فهو كافر بلا نزاع ، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة ، فإنه كفر بلا نزاع ، كما دل عليه قوله تعالى : ? وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ? وقوله تعالى : ? وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ? وقوله تعالى : ? ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ? وقوله تعالى :
? ولا يفلح الساحر حيث أتى ? .
وإن كان السحر لا يستحق الكفر ، كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها ، فهو حرام حرمة شديدة ، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر .
وهذا هو التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء " . أ . ه
خامساً : اختلف العلماء في قتل الساحر :
والصحيح من أقوال أهل العلم أنه يقتل .
وهذا قول الجمهور ، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله . الأدلة :
أ- حديث جندب أن رسول الله ( قال : ( حد الساحر ضربة بالسيف ) . رواه الترمذي ، وضعفه الحافظ ابن حجر
ب- عن بجالة قال : ( أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة ، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ، فقتلنا ثلاث سواحر ) . رواه أحمد وأبو داود(1/190)
قال ابن قدامة في المغني معلقاً : ( اقتلوا كل ساحر ... فقتلنا ثلاث سواحر ) قال : "وهذا اشتهر فلم يُنَكر فكان إجماعاً " .
ج- عن حفصة أم المؤمنين زوج النبي ( : ( أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت ) . رواه مالك في الموطأ والبيهقي
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في المجموع الثمين ( 2/133 ) :
" السحرة يجب قتلهم ، سواء قلنا بكفرهم أم لا ، لعظم ضررهم وفضاعة أمرهم ، فالقول بقتل السحرة موافق للقواعد ، لأنهم يسعون في الأرض فساداً وفسادهم من أعظم الفساد " . أ . ه
سادساً : سبل الوقاية من السحر :
1. الأذكار والتعوذات .
قال ابن القيم : " فالقلب إذا كان ممتلئاً بالله ، مغموراً بذكره ، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات وِرد لا يخل به ، يطابق فيه قلبه لسانه ، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له " . أ . ه
2. العجوة .
عن سعد بن أبي وقاص أن النبي ( قال : ( من تصبح بسبع تمرات عجوة لم تضره ذلك سم ولا سحر ) .متفق عليه
ولمسلم : ( من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح ، لم يضره سمٌّ حتى يمسي ) .
قال الخطابي : " كون العجوة تنفع من السم والسحر ، إنما هو ببركة دعوة النبي ( لتمر المدينة لا لخاصية في التمر " . أ . ه
وقال النووي : " في الحديث تخصيص عجوة المدينة دون غيرها ، وأما خصوص كون ذلك سبعاً فلا يعقل معناه ، كما في أعداد الصلوات ، ونصب الزكوات " . أ . ه
وقال الحافظ ابن حجر : " والأولى أن ذلك خاص بعجوة المدينة ، ثم هل هو خاص بزمان نطقه ( أو في كل زمان ؟ هذا محتمل ، ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة ، فمن جرب ذلك فصح معه ، عُرف أنه مستمر ، وإلا فهو مخصوص بذلك " . أ . ه(1/191)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : " والصواب أنه علاج مستمر إلى يوم القيامة ، لإطلاق الحديث الشريف ـ حديث سعد المذكور ـ والصواب أن ذلك ليس خاصاً بالعجوة ، بل يعم جميع تمر المدينة لقوله ( في رواية مسلم : ( مما بين لابتيها ) " . أ . ه
سابعاً : علاج السحر :
يكون علاج السحر بأحد طريقين :
1. طريق محرم : كالذهاب إلى السحرة والمشعوذين ، وطلب منهم حل السحر ، وهذا حرام .
2. طريق مشروع : وذلك بالطرق الشرعية التالية :
أ- استخراجه وتبطيله ، وهذا أفضل أنواع العلاج وأبلغه ، ويكون ذلك بأمور :
* التوجه الخالص لله ودعائه سبحانه بأن يدله على مكانه ، كما صح عن النبي ( لما سحر : ( أنه سأل ربه فدل عليه فاستخرجه من بئر ) .
قال ابن القيم : " فهذا أبلغ ما يعالج به المطبوب ، وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ ، وقد يقول قائل : أن الرسول ( دُلَّ على السحر بطريق الوحي ، فكيف نُدل عليه ؟
الجواب أن يكون ذلك بما يلي :
أولاً : الرؤيا في المنام . كأن يريه الله بمنّه وكرمه مكانه ، فبعد أن يدعو العبد ربه بأن يدله على مكان السحر يريه مكان السحر في المنام فيراه .
ثانياً : أن يوفق لرؤيته أثناء البحث والتنقيب عن مكان السحر .
* أن يعرف مكانه عن طريق الجن ، فمثلاً يُقرأ على المسحور الذي تلبسه الجن فينطقون على لسانه فيخبرون عن مكان السحر .
* إخراج اجني الموكل بالسحر من جسم المريض ، إذ أن من أنواع السحر إرسال الساحر جنياً يدخل في جسم المصاب فيؤذيه ، أو يعيق أحد أعضائه ، أو ما شابه ذلك ، فإذا استطعنا بحول الله طرد هذا الجني من جسم المريض فإن السحر يبطل بإذن الله ، وطريقة طرد الجني : الرقى الشرعية والتي سبق ذكرها .(1/192)
* الاستفراغ ، ويكون الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه اذى السحر ، فإن للسحر تأثير للطبيعة وهيجان أخلاطها ، وتشويش مزاجها ، فإذا ظهر أثره في عضو ، وأمكن استفراغ المادة الرديئة من ذلك العضو ، نفع جداً ، ومن الاستفراغات النافعة بإذن الله تعالى في دفع السحر : الحجامة .
وأفضل وقت للحجامة ما جاء في حديث أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( من احتجم لسبع عشرة من الشهر ، وتسع عشرة ، وإحدى وعشرين ، كان له شفاء من كل داء ) .
الباب الخامس والعشرون
بيان شيء من أنواع السحر
لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيء من أنواعه لكثيرة وقوعها وخفائها على الناس ، حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو من الأولياء ، وعدوها من كرامات الأولياء ، وآل الأمر إلى أن عُبد أصحابها ورُجي منهم النفع والضرر .
عن قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي ( قال :
( إن العِيافةُ والطّرق والطّيرة من الجبت ) . رواه أحمد ( 3/477 ) وأبو داود ( 3907 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( قبيصة ) هو ابن المخارق ، أبو عبد الله الهلالي ، صحابي نزل البصرة .
( العيافة ) قال أبو السعادات : " العيافة : زجر الطير والتفاؤل باسمائها وأصواتها وممرّها ، وهو من عادة العرب كثيراً ، وهو كثير في أشعارهم " .
( الطرق ) الخط يخط في الأرض .
( الطيرة ) هي التشاؤم بمرئي أو مسموع . [ وسيأتي الحديث عنها في بابها إن شاء الله تعالى ]
( الجبت ) أي من أعمال السحر .
مناسبة الحديث للباب :
حيث أفاد الحديث أن العيافة والطرق والطيرة من السحر .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن العيافة من السحر ، ووجه كونها من السحر : أن العيافة يستند فيها الإنسان على أمر لا حقيقة له ، وهي من أعمال الجاهلية ، لأن الطيور ليس عندها خير ولا شر ، لكن هذا من جهلهم وضلالهم .
2- أن الطرق من السحر .(1/193)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى : " وهذا قد يكون من العبث أحياناً ، وقد يكون تخيلاً ، وهو في الحقيقة خدمة للشياطين ، وأخذ بأقوالهم وطاعتهم ، ودعوى علم الغيب ، وكله كذب ، وهي لا تفيد شيئاً " . أ . ه
3- تحريم السحر .
4- تحريم ادعاء علم الغيب ، لأنه ينافي التوحيد .
5- تحريم الملاهي بأنواعها ، لأنها تنافي طاعة الله .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ( :
( من اقتبس شُعْبَةً من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد ) . رواه أبو داود ( 3905 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
الحديث صححه النووي في رياض الصالحين ، والذهبي في الكبائر ، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى : " إسناده صحيح " .
( من اقتبس ) أي من تعلم .
( شعبة ) أي طائفة .
والشعبة : الطائفة من الشيء ، ومنه الحديث : ( الحياء شعبة من الإيمان ) . متفق عليه
( من النجوم ) أي من علم النجوم .
( فقد اقتبس شعبة من السحر ) المحرم تعلمه .
( زاد ما زاد ) أي كلما زاد شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر .
المعنى الإجمالي :
يخبر ( في هذا الحديث خبراً معناه النهي والتحذير أن من تعلم شيئاً من التنجيم فقد تعلم شيئاً من السحر المحرم ، وكلما زاد تعلمه التنجيم زاد تعلمه السحر ، وذلك أن التنجيم تحكمٌ على الغيب ، بحيث إن المنجم يحاول اكتشاف الحوادث المستقبلة التي هي من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن علم التنجيم نوع من السحر ، والسحر شرك .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم التنجيم الذي هو الإخبار عن المستقبل اعتماداً على أحوال النجوم .
2- أن التنجيم من أنواع السحر المنافي للتوحيد .
3- أنه كلما زاد تعلمه للتنجيم زاد تعلمه للسحر .
وللنسائي من حديث أبي هريرة :(1/194)
( من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئاً وُكِلَ إليه ) . رواه النسائي ( 7/12 ) وضعفه الألباني
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( من عقد عقدة ثم نفث فيه فقد سحر ) اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر ، عقدوا الخيوط ، ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدونه من السحر ، ولهذا أمر الله عز وجل بالاستعاذة من شرهم في قوله : ? ومن شر النفاثات في العقد ? يعني السواحر اللاتي يفعلن السحر .
النفث : هو النفخ مع الريق ، وهو دون التفل .
والنفث فعل الساحر ، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة ، نفخ في تلك العقد نفخاً معه ريق ، فيخرج من نفسه الخبيثة ، ممازج للشر والأذى ، مقترن بالريق الممازج لذلك ، وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور ، فيصيبه السحر بإذن الله الكوني الشرعي ... [ قاله ابن القيم ]
( ومن سحر فقد أشرك ) نص في أن الساحر مشرك ، إذ لا يتأتى السحر بغير الشرك .
( ومن تعلق شيئاً وكل إليه ) أي من تعلق قلبه شيئاً بحيث يتوكل عليه ويرجوه ، وكله الله إلى ذلك الشيء ، فإن تعلق العبد على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه ، وكّله إليه وكفاه ، ووقاه وحفظه وتولاه ، ونعم المولى ونعم النصير ، أليس الله بكاف عبده ؟
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن التعقيد والنفث نوعٌ من السحر .
من فوائد الحديث :
1- تحريم محاولة السحر .
2- أن النفث في العقد نوعٌ من الشرك .
3- بيان أن الساحر مشرك .
4- تحريم التعلق بغير الله .
5- أن من اعتمد على غير الله خُذل .
6- أن من اعتمد على غير الله كفاه .
وعن ابن مسعود أن رسول الله ( قال :
( ألا هل أنبئكم بالعَضْه ؟ هي النميمة القالة بين الناس ) . رواه مسلم ( 2606 )(1/195)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ألا هل أنبئكم ) أي أخبركم .
( العضه ) بفتح العين وتسكين الضاد ، الأصل : البهت .
( النميمة ) نقل الكلام من شخص إلى آخر على وجه الإفساد .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل على أن النميمة نوعٌ من السحر ، وذلك لأنها تؤثر ما يؤثر السحر أو أكثر .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم النميمة وأنها من الكبائر .
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( مرّ النبي ( على قبرين فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ) . متفق عليه
وعن حذيفة ( قال : قال رسول الله ( : ( لا يدخل الجنة نمام ) . متفق عليه
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ) . متفق عليه
قال ابن حزم : " اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة " . أ . ه
2- أن النميمة تسبب الفرقة والاختلاف .
وقد ذكر ابن عبد البر عن يحي بن أبي كثير قال : " يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة " .
3- تحريم النميمة وأنها من الكبائر .
4- التعليم على طريقة السؤال والجواب ، لأن ذلك أثبت في الذهن وأدعى للانتباه .
ولهما عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال :
( إن من البيان لسحراً ) . رواه البخاري ( 5146 ) ومسلم ( 869 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
رواه البخاري عن ابن عمر ومسلم عن عمار بن ياسر .
( البيان ) البلاغة والفصاحة .
( لسحراً ) فالرجل يكون عليه الحق وهو لحسن الحجج لصاحب الحق فيسحر القوم ببيانه ، فيذهب بالحق .
وذهب أكثر أهل العلم وجماعة من الأدب إلى أنه على المدح ، لأن الله تعالى مدح البيان .(1/196)
وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه فقال : ( هذا والله السحر الحلال ) .
والأول أصح .
والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس ، كما قال بعضهم شعراً :
في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير
( إن من البيان لسحراً ) هذا التشبيه البليغ لكون ذلك يعمل عمل السحر ، فيجعل الحق في قالب الباطل ، والباطل في قالب الحق ، فيستميل به قلوب الجهّال ، حتى يقبل الباطل وينكر الحق ، وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويبطل الباطل ويبينه ، فهذا هو الممدوح ، وهكذا حال الرسل وأتباعهم ، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل ، وعظمت حسناتهم .
مناسبة الحديث لباب :
حيث دل الحديث أن بعض البيان نوع من السحر ، وذلك لأنه يستميل القلوب كما يستميلها السحر .
من فوائد الحديث :
1- تحريم بعض البيان ، وهو الذي يقصد به إبطال الحق .
2- تشبيه بعض البيان بالسحر ذماً له .
الباب السادس والعشرون
ما جاء في الكهان ونحوهم
تعريف الكاهن :
قال في اللسان : " الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ، ويدعي معرفة الأسرار " .
قال في فتح المجيد : " الكاهن هو الذي يأخذ عن مسترق السمع ، وكانوا قبل المبعث كثيراً ، أما بعد المبعث فإنهم قليل ، لأن الله سبحانه وتعالى حرس السماء بالشهب " .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى : " الكاهن هو الذي له رأي من الجني ، أي صاحب " .
ولما ذكر المصنف شيء من أنواع السحر ، ذكر ما جاء في الكهان وغيرهم كالعراف ، لمشابهة هؤلاء السحرة .
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي ( قال :
( من أتى عرافاً ، فسأله عن شيء فصدقه1 ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) . رواه مسلم ( 2230 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن بعض أزواج النبي ( ) هي حفصة .(1/197)
( عرافاً ) هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضلالة ونحو ذلك .
( لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) قال النووي وغيره : " معناه أنه لا ثواب له فيها ، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ، ولا يحتاج معها إلى عبادة " . أ . ه
ومثل ذلك قوله ( : ( من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) . رواه أحمد
المعنى الإجمالي للحديث :
يبين ( الوعيد المترتب على الذهاب إلى الكهان ونحوهم ، لسؤالهم عن المغيبات التي لا يعلمها إلا الله ، أن جزاء من فعل ذلك حرمانه من ثواب صلاته لمدة أربعين يوماً ؛ لتلبسه بالمعصية . وفي هذا وعيد شديد ونهي أكيد عن هذا الفعل ، مما يدل على أنه من أعظم المحرمات ، وإذا كان هذا جزاء من ـى الكاهن ، فكيف بجزاء الكاهن نفسه ! نعوذ بالله من ذلك ونسأله العافية .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن العرافة وتصديقها حرام .
ما يستفاد من الحديث :
1- ذم النبي ( العراف ، لأنه جعله شريكاً لله تعالى .
2- قوله ( لم تقبل له صلاة ... ) إذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسؤول .
3- النهي عن إتيان الكهان ، قال النووي :
" اعلم أن التكهن وإتيان الكهان وتعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل وبالشعير وبالحصى ، وتعليم هذه كلها من الحرام ، وأخذ العِوَض عليها حرام بالنص الصريح " .
4- التداوي مطلوب في هذه الحياة ، لأن المسلم يعلم أم ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فهو مؤمن بقضاء الله وقدره ، ومع هذا فقد أمره الشرع بالتداوي ، وطلب العلاج والأخذ بالأسباب ، وهذا لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أن هذه الأسباب بإذن الله وبتقديره ، وأنها لا تنفع بذاتها وإنما بما قدر الله لها .
لما روى أبو خزامة عن أبيه قال : ( أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال : هي من قدر الله ) . رواه الترمذي وقال : حسن صحيح(1/198)
والله سبحانه وتعالى جعل لكل داءٍ دواء ، فإذا وافق الدواء الداء برئ بإذن الله ، كما جاء في الحديث عنه ( قال : ( لكل داءٍ دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل ) . رواه مسلم
قال النووي : " وفي هذا الحديث استحباب الدواء ، وهو مذهب اصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف " .
وعن أبي هريرة ( أن النبي ( قال : ( ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ) . رواه البخاري
وعن أسامة بن شريك قال : ( أتيت النبي ( وأصحابه على رؤوسهم الطير ، فسلمت ثم قعدت ، فجاء الأعراب من ههنا وههنا ، فقالوا : يا رسول الله ، أنتداوى ؟ فقال : تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءً إلا وضع له دواء غير داءٍ واحد : الهرم ) . رواه أبو داود
5- تحريم الكهانة ، وأنها من الكبائر .
عن عبد الله بن مسعود ( قال : قال رسول الله ( :( ما أنزل الله عز وجل داءً إلا أنزل له دواء ، علمه من علمه وجهله من جهله ) . رواه أحمد
6- ولكن هل يطلب المسلم الشفاء فيما حرم الله وفيما ليس هو شفاء ؟
الجواب : لا ، لقد حذر المصطفى ( من التداوي بالحرام .
1. فقد روى مسلم في صحيحه أن طارق بن سويد الجعفي ، سأل النبي ( عن الخمر : ( فنهاه أو كره أن يضعها ، فقال : إنما أضعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء ) .
2. وعن أبي الدرداء ( قال : قال رسول الله ( : ( إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داءٍ دواء ، فتداووا ولا تتداووا بحرام ) . رواه أبو داود
3. وروى البخاري عن ابن مسعود ( قال : ( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ) .
وعن أبي هريرة ( عن النبي ( قال :
( من أتى كاهناً فصدقه بما يقول كفر بما أنزل على محمد ( ) .رواه أبو داود ( 3904 ) والترمذي ( 135 ) وابن ماجه ( 639 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
معاني الكلمات :(1/199)
( فصدقه بما يقول ) ما : عامة في كل ما يقول حتى ما يحتمل أنه صدق ، فإنه لا يجوز أن يصدقه ، لأن الأصل فيهم الكذب .
( بما أنزل على محمد ) أي بالذي أنزل على محمد ( ، والذي أنزل على محمد ( القرآن ، الذي أنزل إليه بواسطة جبريل ، قال تعالى : ? وإنه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين ? وقال تعالى : ? قل نزله روح القدس ? .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه النهي عن إتيان الكهان والعرافين وبيان الوعيد في ذلك .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم إتيان الكهان .
2- كفر إتيان الكهان .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى في المجموع الثمين ( 2/136 ـ 137 ) :
" والذي يأتي الكاهن ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يأتي الكاهن فيسأله من غير أن يصدقه ، فهذا حرام ، وعقوبة فاعله : أن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً
القسم الثاني : أن يأتي الكاهن فيسأله ويصدقه بما أخبر به ، فهذا كفرٌ بالله ، لأنه صدقه في دعوى علمه بالغيب ، وتصديق البشر في دعوى علم الغيب تكذيب ، لقوله تعالى : ? قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ? .
القسم الثالث : أن يأتي إلى الكاهن فيسأله ، ليبين حاله للناس وأنها كهانة وتمويه وتضليل ، فهذا لا بأس به " . أ.ه
3- أن ادعاء علم الغيب كفر .
قال تعالى : ? قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ? .
وقال تعالى : ? عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً . إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ? .
وقد أمر الله تعالى نبيه ( أن يعلن للملأ بقوله : ? قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحي إلي ? .
وعن عمران بن حصين مرفوعاً :(1/200)
( ليس منّا من تطيّر أو تُطيّر له ، أو تكهن أو تُكهن له ، أو سحر أو سُحر له ، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ( ) . رواه البزار ( 3044 ) وقال المنذري : " إسناده جيد "
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ليس منّا ) أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا ، وليس المراد به إخراجه عن الدين .
قال الحافظ : " ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك ، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته : لست منك ولست مني ، أي ما أنت على طريقي " . أ.ه
وحكي عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله ، ويقول : " ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر " .
وقيل المعنى : ليس على طريقنا الكامل .
( من تُطيّر له ) أي فعل الطيرة .
والتطير : هو التشاؤم بالموتى أو بالمسموع [ وسيأتي له باب خاص إن شاء الله ] .
أو تُطيّر له ) أي أمر من يتطير له .
( أو تَكهن ) أي فعل الكهانة .
( أو تُكهن له ) أي فعلت الكهانة من أجله .
( أو سَحر ) أي فعل السحر .
( أو سُحر له ) أي فعل السحر من أجله .
المعنى الإجمالي :
يقول ( : لا يكون من أتباعنا المتبعين لشرعنا من فعل الطيرة أو الكهانة أو السحر أو فعلت له هذه الأشياء ، لأن فيها ادعاء لعلم الغيب الذي اختص الله به ، وفيها إفساد للعقائد والعقول ، ومن صدق من يفعل شيئاً من هذه الأمور فقد كفر بالوحي الإلهي الذي جاء لإبطال هذه الجاهليات ووقاية العقول منها .
ويلحق بذلك ما يفعله بعض الناس من قراءة ما يسمى بالكف ، أو ربط سعادة الإنسان وشقائه وحظه بالبروج ونحو ذلك .(1/201)
وقد بين كل من الإمامين البغوي وابن تيمية معنى العراف والكاهن والمنجم والرمال بما حاصله : أن كل من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن او مشارك في المعنى فيلحق به ، والكاهن هو الذي يخبر عما يحصل في المستقبل ويأخذ عن مسترق السمع من الشياطين كما سبق في أول كتاب التوحيد .
في هذا الحديث تبرأ النبي ( من ثلاثة من أصناف الناس هم :
الصنف الأول : من فعل الطيرة أو فعلت له .
الصنف الثاني : من فعل الكهانة أو فعلت له .
الصنف الثالث : من فعل السحر أو فعل لأجله .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم ادعاء علم الغيب لأنه منافي للتوحيد .
2- تحريم تصديق من يفعل ذلك بكهانة أو غيرها لأنه كفر .
3- وجوب تكذيب الكهان ونحوهم ، ووجوب الابتعاد عنهم .
4- وجوب التمسك بما أنزل على محمد ( .
وقال ابن عباس في قوم يكتبون ( أبا جادٍ ) وينظرون في النجوم :
( ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ) . أخرجه عبد الرزاق ( 11/26 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( يكتبون أبا جادٍ ) تعلمها لمن يدعي بها علم الغيب ، وهو الذي يسمى علم الحرف ، وهو الذي فيه الوعيد .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى : " فيكتبون الحروف ويضمونها إلى بعض ، ويقولن يقع كذا ويقع كذا " أ.ه
وأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس .
( وينظرون في النجوم ) أي ويعتقدون أن لها تأثيراً .
( وما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ) لا أعلم أن له نصيباً وحظ .
ما يستفاد من الحديث :
1- عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم .
كما قال تعالى : ? فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ? .
الباب السابع والعشرون
ما جاء في النُّشرة
تعريف النشرة : رقية يعالج بها المجنون والمريض تنشر عليه نشراً .(1/202)
قال ابن الجوزي : " حل السحر عن المسحور " . [ وسيأتي حكمها ]
عن جابر ( أن رسول الله ( سئل عن النشرة فقال :
( هي من عمل الشيطان ) . رواه أحمد ( 3/294 ) وأبو داود ( 3868 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( سئل عن النشرة ) الألف واللام في النشرة للعهد .
أي : النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يضعونها ، وهي من عمل الشيطان .
المعنى الإجمالي للحديث :
أن النبي ( سئل عن علاج المسحور على الطريقة التي كانت تعملها الجاهلية ما حكمه ، فأجاب ( بأنه من عمل الشيطان أو بواسطته ، لأنه يكون بأنواع سحرية واستخدامات شيطانية ، فهي شركية محرمة .
مناسبة الحديث للباب :
أنه دل على تحريم النشرة التي هي من عمل الشيطان ، وهي نشرة الجاهلية .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم النشرة ، والمراد بالمحرمة هنا ما كانت بوسائل شركية سحرية ، أما ما كانت برقى وتعاويذ شرعية وأدوية مباحة ، فهي جائزة .
2- أن أعمال الشيطان كلها محرمة .
3- قال ابن القيم رحمه الله : " حل السحر عن المسحور نوعان :
أحدها : حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يحمل قول الحسن : لا يحل السحر إلا ساحر .
فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب ، فيبطل عمله عن المسحور .
والثاني : النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة ، فهذا جائز " . أ.ه
وفي البخاري عن قتادة :
( قلت لابن المسيب رجل به طب : أيؤخذ عن امرأته ؟ أيحل عنه أو يُنشر ؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه ) رواه البخاري تعليقاً ( 10/232 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( طب ) أي سحر ، يقال : طب الرجل ـ بالضم ـ إذا سُحر ، ويقال : كنّوا عن السحر بالطب تفاؤلاً ، كما قالوا للديغ : سليم .(1/203)
( أو يؤخذ ) بفتح الواو وتشديد الخاء . أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها .
( لا بأس به ... ) يعني أن النشرة لا بأس بها ، لأنهم يريدون الإصلاح ، أي إزالة السحر .
ويحمل قول ابن المسيب هذا على النشرة التي لا محذور منها .
لأن الحديث صح عنه ( أنه سُئل عن النشرة فقال : ( هي من عمل الشيطان ) .
ولا يمكن أن يبيح سعيد بن المسيب النشرة التي عرف أنها سحر ، لأنها كفرٌ بالله .
الباب الثامن والعشرون
ما جاء في التطيّر
أي من النهي عنه والوعيد فيه .
والتطير : هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم .
بمرئي : مثل لو رأى طائراً فتشاءم لكونه موحشاً .
أو مسموع : مثل لو هم بأمرٍ فسمع شخص يقول لآخر : يا خسران ، أو يا خائب ، فتشاءم .
أو معلوم : كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور .
ولما كانت الطيرة باباً من الشرك ، منافياً للتوحيد أو لكماله ، ولأنها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ، ذكره المصنف في كتاب التوحيد تحذيراً منها وإرشاداً إلى كمال التوحيد بالتوكل على الله .
واعلم أن التطير ينافي التوحيد من وجهين :
الوجه الأول : أن المتطير قطع توكله على الله ، واعتمد على غيره .
الوجه الثاني : أنه تعلق بأمر لا حقيقة له .
وقول الله تعالى :
? ألا إنما طائرهم عند الله ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ? الأعراف ( 131 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أول الآية : ? فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ? .
والمعنى : أن آل فرعون إذا أصابتهم الحسنة ، أي الخصب والسعة والعافية ـ كما فسره مجاهد وغيره ـ قالوا لنا هذه ، أي نحن الجديرون والحقيقون به ونحن أهله .
وإن تصبهم سيئة ، أي بلاء وقحط ، يطيروا بموسى ومن معه ، فيقولون هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم .
فقال الله تعالى : ? ألا إنما طائرهم عند الله ? .(1/204)
( طائرهم ) قال ابن عباس : " ما قضى عليهم وقدر لهم " .
وفي رواية : " شؤمهم عند الله ومن قبله " أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله .
وقيل : المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي عند الله من عذاب النار لا هذا الذي أصابهم في الدنيا .
والظاهر أن هذه الآية كقوله تعالى : ? وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولون هذه من عندك قل كل من عند الله ? .
أي أن الكل من عند الله ، لكن هذا الشؤم الذي أجراه عليهم من عنده هو سبب أعمالهم لا بسبب موسى ( ومن معه .
( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أي أن أكثرهم جهال لا يدرون ، ولو فهموا أو عقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى ( شيء يقتضي الطيرة .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على أن التطير شرك ، لأنه تعليق للقلب بغير الله ، وإثبات سبب دون الله .
ما يستفاد من الآية :
1- تحريم التطير .
2- أن الخير والشر مقدران من الله .
3- تحريم كفر النعمة .
4- تحريم الطيرة والتشاؤم .
5- أن الجهل سبب لكل شر .
6- أن التطير كان موجوداً في الأمم السابقة .
وقوله : ? قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قومٌ مسرفون ? . سورة يس ( 19 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
في هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى أن الرسل الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى : ? واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ? لما جاءوا قومهم بالوعظ والتذكير ، تشاءموا وتطيروا بهم فقالوا : ( إنا تطيرنا بكم ) لكن الرسل رفضوا هذا التشاؤم وقالوا : ? طائركم معكم ? أي حظكم وما نابكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا ، بل ببغيكم وعدوانكم .
وقيل المعنى : ? طائركم معكم ? أي راجع عليكم ، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم . ذكره ابن القيم
مناسبة الآية للباب :(1/205)
حيث أنكرت الآية الطيرة ، لأنها تعليق للقلب بغير الله ، وذلك شرك .
من فوائد الآية :
1- تحريم التشاؤم والطيرة .
2- أن التطير كان معروفاً من قبل في العرب وغير العرب .
عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال :
( لا عدْوى ولا طِيرة ولا هامَّة ولا صَفَرَ ) . أخرجاه
وزاد مسلم : ( ولا نوْء ولا غُول ) . البخاري ( 5757 ) ومسلم ( 2221 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
وفي بعض روايات الحديث : ( فقال أعرابي : يا رسول الله ، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء ، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها ؟ فقال : فمن أعدى الأول ) . رواه البخاري ( 5717 )
وفي رواية للحديث : ( لا عدوى ولا طيرة ... وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد ) . رواه البخاري ( 5707 )
( لا عدوى ) العدوى انتقال المرض من المريض إلى الصحيح .
قوله ( لا عدوى ) من الأحاديث التي تنفي العدوى ما رواه الترمذي عن جابر أن رسول الله ( : ( أخذ بيد رجلٍ مجذوم فأدخلها معه في القصعة وقال : كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً ) .
ووردت أحاديث كثيرة تثبت العدوى منها :
ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ( أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي ( : ارجع فقد بايعناك ) .
والحديث السابق : ( فرّ من المجذوم فرارك من الأسد ) .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : ( لا يوردن ممرض على مصح ) .
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة : " فالممرض الذي أبله مراض ، والمصح الذي إبله صحاح " .
وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي ( قال : ( لا تديموا النظر إلى المجذومين )2 .
قال الحافظ : " وفي إسناده ضعف " .
وروي عن النبي ( أنه قال : ( كلِّم المجذوم وبينك وبينه قدر رمحين ) .
قال الحافظ : " أخرجه أبو نعيم في الطب بسندِ واهِ " .
وقد اختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث على مسالك :(1/206)
المسلك الأول : قال بعض العلماء أن الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على سبيل الاستحباب والإرشاد ، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام .
المسلك الثاني : قال بعض العلماء : أن قوله : ( لا عدوى ) على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى ، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها ، فأبطل النبي ( اعتقادهم ذلك ، وأكل مع المجذوم لبيبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها ، ففي نهيه إثبات الأسباب ، وفي فعله إثبات أنها لا تستقل بشيء ، بل أبقى على قواها فأثرت .
ورجح هذا القول البيهقي وابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح .
قوله ( ولا طيرة ) يحتمل : لا تتطيروا : نهي . ويحتمل : لا طيرة موجودة مؤثرة .
وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله ( : ( ومنّا أناس يتطيرون قال : ذلك يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم ) .
فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به ، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصدّه لا ما رآه وسمعه .
قال عكرمة : " كنا جلوساً عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خيرٌ خير ، فقال ابن عباس : لا خيرٌ ولا شر ، فبادره بالإنكار عليه ، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر " .
( ولا هامة ) قال الفراء : " طيرٌ من طيور الليل ، كأنه يعني البومة " .
قال ابن الأعرابي : " كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم ، يقول : نعت إلى نفسي أو أحداً من أهل داري ، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله " .
والنفي في الحديث نفي لما كانت تعتقده العرب .
( ولا صفر ) قيل : هي حبة تكون في البطن تصيب الماشية والناس ، وهي أعدى من الجرب عند العرب .
فعلى هذا : فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى ، ويكون عطفه على العدوى من عطف الخاص على العام .
وقال آخرون : المراد به شهر صفر .(1/207)
قال ابن رجب : " لعل هذا القول أشبه الأقوال ، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها ، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء .
( ولا نوء ) النوء واحد الأنواء . [ وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله ]
( ولا غول ) قال أبو السعادات : " الغول واحد الغيلان ، وهو جني من الجن والشياطين ، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس ، تتلون تلوناً في صور شتى ، وتغولهم ، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم ، فنفاه النبي ( وأبطله " .
فيكون المعنى بقوله ( لا غول ) أنها لا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكر الله والتوكل عليه .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على إبطال التطير .
من فوائد الحديث :
1- أن الأمراض لا تعدي بنفسها ، وإنما بقضاء الله وقدره .
2- إبطال التطير وتأثيره .
3- إبطال زعم الجاهلية في طير الهامة .
4- إبطال التشاؤم في شهر صفر .
5- إبطال ما زعمه أهل الجاهلية في الغيلان .
6- وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه .
7- أن من تحقيق التوحيد الحذر من الوسائل المفضية إلى الشرك .
ولهما عن أنس ( قال : قال رسول الله ( : ( لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل ، قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة ) . رواه البخاري ( 5776 ) ومسلم ( 2224 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ولهما ) أي البخاري ومسلم .
( الفأل ) هو ما يحدث للإنسان من الفرح والسرور من صوت يسمعه ، أو حال يتحرى عليه يؤمل منها الخير ونحو ذلك .
( الكلمة الطيبة ) لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب ، وتكون سبباً لخيرات كثيرة .
معنى الحديث :
نفى النبي ( في هذا الحديث تأثير العدوى بنفسها ، ونفى وجود تأثير الطيرة ، وأقر التفاؤل واستحسنه ، لأن التفاؤل حسن ظنٍّ بالله ، وحافز للهمم على تحقيق المراد ، بعكس التطير والتشاؤم .(1/208)
قال الحليمي : " وإنما كان ( يعجبه الفأل ، لأن التشاؤم سوء ظنٍّ بالله تعالى بغير سبب محقق ، والتفاؤل حسن ظنٍّ به ، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال " .
ما يستفاد من الحديث :
1- إبطال الطيرة .
2- الفأل يكون فيها ما يسر .
3- أن الفأل ليس من الطيرة المنهي عنه .
4- تفسير الفأل .
5- الفأل فيه حسن ظنٍّ بالله .
6- الطيرة فيها سوء ظنٍّ بالله .
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : ذكرت الطيرة عند رسول الله ( فقال : ( أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك ) . رواه أبو داود ( 39191 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن عقبة بن عامر ) قال في فتح المجيد : " صوابه عن عروة بن عامر ، كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما " .
( أحسنها الفأل ) أي أن الفأل من الطيرة ، لكنه خيرها وأفضلها .
( ولا ترد مسلماً ) أي أن الطيرة لا تثني عزم المسلم ولا ترده عن تحقيق مقصوده .
( فإذا رأى أحدكم ما يكره ) فإذا رأى أحدكم ما يبعث على التشاؤم .
( فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ) أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ، ولا تدفع السيئات والمكروهات ، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات .
( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) الحول : الانتقال من حال إلى حال . ولا قوة : لا قوة على ذلك الحول إلا بك .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على إبطال الطيرة لأنها تعليق للقلب بغير الله .
ما يستفاد من الحديث :
1- استحباب التفاؤل .
وقد روى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي ( : ( إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح يا راشد ) .(1/209)
وروى أبو داود عن بريدة : ( أن النبي ( لا يتطير من شيء ، وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه ، فإذا أعجبه مَزِح به ، وإن كره اسمه رُئيَ كراهية ذلك في وجهه ) .
وهذا فيه استعمال الفأل .
2- إبطال الطيرة وأحسنها الفأل .
ففصل بين الطيرة والفأل لما بينهما من الامتياز والتضاد ، ونفع أحدهما ومضرة الآخر ، ونظير هذا : منعه من الرقى بالشرك ، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك ، لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة . [ قاله ابن القيم ]
3- نفي تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر ، وهذا هو التوحيد .
4- الاستعانة بالله على فعل التوكل وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سبباً لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها .
5- التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته .
6- مشروعية هذا الدعاء لمن وقع في قلبه شيء من التطير .
7- أن الخير والشر مقدر من الله .
وعن ابن مسعود مرفوعاً : ( الطيرة شرك ، وما منّا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل ) . رواه ابو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود . رواه أبو داود ( 3910 ) والترمذي ( 1614 ) وابن ماجه ( 3538 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم الطيرة والتصريح بأنها شرك ، لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى .
2- قال في شرح السنن : " وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً إذا عملوا بموجبه ، فكأنهم أشركوا مع الله .
3- قوله ( وما منا ) قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري : " في الحديث إضمار ، والتقدير : وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك ، والمعنى : وما منا إلا ويعتريه التطير ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه ، فحذف ذلك اعتماداً على فهم السامع .(1/210)
4- ( ولكن الله يذهبه بالتوكل ) أي ما منا إلا من يقع في قلبه ذلك ، لكن لما توكلنا على الله وآمنا به واتبعنا ما جاء به الرسول ( واعتقدنا صدقه ، أذهب الله ذلك عنا .
5- أن الطيرة من الشرك .
6- استحباب تأكيد الأمر الهام .
7- فضيلة التوكل على الله .
8- أن التوكل مُذهب للتطير .
9- قوله ( وما منّا إلا ... ) هذه من كلام ابن مسعود .
قال ابن القيم : " هو الصواب ، فإن الطيرة نوع من الشرك " .
10- مشروعية تكرار إلقاء المسائل المهمة لتحفظ وتستقر في القلوب .
ولأحمد من حديث ابن عمرو : ( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ، قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ) . رواه أحمد ( 2/220 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ) لأن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع ، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها ، كإرادة السفر ونحوه ، فمنعه عما أراده ، وسعى فيه ما رأى وسمع تشاؤماً ، فقد دخل في الشرك ، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه ، فيكون للشيطان منه نصيب .
( لا خير إلا خيرك ) أي لا يرجى الخير إلا منك دون سواك .
( ولا طير إلا طيرك ) أي أن الطيور كلها ملكك لا تفعل شيئاً إنما هي مسخرة .
قال تعالى : ? أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير ? .
وقال تعالى : ? ألو يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله عن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ?
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على شرك من ردته الطيرة عن المضي في حاجته .
ما يستفاد من الحديث :(1/211)
1- أن الخير كله بيد الله ، فهو الذي يجعله لعبده بمشيئته وإرادته ، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه ، فلا خير إلا منه ، وهو الذي يدفع الشر عن عبده ، فما أصابه من ذلك فمن نفسه ، كما قال تعالى :
? ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ? .
2- انه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته ، وإنما يتوكل على الله .
3- أن الطيرة نوع من الشرك .
4- أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة فإن ذلك لا يضر .
5- أن الأمور بيد الله خيرها وشرها .
6- انفراد الله بالألوهية ، كما انفرد بالخلق والتدبير .
وله من حديث الفضل بن العباس ( : ( إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ) . رواه أحمد ( 1/213 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال ابن مفلح : " وفيه انقطاع " .
وقال الأرناؤوط : " في سنده ضعف وانقطاع " .
( ما أمضاك أو ردك ) هذا حد للطيرة المنهي عنها ، بأنها ما أوجب للإنسان أن يمضي لما يريده ولو من الفأل ، وإن الفأل إنما يستحب لما فيه من البشارة الملائمة للنفس ، فأما أن يعتمد عليه ويمضي لأجله مع نسيان التوكل على الله ، فإن ذلك من الطيرة ، وكذلك إذا رأى أو سمع ما يكره ، فتشاءم به وردّه عن حاجته ، فإن ذلك أيضاً من الطيرة .
فوائد الحديث :
1- تحريم الطيرة إذا منعت صاحبها أو دفعته .
الباب التاسع والعشرون
ما جاء في التنجيم
المراد هنا : ما يجوز من التنجيم وما لا يجوز ، وما ورد فيه من الوعيد .
قال شيخ الإسلام : " التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية " .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى : " التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ،
ما بمعنى : أن يربط المنجم ما يقع في الأرض أو ما سيقع في الأرض بالنجوم بحركاتها وطلوعها ... " .
وعلم النجوم على نوعين :(1/212)
النوع الأول : علم التأثير ، وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1. أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة ، بمعنى : أنها هي التي تخلق الحوادث ، فهذا شرك مخرج عن الملّة ، لأنه جعل المخلوق خالقاً ، فادعى أن مع الله خالقاً آخر .
2. أن يستدل بحركاتها وتنقلاتها على ما يحدث في المستقبل ، مثل : أن يعتقد أن فلاناً ستكون حياته شقاء ، لأنه وُلِدَ في النجم الفلاني ونحو ذلك ، فهذا قد ادعى علم الغيب ، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة .
3. أن يعتقد أنها سبب لحدوث الخير والشر ، أي أن إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم ، ولا ينسب إلى النجوم شيئاً إلا بعد وقوعه ، فهذا شرك أصغر ، لأنه أضاف الحوادث إلى ما ليس سبباً لها شرعاً ولا حسّاً .
النوع الثاني : علم التيسير ، بأن يستدل بسيرها على شيء ما ، فهذا على نوعين :
1. أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية ، فهذا مطلوب ، وإذا كان على مصالح دينية واجبة كان ذلك واجباً كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة ، فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة ، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة ، فهذا منه فائدة عظيمة .
2. أن يستدل بها على المصالح الدنيوية ، وهذا لا بأس به ، وهو نوعان :
أ- أن يستدل بها على الجهات ، كمعرفة أن القطب يقع شمالاً ، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شملاً ، وهكذا ، فهذا جائز ، قال تعالى : ? وعلامات وبالنجم هم يهتدون ? .
ب- أن يستدل بها على الفصول ، والصحيح الكراهة . [ المجموع الثمين 2/143، 145 ]
قال البخاري في صحيحه ، قال قتادة :
( خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به ) . البخاري في الصحيح ( 6/295 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( خلق الله هذه النجوم ... ) هذا مأخوذ من القرآن :(1/213)
الأولى : زينة للسماء . قال تعالى : ? ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين ? .
وفي هذه الآية إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا .
الثانية : رجوماً للشياطين ، أي لشياطين الجن الذين يسترقون السمع . قال تعالى : ? وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً ? .
الثالثة : علامات يهتدى بها ، قال تعالى : ? وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون ? .
فقوله ( علامات ) أي دلالات على الجهات والبلدان ونحو ذلك ، كما قال تعالى : ? وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ? .
مناسبة الأثر للباب :
حيث أفاد الأثر رأي قتادة أنه لا يجوز الاعتقاد بالنجوم أكثر من الأمور الثلاثة المذكورة .
ما يستفاد من الأثر :
1- ذم علم التنجيم ، وقد جاء في ذلك أحاديث :
حديث : ( من اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ... ) وقد تقدم .
وقال ( : ( أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث : حيف الأئمة ، وتكذيب بالقدر ، وإيمان بالنجوم ) .
2- أن علم الغيب لا يعلمه إلا الله ، والا ستدلال بالنجوم علىالحوادث الأرضية هذا من دعوى علم الغيب التي أبطلها الله سبحانه بقوله : ? قل لا يعلم الغيب إلا الله ? .
3- بيان الحكمة من خلق النجوم .
4- أنه يجب الرجوع إلى كتاب الله لبيان الحق من الباطل .
وكره قتادة تعلم منازل القمر ، ولم يرخص ابن عيينة فيه ، ذكره حرب عنهما ، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
هذا القسم من علم التنجيم ، هو تعلم منازل الشمس والقمر للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول ، وهذا القسم مختلف في جوازه .
والصحيح أنه جائز ، لأنه لا محذور فيه .(1/214)
وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله ( : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدقٌ بالسحر ) . رواه أحمد وابن حبان في صحيحه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ثلاثة لا يدخلون الجنة ) هذا من أحاديث الوعيد ، وقد كره بعض السلف تأويلها .
أو يقال نفي الدخول هنا : أي لا يدخلون دخولاً لا يسبقه عذاب ، ولكنهم يدخلون الجنة دخولاً سبقه عذاب بقدر ذنوبهم ، ثم مرجعه إلى الجنة .
( مدمن الخمر ) أي المداوم على شربها ، وقد وردت أحاديث في ذم وتحريم الخمر :
قال ( : ( مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن ) . رواه أحمد
( قاطع الرحم ) بعض القرابة ، كما قال تعالى : ? فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ? .
( ومصدق بالسحر ) أي مطلقاً ، ومنه التنجيم .
المعنى الإجمالي للحديث :
يخبر ( على وجه التحذير أن ثلاثة من العصاة لا يدخلون الجنة :
الأول : المداوم على شرب المسكر من أي شيء كان .
الثاني : الذي لا يقوم بواجب القرابة التي أمر الله بصلتها .
الثالث : مصدق بالسحر الذي يجمع أنواعاً كثيرة وأشكالاً متعددة ، ومنها التنجيم .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم التصديق بجميع أنواع السحر ، ومنها التنجيم .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم الخمر .
2- وجوب صلة الأقارب .
3- تحريم التصديق بالسحر .
4- وجوب التكذيب بالسحر بجميع أنواعه .
الباب الثلاثون
ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي من الوعيد .
والمراد : نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء ، وهو جمع نوء ، وهي منازل القمر .
قال الشيخ محمد بن عثيمين في المجموع الثمين ( 2/139 ) :
" الاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : شرك أكبر وله صورتان :(1/215)
1. أن يدعو الأنواء بالسقيا ، كأن يقول : يا نوء كذا أسقنا أو أغثنا ، وما أشبه ذلك ، فهذا شرك أكبر .
2. أن ينسب حصول هذه الأمطار إلى هذه الأنواء ولو لم يدعها بنفسها دون الله ، بأن يعتقد بأنها هي التي تنزل المطر من دون الله ، فهذا شرك أكبر في الربوبية .
القسم الثاني : شرك أصغر ، وهو أن يجعل هذه الأنواء سبباً والله هو الخالق الفاعل ، وإنما كان شركاً أصغر لأن كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا بوحيه ولا بقدره ، فهو مشرك شركاً أصغر " . أ . ه
وقول الله تعالى :
? وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ? . الواقعة ( 82 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه ، عن علي ( قال : قال رسول الله ( : ( ? وتجعلون رزقكم .. ? يقول : شكركم ? أنكم تكذبون ? يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا " .
ورٌوي هذا التفسير عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم ، وهو قول جمهور المفسرين .
وبهذا يظهر استدلال المصنف بالآية على الترجمة .
فالمعنى على هذا : وتجعلون شكركم لله على ما أنزل إليكم من الغيث والمطر والرحمة أنكم تكذبون ، أي تنسبونه إلى غيره .
مناسبة الآية للباب :
أن الله سبحانه وتعالى أنكر نسبة المطر إلى غيره من النجوم والأنواء وسماه كذباً .
ما يستفاد من الآية :
1- دلت الآية على كفر من نسب النعمة إلى غير الله ، ومنها نسبة المطر إلى الأنواء .
2- أن الخير والشر مقدر من الله .
3- أن المطر من الرزق .
4- نسبة النعمة إلى غير الله كفر بها .
5- وجوب شكر الله على النعم .
وعن أبي مالك الأشعري ( أن رسول الله ( قال :(1/216)
( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ، وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ) . رواه مسلم ( 934 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أبو مالك : اسمه الحارث بن الحارث الشامي ، صحابي .
( أربع ... ) الفائدة من قوله أربع ليس الحصر ، لأن هناك من تشاركها في المعنى ، وإنما يقول النبي ( ذلك من باب حصر العلوم .
( أمتي ) أي أمة الإجابة .
( من أمر الجاهلية لا يتركونهن ) أي من شأن الجاهلية ، والغرض من إضافتها للجاهلية المقصود منه التنفير والتقبيح ، والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل المبعث ، سمّوا بذلك لفرط جهلهم .
قال شيخ الإسلام : " أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذماً لمن لم يتركه ، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في الإسلام ، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذماً لها ، ومعلوم إن إضافتها للجاهلية خرج مخرج الذم ، وهذا كقوله تعالى : ? ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ? " .
( لا يتركونهن ) إما مع العلم بتحريمها ، أو مع الجهل بذلك .
( الفخر بالأحساب ) أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم ، كأن يقول : أنا ولد فلان ويفتخر بذلك .
وهذا الفعل من أمر الجاهلية ، إذ لا كرم إلا بالتقوى ، كما قال تعالى : ? إن أكرمكم عند الله أتقاكم ?
وقال تعالى : ? وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ? .(1/217)
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( إن الله أذهب عنكم عُبيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي ، الناس بنوا آدم وآدم خلق من تراب ، ليدعنّ رجال فخرهم بأقوامهم ، إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان ) . رواه أبو داود
( والطعن في الأنساب ) الطعن : العيب . الأنساب : جمع نسب ، وهو أصل الإنسان وقرابته .
فيطعن في نسبه كأن يقول : أنت ابن الدباغ ، وهذا الفعل من أمر الجاهلية .
لذلك لما عيّر أبو ذر رجلاً بأمه ، قال له رسول الله ( : ( أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية ) . متفق عليه
وقال ( : ( اثنتان هما بالناس كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ) . رواه مسلم
( والاستسقاء بالنجوم ) أي نسبة المطر إلى النوء .
( والنياحة ) أي رفع الصوت بالندب على الميت .
وهي من الجاهلية ومن الكبائر ، أدلة تحريمها :
1. حديث الباب .
2. الحديث السابق : ( اثنتان هما بالناس كفر : ... ) .
3. عن أم عطية قالت : ( أخذ علينا رسول الله ( مع البيعة أن لا ننوح ) . متفق عليه
( والنائحة تقوم يوم القيامة ) أي تبعث من قبرها .
( وعليها سربال من قطران ) السربال : الثوب السابغ كالدرع .
( ودرع من جرب ) الجرب : مرض معروف يكون في الجلد ويؤرق الإنسان .
والمعنى : أن كل جلدها يكون جرباً بمنزلة الدرع .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم الاستسقاء بالأنواء .
ما يستفاد من الحديث :
1- ذم ما كان عليه أهل الجاهلية من الأعمال السيئة .
2- أن التعيير بالأنساب من أخلاق الجاهلية .
3- تكفير من استسقى بالنجوم معتقداً أنها هي الفاعلة للمطر ، وهذا هو الذي خافه النبي ( على أمته ، كما روى أحمد عن جابر السوائي قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( أخاف على أمتي ثلاثاً : استسقاء بالنجوم ... ) .(1/218)
4- التنبيه على ما هو أولى بالمنع من نسبة السقيا إلى الأنواء كدعاء الأموات وسؤالهم الرزق والنصر والعافية .
5- تحريم النياحة ، لأنها سخط لقضاء الله ، ومعارضة لأحكامه ، وسوء أدب مع الله .
6- الوعيد الشديد على النياحة .
7- أن الوعيد والذم لا يلحق من تاب من الذنب .
8- ثبوت رسالة النبي ( لأنه أخبر عن أمرٍ من أمور الغيب فوقع .
9- أن من شروط التوبة أن تكون قبل الموت .
10- ثبوت الجزاء والبعث .
11- أن الجزاء من جنس العمل .
ولهما عن زيد بن خالد ( قال :
( صلى لنا رسول الله ( الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مُطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ) . البخاري ( 846 ) ومسلم ( 71 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( صلى لنا ) أي صلى بنا .
( الحديبية ) مكان معروف عند حدود الحديبية من جهة جدة .
( على إثر سماء ) أي عقب مطر ، وأطلق على المطر سماء لكونه ينزل من جهة السماء .
( فلما انصرف ) أي من صلاته لا من مكانه ، كما يدل عليه قوله : ( اقبل على الناس ) .
( هل تدرون ) لفظ استفهام ، ومعناه التنبيه .
وفي رواية النسائي : ( ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة ) .
( فأما من قال مطرنا بفضل الله ... ) وفي رواية : ( فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي ، فذاك من آمن بي ) أي من نسبه إلى الله أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه .(1/219)
( وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ... ) المراد هنا : الكفر الأصغر بنسبة ذلك إلى غير الله وكفران نعمته ، وإن كان يعتقد أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق للمطر المنزل له ، بدليل قوله في الحديث : ( فأما من قال مطرنا بفضل الله ... ) فلو كان المراد هو الأكبر لقال : ( أنزل علينا المطر نوء كذا وكذا ) .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن نسبة المطر إلى الأنواء كفر .
ما يستفاد من الحديث :
1- استحباب انصراف الإمام بعد التسليم والتوجه إلى المأمومين .
2- استحباب التشويق إلى العلم بالاستجواب .
3- وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبرهم .
4- فيه حسن الأدب للمسؤول عما لا يعلم ، أن لا يتكلف ما يعنيه .
5- تحريم الكفر بالنعم ، وأن الناس ينقسمون بالنسبة للنعم إلى قسمين : مؤمن وكافر .
ففي رواية أبي هريرة عند مسلم : ( قال الله تعالى : ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منها بها كافرين ) .
وله عن ابن عباس : ( أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ) .
وفي حديث معاوية الليثي مرفوعاً : ( يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقاً من رزقه ، فيصبحون مشركين يقولون : مطرنا بنوء كذا ) . رواه أحمد
6- يجب على الإنسان أن لا يضيف نعم الله إلى غيره ، ولا يحمدهم عليها ، بل يضيفها إلى خالقها ومقدرها الذي أنعم الله بها على العبد بفضله ورحمته ، ولا ينافي ذلك الدعاء لمن أحسن بها إليك ، قال تعالى : ? وما بكم من نعمة فمن الله ? .
7- تحريم قول الإنسان مطرنا بنوء كذا .
8- وصف الله بالفضل والرحمة .
9- أن من الكفر ما لا يخرج من الملة .
ولهما من حديث ابن عباس معناه ، قال :
( قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآية : ? فلا أقسم بمواقع النجوم ـ إلى قوله ـ تكذبون ? ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/220)
( ولهما ) الحديث لمسلم فقط ، ولفظه : عن ابن عباس قال : ( مُطر الناس على عهد النبي ( فقال النبي ( : أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، وقالوا هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : ? فلا أقسم بمواقع النجوم ? ) .
أقسم بمواقع النجوم ، ويكون جوابه : ? إنه لقرآن كريم ? .
فعلى هذا تكون ( لا ) صلة لتأكيد النفي .
ومواقع النجوم : قيل الكواكب ومواقعها مساقطها عند غروبها .
قال مجاهد : " مطالعها ومشارقها ، واختاره ابن جرير " .
? وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ? قال ابن كثير : " أي وأن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم ، لو تعلمون عظمته لعظمتهم المقسم عليه .
? إنه لقرآن كريم ? هذا هو المقسم عليه ـ وهو القرآن ـ أي أنه وحي الله وتنزيله وكلامه ، لا كما يقول الكفار : إنه سحر وكهانة أو شعر ، بل هو قرآن كريم ، أي عظيم كثير الخير .
? في كتاب مكنون ? قال ابن القيم : " اختلف المفسرون في هذا :
فقيل : هو اللوح المحفوظ .
والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، وهو المذكور في قوله : ? في صحف مكرمة . مرفوعة مطهرة . بأيدي سفرة كرامٍ بررة ? .
ويدل على أنه الكتاب الذي في أيدي الملائكة قوله : ? لا يمسه إلا المطهرون ? فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه .
? لا يمسه إلا المطهرون ? لا يمسه : الضمير يعود على الكتاب المكنون .
المطهرون : هم الذين طهرهم الله ، وهم الملائكة ، طهروا من الذنوب وأدناسها .
قال تعالى : ? لا يعصون الله ما أمرهم ? .
وقال تعالى : ? يسبحون الليل والنهار لا يفترون ? .
وقال تعالى : ? بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ? .
? تنزيل من رب العالمين ? قال ابن كثير : " أي هذا القرآن تنزيل من رب العالمين ، وليس كما يقولون : أنه سحر أو كهانة أو شعر .(1/221)
? أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ? يوبخ الله أولئك الذين يمالئون الكفار في القرآن ويداهنوهم بتحريف أحكامه ، ويركنون إليهم .
? وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ? :
? وتجعلون رزقكم ? المطر .
? أنكم تكذبون ? وذلك بنسبة المطر إلى الأنواء لا إلى مُنزّله الحقيقي وهو الله تعالى .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت على كفر من نسب النعم لغير الله ، ومنها نسبة المطر إلى الأنواء .
ما يستفاد من الآية :
1- لله أن يقسم بما شاء ، وليس للبشر أن يقسموا إلا بالله أو صفاته .
2- إثبات عظمة القرآن ، وحفظه عن التبديل والتغيير .
3- أن القرآن منزل غير مخلوق .
4- أن نزول القرآن من كمال ربوبيته .
5- إثبات صفة العلو لله .
6- تحريم المجاملة على حساب الدين .
7- تحريم نسبة المطر إلى الأنواء .
الباب الواحد والثلاثون
قوله تعالى : ? ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليها قطب رحاها ، فبكمالها يكمل الإيمان ، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان ، نبه المصنف على وجوبها على الأعيان .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " واعلم أن المحبة ثلاثة أقسام :
الأول : محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد .
الثاني : المحبة في الله ، وهي محبة أنبيائه ورسله وأتباعهم ، ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرهم وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها .
الثالث : محبة مع الله ، وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر وحجر وبشر وملك وغيرها ، وهي أصل الشرك وأساسه .(1/222)
وهناك قسم رابع : وهو المحبة الطبيعية ، التي تتبع ما يلائم العبد ويوافقه من طعام وشراب ونكاح ولباس وعِشرة وغيرها ، وهذه إن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب العبادات ، وإن صدت عن ذلك وتوسل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات ، وإلا بقيت من أقسام المباحات " . أ . ه
? ومن الناس ... ? قال ابن كثير : " يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال ، حيث جعلوا لله نداً ، أي : أمثالاً ونظراء ، يحبونهم ويعبدونهم معه ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه .
? يحبونهم كحب الله ? قال شيخ الإسلام في الفتاوى ( 7/187 ، 188 ) :
" ? ومن الناس من يتخذ من دون الله ... ? فوصف الله الذين آمنوا بأنهم أشد حباً له من المشركين لأندادهم ، وفي الآية قولان :
القول الأول : قيل يحبونهم كحب المؤمنين لله والذين آمنوا أشد حباً لله منهم لأوثانهم .
القول الثاني : قيل يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله منهم ، وهذا هو الصواب ، والأول قولُ متناقض باطل " . أ . ه
وإنما ذمّوا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ، ولم يخلصوها مع الله كمحبة المؤمنين له ، ولهذا يقولون لأندادهم وهم في النار : ? تالله إن كنا لفي ضلال مبين . إذ نسويكم برب العالمين ? ومعلوم أنهم لم يسوهم برب العالمين في الخلق والربوبية ، وإنما سوَّوهم به في المحبة والتعظيم .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على أن من أحب شيئاً كحب الله فقد اتخذه نداً مع الله ، وهذا هو الشرك الأكبر .
ما يستفاد من الآية :
1- لم ينفع المشركين حبهم لله لوجود الشرك فيه .
2- أن الشرك يبطل الأعمال .
3- أن إخلاص الحب لله من علامات الإيمان .(1/223)
4- وقال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ? .
فذكر لهم أربع علامات :
1. انهم أذلة على المؤمنين . قيل : معناه أرقاء رحماء مشفقين عليهم .
2. أعزة على الكافرين ، كما قال تعالى : ? أشداء على الكفار رحماء بينهم ? .
3. الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد واللسان والمال .
4. أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم .
وقد ذكر ابن القيم أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة :
1. قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه .
2. التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض .
3. دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب .
4. إيثار محابه على محابك عند غلبان الهوى .
5. مطالعة القلب لأسمائه وصفاته .
6. مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة .
7. وهو أعجبها : انكسار القلب بين يديه .
8. الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة .
9. مجالسة المحبين الصادقين .
10. مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل .
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ، ودخلوا على الحبيب .
وقوله تعالى : ? قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ... أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ? .
التوبة ( 24 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال ابن كثير : " أي إن كانت هذه الأشياء ? أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ? أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم " .
وقال مجاهد والحسن ـ رحمهما الله ـ في تفسير قوله تعالى : ? حتى يأتي الله بأمره ? : " بعقوبة آجلة أو عاجلة " .
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية : " وهذه آية شديدة لا نرى أشد منها " .
مناسبة الآية للباب :(1/224)
أن فيها وجوب تقديم محبة الله ومحبة ما يحبه الله من الأشخاص والأعمال على محبة ما سوى ذلك .
ما يستفاد من الآية :
1- هذه الآية شبيهة بقوله : ? قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ? فلما كثر المدعون لمحبة الله ، طولبوا بإقامة البينة ، فجاءت هذه الآية ونحوها .
2- وفي الآية دليل على أن المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي الله على هذه الثمانية كلها ، فكيف بمن آثر بعضها على الله ورسوله وجهادٍ في سبيله .
3- حب الله ورسوله متلازمان ، فلا يصح حب أحدهما دون الآخر .
4- تهديد ووعيد لمن أحب أهله وأمواله وعشيرته وغيرها على الله ورسوله ( وجهاد في سبيله .
وعن أنس أن رسول الله ( قال :
( لا يؤمن أحكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) . أخرجاه : البخاري ( 15 ) ومسلم ( 44 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( لا يؤمن ) قال ابن حجر : " والمراد بالنفي : كمال الإيمان " .
( وولده ووالده ) قال الحافظ : " وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال ، بل ربما يكونان أعز من نفسه ، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص وهو كثير " .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على وجوب تقديم محبة الله وسوله على من سواهما .
ما يستفاد من الحديث :
1- في الحديث وجوب محبة النبي ( أكثر من حب العبد لولده ووالده والناس أجمعين ، بل أكثر من حبه لنفسه ، كما روى البخاري عن عبد الله بن هشام ( قال : ( كنا مع النبي ( وهو آخذ بيد عمر ( فقال له عمر : يا رسول الله ، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال ( : لا ، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال عمر : فإنه الآن والله لآنت أحب إلي من نفسي . فقال النبي ( : الآن يا عمر ) . البخاري ( 6632 )(1/225)
قال بعض العلماء في شرح قوله : ( والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) : " لا يكمل إيمانك " .
كما يقول في شرح قوله : ( الآن يا عمر ) : " يعني كمل إيمانك " .
2- وجوب متابعة النبي ( في أوامره واجتناب نواهيه ، فمن ادعى محبة النبي ( بدون متابعة ، وتقديم قوله على قول غيره ، فقد كذب ، كما قال تعالى : ? ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتول فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ? .
3- ثمرات متابعة النبي ( :
1. متابعته ( دليل على محبة الله للعبد ، قال تعالى : ? قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ? .
2. حبه ( من أسباب الحصول على حلاوة الإيمان ، كما في حديث أنس قال ( : ( ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... ) . متفق عليه
3. مُحِبه ( سيكون معه في الآخرة . عن أنس بن مالك قال : ( جاء رجل إلى رسول الله ( فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال : ما أعددت لها "؟ قال : أحب الله ورسوله ، قال : فإنك مع من أحببت . قال أنس : فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قوله ( : فإنك مع من أحببت . قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم ) . رواه مسلم والبخاري نحوه .
4- علامات حب النبي ( :
قال القاضي عياض : " ومن محبته نصرة سنته ، والذب عن شريعته ، وتمني حضور حياته ، فيبذل نفسه وماله دونه "
ويقول الحافظ ابن حجر : " ومن علامات الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي ( ان لو كانت ممكنة ، فإن كان فقدها لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة ومن لا فلا ، وليس ذلك محصوراً في الوجود والفقد ، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب عن شريعته ، وقمع مخالفيها ، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " . أ . ه(1/226)
5- أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام .
6- أن العمل من الإيمان ، لأن المحبة من أعمال القلب .
ولهما عنه قال : قال رسول الله ( :
( ثلاثُ من كنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) . رواه البخاري ( 16 ) ومسلم ( 43 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ثلاث ) أي ثلاث خصال .
( من كنَّ فيه ) أي وُجدت فيه .
( وجد بهنّ حلاوة الإيمان ) الحلاوة هنا : هي التي يعبر عنها بالذوق ، لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه ، وهو شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم .
قال السيوطي : " ( وجد حلاوة الإيمان ) فيه استعارة تخيلية ، شبه رغبة المؤمن بالإيمان بشيء حلو " .
قال النووي : " معنى حلاوة الإيمان : استلذاذ الطاعات ، وتحمل المشاق ، وإيثار ذلك على أعراض الدنيا ، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته ، وكذلك الرسول ( " .
الخصلة الأولى : ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) .
المحبة هنا : محبة قلبية ، كما في حديث آخر : ( أحبوا الله بكل قلوبكم ) .
والمعنى : أنه يميل بكله على الله وحده ، فيكون محبوبه ومعبوده دون من سواه ، وإنما يحب من سواه تبعاً لمحبته ، كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين ، لما كان يحبهم ربه سبحانه وتعالى .
ومن علامات محبة الله ورسوله :
أن يحب ما يحب الله ، ويكره ما يكره الله ، ويؤثر مرضاته على ما سواه ، ويسعى فيما يرضيه ما استطاع ، ويبعد عما حرمه ويكرهه أشد الكراهة ، ويتابع رسوله ( ، ويتمثل أمره ونهيه ، كما قال : ( ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله ).
ومحبة الله تستلزم محبته وطاعته ، فإنه ممن عبده أن يطيعه ، والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد .(1/227)
ومن لوازم محبة الله أيضاً : محبة أهل طاعته ، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده .
الخصلة الثانية : ( أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ) .
ثمرات وفضائل المحبة لله :
1. أن المحبة لله سبب لمحبة الله للعبد ، قال ( : ( قال الله تعالى : وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ ) . رواه مالك
2. أن الله سبحانه وتعالى يظل المتحابين في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال : ( سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله : ... فذكر منهم : ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ) . متفق عليه
3. أن الحب في الله والبغض في الله دليل على كمال إيمان العبد .
عن أبي أمامة ( قال : قال رسول الله ( : ( من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان ) . رواه أبو داود
4. أن الحب في الله سبب لحلاوة الإيمان وطعمه .
كما في حديث الباب ، وقال أيضاً ( : ( من أحب أن يجد حلاوة الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله ) . رواه أحمد
5. أن المرء بمحبته لأهل الخير لصلاحهم يلتحق بهم ويصل إلى مراتبهم وإن لم يكن عمله بالغاً مبلغهم .
ففي الصحيحين عن ابن مسعود قال : ( جاء رجل إلى رسول الله ( فقال : يا رسول الله ، كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم ؟ قال : المرء مع من أحب ) . متفق عليه
6. ومن فوائد المحبة في الله : أن الله يكرم من أحب عبداً في الله .
فعن أبي أمامة قال : قال رسول الله ( : ( ما أحب عبدُ عبداً لله إلا أكرمه الله ) . رواه ابن أبي الدنيا
7. أن المتحابين في الله لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء .
عن معاذ ( قال : قال رسول الله ( : ( قال الله تعالى : المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ) . رواه الترمذي وصححه
الخصلة الثالثة : ( أن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) .(1/228)
أي يستوي عنده الأمران : الإلقاء في النار ، والعودة في الكفر ، فمن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله فإن هذا من أسباب حلاوة الإيمان .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على وجوب تقديم محبة الله ورسوله على محبة من سواهما .
ما يستفاد من الحديث :
1- إثبات حلاوة الإيمان ، وأنها لا تحقق لكل مؤمن .
2- أن الله تعالى يحبه المؤمنون ، وهو تعالى يحبهم ، كما قال تعالى : ? يحبهم ويحبونه ? .
3- أن من اتصف بهذه الصفات أفضل ممن لم يتصف بها مطلقاً .
4- الرد على ما يظنه الناس من أنه من وُلِدَ على الإسلام أفضل ممن كان كافراً فأسلم .
قال شيخ الإسلام في الفتاوى ( 10/300 ) :
" وما يظنه بعض الناس من أنه من وُلِدَ على الإسلام فلم يكفر قط ، أفضل ممن كان كافراً فأسلم ليس بصواب ، بل الاعتبار بالعاقبة وأيهما كان أتقى له في عاقبته كان أفضل " .
5- وجوب كراهية الكفر وأهله .
وعن ابن عباس قال :
( من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً ).
رواه ابن جرير وابن المبارك ( 353 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( من أحب في الله ) أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك .
( وأبغض في الله ) أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وقعد عن طاعته ، وأبغض الكفار والفاسقين في الله لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس إليه ، كما قال تعالى : ? لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ? .(1/229)
( ووالى في الله ) هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله سبحانه وتعالى ، فمن أحب الله أحب فيه ، ووالى أولياءه ، وعادى أهل معصيته وأبغضهم ، وجاهد أعداءه ونصر أنصاره ، كلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المرتبة عليها ، وبكمالها يكمل توحيد العبد .
( وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً ) أي لا ينفعهم ، بل يضرهم .
هذا الكلام قاله ابن عباس في أهل زمانه ، فكيف لو رأى الناس فيما هم فيه من المؤاخاة على الكفر والبدع والفسوق والعصيان ، ولكن هذا مصداق لقوله ( : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) . رواه مسلم
* وفيه الإشارة إلى أن الأمر قد تغير في زمن ابن عباس بحيث صار الأمر إلى هذا بالنسبة إلى ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فضلاً عن زمن الرسول ( .
وقد كان الصحابة ( في عهد نبيهم ( وعهد أبي بكر وعمر يؤثر بعضهم على نفسه محبةً في الله وتقرباً إليه ، كما قال تعالى : ? ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ? .
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( لقد رأيتنا على عهد رسول الله ( وما منّا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ) . رواه ابن ماجه
وقال ابن عباس في قوله : ? وتقطعت بهم الأسباب ? قال : ( المودة ) . رواه ابن جرير ( 2423 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( المودة ) أي المحبة التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم وخانتهم أحوج ما كانوا إليه ، وتبرأ بعضهم من بعض ، كما قال تعالى على إبراهيم الخليل أنه قال لقومه : ? إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار ومالكم من ناصرين ? .(1/230)
وهذه الآية وإن نزلت في المشركين عباد الأوثان الذين يحبون أوثانهم وأندادهم كحب الله ، فإنها عامة ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وهذا حال كل من اتخذ من دون الله أنداداً وأولياء يوالي لهم ويعادي لهم ويرضى لهم ويغضب لهم ، فإن أعماله بالجملة يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله إلا السبب الواصل بين العبد وربه .
الباب الثاني والثلاثون
? إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها ، وقد ذكره الله في كتابه عن سادات المقربين والأولياء والصالحين .
قال تعالى : ? يخافون ربهم من فوقهم ? .
وقال تعالى : ? وهم من خشيته مشفقون ? .
وقال تعالى : ? إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ? .
وقال تعالى : ? والذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله ? .
وأمر بإخلاصه ، فقال تعالى : ? وأياي فارهبون ? .
وقال تعالى : ? فلا تخشوا الناس واخشون ? .
وعن أبي هريره ( قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ـ فذكر منهم ـ ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال إني أخاف الله ... ) . متفق عليه
وعنه أيضاً أن رسول الله ( قال : ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع ... ) . رواه الترمذي
والخوف أقسام :
1. خوف السر ، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما شاء من مرضٍ أو فقرٍ أو قتلٍ ، ونحو ذلك بقدرته ومشيئته ، سواءً ادعى أن في ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة ، أو على سبيل الاستقلال ، فهذا لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً ، لأن هذا من لوازم الإلهية فمن اتخذ مع الله نداً يخافه فهو مشرك .(1/231)
وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ، ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا إبراهيم الخليل ( فقال لهم : ? ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تذكرون . وكيف أخاف أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ? .
وقال تعالى : ? ويخوفونك بالذين من دونه ? .
2. أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بغير عذر إلا الخوف من الناس ، فهذا محرم .
3. خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة ، وهو الذي قال تعالى فيه : ? ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ? .
وقال تعالى : ? ولمن خاف مقام ربه جنتان ? .
وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان ، ولهذا يقول شيخ الإسلام : " الخوف ما حجزك عن المعاصي " .
4. وهو الخوف الطبيعي ، كالخوف من عدو وسبع وغرق ونحو ذلك ، فهذا لا يذم ، وهو الذي ذكره الله عن موسى في قوله تعالى : ? فخرج منها خائفاً يترقب ? .
قوله : ? إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ? .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ( 1 / 56 ) : " أي يخوفكم بأوليائه ، هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور كابن عباس وغيره ، وأهل اللغة كالفراء وغيره " .
قال ابن كثير في قوله : ? فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ? : " أي إذا سول لكم وأوهمكم ، فتوكلوا على الله فإنه كافيكم وناصركم عليهم ، كما قال تعالى : ? أليس الله بكاف عبده ، ويخوفونك بالذين من دونه ? إلى قوله : ? قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ? .
وقال تعالى : ? فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد كان ضعيفاً ? .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على وجوب إخلاص الخوف لله ، ليكون نوعاً من العبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
ما يستفاد من الآية :
1- تحريم ترك الواجب خوفاً من الله .
2- وجوب إخلاص الخوف لله تعالى .
3- الخوف من الله من علامات الإيمان .(1/232)
4- أن الشيطان عدو للإنسان .
5- التحذير من كيد الشيطان .
وقوله : ? إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ? . التوبة ( 18 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
لما نفى تبارك وتعالى عمارة المسجد عن المشركين بقوله تعالى :
? ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ? . الآية
إذ لا تنفعهم عمارتها مع الشرك ، كما قال تعالى : ? وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ? .
والمشرك وإن عمل فعمله : ? كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ? . أو ? كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ? .
أثبت سبحانه في هذه الآية عمارة المساجد بالعبادة لمن هذه صفاتهم :
? من آمن بالله ? والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور :
الأول : الإيمان بوجوده .
الثاني : الإيمان بربوبيته .
الثالث : الإيمان بألوهيته .
الرابع : الإيمان بأسمائه وصفاته .
? واليوم الآخر ? قال الحافظ : " فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا ، أو آخر الأزمنة المحدودة " .
? وأقام الصلاة ? أي أدى الصلوات الخمس كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها .
? وآتى الزكاة ? أي دفع الزكاة الواجبة في ماله إلى مستحقيها .
? ولم يخش إلا الله ? فلا يخشون معه إلهاً آخر ، كما قال تعالى : ? ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً ? .
قال ابن عطية : " ? ولم يخش إلا الله ? يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنيوية " .
والخشية نوع من الخوف لكنها أخص ، والفرق بينهما :
1. أن الخشية تكون بالعلم بالمخشي وحاله ، كقوله تعالى : ? إنما يخشى الله من عباده العلماء ? والخوف يكون من الجاهل .
2. أن الخشية تكون سبب عظمة المخشي بخلاف الخوف ، فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف .(1/233)
? فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ? قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : " أي أولئك هم المهتدون ، كقوله :
? عسى ربك أن يبعثك مقاماً محموداً ? وكل ( عسى ) في القرآن فهي واجبة .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت على وجوب إخلاص خشية التعظيم لله ، لذا تكون هذه الخشية نوعاً من العبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
ما يستفاد من الآية :
1- أن من عمر المساجد من المسلمين فهو من المؤمنين .
2- قال ابن القيم : " الخوف عبودية القلب ، فلا يصلح إلا لله كالذل والإنابة والمحبة والتوكل ، والرجاء ، وغيرها من عبودية القلب " .
3- وجوب إخلاص الخشية لله وحده .
4- أن الشرك لا ينفع معه عمل .
5- الحث على عمارة المساجد حساً ومعنوياً .
قوله : ? ومن الناس من يقول آمنّا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? ومن الناس ? أي بعض الناس .
? آمنّا بالله ? أي يؤمن بلسانه دون قلبه كالمنافقين .
? فإذا أوذي في الله ? أي فإذا عذب من أجل إيمانه .
? جعل فتنة الناس كعذاب الله ? أي جعل عذاب الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة ، فارتد عن دينه ولحق بالكفر .
والمراد بالفتنة هنا : الإيذاء ، وسمي فتنة لأن الإنسان يفتتن به فيصد عن سبيل الله .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على وجوب تقديم خوف الله على من سواه ، لذا يكون الخوف عبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
قال القطبي عند تفسير هذه الآية : " قال مجاهد : نزلت في ناسٍ كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا أصابهم بلاءٌ من الله أو مصيبة افتتنوا " .
ما يستفاد من الآية :
1- ومثل هذه الآية قوله تعالى : ? ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ? .
على حرف : أي على طرف .(1/234)
2- قال ابن القيم : " الناس إذا أرسل إليهم الرسل على أمرين :
إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما أن لا يقول ذلك ، بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال : آمنا ، امتحنه ربه وابتلاه وفتنه ... " .
3- سرّ حكمة الله في ابتلاء المؤمنين :
فالمحن ضرورة لأهل الإيمان لجملة معانٍ وحكم نبه عليها القرآن :
1. تطهير الصف المؤمن من أدعياء الإيمان من المنافقين والذين في قلوبهم مرض .
قال تعالى : ? ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ? .
هذا نموذج من الإيمان ، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء ، يحسبها خفيفة الحمل هينة المؤتة ، لا تكلف إلا نطقها باللسان فإذا أوذي في الله بسبب الكلمة التي قالها وهو آمنٌ معافى ، جعل فتنة الناس كعذاب الله فاستقبلها بجزع ، واختلت في نفسه القيم ، واهتزت في ضميره العقيدة ، وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه حتى عذاب الله ، وقال في نفسه : هاهو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء ، فعلام أصبر على الإيمان ، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب .
وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله بشر وعذاب الله الذي لا يعرف أحدٌ مداه .
2. تربية المؤمنين وصقل معارفهم ، وتمحيص ما في قلوبهم فهم ينضجون بالمحن كما ينضج الطعام بالنار .
قال تعالى : ? وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ? .
3. زيادة رصيدهم ومقامهم عند الله ، فهو يرفع درجاتهم ، ويضاعف حسناتهم ، قال ( : ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . رواه البخاري
4- أن الصبر على الأذى في الدين من علامات الإيمان .
5- من طبيعة المنافق الفرار عند الفزع ، والإقدام عند الطمع .
6- القياس الفاسد : ? فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ? وهذا قياس باطل ، فأين فتنة الناس مهما بلغت بجوار نفحة من عذاب الله .(1/235)
7- دناءة همة المنافقين .
8- إثبات علم الله .
9- وجوب الصبر على الأذى في سبيل الله .
وعن أبي سعيد الخدري ( مرفوعاً :
( إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره ) . رواه أبو نعيم ( 1065 ) والبيهقي في شعب الإيمان ( 203 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ضعف اليقين ) الضعف خلاف القوة والصحة ، واليقين المراد به الإيمان .
( أن ترضي الناس بسخط الله ) أي تؤثر رضاهم على رضا الله ، فتوافقهم على ترك المأمور ، أو فعل المحظور ، استجلاباً لرضاهم .
وهذا ينافي قوة اليقين ، وكمال الإيمان في إيثار ما يرضي الله على ما تهواه النفوس ، والصبر على مخالفة هواها ، كما قال تعالى : ? الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً ? .
( وأن تحمدهم على رزق الله ) رزق الله : أي عطاء الله ، أي تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق الله ، بأن تضيفهم إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو الله رب العالمين ، الذي قدر لك هذا الرزق ، وأوصله إليك بلطفه ورحمته ، فإنه لطيف لما يشاء .
ولا ينافي هذا حديث : ( من لا يشكر الناس لا يشكر الله ) . رواه أبو داود
لأن شكرهم إنما هو في الدعاء لهم ، لكون الله ساقه على أيديهم ، فتدعو لهم أو تكافئهم ، لحديث : ( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ) .(1/236)
( وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ) أي إذا طلبتهم شيئاً فمنعوك ذممتهم على ذلك ، فلو علمت يقيناً أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده ، وأن المخلوق مدبر لا يملك لنفسه شيئاً لا ضراً ولا نفعاً فضلاً عن غيره ، وأن الذي يرزق العبد هو الله بسبب وبلا سبب ومن حيث لا يحتسب ، لقطعت العلائق عن الخلائق ، وتوجهت بقلبك إلى الله تبارك وتعالى .
وقد قرر المعنى بقوله في الحديث : ( إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره ) .
كما قال تعالى : ? ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ?
مناسبة الحديث للباب :
حيث أفاد أن الخوف نوعٌ من العبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن الإيمان يزيد وينقص ، ويقوى ويضعف .
2- وجوب التوكل على الله وخشيته وطلب الرزق منه .
3- أن الأعمال من الإيمان .
4- إثبات صفة السخط لله .
5- تحريم شكر الناس إذا اعتقدت أن النعمة تأتي منهم استقلالاً .
6- تحريم ذم الناس على ما لم يقدره الله .
7- أن الخير والشر مقدران من الله .
8- تقديم رضا الله على رضا المخلوق .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ( قال : ( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) . رواه ابن حبان ( 2471 ) والترمذي ( 2414 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( التمس ) أي طلب .
( سخط الناس ) غضب الناس .
ما يستفاد من الحديث :
1- وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس ، لأن الله هو الذي ينفع ويضر .(1/237)
2- هذا الحديث من أعظم الفقه في الدين ، فإن من أرضى الله بسخط الناس كان قد اتقاه ، وكان عبده الصالح ، والله يتولى الصالحين وهو كافٍ عبده : ? ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ? والله يكفيه مونة الناس بلا ريب .
ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً ، كالظالم الذي يعض على يديه ، فإن العبيد فقراء عاجزون لا قدرة لهم على نفع ولا ضرٍّ البتة ، وما بهم من نعمة فمن الله .
فكيف يحسن بالموحد المخلص أن يؤثر رضاهم على رضى رب العالمين الذي له الملك كله ، وله الحمد كله ، وبيد الخير كله ، ومنه الخير كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، وقد أخبر تعالى أن ذلك كله من صفات المنافقين في قوله تعالى : ? لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ? .
وما أحسن ما قيل :
إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب
قال ابن رجب : " فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب ، فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب ؟ أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب ؟ إن هذا الشرع عجاب " .
3- في الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضى الله .
4- أن التمسك بالدين سبب لرضى الله ورضى الناس .
5- تحريم المجاملة على حساب الدين .
6- المداهنة في الدين سبب لسخط الله .
7- إثبات صفة الرضا لله عز وجل ، وأجمع السلف على إثباتها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل .
قال تعالى : ? رضي الله عنهم ورضوا عنه ? .
وقال النبي ( : ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ) . رواه مسلم
الباب الثالث والثلاثون
( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) المائدة ( 23 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
تعريف التوكل :(1/238)
قال الإمام ابن رجب العسقلاني : " وحقيقة التوكل هو : صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه " . أ . ه
وقال الشيخ السعدي رحمه الله : " وحقيقة التوكل على الله : أن يعلم أن الأمر كله لله ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ... " . أ . ه
مراد المصنف بهذه الترجمة : النص على أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى ، لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد ، بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين .
معاني الكلمات :
? وعلى الله ? أي لا على غيره .
? فتوكلوا ? اعتمدوا عليه .
المعنى الإجمالي للآية :
قال ابن القيم في معنى الآية : " فجعل التوكل شرطاً في الإيمان ، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه ، وفي الآية الأخرى : ? قال موسى لقومه يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ? فجعل دليل صحة الإسلام التوكل ، وكلما قوي توكل العبد كان إيمانه أقوى ، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل ، وإذا كان التوكل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولا بد " .
ما يستفاد من الآية :
1- في الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة ، وعلى أنه فرض ، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك .
2- وجوب التوكل على الله .
قال شيخ الإسلام : " وما رجا أحدٌ مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه ، فإنه مشرك ، قال تعالى : ? ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ? .
3- أن التوكل على الله شرط في صحة الإيمان .
وقوله : ? إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/239)
يخبرنا الله في هذه الآية أن المؤمنون حقاً هم من اتصفوا بهذه الصفات :
الصفة الأولى : ? إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ? .
أي إذا ذكِّروا بالله خافت قلوبهم فأدوا فرائضه .
الصفة الثانية : ? إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ? .
أي إذا قرأت عليهم آيات من كتاب الله زادتهم إيماناً مع إيمانهم .
الصفة الثالثة : ? وعلى ربهم يتوكلون ? .
قال ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية : " أي لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك ، لا شريك له ، ولا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب " . أ . ه
مناسبة الآية للباب :
أنها تدل على أن التوكل على الله وحده من صفات المؤمنين .
ما يستفاد من الآية :
* وجوب التوكل على الله وحده ، وأن التوكل عبادة ، فصرفه لغير الله شرك .
1- أن الخوف من الله من صفات المؤمنين .
2- أن الإيمان بالله وحده يستدعي التوكل عليه .
3- استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية وأمثالها ، على زيادة الإيمان ونقصانه .
ومن الأدلة :
قوله تعالى : ? هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ? .
وقال تعالى : ? وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون ? .
وقال تعالى : ? ويزداد الذين آمنوا إيماناً ? .
وقال تعالى : ? الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ? .
وقد حكى الإجماع على ذلك : الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم .
وقوله : ? يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ? . الطلاق ( 3 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( حسبك ) أي كافيك .(1/240)
قال شيخ الإسلام في الفتاوى ( 1 / 293 ) : " ? يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ? أي وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين ، هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف " .
وقال رحمه الله في الفتاوى ( 10 / 154 ) : " ? يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ? أي حسبك وحسب من اتبعك الله ، ومن ظنَّ أن المعنى حسبك الله والمؤمنون فقد غلط غلطاً فاحشاً " .
وقيل في معنى الآية :
حسبك الله وحسبك المؤمنون .
قال ابن القيم في زاد المعاد ( 1 / 35 ، 36 )عن هذا القول : " هذا وإن قاله بعض الناس فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة ، قال تعالى : ? وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ? .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على أن التوكل نوعٌ من العبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك .
ما يستفاد من الآية :
1- الله كافٍ من اعتمد عليه .
2- بيان فضل التوكل على الله وفائدته .
3- وجوب الإيمان بحب الله وحده دون سواه .
4- أن الجزاء من جنس العمل .
وقوله : ? ومن يتوكل على الله فهو حسبه ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال ابن القيم : " أي كافيه ، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ، ولا يضره إلا أذىً لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش " .
قال بعض السلف : " جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه ، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال : ? ومن يتوكل على الله فهو حسبه ? ولم يقل : فله كذا وكذا من الأجر ، كما قال في الأعمال ، بل جعل نفسه سبحانه كافٍ عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه " .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت على وجوب التوكل على الله ، لأن الله بالتوكل يحفظ عبده ويحميه .
ما يستفاد من الآية :
1- أن التوكل من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار .(1/241)
2- أن من توكل على غير الله خُذِل .
مسائل في التوكل :
أولاً : فضل التوكل على الله وجزاء المتوكلين :
1. أهل التوكل هم أهل محبة الله عز وجل .
قال تعالى : ? فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ? .
2. التوكل من شيم أنبياء الله ورسله وأوليائه ? فبهداهم اقتده ? .
قال تعالى في نوح : ? يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت ? .
وقال تعالى عن هود : ? إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ? .
3. أهل التوكل هم أهل الإيمان .
قال تعالى : ? إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ?
4. أهل التوكل هم أهل الجنة يدخلونها بغير حساب ولا عذاب .
قال ( : ( يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ) . رواه مسلم
حكى النووي في هذا الحديث : أن المراد بهؤلاء القوم هم المتوكلون .
وصح عنه ( أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب ، فلما سئل عن صفة هؤلاء قال : ( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) .
5. التوكل على الله مجلبة للرزق .
عن عمر ( قال : قال رسول الله ( : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) . رواه الترمذي
6. المتوكلون ليس عليهم للشيطان سبيل .
قال تعالى : ? إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ? .
7. المتوكلون الله حسبهم وكافيهم .
قال تعالى : ? ومن يتوكل على الله فهو حسبه ? .
8. أهل التوكل على الله هم أهل العزة والاستعلاء .
قال تعالى : ? ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ? .
قال في الإحياء : " أي عزيز لا يذل من استجار به ، ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى زمامه وحماه ، وحكيم لا يقصر عن تدبير أمر من توكل على تدبيره " .
ثانياً : أن من تمام التوكل الأخذ بالأسباب .(1/242)
اعلم ـ هدانا الله وإياك ـ أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه المقدورات بها وجرت سنته في خلقه عليها .
فإنه تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل ، فكلاهما عبادة تعبدنا سبحانه بها .
قال ابن القيم : " وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب ، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها ، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد " .
قال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً ? .
وقال تعالى : ? وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين ? .
وقال تعالى : ? فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ? .
وجه الدلالة من الآيات :
هو أنه سبحانه مع أمره بالتوكل في آيات كثيرة ، فهو جلت قدرته يأمر في هذه الآيات وأشباهها بأخذ الأسباب وتعاطيها ، سواء كان ذلك في تحقيق النصر على العدو ، أو كان ذلك في طلب الرزق والحصول على لقمة العيش ، أو كان ذلك في تحصيل الهداية واجتناب الغواية ... أو غير ذلك .
وأما بيان هذه الحقيقة من الهدي النبوي :
فحياته ( وهديه كله تأكيد وتبيين لهذه الحقيقة .
•…فقد كان سيد المرسلين ( وهو سيد المتوكلين يطوف على القبائل ويقول : ( من يعصمني حتى أبلغ رسالة ربي )
•…ولما هاجر إلى المدينة استأجر دليلاً مشركاً على دين قومه ليدله على الطريق .
•…وكان إذا سافر في جهادٍ أو حجٍ أو عمرةٍ حمل الزاد والمزاد .
•…وظاهر ( بين درعين يوم أحد ، وحفر الخندق يوم الأحزاب .
•…وكان ( في آخر عمره وأكمل أحواله مع ربه تعالى يدخر لعياله قوت سنة .
•…وعن أنس ( قال : ( جاء رجل إلى النبي ( فقال : يا رسول الله ، أعقلها وأتوكل ؟ أو أطلقها وأتوكل ؟ فقال : اعقلها وتوكل ) . رواه الترمذي
وعن ابن عباس قال : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم ( حين ألقي في النار ، وقالها محمد ( حين قالوا له :(1/243)
? إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً ? ) . رواه البخاري ( 4563 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( حسبنا الله ) أي كافينا فلا نتوكل إلا عليه ، قال تعالى : ? أليس الله بكاف عبده ? .
( ونعم الوكيل ) أي نعم الموكول إليه ، كما قال تعالى : ? اعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ? .
( قالها إبراهيم حين ألقي في النار ) قال تعالى : ? قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين . قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم . وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين ? .
( وقالها محمد ( ... ) وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد ، بلغه أن أبى سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم ، فخرج النبي ( في سبعين راكباً ، حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان ، فرجع على مكة بمن معه ، ومرّ به ركب ابن عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة ، قال : فهل أنتم مبلغون محمداً عني رسالة ؟ قالوا : نعم ، قال : فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم . فمرّ الركب برسول الله ( وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال : ? حسبنا الله ونعم الوكيل ? .
مناسبة الأثر للباب :
أن فيه هذه الكلمة التي هي كلمة التفويض والاعتماد على الله ، وهي الكلمة التي تقال عند الكروب والشدائد .
ما يستفاد من الأثر :
1- ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة ، وأنها قول إبراهيم ومحمد _ عليهما السلام _ في الشدائد .
2- أن التوكل من أعظم الأسباب في حصول الخير ودفع الشر .
3- أن القيام بالأسباب مع التوكل على الله لا يتنافيان ، بل يجب على العبد القيام بهما ، كما فعل الخليلان _ عليهما الصلاة والسلام .
4- أن ما يكرهه الإنسان قد يكون خيراً له .
5- سنة الابتلاء .
الباب الرابع والثلاثون(1/244)
? أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قصد المؤلف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب ، وأنه ينافي كمال التوحيد ، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك ، ولذلك ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى : ? ومن يقنط من رحمة ربه إلا القوم الضالون ? .
معنى الآية :
أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل ، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من عذاب الله ، وعدم الخوف منه ، كما قال تعالى : ? أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون . أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون ? .
ثم بين أن ذلك بسبب الجهل والغرة في الله ، فأمنوا مكرهم في ما ابتلاهم به من السراء والضراء بأن يكون استدراجاً فقال : ? أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ? . أي الهالكون .
وفي الحديث : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ) . رواه أحمد والترمذي
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على تحريم الأمن من مكر الله .
ما يستفاد من الآية :
1- وجوب الخوف من مكر الله .
2- الحذر من النعم التي يجعلها الله للعبد ، لئلا تكون استدراجاً .
3- الأمن من مكر الله سبب للهلاك .
4- تحريم الأمن من مكر الله ، قال تعالى : ? حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ... ? . وقال تعالى ? إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ? .
5- جواز وصف الله بالمكر على سبيل المقابلة ، فلا يجوز أن يوصف به على الإطلاق ، فلا نقول إن الله ماكر ، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام يكون مدحاً ، مثل قوله تعالى : ? ويمكرون ويمكر الله ? وقوله تعالى : ? ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون ? .(1/245)
وقوله : ? ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ? . الحجر ( 56 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
القنوط : استبعاد الفرج واليأس منه ، وهو يقابل الأمن من مكر الله ، وكلاهما ذنب عظيم .
ونبه المصنف رحمه الله بهذه الآية على أنه لا يجوز لمن خاف أن يقنط من رحمة الله ، بل يكون خائفاً راجياً ، يخاف ذنبه ويعمل بطاعته ويرجو رحمته ، كما قال تعالى : ? أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ? .
وقال تعالى : ? إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ? .
فذكر سبحانه أنهم يرجون رحمة الله مع الاجتهاد بالأعمال الصالحة .
ومعنى الآية :
قوله تعالى : ? ومن يقنط ? حكاية قول إبراهيم ( لما بشرته الملائكة بولده وإسحاق ( ، فقال : ? أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ? استبعاداً لوقوع هذا في العادةى مع كبر السن منه ومن زوجته ، قالوا : ? بشرناك بالحق ? الذي لا ريب فيه ، بل هو أمر الذي : ? إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ? وإن بعد مثله في العادة التي أجراها ، فإن ذلك عليه يسير إذا أراده ، فلا تكن من القانطين ، أي لا تيأس من رحمة الله ، قال إبراهيم : ? ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ? .
فإنه يعلم من قدرة الله وحكمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم ، لكنه ـ والله أعلم ـ قال ذلك على وجه التعجب .
? إلا الضالون ? قال بعضهم : إلا المخطئون طريق الصواب ، أو الكافرون ، لقوله تعالى : ? لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرين ? .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية الكريمة على تحريم القنوط من رحمة الله .
ما يستفاد من الآية :
1- تحريم القنوط من رحمة الله ، لأنه سوء ظنٍّ بالله ، وذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه طعن في قدرته سبحانه .
الوجه الثاني : أنه طعن في رحمته سبحانه .(1/246)
2- إثبات صفة الرحمة لله سبحانه وتعالى على وجه يليق بجلالة .
3- القنوط من رحمة الله من علامات الجهل والضلال .
عن ابن عباس : ( أن رسول الله ( سئل عن الكبائر ؟ فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ) . أخرجه البزار كما في الكشف ( 106 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( الكبائر ) جمع كبيرة ، والمراد بها كبائر الذنوب .
( الشرك بالله ) هذا أكبر الكبائر ، إذ مضمونه تنقيص رب العالمين ، وإلههم ومالكهم وخالقهم الذي لا إله إلا هو ، وعدل غيره به ، كما قال تعالى : ? ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ?
فهو أظلم الظلم وأقبح القبح .
( واليأس من روح الله ) أي قطع الرجاء والأمل من الله فيما يقصده ، وذلك إساءة ظنٍّ بكرم الله ورحمته وجوده ومغفرته.
( والأمن من مكر الله ) أي من استدراجه للعبد ، وسلبه ما أعطاه من الإيمان ـ نعوذ بالله من غضبه ـ وذلك جهل بالله وبقدرته .
انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر :
واعلم أن هذا الحديث لم يرد فيه حصر الكبائر فيما ذكر ، بل الكبائر كثيرة ، لكن ذكر ما هو أكبرها ، ولهذا قال ابن عباس : ( هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع ) .
وضابط الكبيرة : ما قاله المحققون من العلماء :
كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب .
زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
أو نفي الإيمان .
مناسبة الحديث للباب :
أنه يدل على أن الأمن من مكر الله ، واليأس من رحمته ، من كبائر الذنوب .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم كلٌ من الشرك بالله والأمن من مكر الله واليأس من روح الله ، وأنها من الكبائر .
2- أن الشرك أعظم الذنوب .
3- وجوب الجمع بين الخوف والرجاء .
4- وجوب إحسان الظن بالله ، ولذلك قال النبي ( :
( لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ) . رواه مسلم
الباب الخامس والثلاثون
من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله(1/247)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
لما كان ببديع حكمته ولطيف رحمته ، قضى أن يبتلي النوع الإنساني بالأوامر والنواهي والمصائب التي قدرها الله عليهم ، أمرهم بالصبر على ذلك ، وافترضه عليهم تسلية لهم وتقوية على ذلك ، ووعدهم عليه الثواب بغير حساب ، كما قال تعالى : ? إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ? .
قال الإمام أحمد : " ذكر الله الصبر في تسعين موضعاً في كتابه " .
وقال ( : ( الصبر ضياء ) . رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري
وقال أيضاً ( : ( ما أعطي أحداً عطاءً خير وأوسع من الصبر ) . متفق عليه من حديث أبي سعيد
وقد ذكر أهل العلم أن الصبر ثلاثة أقسام :
1. صبرٌ على طاعة الله .
2. صبرٌ عن معصية الله .
3. صبرٌ على أقدار الله المؤلمة .
وخص المؤلف رحمه الله هذا الباب الصبر على أقدار الله لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية .
وقول الله تعالى : ? ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ? . التغابن ( 11 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أول الآية : ? ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ? .
أخبر تعالى أنه ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا بإذن الله ، أي بقدره وأمره ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : ? ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ? .
قال ابن عباس في قوله ? إلا بإذن الله ? : ( إلا بأمر الله ، يعني من قدره ومشيئته ) .
? ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ? أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره ، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله ، جازاه الله تعالى بهداية قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة .(1/248)
وقد يخلف عليه أيضاً في الدنيا ما أخذه منه أو خيراً منه ، كما قال تعالى : ? وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ? .
? والله بكل شيء عليم ? تنبيه على أن ذلك صادر عن علمه المتضمن لحكمته ، وذلك يوجب الصبر والرضى .
قال علقمة : ( هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وعلقمة : من أكابر التابعين ، ولد في حياة النبي ( وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم .
وقريب من هذا التفسير تفسير سعيد بن جبير : ? ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ? يعني يسترجع ويقول : إنا لله وإنا إليه راجعون .
ما يستفاد من الأثر :
1- أن الصبر سبب لهداية القلب .
2- أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها .
3- أن الخير والشر مقدر من الله .
4- بيان إحاطة الله بكل شيء .
5- أن هداية التوفيق من عند الله .
6- أن الإيمان يتعلق بالقلب ، فإذا اهتدى القلب اهتدت الجوارح .
لقوله ( : ( إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب )
………………متفق عليه
وفي صحيح مسلم ( أن رسول الله ( قال : ( اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ) .
……………رواه مسلم ( 67 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( بهم كفر ) أي هما بالناس ، أي فهم كفر .(1/249)
قال شيخ الإسلام : " أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم في الناس ، فنفس الخصلتن كفر ، حيث كانتا في أعمال الكفار ، وهما قائمتان بالناس ، لكن ليس من قام بشعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق ، حتى تقوم حقيقة الكفر ، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان " .
( النياحة ) أي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله .
قال ابن العربي : " والنوح ما كانت الجاهلية تفعل ، كان النساء يقفن متقابلات يصحْن ، ويحثين التراب على رؤوسهن ، ويضربن وجوههن " .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم النياحة المنافية للصبر الذي هو من علامات الإيمان .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم الطعن في النسب .
2- تحريم النياحة على الميت ، وقد ورد في ذلك عدة أدلة :
1. حديث الباب .
2. عن أبي مالك الأشعري ( قال : قال رسول الله ( : ( أربعٌ من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ، وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرعٌ من جرب ) . رواه مسلم
3. عن أم عطية قالت : ( أخذ علينا رسول الله ( مع البيعة أن لا ننوح ) . متفق عليه
3- الإشارة إلى أن هاتين الخصلتين ستبقيان في هذه الأمة .
4- قد يكون في الإنسان شيء من خصال الكفر ولا يعد كافراً .
5- نهي الإسلام عن كل ما يؤدي إلى الفرقة .
6- وجوب الصبر على المصيبة ، والناس اتجاه المصيبة على مراتب أربع :
الأولى : التسخط .
وهو إما أن يكون بالقلب ، كأن يسخط على ربه ويغضب على ما قدر الله له ، وقد يكون باللسان ، كالدعاء بالويل والثبور .
الثانية : الصبر .
وهو واجب ، وهو كما قال الشاعر :
الصبر مثل اسمه مرّ مذاقه لكن عواقبه أحلى من العسل
الثالثة : الرضا .
وهو أعلى من الصبر ، وهو أن يكون الأمران عنده سواء .
وهذا مستحب لا واجب على القول الصحيح .(1/250)
الرابعة : الشكر .
وهو أعلى المراتب ، وهو أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة .
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً :
( ليس منّا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) . رواه البخاري ( 1294 ) ومسلم ( 103 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ليس منّا ) هذا من نصوص الوعيد ، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تأويلهما ، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر .
وليس المراد إخراجه من الإسلام ، بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك .
( ضرب الخدود ) قال الحافظ : " خص الخد بذلك لكون الغالب ، وإلا فضرب بقية الوجه مثله " .
( وشق الجيوب ) جمع جيب ، وهو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب ، وكانوا يشقونه حزناً على الميت .
قال الحافظ : " والمراد إكمال فتحه إلى آخره " .
( ودعا بدعوى الجاهلية )
قال شيخ الإسلام : " هو ندب الميت " .
وقال غيره : " هو الدعاء بالويل والثبور " .
وقال ابن القيم : " الدعاء بدعوى الجاهلية ، كالدعاء بالقبائل والعصبية ، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ ، وتفضل بعضٌ على بعض ... " .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم لطم الخدود وما عطف عليها ، لأنها تنافي الصبر الذي هو من علامات الإيمان .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم لطم الخدود وشق الجيوب ودعوى الجاهلية ، وقد جاء لعن من فعل هذه الأمور فيما رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله ( : ( لعن الخامشة وجهها ، والشاقة جيبها ، والداعية بالويل والثبور ) .
وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر ، لأنها مشتملة على التسخط على الرب ، وعدم الصبر الواجب ، والإضرار بالنفس من لطم الوجه ، وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها .(1/251)
2- اعلم أن الحديث لا يدل على النهي عن البكاء أصلاً ، وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه فقط ، وكذلك يدل على النهي عمّا في معناه ، كالبكاء برنة ، وحلق الشعر ، وخمش الوجوه ، ونحو ذلك .
وأما البكاء على وجه الرحمة والرقة ونحو ذلك فيجوز ، الأدلة :
1. عن عائشة : ( أن النبي ( دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت ، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله ، حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه ) . رواه الترمذي وصححه
2. عن أنس بن مالك قال : ( دخلنا على رسول الله ( وإبراهيم يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله ( تذرفان ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : يا بن عوف ، إنها رحمة ، ثم أتبعها بأخرى ، فقال : إن العين تدمع ، وإن القلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) . متفق عليه
وعن أنس أن رسول الله ( قال :
( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) .
………… رواه الترمذي ( 2398 ) وحسنه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا ) أي يصب البلاء والمصائب عليه ، جزاءً لما فرط من الذنوب منه ، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة .
( وإذا اراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ) أي أخر عنه العقوبة بذنبه ، فلا يجازيه في الدنيا ، وإنما يجازيه في الآخرة ، مستوفي الذنوب ، مستوفي ما يستحقه من العذاب .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن من اتصف بالإيمان صبر على ما قدر الله له من المصائب لأنها خير له ، وتسلية للإنسان المصاب لئلا يجزع ، فإن ذلك قد يكون خيراً .
ما يستفاد من الحديث :
1- علامة إرادة الله الخير بعبده معاجلته بالعقوبة على ذنوبه في الدنيا .(1/252)
2- علامة إرادة الشر بالعبد أن لا يجازى بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة .
3- الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر .
4- التنبيه على حسن الظن بالله ورجائه فيما يقضيه الله عليه من المكروه .
5- أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خيرٌ له ، وقد يحب الشيء وهو شر له .
6- الحث على الصبر على المصائب .
7- أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، لهذا قال النبي ( للمتلاعنين : ( إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ) .
8- أن البلاء للمؤمن من علامات الخير ، خلافاً لما يظنه كثير من الناس .
9- وفيه الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر ، وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة ، خوفاً من أن تكون طيباته عجلت له في الدنيا ، والله سبحانه وتعالى لم يرضى الدنيا لعقوبة أعدائه ، كما لم يرضها لإثابة أوليائه ، بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في جواره ورضي عنهم ، كما قال تعالى : ? إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر ? .
وقال النبي ( :
( إن عظم الجزاء من عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ) .
…………………………………رواه الترمذي ( 2398 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( إن عظم الجزاء من عظم البلاء ) أي من كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم ، فعظمة الأجر وكثرة الثواب مع عظم البلاء كيفية وكمية ، جزاءً وفاقاً .
ولهذا لما كان أنبياء الله ـ عليهم السلام ـ أعظم الناس جزاءً ، كانوا أشد الناس بلاءً ، كما في حديث سعد : ( سُئل النبي ( ، أي الناس أشد بلاءً ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ) . رواه ابن ماجه والدارمي(1/253)
وقال ( : ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يتخذ أحدهم إلا العبادة التي يخويها ، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ) .
(إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ) صريح في حصول البلاء لمن أحبه الله ، ولما كان الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أفضل الأحباب ، كانوا أشد الناس بلاءً ، وأصابهم من البلاء ما لم يصب أحداً ، لينالوا بذلك الثواب العظيم والأجر العظيم ، ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال : ( دخلت على النبي ( وهو يوعك ، فقلت يا رسول الله ، إنك توعك وعكاً شديداً ؟ قال : أجل ، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم ، فقلت : ذلك أن لك أجرين ؟ قال : أجل ذلك ، كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها ، إلا كفر الله بها سيئاته ، وحطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها ) .
( ثم رضي فله الرضى ) أي من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء ، فله الرضى من الله ، جزاءً وفاقاً ، كما قال تعالى : ? رضي الله عنهم ورضوا عنه ? .
( ومن سخط فله السخط ) أي من سخط أقدار الله فله السخط ، أي من الله ، وكفى بذلك عقوبة ، قال تعالى : ? ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ? .
مناسبة الحديث للباب :
حيث حرم الحديث الجزع من أقدار الله ، وهذا يدل على أن الصبر على أقدار الله واجب .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن المصائب مكفرات للذنوب .
2- أن البلاء للمؤمن من علامات الإيمان .
3- تحريم السخط من قضاء الله وقدره .
4- نستدل بالحديث على وجوب الرضا ، وهو اختيار ابن عقيل ، واختار القاضي عدم الوجوب ، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم .
قال شيخ الإسلام : " ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر ، وإنما جاء الثناء على أصحابه ، قال : وما يروى : ( من لم يصبر على بلائي ولم يرضَ بقضائي ، فليتخذ رباً سواي ) فهذا إسرائيلي لم يصح عن النبي ( " .(1/254)
5- أن الأنبياء والصالحين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، فإذا كانوا كذلك فلأن لا يملكونه لغيرهم أولى وأحرى
6- إثبات صفة المحبة لله ، وأنه يُحِب ويُحَب .
قال تعالى : ? وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ? .
وقال تعالى : ? وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ? .
وقال تعالى : ? إن الله يحب المتقين ? .
وقال تعالى : ? فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ? .
7- إثبات صفة الرضا لله سبحانه وتعالى .
قال تعالى : ? رضي الله عنهم ورضوا عنه ? .
الباب السادس والثلاثون
ما جاء في الرياء
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي من الوعيد ، ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطاً في قبوله ، لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد ، نبه المصنف على ذلك تحقيقاً للتوحيد .
والرياء : قال الحافظ : " هو مشتق من الرؤية ، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيُحمد صاحبها .
والفرق بينه وبين السمعة : أن الرياء لما يرى من العمل ، والسمعة كالقراءة والوعظ والذكر ، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله .
وقول الله تعالى :
? قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ? الكهف ( 110 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
يقول تعالى لنبيه ( : قل يا محمد للناس إنما أنا بشر مثلكم ، أي في البشرية ، ولكن الله منّ علي وفضلني بالرسالة وليس لي من الربوبية والإلهية شيء ، بل ذلك لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ? يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ? أي معبودكم الذي أدعوكم إلى عبادته إله واحد لا شريك له .
? فمن كان يرجو لقاء ربه ? أي من كان يخاف لقاء الله يوم القيامة .
? فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ?
العمل الصالح : أن يكون موافقاً للشرع .(1/255)
? ولا يشرك ? أي أ، يكون خالصاً من الشرك الجلي والخفي .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : " وهذان ركنا العمل المتقبل : لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة محمد ( " . أ . ه
إذا يشترط لقبول الأعمال شرطين :
الشرط الأول : أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله تعالى .
الشرط الثاني : أن يكون موافقاً لما شرعه الله تعالى في كتابه ، أو بينه رسول الله ( في سنته .
فإذا اختل واحد من هذين الشرطين ، لم يكن العمل صالحاً ولا مقبولاً .
فدليل الإخلاص لله : قوله ( : ( إنما الأعمال بالنيات ) .
ودليل الموافقة : قوله ( : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) . رواه مسلم
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية الكريمة على أن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالياً من الشرك ، ومن الشرك والرياء .
ما يستفاد من الآية :
1- إثبات بشرية محمد ( وخلوه من الخصائص الإلهية والملكية .
2- أن التوحيد الذي جاء به نبينا ( هو توحيد الإلهية ، أما توحيد الربوبية فإن الكفار لم ينكروه .
3- أن شرط قبول العمل الإخلاص والمتابعة ، الإخلاص يكون لله عز وجل ، والمتابعة لنبيه ( .
والعمل لغير له حالات :
الحالة الأولى : أن يكون رياء ً محضاً ، فلا يريد صاحبه إلا الدنيا أو مراءات المخلوقين ، كحال المنافقين في صلاتهم كما قال تعالى : ? وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ... ? .
وكذلك وصف الله الكفار بالرياء في قوله : ? ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ... ) .
وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط ، وأن صاحبه يستحق العذاب .
وعن أبي هريرة ( مرفوعاً :
( قال الله تعالى : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه ) . رواه مسلم ( 2985 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
ولا بن ماجه في السنن ( 4255 ) : ( فأنا منه بريء ، وهو للذي أشرك ) .(1/256)
( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ) لما كان المرائي قاصداً بعمله الله تعالى وغيره ، كان قد جعل لله شريكاً ، فإذا كان كذلك فالله تعالى هو الغني على الإطلاق ، والشركاء بل جميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار ، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل فيه له شريك .
( من عمل عملاً أشرك فيه غيري ) أي من قصد بذلك العمل الذي يعمله لوجهي غيري من المخلوقين .
( تركته وشركه ) وفي رواية ابن ماجه : ( فأنا منه بريء وهو للذي أشرك )
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على بطلان العمل الذي وقع فيه شرك ، ومن الشرك الرياء .
ما يستفاد من الحديث :
1- بيان غنى الله تعالى .بيان عظم حق الله تبارك وتعالى .
2- تحريم الرياء .
3- وقد جاءت أحاديث في الترهيب والتحذير من الرياء :
1. حديث الباب .
2. عن أبي هريرة ( قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به ، فعرّفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال فلان جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ... ثم ذكر رجلاً تعلم العلم ... ورجل أعطاه الله مالاً ... ) . رواه مسلم
3. عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( : ( بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ) . رواه احمد وابن حبان
4. وعن أبي هريرة ( قال : قال النبي ( : ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) . رواه أبو داود(1/257)
5. وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ، ليوم لا ريب فيه ، نادى منادٍ : من كان أشرك في عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ) . رواه الترمذي وابن ماجه
وعن أبي سعيد مرفوعاً :
( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى ، قال : الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ) . رواه أحمد ( 3/ 30 ) وابن ماجه ( 4204 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ) وإنما كان الرياء كذلك لخفائه وقوة الداعي إليه وعسر التخلص منه ، لما يزينه الشيطان والنفس الأمارة في قلب صاحبه .
( الشرك الخفي ) وسمي الرياء شركاً خفياً ، لأن صاحبه يظهر أن عمله لله ويخفي في قلبه أنه لغيره ، وإنما تزين بإظهاره أنه لله .
ففي حديث محمود بن لبيد قال : ( خرج النبي ( فقال : أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا : يا رسول الله ، وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه ، فذلك شرك السرائر ) .
وعنه أيضاً قال : قال رسول الله ( : ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء ، يقول الله عز وجل إذا تراءى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً ) . رواه أحمد
وعن شداد قال : ( كنا نعد الرياء في زمن الرسول ( الشرك الأصغر ) .
( فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل ) فسر الشرك الخفي بهذا : أن يعمل الرجل العمل لله ، ولكن يزيد في صفته كتحسينه وتطويله ... ، والحامل له على ذلك هو حب الرياسة والجاه عند الناس .
مناسبة الحديث للباب :(1/258)
حيث دل الحديث على أن النبي ( أخوف ما يخاف علينا الشرك الخفي وهو الرياء .
ما يستفاد من الحديث :
1- شفقة النبي ( وحرصه على أمته .
2- أن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة المسيح الدجال .
3- خطر الرياء ، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على الصحابة الذين من النبي ( وأدركوا نزول الوحي ، فعلى غيرهم من باب أولى ممن قل علمه وضعف إيمانه .
4- بيان خطر المسيح الدجال والتحذير منه .
الباب السابع والثلاثون
من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب :
" قد ظنَّ بعض الناس أن هذا الباب داخلٌ في الرياء ، وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ ، بل المراد بهذا أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به الدنيا ، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك ، ولهذا سماه النبي ( عبداً " .
وقول الله تعالى : ? من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها ? . هود ( 15 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? وزينتها ? أي المال والبنين والنساء والحرث ... إلخ .
كما قال تعالى : ? زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ... ? .
? نوفِّ إليهم ? أي نوفّ إليهم ثواب أعمالهم ، بالصحة والسرور والمال والولد .
كما قال تعالى في الكفار : ? ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا واستمتعتم بها ? .
? وهم فيها لا يبخسون ? أي لا ينقصون .
? أولئك ? المشار إليه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها .
? ليس لهم في الآخرة إلا النار ? أي عذابهم في النار .
? وحبط ما صنعوا فيها ? أي وعملهم حابط لم يستحقوا عليه ثواباً في الآخرة لأنهم أعطوا ثوابه في الدنيا .(1/259)
? وباطلٌ ما كانوا يعملون ? أي وعملهم باطلٌ من أصله ، لأنهم لم يقصدوا به وجه الله تعالى ، والعمل الباطل لا ثواب له .
هذه الآية مخصصة بقوله تعالى : ? من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ? . الإسراء
وقال بعض العلماء : " من عمل صالحاً من أهل الإيمان من غير تقوى ، عُجل له ثواب عمله في الدنيا " ، واختاره الفراء .
قال ابن القيم : " وهذا القول أرجح " .
وقال بعض العلماء : " هذه الآية نزلت في حق الكفار ، بدليل قوله تعالى : ? أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ?
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على أن طلب الدنيا بعمل الآخرة يبطل ثوابها .
ما يستفاد من الآية :
1- أن الله قد يجازي الكافر في الدنيا على حسناته ، وكذا طالب الدنيا ، فلا يبقى معه في الآخرة شيء من ثواب أعماله .
2- أن الشرك يبطل الأعمال .
3- طلب الدنيا بعمل الآخرة مبطل له .
عن أبي بن كعب قال : قال النبي ( : ( بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض ، فمن جعل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب ) . رواه أحمد
وفي الصحيح عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( تَعِسَ عبد الدينار ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثَ رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شَفَعَ لم يُشفع ) . رواه البخاري ( 2886 ) ، ( 2887 ) ، ( 6435 ) وابن ماجه ( 4135 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( في الصحيح ) أي في صحيح البخاري .
( تَعِسَ ) هو بكسر العين ، ويجوز بفتحها ، أي سقط ، والمراد هنا : هلك . [ قاله الحافظ ابن حجر ]
وقال في موضع آخر : " هو ضد سَعِدَ ، أي شقي " .(1/260)
( عبد الدينار ) الدينار من الذهب .
سماه عبداً لكونه هو المقصود بعمله ، فكل من توجه بقصده لغير الله ، فقد جعله شريكاً لله في عبوديته ، كما هو حال الأكثر .
( تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة )
الخميصة : كساء يلبس لونه أسود .
الخميلة : القطيفة ، سميت بذلك لأنها ذات أخمل .
( إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ) يحتمل أن يكون المعطي هو الله ، أي إن قدّر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقوله وقلبه .
( تعس وانتكس ) أي خاب وهلك .
انتكس : أي انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له .
( وإذا شيك فلا انتقش ) أي إذا أصابته شوكة .
( فلا انتقش ) أي فلا يقدر على انتقاشها ، وهو إخراجها بالمنقاش .
وقال الحافظ : " أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها " .
وهذه الجمل الثلاث يحتمل أن تكون خبراً منه ( عن حال هذا الرجل ، وأنه تعاسة وانتكاس ، وعدم خلاص من الأذى ، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه .
( طوبى ) اختلف المفسرون في معنى : ? طوبى لهم وحسن مآب ?
فروي عن ابن عباس أن معناه : " فرح وقرة عين " .
وعن قتادة : " أصابوا خيراً " .
وقال ابن عجلان : " دوام الخير " .
وقيل الجنة ، وقيل شجرة في الجنة .
وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث .
( آخذ بعنان فرسه ) أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .
( أشعث رأسه مغبرة قدماه )
( أشعث رأسه ) أي مشغول بالجهاد عن تنظيم شعره وترجيله .
( مغبرة قدماه ) أي ملازم له الغبار لكثرة الجهاد .
( إن كان في الحراسة ) أي حماية الجيش عن هجوم العدو .
( إن كان في الحراسة ) أي غير مقصر فيها ولا غافل .
وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال .
( وإن كان في الساقة كان في الساقة ) أي وإن جعل في مؤخرة الجيش صار فيها ولزمها .(1/261)
قال ابن الجوزي : " المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فأي موضع اتفق له كان فيه " .
( وإن استأذن لم يؤذن له ) أي إذا استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له ، لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة ، لأنه ليس من طلابها وإنما يطلب ما عند الله ، لا يقصد بعمله سواه .
( وإن شُفِّعَ لم يُشَفَّعْ ) يعني لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمرٍ يحبه الله ورسوله ، لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم لعدم جاهه عندهم .
وروى مسلم عن أبي هريرة ( أن النبي ( قال : ( ربَّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ) .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن من كانت الدنيا غاية أمره ومنتهى قصده فقد عبدها واتخذها شريكاً مع الله .
ما يستفاد من الحديث :
1- ذم الحرص على الدنيا .
2- أن من كانت الدنيا أكبر همه أصبح عبداً لها ، يحب من أجلها ، ويسخط من أجلها .
3- أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تتقلب عليه الأمور ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية ، وهي الشوكة .
4- استحباب الاستعداد للجهاد .
5- فضل الحراسة في سبيل الله .
6- أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس لا يستلزم دنو مرتبته عند الله .
7- فيه ترك حب الرياسة والشهرة ، وفضل الخمول والتواضع .
8- الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات .
9- أن عبد الله هو الذي يرضيه ما يرضي الله ، ويسخطه ما يسخط الله ، ويحب الله ورسوله .
الباب الثامن والثلاثون
من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أرباباً
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المقصود بالعلماء : العلماء بشرع الله
الأمراء : أولو الأمر المنفذون له .
( أرباباً ) جمع رب ، وهو المتصرف المالك .
مناسبة الباب لكتاب التوحيد :(1/262)
لما كانت الطاعة من أنواع العبادة ، بل هي العبادة ، فإنها طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة رسله عليهم السلام ، نبه المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها ، وأنه لا يطاع أحد من الخلق إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله ، وإلا فلا يجب طاعة أحد من الخلق استقلالاً .
والمقصود هنا طاعة الخاصة في تحريم الحلال وتحليل الحرام ، فمن أطاع مخلوقاً في ذلك غير الرسول ( فإنه لا ينطق عن الهوى ، فهو مشرك ، كما نبه الله تعالى في قوله : ? اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ... ? أي علماءهم .
وقال ابن عباس :
( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله ( ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ) . أخرجه أحمد ( 3121 ) وابن عبد البر ( جامع بيان العلم 2 / 196 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( يوشك ) قال أبو السعادات : " أي يقرب ويدنو ويسرع ، وهذا القول من ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : جواب لمن قاله له : إن أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج ، ويريان أن إفراد الحج أفضل ، أو ما هو معنى هذا ، فاحتج إليه المناظر وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب بنهي أبي بكر وعمر عنها ، أي هما أعلم منك وأحق بالإتباع ، فقال هذا الكلام الصادر عن محض الإيمان وتجريد المتابعة للرسول ( وإن خالفه من خالفه كائناً من كان " .
( حجارة من السماء ) أي من فوق تنزل عليكم عقوبة لكم ، ونزل الحجارة من السماء ليس بالأمر المستحيل ، بل هو ممكن ، قال تعالى في أصحاب الفيل : ? وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ? .
وقال تعالى في قوم لوط : ? إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم ... ? .(1/263)
( أبو بكر وعمر ) هما الخليفتان الأول والثاني من الخلفاء الراشدين ، وهما أفضل هذه الأمة وأقربها إلى الصواب .
قال النبي ( : ( إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا ) . رواه مسلم
وقال ( : ( اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكرٍ وعمر ) . رواه الترمذي وابن ماجه
وقال النبي ( : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ) .
………………رواه أبو داود
مناسبة الأثر للباب :
حيث دل الأثر على أن رأي ابن عباس تحريم تقديم رأي المخلوقين على سنة رسول الله ( ، وإنما حرم ذلك ابن عباس لأنه شرك مع الله في الطاعة .
ما يستفاد من الأثر :
1- فضل ابن عباس ودقة فهمه .
2- لا يلتفت لأي رأي يخالف الكتاب والسنة مهما كان مصدره .
قال الشافعي : " أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله ( لم يكن له أن يدعها لقول أحد " .
3- وفي كلام ابن عباس ما يدل على أن من بلغه الدليل فلم يأخذ به تقليداً لإمامه ، فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل .
4- وجوب الغضب من أجل الله ورسوله .
وقال أحمد بن حنبل :
( عجبت لقومٍ عرفوا الإسناد وصحته ، يذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ? أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عجبت ) العجب نوعان :
النوع الأول : عجب استحسان .
كما في حديث عائشة : ( كان رسول الله ( يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ) . متفق عليه
النوع الثاني : عجب إنكار .
كما في قوله تعالى : ? بل عجبت ويسخرون ? .
والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار .
( عرفوا الإسناد وصحته ) أي إسناد الحديث وصحته ، أي صحة الإسناد ، وصحته دليل على صحة الحديث .(1/264)
( يذهبون إلى رأي سفيان ) أي الثوري الإمام الزاهد العابد الفقيه ، وكان له أصحاب ومذهبه مشهور فانقطع .
( لعله ) لعل الإنسان الذي تصح عنده سنة رسول الله ( .
( إذا ردّ بعض قوله ) أي قول النبي ( .
( أن يزغ في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) هذا تنبيه على أن من ردّ قول الرسول ( سبب لزيغ القلب الذي هو سبب الهلاك في الدنيا والآخرة .
مناسبة الأثر للباب :
حيث أفاد الأثر أن الإمام أحمد يرى أن العدول عن سنة رسول الله ( إلى غيرها شرك في الطاعة ، مستدلاً على ذلك بالآية التي أوردها .
ما يستفاد من الأثر :
1- أن الواجب على المكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله ( وفهم معنى ذلك أن ينتهي إليه ويعمل به ، وإن خالفه من خالفه ، كما قال تعالى : ? اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ? .
وقال تعالى : ? أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ? .
2- ذم من بلغته الحجة وخالفها لقول إمام من الأئمة .
3- الأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان ، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة ، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم .
قال الإمام أبو حنيفة : " إذا صح الحديث فهو مذهبي " .
وقال الإمام مالك بن أنس : " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه " .
وقال : " ما بنا إلا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر " .
وقال الإمام الشافعي : " إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ( فقولوا بسنة رسول الله ( ودعوا ما قلت ـ وفي رواية ـ فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد " .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : " لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذوا من حيث أخذوا " .(1/265)
وقال : " رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار " .
4- أنه إذا كان إساءة الأدب في الخطاب مع النبي ( سبباً لحبوط الأعمال ، كما قال تعالى : ? لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ? .
فما ظنك بردِّ أحكامه وسنته لقول أحدٍ من الناس كائناً من كان .
5- التحذير من مخالفة الرسول ( لقوله تعالى : ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره ... ? وأنها سبب الفتنة التي هي الشرك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة .
6- فإذا عرفت هذا علمت أن من ردّ قوله وخالف أمره لقول أبي حنيفة أو مالك أو غيرهما لهم النصيب الكامل والحظ الوافر من هذه الآية .
7- استدل كثير من العلماء بهذه الآية على أن الأصل في الأمر الوجوب .
قال القرطبي في تفسيره ( 12 / 322 ) :
" بهذه الآية استدل الفقهاء على أن الأمر للوجوب .
وجه الدلالة :
أن الله تعالى توعد المخالفين لأمر الرسول ( بالفتنة وهي الزيغ ، أو العذاب الأليم ، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب فدلّ على أن أمر الرسول ( المطلق يقتضي الوجوب " .
عن عدي بن حاتم ( :
( أنه سمع النبي ( يقرأ هذه الآية : ? اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ? فقلت له : إنا لسنا نعبدهم ، قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم ) . رواه أحمد ( 4 / 257 ، 378 ) والترمذي ( 3094 ) وحسنه .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
عدي بن حاتم : الطائي المشهور ، وعدي صحابي شهير وحسن الإسلام ، مات سنة 68 ه .
( فقلت إنا لسنا نعبدهم ) ظن عدي أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة من السجود والذبح والنذر ونحو ذلك فقال : ( إنا لسنا نعبدهم ) .(1/266)
( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ... ) صرح النبي ( في هذا الحديث أن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام ، وهو طاعتهم في خلاف حكم الله ورسوله .
قال شيخ الإسلام في الفتاوى ( 7 / 70 ) :
" وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحليل ما حرم الله يكونون على وجهين :
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شرك ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم .
فكان من اتبع غيره في خلاف الدين ، مع علمه أنه خلاف الدين ، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء .
الثاني : أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً ، لكن أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب " . أ . ه
ما يستفاد من الحديث :
1- دل الحديث على شرك من أطاع العلماء في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله .
2- أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أرباباً .
3- بيان ضلال الأحبار والرهبان .
4- بيان شرك اليهود والنصارى .
5- أن أصل دين الرسل واحد وهو التوحيد .
6- أن طاعة المخلوق في معصية الخالق عبادة له .
7- حرص الصحابة على العلم .
8- ذم تقليد من قدر على الاجتهاد .
الباب التاسع والثلاثون
قول الله تعالى : ? ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً ... ? .
إلى قوله : ? فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ? .(1/267)
……………النساء ( 60 _ 56 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ... ? ينكر الله تبارك وتعالى على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء من قبله ، وهو في ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ( .
قال ابن القيم : " وفي هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فلم يقبل وأبى ، أنه من المنافقين " .
وقد سمى الله تعالى الحكم بغير ما شرعه طاغوتاً ، قال تعالى : ? يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ... ? .
والطاغوت عام ، فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير الله ورسوله ( ، فهو طاغوت ، والطاغوت يجب الكفر به حتى يتم التوحيد ، قال تعالى : ? فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ? .
المعنى الإجمالي للآيات :
أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنكر على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء من قبله ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، ويحاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله عباده أن يكفروا به ، ولكن الشيطان يريد أن يضل هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الهدى والحق ويبعدهم عنه ، وإذا دعي هؤلاء إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا إعراض استكبار وتمنع ــ فماذا يكون حالهم وصنيعهم إذا نزلت بهم المصائب واحتاجوا إلى الرسول في ذلك ؟ ! ليدعوا الله لهم ويحل مشاكلهم ــ وجاءوهم يعتذرون عما صدر منهم بأنهم لم يريدوا مخالفته في عدو لهم إلى غيره ، وإنما أراد الإصلاح والتأليف بين الناس .
فيبدون هذه الأعذار الباطلة ليبرروا فعلهم حينما يفتضحون .
وقوله تعالى : ? ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ? . الأعراف ( 56 )(1/268)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? ولا تفسدوا ? الإفساد على قسمين :
القسم الأول : إفساد حسي مادي ، وذلك مثل هدم البيوت ، وإفساد الطرق ، وما أشبه ذلك .
القسم الثاني : إفساد معنوي ، وذلك بالمعاصي ، فهي من أكبر الفساد في الأرض ، قال تعالى : ? ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ? .
وقال تعالى : ? وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ? .
وقال تعالى : ? ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ? .
قال ابن القيم : " قال أكثر المفسرون : لا تفسدوا فيه بالمعاصي بالدعاء إلى غير طاعة الله ، بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة ، والدعاء إلى طاعة الله ، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره ، والشرك به ، هو أعظم فساد في الأرض ، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره ، فالشرك والدعوة إلى غير الله ، وإقامة معبود غيره ، ومطاع متبع غير رسول الله ( ، هو أعظم الفساد في الأرض ، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع ، والدعوة له لا لغيره ، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا " . أ . ه
مناسبة الآية للباب :
أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد في الأرض من المعاصي ، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله ( ، وهو سبيل المؤمنين ، كما قال تعالى : ? ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويبتغ غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ? .
ما يستفاد من الآية :
1- النهي عن الإفساد في الأرض على أي وجه كان .
2- كل صلاح في الأرض فسببه طاعة الله وطاعة رسوله ( .
3- التحذير من تحكيم النظم والقوانين المخالفة للشريعة ، وإن ادعى أصحابها أن قصدهم الإصلاح .(1/269)
4- أن دعوى الإصلاح ليست بعذرٍ في ترك ما أنزل الله .
5- التحذير من الإعجاب بالرأي .
6- أن مريض القلب يتصور الحق باطلاً والباطل حقاً .
7- أن النية الحسنة لا تسوغ مخالفة الشرع .
وقوله تعالى : ? أفحكم الجاهلية يبغون ? . المائدة ( 50 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أول الآيات :
? وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون ? .
? أفحكم الجاهلية يبغون ? المراد بالاستفهام هنا الإنكار والتوبيخ .
? يبغون ? يريدون .
ما يستفاد من الآيات :
1- أن القارئ لهذه الآيات ، والمتدبر لها ، يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله ، أكّد مؤكدات ثمانية :
1. الأمر به في قوله : ? وأن احكم بينهم بما أنزل الله ? .
2. أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال ، وذلك في قوله : ? ولا تتبع أهواءهم ? .
3. التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير ، والصغير والكبير ، بقوله سبحانه : ? واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ? .
4. أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم ، قال تعالى : ? فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ? .
5. التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله ، فإن الشكور من عباد الله قليل ، قال تعالى : ? وإن كثيراً من الناس لفاسقون ? .
6. وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية ، يقول سبحانه : ? أفحكم الجاهلية يبغون ? .
7. تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها ، بقوله عز وجل : ? ومن أحسن من الله حكماً ?(1/270)
8. أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها وأتمها وأعدلها ، وأن الواجب الانقياد له مع الرضا والتسليم ، بقوله سبحانه : ? ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يؤمنون ? .
2- أن كل حكم لا يستمد من كتاب الله فهو جاهلي .
3- بطلان كل حكم لا يستمد من شرع الله .
4- ما حكم من حكم بغير ما أنزل الله ؟
قال تعالى : ? ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ? .
وقال تعالى : ? ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ? .
وقال تعالى : ? ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ? .
هل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد ؟
بمعنى أن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق . لأن الله وصف الكافرين بالظلم والفسق ، فقال تعالى : ? والكافرون هم الظالمون ? .
وقال تعالى : ? إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ? .
فكل كافر ظالم فاسق .
أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل الله ؟
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
" وهذا هو الأقرب عندي فنقول :
من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به أو احتقاراً له أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق ، فهو كافر كفراً مخرج عن الملة .
ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به ، ولم يحتقره ، ولم يعتقد أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره تسلطاً على المحكوم أو انتقاماً منه لنفسه ، أو نحو ذلك فهذا ظالم وليس بكافر .
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ، ولا احتقاراً ، ولا اعتقاداً أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له ، أو مراعاة لرشوة ، أو غيرها من مرض الدنيا ، فهذا فاسق " . أ . ه(1/271)
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) . قال النووي : " حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح " . ورواه ابن أبي عاصم في السنة ( 1 / 121 ) والبغوي في شرح السنة ( 1 / 213 ) والخطيب البغدادي ( 4 / 269 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
شواهد هذا الحديث في القرآن كثيرة :
قال تعالى : ? فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ? .
وقال تعالى : ? وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ? .
وقال تعالى : ? فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ? .
هذا الحديث أعله ابن رجب في ( جامع العلوم والحكم ) قال : " تصحيح هذا الحديث بعيد من وجوه " .
وضعفه الألباني .
وصحح الحديث الشيخ فريح البهلال في كتابه ( تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد ) وقال :
" والحاصل أن حديث : ( لا يؤمن أحدكم حتى ... ) حسن أو صحيح سنداً ومتناً " .
( لا يؤمن أحدكم ) أي لا يحصل له الإيمان الواجب ، ولا يكون من أهله .
( حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) هواه : ما يهواه ، أي تحبه نفسه وتميل إليه ، فإن كان الذي يحبه وتميل إليه نفسه ويعمل بها ، تابعاً لما جاء به الرسول ( لا يخرج عنه إلى ما يخالفه ، فهذه صفة أهل الإيمان المطلق .
وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها ، انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب .
وقد سمى الله الهوى المخالف لما جاء به الرسول ( إلهاً فقال : ? أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ? .
قال ابن رجب : " أما معنى الحديث : أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان ، حتى تكون محبته تابعة لما جاء به رسول الله ( من الأوامر والنواهي وغيرها ، فيحب ما أمر به ويكره ما نهي عنه " .(1/272)
وذم الله سبحانه من كره ما أحبه الله ، أو أحب ما كرهه الله ، كما قال : ? ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ? .
وقال : ? ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله فأحبط أعمالهم ? .
فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه ، أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى بما يرضى به الله ورسوله ، ويسخط لما يُسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض .
وكذلك حب الأشخاص : الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول ( .
فيجب على المؤمن محبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً .
ولذلك كان من علامات وجود حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله .
وقال الشيخ الشعبي : " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد ، عرف أنه لا يأخذ الرشوة ، وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود ، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ، فاتفقا أن يأتيا كاهناً من جهينة فيتحاكما إليه ، فنزلت : ? ألم تر إلى الذين يزعمون ... ? الآية .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
يخبر الشعبي رحمه الله تعالى في هذا الأثر أن رجلاً من المنافقين ورجلاً من اليهود قد حصل بينهم نزاع ، فطلب اليهودي التحاكم إلى رسول الله ( بنزاهته وعدله وابتعاده عن قذارة الرشوة ودناءتها ، أما المنافق فطلب التحاكم إلى اليهود لعلمه أن اليهود يأخذون الرشوة ، وأنه يريد أن يرشوهم فيصل إلى ما يريد بالباطل ، وبعد ذلك اتفقا الطرفان على أن يترافعا إلى كاهن من جهينة ، فأنزل الله فضيحتهم في كتابه الذي ينشر عارهم وخزيهم إلى يوم القيامة .
مناسبة الأثر للباب :
حيث دل الأثر على تحريم التحاكم إلى غير شرع الله .
ما يستفاد من الأثر :
1- معجزة النبي ( ، حيث شهد له عدوه بالنزاهة .
2- تحريم الرشوة .(1/273)
3- من علامات النفاق التحاكم إلى غير شرع الله .
4- من صفات اليهود أخذ الرشوة .
وقيل نزلت في رجلين اختصما ، فقال أحدهما : نترافع إلى النبي ( ، وقال الآخر : إلى كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر ، فذكر له أحدهما القصة ، فقال للذي لم يرض برسول الله ( : أكذلك ؟ قال : نعم ، فضربه بالسيف فقتله . ( هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر ونحوه ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( كعب بن الأشرف ) طاغوت من رؤساء اليهود وعلمائهم .
ذكر بن اسحاق وغيره أنه كان موادعاً للنبي ( في جملة من وادعه من يهود المدينة ، فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش ، وفضّل دين الجاهلية على دين الإسلام ، ثم رجع إلى المدينة فأخذ ينشد الأشعار يهجو بها رسول الله ( ، فقال النبي ( : ( من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ؟ ـ وذكر قصة قتله ـ وقتله محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة ، وأبو عيسى بن جبير ، وعباد بن بشر ـ رضي الله عنهم .
ما يستفاد من الأثر :
1- أن الدعاء إلى التحكيم إلى غير الله ورسوله ( من صفات المنافقين .
2- وفي القصة الغضب لله تعالى والشدة في أمر الله .
3- أن من طعن في أحكام النبي ( أو في شيء من دينه ، قتل كهذا المنافق بل أدنى .
4- جواز تغيير المنكر باليد .
5- أن اليهود يعلمون أن محمداً رسول الله ( ويتحاكمون إليه في كثير من أمورهم .
6- وقد تغيرت الأحوال خصوصاً في هذا الزمان الذي يشبه أزمان الفترات ، فاعتاضوا عن كلام الله ورسوله ( ، وحكم الله ورسوله ، بآراء اليهود والنصارى ، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ، ورضوا بتحكيم آراء الرجال .
الباب الأربعون
من جحد شيئاً من أسماء الله
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي من أسماء الله وصفاته .(1/274)
ولما كان تحقيق التوحيد ، بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله ، والإيمان بأسمائه وصفاته ، نبه المصنف على وجوب الإيمان بذلك .
وقول الله تعالى : ? وهم يكفرون بالرحمن ? الرعد ( 30 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
? يكفرون بالرحمن ? أي يجحدون هذا الاسم لا أنهم يجحدون الله ، فإنهم يقرون به ، كما قال تعالى : ? ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ? .
ولهذا لما قال النبي ( لعلي يوم الحديبية : ( اكتب باسم الله الرحمن الرحيم ، فقالوا : لا نعرف الرحمن الرحيم ) .
قال ابن كثير : " ? وهم يكفرون بالرحمن ? أي لا يقرون به لأنهم يأبون من وصف الله بالرحمن الرحيم " .
مناسبة الآية للترجمة :
أن الله سمى جحود اسم من أسمائه كفر ، فدلّ على أن جحود شيء من أسماء الله وصفاته كفر .
ما يستفاد من الآية :
* أن إنكار شيء من أسماء الله وصفاته كفر .
* إثبات اسم من أسماء الله وهو الرحمن ، ويتضمن صفة الرحمة اللائقة بجلاله .
وفي صحيح البخاري قال عليّ :
( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ) . رواه البخاري في العلم ( 1 / 127 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( بما يعرفون ) أي بما يفهمون .
وفي رواية : ( ودعوا ما تنكرون ) .
مناسبة الأثر للباب :
حيث دلّ الأثر على منع تحديث الناس بما لا تدركه عقولهم ، ومن ذلك التفاصيل والتوسع في أسماء الله وصفاته ، لأن ذلك قد يؤدي إلى إنكارها وهو كفرٌ بها ، وذلك ينافي توحيد الأسماء والصفات .
ما يستفاد من الأثر :
1- في هذا الأثر دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ، ومثله قول ابن مسعود : ( ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . رواه مسلم في مقدمة صحيحه(1/275)
2- وفي الأثر دليل على أنه إذا خشي ضرر من تحديث الناس ببعض ما لا يعرفون ، فلا ينبغي تحديثهم به .
3- أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله ، وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين ، وينزل كل إنسان منزلته.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس :
( أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديث رسول الله ( في الصفات استنكاراً لذلك ، فقال : ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه ) . رواه عبد الرزاق في المصنف ( 20895 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
عبد الرزاق : هو ابن همام الصنعاني ، الإمام الحافظ صاحب التصانيف ، مثل : المصنف وغيره .
مَعْمَر : هو ابن رشد الأزدي ، ابو عروة البصري ، نزل اليمامة ، ثقة ثبت .
ابن طاووس : هو عبد الله بن طاووس اليماني ، ثقة فاضل عابد ، مات سنة 132 ه .
( أنه رأى رجلاً ) لم يسمّ هذا الرجل .
( انتفض ) أي ارتعد لما سمع حديثاً عن النبي ( فاستنكره لكونه اعتقد عدم صحته فأنكره .
( فقال ) أي ابن عباس .
( ما فرق ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون ( ما ) استفهامية انكارية ، و ( فَرَق ) بفتح الفاء والراء ، وهو الخوف والفزع ، أي ما فزع هذا وأضرابه من أحاديث الصفات واستنكارهم لها ؟ والمراد الإنكار عليهم .
فإن الواجب على العبد التسليم والإذعان والإيمان بما صح عن الله ورسوله ( .
الثاني : أن يكون بفتح الفاء وتشديد الراء ، و ( ما ) نافية ، أي ما فرق هذا وأضرابه بين الحق والباطل ولا عرفوا ذلك ، ولهذا قال : ( يجدون رقة ) وهي ضد القسوة ، أي ليناً وميولاً للمحكم ( ويهلكون عند متشابهه ) أي ما يشتبه عليهم فهمه
المحكم : هو الذي اتضح معناه وتبين .
والمتشابه : هو الذي يخفى معناه .
اعلم أن الله وصف القرآن بأنه محكم ، وبأنه متشابه ، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه .(1/276)
فالأول : كقوله تعالى : ? تلك آيات الكتاب الحكيم ? .
والثاني : كقوله : ? الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً ? .
والثالث : كقوله : ? هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ? .
فالإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو تشابه القرآن هو الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى ، والتشابه الذي وصف به جميع القرآن هو تشابه القرآن في الكمال والإتقان ، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام ، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار ، والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو الوضوح والظهور .
ما يستفاد من الحديث :
1- وجوب الإيمان بجميع أسماء الله وصفاته ، وذلك تحقيقاً لتوحيد الأسماء والصفات .
2- وجوب إنكار المنكر .
3- وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته .
4- وجوب الإيمان بالمحكم والمتشابه معاً .
5- جواز ذكر نصوص الأسماء والصفات من الكتاب والسنة عند عوام المسلمين وخواصهم .
ولما سمعت قريش رسول الله ( يذكر الرحمن ، أنكروا ذلك ، فأنزل الله فيهم : ? وهم يكفرون بالرحمن ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
روى ابن جرير عن قتادة : ( ? وهم يكفرون بالرحمن ? ذكر لنا أن رسول الله ( زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، فقال مشركو قريش : لئن كنت رسول الله ، ثم قاتلناك ، لقد ظلمناك ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ، فقال أصحاب رسول الله ( : دعنا يا رسول الله نقاتلهم ، فقال : لا ، ولكن اكتبوا كما يريدون ، إني محمد بن عبد الله ، فلما كتب الكاتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، قالت قريش : أما الرحمن فلا نعرفه ، وكان أهل الجاهلية يكتبون : باسم اللهم ، فقال الصحابة : دعنا يا رسول الله نقاتلهم قال : لا ولكن اكتبوا كما يريدون ، قال تعالى : ? وهم يكفرون بالرحمن ? ) .
( لما سمعت قريش ) هذا من باب العام الذي أريد به الخاص .(1/277)
من الفوائد :
إثبات صفة الرحمن المتضمنة صفة الرحمة .
الباب الواحد والأربعون
قول الله تعالى : ? يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ? . النحل ( 13 )
قال مجاهد : " ما معناه هو قول الرجل : هذا مالي ورثته عن آبائي " .
وقال عون بن عبد الله : " يقولون لولا فلان لم يكن كذا " .
وقال ابن قتيبة : " يقولون هذا بشفاعة آلهتنا " .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها .
وقال ابن جرير : " فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ بالنعمة ، فذكر عن سفيان عن السدي : ? يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ? قال : محمد ( .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله ، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك ، لكنهم منكرون ذلك ، فيزعمون أنهم ورثوهم عن آبائهم .
وأخرج عم مجاهد : ? يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ? قال : هي المساكن والأنعام ، وما يرزقون منها : السرابيل من الحديد والثياب ، تعرف هذا كفار قريش ثم تنكره بأن تقول : هذا كان لآبائنا فورثونا إياه .
وقال آخرون : معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم : من رزقكم ؟ أقروا بالله هو الذي رزقهم ، ثم ينكرون ذلك بقولهم : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا " . أ . ه
واختار بن جرير القول الأول .
والصحيح أن الآية تعم الجميع .
من الفوائد :
1- تحريم إضافة النعمة إلى غير الله ، وأن إضافتها إلى غير الله إنكار لها ، وهو كالأبرص والأقرع الذين ذكّرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكراهما وقالا : إنما ورثناها كابراً عن كابر .
2- كفر إضافة النعمة إلى المخلوقين ، فالمخلوقين لا يملكون نفعاً ولا ضراً ، وغايته أن يكون جزءاً من أجزاء السبب أجرى الله نعمته على يده .
3- أن إضافة النعمة إلى شفاعة الأصنام كفر .(1/278)
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال : ( أصبح عبادي مؤمن بي وكافر ). الحديث ، وقد تقدم .
وهذا كثير في الكتاب والسنة يذُم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به .
قال بعض السلف : هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاّح حاذقاً ، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( وقال أبو العباس ) هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
( كانت الريح طيبة والملاّح حاذقاً ) ومعى ذلك أن السفن إذا جرين بريح طيبة وحذق الملاّح في سياسة السفينة ، ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة ، كما قال تعالى : ? ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيماً ? .
الباب الثاني والأربعون
قول الله تعالى : ? فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
اعلم أن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ ، وإن لم يقصد بها المتكلم معنىً لا يجوز ، بل ربما تجري على لسانه من غير قصد ، كما يجري على لسانه أنواع من الشرك الأصغر لا يقصدها .
? أنداداً ? جمع الند ، وهم المثل .
وهذه الآية في سياق قوله تعالى : ? يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ? .
معنى الآية :
أن الله تعالى نهى الناس أن يجعلوا له أنداداً ، أي أمثالاً في العبادة والطاعة وهم يعلمون أن الذي فعل تلك الأفعال هو ربهم وخالقهم وجاعل الأرض فراشاً والسماء بناءً ، والذي أنزل من السماء ماءً فأخرج به من أنواع الثمرات رزقاً لهم ، فإذا كنتم تعلمون ذلك فلا تجعلوا له أنداداً .(1/279)
قال ابن كثير : " قال أبو العالية : ? فلا تجعلوا لله أنداداً ? أي عدلاء وشركاء ، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي " .
قال ابن عباس في الآية :
( الأنداد : هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان ، لا تجعل فيها فلاناً ، هذا كله به شرك ) . رواه ابن أبي حاتم
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( هذا الشرك أخفى من دبيب ... ) أي أن هذه الأمور من الشرك خفية على الناس ، ولا يكاد ينفطن لها إلا القليل ، وضرب المثل بخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل فإنه خفي ، فكيف إذا كان على صفاة ؟ فكيف إذا كانت سوداء ؟ فكيف إذا كانت في ظلمة الليل ؟ وهذا يدل على شدة خفائه على من يدعي الإسلام وعسير التخلص منه ، ولهذا جاء في حديث أبي موسى قال : خطبنا رسول الله ( ذات يوم فقال : ( أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ، فقيل : وكيف نتقيه وهم أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه ) . رواه أحمد
( دبيب النمل ) مشيه .
( على صفاة ) أي الحجر الأملس .
( وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ) أي أن من الحلف بغير الله الحلف بحياة المخلوق ـ وسيأتي الكلام عليه ـ
( وتقول لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ) أي السرّاق ، والمعنى أن من الشرك نسبة عدم السرقة إلى الكليبة التي إذا رأت السّرّاق نبحتهم فاستيقظ أهلها وهرب السّرّاق .
( ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص ) البطّ : طائر معروف يتخذ في البيوت ، وإذا دخلها غريب صاح واستنكره ، ومعناه كالذي قبله .(1/280)
والواجب نسبة ذلك على الله ، فهو الذي يحفظ عباده ويكلؤهم بالليل والنهار ، كما قال تعالى : ? قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ? .
( قول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ) سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى .
( هذا كله به شرك ) أي بالله شرك .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على وجوب تجنب الشرك الظاهر والخفي ، ومن الخفي قول القائل : لولا الحارس لأتانا اللصوص .
ما يستفاد من الآية :
1- بيان بعض نعم الله على عباده .
2- نفي الند عن الله عز وجل .
قال تعالى : ? فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً ? .
وقال تعالى : ? ولم يكن له كُفُوُاً أحد ? .
وقال تعالى : ? ومن الناس من يتخذ من دون الناس أنداداً يحبونهم كحب الله ? .
3- التحذير من الشرك .
4- أن المشركين مقرين بتوحيد الربوبية .
5- أن الشرك الأصغر خفيٌّ جداً وقل من يتنبه له .
6- وجوب تجنب الألفاظ الشركية ولو لم يقصدها الإنسان بقلبه .
وعن عمر بن الخطاب ( أن رسول الله ( قال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) . رواه الترمذي وحسنه [ الترمذي ( 1535 ) أبو داود ( 3251 ) الحاكم ( 1 / 18 ) وصححه .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن عمر ) الصواب عن ابن عمر .
( من حلف ) الحلف هو اليمين .
قال الجوهري : " سميت اليمين بذلك لأنهم كانوا إذا تخالفوا ضرب كل امرئٍ بيمينه على يمين صاحبه " .
تعريف اليمين شرعاً :
قال الحافظ في الفتح : " توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله ، وهذا أخص التعاريف وأقربها " .
( من حلف بغير الله ) يشمل كل محلوف به سوى الله بالكعبة أو الرسول أو السماء أو غير ذلك .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على أن الإقسام بغير الله شرك .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم الحلف بغير الله ، الأدلة :
1. حديث الباب .(1/281)
2. عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ( أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال : ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) . متفق عليه
قال الحافظ في الفتح : " قوله ( من كان حالفاً ... ) قال العلماء : السر في النهي عن الحلف بغير الله ، أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه ، والعظمة في الحقير هي لله وحده " .
وقال رحمه الله : " الزجر عن الحلف بغير الله وإنما خُص في حديث ابن عمر بالآباء لوروده على سببه المذكور ، أو خُص لكونه غالباً عليه ، لقوله في الرواية الأخرى : ( وكانت قريش تحلف بآبائها ... ) " .
3. عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، قال عمر : فولله ما حلفت بها منذ سمعت النبي ( ذاكراً أو آثراً ) . متفق عليه
قال في الفتح : " ذاكراً : أي عامداً . آثراً : أي حاكياً عن الغير " .
4. عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال : ( لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ، ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون ) . رواه أبو داود
إشكال :
ما هو الجواب عن حديث طلحة بن عبيد الله قال : ( جاء رجل إلى النبي ( من أهل نجد ... قال الرجل : والله لا زيد على هذا ولا أنقص ، قال النبي ( : ( أفلح وأبيه إن صدق ) . رواه مسلم ؟
الجواب : أن قوله ( أفلح وأبيه ) ليس هو حلفاً ، إنما هو كلمة جرت على لسان العرب عادة أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف ، والنهي إنما ورد فيمن قصد الحلف ، لما فيه من إعظام المحلوف به ومظاهاته به سبحانه وتعالى ، فهذا هو الجواب المرضي .
وقيل : يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله .
2- أن التعظيم بالحلف حق لله سبحانه وتعالى فلا يحلف إلا به .
3- أن الحلف بغير الله لا تجب به كفارة ، لأنه لم يذكر فيه كفارة .(1/282)
وقال ابن مسعود : ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ) . أخرجه عبد الرزاق ( 29 / 159 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
يخبر ابن مسعود ( في هذا الأثر أن كلاً من الحلف بالله كاذباً والحلف بغيره صادقاً إثم ، لكن إثم الحلف بالله مع الكذب أخف من إثم الحلف بغير الله وإن كان صادقاً ، لأن الحلف بالله توحيد ، والحلف بغيره شرك ، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك .
مناسبة الأثر للباب :
أنه يدل على تحريم الكذب بغير الله .
ما يستفاد من الأثر :
1- فيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقاً أعظم من اليمين الغموس .
2- وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر .
3- ارتكاب أقل الشرين إذا كان لا بد من أحدهما .
4- إذا كان هذا حال الشرك الأصغر ، فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار ؟ كدعوة غير الله ، والاستعانة به ، والرغبة إليه ، وإنزال حوائجه به .
5- تحريم الحلف بغير الله .
6- دقة فهم ابن مسعود .
7- اليمين بغير الله أشد إثماً من اليمين الغموس .
وعن حذيفة عن النبي ( قال : ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ) . رواه أبو داود ( 4980 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
وسيأتي الكلام على معناه في الباب القادم إن شاء الله تعالى .
قال : ( وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره : أعوذ بالله وبك ، ويجوز أن يقول : بالله ثم بك ، قال : ويقول : لولا الله ثم فلان ، ولا تقولوا : لولا الله وفلان ) . أخرجه ابن أبي الدنيا ( 347 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/283)
دل هذا الأثر على تحريم عطف الاستعاذة بالمخلوق على الاستعاذة بالله بالواو ، لأن الواو تقتضي التشريك بين المتعاطفين ، وذلك يؤدي إلى الشرك .
الباب الثالث والأربعون
ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي من الوعيد ، لأن ذلك يدل على قلة تعظيمه لجناب الربوبية .
عن ابن عمر ( أن رسول الله ( قال : ( لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بالله فليصدق ، ومن حُلِف له بالله فليرضَ ، ومن لم يرضَ فليس من الله ) . رواه ابن ماجه ( 2101 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( لا تحلفوا بآبائكم ) تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموماً .
( من حلف بالله فليصدق ) هذا مما أوجبه الله على عباده وحضهم عليه في كتابه ، فقال تعالى : ? يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ? .
وقال تعالى : ? والصادقين والصادقات ? .
وقال تعالى : ? فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم ? .
( ومن حُلِف له بالله فليرضَ ) أي وجوباً ، كما يدل عليه قوله : ( ومن لم يرضَ فليس من الله ) .
ولفظ ابن ماجه : ( ومن لم يرضَ بالله فليس من الله ) ، وهذا وعيد .
قال ابن كثير : " أي فقد برئ من الله " .
وهذا يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب ، لكن إذا كان الحالف غير ثقة ، فلك أن ترفض الرضا به .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على وجوب رضا من حُلف له بالله ، لأن ذلك تعظيم لله ، وذلك من كمال الوحيد .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم الحلف بغير الله .
2- جواز الحلف بالله إذا كان صادقاً .
3- تحريم الحلف بالله كاذباً .
4- فضيلة الصدق .(1/284)
ولذلك خرّج الإمام أحمد عن شداد بن أوس قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( إذا كنز الناس الذهب والفضة ، فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، وأسألك قلباً سليماً ، وأسألك لساناً صادقاً ، وأسألك من خير ما نعلم ، وأعوذ بك من شرّ ما نعلم ، وأستغفرك لما نعلم ، إنك أنت علاّم الغيوب ) .
5- واللسان الصادق من أعظم المواهب من الله والمنح ، وفي الحديث : ( أعظم الخطايا اللسان الكذوب ) .
وكذلك اللسان الصادق أعظم الحسنات .
وقال ( : ( عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ) . متفق عليه
وقال ( : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ... ) . متفق عليه
وربما يعبر عن صدق اللسان باستقامة المقال كله ، كما في قوله تعالى : ? واجعل لي لسان صدق في الآخِرين ? .
وقوله تعالى : ? وجعلنا لهم لسان صدقٍ علياً ? ، يريد الثناء عليهم بحق .
6- وجوب الرضا على من حُلِف له بالله ، وذلك ما لم يتحقق كذب الحالف .
7- وجوب تعظيم شعائر الله ، قال تعالى : ? ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ? .
ولذلك قال ( : ( رأى عيسى رجلاً يسرق ، فقال : سرقت ؟ قال : كلا والذي لا إله إلا هو ، فقال عيسى : آمنت بالله وكذبت بصري ) . متفق عليه
قال ابن القيم في بدائع الفوائد ( 2 / 209 ) :
"قول النبي ( : ( رأى عيسى رجلاً يسرق .. ) قيل : هو استفهام من المسيح ، لا أنه إخبار ، والمعنى : أسرقت ؟ فلما حلف له صدقه ، ويرد هذا قوله : ( وكذبتُ بصري ) .
وقيل : لما رآه المسيح أخذ المال بصورة السارق ، فقال : سرقت ؟ قال : كلا ، أي ليس بسرقة ، إما لأنه ماله أو له فيه حق أو لأنه أخذه لبقلبه ويعيده .(1/285)
وفي الحديث معنى ثالث ولعله أليق : وهو أن المسيح لعظمة وقار الله في قلبه وجلاله ، ظنّ أن هذا الحالف بوحدانية الله صادقاً ، فحمله إيمانه بالله على تصديقه ، وجوز أن يكون بصره قد كذبه ، وآراه لم ير فقال : ( آمنت بالله وكذبت بصري ) .
الباب الرابع والأربعون
قول ما شاء الله وشئت
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي : ما حكم التكلم بذلك ؟
عن قتيلة أن يهودياً أتى النبي ( فقال : ( إنكم تشركون ، تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون : والكعبة ، فأمرهم النبي ( إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : وربِّ الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت ) . رواه النسائي ( 7 / 6 ) والحاكم ( 4 / 297 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( إنكم تشركون ، تقولون ما شاء الله وشئت ) هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك ، لأن النبي ( أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ شركاً ، ونهى النبي ( عن ذلك وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد عن الشرك ، وهو قول : ما شاء الله وشئت.
العبد وإن كانت له مشيئة ، فمشيئته تابعة لمشيئة الله ، ولا قدرة له على أن يشاء شيئاً ، إلا إذا كان الله قد شاءه ، كما قال تعالى : ? لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ? .
وقول الله تعالى : ? إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً . وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً ? .
( وتقولون : والكعبة ) فيه تحريم الحلف بغير الله ، وقد تقدم .
مناسبة الحديث للباب :
دلَّ الحديث على أن قول : ( ما شاء الله وشئت ) شرك ، والشرك هنا أنه جعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه وهو الله .
ما يستفاد من الحديث :
1- في الحديث قبول الحق ممن جاء به من كان .
2- النهي عن الحلف بالكعبة مع أنها بيت الله التي حِجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة .(1/286)
وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام ، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ، ولا لنبي مرسل ، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه .
3- النهي عن قول : ما شاء الله وشئت .
4- معرفة اليهود بالشرك .
5- أن معرفة الإيمان بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل .
6- إثبات صفة المشيئة لله سبحانه .
7- إثبات صفة المشيئة للمخلوق لكنها تابعة لمشيئة الله .
8- جواز عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الله بِثمّ .
9- مشروعية الرجوع إلى الحق .
10- أنه ينبغي أن يغير الشيء إلى شيء قريب منه .
وله أيضاً عن ابن عباس :
( أن رجلاً قال للنبي ( : ما شاء الله وشئت ، فقال : أجعلتني لله نداً ؟ ما شاء الله وحده ) . رواه النسائي ( 988 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( أن رجلاً قال للنبي ( ) الظاهر أنه قال للنبي ( تعظيماً .
( أجعلتني لله نداً ؟ ) الاستفهام للإنكار ، والند : هو النظير .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على أن قول : ما شاء الله وشئت ، شرك أصغر ، وهو من اتخاذ الند .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن قول : ( ما شاء الله وشئت ) شرك ، لوجود التسوية في العطف بالواو .
2- وفيه بيان أن من سوّى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله نداً لله ، شاء أم أبى .
3- أن الرسول ( ليس له شيء من خصائص الربوبية ، بل يأكل ويشرب ويجوع ويمرض ويعطش كبقية البشر .
ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع ، قال تعالى : ? قل إنما أنا بشر مثلكم ? فهو بشر ، وأكد هذه البشرية بقوله : ? مثلكم ? ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى : ? يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ? .
4- وجوب إنكار المنكر .
5- أن من حسن الدعوة إلى الله أن تذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم .
ولابن ماجه عن الطفيل أخى عائشة لأمها قال :(1/287)
( رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزيرٌ ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ، ثم أتيت النبي ( فأخبرته ، قال : هل أخبرت بها أحداً ؟ قلت : نعم ، قال : فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد : فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده ) . رواه ابن ماجه ( 2118 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن الطفيل أخى عائشة لإمها ) هو الطفيل بن عبد الله بن سجرة ، أخو عائشة لأمها ، صحابي .
( كأني أتيت على نفرٍ من اليهود ) أي رؤيا في المنام ، وفي رواية عن حذيفة : ( أن رجلاً رأى في النوم أنه لقي رجلاً من أهل الكتاب ... ) .
( فقلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزيرٌ ابن الله ) أي نعم القوم أنتم لولا ما انتم عليه من الشرك والمسبة لله بنسبة الولد إليه .
( قالوا : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ) عارضوه بذكر بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر ، فقالوا له هذا الكلام ، أي نعم القوم أنتم لولا ما فيكم من الشرك ، وكذلك جرى له مع النصارى .
( فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ) وفي رواية الطبراني : ( أخبرت بها أناساً .
( فأتيت النبي (فأخبرته ... إنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ) وفي رواية أحمد : ( ... كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها ) .(1/288)
وهذا الحياء ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم ، بل كان ( يكرهها ويستحي أن يذكرها ، لأنه لم يؤمر بإنكارها ، فلما جاء الوحي الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها .
( فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده ) وهذا على سبيل الاستحباب ، وإلا فيجوز أن يقول : ما شاء الله ثم شاء فلان .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على تحريم عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الله بالواو ، لأن الواو تقتضي التشريك بين المتعاطفين ، وذلك يؤدي إلى الشرك بالله .
ما يستفاد من الحديث :
1- هذا الحديث والذي قبله أمرهم ( أن يقولوا : ما شاء الله وحده ، ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص ، وأبعد عن الشرك من أن يقولوا : ثم شاء فلان ، لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه ، بالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص .
2- حسن خلق النبي ( ، وعدم احتجابه عن الناس كالملوك ، بحيث إذا أراد احد الوصول إليه أمكنه ذلك بلا كلفة ولا مشقة .
3- فيه مشروعية حمد الله والثناء عليه في الخطب .
قال ابن القيم " وكان ( يفتتح خطبه كلها بالحمد لله " .
4- وفيه الخطبة للأمور المهمة .
5- مشروعية : ( أما بعد ) في الخطبة .
6- مشروعية التثبت وعدم التسرع في الأمور .
7- الأمر بإفراد الله في المشيئة .
الباب الخامس والأربعون
من سب الدهر فقد آذى الله
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة ، لأن سب الدهر يتضمن الشرك .
وقول الله تعالى :
? وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ? . الجاثية ( 24 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/289)
قال ابن كثير : " يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : ? وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ... ? .
قال ابن جرير : " أي ما حياة إلا حياتنا التي نحن فيها ، ولا حياة سواها ، تكذيباً منهم بالبعث بعد الموت " .
? نموت ونحيا ? قال ابن كثير : " أي يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثَمَّ معاد ولا قيامة " .
وهذا يقوله مشركي العرب المنكرين للمعاد .
? وما يهلكنا إلا الدهر ? قال ابن جرير : " أي ما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر ، إنكاراً منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم " .
? وما لهم بذلك من علم ? قال ابن جرير : " يعني مكن يقين وعلم " .
? إن هم إلا يظنون ? قال ابن كثير : " يتوهمون ويتخيلون ? .
مناسبة الآية للباب :
حيث ذمت الآية من نسب الحوادث إلى الدهر .
ما يستفاد من الآية :
1- ذمت الآية من نسب الحوادث إلى الدهر ، لأنه قد جعل الدهر شريكاً مع الله بفعله .
2- نسبة الخير أو الشر إلى الدهر من صفات الملحدين .
3- إثبات حياة أخرى للإنسان بعد الموت .
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ( قال :
( قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسبُّ الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ) .
وفي رواية : ( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ) . رواه البخاري ( 4826 ) ومسلم ( 2246 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( في الصحيح ) أي في صحيح البخاري .
( يؤذيني ابن آدم ) أي يُلْحِقُ بي الأذى ، فالأذية ثابتة لله ، ولا يلزم من الأذية الضرر ، فالإنسان يتأذى بسماع القبيح ومشاهدته ، ولكنه لا يتضرر .
ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن ، قال تعالى : ? إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً ? .(1/290)
وهذا بخلاف الضرر ، فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه ، كما قال تعالى : ? ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً ? .
فبين سبحانه أن الخلق لا يضرونه ، وقال تعالى في الحديث القدسي : ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ) .
………… رواه مسلم
( يسب الدهر ) فيه أن سب الدهر يؤذي الله ، ومعناه :
قال الشافعي وأبو عبيد وغيرهم من الأئمة : " كانت العرب في جاهليتهم إذا أصابتهم شدة أو بلاء ، قالوا : يا خيبة الدهر فيسندون الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله ، فكأنهم سبوا الله سبحانه وتعالى ، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة " .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يقصد الخبر المحض دون اللوم ، مثل أن يقول : تعبنا من شدة حرّ هذا اليوم ، فهذا جائز .
القسم الثاني : أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل ، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر ، فهذا شرك أكبر ، لأنه اعتقد مع الله خالقاً ، لأنه نسب الحوادث إلى غير الله .
القسم الثالث : أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل ، بل يعتقد أن الله هو الفاعل ، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه ، فهذا محرم ولا يصل إلى درجة الكفر " . أ . ه
قال ابن القيم : " وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة :
الأولى : سبه من ليس أهلاً للسب ، فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله ، منقاد لأمره .
الثانية : أن سبه متضمن للشرك ، فإنما إنما سبه لأنه ينفع ويضر ، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرّ من لا يستحق العطاء .
الثالثة : أن السب مفهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والأرض ، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه " . أ . ه
( أنا الدهر ) أي مدير الدهر ومصرفه ، ولهذا قال في الحديث : ( وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ) .(1/291)
وفي رواية لأحمد : ( بيدي الليل والنهار أُجده وأُبليه وأذهب بالملوك ) .
وبهذا يتبين خطأ ابن حزم رحمه الله في عده الدهر اسم من أسماء الله الحسنى ، وهذا غلط فاحش ، ولو كان كذلك لكان الذين قالوا : ? وما يهلكنا إلا الدهر ? مصيبين .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في القواعد المثلى :
" الدهر ليس من أسماء الله تعالى ، لأنه اسم جامد لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى ، وأما قوله : ( أنا الدهر ) فأفسره بقوله : ( بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ) فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه .
مناسبة الحديث للباب :
حيث أخبر سبحانه أن سب الدهر يؤذيه ، وذلك لأن الذين يسبون الدهر يعتقدون أنه فاعل مع الله ، وذلك شرك في الربوبية .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن ما يجري في هذا الكون من خير وشر فهو بإرادة الله وتدبيره ، بعلم منه سبحانه وتعالى وحكمة لا يشاركه في ذلك غيره ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين ، وحسن الظنّ به سبحانه بحمده والرجوع إليه بالتوبة والإنابة ، كما قال تعالى : ? وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ? وقال تعالى :
? ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ? .
2- أن سب الدهر يؤذي الله .
3- تحريم سب الدهر .
4- نفي الفاعلية عن الدهر .
الباب السادس والأربعون
التسمي بقاضي القضاة ونحوه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي ما حكم التسمي بذلك ؟
( ونحوه ) مثل : ملك الأملاك ، وسلطان السلاطين ، وما أشبه ذلك .
في الصحيح عن أبي هريرة ( عن النبي ( قال :
( إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله ) . رواه البخاري ( 6206 ) ومسلم ( 2143 )
قال سفيان : " مثل : شاهان شاه " .
وفي رواية : ( أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/292)
( إن أخنع ) أي أوضع اسم ، والمراد بالاسم المسمى .
( رجل تسمى ) بصيغة المجهول ، أي يدعى بذلك ويرضى به .
( ملك الأملاك ) الأملاك جمع ملك .
( لا مالك إلا الله ) المالك هو المتصرف .
( أغيظ ) من الغيظ ، وهو مثل الغضب والبغض ، فيكون بغيضاً إلى الله ، مغضوباً عليه .
( وأخبثه ) وهذا يدل على أن هذا خبيث عند الله ، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له ، فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم ، لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم لتعاظمه على خلق الله بنعم الله .
مناسبة الحديث للباب :
حيث منع الحديث التسمي بملك الأملاك ونحوه ، لأن ذلك شرك مع الله في ربوبيته .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم التسمي بملك الأملاك .
لأن هذا اللفظ يصدق على الله تعالى ، فهو ملك الأملاك ، لا ملك أعظم ولا أكبر منه ، مالك الملك ذو الجلال والإكرام ، وكل مُلك يؤتيه الله من يشاء من عباده ، فهو عارية يُسرع ردها إلى المعير ، وهو الله ينزع الملك من ملكه تارة ، وينزع الملك منه تارة ، فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه .
وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له ، بيده القسط يخفضه ويرفعه .
2- أن الذي تسمى بهذا الاسم : ( ملك الأملاك ) قد كذب وفجر وارتقى إلى ما ليس له بأهل ، بل هو حقيق برب العالمين ، فإنه الملك في الحقيقة ، فلهذا كان أذل الناس عند الله يوم القيامة .
3- أن الملك والتدبير والخلق كله لله .
قال تعالى : ? هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ? .
وقال تعالى : ? إن ربك هو الخلاق العليم ? .
وقال تعالى : ? تبارك الذي بيده الملك ? .
وقال تعالى : ? قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله ? .
4- تحريم التسمي بملك الأملاك ، وكل ما دلّ على الغاية في العظمة ، كقاضي القضاة ونحوه .(1/293)
5- قال سفيان الثوري : " شاهان شاه " عند العجم عبارة عن ملك الأملاك .
وإنما مثل سفيان بشاهان شاه لأنه قد كثرت التسمية به في ذلك العصر ، فنبه سفيان بأن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك ، بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد الذم . [ ذكره الحافظ ]
6- التحذير من كل ما فيه تعاظم ، كما أخرج أبو داود ، قال النبي ( : ( من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ) .
الباب السابع والأربعون
احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أسماء الله تعالى الحسنى هي التي أثبتها لنفسه وأثبتها له عبده ورسوله ( ، وآمن بها جميع المؤمنين .
قال تعالى : ? ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون بما كانوا يعملون ? .
وقال تعالى : ? قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعون فله الأسماء الحسنى ? .
وقال تعالى : ?الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ? .
( وتغيير الاسم لأجل ذلك ) أي لأجل احترامها ، وهو تعظيمها ، وذلك من تحقيق التوحيد .
عن أبي الشريح : ( انه كان يكنى أبا الحكم ، فقال له النبي ( : إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكم ، فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضيَ كلا الفريقين ، فقال : ما أحسن هذا ، فمالك من الولد ؟ قلت : شريح ومسلم وعبد الله ، قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح : قال : فأنت أبو شريح ) . رواه أبو داود ( 4955 ) والبخاري في الأدب المفرد ( 811 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( عن أبي شريح ) هو أبو شريح الخزاعي ، أسلم عام الفتح ، له عشرون حديثاً ، واتفقا على حديثين ، وانفرد البخاري بحديث .
( يكنى ) الكنية : ما صُدِّرَ بأب أو أم ونحو ذلك .
قد تكون للمدح كما في الحديث .(1/294)
وقد تكون لمصاحبة الشيء ، كأبي هريرة .
وقد تكون مجرد علم ، كأبي بكر .
( إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكم )
( إن الله هو الحَكَم ) أي الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حُكمه ، وهذه الصفة لا تليق بغير الله ، كما قال تعالى :
? والله يحكم لا معقب لحكمه ? .
( وإليه الحُكم ) أي إليه الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ? إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين ? .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على وجوب تغيير الاسم إذا كان يوهم مشابهة أسماء الله وصفاته .
ما يستفاد من الحديث :
1- قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عندما سئل عن حكم التسمي بأسماء الله الحسنى مثل : الرحمن الرحيم قال :
" يجوز أن يسمي الإنسان بهذه الأسماء بشرط ألا يلاحظ فيها المعنى الذي اشتقت منه ، بأن تكون مجرد علم فقط ، ومن أسماء الصحابة الحكم والحكيم بن حزام ، وأما إذا لوحظ المعنى الذي اشتقت منه هذه الأسماء فإن الظاهر أنه لا يجوز ، لأن النبي ( غير اسم أبا الحكم الذي تكنّى به لكون قومه يتحاكمون إليه ، وقال النبي ( : ( إن الله هو الحكم وإليه الحكم ) ثم كناه بأكبر أولاده شريح ، فقال له : ( أنت أبو شريح ) ذلك أن هذه الكنية التي تكنى بها هذا الرجل لوحظ فيها معنى الاسم فكان مماثلاً لأسماء الله سبحانه وتعالى ، لأن أسماء الله ليست مجرد أعلام ، بل هي من حيث دلالتها على ذات الله سبحانه وتعالى ، وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى الذي تتضمنه " .
…الفتاوى ( 1 / 23 )
( إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ) أي أنا لم أكني نفسي بهذه الكنية ، وإنما كنت أحكم بين قومي فكنوني بها .
2- جواز التحاكم إلى من يصلح للقضاء .
3- الإنكار على من تشبه بأسماء الله ، لأن ذلك شرك مع الله في أسمائه وصفاته .
4- ينبغي لأهل الوعظ والإرشاد والنصح إذا أغلقوا باباً محرماً أن يبينوا للناس المباح .
5- أن الإسلام يمحوا ما قبله .(1/295)
6- يعذر الجاهل بجهله .
7- إثبات إسم من أسماء الله وهو الحكم .
8- تغيير الاسم إلى ما هو أحسن إذا تضمن أمراً لا ينبغي ، فقد غير النبي ( : ( عاصية إلى جميلة ) . رواه مسلم
وقال ( لرجل : ( ما اسمك ؟ قال حزن ، قال : بل أنت سهل ) . رواه البخاري
وغير ( : ( برة إلى زينب ) .
الباب الثامن والأربعون
من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي أنه يكفر بذلك ، لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة وذلك منافٍ للتوحيد .
قال الشيخ سلمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : " ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيء من هذا ، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو كان هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً " أ . ه
وقول الله تعالى : ? ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ? التوبة ( 65 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
يقول تعالى مخاطباً رسوله ( :
? ولئن سألتهم ? أي سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاءً .
? ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ? أي يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب ، وإنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب .
? قل أبالله ? أي بذاته وآياته .
? ورسوله ? المراد هنا محمد ( .
? لا تعتذروا ? المراد بالنهي التيئيس ، أي إنههم عن الاعتذار تيئيساً لهم بقبول اعتذارهم .
? قد كفرتم بعد إيمانكم ? أي بهذا المقال الذي استهزأتم به .
? إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ? قال ابن كثير : " أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين بهذه المقالة الفاجرة .(1/296)
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض - : أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القرّاء ـ فقال له عوف بن مالك : كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال : يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه - وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب - فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ) ما يتلفت إليه وما يزيده عليه. أخرجه ابن جرير في التفسير ( 6912 ) وابن أبي حاتم
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( دخل حديث بعضهم في بعض ) أي أن الحديث مجموع من رواياتهم .
( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ) القراء جمع قارئ ، وهم عند السلف الذين يقرؤون القرآن ويعرفون معانيه .
( أرغب بطوناً ) أي أوسع بطوناً .
( ولا أكذب ألسناً ) أي ولا أكذب قولاً .
( ولا أجبن عند اللقاء ) الجبن هو : خور في النفس يمنع المرء من الإقدام على ما يكره ، فهو خلق نفسي ذميم ، ولهذا كان النبي ( يستعيذ منه .
( متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله ( ) بنسعة : هو الحزام الذي يربط به الجمل .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلت الآية على كفر من استهزأ بالله وآياته أو برسوله .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن الاستهزاء بالدين وأهله كفر .(1/297)
2- أن الاستهزاء صفة من صفات الكافرين ، قال تعالى : ? زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة ... ? .
3- أن الاستهزاء صفة من صفات المنافقين ، قال تعالى : ? أن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مرّوا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ... ? .
وقال تعالى : ? وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ? .
4- ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم وعدم الخروج منها ، فعندما ينادي أهل النار قائلين : ? ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ? .
يقول تعالى جواباً عنهم : ? قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون . إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين . فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ? .
يقول القرطبي عن هذه الآية : " أي أشغلتكم بالاستهزاء عن ذكري : ? وكنتم منهم تضحكون ? استهزاءً بهم ، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره ، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم ... ونستفيد أن المنافقين أكذب الناس .
هذا التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين ، والاحتقار لهم ، والإزراء عليهم ، والاشتغال بهم فيما لا يعني ، وأن ذلك مبعد عن الله عز وجل " أ . ه
5- أنه يجب على كل مسلم أن لا يجالس المستهزئين بدين الله لئلا يكون منهم ، قال تعالى : ? وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا ً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ? .
6- بيان علم الله بما يكون ، لقوله تعالى : ? ولئن سألتهم ? .(1/298)
7- أن أعظم الكفر الاستهزاء بالله وآياته ورسله .
8- قوله : ? أبالله ... لا تعتذروا ? أي فليس لكم عذر ، لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله وتعظيماً لآياته وتصديقاً وتوقيراً ، والخائض واللاعب منتقض لها .
9- أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها .
10- المبادرة بالإنكار والشدة على المنافقين .
11- جواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه .
12- أن المنافقين أكذب الناس .
قال تعالى : ? والله يشهد إنهم لكاذبون ? .
وقال رسول الله ( : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، ... ) . متفق عليه
13- عدم قبول عذر المبطلين .
14- وجوب التشدد في ردع المستهزئين بالدين .
الباب التاسع والأربعون
قول الله تعالى : ? ولئن أذقناه رحمة منّا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال الشيخ السعدي : " مقصود هذه الترجمة أن كل من زعم أن ما أوتيه من النعم والرزق فهو بكده وحذقه وفطنته ، أو أنه مستحق لذلك لما يظن له على الله من الحق ، فإن هذا منافي للتوحيد ، لأن المؤمن حقاً من يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة ، ويثني على الله بها ، ويضيفها إلى فضله وإحسانه ، ويستعين بها على طاعته ، ولا يرى له حقاً على الله ، إنما الحق كله لله " .
? ولئن أذقناه رحمة منّا ... ?
قال مجاهد : " هذا بعملي وأنا محقوق به " .
وقال آخرون : " على علم من الله أني له أهل " .
قال ابن كثير في معنى قوله تعالى : ? ثم إذا خولناه نعمة منّا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ? :
" يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله وينيب إليه ويدعوه ، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى وقال : ? إنما أوتيته على علم ? أي لما يعلم الله استحقاقي له ، ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا " .(1/299)
? بل هي فتنة ? أي ليس الأمر كما زعم ، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه ، أطيع أم يعصي .
? بل هي فتنة ? أي اختبار .
? ولكن أكثرهم لا يعلمون ? فلهذا يقولون ما يقولون .
? قد قالها الذين من قبلهم ? أي هذه المقالة ، وزعم هذا الزعم ، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم .
? فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ? أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون ، كما قال تعالى مخبراً عن قارون : ? ... إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين .... قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ... ? .
ما يستفاد من الآية :
1- وجوب شكر نعمة الله والاعتراف بأنها منه وحده .
2- تحريم العجب والاغترار بالحول والقوة .
3- وجوب الإيمان بقيام الساعة .
4- وجوب الخوف من عذاب الله في الآخرة .
5- وعيد من كفر بنعمة الله .(1/300)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ، وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال : فمسحه ، فذهب عنه قذره ، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو البقر ـ شك إسحاق ـ فأعطي ناقة عشراء ، وقال : بارك الله لك فيها . قال: فأتى الأقرع ، فقال أي شيء أحب إليك قال : شعر حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه ، فذهب عنه ، وأعطي شعراً حسناً ، فقال : أي المال أحب إليك ؟ قال : البقر، أو الإبل ، فأعطي بقرة حاملاً ، قال : بارك الله لك فيها . فأتى الأعمى ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس ، فمسحه ، فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطي شاة والداً ؛ فأنتج هذان وولد هذا ، فكان لهذا وادٍ من الإبل ، ولهذا وادٍ من البقر ، ولهذا وادٍ من الغنم ، قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته . فقال : رجل مسكين ، قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ، والمال ، بعيراً أتبلغ به في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة . فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً ، فأعطاك الله عز وجل المال ؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت . قال : وأتى الأقرع في صورته ، فقال له مثل ما قال لهذا ، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا ، فقال : إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت . وأتى الأعمى في صورته ، فقال : رجل مسكين وابن سبيل ، قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك . أسألك بالذي ردّ عليك(1/301)
بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته ل له. فقال : أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك ، وسخط على صاحبيك ) . أخرجاه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( بني إسرائيل ) هم أولاد يعقوب بن إسحاق .
( أبرص ) في جلده بياض ، والبرص داءٌ معروف .
( أقرع ) من ليس على رأسه شعر .
( الناقة العشراء ) بضم العين وفتح الشين ، وهي الحامل .
ما يستفاد من الحديث :
1- هذا الحديث عظيم وفيه معتبر :
فإن الأَوَلَين جحدا نعمة الله ، فما أقرا لله بنعمه ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها ، ولا أديا حق الله فيهما بنعمه فحل عليهما السخط .
وأما الأعمى فاعترف بنعم الله ونسبها إلى من أنعم عليه بها ، وأدى حق الله فيها ، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها ، وهي :
الإقرار بالنعمة ، ونسبتها إلى المنعم ، وبذلها فيما يجب .
2- أن الرسول ( يقص علينا أنباء بني إسرائيل لأجل الاعتبار والاتعاظ .
3- إثبات معجزة النبي ( .
4- نسبة النعمة إلى غير الله كفرٌ بها وسبب لزوالها .
5- بيان قدرة الله بإبراء الأبرص والأقرع والأعمى .
6- قدرة الملائكة على التشكل بصورة البشر .
7- أن الملائكة أجسام وليسوا أرواح أو معاني .
8- فضل الصدقة والحث على الرفق بالضعفاء وإكرامهم .
9- من أقبح الصفات البخل ، فإنه حمل الشخصين على نسيان نعمة الله عليهما وجحدها .
10- أن البخل والكذب موجبان لغضب الله وسخطه .
11- الصدق والكرم من الصفات الحميدة .
12- أن بركة الله لا نهاية لها ز
13- بيان أن شكر كل نعمة بحسبها .
14- أن الابتلاء قد يكون عاماً وظاهراً .
15- فضيلة الورع والزهد .
16- ثبوت الإرث في الأمم السابقة .
17- إثبات صفة الرضا لله .
18- إثبات صفة السخط لله .(1/302)
الباب الخمسون
? فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما ?
قال ابن حزم : ( اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " مقصود الترجمة : أن من أنعم الله عليهم بالأولاد ، وكمّل الله النعمة بهم ، بأن جعلهم صالحين في أبدانهم ، وتمام ذلك أن يصلحوا في دينهم ، فعليهم أن يشكروا الله على إنعامه ، وأن لا يعبدوا أولادهم لغير الله ، أو يضيفوا النعم لغير الله ، فإن ذلك كفران للنعم منافٍ للتوحيد " .
وهذا الباب شبيه بباب : [ يعرفون نعمة الله ... ] وباب : [ ولا تجعلوا لله أنداداً ... ] وباب : [ ولئن أذقناه رحمة ... ] .
فهذه أربعة أبواب متشابهة ، إلا أن هذا الباب في نعمة خاصة وهي نعمة الولد ، والأبواب التي سبقت في النعم على وجه العموم .
وقد اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية :
القول الأول : أن قوله : ? فلما آتاهما ? الضمير يعود على الجنس ، أي الذكر والأنثى ، وهذا ما اختاره ابن القيم وابن كثير . ويكون معنى الآية :
يخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق الناس من أصل واحد وشخص واحد ، وأنه خلق منه زوجه ليسكن إليها ، ويطمئن إلى عشرتها ، وأنه خلق فيهما حب الجماع وأباحه لهما ، وذلك ليكمل لهما الاستقرار ، ويستمر نسلهما ، فلما حملت وحان وقت الولادة ، سألا ربهما أن يرزقهما بشراً سوياً ، لتقر به أعينهما ، وتزيل وحشتهما ، فلما اسجاب الله دعوتهما وأعطاهما ما سألا ، سمياه عبد الحارث ، فأشركوا مع الله غيره ، فتعالى الله عما يشركون .
القول الثاني : أن الضمير في قوله : ? آتاهما ? عائد على آدم وحواء . ويكون معنى الآية :(1/303)
يخبر تعالى عن مبدأ الجنس الإنساني ، وما فيه لله من عجائب القدرة ، فأوجد هذا الجنس على كثرته واختلاف أنواعه من نفس واحدة ، وهو آدم ( ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها ـ أي وطئها ـ وحملت حملاً خفيفاً وذلك الحمل لا تجد المرأة له ألماً ، ? فمرت به ? أي تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء ، ? فلما أثقلت ? أي صارت ذات ثقل بحملها ، ? دعوا الله ربهما ? أي آدم وحواء عليهما السلام دعوا الله ، ? لئن آتيتنا صالحاً ? بشراً سوياً ، ? لنكونن من الشاكرين ? أي لنشكرك على ذلك ، ? فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء ? أي لله شركاء فيما آتاهما ، أي لم يقوما بشكر ذلك على الوجه المرضي كما وعدا بذلك ، أي جعلا لي فيه شركاء فيما أعطيتهما من الولد الصالح والبشر السوي ، بأن سمياه عبد الحارث ، فإن من تمام الشكر أن لا يعبّد الاسم إلا لله .
ورجح هذا القول ـ أن القصة في آدم وحواء ـ الشارح سلمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، وقالوا : هذا إشراك طاعة لا إشراك عبادة ، لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث ، لا أنهما عبداه .
( اتفقوا ) قال الشارح : أجمعوا .
مثل : عبد الحسين ، عبد عمر ، عبد المطلب ، عبد الرسول ، عبد علي .
أما عبد المطلب فموضع خلاف :
فقال بعضهم : يجوز ، لقول النبي ( :
( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) .
وقال بعضهم : لا يجوز ، وهذا القول هو الصحيح .
وأما قول النبي ( فهذا إخبار وليس إنشاء .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على أن التعبد لغير الله في الأسماء شرك .
ما يستفاد من الآية :
1- أن بعض الناس إذا آتاه الله ولداً يشرك فيما آتاه الله ، والإشراك في نعمة الولد أربعة أقسام :
1. أن ينسب نعمة الولد إلى غير الله إيجاداً وخلقاً ، وهذا كفر .
2. أن يضيف سلامته إلى الطبيب ، وهذا من الإشراك .
3. أن يقدم محبة الولد على وحبة الله ، فيشرك بالله من أجل الولد .(1/304)
4. أن يعبد الولد لغير الله في التسمية .
2- تحريم التسمية بكل اسم معبد لغير الله ، كعبد الحسين ، وعبد الرسول ، وعبد الكعبة .
3- أن الشرك يقع في مجرد التسمية ولو لم تقصد حقيقتها .
4- أن هبة الله للرجل الولد السويّ من النعم التي تستحق الشكر .
5- أن من شكر إنعام الله بالولد تعبيده لله .
الباب الواحد والخمسون
قول الله تعالى : ? ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ?
وذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : ? يلحدون في أسمائه ? يشركون .
وعنه : سمّوا اللات من الإله ، والعزى من العزيز .
وعن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
سبق الحديث في مباحث الأسماء الحسنى .
واعلم أن الله وصف أسماءه بالحسنى في أربع آيات من القرآن الكريم ، وهي :
1. ? ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه ? .
2. ? قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعون فله الأسماء الحسنى ? .
3. ? الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ? .
4. هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ? .
( الحسنى ) الحسنى تأنيث الأحسن ، كالكبرى والصغرى تأنيث الأكبر والأصغر .
وفي وصف الأسماء بالحسنى وجوه :
1. أن أسماءه سبحانه دالة على صفات كمال عظيمة ، وبذلك كانت حسنى .
2. ما وعد عليها من الثواب بدخول الجنة لمن أحصاها .
3. أن حسنها شرف العلم بها ، فإن شرف العلم بشرف المعلوم ، والبارئ أشرف المعلومات ، فالعلم بأسمائه أشرف العلوم .
الإلحاد في أسماء الله :
الإلحاد في اللغة : هو الزيغ والميل والذهاب عن سنن الصواب .
والإلحاد في أسماء الله سبحانه أنواع .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في القواعد المثلى :
" الإلحاد في أسماء الله هو الميل بها عما يجب فيها ، وهو أنواع :(1/305)
الأول : أن ينكر شيئاً منها ، أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام ، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم .
الثاني : أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين ، كما فعل أهل التشبيه .
الثالث : أن يسمِّي الله تعالى بما لم يسمِّ به نفسه ، كتسمية النصارى له الأب ، وتسمية الفلاسفة له العلة الفاعلة ، وذلك لأن أسماء الله توقيفية .
الرابع : أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام ، كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز ، واشتقاق اللات من الإله على أحد القولين .
والإلحاد بجميع أنواعه محرم ، لأن الله تعالى هدد الملحدين بقوله : ? وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ? ومنه ما يكون شركاً أو كفراً حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية .
ما يستفاد من الآية :
1- إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل على ما يليق بجلاله .
2- أن أسماء الله حسنى .
3- الأمر بدعاء الله والتوسل إليه بأسمائه .
4- تحريم الإلحاد في أسماء الله بنفيها أو تأويلها أو إطلاقها على بعض المخلوقات .
5- الأمر بالإعراض عن الجاهلين والملحدين وإسقاطهم من الاعتبار .
6- الوعيد الشديد لمن ألحد في أسماء الله وصفاته .
الباب الثاني والخمسون
لا يقال السلام على الله
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
لما كان حقيقة لفظ السلام : السلامة والبراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب ، فإذا قال المسلم : السلام عليكم فهو دعاء للمسلم عليه ، وطلب له أن يسلم من الشر كله ، والله هو المطلوب منه لا المطلوب له ، وهو المدعو لا المدعو له ، وهو الغني ، له ما في السموات وما في الأرض ، استحال أ، يسلم عليه سبحانه وتعالى ، بل هو المسلّم على عباده ، كما قال تعالى : ? قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ? .(1/306)
في الصحيح عن ابن مسعود ( قال : ( كنّا إذا كنّا مع النبي ( في الصلاة قلنا : السلام على الله من عباده ، السلام على فلان وفلان ، فقال النبي ( : لا تقولوا السلام على الله ، فإن الله هو السلام ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
السلام له عدة معان :
1. التحية : كما يقال : سلَّم على فلان ، أي حيَّاه بالسلام .
2. السلامة من النقص والآفات ، كقولنا : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) .
3. السلام ، اسم من أسماء الله عز وجل ، قال تعالى : ? الملك القدوس السلام ... ? .
( في الصحيح ) أي في الصحيحين .
( قلنا السلام على الله ) يقولون ذلك في التشهد الأخير ، كما هو مصرح به في بعض ألفاظ الحديث : ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد : السلام على الله ، فقال النبي ( : إن الله هو السلام ، ولكن قولوا : التحيات ... ) .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه النهي عن أن يقال : السلام على الله .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم قول : السلام على الله ، وأن ذلك ينافي كمال التوحيد الواجب لسببين :
السبب الأول : لأنه يوهم نقص الله ، لأن فيه عيباً .
السبب الثاني : لأنه خلاف الحقيقة ، فالله يدعى ولا يدعى له ، فلا يدعى له بالسلام لأنه هو السلام .
2- أنكر ( التسليم على الله ، وأخبر أنه عكس ما يجب له سبحانه ، فإن كل سلام ورحمة له ومنه فهو مالكها ومعطيها ، وهو السلام .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " فهو تعالى السلام السالم من كل عيب ونقص ، وعن مماثلة أحد من خلقه له ، وهو المسلِّم لعباده من الآفات والبليات ، فالعباد لن يبلغوا ضره فيضروه ، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه ، بل هم الفقراء إليه ، المحتاجون إليه في جميع أحوالهم ، وهو الغني الحميد " .
3- إذا منع الإسلام عن شيء أرشد إلى ما يغني عنه ، ولذلك قال لهم : ( قولوا : التحيات لله ... ) .
4- أن السلام من أسماء الله .(1/307)
5- أن أسماء الله كلها حسنى بالغة الحسن .
6- أن الرب سبحانه وتعالى يتصف بصفات الكمال .
7- جواز السلام على الملائكة ، لأن النبي ( لم ينه عنه .
8- بيان سمو الشريعة الإسلامية ، وأن أوامرها ونواهيها مقرونة بالحكم .
الباب الثالث والخمسون
قول : اللهم اغفر لي إن شئت
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
لما كان العبد لا غنى له عن رحمة الله ومغفرته طرفة عين ، بل فقير بالذات إلى الغني بالذات ، قال تعالى : ? يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ? .
نُهِيَ عن قول ذلك لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة الله ورحمته ، وذلك مضاد للتوحيد .
في الصحيح عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال : ( لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ) . رواه البخاري ( 6339 ) ومسلم ( 2679 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( لا يقل ) لا : ناهية ، والنهي يقتضي التحريم .
( اللهم ) بمعنى : يا الله ، لكن لكثرة الاستعمال حذفت الياء وعوض عنها بالميم .
( اللهم اغفر لي إن شئت ) قال القرطبي : " إنما ينهى الرسول ( عن هذا القول لأنه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب ، وكأن هذا القول يتضمن : أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه ، ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حالة الافتقار والإصرار الذي هو روح عبادة الدعاء ، وأيضاً فإنه لا يكون مؤمناً بالإجابة ، وقد قال ( : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ) " . أ . ه
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " والمحظور في هذا التعليق من وجوه ثلاثة :
الأول : أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء ، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه .
الثاني : أن قول القائل إن شئت ، كأنه يرى أن هذا أمرٌ عظيمٌ على الله ، فقد لا يشاؤه .(1/308)
الثالث : أنه يشعر أن الطالب مستغنٍ عن الله " . أ . ه
( ليعزم المسألة ) قال القرطبي : " أغي يجزم في طلبته ، ويحقق رغبته فيتيقن الإجابة ، فإذا فعل ذلك دلّ على أنه مفتقر إلى ما يطلب مضطر إليه ، وقد وعد الله المضطر بالإجابة بقوله تعالى : ? أمن يجيب المضطر إذا دعاه ? " . أ . ه
( وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ) بخلاف العبد ، فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه أو لخوفه منه أو رجائه ، فيعطيه مسألته وهو كاره .
فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول ، مخافة أن يعطيه وهو كاره .
بخلاف رب العالمين تعالى ، فإنه لا يليق به ذلك ، لكمال غناه عن جميع خلقه ، وكمال جوده وكرمه ، وكلهم فقير إليه ، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين ، وفي الحديث : ( يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ) .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه النهي عن تعليق طلب المغفرة من الله بالمشيئة ، وبيان علة ذلك .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم تعليق الدعاء بالمشيئة ، لأن ذلك يُشعِر بضعف الافتقار إلى الله وذلك منافٍ للتوحيد .
2- أن تعليق الدعاء بالمشيئة عام ، في الأمور الدينية أو الدنيوية ، فلا يجوز أن تقول : اللهم نجحني إن شئت .
3- أنه في باب الخبر المحض الذي يقصد به التصديق أو التكذيب المبني على سؤال ، فهذا يجوز تعليقه بالمشيئة ، بل أحياناً يجب ، قال تعالى : ? ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ... ? .
ومثل حديث المقابر : ( ... وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) .
الباب الرابع والخمسون
لا يقول : عبدي وأمتي
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي لما في ذلك من الإيهام من المشاركة في الربوبية ، فنهي عن ذلك أدباً مع جناب التوحيد ، وحماية لجناب التوحيد .(1/309)
في الصحيح عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال : ( لا يقل أحدكم أطعم ربك ، وضئ ربك ، وليقل سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي ، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( في الصحيح ) أي في الصحيحين .
( لا يقل أحدكم ) لا : ناهية .
وهذا الخطاب موجه لسيد العبد المملوك .
والقول هنا النطق باللسان ، أي لا يقل بلسانه نطقاً .
( أطعم ربك ) أطعم من الطعام ، وهو يشمل الطعام والشراب ، فالشراب يطلق عليه طعام ، كما قال تعالى : ? ومن لم يطعمه فإنه مني ? .
إضافة الرب تنقسم إلى أقسام :
1. أن تكون مضافة إلى ضمير المخاطب ، مثل : أطعم ربك ، وضئ ربك ، فيكون لهذا محذورين :
الأول : من جهة الصيغة ، لأنه معنى فاسد بالنسبة لكلمة رب ، لأن الرب من أسمائه سبحانه ، وهو سبحانه يُطعِم ولا يُطعَم .
الثاني : من جهة المعنى أنه يشعر العبد بالذل ، لأنه إذا كان السيد رباً كان العبد أو الأمة مربوباً .
2. أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب ، فهذا لا بأس به ، كقوله في حديث أشراط الساعة : ( أن تلد الأمة ربها ) .
………………………………… متفق عليه
( وليقل سيدي ومولاي ) من المنتظر في الحديث أن يقال : أطعم سيدك ، أو وضئ سيدك ، لكن التفت الخطاب إلى المملوك .
والسيادة في الأصل الشرف ، لأنها من السؤدد والشرف والجاه ، وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم وليس السيد على وجه الإطلاق .
فالسيد على وجه الإطلاق لا تكون إلا لله عز وجل ، لقوله ( : ( السيد الله ) .رواه أبو داود
وأما السيد مضافة فإنها تكون لغير الله ، قال تعالى : ? وألفيا سيدها لدى الباب ? .
وقال ( : ( قوموا إلى سيدكم ) .
وقال ( : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ) .
يجوز إن كان للحر سيادة أن يقال له يا سيدي .
لكن يستثنى من ذلك الكافر والمنافق فلا يجوز أن يقال له يا سيدي ، وهذا تخصيص من عموم الجواز ، لقوله ( :(1/310)
( إذا قلتم للمنافق : يا سيدي ، فقد أسخطتم ربكم ) .
اشتهر عند الناس إطلاق السيدة على المرأة .
فيقولون مثلاً : هذا خاص بالرجال ، وهذا خاص بالسيدات ، وهذا قلب للحقائق ، لأن السادة هم الرجال ، قال تعالى :
? وألفيا سيدها لدى الباب ? ، وقال تعالى : ? الرجال قوامون على النساء ? وقال رسول الله ( : ( إن النساء عوان عندكم ) أي بمنزلة الأسير .
( ومولاي ) أي ليقل مولاي .
والمولى تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ولاية مطلقة ، وهذه لله عز وجل ، كالسيادة المطلقة ، وهي نوعان :
1. عامة ، وهي شاملة لكل أحد ، قال تعالى : ? ثم ردّوا على الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ? .
2. خاصة بالمؤمنين ، قال تعالى : ? ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ? .
القسم الثاني : ولاية مقيدة مضافة ، فهذه تكون لغير الله ، ومن معانيها الناصر ، المتولي للأمور والمعتق والسيد ، قال رسول الله ( : ( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) . متفق عليه
( ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي ) هذا الخطاب للسيد ، فلا يقول : عبدي وأمتي ، لأن العبيد عبيد الله ، والإماء إماء الله ، قال تعالى : ? إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً ? .
ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ ، فنهاهم عن ذلك تعظيماً لله تعالى ، وأدباً وإبعاداً عن الشرك ، وتحقيقاً للتوحيد .
وأما عند الإخبار فيجوز أن يقول : عبدي ، أو يقول : هذا عبدٌ لي من يشتريه ، فهذا جائز .
قال الشيخ السعدي رحمه الله مبيناً أن النهي على وجه الاستحباب : " وهذا على وجه الاستحباب أن يعدل العبد عن قول عبدي وأمتي إلى فتاي وفتاتي ، تحفظاً عن اللفظ الذي فيه إيهام ومحذور ولو على وجه بعيد ، وليس حراماً ، وإنما الأدب كمال التحفظ بالألفاظ الطيبة التي لا توهم محذوراً بوجه ، فإن الأدب في الألفاظ دليل على كمال الإخلاص ، خصوصاً هذه الألفاظ التي هي أمس بهذا المقام " .(1/311)
( وليقل : فتاي وفتاتي ) هذا هو البديل عن قول : عبدي وأمتي ، فالرسول ( منع شيئاً وجعل له بديلاً .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه النهي عن قول : عبدي وأمتي .
ما يستفاد من الحديث :
1- حماية المصطفى ( جناب التوحيد ، فقد بلغ أمته كل ما فيه نفع ، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين ، فلا خير إلا دلهم عليه ، خصوصاً في تحقيق التوحيد ، ولا شراً إلا حذرهم منه .
2- النهي عن استعمال الألفاظ التي توهم الشرك .
3- سد الطرق الموصلة إلى الشرك .
4- ذكر البديل الذي لا محذور فيه ، لِيُستعملَ مكان ما فيه محذور من الألفاظ .
الباب الخامس والخمسون
لا يرد من سأل بالله
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي إعظاماً وإجلالاً لله تعالى أن يسأل به في شيء ولا يجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه ، فيكون هذا الباب داخلاً في باب تعظيم الله حق التعظيم .
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ( : ( من سأل بالله فأعطوه ، ومن استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه ) .
………………………… رواه أبو داود ( 1672 ) والنسائي ( 5 / 82 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( من سأل الله فأعطوه ) قبل الشرح ينبغي حكم ابتداء السؤال ، وهو ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن يسألك علماً .
فهو واجب في الواجبات والمحرمات ، ومستحب إن سأل عن المسنونات .
القسم الثاني : أن يسأل مالاً .
فهذا الأصل فيه التحريم .
قال ( : ( لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم ) . متفق عليه
وقال ( : ( من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر ) . رواه مسلم
لكن إذا اضطر الإنسان فيجوز أن يسأل .(1/312)
( من سأل بالله فأعطوه ) وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود : ( من سألكم بوجه الله فأعطوه ) ومعناه : أن يقول : أسألك بالله ، أو بوجه الله ، أو نحو ذلك أن تعطيني كذا .
وظاهر الحديث وجوب إعطائه ما سأل ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم ، وقد جاء الوعيد على ذلك في عدة أحاديث ، منها : حديث ابن عباس مرفوعاً : ( ألا أخبركم بشر الناس ؟ رجل يُسألُ بالله ولا يعطي ) . رواه الترمذي وحسنه
إذا تبين هذا فهذه الأحاديث دالة على إجابة من سأل بالله أأقسم به ، ولكن المسألة تحتاج إلى تفصيل :
1. أن يسألك بالصيغة ما يجب له ، وهذا تجب إجابته بدون الصيغة ومع الصيغة أشد ، وعدم الإجابة محرم وينافي تعظيم الله .
مثال : أن تقول زوجتك ، أسألك بالله النفقة الواجبة عليك .
مثال آخر : إنسان يطلبك حقاً من ثمن مبيع أو قرض أقرضك إياه ، فطلبك وقال : أسألك بالله حقي .
2. أن يسأل إثماً ، مثل أن يقول : أسألك بالله نقوداً ليشتري بها محرماً كالخمر ، فهذا لا يجاب .
( من استعاذ بالله فأعيذوه ) أي من سألكم أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم بالله ، كقوله : بالله عليك أن تدفع عني شرّ فلان أو شرك .
( فأعيذوه ) أي امنعوه مما استعاذ منه وكفّوه عنه ، لتعظيم اسم الله .
ولهذا قالت الجونية للنبي ( لما أدخلت عليه : ( أعوذ بالله منك ، قال : لقد عذت بعظيم ، إلحقي بأهلك ) . رواه البخاري
فمن استعاذ فيجب إعاذته .
لكن لو استعاذ لكي لا يقام عليه الحد حرم إعاذته ، لحديث علي عند مسلم : ( لعن الله من آوى محدثاً ) .
( ومن دعاكم فأجيبوه ) من : شرطية للعموم .
وظاهر الحديث : إجابة الدعوة في كل دعوة ، وهو مذهب الظاهرية ، وجمهور أهل العلم أنها مستحبة إلا في دعوة العرس فإنها واجبة ، لقول النبي ( : ( شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها ، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله ) . متفق عليه
ولإجابة الدعوة يشترط شروط ذكرها الفقهاء .(1/313)
( ومن صنع إليكم معروفاً ) المعروف : اسم جامع للخير .
( فكافئوه ) أي إحسانه بمثل أو خير منه .
وللمكافئة فائدتان :
الأولى : تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف .
الثانية : أن يسأل يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه .
( فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له ) يعني من أحسن إليكم أي إحسان فكافئوه بمثله ، فإن لم تقدروا فبالغوا في الثناء والدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة ، وقد روى الترمذي وصححه عن أسامة بن زيد مرفوعاً : ( من صنع إليكم معروفاً ، فقال لفاعله : جزاك الله خيراً ، فقد أبلغ في الثناء ) .
ما يستفاد من الحديث :
1- أنه لا يرد من سأل بالله إجلالاً لله وتعظيماً .
2- أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته ودفع الشر عنه .
3- مشروعية إجابة دعوة المسلم لوليمة أو غيرها .
4- مشروعية مكافأة المحسن عند القدرة .
5- مشروعية الدعاء للمحسن عند العجز عن مكافأته .
الباب السادس والخمسون
لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي إعظاماً وإجلالاً لوجه الله ، أن يُسأل به إلا غاية المطالب ، وهذا من معاني قوله تعالى :
? ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام ? .
قال الشيخ ابن قاسم : " أي لا يجوز ذلك إجلالاً لله وإكراماً وإعظاماً له أن يسأل بوجهه العظيم ما هو حقير لديه من حوائج الدنيا ، ما لم يرد به غاية المطالب وهي الجنة ، أو الإعانة على أعمال الآخرة الموصلة إلى الجنة " .
عن جابر ( قال : قال رسول الله ( : ( لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة ) . رواه أبو داود ( 1671 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة ) اختلف في المراد بذلك :
على قولين :(1/314)
القول الأول : أنك إذا سألت الله ، فإذا سألت الجنة وما يستلزم دخولها ، فلا حرج أن تسأل بوجه الله ، وإن سألت شيئاً من أمور الدنيا فلا تسأل بوجه الله ، فإن وجه الله أعظم من أن يسأل به لشيء من أمور الدنيا .
كأن تقول : اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة .
القول الثاني : قيل المراد : لا تسألوا من الناس شيئاً بوجه الله .
كأن تقول : أعطني شيئاً بوجه الله ، فإن الله أعظم من أن يسأل به شيء من الحطام .
قال الشيخ سلمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : "قلت : والظاهر أن كر المعنيين صحيح " .
قال الحافظ العراقي : " وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص ، فلا يسأل بوجهه في الأمور الدنيئة بخلاف الأمور العظيمة تحصيلاً أو دفعاً " .
قال الشيخ سلمان بن عبد الله : " والظاهر أن المراد لا يسأل بوجه إلا الجنة أو ما هو وسيلة إليها ، كالاستعاذة بوجه الله من غضبه ومن النار ونحو ذلك مما هو وارد في أدعيته ( وتعوذاته ، ولما نزل قول الله تعالى : ? قل إن الله قادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ? قال النبي ( : ( أعوذ بوجهك ) ? أو من تحت أرجلكم ? قال النبي ( : ( أعوذ بوجهك ) . رواه البخاري
ما يستفاد من الحديث :
1- فيه إثبات الوجه خلافاً للجهمية ونحوهم . قال تعالى : ? ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ? .
2- وجوب تعظيم الله واحترام أسمائه وصفاته .
3- جواز سؤال الجنة ـ والأمور الموصلة إليها ـ بوجه الله ، والمنع من أن يسأل به شيء من حوائج الدنيا .
الباب السابع والخمسون
ما جاء في اللو
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي من الوعيد عنه عند الأمور المكروهة ، كالمصائب إذا جرى بها القدر .
فمن كمال التوحيد الاستسلام للقضاء والقدر ، رضاً بالله رباً ، فإن هذا من جنس المصائب ، والعبد مأمور عند المصائب بالصبر والإرجاع والتوبة .(1/315)
وقول : ( لو ) لا يجدي إلا الحزن والتحسر مع ما يخاف توحيده من نوع المعاندة للقدر .
وقول الله تعالى : ? يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ? . آل عمران ( 155 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قاله بعض المنافقين يوم أحد ، لخوفهم وجزعهم وخورهم .
قال ابن إسحاق : " فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : ( لقد رأيتني مع رسول الله ( حين اشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم ، فما منّا رجل إلا ذقنه في صدره ، قال : فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ، ما أسمعه إلا كالحلم يقول : ? لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ? فحفظناها منه ، وفي ذلك أنزل الله : ? يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ? لقول معتب ) . رواه ابن أبي حاتم
قال تعالى : ? قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتال إلى مضاجعهم ? أي هذا قدر مقدر من الله عز وجل ، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على تحريم الاعتراض على القدر ، وأنه من كلام المنافقين .
ما يستفاد من الآية :
1- أن الاعتراض على القدر من صفات المنافقين .
2- وجوب الاستسلام للقضاء والقدر .
3- أن الحذر لا ينجي من القدر .
4- أن من كتب عليه الموت في محل فلا بد أن يذهب إليه ، ولو حاول الامتناع عنه .
وقول الله تعالى : ? الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/316)
يقول ابن كثير : " ? الذين قالوا لإخوانهم ? أي لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ، ما قتلوا مع من قتل ، قال تعالى : ? قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ? أي إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت ، فينبغي لكم ألا تموتوا ، والموت لا بد أن يأتيكم ولو كنتم في بروج مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على تحريم الاعتراض على القدر .
ما يستفاد من الآية :
وجوب الاستسلام للقضاء والقدر ، لأن ذلك من كمال التوحيد .
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ( قال : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجزنّ ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) . أخرجه مسلم ( 2664 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المؤلف اختصر هذا الحديث ، وأوله : ( المؤمن القوي ... ) .
( احرص على ما ينفعك ) الحرص : هو بذل الجهد واستفراغ الوسع .
فالحرص على الواجب واجب .
والحرص على المحرم محرم .
والحرص على المستحبات مستحب .
( ما ينفعك ) النفع هنا دنيوي وأخروي .
قال ابن القيم : " فالخير كله في الحرص علة ما ينفع " .
( واستعن بالله ) قال ابن القيم : " لما كان حرص الإنسان وفعله هو بمعونة الله وتوفيقه ، أمره أن يستعين به ، ليجتمع له مقام : ? إياك نعبد وإياك نستعين ? فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولا تتم إلا بمعونته " .
وقال غيره : " أمره بشيء ونهاه عن ضده " .
ومعناه : لا تفعل فعل العاجز وهو الكسلان ، والعجز مذموم ، ولهذا كان النبي ( يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ) .
( وإن أصابك شيء فلا تقل لو ... ) أي لا تحبه ولا تريده .
أرشد النبي ( في هذا الحديث أنه إذا أصاب الإنسان ما يكره فلا يقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ، :(1/317)
[ ولكن يقول : قدر الله وما شاء فعل ] ، أي هذا قدر الله ، والواجب التسليم للقدر والرضا به ، واحتساب الثواب عليه .
( فإن لو تفتح عمل الشيطان ) أي لما فيها من التأسف على ما فات ، والتحسر ولوم القدر ، وذلك ينافي الصبر والرضا .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على تحريم الاعتراض على قدر الله .
حكم استعمال لو : فيها تفصيل :
1. إذا قيلت اعتراضاً على الشرع ، فهذا حرام ولا يجوز .
مثل : لو قال : لو أن الله ما أوجب الحج ، أو صلاة الفجر .
قال تعالى : ? لو أطاعونا ما قتلوا ? .
2. أن تقال اعتراضاً على المقدور ، وهذا محرم .
كما لو سافر إنسان وأصابه شيء ، فقال : لو أني لم أسافر لم يحصل كذا وكذا .
قال تعالى : ? لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ? .
3. أن تقال للندم والتحسر ، وهذا حرام أيضاً .
مثال : رجل حرص أن يشتري شيئاً غيه ربحاً فخسر ، فقال : لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة ، فهذا ندم وتحسر .
4. أن تستعمل في التمني ، وحكمه حكم المتمني ، إن كان خيراً فخير ، وإن كان شراً فشر .
وقد قال ( في قصة النفر الأربعة : ( قال أحدهم : لو أن عندي مال فلان لعملت فيه عمل فلان ، فهذا تمنى خيراً ، وقال الثاني : لو أن عندي مال فلان الذي ينفقه في غير مرضات الله ، فهذا تمنى شراً ، فقال النبي ( في الأول : فهو بنيته فهم بالأجر سواء ، وقال في الثاني : فهم بنيته فهما بالوزر سواء ) . رواه أحمد
5. أن تستعمل في الخير المحض . مثال : لو حضرت الدرس لاستفدت ، فهذا جائز .
الباب الثامن والخمسون
النهي عن سب الريح
عن أبي بن كعب ( أن رسول الله ( قال : ( لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح ، وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح ، وشر ما فيها ، وشر ما أمرت به ) . رواه الترمذي ( 2253 )(1/318)
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( لا تسبوا ) فيه النهي عن سب الريح ، لأنها مأمورة ولا تأثير لها في شيء إلا بأمر الله ، فسبها كسب الدهر ، وقد تقدم النهي عنه ، فكذلك الريح .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " وهذا نظير ما سبق في سب الدهر ، إلا أن ذلك الباب عام في سب جميع حوادث الدهر ، وهذا خاص بالريح ، ومع تحريمه فإنه حمق وضعف في العقل والرأي ، فإن الريح مصرفة مدبرة بتدبير الله وتسخيره ، فالساب لها يقع سبه على من صرفها ، ولولا أن المتكلم بسب الريح لا يخطر هذا المعنى في قلبه غالباً لكان الأمر أفظع من ذلك ، ولكان لا يخطر بقلب مسلم " .
فلا يجوز سب الريح ، لأنها مأمورة مقهورة ، بل تجب التوبة عند التضرر بها ، وهي تأديب من الله سبحانه لعباده ، وتأديبه رحمة لعباده ، ولهذا جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً : ( الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب ، فلا تسبوها ، ولكن سلوا الله من خيرها ، وتعوذوا بالله من شرها ) . رواه أحمد وأبو داود
قال الشافعي : " لا ينبغي شتم الريح ، فإنها خلق مطيع لله ، وجند من جنوده ، يجعلها الله رحمة إذا شاء ، ونعمة إذا شاء "
( فإذا رأيتم ما تكرهون ) أي من الريح ، إما شدة حرها أو بردها أو قوتها .
( فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح ) أمر النبي ( بالرجوع إلى خالقها وآمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده ، ومصدرها عن قضائه ، فما استجلبت نعمة بمثل طاعته وشكره ، ولا استدفعت نقمة بمثل الالتجاء إليه ، والتعوذ به والاضطرار إليه ، والاستكانة له ، ودعائه والتوبة إليه .
( ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها ) أي شرها بنفسها كقلع الأشجار ودفن الزرع .
( وشر ما أمرت به ) كالإهلاك والتدمير .
قال تعالى في ريح عاد : ? تدمر كل شيء بأمر بها ? .
مناسبة الحديث للباب :(1/319)
حيث دلّ الحديث على النهي عن سبّ الريح ، لأن سبها لمدبرها وذلك ينافي التوحيد .
ما يستفاد من الحديث :
1- النهي عن سب الريح ، لأنها خلق مدبر فيرجع السب إلى خالقها ومدبرها .
2- الرجوع إلى الله والاستعاذة به من شر ما خلق .
3- أن الريح تكون مأمورة بالخير وتكون مأمورة بالشر .
4- الإرشاد على الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره للسلامة من شره .
الباب التاسع والخمسون
قول الله تعالى : ? يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أرد المصنف بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظنّ بالله ، لأن ذلك من واجبات التوحيد ، ولذلك ذم الله من أساء الظنّ به ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي : ( أنا عند حسن ظنّ عبدي بي ، وأنا نعه حين يذكرني ) . متفق عليه
وعن جابر أنه سمع رسول الله ( يقول : ( لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) . رواه مسلم
? يظنون بالله غير الحق ? هذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله في ذكر قصة ووقعة أحد : ? ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم ? يعني : أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله ( وينجز له مأموله ، ولهذا قال تعالى : ? وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ? يعني لا يغشاهم النعاس من الغلق والجزع والخوف .
? يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية ? كما قال تعالى : ? بل ظننتم ألن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلكم في قلوبكم وظننتم ظنّ السوء وكنتم قوماً بوراً ? .
وهكذا هؤلاء القوم اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد أهله ، وهذا شأو أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة .(1/320)
ففي الآية تحريم الظن السيئ بالله ، وأنه ينافي التوحيد أو كماله بحسب الظن .
وقد ذكر ابن القيم عدة أمثلة على الظن السيئ في الآية :
1. أن الله لا ينصر رسله .
2. أن أمر الله سيضمحل .
3. أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله ، وهذا ظنّ المعتزلة .
4. أن ما أصابهم لم يكن لحكمة .
5. إنكار أن يتم الله أمر رسوله ويظهر الدين كله .
ونضيف بعض الظنون المعاصرة :
1. ظنّ العلمانيين أن الدين لا يصلح لهذا العصر ، وأن الحدود قسوة ورجعية .
2. أن الإسلام وأهله في طريقهم إلى الاندثار .
وقوله : ( الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال ابن كثير : " المراد بهم المنافقون والمشركون ، قال تعالى : ? ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء ? يتهمون الله تعالى في حكمه ، ويظنون بالرسول ( وأصحابه أن يقتلوا أو يذهبوا بالكلية ، ولهذا قال :
? عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم ? أي أبعدهم من رحمته ، ? وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً ? .
مناسبة الآية للباب :
أن فيها أن من ظنّ أن الله لا ينصر حسبه على أعدائه فقد ظنّ به ظنّ السوء .
ما يستفاد من الآية :
1- أن المنافقين أشد خطراً على المسلمين من الكفار .
2- تحريم سوء الظن بالله ، وهو من ناحيتين :
الأولى : فيما يفعله في الكون ، أن الله لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ... كما سبق .
الثانية : ما يفعله الله في الناس ، كقوله : ما الفائدة من كون الإنسان أعرج أو أعمى ، أو أن هذا الشخص لا يستحق ما حصل له من شر ؟
قال ابن القيم : " وأكثر الناس يظنون بالله ظنّ السوء فيما يختص بهم ، وفيما يفعله بغيره ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله ... " .(1/321)
وقال رحمه الله : " أكثر الناس إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظنّ السوء ، فإن أكثر بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ ، وأنه يستحق قوة ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تشهد عليه بذلك وهو بلسانه ينكره ، ولا يتجاسر على التصريح به ، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها ، رأى ذلك فيها كائناً كون النار في الزناد ، فاقرع زناد من شئت ينبئك شرارها عما في زناده ، فليعتنّ اللبيب الناصح لنفسه في هذا الموضع ، وليتب إلى الله ، وليظنّ السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم ، فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين " .
3- وجوب حسن الظنّ بالله ، لأنه من واجبات التوحيد .
الباب الستون
ما جاء في منكري القدر
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
الإيمان بالقدر من أركان الإيمان ، هذا مذهب أهل السنة والجماعة .
ولقد ذكر المصنف في هذا الباب ما جاء من الوعيد فيمن أنكره تنبيهاً على وجوب الإيمان به .
وقال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ :
( والذي نفس ابن عمر بيده ، لو كان لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً ، ثم أنفقه في سبيل الله ، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ) .
ثم استدل بقول النبي ( :
( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . رواه مسلم ( 8 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المعنى الإجمالي للأثر :(1/322)
أن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لما بلغه أن قوماً ينكرون القدر ، بيّن أنهم بهذا الاعتقاد الفاسد قد خرجوا من الدين ، حيث أنكروا أصلاً من أصوله ، واستدل على ذلك بحديث الرسول ( الذي ورد فيه أن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي يجب الإيمان بها جميعاً ، فمن جحد بعضها فهو كافر بالجميع .
مباحث في القدر :
أولاً : تعريفه :
القدر في الاصطلاح : ما سبق به العلم ، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد ، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل ، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة ، وعلى صفات مخصوصة ، فهي تقع على حسب ما قدرها .
ثانياً : وجوب الإيمان بالقدر وأنه من أركان الإيمان .
أ- حديث جبريل حين سؤاله النبي ( عن الإيمان فقال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . رواه مسلم
ب- عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) . رواه مسلم
ثالثاً : مراتب الإيمان بالقدر :
أ- الإيمان بعلم الله الشامل .
فعلم الله محيط بكل شيء ، يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، ويعلم الموجود والمعدوم ، والممكن والمستحيل ، وهو عالم بالعباد وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم ، ومن منهم من أهل الجنة ، ومن منهم من أهل النار ، قال تعالى : ? هو الله لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ? وقال تعالى : ? ليعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ? وقال تعالى : ? هو أعلم منكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ? .
ب- الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء .
قال تعالى : ? ألم تعلم أن يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب ? .(1/323)
وقال ( : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) . رواه مسلم
ج- الإيمان بمشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة .
فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله ، قال تعالى : ? من يشأ يضلله الله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ? .
د- الإيمان بأن الله خالق كل شيء .
قال تعالى : ? الله خالق كل شيء ? .
وقال تعالى : ? إن ربك هو الخلاق العليم ? .
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه :
( يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله ( يقول : إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ، يا بني سمعت رسول الله ( يقول : من مات على غير هذا فليس مني ) . رواه أبو داود ( 4700 ) والترمذي ( 2155 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( أول ما خلق الله القلم قال له اكتب ) فأمره أن يكتب مع أن القلم جماد ، فكيف يوجه الخطاب إلى جماد ؟
الجواب :
أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل ، يصح أن يوجه إليه الخطاب ، قال تعالى : ? ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ? فوجه الخطاب إليهما .
وقال تعالى : ? قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ? فكانت كذلك .
وقال تعالى : ? يا جبال أوبي معه والطير ? فكانت الجبال تؤوب معه .
إن الله أمر القلم أن يكتب ، وقد امتثل القلم لكنه أشكل عليه ما ذا يكتب ، لأن الأمر مجمل ، فقال : وما ذا أكتب يا رب ؟ أي : أي شيء أكتب .
( اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ) فكتب القلم بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهذا يشمل ما كان من فعل الله ، وما كان من أفعال الخلق .
( أول ما خلق الله القلم )
فيه دليل لمن قال من العلماء أن القلم قبل العرش .(1/324)
وذهب بعض العلماء إلى أن العرش خلق أولاً ، لحديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ) . رواه مسلم
قال شارح الطحاوية : " وهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، والتقدير وقع عند أول خلق القلم بحديث عبادة هذا " .
ويكون معنى حديث عبادة : أي أول ما خلق الله القلم مما يتعلق بما نشاهده فقط من المخلوقات كالسموات والأرض .
الباب الواحد والستون
ما جاء في المصورين
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أي من عظم عقوبة الله لهم وعذابه .
وقد ذكر النبي ( العلة : وهي المضاهاة بخلق الله ، لأن الله تعالى له الخلق والأمر ، فهو رب كل شيء ومليكه ، وهو خالق كل شيء ، وهو الذي صور جميع المخلوقات ، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة .
عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة ) . رواه البخاري ( 5953 ) ومسلم ( 2111 )
ولهما عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ( قال : ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ) . رواه البخاري ( 5954 ) ومسلم ( 2106 )
ولهما عن ابن عباس : سمعت رسول الله ( يقول : ( كل مصور في النار ، يُجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم ) . رواه البخاري ( 2225 ) ومسلم ( 2110 )
ولهما عنه مرفوعاً : ( من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ ) . رواه البخاري ( 5963 ) ومسلم ( 2110 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ومن أظلم ) أي لا أحد أظلم .
( يخلق كخلقي ) أي ممن ذهب خالقاً .
( فليخلقوا ذرة ) اللام للأمر ، والمراد به التحدي والتعجيز ، وهذا من باب التحدي .(1/325)
( ذرة ) واحدة الذر ، وهي النمل الصغار .
( أو ليخلقوا حبة ) أو للتنويع ، أي انتقل من التحدي بخلق الحيوان ذي الروح إلى خلق الحبة التي هي أصل الزرع وليس لها روح .
المعنى الإجمالي :
يخبر الله تعالى في هذا الحديث القدسي على لسان نبيه محمد ( ، أنه لا أحد أظلم من أولئك المصورين ، الذين أرادوا بتصويرهم أن يشابهوا الله في خلقه ، ثم يتحداهم عز وجل بأن يخلقوا مثل أضعف مخلوقاته ، الحبة المنظورة وهي البذرة ، أو يخلقوا مثل أضعف مخلوقاته ، وهي حبة الحنطة والشعير ، وذلك تعجيزاً لهم وتحقيراً لشأنهم ، كما قال تعالى : ? إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ? .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على تحريم التصوير ، لأن فيه مشابهة لخلق الله ، وذلك شرك مع الله في ربوبيته .
ما يستفاد من الحديث :
1- أن المصور إذا قصد بالصورة مضاهاة خلق الله فهذا شرك أكبر في باب الربوبية ، لأنه اعتقد مماثل لله في الخلق والتصوير ، وقد قال تعالى : ? هل تعلم له سمياً ?وهذا استفهام بمعنى النفي .
وقال : ? ولم يكن له كفواً أحد ? .
وقال : ? فلا تجعلوا لله أنداداً ? .
ولحديث الباب : ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة ... ) .
2- استدل بحديث الباب : ( فليخلقوا حبة ... ) مجاهد ومن وافقه من أهل العلم ، على أن تصوير ذوات الأرواح ـ كالجبال والشجر والزرع ـ يحرم .
وذهب جمهور العلماء إلى الجواز .
لما أخرجه أبو داود والنسائي بسند جيد في حديث جبريل أنه قال للرسول ( : ( مر برأس التمثال فليقطع فيصير كهيئة الشجرة ) ، فأجاز كونه كالشجرة ، مما دل على الجواز .
وقال ابن عباس لرجل استفتاه في التصوير قال : ( سمعت رسول الله ( يقول : كل مصور في النار ) ثم قال ابن عباس : ( إن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له ) .
وهذا القول هو الراجح .(1/326)
وحديث : ( فليخلقوا حبة ... ) محمول على من صور ليضاهي .
3- كيف الجمع بين قوله ( في حديث عائشة : ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ) وبين كون المشرك أشد الناس عذاباً يوم القيامة ؟
الجمع من وجوه :
الوجه الأول : أن الحديث على تقدير ( من ) أي : أن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، بدليل أنه قد جاء بلفظ : ( إن من أشد ... ) .
الوجه الثاني : أن الأشد به لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم ، بل يشاركهم غيرهم ، قال تعالى : ? ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ? .
الوجه الثالث : أن الأشدية نسبية ، يعني : أن المصورين أشد الناس عذاباً بالنسبة للعصاة الذين لم تبلغ معصيتهم الكفر لا بالنسبة لجميع الناس .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : " هذا أقرب الوجوه " .
4- حكم التصوير :
له أحوال :
الحالة الأولى : تصوير ما يصنعه الآدمي ، فهذا جائز ، مثل : لو صور إنسان سيارة خطها بيده ، فهذا جائز .
الحالة الثانية : أن يصور ماله ظل ، أي : ماله جسم على هيكل إنسان أو بعير أو أسد ، فهذا حرام ، بل هي من كبائر الذنوب ، لقوله ( : ( أشد الناس يوم القيامة المصورون ... ) .
الحالة الثالثة : أن يصور ما لا روح فيه مما لا يخلقه إلا الله ، ولكنه فيه حياة ، إلا أنها ليست نفساً ، كتصوير الأشجار والزرع ، وما أشبه ذلك ، فجمهور أهل العلم على جوازه كما سبق .
الحالة الرابعة : أن يصور الجبال والأودية والبحار مما يخلقه الله ، لكن ليس فيه حياة ، فهذا جائز بالاتفاق .
5- مسألة : ما لا تبقى معه حياة :
أي هو أساساً من ذوات الأرواح ، لكن أزيل عنه الرأس ، كصورة الإنسان مقطوع الرأس .
هذه الصورة تجوز ، لحديث جبريل عند أبي داود والنسائي بسند جيد : ( فمر برأس التمثال فليقطع ) .
فدل هذا على أن التمثال المقطوع الرأس جائز .
ولحديث : ( إنما الصورة الرأس ) .
6- مسألة : لو فصل الرأس عن الجسم بممر بينهما ، أو قطع خط ، هل تجوز الصورة ؟(1/327)
لا تجوز الصورة ، لأن الحديث : ( فمر برأس التمثال فليقطع ) والقطع هنا بمعنى الكسر ، أما جعل ممراً أو خطاً ،
فيقال : لا يزال الأمر باقياً .
7- الصورة الممتهنة :
صور ذوات الأرواح الممتهنة .
هذه الصور جائزة بشرط الامتهان ، والامتهان حالاته معدودة :
كأن يوطأ عليه ، أو يتكأ عليه ، أو ينام عليه ، أو يستند عليه ، لحديث النمرقة : فإن فيه تصاوير فقطعت فجعلت وسادتين ، وحديث جبريل وفيه : ( ومر بالستر فليقطع ويجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ) .
8- الصور التي عمت بها البلوى ويشق التحرز منها :
كالصور التي على العلب والمواد الغذائية ، فهذه لا بأس بها بشروط :
1. أن تعم بها البلوى .
2. أن يشق التحرز منها .
3. أن تكون الصورة غير مقصودة من المشتري .
والدليل عموم قوله تعالى : ? ما جعل عليكم في الدين من حرج ? .
9- الصور تمنع دخول الملائكة .
أما الصور الممتهنة والتي عمت بها البلوى ، فهذه لا تمنع الملائكة ، وكذلك الصور التي لا روح فيها .
أما صور ذوات الأرواح ، أو التي فيها مضاهاة لخلق الله ، فهذه تمنع دخول الملائكة .
قال النبي ( : ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ) .
قوله ( الملائكة ) هل ( ال ) للعموم ؟ فلا تدخل حتى الحفظة والرقيب ؟ أو أن المقصود بها هنا ملائكة الرحمة ؟
الصحيح الثاني .
10- اقتناء الصور :
أولاً : أن يقتنيها لتعظيم المصوَّر ، لكونه ذا سلطان أو جاه أو علم أو عبادة ، فهذا حرام بلا شك ، ولا تدخل الملائكة بيتاً فيه هذه الصورة ، لأن تعظيم ذوي السلطان باقتناء صورهم ثلم في العقيدة .
ثانياً : أن يقتنيها للذكرى ، كالذين يصورون صغار أولادهم لتذكرهم حال الكبر ، فهذا حرام .
11- عقوبة المصور كما جاء في الأحاديث :
1. أنه أشد الناس عذاباً .
2. يجعل الله له في كل صورة روحاً يعذب بها في نار جهنم .
3. يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ .
4. أنه ملعون .
5. أنه في النار .(1/328)
ولمسلم عن أبي الهياج قال : قال لي علي : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( : أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ) . رواه مسلم ( 969 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
(أبي الهياج ) الأسدي حيان بن حصين .
( قال : قال لي علي ) هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .
( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( ) فيه التصريح بأن النبي ( بعث علياً لذلك .
أما الصور : فلمضاهاتها لخلق الله .
وأما تسوية القبور : فلما في تعليقها من الفتنة بأربابها وتعظيمها ، وهو من ذرائع الشرك ووسائله .
( صوراً إلا طمستها ) نكرة في سياق النهي فتعم ، إلا أنه مخصوص بما يجوز من الصور .
( طمستها ) الطمس : المحو ، وجاء عند أحمد : ( إلا لطختها ) .
والطمس أنواع :
1. أن يطمس الصورة كلها ، سواء الرأس أو بقية الصورة ، لأن الضمير في ( طمستها ) يعود على الصورة كلها ، ويكون بحك جميع الصورة ، وهذا أكمل الأنواع .
2. الطمس الجزئي ، وهذا خاص بطمس الرأس ، ويدل عليه حديث جبريل : ( مر بالرأس فليقطع ) . رواه أبو داود
فقطع الرأس يكفي .
( ولا قبراً مشرفاً ) أي عالياً .
( إلا سويته ) له معنيان :
1. سويته بما حوله من القبور .
2. جعلته حسناً على ما تقتضيه الشريعة .
مناسبة الحديث للباب :
أنه يدل على وجوب طمس الصور وإتلافها .
ما يستفاد من الحديث :
10- تحريم تصوير ذوات الأرواح .
11- جواز تصوير غير ذوات الأرواح .
12- الجزاء من جنس العمل .
13- وجوب إنكار المنكر .
14- تحريم البناء على القبور .
الباب الثاني والستون
ما جاء في كثرة الحلف
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
من النهي والوعيد ، لأن كثرة الحلف يدل على الاستخفاف وعدم التعظيم لله ، وغير ذلك مما ينافي التوحيد الواجب أو كماله .(1/329)
ذهب فريق من أهل العلم إلى كراهية الإفراط في الحلف بالله ، واستدلوا على ذلك بآيات من كتاب الله نوردها إن شاء الله .
1 ـ قول الله تعالى : ? واحفظوا أيمانكم ? .
فقد ورد في تفسير هذه الآية جملة أقوال :
أحدها : أن المراد بحفظ اليمين هو عدم الإكثار منها .
الثاني : قال البغوي في تفسيره : " أراد به ترك الحلف .
الثالث : قال الفخر الرازي : " فيه وجهان : 1) ـ قللوا الأيمان ولا تكثروا منها . 2) ـ لا تتركوها بغير تكفير " .
ولا مانع من أن تحمل هذه الآية على هذه الأقوال .
2 ـ ? ولا تطع كل حلاف مهين ?
فقد ورد في تفسير هذه الآية ما يفيد كراهية الإكثار من الحلف .
قال الطبري : " ولا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف الباطل " .
قال القرطبي : " حلاف : كثير الحلف " .
قال الشوكاني : " حلاف : كثير الحلف بالباطل " .
3 ـ قوله تعالى : ? ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ... ? .
فقد ورد في تفسيرها عدة أوجه ، من هذه الأوجه :
ما يفيد أن المقصود منها عدم الإكثار من الحلف .
قال الفخر الرازي : " والمفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية ، وأجود ما ذكروه وجهان :
أولهما : وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو الأحسن ، أن قوله : ? ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ? نهي عن الجرأة على بكثرة الحلف ، لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني ، فقد جعله عرضة له ، وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف في قوله تعالى : ? ولا تطع كل حلاف مهين ? " .
إلى أن قال : " وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية "
ما يستفاد من الآيات :
1- تحريم الإكثار من الحلف بغير سبب .
2- أن كثرة الحلف تنقص لتعظيم الله ، وذلك مناف للتوحيد .(1/330)
وعن أبي هريرة ( سمعت رسول الله ( يقول : ( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب ) . رواه البخاري ( 2087 ) ومسلم ( 1606 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
المعنى : أنه إذا حلف على سلعته ، أنه أعطي فيها كذا وكذا ، أو أنه اشتراها بكذا وكذا ، وقد يظنه المشتري صادقاً فيما حلف عليه ، فيأخذها بزيادة على قيمتها ، والبائع كذاب ، وحلف طمعاً في الزيادة ، فيكون قد عصى الله تعالى ، فيعاقب بمحق البركة ، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أكثر من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه ، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأساً ، وما عند الله لا يُنال إلا بطاعته ، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب .
مناسبة الحديث للباب :
أن فيه التحذير من استعمال الحلف ، لأجل ترويج السلع ، وبيان ما يترتب على ذلك من الضرر .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم الإكثار من الحلف .
2- تحريم ترويج السلع بالحرام .
3- الكذب في البيع والشراء سبب لزوال البركة .
4- أن الكذب في البيع ممحق للكسب ، أي متلفة ، والإتلاف يشمل الإتلاف الجنسي ، بأن يسلط الله على ماله ما يتلفه من حريق أو نهب .
أو الإتلاف المعنوي : بأن ينزع الله البركة من ماله فلا ينتفع به .
وعن سلمان أن رسول الله ( قال : ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه ) . رواه الطبراني في الكبير ( 6111 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( ثلاثة لا يكلمهم ) لا : نافية .
وجاء في الحديث الآخر : ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ) .
والجمع بينهما :(1/331)
جمع بعض أهل العلم في التفريق في الكلام ، فالكلام المثبت : ( إلا سيكلمه ) هو كلام المحاسبة ، والكلام المنفي هنا : هو كلام الرضا والثواب والرحمة .
وعلى هذا المعنى يكون هؤلاء الثلاثة ممن لا يكلمهم الله كلام رحمة ولكن يحاسبهم .
( ولا يزكيهم ) أي من دنس الذنوب .
( ولهم عذاب أليم ) لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم ، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات .
( أشيمط زان ) تصغير أشمط ، وهو الشيب ، وقد صغره تحقيراً له ، لأن داعي ضعف في حقه ، فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور ، وعد خوفه من الله .
وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه ، بخلاف الشاب ، فإن قوة الشهوة فيه قد تغلبه مع خوفه من الله .
والزنا : فعل الفاحشة في قبل أو دبر ، وقد نهى الله عنه وبين أنه فاحشة ، فقال : ? ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ? .
( عائل مستكبر ) أي فقير مستكبر .
فالعائل المستكبر ليس له ما يدعوه إلى الكبر ، لأن الداعي إلى الكبر في الغالب هو كثر المال والنعم والرياسة ، والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر ، فدل ذلك على ضعف إيمانه وخبث طويته ، ولذلك كانت عقوبته أشد .
( ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه ) أي جعل الحلف بالله بضاعة له لكثرة استعماله لها ، واستحق هذه العقوبة العظيمة لاستهانته بالله ، فإن كان كاذباً جمع بين أربعة أمور محذورة :
1. استهانته بالله .
2. كذبه .
3. أكله المال بالباطل .
4. أن يمينه يمين غموس .
مناسبة الحديث للباب :
حيث حرم الحديث الإكثار من الحلف ، لأنه استخفاف بالله ، وذلك ينافي التوحيد .
ما يستفاد من الحديث :
1- إثبات الكلام لله على وجه يليق بجلاله .
2- إثبات أن الله يكلم أهل طاعته .
3- تحريم الكبر والزنا والإكثار من اليمين .(1/332)
وفي الصحيح عن عمران بن حصين ( قال : قال رسول الله ( : ( خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، قال عمران : لا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ، ثم إن بعدكم قومٌ| يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن ) . رواه البخاري في الفتح ( 7 / 3650 ) ومسلم ( 2535 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( خير أمتي قرني ) لفظ البخاري : ( خيركم قرني ) .
لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ، ويتفاضل فيها العاملون ، فغلب الخير فيها وغلب أهله ، وقل الشر فيها وأهله ، واعتز فيها الإسلام والإيمان .
( أمتي ) أي أمة الإجابة .
( قرني ) مشتق من الاقتران ، وهم أهل العصر المتقاربين سناً وعادة وخلقاً .
وبعض أهل العلم يحدد القرن بالسنوات ويجعله مائة عام ، والأول أقرب .
( قرني ) يقصد بهم الصحابة ، فهم أفضل القرون .
( ثم الذين يلونهم ) هم قرن التابعين .
فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم ، وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به ، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل ، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة .
( ثم الذي يلونهم ) هم قرن أتباع التابعين .
( فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ) هذا شك من الراوي ـ عمران ـ والمشهور في الروايات أن القرون ثلاثة .
( ثم إن بعدكم قوم ) باعتبار الأغلبية ، فما بعد القرون المفضلة يغلي الشر ، ولكن لا يزول الخير ، لحديث : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ... ) .
وذكر في الحديث مظاهر الانحراف بعد القرون المفضلة ، وهي ثلاثة :
( يشهدون ولا يستشهدون )
يشهدون : يخبرون بما علموه أو شاهدوه أو سمعوه ، لأن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلم .(1/333)
ولا يستشهدون : أي لا يطلب منهم الشهادة ، وهذا لاستخفافهم بأمر الشهادة ، وعدم تحريهم الصدق ، وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم .
إشكال وجمع :
الجمع بين هذا الحديث وحديث زيد بن خالد : أن النبي ( قال : ( ألا أخبركم بخير الشهداء : الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ) .
وهو أن نقول : يجوز للشاهد أن يدلي بشهادته قبل أن طلبها إذا جهلها صاحب الحق ، ويحرم على الشاهد الإدلاء بشهادته قبل طلبها إذا علمها صاحب الحق .
( ويخونون ولا يؤتمنون ) يدل على أن الخيانة غلبت على كثير منهم أو أكثرهم .
( وينذرون ولا يوفون ) أي لا يؤدون ما وجب عليهم .
فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم ، وعم إيمانهم .
وجاء في رواية :
( ويحبون السمّانة ) قال النووي : " السمانة : بفتح السين ، وهي السمن " .
قال جمهور العلماء في معنى الحديث : " المراد بالسمن هنا كثرة اللحم ، ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم ، وليس معناه : أن يتمحضوا سماناً ، قالوا : والمذموم منه من ستكسبه ، وأما من هو فيه خلقة فلا يدخل في هذا ، والمتكسب هو المتوسع في المأكول والمشروب زائداً على المعتاد ... " .
مناسبة الحديث للباب :
دلالة الاقتران ، لأن الحلف يقترن بالشهادة ، فمن استخف بالشهادة استخف بالحلف .
ما يستفاد من الحديث :
1- تفضيل القرون الثلاثة الأولى .
2- أن الشر يزيد في الأمة .
قال أنس : ( لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ) .
وفيه عن ابن مسعود أن النبي ( قال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ) . رواه البخاري ( 2652 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( تسبق شهادة أحدهم يمينه ... ) هذا إشارة إلى السرعة في الشهادة واليمين ، وذلك استخفافاً منه بالله عز وجل ، واستهتار بمكانة الشهادة واليمين .(1/334)
ففيه تحريم المسارعة في الحلف ، لأن ذلك اسخفافاً بالله وتنقص لتعظيمه ، وذلك منافٍ للتوحيد .
وقال إبراهيم النخعي : ( كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
وذلك لكثرة علم التابعين ، وقوة إيمانهم ، ومعرفتهم بربهم ، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
( على الشهادة ) أي يضربوننا عليها إن شهدنا زوراً أو إذا شهدنا ولم نقم بآدائها .
الباب الثالث والستون
ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
الذمة : العهد ، وسمي بذلك لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته .
قال الشيخ السعدي رحمه الله في القول السديد : " المقصود في هذه الترجمة البعد والحذر منم التعرض للأحوال التي يخشى منها نقض العهود والإخلال بها ، بعد ما يجعل للأعداء المعاهدين ذمة الله وذمة نبيه ( ، فإنه متى وقع النقض في هذه الحال ، كان انتهاكاً من المسلمين لذمة الله وذمة نبيه ( لتعظيم الله ، وارتكاباً لأكبر المفسدتين كما نبه ( " .
وقول الله تعالى : ? وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ? .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
قال ابن كثير : " وهذا مما أمر الله سبحانه وتعالى به ، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة ولهذا قال : ? ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ? .
? وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ? الجملة حالية ، فائدتها : توكيد التوبيخ على نقض العهد واليمين .
ووجه جعل الله يميناً : لأن الإنسان إذا عاهد غيره قال : أعاهدك بالله ، أي أنه جعل الله عليه كفيلاً .
? إن الله يعلم ما تفعلون ? تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها .
مناسبة الآية للباب :(1/335)
دلت الآية على تحريم نقض الأيمان بعد توكيدها ، لأن نقض العهد دليل على عدم تعظيم الله ، وذلك منافٍ للتوحيد قادحٌ به .
ما يستفاد من الآية :
1- وجوب الوفاء بالعهد .
2- شمول علم الله .
عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ، فقال : ( اغزوا بسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فآيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم ، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله تعالى ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه . وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري ، أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) . رواه مسلم
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
معاني الكلمات :
( بريدة ) هو ابن حصيب الأسلمي .
( إذا أمّر ) أي جعله أميراً .
( أو سرية ) أو : ليست للشك ، بل للتنويع . والسرية : هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها . والجيش : ما كان أكثر من ذلك.(1/336)
( أوصاه ) الوصية هي الإخبار بالشيء على وجه الاهتمام .
( بتقوى الله ) التقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه .
( وبمن معه من المسلمين خير ) أي وصاه بمن معه منهم أن يفعل معهم خيراً ، والرفق بهم ، والإحسان إليهم ، وخفض الجناح لهم .
( اغزوا بسم الله ) أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له .
( قاتلوا من كفر بالله ) هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم ، وقد خصص منهم من له عهد ، والرهبان والنساء ، قال تعالى : ? يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ? .
وقال تعالى : ? يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ? .
( ولا تغلوا ) الغلول هو الخيانة في المغنم ، وهو أن يكتم شيئاً من الغنيمة ، وهو من كبائر الذنوب ، قال تعالى : ? ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ? .
( ولا تغدروا ) الغدر : الخيانة ، وترك الوفاء بالعهد ـ وهذا وجه الشاهد من الحديث .
( ولا تمثلوا ) التمثيل : هو التشبيه بالقتيل ، كقطع أنفه وأذنه .
( فادعهم إلى ثلاث خصال ) يعني إلى إحدى الثلاث ، وهي : الإسلام ، أو الجزية ، أو المقاتلة .
( الغنيمة ) هي ما أخذه من مال حربي قهراً بقتال .
( الفيء ) هي ما أخذه من مال كافر بحق الكفر بدون قتال .
( الجزية ) هي ما يؤخذ من أهل الذمة على وجه الصغار كل عام بدلاً من قتلهم وإقامتهم بدار المسلمين .
( ذمة الله وذمة نبيه ( ) الذمة هنا عقد الصلح والمهادنة .
( تخفروا ) بضم التاء وسكون الخاء ، تنقضوا عهودكم .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على وجوب حفظ ذمة الله وذمة نبيه ( عن النقض ، لأن نقض ذمة الله استخفافاً به ، وذلك منافٍ للتوحيد .
ما يستفاد من الحديث :
1- كان ( لا يبعث أميراً على سرية إلا وصاه وأوصى سريته بما يجب عليهم .
2- أن الصحابة من شدة محبتهم للنبي ( كانوا ينفذون وصاياه بغبطة وفرحة .
3- كان أول ما يوصي به النبي ( أصحابه هو تقوى الله .(1/337)
4- وصاية القائد بأن يتقي الله بمن فيمن معه ، فلا يستغل سلطته عليهم .
5- تصحيح النية وسلامة الطوية بأن تكون غزوتهم مقصوداً بها وجه الله تعالى والدار الآخرة .
6- أن الهدف من الجهاد قتال الكفار ليدخلوا في الإسلام .
7- تحريم الغلول وأنه كبيرة .
8- تحريم الغدر .
9- تحريم التمثيل في القتلى .
10- النهي عن قتل الصبيان من هم دون البلوغ .
11- وجوب دعوة العدو المشرك إلى ثلاث خصال ، وهي : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال .
12- على قائد الجيش إذا عقد عهداً مع المشركين فلا يجعل بينه وبينهم عهد الله ، بل يجعل عهده الخاص .
13- إذا أراد قائد الجيش إنزال عدوه على حكم فليكن على حكمه هو واجتهاده ، وليس على حكم الله .
14- بيان آداب الحروب الإسلامية والجهاد في سبيل الله : التقوى والاعتماد على الله ، والدعوة إلى الخير ، وعدم قتل النساء والصبيان ، وعدم الغدر ، وعدم التمثيل ... .
15- أن الإسلام يستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع وحروب الاستعمار ، كما يستبع الحروب التي تثيرها حب الأمجاد الزائفة ، والمغانم الشخصية ، فلا مكان لهذه الحروب .
16- أن المجتهد قد يصيب وقد يخطئ .
الباب الرابع والستون
ما جاء في الإقسام على الله
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
معنى الإقسام على الله :
بأن تحلف على الله أن يفعل ، أو تحلف عليه ألا يفعل .
عن جندب بن عبد الله ( قال : قال رسول الله ( : ( قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتأذى علي أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ) . رواه مسلم ( 2621 )
وفي حديث أبي هريرة : أن القائل رجل عابد ، قال أبو هريرة : ( تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ) . رواه أبو داود ( 4901 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( يتألى ) يحلف .(1/338)
( والله لا يغفر الله لفلان ) جاء في رواية أبي هريرة أن القائل رجل عابد ، والباعث على هذا القول شيئان :
الأول : من جهة ما في نفسه من الكبر والتعظم بكون رجلاً عابداً ز
الثاني : من جهة احتقار الشخص بأنه مذنب عاصٍ .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دل الحديث على تحريم الإقسام على الله ، لأن ذلك هضم لحقوق الربوبية والإلهية ، ومنافٍ للتوحيد .
قال الشيخ محمد رحمه الله في المجموع الثمين :
" الإقسام على الله أن يقول الإنسان : والله لا يكون كذا وكذا ، أو والله لا يفعل الله كذا وكذا ، والإقسام على الله نوعان :
الأول : أن يكون الحامل عليه قوة ثقة المقسم بالله عز وجل ، وقوة إيمانه مع اعترافه بضعفه وعدم إلزامه الله بشيء ، فهذا جائز .
ودليله : قول النبي ( : ( رب أشعث أغبر مدفوع بالأواب لو أقسم على الله لأبره ) .
ودليل آخر واقعي : وهو حديث أنس بن النضر حينما كسرت أخته الربيع سناً لجارية من الأنصار ، فطالب أهلها بالقصاص ، فطلبوا إليهم العفو فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله ( فابوا إلا القصاص ، فأمر النبي ( بالقصاص ، فقال أنس بن النضر : أتكسر ثنية الربيع ؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها ، فقال رسول الله ( : يا أنس ، كتاب الله القصاص ، فرضي القوم فعفوا ، فقال النبي ( : إن من عباد الله لو أقسم على الله لأبره ) .
اما النوع الثاني من الإقسام على الله :فهو ما كان الحامل عليه الغرور والإعجاب بالنفس ، وأنه يستحق على الله كذا وكذا ، فهذا والعياذ بالله محرم ، وقد يكون محبطاً للعمل .
ودليل ذلك : حديث جندب السابق .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم التألي على الله .
2- إثبات صفة القول لله على وجه يليق بجلاله .
3- وجوب التأدب مع الله في الأقوال والأحوال .
4- بيان سعة فضل الله ورحمته .
5- الأعمال بالخواتيم .
6- قد يغفر للشخص بسبب غيره .
7- تحريم تحجر فضل الله ورحمته .(1/339)
8- قد يحبط العمل من أجل كلمة .
9- بيان خطر اللسان .
كما في حديث معاذ قال : ( قلت : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس على وجوهم ـ أو قال على مناخرهم ـ في النار إلا حصائد ألسنتهم ) . رواه الترمذي
وعن سهل قال : قال رسول الله ( : ( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ) . متفق عليه
وعن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله ( : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها ، يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ) . رواه الشيخان
وقال النبي ( : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ) . رواه البخاري عن أبي هريرة
الباب الخامس والستون
لا يستشفع بالله على خلقه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
عن جبير بن مُطعب ( قال : ( جاء أعرابي إلى النبي ( فقال : يا رسول الله ، نُهِكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال ، فاستسق لنا ربك ، فإننا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي ( : ( سبحان الله !! سبحان الله !! فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد ) . وذكر الحديث رواه أبو داود ( 4726 )
( أعرابي ) نسبة إلى الأعراب ، وهم الذين يسكنون البادية .
( نهكت الأنفس ) أي ضعفت الأبدان .
( فاستسق لنا ربك ) أي اطلب لنا السقيا ، وهو المطر .
( فإننا نستشفع بالله عليك ) أي أن الأعرابي يريد بجهله أن يجعل الله شفيعاً إلى رسوله .
وهذا هو وجه الشاهد من الحديث .
وهذا لا يجوز ، لأن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله ، لأنه جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة المشفوع إليه .(1/340)
فقال ( ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد ) لأنه تعالى رب كل شيء ومليكه ، والخير كله بيده ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولا راد لما قضى ، وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً والخلق وما في أيديهم ملكه ، يتصرف فيه كيف يشاء ، وهو الذي يشفع الشافع إليه .
ولهذا أنكر على الأعرابي قوله هذا ، وسبح الله كثيراً وعظمه ، لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده ، إن شأن الله أعظم من ذلك .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على تحريم الاستشفاع بالله على أحد من خلقه ، لأنه تنقص لجلاله وعظمته ، وحط من مكانته ، وذلك منافٍ للتوحيد .
ما يستفاد من الحديث :
1- جواز طلب الدعاء من الأحياء .
2- تحريم السقيا من غير الله .
3- مشروعية الدعاء وإثبات نفعه .
4- بيان مضار الجهل .
5- وجوب تنزيه الله عما لا يليق بجلاله من نقص أو عيب أو مماثلة للمخلوق .
6- تحريم الاستشفاع بالله على أحد من خلقه .
الباب السادس والستون
ما جاء في حماية النبي ( حمى التوحيد وسده طرق الشرك
عن عبد الله بن الشِّخِّير ( قال : ( انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ( ، فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : السيد هو الله تبارك وتعالى ، قلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً ، فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان ) . رواه أبو داود ( 4806 )
وعن أنس ( : ( أن أناساً قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : يا ايها الناس ، قولوا بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ) .
رواه النسائي في عمل اليوم والليلة ( 248 ــ 249 )
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/341)
حمايته ( حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص ، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه ( ، كقوله :
( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله ) .
( إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله عز وجل ) .
وفي هذا الحديث نهي في أن يقولوا : انت سيدنا ، وقال : ( السيد هو الله ) ونهاهم أن يقولوا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً ، وقال : ( لا يستجرينكم الشيطان ) .
وفي حديث أنس كره ( أن يواجهوه بالمدح ، فيفضي بهم إلى الغلو ، وأخبر أن مواجهة المادح الممدوح يمدحه ولو بما هو فيه من عمل الشيطان ، لما تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه ، وذلك ينافي كمال التوحيد .
ما هو الجمع بين قوله ( : ( السيد هو الله ) وقوله : ( قوموا إلى سيدكم ) ؟
اختلف العلماء :
القول الأول : أن النهي على سبيل الكراهة والأدب ، والإباحة على سبيل الجواز .
القول الثاني : أن النهي حيث يخشى مفسدة ، وهي التدرج إلى الغلو .
والصحيح أنه يجوز بشرط أن يكون أهلاً للسيادة .
الفرق بين السيادة لله والسيادة للبشر :
أن السيادة لله مطلقة ، فإنه تعالى هو الذي له الأمر كله ، فهو الآمر وغيره مأمور ، وهو الحاكم وغيره محكوم .
وأما البشر فسيادتهم نسبية .
مناسبة الحديث للباب :
أنه يجب حمايةالتوحيد من شوائب الشرك ووسائله .
ما يستفاد من الحديث :
1- جواز إطلاق لفظ السيد على الله ، وأنه من أسماء الله .
2- تحريم الغلو في النبي ( ، وأنه طريق إلى الشرك .
3- عظم قدر النبي ( في نفوس أصحابه واترامهم له .
4- أن الغلو مطية الشيطان .
5- بيان منزلة الرسول ( ، وهي صفة بالعبودية والرسالة .
6- تحريم رفع النبي ( فوق منزلته .
الباب السابع والستون
قول الله تعالى : ? وما قدروا الله حق قدره ?
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ(1/342)
أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " ختم المؤلف كتابه بهذه الترجمة ، وذكر النصوص الدالة على عظمة الرب العظيم وكبريائه ، ومجده وجلاله ، وخضوع المخلوقات بأسرها لعزه ، لن هذه النعوت العظيمة والأوصاف الكاملة ، أكبر الأدلة والبراهين على أنه المعبود وحده ، المحمود وحده ، الذي يجب أن يبذل له غاية الذل والتعظيم ، وغاية الحب والتأله ، وأنه الحق وما سواه باطل ، وهذه حقيقة التوحيد ولبه وروحه وسر الإخلاص " .
? وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ?
قال ابن كثير : " يقول تعالى : ما قدر المشركون الله حق قدره ، حتى عبدوا معه غيره ، وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء ، وكل شيء تحت قهره وقوته " .
ومن قدرته الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون .
مناسبة الآية للباب :
حيث دلت الآية على وجوب تعظيم الله حق تعظيمه ، وتعظيمه هو توحيده وتنزيهه عن الشرك .
ما يستفاد من الآية :
1- لم يعظم الله حق تعظيمه من عبد معه غيره .
2- وجوب تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله .
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر من الأحبار إلى ( فقال : يا محمد ! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء على إصبع ، والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك. فضحك النبي ( حتى بدت نواجذه ، تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ) الآية .
وفي رواية لمسلم : ( والجبال والشجر على إصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك، أنا الله ) .
وفي رواية للبخاري : ( يجعل السماوات على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه .(1/343)
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً : ( يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
( الأحبار ) جمع حبر ، وهو عالم اليهود .
( إنا نجد ) أي في التوراة .
( الثرى ) هو كل شيء مبتل .
مناسبة الحديث للباب :
حيث دلّ الحديث على وجوب تعظيم الله ، وتعظيمه هو توحيده وتنزيهه من الشرك .
ما يستفاد من الحديث :
1- بيان عظمة الله تعالى وقدرته .
وقد ذكر الحبر أموراً تدل على عظمة الله ، وهي :
1. السماوات على إصبع .
2. الشجر على إصبع .
3. الماء على إصبع .
4. الثرى على إصبع .
5. سائر الخلق على إصبع .
وفي رواية مسلم من دلائل عظمة الله :
1. أن الأرضين على عظمها قبضته يوم القيامة .
2. أن السماوات على عظمها مطويات بيمينه يوم القيامة .
2- هذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله ، وعظيم قدرته ، وعظم مخلوقاته ، وقد تعرف سبحانه إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته .
وكلها تعرف وتدل على كماله وأنه المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته ، وتدل على إثبات الصفات على ما يليق بجلاله وعظمته ، إثباتاً بلا تمثيل ، وتنزيهاً بلا تعطيل .
3- اتفاق اليهودية والإسلام في إثبات الأصابع لله على وجه يليق بجلاله .
4- إثبات الإصبع لله عز وجل ، وهي إصبع حقيقة تليق بالله ، لحديث الباب .
ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله ( : ( إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ) ثم قال ( : ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ) . رواه مسلم
5- إثبات صفة الملك لله متضمناً الملك .
6- إثبان أن لله يدين حقيقيتين يمين وشمال .(1/344)
7- إثبات الأرضين السبع ، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى : ? الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ? أي في العدد وقال ( : ( من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين ) . رواه الشيخان
8- تحريم الكبر والتجبر .
9- إثبات صفة القول لله على وجه يليق بجلاله .
10- الضحك لسبب لا ينافي الأدب .
11- وجوب قبول الحق مهما كان مصدره .
12- قوله في الحديث : ( ثم يأخذهن بشماله ) .
كلمة ( شمال ) كيف يجمع بينها وبين قوله ( : ( المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ) ؟ رواه مسلم
وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد يمين ويد شمال ؟
قال الشيخ محمد رحمه الله :
" إن كانت ـ أي كلمة شماله ـ فهي عندي لا تنافي : ( كلتا يديه يمين ) لأن المعنى أن اليد الأخرى ليست كيد الشمال للمخلوق ناقصة عن اليد اليمنى فقال : ( كلتا يديه يمين ) أي ليس فيهما نقص ، فلما كان الوهم ربما يذهب إلى إثبات الشمال يعني النقص في هذه اليد دون الأخرى قال : ( كلتا يديه يمين ) وعلى كل حال ، فيديه سبحانه اثنتان بلا شك ، وكل واحدة غير الأخرى " . أ . ه
وروي عن ابن عباس ، قال : ( ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم ) .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد : حدثني أبي ، قال : قال (: ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس ) ، قال : وقال أبو ذر رضي الله عنه : سمعت ( يقول: ( ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض ) .
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
أثر ابن عباس يخبر فيه أن نسبة السماوات والأرض مع عظمهن إلى مفّ الرحمن كنسبة الخردلة الصغيرة إلى كف أحدنا ، وذلك تشبيه بالنسبة للنسبة وليس تشبيهاً للكف بالكف ، لأن الله لا تشبه صفاته شيء كما لا يشبه ذاته شيء .
مناسبة الحيثين للباب :(1/345)
حيث دلّ كل من الحديثين على وجوب تعظيم الله ، وتعظيمه هو نوحيده وتنزيهه عن الشرك .
ما يستفاد من الحديثين :
1- إثبات الكف لله على الوجه الذي يليق بجلاله .
2- أن السموات سبع كما جاء ذلك صريحاً في القرآن في عدة آيات :
قال تعالى : ? ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ? .
وقال تعالى : ? الذي خلق سبع سموات طباقاً ? .
3- إثبات الكرسي وأنه مخلوق عظيم .
4- إثبات العرش وأنه مخلوق عظيم .
5- بيان عظمة الله سبحانه وتعالى .
الأدلة على ثبوت العرش وأنه حق :
قال تعالى : ? ذو العرش المجيد . فعلا لما يريد ? .
وقال تعالى : ? رفيع الدرجات ذو العرش ? .
وقال تعالى : ? الرحمن على العرش استوى ? .
وقال تعالى : ? لا إله إلا هو رب العرش العظيم ? .
وفي دعاء الكرب :
( لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ) .
وروى أبو داود عن النبي ( أنه قال : ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ، إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ) .
وقد قال بعضهم : إن العرش عبارة عن الملك ، وهذا تحريف لكلام الله .
قال صاحب الطحاوية : " وأما من حرف كلام الله ، وجعل العرش عبارة عن الملك ، كيف يصنع بقوله تعالى : ? ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية ? وقوله : ? وكان عرشه على الماء ? أيقول : ويحمل ملكه يومئذٍ ثمانية ؟ وكان ملكه على الماء ؟ ويكون موسى ( آخذ بقائمة من قوائم الملك ؟ هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول ؟ ! " .
الأدلة على ثبوت الكرسي :
قال تعالى : ? وسع كرسيه السموات والأرض ? .
وقد قيل : كرسيه : علمه ، وهذا غير صحيح .(1/346)
وعن ابن مسعود قال : ( بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام ، وبين كل سماء خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام ، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ) . أخرجه الدارمي وابن خزيمة والطبراني
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : قال ( : ( هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم قال : ( بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة ، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك ، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم ) . أخرجه أبو داود ( 4723 ) والترمذي ( 3320 ) وابن ماجه
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
ما يستفاد من الأحاديث :
1- ذكر المسافة بين كل سماء وسماء ، وبين السماء السابعة والكرسي ، وبين الكرسي والماء ، وأن مقدارها خمسمائة عام .
2- إثبات الكرسي والعرش والماء الذي فوقه العرش .
قال شيخ الإسلام :
" وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره ، وسنة رسوله ( ، وكلاك الصحابة والتابعين ، وكلام سائر الأئمة ، مملوء بما هو نص أو ظاهر : أن الله تعالى فوق كل شيء ، وأنه فوق العرش فوق السماوات مستوٍ على عرشه ... " . أ . ه
3- الأدلة على علو الله سبحانه وتعالى :
قال تعالى : ? وهو العلي العظيم ? .
وقال تعالى : ? وهو القاهر فوق عباده ? .
وقال تعالى : ? أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ? .
وقال تعالى : ? يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ? .
وقال ( : ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) ز
وقال ( للجارية : ( أين الله ؟ قالت : في السماء ، فأقرها وقال لسيدها : أعتقها فإنها مؤمنة ) .
4- إثبات أن السموات أجرام لها سمك .
5- إحاطة علم الله بكل شيء .(1/347)
مناسبة الأحاديث للباب :
حيث دلت على وجوب تعظيم الله ، وتعظيمه هو توحيده وتنزيهه عن الشرك .
ختم المؤلف رحمه الله كتابه هذا بوجوب تعظيم الله وتقديره وتنزيهه عن الشرك والأنداد ، وأن تعظيم الله من الإيمان ، وهو أهم وسائل الابتعاد عن الشرك والمعاصي .
يقول بلال بن سعد : " لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى عظم من عصيت " .
قال تعالى : ? ما لكم لا ترجون لله وقاراً ? قال ابن عباس : " ما لكم لا تعظمون الله حق تعظيمه " .
تأمل حجمك بالنسبة لملك من ملائكة الله الذين : ? لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ? ? يسبحون الليل والنهار لا يفترون ? .
يقول النبي ( : ( أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ) . رواه أبو داود
ولعلك سمعت عن جبريل الذي له ستمائة جناح ، تسع ما بين المشرق والمغرب ، وهو من خشية الله مشفق .
يقول النبي ( : ( مررت بجبريل ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وهو كالحلس البالي من خشية الله ) صححه الألباني
فسبحان من تفرد بالكبرياء والعظمة وكل شيء يسبح بحمده ومن يزغ عن أمره نذقه من عذاب أليم .
يقول النبي ( : ( أطت السماء وحق لها أن تئط ، والذي نفس محمد بيده ، ما فيها موضع شبر إلا وفي جهته ملك ساجد يسبح الله بحمده ) .
فإذا حدثتك نفسك بالمعصية ، وهمت بالخطيئة ، فقل لها : ? ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ? .
والله أعلم
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله إلا انت أستغفرك وأتوب إليك
بقلم
الشيخ : سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
1. رواية : ( فصدقه بما يقول ) ليست عند مسلم ، وإنما هي عند أحمد ( 4/68 )(1/348)
1. قال الحافظ : ( 4/167 ) : " لالجذام : بضم الجيم ، هو علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء ، وربما أفسد في آخره إيصالها حتى يتآكل ، قال ابن سيده : سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها " . أ.ه
قال ابن القيم ( 4/148 ) : " وسمي داء الأسد ، وفي هذه التسمية ثلاثة اقوال للأطباء :
أحدها : أنها لكثرة ما تعتري الأسد . والثاني : لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبها وتجعله في سحنة الأسد . والثالث : أنه يفترس من يقربه أو يدنو منه بدائه افتراس الأسد " .
??
??
??
??
13(1/349)