وأبغضه لمعصيته لله جل وعلا، وأن كل نعمة تحدث للإنسان فهي من الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها، وقال ابن جرير : فإن أهل التأويل اختلفوا بالمعني بالنعمة فذكر عن سفيان عن السدي : يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83] قال: محمد صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم. وأخرج عن مجاهد : يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83] قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش، ثم تنكره بأن تقول : هذا كان لآبائنا فورثونا إياه. وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك شفاعة آلهتنا. وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة ، وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر، النحوي اللغوي، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة، اشتغل ببغداد، وسمع الحديث على إسحاق بن راهويه وطبقته، توفي سنة ست وسبعين ومائتين]. النعمة الصواب أنها عامة ليست خاصة في معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو فيما عدده الله جل وعلا في سورة النحل، فإنه عدد نعماً كثيرة، وكذلك ما ذكر ابن عباس أنها البيوت، أو أنها اللباس، أو أنها ما يقي من الحرب من الحديد وغيره فإن هذه أمثلة فقط، ولا يقصد بها أنها تجمع النعم، فكل ما أنعم الله به على عباده يجب أن يشكروه عليها، وأن يضيفوها إليه معترفين له بالفضل والكرم والجود، ولا يجوز أن تضاف إلى غيره. فالآية عامة، ولكن من أعظم النعم إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أعظم نعم الله أن أرسل محمداً صلى الله(5/117)
عليه وسلم إلى الناس يعرفهم بالله جل وعلا ويدعوهم إلى دار السلام، فإذا اعتنق الإنسان دعوته فهذه من أكبر نعم الله عليه، فعليه أن يحمد ربه جل وعلا على ذلك، ويرتبط بهذه النعمة، ويسأل الله جل وعلا أن يثبته عليها حتى يلقاه، وليس هناك نعمة أكبر من هذه. قال رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: ما ذكره المصنف عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي الزاهد -عن أبيه وعائشة و ابن عباس ، وعنه قتادة و أبو الزبير و الزهري ، وثقه أحمد و ابن معين ، قال البخاري : مات بعد العشرين ومائة- يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83] قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل : لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا. واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها، وهو الصواب والله أعلم. قوله: (قال مجاهد): هو شيخ التفسير الإمام الرباني مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم، قال الفضل بن ميمون : سمعت مجاهداً يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرات أقفه عند كل آية وأسأله : فيم نزلت ؟ وكيف نزلت ؟ وكيف معناها ؟ توفي سنة اثنتين ومائة وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله].
الذم لمن يضيف النعمة إلى غير الله تعالى(5/118)
قال رحمه الله تعالى: [قال: وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال: (أصبح اليوم من عبادي مؤمن بي وكافر..) الحديث. وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير]. قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وقال أبو العباس ) -هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الإمام الجليل رحمه الله. (بعد حديث زيد بن خالد) - وقد تقدم في باب الاستسقاء بالأنواء. قال: (وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير) انتهى]. الحديث تقدم، وهو حديث ثابت في صحيح مسلم وفي غيره عن زيد بن خالد في قصة غزوة الحديبية: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ما قال ربكم البارحة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب ومؤمن بالكوكب كافر بي. أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)، وسبق أن معنى الإيمان هنا الاعتراف بالفضل ونسبة النعمة إلى الله جل وعلا، أما الكفر فمعناه جحد النعمة وإضافتها إلى غيره. والإيمان بالكوكب هو كونه نسب إليه نزول المطر، فيقال: مطرنا بنوء كذا، ومن المعلوم -كما سبق- أنه ليس المقصود أن الكوكب هو الذي يخلق المطر وهو الذي ينزله، فما كانوا يعتقدون هذا، وإنما كانوا يقولون: إن المطر جاء بسبب هذا الكوكب في طلوعه، لهذا يضيفون إليه ذلك، فيقولون: النوء الفلاني محمود وغزير المطر وكثيره، والنوء في الواقع ليس عنده مطرْ وليس عنده قحط، وليس عنده شيء من التصرفات، إنما هو مسخر مدبر يسير حيث سيره الله،(5/119)
فنسبة المطر إليه أو غير المطر من أعظم جحود النعم، ومن الخطأ الواضح، ومن ذلك ما يحدث اليوم كثيراً في بعض الصحف وفي بعض المجلات، وقد يوجد في بعض الإذاعات أن الطالع الفلاني يكون فيه كذا وكذا، وأن من كان طالعه كذا فسيصيبه كذا وكذا، وأنك في هذا اليوم أو في هذا الشهر ستصنع كذا ويصيبك كذا ويحدث لك كذا، وهذا كله من الكفر بالله جل وعلا، وإذا كان اعتقد الإنسان أن هذا حقيقة فهو كفر أكبر، أما إذا أضافه مجرد إضافة مع اعتقاده بأن الله جل وعلا هو المصرف لكل شيء والمدبر لكل شيء، وإنما جعل هذه أسباباً، فهذا من الكفر الذي لا يخرج من الدين الإسلامي، ولكنه كفر، وهو مذهب لكمال التوحيد، فيجب على الإنسان أن يتنبه لهذه الأمور، والأفعال سواءٌ أكانت في الأجرام السماوية، أو في الأرض مثل هبوب الرياح، أو كون الإنسان يوفق إلى عمل معين وأنه يحدث له شيء وإن كان هو الذي يقوم بالسبب كلها بتيسير الله جل وعلا وبتقديره وبتفضله على العبد، فلا يجوز أن يضيفه إلى غير الله جل وعلا. أما الأمور التي وقعت وانتهت مثل شيء عمله فإنها أيضا يجب أن تكون إضافتها إلى الله جل وعلا، ولا يجوز أن تضاف إلى مخلوق من المخلوقات أو جزء ممن جعل سبباً لها. والطريق في هذا أنه إذا أراد أن يضيف إلى سبب أو شيء يقول: إن هذا حدث من الله ثم من فلان، ومع ذلك لا يجوز أن يكون هذا على الحقيقة، فهو سبب فقط، بل الذي أوجد كل شيء وتصرف في كل شيء هو الله جل وعلا، والمخلوق ليس له دخل في هذه الأشياء، وربنا جل وعلا يخبرنا أنه جعل لكل شيء سببا، ولكن السبب لا يكون سبباً واحداً مستقلاً، وقد تكون هناك موانع كثيرة، فيكون جزءاً من السبب، وقد تكون هناك أسباب عدة يكون واحداً منها، فلو شاء لعطل الأسباب كلها أو بعضها ولم يحدث شيء. وكم يصنع الإنسان من أشياء يقدر في نفسه أنه مهيمن عليها ثم لا يستطيع ذلك وإن وجدت الأسباب التي معه؛ لأن الأمور كلها بيد الله، ولهذا لما(5/120)
قيل لبعض العرب: كيف عرفت الله؟ قال: بنقض العزائم. لأن الإنسان يعزم على الشيء ثم في لحظة يبدو له غير ذلك، فمن أين جاءه هذا؟ فالأمور كلها بيد الله جل وعلا يصرفها. فإذا حدث للإنسان حادث هو سبب فيه أو غيره سبب فيه فإنه يجب أن يضاف ذلك إلى محدثه، ولا يمنع هذا من أن الإنسان يؤاخذ بأعماله، ويؤاخذ بما كان سبباً في وجوده؛ لأنه يجب أن يتصرف على وفق الشرع، ولا يكون سبباً في إتلاف شيء أو في منع شيء مما هو لغيره، فإن حصل ذلك فهو مؤاخذ بما كان هو السبب فيه، ومع ذلك كل الأمور بيد الله جل وعلا.
إضافة النعمة إلى غير الله تعالى سبب لدخول الكفر مع الإيمان(5/121)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها وأسند أسبابها إلى غيره، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا. قال شيخنا رحمه الله : وفيه اجتماع الضدين في القلب، وتسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة]. قصده باجتماع الضدين الإيمان والكفر؛ لأنه قال: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا [النحل:83]، فيجتمع في القلب ضدان، المعرفة وضدها الإنكار، والإيمان وضده الكفر، فكونه أخبر أنهم يعرفون النعمة لا ينافي أنهم ينكرونها، وكونه أخبر أنهم يؤمنون لا ينافي أنهم يكفرون، كما قال جل وعلا: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، وقد سبق أن معناها أنك إذا سألتهم: من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. فهو إيمان بالربوبية، وأما الشرك فكونهم يعبدون مع الله غيره. وكذلك النعم يقرون بأن الله جل وعلا هو الخالق وهو المتصرف في كل شيء، وهو الذي ينزل المطر، ولكن يضيفون نزول المطر إلى الكوكب، وقد يضيفونه إلى ما هو سبب، لهذا جاء عن ابن عباس أنه قال: يشركون بكل شيء حتى بالكلب فيقولون: لولا كلبة فلان لأتى اللصوص، أو: لولا الكلب مع الغنم لعدا عليها الذئب أو لأكل منها الذئب. فكل هذا يكون من جعل الند مع الله جل وعلا؛ لأن النعم يجب أن تضاف إلى الله جل وعلا؛ فهو مسديها، وهو الذي جعل هذه أسباباً وسخرها للعباد. وقد أخبر جل وعلا أنه خلق لنا ما في السموات والأرض جميعاً منه، وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض، وسخر لنا البحار والأنهار، وسخر لنا الشمس والقمر، وسخر لنا كل ما فيه نفعنا من ملائكة ومن مخلوقات وغيرها، فهي كلها بتسخير الله جل وعلا، وعلى ذلك لا يجوز أن تضاف إلى غيره جل وعلا، فهو المتصرف وهو المنعم، ثم تضاف إلى مخلوق مربوب مقهور ليس له من التصرف شيء.(5/122)
مسائل باب قول الله: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)
......
تفسير معرفة النعمة وإنكارها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها]. المعرفة: هي الإقرار بأن الله هو الموجد لها وهو المتصرف في الكون، هذه هي المعرفة، أما إنكارها فإن تضاف إلى غيره جل وعلا؛ فيقول مثلاًً: هذا المال أنا استطعت أن أكسبه وأتصرف فيه. أو أنه جاء به فلان. أو يقول: الريح طيبة والملاح حاذق، وهذا لما كانت السفن تجري بالرياح وليس فيها ما يجريها من المحركات النارية كانوا يضيفون حسن جريها إلى الريح وإلى حذق الملاح الذي يصرفها، وهذا كفر بالله جل وعلا. وهكذا السيارة والطيارة وغيرهما، وكل ما هو نعمة أنعم بها على المخلوق يجب أن يعترف أنها من الله؛ لأن الله جل وعلا هو الذي جعل في الإنسان العقل والفكر والقوة على إيجاد الأشياء، ثم هو الذي سخر له ما في الأرض كما هو مشاهد لمن تأمل ونظر، فيجب أن تضاف إليه جل وعلا.
إنكار النعمة وجريانه على ألسنة كثير من الناس
[المسألة الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير]. المقصود: كثير من الناس، ليس الكفار فقط، بل حتى المسلمين، فهذا شيء يجري على ألسنة أكثر الناس، فيقولون: لولا فلان ما صار كذا ولولا كذا صار كذا بالإثبات والنفي، فيجب أن يتنبه الإنسان لمثل هذه الأشياء. [المسألة الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة]. [المسألة الرابعة: اجتماع الضدين في القلب].
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [106]
يخطئ كثير من الناس عندما يظنون أن الشرك مقصور على الإشراك في عبودية الأفعال، والصواب: أن الشرك داخل في جميع أنواع العبادة: القلبية واللسانية والقائمة على الجوارح، وقد جاء النهي عن اتخاذ الأنداد والشفعاء من دون الله في كل ذلك.
باب قول الله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(5/123)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]]. سبق أن التوحيد هو إخلاص العمل لله جل وعلا، وأن الإخلاص هو أن يكون العمل خالصاً ليس فيه شيء لغير الله جل وعلا، وأن تحقيق التوحيد أن يكون لله وحده، وتحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك ومن الذنوب ومن البدع، فجميع الأعمال تصفى وتخلص من شوائب الشرك فلا يكون لأحد فيها شيء. وأن يجتنب الإنسان البدع كلها والذنوب، فإذا كان بهذه الصفة فهو من المحققين للتوحيد، وإذا مات على ذلك دخل الجنة بلا حساب. والند هو المثيل والنظير، ولا يلزم أن يكون مماثلاً من جميع الوجوه، فإذا كان مماثلاً ولو بوجه من الوجوه، في صفة من الصفات، أو مماثلاً في فعل من الأفعال صح أن يقال: إنه ند، وقول الله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] هذا جاء بعد قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فهنا جعل الخطاب عاماً (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، فأمر بالعبادة، (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ)، ومعلوم أنه ليس هناك أحد ينفك عن عبادة الله، فجميع الخلق لا ينفكون عن العبادة ولو جزئياً بأن يعترفوا بأن الله هو خالقهم، ولكن هذه العبادة لا تكون عبادة شرعية، وإنما تكون شرعية إذا كانت على وفق أمر الله وليس فيها شيء من الشرك، فهنا تكون عبادة مفيدة ومثمرة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ)، فبدأ بأنه خلقهم لأنهم يعترفون بهذا، وهذا يدل على أن المعبود يجب أن يكون الخالق الذي خلق، وأن الخالق هو الذي يستحق العبادة، أما الذي لا يخلق ولا يرزق فلا يستحق العبادة؛ لأنه مخلوق. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ والذين مِنْ قَبْلِكُمْ)(5/124)
يعني: ليس الخلق خاصاً بكم أنتم، بل خلق كل شيء، فهو الخالق لكل شيء، وهم يعترفون بهذا ولا ينكرونه، وهذا معناه أنهم يقرون بتوحيد الأفعال، أو إن شئت فقل: بتوحيد الربوبية. فالأفعال التي تصدر من العبد يؤمر فيها أن تكون أفعاله خالصة لله، وعبادته خالصة لله، وإلا كان هناك تناقض، فلو كان التوحيد شيئاً واحداً لصار هذا الكلام متناقضاً؛ فكيف يقول: اعبدوا ربكم. ثم يقول: الذي خلقكم والذين من قبلكم؟ فيقال: العبادة موجودة؛ لأنهم يعترفون أن الله هو الذي خلقهم، فهذا هو التوحيد، ولكن لما جعل هذا موجباً للعبادة الصادرة منهم دل على أنهم لو استمروا على الاعتراف بأن الله هو الذي خلقهم والذين من قبلهم وهو الذي أوجد لهم النعم فهذا لا يجدي شيئاً، وأنهم على الكفر، فهم كفار وإن اعترفوا بهذا، ولهذا قال بعد ذلك: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عطفاً على قوله: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: يبين لكم هذا الأمر لعلكم تجعلوا بينكم وبين عذاب الله شيئاً واقياً وذلك بامتثال أمره، وليس معنى ذلك أن الله لا يعلم ما يحدث منهم. فالتعليل الذي يذكره الله جل وعلا لا يدل على أنه يخفى عليه شيء، بل هو عالم بكل شيء، وعالم بما سيكون منهم، ولكن التعليل بالنسبة لما يُذكرهم به علَّهم أن يحدث لهم اتعاظ وخوف ورجوع إلى الحق، قال الله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً [البقرة:22] أي: جعلها ممهدة تطمئنون فيها بالاستقرار عليها والمسير فيها والانتفاع بها، ولم تكن مضطربة لا تستطيعون الاستقرار عليها، بل جعلها كالفراش الذي تجلس عليه وتنام. قوله: (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)، أي: جعلها فوقكم تشاهدونها، ولا يعتقد أحد أن مخلوقاً ما هو الذي سوى الأرض بهذا الشكل، أو أنه هو الذي رفع السماء وجعلها فوق الأرض، أو أنه شارك الله في ذلك، بل كلهم يعترفون بأن الله جل وعلا هو(5/125)
الخالق لكل شيء. (وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) المقصود بالسماء العلو، أي: أنه أنزل من فوق رءوسكم ماء خلقه في الجو، بل جبال من المياه تحملها السحب، ولو شاء لأغرقكم بذلك، ولكنه برحمته جعل نزولها على صفة لا يضر من نزل عليه رحمة منه بكم، من الذي يتصرف هذا التصرف؟ هل الماء نفسه يتصرف بذلك؟ لا يمكن. وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ [البقرة:22] ثمرات الأرض: كل شيء تأكلونه وتأكله أنعامكم، وهو الذي أنزل الماء، وفتق الأرض له فخرجت منها أنواع متعددة. التراب واحد والماء واحد، ولكن الخارج متنوع الطعوم والألوان .. كل هذا دليل على أن الله جل وعلا هو المتصرف في كل شيء.......
إبطال اتخاذ الأنداد في الشرع(5/126)
قال الله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أي: لا تجعلوا له نظراء في الحق تصرفون لهم العبادة، مثل الأصنام وغيرها. وكونهم يعلمون، أي: أنهم يعلمون أنه جل وعلا هو الفاعل لما ذكر من الخلق وفرش الأرض ورفع السماء وإنزال المطر وإنبات النبات، فإذا كانوا يعلمون هذا كيف يعبدون معه غيره؟ هذا ضلال في الواقع. إذاً: المعرفة ليست معرفة العبادة، وإنما هي المعرفة في الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا، وبهذا يتضح أن توحيد الأفعال الصادرة من الله وكونها تضاف إليه وحده ولا يشرك معه فيها غيره؛ أنها لا تفيد في إسلام الإنسان وفي نجاته حتى يضم إليها توحيد العبادة الصادرة من العبد لله وحده. أما الأمور التي تصدر من الله فهو يعتقد أنه هو المتوحد في إيجادها، وهذا دليل على وجوب أن تكون العبادة له، وهذا كثير في القرآن جداً، وبهذا يتبين أن توحيد العبادة غير توحيد الربوبية؛ فعلى هذا قوله: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً) هو الذي له المثل أو النظير ولو في جزئية من الجزئيات، ولا يلزم أن يفعل الند كفعل الله، ولكن إذا جعل له شيء مما هو لله صار نداً له. ......
شرك الألفاظ(5/127)
يبين هذا ويوضحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً؟) ، ومن المعروف أن العبد له مشيئة يتصرف فيها، ولكن هذه المشيئة مخلوقة لله، وهو الذي وهبها للإنسان، ولما قال له: ما شاء الله وشئت في شيء فعله، قال: (أجعلتني لله نداً؟) ، فلما جمع مشيئة الله ومشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم بالواو كان الإشراك واقعاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (قل: ما شاء الله ثم شئت) ؛ لأن (ثم) تأتي للترتيب ولا تدل على الجمع والاشتراك، فهذا يدل على أن الشرك يحصل ولو في اللفظ، مع أن الذي قال له هذا القول لا يعتقد أنه شريك لله جل وعلا في أفعاله، لكنه لما جمع بين مشيئة الله ومشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم بالواو قال: (أجعلتني لله نداً). وكذلك لو قال الإنسان: لولا الله وفلان. فيكون جاعلاً له نداً لما جمع بين الله جل وعلا وبين فلان في الفعل. فهذه التنديدات تكون شركاً بالألفاظ، وهي قادحة في التوحيد ومنقصة له، ومثل ذلك ما سبق من إضافة النعم إلى أسبابها، فإنه يكون أيضاً من التنديد. قال الشارح رحمه الله تعالى: [الند : المثل والنظير، وجعل الند لله هو صرف أنواع العبادة أو شيء منها لغير الله؛ كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن يدعونه ويرجونه أنه ينفعهم ويدفع عنهم ويشفع لهم. وهذه الآية في سياق قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]، قال العماد بن كثير رحمه الله في تفسيره: قال أبو العالية : فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً ، أي: عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس و(5/128)
قتادة و السدي و أبو مالك و إسماعيل بن أبي خالد وقال ابن عباس : فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: لا تشركوا بالله شيئاً من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وكذلك قال قتادة. وعن قتادة و مجاهد : (( فلا تجعلوا لله أنداداً )) قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله. وقال ابن زيد : الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وعن ابن عباس : (( فلا تجعلوا لله أنداداً )): أشباهاً. وقال مجاهد رحمه الله: (( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون )) قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
شرك الأوثان والأصنام(5/129)
ومن عادة السلف في تفسير القرآن: أن أحدهم يذكر الجزئية من المعنى الكلي للآية بحسب حاجة السامع، وإلا فالمعلوم أن خطاب الله جل وعلا في كتابه يشمل جميع أفراد ما دخل تحت هذا المعنى، والند ليس من اللازم أن يكون شبيهاً لله جل وعلا، فالله جل وعلا ليس له شبيه ومثيل تعالى وتقدس، ولكنه يدعى ذلك في شيء من الأشياء التي تجب أن تكون لله، وهذه الأشياء التي يمكن أن تكون لله هي الأفعال التي تصدر من المخلوق فقط، أما أفعال الله جل وعلا مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة ومحاسبة الخلق وجزائهم وعقابهم وغير ذلك، فهذا لا يمكن أن يكون له ند فيه، ولا أحد يدعي أن الله جل وعلا يشاركه أحد في شيء من ذلك إلا إذا كان مكابراً أو في عقله آفة، فمثل هذا لا يلتفت إليه. وإنما الأنداد التي تقع من العباد هي في أفعالهم التي تصدر منهم من التأله والدعاء والتعبد وما أشبه ذلك، وذلك كما إذا دعا الله ودعا معه مخلوقاً من المخلوقات سواء كان نبياً أو ملكاً أو ولياً أو غير ذلك فقد جعل لله نداً، وإن زعم أنه بذلك يتعلق بالوسيلة التي يزعم أنها تقربه إلى الله، فإن هذا ند لله جل وعلا؛ لأنه جل وعلا حكم أن لا يكون بينه وبين عبده وساطة في الدعاء والتعبد، بل يجب أن يتجه العبد إلى ربه في كل ما يهمه ولا يطلب من العبد أن يفعله؛ فإذا التفت إلى غير الله جل وعلا ولو في جزئية من الجزئيات فقد جعل لله نداً. فهذا المقصود بالند الذي يصدر من العبد نفسه في اعتقاده وفعله، فلو أنه نذر للولي الفلاني أو القبر الفلاني وهو يعتقد أنه يقبل ذلك ويثيب عليه أو يعاقب عليه إذا لم يفعله، فهذا قد جعله نداً لله؛ لأن النذر عبادة يجب أن تكون لله خالصة. وكذلك إذا جلس عند القبر يطلب البركة، أو طاف به، أو التمس البركة منه بأن يتمسح بجدرانه أو ما أشبه ذلك مما يفعله الجهال، أو أشباههم ممن هو محسوب على أهل العلم.. إذا فعل ذلك فقد جعل لله نداً؛ لأن التبرك وكذلك العكوف(5/130)
عبادة يجب أن تكون مطلوبة من الله جل وعلا لا من غيره. وكذلك في الألفاظ كما سيأتي، فإن الألفاظ التي تضاف إلى الأفعال الصادرة من الله أو الواقعة في قوله، يجب أن تكون لله وحده، ولا تضاف إلى سبب ولا جزء السبب؛ فإذا قال الإنسان: لولا الله وفلان، شاء الله وشاء فلان، وما أشبه ذلك، فإن هذا من التنديد، وكل هذه أمور جزئية، وهي من الأقوال التي تدخل في قوله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً ، مع أن ظاهر الآية أنها نزلت في العبادة التي وقعت من الكفار لأصنامهم، ولكن كثيراً من الناس اليوم لا يعرف العبادة التي تصدر من المشركين، ويظن أنها إنما كانت سجوداً وركوعاً، وأنهم يعتقدون أن هذه الأصنام شريكة لله في التصرف، وهذا ظن بعيد عن الواقع جداً؛ إذ كانوا يعبدون أشجاراً وأحجاراً والملائكة والجن والأنبياء وغيرهم، فكل عبادتهم لهم جميعاً يطلبون بها وساطة لهم عند الله ويطلبون شفاعتها، كما أخبر الله جل وعلا عنهم في ذلك فقال: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] ، وهم يعلمون أنهم ليس لهم من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، ولكنهم قاسوا ما يطلبونه من الله على ما يقع بينهم عند المعظمين من بني آدم، فقالوا: إذا كان لك حاجة عند الملك وأردت أن تحصل لك فاذهب إلى من هو قريب منه من وزير أو أمير أو ما أشبه ذلك، فتجعله وساطة لك حتى تلبى حاجتك، وزعموا أنك إذا جعلت وساطة بينك وبين الله أن هذا من باب التعظيم، لكنه قياس فاسد، وذلك أن الله جل وعلا ليس دونه حجب، وليس له أعوان، ولا يخفى عليه شيء، ولا يمكن أن تخفى عليه بعض حاجات العباد حتى يوصلها بعضهم إليه ويعلمه بها تعالى الله وتقدس عن ذلك. فكل الشرك جاء من باب القياس الفاسد، قياس الخالق على المخلوق. والمقصود: أن عبادة الكفار كانت طلب الشفاعة ممن يتوجهون إليهم، سواء كانت أشجاراً أو أحجاراً أو أولياء أو ملائكة أو أنبياء أو غيرهم،(5/131)
فهم يدعون من يدعونه ويقولون: (حتى يقربنا إلى الله زلفى)، يعني: يتوسط لنا فيشفع لنا؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا الشفاعة في أماكن متعددة في الكتاب، وأن الشفاعة التي يطلبها الكفار غير واقعة.
إبطال اتخاذ الشفعاء من دون الله
ثم قال جل وعلا: أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ [الزمر:43] المقصود بها (بل اتخذوا من دون لله شفعاء)، وهي العبادة التي يتعبدون بها، وقال جل وعلا: قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شيئاً وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43] ، أي: كيف تتخذونهم شفعاء وهم لا يملكون شيئاً؟ ثم كثير منهم لا عقل عنده؛ لأن ما يعبده إما حجر أو شجر أو ميت لا يدري ماذا يدور للأحياء، أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شيئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:43-44]، وفي هذا إبطال دعوة المشركين، المتقدمين منهم والمتأخرين حيث يقولون: نحن نتوسل بالأولياء .. نحن نجعلهم وسيلة لنا، والتوسل معناه: الدعاء، ثم يزعمون أن الأولياء بدورهم يدعون الله لهم، وهذا هو شرك المشركين بعينه. وقد يربو شرك هؤلاء المتأخرين على شرك القدماء بأن يزعموا أن الأموات أو الأولياء يتصرفون في المطلوبات منهم بدون أن يأذن الله جل وعلا في شيء من ذلك، وهذا شرك ما بلغه شرك المشركين الأوائل؛ لأنهم أتم عقولاً من هؤلاء، فلم يصلوا إلى مثل هذا. والمقصود: أن الأنداد التي يمكن أن يجعلها العباد لله جل وعلا هي في الأفعال التي تصدر منهم من الدعاء أو الاعتقاد، أو النذور، أو الذبح، أو بغير لله عز وجل، ومن حلف بغير لله فقد جعل ذلك المحلوف به نداً لله جل وعلا كما سيأتي.
شرح حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ...)(5/132)
قال الشارح رحمه الله [ وذكر حديثاً في معنى هذه الآية الكريمة، وهو ما في مسند الإمام أحمد، عن الحارث الأشعري : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات: أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن؛ فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي! إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد وقُعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن لله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن: أولاهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟! وإن الله خلقكم ورزقكم؛ فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده مالم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صُرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خَلوف فم الصائم أطيب عند الله من المسك. وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدّوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي بالقليل والكثير حتى فَكَّ نفسه. وآمركم بذكر الله كثيراً؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه، وإن العبد أحصنُ ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا آمركم بخمسٍٍ الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل لله؛ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى(5/133)
الجاهلية فهو من جثى جهنم. قالوا: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين عباد الله) ] ......
الأمر بتوحيد الله دين كل الأمم
هذا حديث عظيم يجب أن يتأمل ثم يعمل به، ولا شك أنه خرج من مشكاة النبوة وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فيه من العبر: أن التوحيد دين الأنبياء كلهم، فالله جل وعلا أوحى إلى زكريا -وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل- بهذه الأمور الخمسة، وأمره أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وزكريا وعيسى عليهما السلام كلاهما كان في وقت واحد، وهما أبناء خالة، ومعلوم كثرة أنبياء بني إسرائيل؛ وقد يبعث فيهم في وقت واحد عدد منهم. وقد علم عيسى عليه السلام أن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بهذه الكلمات وأنه تأخر قليلاً عن إبلاغها، فقال له عيسى: إما أن تبلغهن أو أبلغهن، فقال له: يا أخي! والله لو سبقتني-يعني: في إبلاغهن- أخشى أن يعذبني ربي جل وعلا عذاباً عظيماً، فجمع بني إسرائيل في المسجد الأقصى حتى لم يتسع لهم فجلسوا فوق الجدران، ثم أمرهم بهن، فقال: (الأولى: أن الله جل وعلا أمركم أن تعبدوه وحده لا شريك له)، وضرب لهم مثلاً في ذلك، فقال: مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله، ثم أعطاه عملاً يعمل فيه وينتج، وقال: إذا أنتجت شيئاً فهذا مالي، فصار هذا العبد إذا أنتج شيئاً ذهب به إلى غير سيده، وهذا مثل المشرك، فالله خلق الناس ولم يشاركه في خلقهم أحد، ورزقهم وعافاهم وأنعم عليهم بسائر النعم، ثم كثير منهم يعبد غيره، فمثالهم مثل العبد الذي أساء المعاملة لسيده، اشتراه بخالص ماله، فصار يأخذ غلة عمله ويذهب بها إلى غير سيده، من الذي يرضى مثل هذا؟ لهذا قال: (أيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟) ، لا أحد يرضى هذا لنفسه فكيف يرضاه لربه جل وعلا؟! والمقصود: أن الخلق كلهم عبيد لله جل وعلا : فلا يسوغ للعبد(5/134)
أن يخضع لعبد مثله، وأن يصرف العبادة إلى عبد فقير محتاج مثله، فإن فعل ذلك فهو ضال في دينه وعقله.
الصلاة وعظم قدرها في الشرع
قال: (وآمركم بالصلاة) ، وهذا دليل على أن الصلاة كانت مفروضة على بني إسرائيل، ولكنها ليست على مثل هذه الصفة التي فرضت علينا، ثم قال: (فإن الله ينصب وجهه لوجه المصلي مالم يلتفت) ، ومعنى ذلك: أن المصلي إذا قام في الصلاة أن الله يستقبله وينظر إليه، وقوله: (ما لم يلتفت)، يعني: أنه إذا التفت انصرف الله عنه وتركه، ومن يرضى بأن ينصرف الرب جل وعلا عنه في صلاته؟ ثم الالتفات هنا يقصد به شيئان: الالتفات بالبدن عن القبلة ولو التفت تكون صلاته باطلة، ويعرض الله جل وعلا عنه، والالتفات إذا كان بالبدن جميعاً بحيث صارت القبلة عن يساره أو يمينه أو خلفه فإن الصلاة تكون باطلة، أما إذا التفت برأسه وبدنه مستقبل القبلة؛ فمثل هذا يكون مكروهاً، وهو اختلاس من الشيطان يختلسه به من صلاة العبد، وينقصها، وإما أن يكون شيئاً يسيراً لحاجة؛ فلا بأس به. القسم الثاني: التفات القلب، وهو أعظم من التفات البدن، ويظهر أنه هو المقصود في الحديث؛ لأن روح الصلاة حضور القلب وخشوعه، فإذا التفت الإنسان بقلبه إلى غير ما هو فيه من صلاته؛ فإن الله يعرض عنه، ويكله إلى ما اشتغل به من أفكار الدنيا وغيرها. وعلى هذا يجب على العبد أن يحرس قلبه عن الاشتغال في الصلاة بغير صلاته، والتفكر فيما يقوله ويسمعه ويفعله، فإنه إذا دخل في الصلاة ورفع يديه وكبر كأن معنى ذلك: أن الحجاب رفع بينه وبين ربه، فهو يقابل ربه فليفكر ماذا يقول له، وهل هناك شيء أكبر من الله؟ يجب أن يكون في قلبه تقدير لله جل وعلا، وأنه أكبر من كل شيء؛ فلا يلتفت إلى غير ربه جل وعلا، ثم يفكر بما يقول ويتأمله، ويجاهد الوساوس والشيطان، وأحرص ما يكون الشيطان على إفساد صلاة العبد؛ ولهذا جاء: (أنه إذا سمع النداء ذهب وله ضراط)؛ لأنه الذكر يطرده، فإذا انقطع صوت(5/135)
المؤذن جاء مسرعاً إلى المصلي، ويقول: له اذكر كذا .. اذكر كذا، ويذكره بالأشياء التي لم يكن يذكرها. ثم هو يعرف قلب الإنسان ويدرك ميوله إلى أي شيء يكون؛ فيذكر له الأشياء التي يميل قلبه إليها، فيذكره بها ليشتغل بها عن الصلاة، فيجب أن يجاهد الإنسان نفسه ويجاهد الشيطان في هذه الدقائق القصيرة، حتى لا ينصرف الرب جل وعلا عنه ويعرض عنه، وهذا من الأمور المهمة جداً والتي ينبغي للإنسان أن يتفطن لها وأن يعمل عليها، عله يكون ممن يستمع له ربه وينظر إليه في صلاته حتى ينتهي؛ فتكون صلاته محفوظة، ويكون من الذين أقاموا الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة هي أن يأتي بها كاملة على الوجه المطلوب.
الصدقة وتكفيرها لذنوب العباد
قال: (وآمركم بالصدقة) ، والظاهر أنها صدقة التطوع لا الفرض، وذكر مثالاً لها قال: مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً حتى أدركوه، يريدون قتله، فصار يفتدي منهم بكل ما معه من قليل وكثير حتى فك نفسه من ذلك ونجا. ومعنى ذلك: أن الصدقة تكفر الذنوب؛ لأن الذنوب هي عدو الإنسان، وهي التي تطلبه حتى تهلكه، فإذا بذل الصدقة فإنه يفك نفسه من عدوه بالصدقات، فيصبح طليقاً حراً بعد أن كان مأسوراً يراد قتله.
أجر الصيام
قال: (وآمركم بالصوم) ، وذكر مثل الصوم: أنه كمثل رجل في جماعة معه صرة من مسك، وكلهم يجد رائحة المسك الطيب، فالصوم جعل لصاحبه رائحة طيبة؛ لأنه في الواقع سر بين العبد وربه، وقد جاء نظير ذلك في الحديث الصحيح : (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ، ومعنى الخلوف: هو الآثار التي تخلفها المعدة وتتصاعد منها الأبخرة عند خلو الطعام، ومعلوم أنها رائحة عند الناس كريهة مستكرهة ولكنها عند الله طيبة، حيث إنها أثر الطاعة التي حبس نفسه عليها، والصوم صبر، والصبر ليس له جزاء إلا الجنة.
تحصن العبد بذكر الله(5/136)
قال: (وآمركم أن تذكروا الله كثيراً) ، وضرب لذلك مثلاً، وقال: مثل الذكر كمثل رجل طلبه العدو، ثم تحصن بحصن منيع، فلم يستطع الوصول إليه، ومعنى ذلك: أن الذكر حصن يتحصن به الإنسان من الشيطان. وقد ذكر الله ذلك في القرآن أن العدو قسمان: قسم مشاهد يواجه ويرى. فهذا يمكن أن يدافع ، وقسم غير مرئي وغير مشاهد، فقال للمشاهد: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] ، فهذا العدو المشاهد الإنسان، يعني: أن علاجه أنك تدفعه بالإحسان إليه إذا أساء إليك، فإن هذا يجعله لك صديقاً حميماً حبك وتذهب العداوة، هذا علاج ولكن هذا كما قال الله جل وعلا: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35] أي: حظ من العلم والحلم والدين والتوفيق من الله جل وعلا؛ لأنه صعب على النفوس أن تحسن إلى من أساء إليها، ولكن أثره حسن جيد جميل؛ لأنه يجعل العدو صديقاً. القسم الثاني: ذكره جل وعلا في قوله: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] ، فهذه طريقة التحصن من الشيطان.. فالاستعاذة من الشيطان بذكر أسماء الله وصفاته والتحرز بها منه، وهذا كثير جداً في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه الخمس التي أمر بها يحيى عليه السلام قومه، نحن مأمورون بها أيضاً، ولم تأت هذه مجرد حكاية وإنما لنعمل به؛ لأنه جاء على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه يأمر بهذه الخمس التي هي: عبادة الله وحده. وهي دين الرسل كلهم، وكذلك الصدقة، والصوم، وذكر الله جل وعلا، والصلاة وعدم الالتفات فيها، وهذه كلها نحن مأمورن بها.
من وصايا الرسول لأمته(5/137)
أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على تلك الوصايا خمساً فقال: (وأنا آمركم بخمس: بالجماعة) هذه واحدة، والجماعة معناها: الاجتماع على الحق، وأن يعتصم المسلمون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما كان هو الحق ولو كان عليه فرد واحد، أما إذا كان الناس على خلاف الحق فليسوا جماعة وإن كثروا، كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: الجماعة من كان على الحق وإن كان وحده. إذ قال الله جل وعلا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً [النحل:120]. الثانية: السمع. الثالثة: الطاعة لولي الأمر، وولاة الأمور هم العلماء والأمراء، فالعلماء يبينون الحق والشرع والأمراء ينفذونه. هؤلاء هم الذين يسمع لهم ويطاع ما أطاعوا الله جل وعلا، أما إذا أمروا بشيء فيه معصية فقد جاءت الأحاديث الصحيحة أنه لا سمع لهم ولا طاعة، فالسمع والطاعة فيما وافق الحق، وفيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كان السمع والطاعة في الحق موافقاً له وجب على كل مأمور أن يقوم به وإن كان الآمر ظالماً، وإن كان يعتدي على الإنسان ويضربه ويأخذ ماله، فيجب أن يسمع له ويطيع ما دام أنه يأمر بما أمر الله به وأمر به رسوله وإن منع حقه؛ لأنه يطاع في أمر الله وأمر رسوله، أما الحق الذي منعه فهو يطلب من الله وسوف يحاسبه الله جل وعلا على ذلك، فأمره إلى الله كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا. الرابعة: الهجرة، قال: (وآمركم بالهجرة ) والهجرة هنا معناها: هجر المعاصي سواء كانت المعاصي مقاربة الكفار والمكوث معهم في ديارهم أو في أعمالهم فيجب أن تهجرهم، أو كانت غير ذلك. و( تهجرها) أي: تتركها، فهي تشمل الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الحق والإسلام، وتشمل ترك المعاصي مطلقاً، فهذه كلها يأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم. الخامسة: الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فهو مما أمر به صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر به كثير في كتاب الله جل وعلا.(5/138)
ثم نهى عن دعوى الجاهلية، ودعوى الجاهلية هي كل دعوى تخالف الإسلام، فالدعوة التي تكون ضد الخصلة الأولى -الجماعة- والتي تدعو إلى التفرق، كأن يكون هناك أحزاب أو جماعات، فيكون بينهم معاداة، وكل جماعة تعادي الأخرى، فهذا من أمر الجاهلية. وكذلك كون الإنسان يجعل أسماء للمؤمنين والمسلمين ليست مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسميهم بأسماء تدل على سلوكهم ونهجهم وأعمالهم، فإن هذا أيضاً من دعوى الجاهلية؛ ولهذا قال: (فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل: المسلمين، المؤمنين، عباد الله) ، ثم أخبر أن من صنع ذلك فإنه من جُثى جهنم، يعني: أنه يجثى ويلقى فيها، فقالوا له: (وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) . فهذا حديث عظيم والشاهد فيه: قول يحيى بن زكريا عليه السلام: (آمركم أن تعبدوا الله وحده) ، وهذه الخصلة هي دين الله جل وعلا منذ بعث الرسل إلى قيام الساعة وهم متفقون على هذا، وعلى وجوب عبادة الله وحده، وأن المشرك خارج على أمر الله، وعلى العقل والفطرة. [ وهذا حديث حسن ]. الحديث صحيح ثابت رواه الإمام أحمد ، ورواه أبو يعلى في المسند، و الحاكم في المستدرك، وهذا الحديث من الأحاديث التي استدركها الدارقطني على مسلم، يعني: ألزمه بها؛ لأن الدارقطني رحمه الله تعالى له كتاب الإلزامات التي يقول: إنه يلزم الإمام مسلماً أن يخرجها؛ لأنها على شرطه، فهذا منها، وهذا الحديث التي من هذه الأحاديث ذكرها الدارقطني ، والحديث ثابت لا شك فيه.
آيات الله في الآفاق والأنفس دليل على وجوده(5/139)
قال الشارح: [ والشاهد منه في هذه الآية قوله: (إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً)، وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، والآيات الدالة على هذا المقال في القرآن كثيرة جداً، وسئل أبو نواس عن ذلك؛ فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لُجين ناظرات بأحداق هي الذهب السبيك على قُضُب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك ] مقصوده في هذا أن النبات دليل من دلائل وجود الله جل وعلا، والعيون الناظرات أي: الأزهار التي تختلف ألوانها، وروائحها وطعومها والتربة واحدة والماء والهواء واحد، فكيف خرجت هذه الزهور من هذا التراب؟ من الذي أخرجها؟ هذه كلها تدل على أن الله جل وعلا هو الذي خلقها، وهذه جزئية، وإلا ففي كل شيء دليل يشهد أن الله جل وعلا هو الخالق وحده وليس معه مشارك في ذلك؛ حتى لو أن الإنسان تأمل في نفسه: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، لوجد ذلك. وكذا لو نظر الإنسان في العالم كله لا يجد شخصاً يمكن أن يكون مشتبهاً بالآخر من كل وجه بحيث لا يميز عنه أبداً، هذا مع كثرتهم، وكذلك أصواتهم لا يوجد من يشبه صوته صوت الآخر، إذ الرجل صوته متميز عن الآخر وعن المرأة، والمرأة صوتها متميز عن الأخرى، وكذلك أبدانهم، مثل الأنامل التي لا يمكن أن تكون واحدة مطابقة للأخرى في كل الناس على كثرتهم، كما قال الله جل وعلا: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] .. فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6] .. قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:17-19]. ماء مهين فكيف خرج منه هذا العاقل؟! كيف صار له السمع والبصر واللسان والأمعاء والفم والأيدي(5/140)
والأرجل؟! هل يستطيع أحد أنه يأتي بهذا من هذا الماء؟ ولو وضع على منضدة أمام طب العالم فلا يمكن أن يستخرجوا منه عظمة أو لحمة، والله جل وعلا خلق منه الذكر والأنثى بهذه الصفة العجيبة. المقصود: أن الآيات في الأنفس والآفاق الدالة على الله جل وعلا لا حصر لها. قال الشارح: [ وقال ابن المعتز : فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد؟! وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ]. ......
شرك الألفاظ وأنواعه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم ]. هذه ثلاثة أنواع تقع كثيراً من الناس، وجعلها أهل العلم من اتخاذ الأنداد: ......
النوع الأول: الحلف بغير الله تعالى
فلا يجوز أن يحلف الإنسان بغير الله جل وعلا؛ فإن حلفه هذا يجعله مشركاً، وهذا الشرك قد يكون أصغر لا يخرجه من الدين الإسلامي، وقد يكون أكبر؛ على حسب ما يكون في نفسه من تعظيم المحلوف به، فإن جعله مثل ما يجعله كثير من الجهلة وعبدة القبور؛ حيث إنه إذا طلب منه الحلف بالله حلف بلا مبالاة في كل ما يطلب منه، وإذا طلب منه أن يحلف بـ أحمد البدوي أو بـ الحسين أو بـ عبد القادر يتأذى ويرتعد، ويصفر لونه ويأبى أن يحلف، فمثل هذا شركه أكبر يجعله خارجاً من الدين الإسلامي؛ لأنه جعل المخلوق أعظم من الله، وأقدر من الله في عقابه، أما إذا كان شيء يجري على لسانه عادة، فهذا من شرك الألفاظ التي يجب أن يتنزه ويستغفر منه، والشرك وإن كان صغيراً فهو في الواقع أكبر من الكبائر.
النوع الثاني: إضافة الأسباب إلى غير خالقها(5/141)
أن تضاف الأمور إلى أسبابها أو إلى جزء سببها، فهذا شرك، فقوله: ( لولا البط في الدار لأتانا اللصوص، لولا كليبة فلان لأتانا اللصوص )، يعني: البط قد ينبه صاحب البيت حتى يتنبه للسارق، وكذلك الكلب ينبح ويتنبه الإنسان لما يأتيه، فيكون هذا جزءاً من السبب في الحراسة، فإذا أضيف الأمر الذي أوقعه الله جل وعلا إلى هذا الجزء أو إلى هذا السبب صار تنديداً وشركاً.
النوع الثالث: إشراك الخالق والمخلوق في إيجاد شيء
لا يجوز أن يشرك الرب جل وعلا مع المخلوق في إيجاد شيء، وقولك: ( ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان لصار كذا وكذا ). فجعل هذه الأمور كلها من التنديد؛ ولهذا قال: (لا تجعل فيها فلاناً) أي: قل: لولا الله. واترك فلاناً، هذا كله شرك بالله جل وعلا. فيجب أن ينزه الإنسان ألفاظه ولسانه وأعماله من الشرك وإن كان صغيراً؛ لأن هذا من الشرك الأصغر الذي لا يجعل الإنسان كافراً، وإنما يكون مرتكباً كبيرة بل أكبر من الكبيرة كما سيأتي في قول ابن مسعود رضي الله عنه: ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ).
حكم الحلف بغير الله عز وجل
قال الشارح: [ بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا كله من الشرك، وهو الواقع اليوم على ألسنة كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك؛ فتنبه لهذه الأمور، فإنها من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه؛ لكونه من أكبر الكبائر، وهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى ]. ......
أجوبة العلماء عن حلف النبي بأبيه(5/142)
قد يحتج بعض الناس بما ثبت في صحيح مسلم وغيره : (أنه جاء أعربي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن شرائع الإسلام فقال: أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤدى الزكاة، فصار يقبضها بيده، ثم قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تتطوع، فذهب وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها. فقال: أفلح وأبيه إن صدق) . واختلف العلماء في الجواب على هذا الحديث، منها ما قاله ابن عبد البر ، قال: هذا غلط من الراوي، والصواب: أفلح والله إن صدق، وقد جاء هذا في إحدى الروايات: (أفلح والله إن صدق) ، فيكون قوله: (وأبيه) غلطاً من الراوي، ولكن هذا الجواب لا يتأتى إلا في هذا الحديث فقط, وقد جاءت أحاديث أُخرى غير هذا ولا يتأتى عليها هذا الجواب، ثم تغليط الراوي لا يصار إليه؛ لأنه لو كانت كل لفظة فيها مخالفة قلنا: غلط الراوي؛ لكان كل إنسان يقول ذلك إذا لم ترق له بعض الألفاظ. الجواب الثاني: ما قاله الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: إن هذا كان يجري على ألسنتهم من دون قصد، وليس مقصوداً به الحلف. والواقع أن هذا كلام باطل، فلا يجوز أن يكون ذلك جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادة الذين يحلفون بغير الله، فالله يحمي رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري على لسانه شيء من الباطل أو الشرك. وهذا جواب باطل. الجواب الثالث: أجاب بعض العلماء بأن هذا يراد به تأكيد الخبر ولا يراد به الحلف، كما كان على عادة العرب، وهذا أفسد مما قاله النووي، فهو أيضاً باطل، فلا يجوز أن يكون جرى على لسان رسول لله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا القبيل، ومعروف أن الحلف يراد به التأكيد بذكر المعظم الذي يستطيع أن يعاقب الكاذب إذا كان كاذباً، هذا هو مقصود الحلف. الجواب الرابع -وهو الصواب الذي يجب أن يعتمد-: أن هذا الحديث وأمثاله منسوخ بالأحاديث التي ثبتت في الصحيحين: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)،(5/143)
وقد جاء كثيراً أنهم كانوا يحلفون بآبائهم، ثم جاء النهي عن ذلك، فصار النهي ناسخاً؛ فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يحلف بأبيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فقال عمر : ( والله ما حلفت بعدها بأبي لا ذاكراً ولا آثراً )، وكذلك جاء عن غيره، فهذا يدل على أنها منسوخة. وهذا هو الصواب.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [107]
لا يجوز الحلف بغير الله؛ لما في ذلك من الغلو في المحلوف به، ومنازعة الله فيما هو من خصائصه، ومن الغلو المحرم أيضاً: الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ورفعه فوق مكانته التي أعطاه الله إياها.
من أحكام الحلف بغير الله
......
كفر من حلف بغير الله(5/144)
قال المصنف رحمه الله تعالى : [ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير لله فقد كفر أو أشرك) ، رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم ]. قوله في هذا الحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، الحلف يراد به: تأكيد المحلوف عليه بذكر اسم الله العظيم الذي يعاقب الكاذب إذا كان كاذباً، ويثيب الصادق ويعلم صدقه ويطلع على ذلك ويثيب عليه، ولا يجوز الحلف بغير الله جل وعلا أو بصفة من صفاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). وفي هذا: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قيل: إن (أو) هنا للشك، يعني: شك الصحابي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: كفر، أو قال: أشرك، وقيل: إنها بمعنى الواو. يعني: أنه وقع في الكفر والشرك؛ لأن الشرك يكون كفراً، وإن كان من الشرك الأصغر فهو من الكفر الأصغر، أما إذا كان من الشرك الأكبر فهو من الكفر الأكبر. والعلماء قسموا الكفر إلى أقسام خمسة: أحدها: الشرك، والشرك قسم إلى أقسام منها: شرك الدعوة، وشرك المحبة، وشرك الطاعة. وفي هذا نص على أن الحلف بغير الله لا يجوز؛ لأنه محرم، وهو من التنديد الداخل تحت قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]. والحلف قد يدخل في شرك الربوبية، وقد يدخل في شرك العبادة، ومعلوم أن التنديد بواحد من أنواع التوحيد هو من أعظم الذنوب كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود : (قلت: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ، والند هو الشبيه والنظير ولو في صفة من الصفات، أو بحق من الحقوق، أو بفعل من الأفعال، وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: ما شاء الله وشئت، أنه قال له: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده) ، وفي هذا أن الحلف بغير لله يكون تنديداً وشركاً، وتختلف درجته باختلاف الحالف، فإن كان الحالف جرى ذلك(5/145)
على لسانه من غير قصد، أو أنه تكلم بهذا وهو لا يريد تعظيم المحلوف به التعظيم الذي يوصله إلى العبادة؛ أو أنه ناسٍ أو ساهٍ، فهذا يكون من الشرك الأصغر؛ شرك الألفاظ التي يجب أن يطهر المسلم لسانه منها. أما إذا كان يقصد بذلك تعظيم المحلوف به، واقترن مع ذلك عقيدته في أنه يطلع على حاله، وأنه قد يعاقبه؛ فإن هذا يكون من الشرك الأكبر الذي يخرج من الدين الإسلامي. ثم الحلف بغير الله لا يجوز بأي شيء كان: لا بالأمانة، ولا بالذمة، ولا بالكعبة، ولا بالنبي، ولا بالملائكة، ولا بالسماء، ولا بغير ذلك من مخلوقات الله، وما قاله بعض العلماء من أنه استثنى من ذلك الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه جائز؛ فهذا باطل لا دليل عليه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بإخلاص الدين لله جل وعلا، فلا يجوز أن يشرك بالله جل وعلا في شيء من الأشياء: لا بالحلف ولا بالفعل الذي قد يضاف مثلاً إلى سببه كما سيأتي، ولا التصرف، ولا في التأله، ولا الحب والتعظيم، ولا الابتلاء، ولا في شيء من خصائص الله جل وعلا. ثم إن الشرك وإن كان في الألفاظ وإن كان غير مقصود فإنه عظيم، حتى كان يجري على اللسان من غير قصد فإنه أعظم من الكبائر، فيجب على المسلم أن يتوب من ذلك.
تعظيم الصحابة للحلف بغير الله(5/146)
قال المصنف رحمه الله: [ وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً ]. معلوم أن الكذب محرم في جميع الأديان، ولا يجوز للمؤمن أن يكذب، كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: (أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: لا) ، وأخبر أن الكذب لا يصلح في شيء، ولكن رخص فيه في ثلاثة مواضع: في الحرب، والرجل لزوجه أو المرأة لزوجها، ولا يتضمن ذلك إبطال حق أو إغفاله أو إحقاق باطل، أو الرجل يصلح بين المتخاصمين، وفي الواقع أن هذه الأمور الثلاثة هي من المعاريض وليست من الكذب. يأتي إنسان مثلاً إلى المتخاصمين يقول: أنتم إخوة فلان يحبك ويريد لك الخير والفلاح.. ونحو هذا الكلام يريد به أن يصلح ما بينهما. وكذلك كلامه مع زوجه، وكذلك في الحرب أن يوري إما في القول أو الفعل خلاف ما يقصد، وما عدا ذلك فلا يجوز الكذب في شيء من الأشياء. والصدق حسنة وهو من صفات المؤمنين، والله يحض عليه ويأمر به، ويقول: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] ، ومع هذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ) والسبب في هذا: أن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم الذنوب وأكبرها، وهو رضي الله عنه لا يحب هذا ولا هذا، ولكن يريد أن يبين المفاضلة بين الكذب فيما هو توحيد وعبادة لله وما هو شرك. قوله ( لأن الحلف بالله كاذباً ) قيل: إنها هي اليمين الغموس، وقد جاء عَدُّ ذلك في الموبقات التي توبق صاحبها في النار وتهلكه إذا حلف بالله كاذباً، وقال آخرون: إن اليمين الغموس هي أن يحلف كاذباً على حق لغيره ليقتطعه بيمينه. والمقصود بهذا: أن حسنة الصدق لا تساوي ولا تقاوم سيئة الشرك في أي وجه من الوجوه، وسيئة الشرك أعظم من الكذب، بل الشرك هو أعظم الذنوب، وقد جاء ذلك صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين(5/147)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ، والند هو الشريك، ويشمل أن يكون نداً في العبادة أو الصفات أو الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا، فإذا جعل الإنسان لله نداً في ذلك فقد وقع في الشرك الذي هو أعظم الذنوب، والحلف من هذا. وهذا يدلنا على عظم الشرك عند الصحابة رضوان الله عليهم، وأنهم عرفوا عظمه، بخلاف الذين يأتون بالمتناقضات، يقول: لا إله إلا الله وهو يدعو ميتاً رميماً تحت التراب يستغيث به ويناديه، وقد يطوف بقبره أو يسجد عليه، أو يأخذ من ترابه، أو يقدم له نذراً، وما أشبه ذلك. وهذا كله من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في النار؛ لأن الله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، ويقول: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]. وليس الشرك هو الاعتقاد أن فلاناً شارك الله في خلق السموات والأرض، أو أنه شاركه في إنزال المطر، أو الإحياء والإماتة والتصرف، فإن هذا لا يعتقده عاقل، وإنما كان شرك المشركين الذين بعثت إليهم الرسل هو من طريق طلب الوساطة: أنهم يطلبون من المخلوق أن يكون واسطة لهم عند الله يقربهم إلى الله ويشفع لهم، هذا هو الشرك الأكبر الذي كثر ذكره في كتاب الله جل وعلا حتى نعلم أن فئاماً من المسلمين لا يعلمون الشرك، ولا يعرفون حقيقة الشرك، ولا يعرفون حقيقة التأله والعبادة مع أن هذا لا يعذر في جهله أحد؛ لأنه من الأمور الضرورية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم. على كل حال هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود يبين لنا خطر الشرك، وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد عرفوا قدر التوحيد، وأن الشرك أكبر من جميع الذنوب.
مقارنة بين مشركي زماننا ومشركي العرب(5/148)
قال الشارح رحمه الله رحمة واسعة: [ قوله: (فقد كفر أو أشرك) يحتمل أن يكون شكاً من الراوي، ويحتمل أن تكون (أو) بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر، وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ. قال المصنف رحمه الله: (وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ). ومن المعلوم من أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار؟ كدعوة غير الله والاستغاثة، به والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها من تعظيم القبور، واتخاذها أوثاناً، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأعمال والأقوال. وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه، قال الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف:37] كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا]. هذا إقرار بأنهم كفرة، وقوله جل وعلا في هذه الآية لما سألهم: (أين الذين كنتم تدعونهم)، يعني: كنتم تستغيثون بهم وتنزلون بهم حاجاتكم، أو تجعلونهم وسطاء بينكم وبين الله؟ (قالوا ضلوا عنا) أي: ذهبوا عنا فلا نراهم؛ لأنها دعوى باطلة، ولو كانوا أمامهم لكفروا بهم(5/149)
وتبرءوا منهم، ثم قال الله تعالى في الآية الأخرى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]. ويقول جل وعلا في آية أخرى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ [البقرة:166] ؛ فالأسباب التي تقطعت بهم هي الوسائل التي يزعمون أنها توصلهم وتقربهم بقولهم: إنا نتوسل بهم، أو قولهم: نتشفع بهم، ويجعلون التشفع الذي هو من قبيل الشرك الأكبر، تشفعاً، أو توسلاً، وقد يسمونه تعظيماً للصالحين، وإحسان الظن بهم، وإذا نهوا عن ذلك قالوا: هذا لا يحب الصالحين، ويجعلون التوحيد منكراً والشرك معروفاً؛ لأنهم عاشوا على هذا وتربوا عليه ووجدوا كبراءهم كذلك، وربما علماء يجدونهم على هذا، ثم هم يستبعدون أن يكون هذا شرك أبي لهب ، و أبي جهل وأضرابهما، مع أنه أعظم من شركهما. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167] ، يعني: أن كل واحد من الداعي والمدعو يتبرأ من الآخر، وتصبح الدعوى في ذلك المكان حسرة على الداعي، وكذلك يكون المدعو عدواً له متبرئاً منه، كما قال الله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام وهو يخاطب قومه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت:25] ، هكذا يكفر الداعي بالمدعو، والمدعو بالداعي، ويلعن المدعو الداعي، وكذلك الداعي؛ لأنها كلها ضلالات، وذلك لأن الحسرات والعذاب كله بحذافيره يجري على المشرك يوم القيامة.. يتحسر على فعله حيث فعل فعلاً أوبقه وأوجب له النار، ثم لا يغني عنه هذا التحسر وهذه الندامة شيئاً، فلا بد(5/150)
له من العذاب الأليم. أما في هذه الدنيا فيمكنه أن يتوب، ويطلب من ربه العتبى، ويراجع نفسه، ويعلم ما أوجب الله عليه من توحيده والكفر بالطاغوت، وكل معبود من دون الله فهو طاغوت، سواء كان معبوداً حقيقة أو معنىً، وسواء كان من أجل الدعوة والتوسل، أو من أجل الحكم واتخاذه قانوناً أو دستوراً غير الشرع، فهو طاغوت يجب أن يكفر به، والكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله يجب أولاً، لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] ، فالتوحيد ليس مجرد صلاة وصوم فقط، بل مبني على شيئين: عبادة الله والإخلاص له، والكفر بالطواغيت عموماً والبراءة منها، وإلا كان الإنسان من الهالكين. والمقصود أن الوقوع في الشرك كثير جداً، فالإنسان لا يستبعد ذلك، فإن الشرك أنواع شتى، وسيأتي أنه أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهذا يكون في شرك النيات والمقاصد، وقد يكون في شرك الأقوال. أما الشرك الذي هو مخرج من الدين الإسلامي فهو واضح في كتاب الله وجلي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضحه، والله جل وعلا أوضحه.......
غلو الصوفية(5/151)
قال الشارح رحمه الله: [وقد قال تعالى : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وقال تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن:21] [الجن:20] ]. المساجد قد تطلق على جميع ما يسجد فيه لله تعالى، فكل مكان سجد الإنسان فيه فهو مسجد، فيكون المعنى أن السجود لله جل وعلا. ولا يجوز أن يدعى مع الله في ذلك أحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، الأرض كلها جعلت له مسجداً وطهوراً صلوات الله وسلامه عليه،فاحتمل أن المقصود أن البيوت التي بنيت لله جل وعلا، فيجب أن تكون العبادة التي تقام فيها خالصة لله جل وعلا كما يجب أن يكون بناؤها خالصاً لله جل وعلا، ومعلوم أن الآية إذا جاءت تشمل المعاني الصحيحة كلها أولى من أن تقصر على معنى واحد. ......
الغلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم(5/152)
قال الشارح رحمه الله: [ وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر، فخالفوا ما بلغ به الرسول الأمة، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله، والتعلق على غير الله، حتى قال قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وخيرتها ومن علومك علوم اللوح والقلم ]. هذه يقولها البوصيري في قصيدته التي تسمى البردة، والتي يغلو فيها كثير من الناس، ويجعلها أفضل من آية الكرسي، ويجعلها ورداً له، يحفظها ويقرؤها مساء صباح، وهذا في الواقع من الشرك الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى. ومعلوم أن قائل هذه الأبيات هو ممن كان يكتب التفسير والحديث، وهذا دليل على أنه لا يجوز الاغترار بالإنسان وإن كان من العلماء؛ لأن الواجب أن ينظر في فعل الإنسان هل هو موافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنه مخالف، أما بعض الذين يدافعون عنه فيقولون: هذا كله من باب الشفاعة، فألفاظها لا تساعده، بل هي صريحة في الشرك، خصوصاً عند قوله: ما لي من ألوذ به). وأين الله؟ مع أنه يستعيذ بالرسول صلى الله عليه وسلم من الله، ووجود مخلوق يستعاذ به من الله هذا أمر جلل، تعالى الله وتقدس! (ما لي من ألوذ به سواك)، يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: أنت وحدك الذي ألوذ به؛ فنسي رب العالمين ،وهو الملاذ والمعاذ الذي يجب أن يلاذ ويستعاذ به. وقوله: (عند حلول الحادث العمم) الحادث العمم الذي يعم الخلق كلهم إذا جمعوا في صعيد واحد، وقاموا لرب العالمين ، ولهذا قال في البيت الثاني يخاطب الرسول أيضاً: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم يعني: إن لم تتفضل يا رسول الله وتأخذ بيدي، وتنقذني من عذاب الله وغضبه، فقد زلت قدمي، وهويت بالعذاب، وهذا صريح في أنه يلوذ(5/153)
برسول الله صلى الله عليه وسلم من الله، ومن عذابه تعالى الله وتقدس. ولهذا قال: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم يقول: إذا غضب الله جل وعلا يوم القيامة على خلقه فأنا مستجير بكرمك، ولا يضيق كرمك بي أن تحميني من غضب الله، نعوذ بالله من الخذلان. ويقول في البيت الآخر: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إذاً: ما الذي تركه لله تعالى إذا كانت الدنيا والآخرة من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا بقي فوق هذا من غلو النصارى نسأل الله العافية. ومع ذلك يأتي من هو واقع في الشرك، وفي عبادة الأشخاص، ويعتبر أن هذا الشرك من التشفع ويقول: هذا تشفع. مع أن الشفاعة لا تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا طلبت منه فهو الشرك؛ لأن الشفاعة تطلب من الله مالكها، كما قال جل وعلا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:43-44]، ويقول جل وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، ولا يوجد أحد يشفع بدون إذنه. ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعته التي يكرمه الله جل وعلا بها في الموقف، ذكر أنه يسجد لله أولاً، ثم يدعه الله جل وعلا ما شاء، ثم يأمره برفع رأسه، ويقول: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فقبل أن يقول له: اشفع. لا يمكن أن يشفع. وفي رواية: أنه يحد له حداً هذا في الشفاعة الأخرى، أما الشفاعة الكبرى فلا حد فيها، لأنها شفاعة في أن يحاسب الله خلقه فقط، وإنما الحد في الشفاعة في الذين دخلوا النار، فإنه إذا شفع يحد الله جل وعلا له حداً معيناً، لأن الشفاعة لله جل وعلا. وحقيقة الشفاعة: هي أن الله جل وعلا يريد رحمة هذا المشفوع له، وإكرام الشافع وإظهار كرامته فقط ، وإلا فلا أحد يملك مع الله شيئا، وكل هذه المزاعم مزاعم(5/154)
شركية وثنية لا تعدو أن تكون من دين أبي جهل و أبي لهب وغيرهم.. بل هي فوقه. وكم وقع الناس في هذا البلاء والشرك العظيم باسم مدح الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مع أنه صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (يا سيدنا وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، قال لهم: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، فأنا عبد الله ورسوله لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا)، وفي حديث آخر يقول: (ولا يستجرينكم الشيطان)، يعني: لا يتخذكم مراكز له ويجريكم في الباطل، وترتكبوا ما نهيتكم عنه. فقد بين صلوات الله وسلامه عليه الحق الذي يجب اتباعه، وحمى حق الله جل وعلا خير حماية، وسد طرق الشرك التي يمكن أن يدخل الشيطان منها، ولكن يأبى كثير من الناس إلا أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة، ويزين له الشيطان أن هذا من حبه مع أنه من بغضه؛ فالذي يفعل ذلك يبغضه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. فحبه صلى الله عليه وسلم في طاعته، واتباع أمره؛ فمن كان محباً له أطاع أمره، واستن بسنته، وانتهى عما نهى عنه، وإلا فهو كاذب في دعواه.
مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل وعلا(5/155)
قال الشارح رحمه الله: [فانظر إلى هذا الجهل العظيم؛ حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله)، رواه مالك وغيره. وقد قال تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]]. هو عبد، والعبد هو العابد. هذا هو العبد الممدوح الذي يعبد ربه، وقد أثنى الله جل وعلا عليه بلفظ العبودية في أشرف المقامات؛ لأن أشرف مقام الإنسان أن يحقق عبادة ربه؛ قال جل وعلا: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الدعوة فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الإسراء فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ [البقرة:23]. هذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فذكره الله جل وعلا فيها بلفظ العبودية؛ وذلك أنه ليس شريكاً لله جل وعلا في الإلهية، أو الربوبية، أو له شيء من الإلهية، بل هو عبد يتأله ربه، وكان يصيبه ما يصيبه فيلجأ إلى ربه جل وعلا، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.. كان يمد يديه إلى ربه مفتقراً إليه يسأله متضرعاً خاشعاً، وهو أعلم خلق الله جل وعلا. ومع ذلك قد يصيبه الكفار بالأذى، كما جرحوا وجهه صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد، وكسروا ثنيته فصار الدم يسيل على وجهه صلوات الله وسلامه عليه ، وكان يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم)، وهو يدعوهم إلى الله(5/156)
جل وعلا، فينزل الله جل وعلا عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمران:128] يعني: أنك عبدي فامتثل أمري، وامض في الدعوة التي كلفتك بها، أما هؤلاء فهم عبادي إن شئت عذبتهم، وإن شئت عفوت عنهم؛ فهو ليس له من الأمر شيء صلوات الله وسلامه عليه. أما دعوى الأفاكين المبطلين فهي مخالفة لكتاب الله جل وعلا، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته، ولنهج السلف الذين عرفوا الحق، وميزوا بين الحق والباطل، لكن الشيطان يأتي إلى الإنسان في صورة تعظيم الرسول صلى لله عليه وسلم فيزين له الشرك، ويجعل هذا الشرك من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعل له ما هو من خصائص الله جل وعلا حتى يخرج به من الدين الإسلامي إلى الكفر، والله أعلم. ثم هذا الكلام وهذه الأبيات للبوصيري صاحب البردة نقول: هذه الأبيات شرك صراح، ولكن الرجل لا يجوز أن نحكم عليه بأنه مشرك؛ لأننا لا ندري ما الذي مات عليه، فربما هداه الله وتبرأ من ذلك وتاب منه، أما إذا علم أنه مات على هذه العقيدة فهو مشرك، ولكن هذا لا يعلم؛ فالحكم على الكلام ليس على الشخص، أما الشخص فأمره إلى الله، فلربما أنه تاب، وعرف الحق ورجع عن الباطل. قال الشارح رحمه الله: [ فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة، والمحادة لله ورسوله. وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير، خصوصاً ممن يدعون العلم والمعرفة، ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك، وتعظيمها من القربات، فإنا لله وإنا إليه راجعون ]. ولا يزال هذا الأمر له من ينميه، ومن ينشره بين الناس، ويدعو إليه، ويروون في هذا حكايات باطلة، أو منامات قد يريهم إياها الشيطان ليضلهم بها، أو أحاديث مكذوبة لا أصل لها، أو دعاوي هي تلبيس للحق بالباطل، وليس لهم دليل على هذه الأمور أبداً، وأدلتهم لا تخرج عن كونها مرائي يريهم إياها الشيطان، أو حكايات تحكى عن بعض الناس(5/157)
قد يكون لها أصل، وأصلها الشيطان، وقد لا يكون لها أصل وإنما هي مكذوبة؛ لأن الحكايات لا يجوز أن يعتمد عليها إلا ما كان من كتاب ربنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو أحاديث مكذوبة يريدون أن يجعلوا الحق يدل على الباطل فيها؛ هذه هي أدلتهم لا تخرج عن ذلك.
النهي عن قول: ما شاء الله وشاء فلان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان)، رواه أبو داود بسند صحيح.] هذا من حماية التوحيد؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد من كل جانب، وقوله: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان)، وذلك أن الواو تقتضي الجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد يكون فيها مساواة، وقد لا يكون فيها مساواة، بخلاف (ثم) فإنها تدل على الترتيب مع التراخي، فإذا وجد الترتيب مع التراخي زال المحظور أي: لم يكن هناك تشريك، (ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان)؛ فإن (ثم) هذه ليست كالواو للمعنى الذي ذكرنا. وهذا فيما يكون فيه لله مشيئة وللعبد مشيئة، أما الأمور التي يختص بها الله جل وعلا فلا يجوز أن يقال فيها مثل هذا، حتى ما كان له سبب، فالأسباب قد يقوم بها إنسان، ومعلوم أن الأسباب لا تقتضي وجود المسبب بالسبب نفسه، فإن السبب قد يجعل الله جل وعلا له موانع تمنع من حصول المسبب، والأمور كلها بيد الله جل وعلا؛ لأنه هو المالك المتصرف في كل شيء. المقصود بهذا أن نبين أن الله جل وعلا هو الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، وإذا كان هناك سبب جعله الله لمخلوق فلا يجوز أن يساوى فيه بين الخالق والمخلوق، بل لابد من التمييز بكلمة (ثم). قال الشارح: [وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساوياً للمعطوف عليه، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع فلا تقتضي ترتيباً، ولا تعقيباً، وتسمية المخلوق بالخالق شرك إن كان في الأصغر -مثل هذا-(5/158)
فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كما قال الله عنه في الدار الآخرة: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98]، بخلاف المعطوف بثم؛ فإن المعطوف بها يكون متراخياً عن المعطوف عليه بمهلة، فلا محظور لكونه صار تابعاً ]. يجب أن يعلم أن هذا القسم الذي صدر من الكفار وهم في النار تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الشعراء:98] يخاطبون فيها من كانوا يعبدونهم، ويتوجهون إليهم ، ومعلوم أن هذه التسمية ما سموهم بها ويقصدون فيها خلق السموات والأرض، هذا لا يقوله عاقل، ولا في إيجاد الجنة والنار ولا التصرف في الكون، وإنما التسوية التي سووهم فيها إما الحكم والتعظيم، أو التعلق القلبي التي تعلقوا بها فقط، هذا الذي سووهم فيه، فقولهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الشعراء:98]، أي: وقت تسويتنا لكم برب العالمين وإن سووهم به في الحكم، أوالدعاء، أو التعلق القلبي حيث يقولون: نرجوهم أن ينفعونا ويشفعوا لنا. هذا أمر واضح وضحته الآيات الأخرى، وكذلك الواقع يوضحه. قال المصنف رحمة الله تعالى: [وجاء عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا يقول: لولا الله وفلان ]. أي: يجوز أن يتعوذ بمخلوق إذا كان المخلوق حياً حاضراً قادراً على أن يعيذك بهذا الشيء؛ لأنه استعاذ بالله أولاً، والاستعاذة بالله من التوحيد بلا شك، ولا ينافي ذلك كون الإنسان يستعيذ بحي حاضر بشيء يمكله هو، أما إذا كان ميتاً أو غائباً أو لا يملك هذا الشيء، فالاستعاذة به تكون شركاً. قوله: (أعوذ بالله ثم بك)، ولا يقول: (أعوذ بالله وبك)؛ لأن الأمر كما مضى أن الواو تجعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه بالشيء الذي ذكر، فهذا من الشرك بالله. والمقصود في هذا أن الموحد المؤمن يتنزه في ألفاظه التي(5/159)
يتلفظ بها أن يقع في الشرك، والألفاظ قد تجري عادة بدون قصد، ومع ذلك لا يجوز ذلك، كما يجري على ألسنة كثير من الناس الحلف بالنبي، وهذا حلف بغير الله جل وعلا وهو من الشرك؛ فيجب أن يتنزه عن ذلك، وأن يستغفر الله من ذلك؛ لأنه لا يجوز الحلف إلا بالله جل وعلا أو بصفة من صفاته، وكذلك الاستعاذة، وكذلك اللياذ، وكل ذلك من أنواع العبادة. وكذلك لا يجوز أن يضاف الأمر إلى سببه، كأن يقول: لولا الله وأنت ما صار كذا وكذا، فإن هذا تشريك ممنوع من جهتين: - الجهة الأولى: التشريك. - والثانية: أنه لا يجوز أن يضاف الفعل إلى فلان الذي قد يكون هو السبب، أو جزءاً من السبب، بل يجب أن يضاف إلى الله جل وعلا. قال الشارح: [وقد تقدم الفرق بين ما يجوز، وما لا يجوز من ذلك، وهذا إنما هو في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشيء، وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك، وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك، فلا يجوز التعلق عليه بشيء ما بوجه من الوجوه،والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئُلوا شيئاً من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله، أو عمله الباطن أو الظاهر، فمن تدبر القرآن، ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه، وبالله التوفيق ]. يجب على كل مؤمن أن يتدبر القرآن؛ لأن الله أمر به؛ فإن من لم يتدبره فهو مرتكب لمحرم وسوف يحاسبه الله على ذلك، وبالنسبة للميت كالغائب فلا يجوز أن يستعاذ به، وإنما يستعاذ بالحي الحاضر القادر. قال الشارح رحمه الله: [ والعلم لا يؤخذ قسراً وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان ]. هذه الأسباب كلها إذا فعلها الإنسان قد ينال العلم وقد لا يناله ، وإنما الذي سبب الأسباب هو الله جل وعلا؛ فإذا أراد بعبده خيراً فإنه ييسر له هذه الأسباب. قال(5/160)
الشارح رحمه الله[ وأعظم من هذه الستة: من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ ،وأتعب نفسه في تحصيله، فهو الموفق لمن شاء من عباده، كما قال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]. ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال: والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران بالتنفيذ متفقان نص من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني والعلم أقسام ثلاث ما لها من رابع والحق ذو تبيان علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني والكل في القرآن والسنن التي جاءت عن المبعوث بالقرآن والله ما قال امرؤ متحذلق بسواهما إلا من الهذيان ]. يعني: أن العلم لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة، وهو العلم بالله بأسمائه وصفاته، والعلم بأمره وخبره، يعني: أخباره التي يخبر بها، وأمره الذي يأمر به عباده. وهذا هو العلم النافع وما عدا ذلك لا خير فيه.......
ذكر المسائل التي اشتمل عليها الباب(5/161)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: - الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد ]. آية البقرة هي قوله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وهي في سياق قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]. أي: يعلمون أن ما ذكر يختص بالله الذي خلقهم، وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض على هذه الصفة، وجعل السماء فوق الأرض مبنية، وهو الذي ينزل من السماء ماء فينبت به النبات الذي يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم.. يعلمون أنه لا يشاركه في ذلك شيء، وإذا كانوا يعلمون أنه لا مشارك له في هذه الأفعال فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولا يجوز أن يتوجه إلى شيء من المخلوقات، سواء كانت من الأحياء المتصرفة أو الجمادات بأن يجعلوها وسائط بينهم وبين الله يدعونها ويزعمون أنها تقربهم، فإن هذا من الضلال. هذه إقامة الحجة عليهم بالشيء الذي يقرون به وبالشيء الذي يرتكبونه وينكرونه. ثم يدخل في هذا ما ذكر بعد ذلك كله من قول: لولا الله وفلان؛ هذا بحسب الألفاظ، وكذلك بالحلف بغير الله، وكذلك التشريك في الشيء الصغير والكبير حتى بالألفاظ التي تدخل في التنديد، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ذكره ابن عباس صريحاً. [ المسألة الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة بالشرك الأكبر أنها تعم الأصغر ]. يعني: أنها تعم الشرك عموماً صغيره وكبيره، وإن قصد بها في الأصل الشرك الأكبر، ولكن الأصغر يدخل فيها، فإن الشرك كله منهي عنه. [ المسألة الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك ].(5/162)
لحديث: (فقد كفر أو أشرك) ووجه كونه شركاً: ما سبق أنه يذكر اسم المحلوف عليه تعظيماً له، وتصديقاً للخبر، فهو كأنه يقول: إن كنت كاذباً فهذا الذي ذكرته يعاقبني، وإن كنت صادقاً فهو يثيبني، وأن هذا المذكور يطلع على ما أقوله، وإذا كان بهذا المعنى فقد دخل في الشرك الأكبر، وليس الأصغر، وإنما يكون من الشرك الأصغر إذا جرى على اللسان مجرداً عن هذا المعنى فقط بدون أن يكون في نيته أنه يعاقب، أو يطلع، أو يثيب. [ المسألة الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقاً فهو أكبر من اليمين الغموس ]. اليمين الغموس: هي أن يحلف الإنسان عند الحاكم على مال لغيره كاذباً فيقتطعه بيمينه، وقد جاء في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر أنه قال: (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان). والحلف بغير الله صادقاً أكبر من هذا، وذلك أن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم الذنوب، وأما اليمين الغموس فهي من الجرائم، والموبقات، ولكنها لا تصل إلى الشرك. [ المسألة الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ ]. الفرق: أن الواو تقتضي مطلق الجمع، والتسوية بين المعطوف عليه والمعطوف. أما (ثم) فإنها تدل على التراخي مع الترتيب فيختلف الحكم في العطف بها، ولهذا أذن صلى الله عليه وسلم بأن يقول: لولا الله ثم أنت، ولا يقول: لولا الله وأنت، وما أشبه ذلك، فثم تختلف عنها؛ لأن هذا وضعها في اللغة العربية، وهذا لمن يفهم اللغة، أما الذي لا يفهمها، ويقول (ثم) ومقصده التسوية أو المشاركة، فالحكم واحد وهو آثم، وواقع في الشرك.......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [108]
حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد من كل جانب، وسعى لسد كل ثغرة قد يدخل منها الشرك، حتى لو كان ذلك من قبل النطق باللسان دون الاعتقاد بالجنان، ومن حمايته صلى الله عليه وسلم لكمال جناب التوحيد: أمره من حُلِف له بالله أن يصدق الحالف.(5/163)
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
[ قال المصنف رحمه الله تعالى: باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله ]. الحلف بالله هو منتهى الاجتهاد في إثبات صدق الخبر، وقد أخبر الله جل وعلا عن الكفار والمشركين أنهم إذا اجتهدوا في أيمانهم أقسموا بالله، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [الأنعام:109]، فأصبح القسم بالله هو جهد اليمين، يعني: ليس وراءه شيء، وكذلك: مقتضى الوضع أن الذي يحلف بالله جل وعلا وهو صادق فمعناه أنه يعلم أن الله مطلع عليه، وأن الله يثيبه على صدقه. أما الكاذب فبخلاف ذلك، يعني: إما أنه مستهتر بالله جل وعلا ومتهاون به، أو أنه لا يعتقد أن الله يعلم ما في قلبه، وأن الله يعاقب على ذلك، وكل هذا خلاف كمال التوحيد، ومن تعظيم اسم الله جل وعلا ألا يذكر إلا على حق، ثم إذا ذكر له فإنه يقتنع ويرضى به، ولكن هذا ليس في كل موطن، وإنما يكون ذلك في الأيمان الشرعية عندما يكون هناك حكم شرعي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البينة على المدعي، وعلى المنكر اليمين)، فالمدعى عليه يقسم بالله، ويبرأ، فإذا حصل الحلف بالله يجب على المحلوف له أن يرضى؛ لأن هذا حكم شرعي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجب أن يرضى به، والذي لا يرضى يكون إما ناقص التوحيد؛ لأنه ارتكب محرماً، أو لأنه لم يقدر الله جل وعلا حق قدره، أما في مخاطبات الناس ومحاوراتهم فإن هذا لا يلزم؛ لأن كثيراً من الناس يحلف بالله إما على ظن ضعيف، وإما على غير ظن. فإذا كان الإنسان يعلم أن الأمر في الواقع بخلاف حلفه لم يلزمه أن يرضى بذلك؛ غير أن المؤمن يجب أن يحفظ أيمانه، وكذلك عند الاعتذارات: إذا اعتذر أخ لأخيه، أو عند التهم: إذا اتهم بشيء فحلف بالله أنه ما صار كذا، وأنه ما وقع مني كذا، أو حلف بالله يعتذر له، ويقول: إنه صادق، فإنه ينبغي عليه أن يرضى بذلك، ويصدق ويحمل أخاه على المحمل الطيب الحسن، فإن هذا من حق المسلم على(5/164)
المسلم، ومن لم يفعل ذلك فإنه آثم وتوحيده ناقص، أي أنه لم يأت بكمال التوحيد، فهذا هو وجه إدخال هذا الباب في كتاب التوحيد من هذا الوجه. والذي لا يرضى بما حلف له على وجه الاعتذار أو رفع التهمة من أخيه يكون مذنباً، ويكون ذلك نقصاً في توحيده، أما الحلف بغير الله جل وعلا فإنه مضى أنه من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر وقد يكون أصغر على حسب ما يقوم في نفس الحالف. قال المصنف: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم؛ من حُلف له بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله)، رواه ابن ماجة بسند حسن]. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم) فقد سبق بيانه، وأن الحلف بغير الله جل وعلا شرك أو كفر، سواء كان بالآباء، أو بالأمانات، أو بالبيت، أو بالنبي، أو بأي مخلوق من المخلوقات فإنه لا يجوز أن يحلف بغير الله جل وعلا، أو بصفة من صفاته؛ لأننا منعنا من غير ذلك. وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الحلف بغير الله شرك؛ فلا يجوز أن يرتكب هذا النهي، ولو كان ذلك يجري على لسانه مجرد كلام لا يقصد به حقيقته فإنه محرم، ويكون من الشرك اللفظي الذي يكون من الشرك الأصغر، أما إذا كان يقصد الحقيقة، فهذا قد يرقى عن الشرك الأصغر إلى الأكبر. وأما قوله: (ومن حلف بالله فليصدق)، فهذا من حفظ الأيمان، والإنسان يحفظ يمينه والصدق مأمور به مطلقاً، فالله أمرنا أن نكون مع الصادقين، وأمر بالصدق ونهى عن الكذب، فالصدق من الحسنات، والكذب من صفات المنافقين، والمؤمن لا يكذب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: لا)، فالكذب محرم قليله وكثيره، ولا يصلح منه شيء إلا ما استثني في الحديث من الأمور الثلاثة ، وفي الواقع أنها من المعاريض وليست كذباً صريحاً، ولكن الأخبار التي يخبر بها(5/165)
تحمل على فهم السامع، فإذا كان الخبر على خلاف ظاهره فإنه يحتمل أن يكون مراداً ويحتمل أن لا يكون مراداً، وإذا كان له غرض صحيح فلا بأس بذلك، ولهذا جاء في الحديث: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، يعني: فيها مجال ومتسع يغني عن أن يكذب الإنسان، فالكذب لا يجوز منه شيء، والصدق واجب، فكيف إذا كان مع الخبر يمين فإن الكذب يكون أكبر وأعظم جرماً مما لو كذب بلا حلف، لهذا قال: (ومن حلف بالله فليصدق)، وهذا أمر يقتضي الوجوب. ثم قال: (ومن حلف له بالله فليرض)، أي: أذا أخبرك مخبر ثم أقسم على خبره بالله أن هذا هو الواقع، فيجب عليك أن ترضى إن لم يكن المخبر معروفاً بانتهاك الدين وبكونه لا دين له؛ لأنه جاء في قصة محيصة و حويصة اللذين قتل أخوهما في خيبر ولا يدرى من قتله، ومعلوم أن الذي قتله اليهود؛ لأنهم أعداء المسلمين في ذلك اليوم، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره قال: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً، قال: إنهم لا أيمان لهم)، يعني: كيف نرضى بهذا؟! فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم عدم الرضا؛ لأن هؤلاء لا دين لهم، وقد يحلفون وهم كذبة. وكذلك الرجل الذي جاء يخاصم آخر في أرض قد استولى عليها أحدهم، قال له: (ألك بينة؟ قال: لا. قال: إذاً لك يمينه، فقال: إذاً يأكل مالي)؛ لأنه رجل فاجر، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا قال: يلزمك أن ترضى بهذا، بل قال: (ليس لك إلا يمينه) ، فدل هذا على أن المتهم في دينه لا يلزم أن يصدق يمينه إذا حلف. غير أن الحكم الشرعي إذا حكم الحاكم باليمين يلزم المحكوم عليه أن يرضى بهذا الحكم ويسلم بذلك؛ لأن هذا هو حكم الشرع. (ومن لم يرض فليس من الله في شيء): هذا كقوله جل وعلا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، يعني: ليس له نصيب في الآخرة؛ فهو(5/166)
من الوعيد الشديد الذي يقتضي وجوب الرضا بالحلف بالله جل وعلا في الحكم ، قال بعض العلماء: إن الحديث خاص بالحكم؛ لأنه يجب الرضا به، ويظهر أنه عام فيما إذا جاء إليك أخوك معتذراً من أمر قد بدر منه، ويحلف لك أنه صادق، وأنه ليس لديه إلا النصح لك والمودة، فإنه يجب عليك أن ترضى بهذا. وكذلك إذا اتهم في شيء وعوتب في ذلك، ثم حلف أنه على خلاف هذا، فإنه يجب أيضاً عليك أن ترضى، ومن لم يرض فإنه داخل في هذا الوعيد. ومناسبة الحديث للباب: أن الذي لا يرضى بالحلف بالله متوعد بقوله: ((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْء))، وهذا يدل على نقص توحيده: إما ذهابه كله، وإما ذهاب كماله. ......
آثار تصديق الحالف في اليمين(5/167)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (لا تحلفوا بآبائكم) تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموماً. قوله: (من حلف بالله فليصدق) هذا مما أوجبه الله على عباده، وحضهم عليه في كتابه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب:35] وقال: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21]، وهو حال أهل البر، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ إلى قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] ]. قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) يعني: كل الخصال التي ذكرت في أهل البر صدقوا فيها، فهذا يدلنا على أن الصدق يجمع خصال الخير كلها، فهو وصف أهل الإيمان، وأهل التقى والبر، أما خلاف الصدق فهو الكذب، فهو صفة أهل النفاق. [ وقوله: (من حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله)، أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا، وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك؛ فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له معتذراً أو متبرئاً من تهمة. ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها من الخير محملاً). وفيه من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم؛ وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد، كما في الحديث، وهو من مكارم الأخلاق. فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله من القيام بحقوقه، وحقوق عباده،(5/168)
وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم، والترفع عليهم؛ فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، وبسط هذه الأمور، وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها. فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به منه، وترك ما يجب تركه من ذلك؛ دل على وفور دينه وكمال عقله، والله الموفق والمعين لعبده الضعيف المسكين. والله أعلم ]. يعني: هذا من حق المسلم على المسلم، ومما يجب أن يعتنى به ولا يتهاون به؛ لأن هذا مقتضى الإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا؛ أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام فيما بينكم). فقوله: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، هذا أمر من ضروريات الشرع وأن الإيمان لابد منه، وأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وقوله: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) المقصود به التحاب في الدين وعلى العقيدة، فتحبه لأنه يعبد الله، ولأنه شاركك في الإيمان بالله، وفي طاعة الله جل وعلا، فتود له ما تود لنفسك، وهذا يجب على جميع المسلمين، ومن أخل به فإنه ناقص الإيمان إن لم يكن إيمانه زائلاً بالكلية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، كذلك يمثلهم بأنهم كالبنيان يشد بعضهم بعضاً، يعني: أنه يجب التعاون فيما بينهم، ويجب أن يتراحموا، ويكون بينهم ألفة الإيمان، ويكون المؤمن مرآة المؤمن، والمرآة ينظر فيها حتى يزيل الأذى من وجهه وبدنه، فالمؤمن يزيل الأذى عن أخيه، ويبعده عنه، هذا معناه: أنه لا يكون إلا جالباً للخير لأخيه. أما إذا انعكست الأمور وصار يجلب له الأذى والشر، فمعنى ذلك إما أن يكون الإيمان زائلاً بالكلية، وأنه لا أثر له في أعماله فهذا إيمانه ضعيف وغير مؤثر، وقد يزول في وقت ما. والذي ينظر إلى حالة المسلمين ولاسيما في المشاعر والطواف(5/169)
مثل رمي الجمار ويرى بعضهم يدوس بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً يعرف أن الإيمان عندهم إما معدوم، وإما ضعيف وإلا لو كانوا يتحلون بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يقتل مؤمناً مؤمن برجليه يدوسه وهو يؤدي فريضة من فرائض الله جل وعلا، وليس الأمر لأن هذه الأماكن تقتضي ذلك، كلا. ولكن الواقع أن الفعل يصدر مهم لجهلهم وعدم مراعاة حقوق إخوانهم بعضهم لبعض. وهكذا في جميع المجالات يجب أن يراعى حق المؤمن لأمر لله جل وعلا واتباعاً لشرعه، وكذلك عندما يبدو منه بادرة تدل على المخالفة؛ فإنه يجب نصحه أولاً فربما يكون ذلك لأنه جاهل ولو عرف الحق لم يفعل ذلك، ولا يجوز أن تعنف عليه بالكلام، أو السب والشتم، بل يجب أن يكون ذلك برفق وبلين يقصد به هدايته، وإذا اعتذر يجب أن يقبل عذره في جميع المجالات التي يمكن أن يسعه الاعتذار فيها في أمور الدين، أما أمور الدنيا فلا تساوي شيئاً كلها ولا يجوز أن يتعادى عليها أو يتباغض من أجلها، فإن حصل ذلك فهذا من الظلم.
المسائل التي اشتمل عليها الباب
قال المصنف رحمه الله: [ فيه مسائل: الأولى: النهي عن الحلف بالآباء. المسألة الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. المسألة الثالثة: وعيد من لم يرض].
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [109]
لا يجوز أن يشرك مع الله أحد من خلقه في مشيئته وإرادته سبحانه، أو صفاته وأفعاله؛ ولذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على قول الرجل: (ما شاء الله وشئت)، وقال: (أجعلتني لله نداً؟!).
باب قول: ما شاء الله وشئت وأمثالها(5/170)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول: (ما شاء الله وشئت): عن قتيلة : (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله وشئت) رواه النسائي وصححه ]. يعني: ما حكم هذا القول هل هو جائز، أو أنه ممنوع، وإذا كان ممنوعاً فهل هو معصية أو شرك؟ فإن كان معصية؛ فإنه يكون ذاهباً بكمال التوحيد لمن وقع منه، وإن كان شركاً؛ فإنه إما أن يكون ذاهباً بالكمال أو بالكل، على حسب ما يقوم بقلب القائل، وحسب ما يصدر منه. والجواب عن هذا: أن هذا لا يجوز، وأن قول: (ما شاء الله وشئت) من الشرك، ولكنه من الشرك الأصغر، وقد يكون من شرك الألفاظ، وإذا وافق القلب اللسان في ذلك فإنه أيضاً يكون من شرك الاعتقاد؛ فربما وصل إلى الشرك الأكبر. وقوله في هذا في حديث قتيلة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يقولوا ذلك، وأن يقولوا: (ما شاء الله ثم شئت) يعني: منع من الشرك وأباح الشيء الذي يعوض عنه، وهو الإتيان بلفظ لا يدل على مساواة المعطوف بالمعطوف عليه، والمعطوف يكون مخلوقاً والمعطوف عليه هو الخالق جل وعلا. سبق أن قلنا إن هذا لمن يفهم اللغة، أما الذي لا يفهم اللغة ويأتي بثم ومقصوده التسوية، والتشريك فيكون بذلك واقعاً في الشرك، غير أنه يجب أن يفهم الإنسان ما يتكلم به ويفهم كلام الله وكلام رسوله، وهو لا يفهم ذلك إلا إذا عرف اللغة العربية. وهذا يدلنا على لطف الرسول صلى الله عليه وسلم، وشفقته على أمته، وحمايته جناب التوحيد وكل الطرق التي تفضي إليه، حتى في مثل هذه الألفاظ نهى عنها ومنع منها، فكيف لو حصلت استغاثة بمخلوق أو دعاء له، أو حصل ذبح له، أو نذر ماذا يكون؟ يكون مضاداً لدعوته صلى الله عليه وسلم، ومنافياً لها، ولهذا كانوا يعرفون هذه الأمور تماماً، ولم يقع منهم شيء(5/171)
من ذلك وإنما يقع شيء فيه خفاء لا يعرفه إلا الخواص، مثل هذا اللفظ. ......
الجواب عما ورد في القرآن من الجمع بين فعل الله ورسوله بالواو
قد يقول قائل: إنه جاء في القرآن ما يدل على جواز مثل هذا، أي: جواز العطف بالواو، مثل قوله جل وعلا: لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ [الأحزاب:37]، فعطف بالواو على ما فعله الله جل وعلا يقصد به الرسول، وكذلك قوله جل وعلا: أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [التوبة:74]، فعطف الرسول على الله، وقد يحتج محتج بمثل هذا، ويقول: هذا يدل على الجواز. فالجواب عن هذا: أن يقال: كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتضاربان ولا يتعارضان بل كلاهما حق وكلاهما يدل على التوحيد، ولا يمكن أن أحدهما يدل على خلاف التوحيد. أما الجواب المفصل فنقول: هذا من الله، والله جل وعلا يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء، وقد أخبرنا جل وعلا أنه يقسم بما يشاء من مخلوقاته، أما نحن فممنوعون من مثل هذا، فيكون هذا مثل القسم الذي أقسم الله جل وعلا به في قوله جل وعلا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:1-3] إلى آخر الأقسام الكثيرة التي تقسم بالمخلوقات والتي تدل على عظمتها، وأنها آية من آيات الله. الجواب الثاني: أن يوجد فرق بين ما في هذه الآيتين، وما في الحديث، فالحديث فيه: أن الفعل واحد (ما شاء الله وشئت)، أما هذه فأفعال مختلفة؛ وفعل الله غير فعل رسوله؛ فالله أغناهم من فضله ورسوله صلى الله عليه وسلم أغناهم بفعله حقيقة، ولكنه داخل تحت قدرته، وهو من نعم الله جل وعلا، وكذلك بالنسبة إلى زيد فالله أنعم عليه بالإسلام والهداية، والرسول صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بأن أعتقه، فالفعل هنا متغاير وليس مثل ما في الحديث.
ما يستفاد من حديث قتيلة(5/172)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن قتيلة : (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون: تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) رواه النسائي وصححه ]. في هذا الحديث من الاعتبارات: أولاً: كيف أن اليهود يعرفون مثل هذه الدقائق وينكرونها على المسلمين، وهم يقولون: (عزير ابن الله)، (يد الله مغلولة)، (نحن أغنياء والله فقير)، ويفعلون الأفعال التي تنافي وحدانية الله جل وعلا، ثم ينكرون على المسلمين مثل هذا الشيء الدقيق، فهذا يدل على أن صاحب الهوى قد يفهم شيئاً دقيقاً لأجل هواه لا من أجل الحق. ثانياً: أن الحق إذا جاء -وإن كان من عدو- يجب أن يقبل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ونهى عنه، وهو إنما جاء من اليهود وهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين، والحق ضالة المؤمن فيجب أن يقبله ويقول به، وإن كان صادراً من عدو. ثالثاً: أن الإنسان ظلوم جهول قد يعرض عن الأمور العظائم التي يفعلها، وينتقد الأمور الدقيقة الضعيفة على غيره. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (عن قتيلة ) بمثناة، مصغرة، قتيلة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي وهو المذكور في الباب، ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي . وفيه: قبول الحق ممن جاء به كائناً من كان. وفيه: بيان النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة. وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه. وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله، ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع؛ وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة، فالطواف بها(5/173)
مشروع، والحلف بها ودعاؤها ممنوع، فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع، وإن خالفك من خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام.. بل هم أضل سبيلاً ]. شبيه بقول هذا اليهودي ما سمعناه من بعض النصارى، فإنهم يقولون في هذه المسألة: إن المسلمين عندهم بقايا وثنية حيث يذهبون إلى الكعبة ويتمسحون بها ويطوفون عليها. وهذا غريب من هؤلاء المشركين الذين يجعلون المسيح بن مريم ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ويعبدونه، فهم يعبدون رجلاً كان في بطن امرأة حملاً، ثم وضع فصار رضيعاً ضعيفاً، إلى أن جاءت عليه الأطوار التي تأتي على الإنسان، ثم يقولون: هو ربهم، وأنه هو الذي يتصرف، ثم ينتقدون هذا الانتقاد، هذا من أعجب العجب. والجاهل الذي لا يعرف حكم الإسلام، ولا يعرف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قد ينطلي عليه مثل هذا الكلام؛ لأن القائل نفسه يعلم أنه باطل، وأن مقصوده به التشويه، وكذلك يقصد به أن ينفر عن الإسلام من لا يعرفه، وإلا فإن أهل الإسلام يعلمون أن الكعبة مبنية من الحجر والطين، وأنها لا تضر ولا تنفع أحداً، وإنما يمتثلون أمر ربهم حيث أمرهم بقصدها والطواف عليها وبالتوجه إليها بالصلاة والدعاء. فهذا مثلما ذكر الله جل وعلا أنه أمر الملائكة بأن يسجدوا لآدم فسجدوا طاعة لله وليس عبادة لآدم، فكذلك المسلمون يذهبون إلى الكعبة ويطوفون بها طاعة لله جل وعلا، ويعبدون رب الكعبة وليست الكعبة هي المعبودة، وإنما المعبود ربها الذي أمر بتعظيمها وبقصدها وبالطواف عليها. أما التمسح بها فليس مشروعاً بل لا يجوز وهو من المحرمات، وإذا وقع فإنما يقع من الجهلة الذين لا يعرفون الحكمة، وإنما الذي يمسح هو الحجر الأسود والركن اليماني فقط، وأما غير ذلك فلا يجوز التمسح كما يقول هؤلاء الأعداء، وإنما يفعلون ما أمروا تعبداً لله جل وعلا وتقرباً. وأما الوقوف بعرفات فهو عبادة أمروا بها تعبداً لله، وكذلك المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار(5/174)
وسائر مواقف الحج والمشاعر، كلها عبودية للقلب وللبدن؛ فالقلب أولاً يخضع لله جل وعلا ممتثلاً أمره وليس لهذه المظاهر التي يزعم الأعداء أنها من بقايا الوثنية، إذ إنهم إما جاهلون بالحكم وبالواقع، أو أنهم عرفوا الحكم فكذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فعليهم جريمة الكذب وجريمة معاداة الحق.
مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى
قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت)، والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئاً إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29] وقوله: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30])) ]. ومعلوم أن الذي يقول هذا القول ليس قصده أن مشيئة المخلوق كمشيئة الخالق؛ هذا لا يخطر ببال عاقل من العقلاء، وإنما الذي ينكر مجرد الجمع بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق؛ لأن الجمع يقتضي تشريكاً فقط، يعني: أن مشيئة المخلوق تشارك مشيئة الخالق ولو مشاركة ضعيفة، فنهي عن هذا وجعل ذلك من الشرك، هذا هو الذي دل عليه الحديث. أما كون الإنسان له مشيئة ومشيئته جعلها الله جل وعلا مملوكة له، فهذا لا ينكر وهذا معلوم، ولكن هذه المشيئة ضعيفة تناسب ضعف المخلوق، فلا يجوز أن يجمع بينها وبين مشيئة القادر على كل شيء رب العباد جل وعلا، يجب أن يكون العبد عبداً لله موحداً منزهاً لله عن جميع المشاركة حتى في الألفاظ التي توهم مجرد مشاركة ولو ضعيفة حتى يكون عبداً لله حقاً. والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بكمال التوحيد فبين جميع ما يجب على العبد أن يفعله أو يقوله، وكذلك جميع ما يجب أن(5/175)
يمتنع منه.
الرد على نفاة المشيئة من القدرية والمعتزلة
قال الشارح رحمه الله: [ وفي هذه الآيات والحديث: الرد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر، الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه، وسيأتي ما يبطل قولهم في: (باب ما جاء في منكري القدر) إن شاء الله تعالى، وأنهم مجوس هذه الأمة ]. القدرية ما قالوا ذلك لأنهم يقدسون الإنسان، ولا لأنهم يجعلونه مشاركاً لله جل وعلا في ذلك قصداً، وإنما قالوه من باب الجهل والفرار من باطل اعتقدوه فوقعوا في باطل آخر أكبر منه، وهو أنهم قالوا: لو قلنا إن مشيئة الله جل وعلا عامة شاملة، وأن العبد ليس له مشيئة إلا بعد مشيئة الله؛ فهي داخلة في مشيئته؛ فلو قلنا هذا للزم من ذلك أن نقول إن الله يشاء الكفر من العبد ثم يعذبه عليه، ويكون ذلك ظلماً. هذا الذي دعاهم إلى قولهم: إن العبد له مشيئة غير داخلة في مشيئة الله، ومعلوم أن مثل هؤلاء مثل الذي استجار من الرمضاء بالنار، فهم فروا من شيء متوهم يريدون تنزيه لله ووقعوا في الشرك في الربوبية؛ حيث جعلوا هناك أشياء مخلوقة لغير الله جل وعلا. فإذاً: يكون المخلوق مشاركاً لله جل وعلا في الخلق، وهذا أعظم وأكبر مما فروا منه، فإن الله جل وعلا خلق الإنسان وجعل له قدرة واختياراً.. فخلق له القدرة على اختيار الفعل التي هي المشيئة، وخلق له قدرة التي هي مناط القيام بالفعل، وبها يفعل، وخلق له أيضاً إرادة التي هي المشيئة فجعلها ملكاً له، وأمره بما يستطيع، فإذا فعل ذلك فإنه يفعله بإرادته وقدرته، وإذا تركه فإنه يتركه بإرادته وقدرته، وعلى ذلك يستحق العبد إذا ترك ما أمر به وفعل ما نهي عنه.. يستحق الثواب إذا امتثل الأمر واجتنب النهي؛ لأنه وقع بإرادته وقدرته.
عقيدة أهل السنة في القدر(5/176)
قال الشارح رحمه الله: [ وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره، واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شيء مما يوافق ما شرعه الله، وما يخالفه من أفعال العباد وأقوالهم؛ فالكل بمشيئة الله وإرادته، فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد، كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]. وفيه: بيان أن الحلف بالكعبة شرك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على قوله: إنكم تشركون ]. أقره على تسميته ذلك شركاً ونهى عنه، وليس معنى هذا أن اليهودي ينبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمه، ولكن هذا يكون من الأمور المسموح بها أولاً، ثم بعد ذلك نهي عنها، وقد جاء أنه كان يجوز أن يحلفوا بغير الله أولاً ثم نسخ ذلك ونهوا عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وقال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً، ما شاء الله وحده) ]. قوله: (أجعلتني لله نداً)، الند: هو المثيل والنظير الذي يكون مناظراً لنده، يقال: (هذا ند) إذا كان مثله، ونديده إذا كان مساوياً له، ولا يلزم أن تكون المساواة من كل وجه بل ولو في صفة من الصفات. قوله: (أجعلتني لله نداً)، هذا من باب الإنكار عليه وأن هذا من الشرك، كما قال صراحة: (أجعلتني لله نداً؟) فدل على أن هذا شرك، وهو من الشرك الأصغر الذي يجب أن يتنزه عنه، ووجوده يكون منقصاً لتوحيد الإنسان. ثم أرشده إلى التوحيد الخالص فقال: (بل ما شاء الله وحده)، أي: قل: ما شاء الله وحده ولا تعطف عليه أي شيء، وهذا أكمل مما لو قال: (ما شاء الله ثم(5/177)
شئت)، مع أنه جائز ولكن قوله: (ما شاء الله وحده) أكمل وأبعد عن المشاركة عن الشرك في الوجود؛ وأرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الأمر الذي وقع هو بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، أعني: المشيئة المقدور له فعلها بنفسه، ولكن لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئة الله. فالله هو الذي أقدر المخلوق على أن يفعل هذا الشيء؛ فإنه لا تكون له حركة ولا سكون إلا بإرادة الله جل وعلا: مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59] فالله جل وعلا أراد ذلك وشاءه، والشيء الذي لا يريده ولا يشاؤه لا يمكن أن يقع؛ غير أن الله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، والسبب لا يجوز أن يكون هو المعتمد عليه، والمنظور إليه، بل ينظر إليه على أن الله جعله سبباً، فترجع الأمور كلها إلى الله جل وعلا، وهذا منها، فإذا فعل مخلوق فعلاً يجب أن يُنظر إلى أنه وقع بإرادة الله، والله هو الذي أقدر هذا المخلوق عليه، وقد شاء الله وقوعه، ولولا مشيئته ما وقع؛ لأنه وإن كان السبب تاماً فإن له موانع جعلها الله جل وعلا فإذا أراد أن لا يقع لم يقع. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا يقرر ما تقدم: من أن هذا شرك لوجود التسوية في العطف بالواو. وقوله: (أجعلتني لله نداً)، فيه بيان أن من سوى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله نداً لله، شاء أم أبى، خلافاً لما يقوله الجاهلون بما يختص بالله تعالى من عبادته، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه و(من يرد به الله خيراً يفقه في الدين).
حديث الطفيل (إنكم لأنتم القوم ...)(5/178)
قال المصنف رحمه الله تعالى: ولابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها، قال: (رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفرٍ من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)] .......
وجوب تمييز أفعال الله عن أفعال خلقه
إن من أعظم الذنوب التي توعد الله جل وعلا عليها العقاب الشرك، والشرك يكون بالفعل ويكون بالاعتقاد، ويكون بالقول بالألفاظ، والألفاظ قد لا يعتقد الإنسان معانيها، ومع ذلك تكون شركاً. وهذا الحديث من هذا النوع، أي: من نوع الشرك بالألفاظ؛ لأن الذي يقول: ما شاء الله وشئت لا يعتقد أن مشيئة المخلوق مساوية لمشيئة الخالق جل وعلا، ولا أنه يوجد بها ما يوجد بمشيئة الله جل وعلا، هذا لا يعتقده عاقل، ولكن مجرد الجمع بين المشيئتين في اللفظ يجعل ذلك شركاً؛ لأنه يجب أن تميز أفعال الله جل وعلا عن أفعال خلقه؛ لأن الله جل وعلا لا شريك له في ذاته، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، ولا في حقوقه التي يستحقها على عباده، كل هذه يجب أن يكون مفرداً بها لا يشرك فيها معه أحد. والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الخالص، وجاء في بيان حق الله جل وعلا على عباده بأنواعه؛ لهذا أنكر مثل هذا الشيء الدقيق.
الرؤيا قد تكون سبباً في حكم شرعي(5/179)
وهذه رؤيا رآها أحد المسلمين وهو الطفيل ، ولكن الرؤيا قد تكون سبباً لأمرٍ يشرعه الله، كما صارت الرؤيا سبباً في مشروعية الأذان، ففي حديث عبد الله بن زيد (أنه انصرف من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهتم بأمر الصلاة كيف يتحينون لها وقتاً! ولا كان ينادى لها، فمنهم من يقترح أن يكون هناك ناقوس يضرب به أو نار، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كره هذه الأمور، فذهب ورأى في منامه أنه جاءه آت ومعه بوق فقال له: ألا تبيع هذا؟ قال: وماذا تصنع به؟ قال: أنادي به للصلاة، قال: أولا أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر .. إلى آخر الأذان، ثم ذكر له الإقامة، فذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنها رؤيا حق، ألقها على بلال فإنه أندى منك صوتاً). فكان هذا سبب مشروعية الأذان، وهذه الرؤيا سبب النهي عن مثل هذا القول، أن يجمع الإنسان بين ما هو من فعل الله وما هو من فعل المخلوق في كلمة واحدة وذلك (بالواو) كقول: ما شاء الله وشئت، أو: هذا بك وبالله، أو أن هذا فعلك وفعل الله، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا يكون من الشرك بالألفاظ؛ لأنه جمع بينه وبين فعل الله جل وعلا. وهذه المحاورة التي حصلت في الرؤيا بين الطفيل وبين جماعة من اليهود وجماعة من النصارى تدل على أن الرؤيا ليست خيالية، بل هي أمور واقعية، وتدل كذلك على تعصب أهل العقيدة الباطلة، فإنهم يتعصبون لعقيدتهم، وتدل على فهم أصحاب الباطل، فإنهم يفهمون الدقائق ومع ذلك لا ينفعهم. وهنا لما قال لهم: (إنكم لأنتم القوم) يعني: إنكم عندكم كمال غير أن فيكم عيباً، وهو: أنكم تقولون: عزير ابن الله، وعزير رجل صالح جعلوه ابن لله، لأن الله جل وعلا علمه التوراة، فهذا من أعظم الشرك بالله جل وعلا، ومن أعظم التنقيص من المخلوق لله جل وعلا، فإنه جهول ظلوم، جهل عظمة الله ولم يقدره حق قدره، فعدلوا عن هذا الإنكار وهذا العيب العظيم إلى شيء(5/180)
يسير ولكنه من نوعه، قالوا: (وأنتم لأنتم القوم) يعني: عندكم من الكمال والاستعداد (لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد) يعني: أن هذا هو عيبكم حيث لم تخلصوا لله جل وعلا. وكذلك قال النصارى لما قال لهم: (إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله) وهذا من جنس قول اليهود، ومن أعظم الشرك والتنقص لله جل وعلا، كيف يكون الرب جل وعلا له ابن وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؟ تعالى الله وتقدس، هو الأول بلا ابتداء، وهو الآخر بلا انتهاء: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3] هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل الخلق فقراء، وكانوا عدماً فأوجدهم، ولابد أن يصيروا إلى العدم فهم فقراء، فهذا من جهل الإنسان وظلمه، وإذا اجتمع الجهل والظلم فإنه يتحتم ويجتمع البلاء كله، نسأل الله العافية. فلما قص الرؤيا على الرسول صلى الله عليه وسلم بادر إلى إنكار هذا القول الذي يصدر منهم، فقال: (إنكم تقولون كلمة كنت أعرفها، ولكن كان يمنعني من إنكارها كذا وكذا)، وجاء في رواية: (يمنعني من إنكارها الحياء) ومعنى ذلك: أنه كان يمنعه من إنكارها أن الله لم يوح إليه فيها شيئاً، وإلا فمجرد الحياء لا يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنكار المنكر، غير أنه لا يقول إلا بأمر الله جل وعلا، وهذه الرؤيا من أقسام الوحي، وقد جاء أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وإذا كانت صالحة فهي حق، ولكن هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني أن تكون الرؤيا سبباً لتشريع أمر من الأمور، أما بعد ذلك فلا يجوز أن يثبت بالرؤيا حكم من الأحكام، وإنما تكون الرؤيا إما بشارة وإما نذارة، يعني: تبشر الإنسان إذا كان من أهل الخير المحبين، أو تنذره إذا كان من أهل المعاصي، وقد فسر قول الله جل وعلا: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64](5/181)
بالرؤيا الصحيحة الصادقة، والرؤيا إذا كانت من إنسان صالح ويصدق الحديث فغالباً ما تكون صادقة، أما إذا كان لا يصدق ويكذب في الحديث فرؤياه لا تصدق ولا تكون صحيحة.
أقسام الرؤيا
والرؤيا التي تقع للناس على أقسام ثلاثة: - قسم يكون مما يزاوله الإنسان في حياته ويعيش عليه، فتكون روحه مشدودة به، ونفسه مشغولة به، فإذا نام صارت النفس تشتغل بهذه الأمور التي كان قلبه عاكفاً عليها، ومتعلقاً بها، وهذه الأمور يجب أن يستغفر الإنسان ويتوب منها، فقد يكون ممن يزاول التجارة فيراها في المنام، وهكذا.. ويخشى على من كان بهذه المثابة أنه إذا حضره الموت، واشتد مرضه، أن يصبح هذا أمامه يشتغل به، ويخشى أن يموت على ذلك، لهذا نقول: يجب أن يستغفر من هذه الأمور، ويتوب منها؛ لأن الإنسان خلق لعبادة الله جل وعلا، ما خلق لعبادة الدنيا. النوع الثاني: أمور من الشيطان يخوف بها الإنسان، وهذه ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر العلاج فيها: أن الإنسان إذا رأى شيئاً يزعجه ويخيفه أنه ينفث عن يساره ثلاثاً، ثم يتعوذ بالله من الشيطان، ثم يغير حالته التي كان عليها في النوم، فإذا كان على جنب يتحول للجنب الثاني، ثم لا يذكر ذلك لأحد، ولا يحدث به أحداً فإنه لا يضره؛ لأن هذا من كيد الشيطان وأعماله. القسم الثالث: الرؤيا، وهي عبارة عن أمثال يضربها الملك الموكل بالرؤيا، حيث يأتي إلى روح النائم ويضرب لها أمثالاً، وقد يكون فيها كلام، وقد يكون فيها أمور يعرفها، وقد يكون فيها أمور لا يعرفها، وهذه هي الرؤيا التي تكون إما بشارة وإما نذارة، ومع ذلك لا يعتمد عليها، ولكنها قد تكون بشارة يستبشر بها الإنسان ولا يعتمد عليها، وإنما الاعتماد على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كمل لنا الدين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج إلى رؤيا ولا إلى غيرها.
مكانة النبي صلى الله عليه وسلم التي أنزله الله إياها(5/182)
وفي هذا الحديث: أن هذا الكلام إذا قيل حتى لأشرف الخلق الذي هو رسول الله صلى عليه وسلم فإنه يكون شركاً، يعني: إذا شركت المشيئة أو الفعل مع الله جل وعلا في كلمة واحدة وعطفت بالواو فإنه يكون شركاً، ولا فرق بين كونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من الخلق، يجب أن يتنزه منه، ويبتعد عنه. وفي هذا دليل واضح على أن الله جل وعلا هو وحده الذي يملك كل شيء، وهو وحده المتصرف في كل شيء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وإنما هو رسول كلفه الله جل وعلا بإبلاغ الرسالة إلى عباد الله، هذه هي مهمته أكرمه الله جل وعلا بطاعته، ولهذا كان يناله الأذى من الناس، ويناله كذلك المرض، ويناله ما ينال غيره من المؤذيات الطبيعية، وهو كذلك يأخذ بالأسباب التي أمر الله جل وعلا بها، يلبس الدرع ويأخذ السلاح، ويقاتل العدو بالسلاح، ويستعد لذلك، حتى إنه مرة ظاهر بين درعين، أي: لبس درعاً على درع، وفي يوم أحد أصيب صلى الله عليه وسلم بما أصيب به، فكسرت البيضة على رأسه، ودخلت حلقة المغفر في وجنته وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكسرت رباعيته، وصار الدم يسيل على وجهه وهو يسلته بيده ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟!) فأنزل الله جل وعلا عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]. وكذلك يوم خيبر حصل ما حصل عليه وعلى صحابته من الجوع، وكذلك المرض الذي سببه الحمى ووباء المنطقة؛ لأنها كانت وبيئة بالحمى وغير ذلك من الأمور التي تحصل. فإذاً: النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً ولا رباً، وإنما هو بشر مكلف بعبادة الله جل وعلا، وإبلاغ الرسالة، ولهذا يخاطبه الله جل وعلا ويقول له: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن:21] ويقول له: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى(5/183)
إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] ويقول له: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188] في آيات كثيرة يأمره الله جل وعلا أن يخبر بالواقع الذي هو فيه. فإذا كان ليس له مع الله شيء فكذلك غيره من الملائكة والرسل ومن هو دون الرسل والأنبياء كالأولياء، فإنهم دونهم لا يصلون إلى مقام الأنبياء، فإذاً: لا يملكون شيئاً مع الله، فلا يجوز أن يدعوا، ولا يجوز أن ينادوا ويقال لهم: بحسبكم .. أو إننا نستغيث بكم .. أو نسألكم كذا وكذا .. من الأمور التي هي بيد الله جل وعلا، ولا يكونون واسطة بين العباد وبين ربهم جل وعلا؛ لأن الله علام الغيوب، وهو قريب ممن دعاه، ولم يجعل بينه وبين عباده واسطة، بل قال جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] فهو قريب من عبده، وأقرب ما يكون الرب جل وعلا من عبده وهو ساجد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أقرب ما يكون الرب إلى عبده إذا ظهر منه الذل والانكسار والخضوع لله جل وعلا، فإن السجود مظهر للذل والخضوع، وكلما كان متذللاً لربه خاضعاً له فإن الله جل وعلا يكون قريباً منه. المقصود أن هذا حق الله؛ فيجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، الدعوة وطلب النفع والضر، وكذلك التصرف في الكون كله الدقيق والجليل فإنه لا يكون شيء في المخلوقات كلها إلا بإذن الله جل وعلا بعد إرادته ومشيئته.
متى تثبت الأحكام الشرعية بالرؤى(5/184)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (عن الطفيل أخي عائشة لأمها) هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة ، أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه ، وهو ما ذكره المصنف في الباب، وهذه الرؤيا حق، أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بمقتضاها، فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده، وهذا الحديث والذي قبله: أمرهم فيه أن يقولوا: ما شاء الله وحده، ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: ثم شاء فلان؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص. قوله: (كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) ورد في بعض الطرق: أنه كان يمنعه الحياء منهم، وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه، خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك نهياً بليغاً، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين، وأتم له به النعمة، وبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي، يثبت بها ما يثبت بالوحي أمراً ونهيا، والله أعلم ]. فلا يثبت بالرؤيا حكم إلا إذا كانت من النبي صلى الله عليه وسلم أو عرضت قصة الرؤيا عليه مثل هذه، ثم أثبت بها شيئاً، أما من غيره فلا يثبت بها حكم أصلاً، وهذا باتفاق العلماء، وإنما قد تكون الرؤيا قرينة من القرائن التي يثبت بها الدليل فتكون من جملة الأدلة، وهناك أدلة غيرها فتكون مرجحة فقط كما في رؤيا ثابت بن قيس بن شماس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا جاءت الوفود يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب، ولما كان القتال مع مسيلمة الكذاب وأصحابه تحنط، ثم تقدم وصمد حتى قتل رضي الله عنه، ثم في الليل رآه أحد أصحابه فقال له:(5/185)
اذهب إلى أمير الجيش خالد بن الوليد فقل له: إن درعي عند فلان قد ألقى عليها برمة، وتجدون عند خبائه فرساً تستن برباطه، ثم قل له إذا قدم على أبي بكر : إن عليّ كذا لفلان من الدين، وإن عبدي الفلاني عتيق، وإياك أن تقول هذه أضغاث أحلام! فلما أصبح غدا على خالد وأخبره، فذهبوا إلى المكان الذي وصفه فوجدوا درعه كما وصفه ملقىً عليها برمة فأخذها، ولما أتى خالد إلى أبي بكر أخبره بذلك فنفذ وصيته، وليس هذا عمل بالرؤيا، وإنما لأنها صارت هناك قرينة وأدلة يعتمد عليها، وفي جميع الأوقات لا يثبت فيها حكم من الأحكام، وإنما تكون دليلاً على شيء، إما بشارة أو نذارة أو غير ذلك. أما الرؤيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي وحي، واختلف العلماء في معنى قوله: (الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: إن معنى هذا أنه بدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة قبل أن يأتيه الوحي، لما كان يخلو في غار حراء ويتحنث، يعني: يتعبد، فكان إذا رأى رؤيا جاءت كمثل فلق الصبح، كأنها شيء واقعي يراه عياناً، وكانت هذه المدة ستة شهور، ثم جاء بالوحي بعد ذلك، فهذه الستة الشهور إذا نسبت إلى ثلاث وعشرين سنة صارت جزءاً من ستة وأربعين جزءاً، وهذه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أظهر الأقوال في هذا الحديث، أنها (جزء من ستة وأربعين جزءاً) والله أعلم.
مسائل باب: قول ما شاء الله وشئت
......
معرفة اليهود بالشرك الأصغر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر ]. معرفة اليهود بالشرك الأصغر وكذلك النصارى مع أنهم يقعون في الشرك الأكبر، فكيف يعرفون الأصغر ويوجد منهم الأكبر؟ بسبب الهوى وإتباع شهوات الأنفس، فالإنسان إذا كان له هوى فإنه يفهم الدقائق وهو مرتكب للعظائم، وهذا في اليهود وفي المسلمين.
قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟! فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ..؟(5/186)
[الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى. الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟) فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك .. والبيتين بعده؟! ]. رجلٌ يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء الذي يوافقه فقال الرجل: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلني لله نداً؟) وذلك أنه قرن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشيئة الله، فصار مقتضى ذلك أنها مشاركة لها بهذا اللفظ، يعني: مشاركة بمقتضى العطف واللفظ، والمشاركة تدل على الشرك. وهذا مجرد اللفظ فقط وإلا فالمعنى لا يعتقده هذا، ومع ذلك أنكره الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله تنديداً ونوعاً من الشرك؛ لأن الند هو المثل والنظير، فإذا كان كذلك فكيف بالذي يقول: (ما لي من ألوذ به سواك) يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقصد بها صاحب البردة البوصيري حينما يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علوم اللوح والقلم إلى آخر ما يقول: فإن هذا أمر عظيم جداً! فإنه جعل ما لله جل وعلا للرسول صلى الله عليه وسلم، بل صار يستغيث بالرسول من الله: (ما لي من ألوذ به سواك)، أين الله؟! (إذا الكريم تحلى باسم منتقم)، يعني يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فما لي إلا أنت ألوذ به، وهذا من أعظم الشرك، بل ما كان المشركون يقولون هذا ولا قريباً منه. وكذلك قوله: (ولن يضيق رسول الله جاهك بي) يعني: هو يناديه يقول: لا يضيق جاهك يا رسول الله بي يوم القيامة! فأنا أحتمي به! فمعنى ذلك أنه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الله، وهذا هو الشرك الأعظم. وقوله: (فإن من جودك الدنيا وضرتها) هذا كذب واضح، الدنيا وضرتها(5/187)
التي هي الآخرة كلها لله، ما لأحد فيها شيء، لا للرسول ولا لغيره. وهذه المنظومة كثير من الناس اتخذها له شبه الورد الذي يتقرب بقراءته وتلاوته إلى الله، مع أنها شرك أكبر، وليس معنى ذلك أن نحكم على الرجل الذي قالها -البوصيري - بأنه مشرك؛ لأننا لا ندري ماذا مات عليه، فيقول: أمره إلى الله، ولكن هذا القول وهذا الكلام الذي يقوله هو شرك، فإن كان مات عليه فإنه مات مشركاً، ولكن يرجى أنه تاب ورجع إلى ربه جل وعلا، وليس المقصود إنساناً بعينه أو كلاماً بعينه، وإنما المقصود الموازنة بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي قال له: (ما شاء الله وشئت) وبين قول الذين يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يصبحون ينادونه ويستغيثون به ويجعلونه هو ملاذهم وعياذهم من دون الله جل وعلا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بخلاف ذلك، ودينه يبطل هذا. فلا يجتمع هذا الاعتقاد مع اعتقاد أن محمداً رسول الله، فإن معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته في أمره، واتباعه على شرعه، وأن الدين ليس إلا ما جاء به فقط، هذا هو معناه، فمن اعتقد غير ذلك فهو ضال.
هل قول: (ما شاء الله وشئت) شرك أكبر
[الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله: يمنعني كذا وكذا ]. الظاهر أن هذا كان في أول الأمر، لما كان ذلك جائزاً ولم يشرع النهي عنه، فهو مثل الحلف بغير الله، فإنه كان في أول الإسلام لا ينهى عنه، ثم نسخ، فالظاهر أن هذا مثله لما جاء الوحي نهى عنه. أما أنه يكون شركاً والرسول صلى الله عليه وسلم يمتنع من إنكاره من أجل الحياء فمعاذ الله أن يكون ذلك! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمنعه من إنكار المنكر مانع. [الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي. السادسة: أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام ].
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [110](5/188)
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر، لأن فيه إيذاء لله سبحانه، فهو الذي خلق الدهر، وخلق الليل والنهار، يقلبهما كيف يشاء، وهو مدبر الأمور.
باب من سب الدهر فقد آذى الله
[ قال المصنف رحمه الله تعالى: باب من سب الدهر فقد آذى الله. وقول الله تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24]. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر) ]. ......
تعريف السب شرعاً
أولاً: السب: هو الشتم واللعن، أن يشتمه أو يلعنه أو يذمه بالقول الذي يصدر منه. والدهر: هو الزمن، ومعلوم أن الزمن هو الليل والنهار، فبالليل والنهار يتكون الأسبوع والشهر والسنة، وكله بهذا، والليل والنهار ظرف للحوادث التي تحدث للناس من الخير والشر، وجميع ما يحصل للإنسان فهو بسبب كسبه وعمله، ولكن الله جل وعلا يخبرنا عن ظلم الإنسان وجهله، وهلعه وجزعه.
الفرق بين الأذى والضرر(5/189)
ومعلوم أن الليل والنهار مخلوق لله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37] ويقول جل وعلا: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [الحج:61] ويقول جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54]. فالله جل وعلا هو الذي خلق الليل والنهار، وجعله مسخراً مدبراً، فالليل والنهار مخلوق مطيع لله جل وعلا، سائر بأمره، ليس له تصرف، وليس عنده نفع ولا ضر. وسب الدهر يدل على أن الأذى يقع من ابن آدم على الله، والأذى يكون للشيء الخفيف الذي أثره قليل، أي: ما خف أثره وقل تأثيره من الشرك والقول الكذب والكفر، وقد أخبر الله جل وعلا عن بعض الناس أنهم يؤذون الله ورسوله، ويؤذون المؤمنين، ولكن أخبرنا ربنا جل وعلا أنه لا أحد يضره: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176]. فالله لا يلحقه الضرر، ولكن يلحقه الأذى، ولهذا نقول: إن الأذى هو الشيء الخفيف الذي لا يكون له أثر على من لحقه، ولهذا يقول الله جل وعلا للمؤمنين عندما حرضهم على قتال الكافرين: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111] . يعني: من قول تسمعونه أو فعل يصدر منهم فتتأذون به، أما الضر فلا يلحقكم. فالله أعظم وأجل من أن يلحقه ضر من خلقه، ففي الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم أن الله جل وعلا يخاطب خلقه بقوله: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني،) وفي التنزيل كما سمعنا: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:176]. أما الأذى فثبت في هذا الحديث، وفي القرآن آيات تخبر أن الله يتأذى بفعل بني آدم، كمثل الذين يقولون: إن له ولداًَ تعالى الله وتقدس، ومثل الذين يعبدون(5/190)
معه غيره، ومثل الذين ينادون مخلوقاً رميماً تحت التراب، ويقولون له: أغثنا .. أعطنا ..نحن نعتمد عليك .. وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من حق الله، يجب أن ينادى الله به، أما أن يجعل لله ما يجعل للمخلوق فهذا من الأمور التي تؤذي الله تعالى الله وتقدس.
سب الدهر نوع من الشرك
ومن ذلك ما ذكر في هذا الباب من أن سب الدهر يؤذي الله، ثم إن مناسبة ذكر هذا الباب لكتاب التوحيد أن ساب الدهر لا يخلو من الشرك؛ وذلك لأنه إذا صدر السب منه، إما أن يكون معتقداً أن الليل والنهار والدهر يؤثر في ذلك، وأنه هو الفاعل المصرف في الحوادث الواقعة التي حصل السب من أجلها، فهذا شرك ظاهر وشرك أكبر، وإما أن يكون أضاف الحوادث -على سبيل ما يصدر من الناس وما يسمعه- إلى غير محدثها، وإنما هو على سنن الجاهلية، فيكون أيضاً شركاً ولكنه دون الأول، فتكون المناسبة ظاهرة في أن سب الدهر من الشرك، وقد جعله ابن الجوزي رحمه الله من أعظم الكفر بالله جل وعلا، وهذا يصدر من الناس ولاسيما من الأدباء الذين لهم أشعار، فإنه يصدر منهم كثيراً، وهو في الواقع من أعظم الجهل، ومن أعظم الجرأة على الله جل وعلا، فيحب على العبد أن يحترز من ذلك. ومن هذا ما يصدر من بعض الجهلة والسفلة، إذا لقي أمراً ليس رائقاً له وجدته يلعن الوقت الذي رأى هذا الشخص فيه، يسب الساعة أو اليوم الذي رأى الشخص فيه، فهذا من أعظم الأذية لله جل وعلا، وهو ظلم وشرك بالله جل وعلا.
ما يستثنى من وصف الأيام بالشدة ونحوها
وليس من ذلك وصف الوقت بالشدة، كأن يقال مثلاً: هذه سنة شديدة، أو هذا فصل بارد أو هذا فصل حار؛ لأنه جاء في القرآن في قصة لوط عليه السلام أنه قال: هذا يوم عصيب، وكذلك يقول الله جل علا: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7] وسماها في آية أخرى نحسات، فوصف الأيام بالشدة ليس داخلاً في ذلك، وإنما المقصود أن تضاف إليها الحوادث فتسب.(5/191)
ما يقابل السب وهو مدح الدهر
وكذلك يقابل هذا المدح كما يحصل لبعض الأدباء إذا حصل له مراده من محبوبه أو غيره سماها أيام وصل، وحمدها، وأثنى عليها، فهذا عكس السب يعني: أنه أضاف هذه الأمور إليها، فيكون أيضاً مذموماً؛ لأنه أضاف الحوادث إلى غير محدثها وموجدها جل وعلا. والإنسان يجب عليه إذا حصل له ما يريده أن يحمد الله ويثني عليه، وإذا حصل له ما يتأذى به من مصائب ونحوها أن يستغفر ربه ويتوب إليه، ويعلم أنه أصيب بسبب ذنوبه.
تفسير آية الجاثية: (وما هي إلا حياتنا الدنيا)(5/192)
وقول الله جل وعلا: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] يذكر جل وعلا عن طائفة من العرب وغيرهم كبعض الدهرية من الفلاسفة وغيرهم، أنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولا بحياة أخرى يكون فيها جزاء، وإنما يعتقدون أن الإنسان إنما يتنعم في الحياة الدنيا فقط كما يقوله الملاحدة اليوم الحياة مادة، ونهاية الإنسان وغايته أن يكون تراباً في هذه الأرض فلا حياة بعد ذلك ولا جزاء. هذا هو الذي ذكره الله جل وعلا عن هؤلاء قولهم: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) أي: ليس وراء هذه الحياة الدنيا حياة أخرى، إنما الحياة محصورة في هذه الدنيا، وقوله عنهم جل وعلا: (نَمُوتُ وَنَحْيَا) معناه: يموت قوم ويولد آخرون، فهذا معنى (نموت ونحيا) يعني: إذا انتهت أمور الإنسان وهرم مات، ويولد أناس جدد يفنيهم أيضاً الدهر: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فقط (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) يعني: ما يهلكنا إلا مرور الأيام والليالي، فإذا انتهى عمر الإنسان وهرم مات، ثم أصبح نسياً منسياً، ليس وراء ذلك شيء. فقولهم: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) كذب وافتراء على الواقع، وافتراء على أخبار الله وقضائه جل وعلا، حينما قضى أن هذه الحياة هي مزرعة للحياة الآخرة، وقولهم: (نَمُوتُ وَنَحْيَا) مقصود هؤلاء أنهم يحيون حتى تنتهي أعمارهم، ثم يموتون ويحيا قوم آخرون، أي: يولد قوم آخرون يكونون مكانهم، وأن الأمور مستمرة على هذا الوضع فقط، ومن مات لا يعود أبداً. ولهذا قالوا: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) وهذا موضع الشاهد، حيث نسبوا الهلاك إلى الدهر، ومعنى ذلك أن الذي يهلكهم إما الكوارث وإما مرور الليالي والأيام، والهرم إذا هرموا ماتوا وليس للموت(5/193)
تقدير ولا حدود محددة، يوجدون بعدها ويبعثون. وهذا المذهب من أخبث المذاهب، وهو مذهب طائفة قديمة، ولا يزال الآن في الوجود، وقد صار له دول ودعاة يدعون إليه، ولكنها دعوات باطلة؛ لأنها لا تنطوي على العقول، ولا على الفطر، فالعقل يكذبها، والواقع يكذبها، والفطر تأباها ولا تقبلها، ولهذا قال جل وعلا: (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعني: ليس لهم أدلة على هذا القول، وإنما هو مجرد افتراء وكذب، أما الظن الذي ظنوه هنا فهو مجرد الوهم، والأدلة على خلاف ذلك. من المعلوم من دين الإسلام أنه من أنكر البعث أو شك فيه يعتبر كافراً؛ لأن مبنى الإسلام على الإيمان بالغيب، والإيمان بالأخبار التي يخبر الله جل وعلا أنها ستكون، ومن ذلك ما يلاقيه الميت بعد موته في قبره من مساءلة ومن عذاب أو نعيم، ثم إخراجه من قبره حياً كما مات، ثم تركيبه تركيباً جديداً، بحيث لا يقبل الموت، وجزاؤه على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذا هو أصل الإيمان بالله جل وعلا وبرسله، فمن كذب ذلك أو شك فيه وتردد، فهو كافر بالله جل وعلا. الشاهد في هذا أنهم أضافوا الهلاك إلى الدهر، فيكون فيه مسبة الدهر، وإضافة الحوادث إليه من الضر أو النفع، وهذا من سنة الكفرة والملاحدة الذين يلحدون في آيات الله وصفاته، وفي هذا من الشرك ما هو معلوم، حيث جعلوا المتصرف غير الله جل وعلا؛ لأن التصرف في الحياة والأشخاص والذوات والمعاني وفي كل شيء لله وحده. ......
الفرق بين الحديث القدسي وغيره(5/194)
ثم ذكر الحديث، وهو حديث ثابت وصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر) فهذا يسمى حديث قدسي، نسبة للرب جل وعلا أنه قاله وتكلم به، والقداسة هي التنزيه والطهارة؛ لأن الله منزه عما يصفه به الظالمون. والحديث القدسي اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إن معناه من الله ولفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول يضيف ذلك إلى الله جل وعلا، ولكن هو الذي يتلفظ بالكلام، ويقوله، ولهذا قالوا: يجوز روايته بالمعنى. القول الثاني وهو الصواب: أن معناه ولفظه من الله، ولكنه ليس كالقرآن يتعبد بتلاوته، وذلك أن كلام الله جل وعلا لا ينحصر لا في القرآن ولا في الإنجيل ولا في غير ذلك، ولهذا يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا الذي يقوله في الوقت الحاضر وفي المستقبل، ويكون هو قول لله مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر فيقول: هل من مستغفر فيُغفر له؟! هل من سائل فيُعطى؟!) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أن الله يقول لآخر من يخرج من النار من أهل التوحيد: (لعلك تسأل غير ما سألت! فيقول: لا يا رب، ويعطي المواثيق والعهود أنه لا يسأل غير ذلك، ثم إذا أعطي ما سأل رأى شيئاً أحسن منه، فيبقى صابراً ما شاء الله أن يصبر ثم يسأل ربه ذلك الذي رآه، فيقول الله جل وعلا له: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! .. إلى أن قال له: اذهب فادخل الجنة فإن لك ما رأيت). وغير ذلك من القول الكثير الذي يذكره النبي صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا، فهو قوله بالمعنى واللفظ، وإلا فإن كل ما يذكره، وكل ما جاء به فمعناه من الله، فإذاً: لا يكون هناك فرق بين الحديث القدسي وبين الحديث النبوي؛ لأن المعنى من الله، لقول الله جل وعلا: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ(5/195)
الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]. ......
علاقة إيذاء الله بسب الدهر
ثم قوله: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر) عرفنا معنى الأذى، ومعنى سب الدهر، وأن الدهر هو الليل والنهار. ومعنى قوله: (أنا الدهر) فسر بقوله: (أقلب ليله ونهاره) يعني: أنه هو الذي أوجد الدهر وخلقه، وجعله متقلباً، مرة يزيد هذا، ومرة ينقص هذا، ويغشي الليل النهار، ويغشي النهار الليل، أي: يدخل هذا في هذا .. وكل واحد يطلب الآخر مسرعاً، هذا فعل الله جل وعلا. فالذي يسب الدهر ويضيف الحدث إليه يقع السب على الله جل وعلا، ومثال ذلك في الشيء الذي نحن فيه: لو نظر ناظر إلى هذا الحائط، ورأى أن فيه ميلاناً فصار يشتم الحائط ويسبه لماذا يميل؟! معلوم أن الحائط لا فعل له، وإنما هذا من صنع الصانع الذي صنعه، فإن شتمه وسبه يقع على الفاعل الذي فعل ذلك، والله جل وعلا يجب أن يقدره عبده حق قدره، ويجب أن يعظمه حق تعظيمه، ويجب أن يضيف إليه ما هو من فعله وصنعه، ويجب أنه إذا أصيب بمصائب أن يتوب إلى ربه ويستغفر، وإذا حصل له حسنات أو حصل له شيء من النعيم أن يحمد ربه ويشكره على ذلك؛ لأن ذلك من فضله، فالحسنات من الله، والسيئات من النفس من جراء فعله. وقوله في رواية أخرى: (فإن الله هو الدهر) يعني: أن الله هو الذي خلق الدهر، وليس الدهر اسماً من أسماء الله؛ لأن الدهر هو الليل والنهار، وأسماء الله حسنى متوقفة على النص، والحسن هو الذي لا يلحقه نقص ولا عيب، والدهر مخلوق، وأسماء الله لا تكون مخلوقة، تعالى الله وتقدس؛ لأن الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أزلي قديم بلا ابتداء. ولهذا يعلم خطأ الذين يقولون: إن الدهر من أسماء الله، ومعنى (إن الله هو الدهر) كما قال: (يقلب ليله ونهاره) يعني: هو الذي صنع الدهر، فهو فعله، والفعل يضاف إلى الفاعل على أنه مفعول له، وإذا وقع السب على الفعل فالساب في الواقع يكون ساباً للفاعل وليس للفعل. ......(5/196)
الدهرية وإضافتهم الخير والشر للدهر
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال العماد ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن دهرية الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب من إنكار المعاد: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا .. [الجاثية:24] ما ثمَّ إلا هذه الدار، يموت قوم، ويعيشون آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] قال الله تعالى: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] أي: يتوهمون ويتخيلون]. الظن يأتي بمعنى: العلم، ويأتي بمعنى: التردد بين شيئين، ويأتي بمعنى: الوهم الذي لا حقيقة له. أما إتيانه بمعنى العلم اليقيني كقوله جل وعلا: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46] فهنا يظنون بمعنى: يوقنون ويعلمون. وأما إتيانه بمعنى التردد بين شيئين ويكون أحدهما أرجح من الآخر فهذا كثير في كلام الناس، وكذلك في اللغة، فإذا أخبر الإنسان بخبر وعنده أحد الطرفين أرجح فيقول: أظن الأمر كذا. وأما الظن بمعنى الوهم فهو مثل ما ذكر عن هؤلاء، فهو ظن بمعنى الوهم، وهذا هو الذي لا يغني من الحق شيئاً. ذكر الله جل وعلا أنه وهم وأنه ليس فيه شيء من العلم والحق.
دهرية الجاهلية وجاهلية اليوم(5/197)
قال الشارح: [ فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر)، وفي رواية: (لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر! فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما). قال في (شرح السنة): حديث متفق على صحته، أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها، فنهوا عن سب الدهر. انتهى باختصار ]. وهذه العادة السيئة لا تزال موجودة عند الناس، وإن تغيرت الأساليب، وقد تضاف الأمور والحوادث إلى شيء شبيه بالدهر كقولهم مثلاً: الكوارث الطبيعية، فإذا وقع زلزال أو أمطار وفيضانات أو رياح سموها كلها كوارث طبيعية نسبة للطبيعة، وهذا كقولهم: أهلكنا الدهر؛ لأن كل ما يقع في الأرض من تدبير الله جل وعلا، لا يقع على الناس حوادث من فيضانات أو رياح أو زلازل أو براكين إلا بسبب ذنوبهم، يعقبهم الله جل وعلا بها، فيجب أن يعترفوا أن هذا بتقدير الله وتدبيره. أما الطبيعة فهي لا تصنع شيئاً؛ لأن الطبيعة التي يركن إليها أكثر الناس لا يعرف ما هي حقيقتها، فإن كان يقصد بها شيئاً موجوداً من الرطوبة واليبوسة أو الرياح أو غيرها فهذه مقدرة ومسخرة، لها رب يدبرها أو يسخرها ويقهرها وهي لا تصنع شيئاً، فهذا إنكار منهم واتباع للدهرية الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، وهو من الذنوب التي(5/198)
يجب أن يبتعد عنها الإنسان؛ لأن كل شيء يصيب الإنسان فهو من الله جل وعلا عقاب، والسبب في ذلك ذنوبه؛ لأن الإنسان لا يصاب إلا بما كسبت يده كما أخبرنا الله جل وعلا في قوله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، يخبرنا جل وعلا أنه لو يؤاخذ الناس بما عملوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي أنه يهلكهم، ولكنه يحلم عنهم ولا يعجل عليهم، ويمهلهم، بل يكفرون به وهو يرزقهم ويعافيهم في أبدانهم، وينعم عليهم النعم التي لا عدد لها بحلمه جل وعلا، وكونه لا يعجل عليهم. ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحد أصبر على أذىً سمعه من الله؛ يجعلون له الولد ثم يرزقهم ويعافيهم) كذلك يشركون به ويرزقهم ويعافيهم، وكذلك يحاربون دينه، ويحاربون عباده ويرمونهم بالعظائم، بل ويقتلونهم، وهو يرزقهم ويعافيهم؛ لأن مآلهم إليه، فسوف يجازيهم عن قرب، فالجزاء ليس ببعيد، بل هو قريبٌ جداً؛ لأن حياة الإنسان قصيرة جداً.
معنى سب الدهر عند أهل الجاهلية(5/199)
قال الشارح: [ وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً، بهذا الطريق، قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، ويسبون الدهر، فقال الله عز وجل: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار)، وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن منصور ، عن شريح بن النعمان ، عن ابن عيينة مثله، ثم روى: عن يونس ، عن ابن وهب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار) وأخرجه صاحب الصحيح، والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر). قال الشافعي ، و أبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)، كانت العرب في جاهليتها إذا أصباهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر! فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فكأنما سبوا الله سبحانه؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال، هذا أحسن ما قيل في تفسيره -وهو المراد- والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذاً من هذا الحديث، انتهى. وقد تبين معناه في الحديث بقوله: (أقلب الليل والنهار)، وتقلبيه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه. وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف(5/200)
رحمه الله تعالى وهي قوله: (بيدي الأمر). قوله: وفي رواية: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) معنى هذه الرواية: هو ما صرح به في الحديث، من قوله: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) يعني: أن ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره بعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن. فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة، كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168] وقال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة، كما في أشعار المولدين كابن المعتز والمتنبي وغيرهما. وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك، كقوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ [يوسف:48] الآية، قال بعض الشعراء: إن الليالي من الزمان مهولة تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار وقول أبي تمام : أعوام وصل كاد ينسي طيبها ذكر النوى فكأنها أيام ثم انبرت أيام هجر أعقبت نحوي أسى فكأنها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام]
مسائل باب: من سب الدهر فقد آذى الله(5/201)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الدهر. الثانية: تسميته أذىً لله. الثالثة: التأمل في قوله: (فإن الله هو الدهر) ]. يعني بهذا تأمل أنه ليس من أسماء الله، وإنما هو الفاعل للدهر، وإذا سب الإنسان الفعل رجع السب إلى الفاعل، فهذا هو الذي يقصد بالتأمل، فهذا مفسر بالروايات التي مرت أنه يقلب الليل والنهار، ومعلوم أن الدهر هو الزمن، والزمن ظرف لما يقع من الحوادث السارة والضارة التي تقع في الليل والنهار، فهو ظرف لها، وليس هو الذي يوقعها، وإنما الموقع لها هو الله جل وعلا، فيجب أن يحمد على النعماء، ويجب أن يتاب من السيئات ويرجع إليه، وكذلك يحمد على فعله؛ لأنه هو المحمود على كل حال. [الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه ]. أي: بالقول يكون ساباً وإن لم يكن معتقداً حقيقة ما يقول، فيقع منه السب، ومعلوم أن هذا يكون أقل إثماً ممن اعتقد أن الفاعل هو الليل والنهار، ثم أضاف إليه الحوادث التي هو ظرفها، فإن هذا يكون من الشرك الأكبر، ويضاف إلى الشرك مسبة ما ليس مستحقاً للسب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [111]
لله عز وجل أسماء وصفات يختص بها؛ فلا يجوز منازعة الله عز وجل فيها بالتسمي أو الاتصاف بها، ومن ذلك: قاضي القضاة وملك الملوك ونحوها، فمن تسمى أو اتصف بذلك فقد نازع الله تعالى فيما هو من خصائصه، وهذا فيه منافاة للتوحيد، ورفع للنفس فوق قدرها.
حكم التسمي بقاضي القضاة ونحوه(5/202)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله) قال سفيان مثل: شاهان شاه. وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه) قوله: (أخنع) يعني: أوضع ]. قوله: (باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه) يعني: ما حكم هذا؟ هل يكون هذا منافياً للتوحيد أو منقصاً لكماله؟! لأن كل شرك لا يخلو إما أن يكون منافياً للتوحيد أصلاً، أو يكون شركاً أصغر؛ فيكون ذاهباً بكماله، أو يكون معصية من المعاصي والذنوب والكبائر، وهذا أيضاً يكون منقصاً للإخلاص والكمال، ولتحقيق التوحيد، ويكون ذاهباً بتحقيقه، فيكون معرضاً بالإنسان لعذاب الله جل وعلا من جراء ذلك. والتسمي بهذا الاسم لا يخلو من شيء من ذلك، فيكون صاحبه واقعاً إما في منازعة الله جل وعلا فيما هو مستحق له، ومن خصائصه، وهذا من أعظم الشرك، أو يكون رفع نفسه فوق ما وضعه الله عليه، وتكبر على عباد الله، فاستحق بذلك أيضاً العقاب، أو يكون مثلاً رغب أن يكون له سيطرة، ويكون له ما ليس لغيره من الرفعة والعظمة والتكبر على الناس، ولو لم يحصل له ذلك، فإذا كان هذا في قلبه فهو واقع في الإثم. والقاضي هو الذي يفصل بالحكم سواءً كان الحكم حقاً أو باطلاً، فكل فاصل بحكم يكون قاضياً، أما الاتصاف بقاضي القضاة، فهذا لا يصدق إلا على رب العالمين؛ لأنه هو الذي يقضي بين خلقه، ويقضي بين القضاة، والقضاة: كل حاكم حكم بين اثنين فهو قاضٍ، سواء جعل حاكماً من قبل الإمام، أو أن أصحاب الخصومة اصطلحوا على أن يحكموه بينهم، وكذلك المسئول عن مسائل العلم، فإذا قيل: ما حكم كذا وكذا؟ فأفتى وقال: حكم كذا كذا، فهو قاضٍ بهذه الفتوى، فإن كان متبعاً للحق فإنه يؤجر على ذلك، وإن كان قال ذلك بالهوى أو بالجهل فإنه قائل على الله بما لا علم له به، وسوف يعاقبه الله. إذاً:(5/203)
القضاء يدخل فيه الفصل بين المتخاصمين والمتنازعين، ويدخل فيه الإخبار عن حكم من أحكام الشرع إذا سئل عنه، وهذا أعم وأشمل. وإذا أطلق الإنسان على نفسه أنه قاضي القضاة فمعنى ذلك: أنه قاضي العالمين وقاضي الخلق كلهم، وكل من هو قاضٍ وكل من هو مفتٍ فهو القاضي عليهم، وهذا لا يصدق إلا على الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي يفصل بين خلقه، وهو الذي يقضي بينهم يوم القيامة، ولا أحد يستحق هذا الاسم إلا الله، وهذا ليس في هذا الاسم فقط، بل كل ما أعطى هذا المعنى فإنه داخل فيه، وهذا مثل الذي يطلق عليه أنه سيد الخلق أو سيد الناس، أو أنه الحاكم على الخلق، أو أنه ملك الملوك، وسواء قيل ذلك باللغة العربية أو بغيرها، ولهذا قال سفيان راوي الحديث: مثل شاهان شاه يعني: أن شاهان شاه باللغة الفارسية هو: ملك الملوك، فكل من أطلق عليه شيء من ذلك فإنه مستحق بأن يكون أخنع وأغيظ اسم عند الله جل وعلا وأحقر وأذل، ويعاقبه الله جل وعلا إما في الدنيا عاجلاً، وإما أن يمهله في الدنيا ثم يعاقبه في الآخرة. ......
حكم التسمي بسيد الناس
وأما سيد الناس أو سيد الخلق فهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو سيد بني آدم صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة العربية: الذي ساد وتقدم غيره، وصار له من المعاني ما جعلته يسود ويتقدم بها على غيره، وهذا لا يوجد إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم الألقاب التي تدل على العظمة(5/204)
وكل الألقاب التي يتلقب بها الناس مما تدل على العظمة فإنها مكروهة ومبغضة، ولم تكن عادة العرب تعظيم بعضهم لبعض بالألقاب وبالأسماء التي تدل على ترفع بعضهم على بعض، وإنما جاءت هذه من العجم؛ لأنهم هم الذين يستعبد بعضهم بعضاً، ويكون بعضهم عبداً لبعض، أما المسلمون فكلهم سواء، وليس بعضهم معبود ولا عابد لبعضهم، وإنما كلهم يعبدون الله جل وعلا، ولهذا لما قدم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى رستم قائد الفرس، وكان على كرسي مرتفع وبجواره مجالس لا يجلس عليها أحد، والناس وقوف عنده، ذهب قاصداً وجلس بجواره على الكرسي، فأنكر ذلك واستعظمه، فسحبوه، فقال لهم: (كنا نتحدث أن عندكم عقولاً، والآن تبين لي أنكم لا عقول عندكم، ولو كنتم أخبرتموني أولاً أن بعضكم عبيد لبعض لكان أحسن من صنعكم هذا). والمقصود: أن الأسماء التي فيها تعظيم للمخلوق وترفع على غيره كلها مكروهة.
حكم إطلاق أسماء الله الخاصة به على غيره
أما إذا كانت الأسماء لا يصح إطلاقها ولا يصح معناها إلا لله جل وعلا، فإطلاقها على غيره من العظائم، وهو منافٍ لتوحيد الله جل وعلا، وفيه منازعة لله جل وعلا، فإن ملك الملوك هو الله جل وعلا، وهو الذي يرجع إليه الأمر كله، وهو الذي بيده الملك، كما قال جل وعلا: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]. فكل ملك أو رئيس فملكه عارية، وسوف يُنتزع الملك منه، وسوف يُنزع من الملك ويُعطى لغيره، وإنما ملك في مدة محدودة أعطاه الله جل وعلا إياها، فملك الملوك هو الله، ولهذا لما تسمى بعض الملوك المساكين بهذا الاسم أخزاهم الله جل وعلا وأذلهم في الدنيا قبل الآخرة.
حكم الترفع على الغير(5/205)
كذلك إذا كان الإنسان يترفع على غيره بفعل دون الأسماء فسوف يُذم ويلقى جزاءه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقوم الناس على الرجل وهو جالس، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار). وكان صلوات الله وسلامه عليه لا يدع أحداً من أصحابه يسير خلفه، وإنما يسيرون عن يمينه وعن شماله، ويقال: إن السير خلف الإنسان فتنة للمتبوع ومذلة للتابع. فعباد الله بعضهم من بعض، لا يجوز أن يترفع بعضهم على بعض.
حكم المدح
كذلك مدح الإنسان فإنه يكون فتنة؛ لأن فيه أنه قد يُعطى من الثناء ما ليس فيه، فربما استأنست نفسه بذلك، ثم يطلب ذلك ويصير آثماً بهذا الطلب الذي يطلبه، والخلق كلهم عباد لله جل وعلا، وأكرمهم أتقاهم، ومن كان لله أتقى فهو عند الله أرفع وأكثر مثوبة.
جزاء الذي لا يعرف قدر نفسه(5/206)
الذي يكون أنفع للخلق هو الذي ينفعهم النفع الحقيقي الذي هو الدلالة على الله جل وعلا، وفاعل ذلك يكون أكثر أجراً، ومع ذلك يجب أن يكون عارفاً بقدره، وقدر الإنسان أنه عبد لا يخرج عن العبودية في حال من الأحوال، فإن ترفع عن كونه عبداً لله فإن الله يضعه ويعاقبه، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) وأخنع: من الخناعة، وهي: الوضاعة، يعني: أوضع، وهذا الوضع قد يكون في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا جاء في الحديث: (إن المتكبرين يوم القيامة يحشرون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم جزاء تكبرهم) هذا في المحشر، وما بعد المحشر فهو أشد منه وأفضع؛ فإنهم من أصحاب جهنم. نسأل الله العافية. وعلى هذا يتبين لنا معنى قوله: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله) ، فالمالك والملك هو الله جل وعلا مالك كل شيء، وهو الملك الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، فمهما أعطي الإنسان في هذه الدنيا من معاني أو أموال أو سلطات فإنها زائلة، وسوف ينتقل منها إلى قبره فريداً وحيداً، فيصبح كالفقراء، بل هو ربما كان أحقر من الفقير بالتبعات التي تكون عليه.
عقوبة من تسمى بقاضي القضاة وملك الملوك ونحوه(5/207)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة قياساً على ما في حديث الباب، لكونه شبهة في المعنى فينهى عنه . قال المصنف رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله). قال سفيان : مثل: (شاهان شاه). وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه). قوله: (أخنع) يعني: أوضع ]. قوله: (أغيظ) يعني: أن من فعل هذا الفعل فإن الله يغاظ عليه أي: يغضب عليه غضباً شديداً، ومن غضب الله عليه عذبه؛ وذلك لأنه نازع الله جل وعلا بهذا التسمي، ونازعه فيما هو من خصائصه، ومن أظلم الظلم منازعة الله جل وعلا في خصيصة من خصائصه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى؛ فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير، وهو الله تعالى، ينزع المَلِكَ من ملكه تارة وينزع المُلْكَ منه تارة، فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه، وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى، وما تكتبه الحفظة عليهم، فيجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما ورد في الحديث : (اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله). قوله : قال سفيان -يعني: ابن عيينة - : مثل شاهان شاه، عند العجم عبارة عن ملك الأملاك، ولهذا مثل به سفيان لأنه عبارة عنه بلغة العجم. قوله: (أغيظ): من الغيظ، وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضاً إلى الله مغضوباً عليه. والله أعلم ]. وهذا يدل على أن الله يوصف بأنه يغيظ على بعض من يشاء، وأنه يوصف بالغيظ على بعض من(5/208)
يشاء من عباده، كما يوصف بأنه يبغض بعض خلقه، كما أنه يحب بعض خلقه، وكذلك يغضب على بعض خلقه، وهذه أوصاف تخص الله جل وعلا ولا يشابه المخلوق في وصفه؛ فصفة المخلوق تليق به، أما صفة الله فهي تخصه، وإن اشتركت صفة المخلوق وصفة الخالق جل وعلا في الاسم أو في المعنى العام قبل الإضافة والتخصيص فهذا لا يقتضي تشبيهاً، ولا يقتضي مساواة، فالله له ما يخصه والمخلوق له ما يخصه.
حكم القيام للأشخاص
قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (وأخبثه) وهو يدل أيضاً على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم؛ لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله. قوله: (أخنع يعني: أوضع)، هذا هو معنى (أخنع)، فيفيد ما ذكرنا في معنى (أغيظ) أنه يكون حقيراً بغيضاً عند الله. وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم، كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير ، فقال معاوية لابن عامر : اجلس؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن ]. معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) يتمثل أي: أنهم يقومون له وهو جالس تعظيماً له، إما أن يقوموا على رأسه أو أمامه تعظيماً له. وقوله: (فليتبوأ مقعده من النار) تبوأ أي: اتخذ مكاناً باء به، والمعنى: أنه يكون له مقعد من النار جزاء تعاظمه، وجزاء كونه أحب أن يكون نظراؤه من العباد أشباه العبيد له، فكانوا يعظمونه ويخضعون له. والقيام عبادة، ولهذا يقول(5/209)
الله جل وعلا: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأمر بالقيام له، والقيام في الصلاة قنوت فهو عبادة، وكل عبادة لا يجوز أن يكون جنسها لمخلوق، فالقيام من جنس الركوع، ومن جنس السجود، ومن جنس الطواف، ومن جنس كشف الرأس في الإحرام تعبداً لله جل وعلا، فكل ما هو عبادة لا يجوز أن يكون لمخلوق من المخلوقين، فإن أحب المخلوق أن يكون له شيء من ذلك فهو طاغوت من الطواغيت الذين يدعون إلى عبادة أنفسهم، بل يكون أسوأ الطواغيت؛ لأن الطواغيت كثيرون جداً، ولكن رؤساءهم أنواع، ومنهم الذين يحبون أن يُعبدوا أو يدعون إلى عبادة أنفسهم. ومن ذلك الانحناء، فكون الإنسان إذا لقي آخر ينحني له ويطأطئ رأسه فإن هذا نوع من السجود ونوع من الركوع، والركوع سجود، فلا يجوز أن يكون هذا لمخلوق؛ لأن هذا من خصائص الخالق جل وعلا، فمن رضي بذلك فهو من هذا النوع يتبوأ مقعده من النار. فالمقصود: أن القيام على الإنسان الجالس تعظيماً له نوع من العبادة، ولهذا توعد فاعله بأنه يكون قد تبوأ مكاناً في النار، يجلس فيه ويتخذه مباءة، أي: مسكناً ومحلاً ومقاماً له، وهذا من أعظم الوعيد؛ لأنه نازع الله جل وعلا في حقه، والأول: نازعه في اسم من أسمائه، فتسمى: ملك الملوك، أو قاضي القضاة، أو حاكم الحكام، أو ما أشبه ذلك، وكل من نازع الله جل وعلا فيما يستحقه فهو ينصب نفسه معبوداً من دون الله جل وعلا، وجزاؤه أن يكون متبوئاً مقعده في جهنم. ......
صفات الله تعالى تمر كما جاءت بلا تأويل(5/210)
قال الشارح رحمه الله: [ وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصا فقمنا إليه فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً) رواه أبو داود . وقوله: (أغيظ رجل) هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك، وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة، وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده، كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم. والله المستعان]. قوله: (تمر كما جاءت) معناه: أن النص لا يفسر التفسير الذي يخرجه عن ظاهر لفظه، بل تفسيره ما يفهم من لفظه؛ لأن الغيظ والبغض والمحبة معروفة، وكل من سمع هذا عرف المعنى، ولكن يجب أن يعلم أن تغيظ الله وبغض الله وغضبه ليس كتغيظ المخلوق وبغضه وغضبه؛ لأن الله جل وعلا في ذاته لا يشبهه شيء، وكذلك أوصافه؛ والوصف يكون تابعاً للموصوف، والأسماء كذلك، وإن شارك المخلوق الرب جل وعلا في شيء من الأسماء في اللفظ أو في المعنى، مثل: ملك، فالإنسان يُسمى ملكاً، والله جل وعلا مالك يوم الدين وملك يوم الدين، كما جاء ذلك في القراءات، وكما يسمى المخلوق: رءوفاً، والله جل وعلا رءوف رحيم، وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم رءوفاً رحيماً فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فالرأفة والرحمة تليق بالمخلوق إذا أضيفت إليه، وإذا أضيفت إلى الله جل وعلا فهي خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، وكذلك سائر الأسماء على هذا(5/211)
الباب، فهذا معنى قوله: (تمر كما جاءت) يعني: على ظاهر ما يفهم من اللفظ، فلا يجوز أن تؤول التأويل الذي يخرجها عن معانيها، كما يفعله أهل التفرق والاختلاف وأهل البدع، بل هذا مسلك الصحابة ومن سار معهم؛ لأنهم يقدرون الله حق قدره، ويعلمون أن الله جل وعلا لا يشاركه مخلوق في خصائصه التي تخصه من الأسماء والصفات، كما أنه لا يشاركه أحد من الخلق في ذاته تعالى وتقدس. ......
مسائل باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
......
النهي عن التسمي بملك الأملاك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل: الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك ]. النهي مفهوم من قوله: (أغيظ اسم عند الله)، ومن قوله: (أخنع اسم)؛ لأن الشيء الذي يبغضه الله ويعذب عليه فإنه ينهى عنه، وهذا أبلغ مما لو جاء النهي بلفظ: لا تفعلوا ولا تسموا. ولهذا قال: النهي يقتضي التحريم؛ والسبب في إدخال هذا الباب في هذا الكتاب: أن الذي يفعل ذلك إما أن يكون قد ترك التوحيد رأساً فيكون كافراً؛ لأنه نازع الله جل وعلا، أو يكون فعل ذلك عن جهل وعدم إرادة لمنازعة الله جل وعلا، فيكون بذلك نقص في توحيده، فيجب أن يبتعد عن ذلك.
ما كان في معنى ملك الأملاك يأخذ حكمه
قال المصنف رحمه الله: [الثانية: إن ما في معناه مثله كما قال سفيان ]. يعني: أن مثل قاضي القضاة: حاكم الحكام ونحو ذلك، وقوله: (كما قال سفيان ) سفيان قال نفس هذا، فهو قال: مثل: (شاهان شاه) ولكن هذا في لغة أخرى، يعني: أنه إذا سمي اسماً بأي لغة من اللغات يدل على هذا المعنى فهو داخل في ذلك، وشاهان شاه: هو ملك الأملاك في لغة الفرس.
التغليظ في النهي عن التسمي بملك الأملاك ونحوه(5/212)
قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه ]. غلظ في هذا لأن فيه منازعة لله جل وعلا في حقه؛ لأن هذا من حقوق الله جل وعلا التي يجب أن تكون خالصة له، والمخلوق حقه أن يكون عبداً خاضعاً ذليلاً، ولا يجوز أن يتعدى طوره. قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه ]. وهذا كما سبق.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [111]
لله عز وجل أسماء وصفات يختص بها؛ فلا يجوز منازعة الله عز وجل فيها بالتسمي أو الاتصاف بها، ومن ذلك: قاضي القضاة وملك الملوك ونحوها، فمن تسمى أو اتصف بذلك فقد نازع الله تعالى فيما هو من خصائصه، وهذا فيه منافاة للتوحيد، ورفع للنفس فوق قدرها.
حكم التسمي بقاضي القضاة ونحوه(5/213)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله) قال سفيان مثل: شاهان شاه. وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه) قوله: (أخنع) يعني: أوضع ]. قوله: (باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه) يعني: ما حكم هذا؟ هل يكون هذا منافياً للتوحيد أو منقصاً لكماله؟! لأن كل شرك لا يخلو إما أن يكون منافياً للتوحيد أصلاً، أو يكون شركاً أصغر؛ فيكون ذاهباً بكماله، أو يكون معصية من المعاصي والذنوب والكبائر، وهذا أيضاً يكون منقصاً للإخلاص والكمال، ولتحقيق التوحيد، ويكون ذاهباً بتحقيقه، فيكون معرضاً بالإنسان لعذاب الله جل وعلا من جراء ذلك. والتسمي بهذا الاسم لا يخلو من شيء من ذلك، فيكون صاحبه واقعاً إما في منازعة الله جل وعلا فيما هو مستحق له، ومن خصائصه، وهذا من أعظم الشرك، أو يكون رفع نفسه فوق ما وضعه الله عليه، وتكبر على عباد الله، فاستحق بذلك أيضاً العقاب، أو يكون مثلاً رغب أن يكون له سيطرة، ويكون له ما ليس لغيره من الرفعة والعظمة والتكبر على الناس، ولو لم يحصل له ذلك، فإذا كان هذا في قلبه فهو واقع في الإثم. والقاضي هو الذي يفصل بالحكم سواءً كان الحكم حقاً أو باطلاً، فكل فاصل بحكم يكون قاضياً، أما الاتصاف بقاضي القضاة، فهذا لا يصدق إلا على رب العالمين؛ لأنه هو الذي يقضي بين خلقه، ويقضي بين القضاة، والقضاة: كل حاكم حكم بين اثنين فهو قاضٍ، سواء جعل حاكماً من قبل الإمام، أو أن أصحاب الخصومة اصطلحوا على أن يحكموه بينهم، وكذلك المسئول عن مسائل العلم، فإذا قيل: ما حكم كذا وكذا؟ فأفتى وقال: حكم كذا كذا، فهو قاضٍ بهذه الفتوى، فإن كان متبعاً للحق فإنه يؤجر على ذلك، وإن كان قال ذلك بالهوى أو بالجهل فإنه قائل على الله بما لا علم له به، وسوف يعاقبه الله. إذاً:(5/214)
القضاء يدخل فيه الفصل بين المتخاصمين والمتنازعين، ويدخل فيه الإخبار عن حكم من أحكام الشرع إذا سئل عنه، وهذا أعم وأشمل. وإذا أطلق الإنسان على نفسه أنه قاضي القضاة فمعنى ذلك: أنه قاضي العالمين وقاضي الخلق كلهم، وكل من هو قاضٍ وكل من هو مفتٍ فهو القاضي عليهم، وهذا لا يصدق إلا على الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي يفصل بين خلقه، وهو الذي يقضي بينهم يوم القيامة، ولا أحد يستحق هذا الاسم إلا الله، وهذا ليس في هذا الاسم فقط، بل كل ما أعطى هذا المعنى فإنه داخل فيه، وهذا مثل الذي يطلق عليه أنه سيد الخلق أو سيد الناس، أو أنه الحاكم على الخلق، أو أنه ملك الملوك، وسواء قيل ذلك باللغة العربية أو بغيرها، ولهذا قال سفيان راوي الحديث: مثل شاهان شاه يعني: أن شاهان شاه باللغة الفارسية هو: ملك الملوك، فكل من أطلق عليه شيء من ذلك فإنه مستحق بأن يكون أخنع وأغيظ اسم عند الله جل وعلا وأحقر وأذل، ويعاقبه الله جل وعلا إما في الدنيا عاجلاً، وإما أن يمهله في الدنيا ثم يعاقبه في الآخرة. ......
حكم التسمي بسيد الناس
وأما سيد الناس أو سيد الخلق فهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو سيد بني آدم صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة العربية: الذي ساد وتقدم غيره، وصار له من المعاني ما جعلته يسود ويتقدم بها على غيره، وهذا لا يوجد إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم الألقاب التي تدل على العظمة(5/215)
وكل الألقاب التي يتلقب بها الناس مما تدل على العظمة فإنها مكروهة ومبغضة، ولم تكن عادة العرب تعظيم بعضهم لبعض بالألقاب وبالأسماء التي تدل على ترفع بعضهم على بعض، وإنما جاءت هذه من العجم؛ لأنهم هم الذين يستعبد بعضهم بعضاً، ويكون بعضهم عبداً لبعض، أما المسلمون فكلهم سواء، وليس بعضهم معبود ولا عابد لبعضهم، وإنما كلهم يعبدون الله جل وعلا، ولهذا لما قدم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى رستم قائد الفرس، وكان على كرسي مرتفع وبجواره مجالس لا يجلس عليها أحد، والناس وقوف عنده، ذهب قاصداً وجلس بجواره على الكرسي، فأنكر ذلك واستعظمه، فسحبوه، فقال لهم: (كنا نتحدث أن عندكم عقولاً، والآن تبين لي أنكم لا عقول عندكم، ولو كنتم أخبرتموني أولاً أن بعضكم عبيد لبعض لكان أحسن من صنعكم هذا). والمقصود: أن الأسماء التي فيها تعظيم للمخلوق وترفع على غيره كلها مكروهة.
حكم إطلاق أسماء الله الخاصة به على غيره
أما إذا كانت الأسماء لا يصح إطلاقها ولا يصح معناها إلا لله جل وعلا، فإطلاقها على غيره من العظائم، وهو منافٍ لتوحيد الله جل وعلا، وفيه منازعة لله جل وعلا، فإن ملك الملوك هو الله جل وعلا، وهو الذي يرجع إليه الأمر كله، وهو الذي بيده الملك، كما قال جل وعلا: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]. فكل ملك أو رئيس فملكه عارية، وسوف يُنتزع الملك منه، وسوف يُنزع من الملك ويُعطى لغيره، وإنما ملك في مدة محدودة أعطاه الله جل وعلا إياها، فملك الملوك هو الله، ولهذا لما تسمى بعض الملوك المساكين بهذا الاسم أخزاهم الله جل وعلا وأذلهم في الدنيا قبل الآخرة.
حكم الترفع على الغير(5/216)
كذلك إذا كان الإنسان يترفع على غيره بفعل دون الأسماء فسوف يُذم ويلقى جزاءه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقوم الناس على الرجل وهو جالس، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار). وكان صلوات الله وسلامه عليه لا يدع أحداً من أصحابه يسير خلفه، وإنما يسيرون عن يمينه وعن شماله، ويقال: إن السير خلف الإنسان فتنة للمتبوع ومذلة للتابع. فعباد الله بعضهم من بعض، لا يجوز أن يترفع بعضهم على بعض.
حكم المدح
كذلك مدح الإنسان فإنه يكون فتنة؛ لأن فيه أنه قد يُعطى من الثناء ما ليس فيه، فربما استأنست نفسه بذلك، ثم يطلب ذلك ويصير آثماً بهذا الطلب الذي يطلبه، والخلق كلهم عباد لله جل وعلا، وأكرمهم أتقاهم، ومن كان لله أتقى فهو عند الله أرفع وأكثر مثوبة.
جزاء الذي لا يعرف قدر نفسه(5/217)
الذي يكون أنفع للخلق هو الذي ينفعهم النفع الحقيقي الذي هو الدلالة على الله جل وعلا، وفاعل ذلك يكون أكثر أجراً، ومع ذلك يجب أن يكون عارفاً بقدره، وقدر الإنسان أنه عبد لا يخرج عن العبودية في حال من الأحوال، فإن ترفع عن كونه عبداً لله فإن الله يضعه ويعاقبه، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) وأخنع: من الخناعة، وهي: الوضاعة، يعني: أوضع، وهذا الوضع قد يكون في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا جاء في الحديث: (إن المتكبرين يوم القيامة يحشرون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم جزاء تكبرهم) هذا في المحشر، وما بعد المحشر فهو أشد منه وأفضع؛ فإنهم من أصحاب جهنم. نسأل الله العافية. وعلى هذا يتبين لنا معنى قوله: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله) ، فالمالك والملك هو الله جل وعلا مالك كل شيء، وهو الملك الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، فمهما أعطي الإنسان في هذه الدنيا من معاني أو أموال أو سلطات فإنها زائلة، وسوف ينتقل منها إلى قبره فريداً وحيداً، فيصبح كالفقراء، بل هو ربما كان أحقر من الفقير بالتبعات التي تكون عليه.
عقوبة من تسمى بقاضي القضاة وملك الملوك ونحوه(5/218)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة قياساً على ما في حديث الباب، لكونه شبهة في المعنى فينهى عنه . قال المصنف رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله). قال سفيان : مثل: (شاهان شاه). وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه). قوله: (أخنع) يعني: أوضع ]. قوله: (أغيظ) يعني: أن من فعل هذا الفعل فإن الله يغاظ عليه أي: يغضب عليه غضباً شديداً، ومن غضب الله عليه عذبه؛ وذلك لأنه نازع الله جل وعلا بهذا التسمي، ونازعه فيما هو من خصائصه، ومن أظلم الظلم منازعة الله جل وعلا في خصيصة من خصائصه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى؛ فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير، وهو الله تعالى، ينزع المَلِكَ من ملكه تارة وينزع المُلْكَ منه تارة، فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه، وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى، وما تكتبه الحفظة عليهم، فيجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما ورد في الحديث : (اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله). قوله : قال سفيان -يعني: ابن عيينة - : مثل شاهان شاه، عند العجم عبارة عن ملك الأملاك، ولهذا مثل به سفيان لأنه عبارة عنه بلغة العجم. قوله: (أغيظ): من الغيظ، وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضاً إلى الله مغضوباً عليه. والله أعلم ]. وهذا يدل على أن الله يوصف بأنه يغيظ على بعض من يشاء، وأنه يوصف بالغيظ على بعض من(5/219)
يشاء من عباده، كما يوصف بأنه يبغض بعض خلقه، كما أنه يحب بعض خلقه، وكذلك يغضب على بعض خلقه، وهذه أوصاف تخص الله جل وعلا ولا يشابه المخلوق في وصفه؛ فصفة المخلوق تليق به، أما صفة الله فهي تخصه، وإن اشتركت صفة المخلوق وصفة الخالق جل وعلا في الاسم أو في المعنى العام قبل الإضافة والتخصيص فهذا لا يقتضي تشبيهاً، ولا يقتضي مساواة، فالله له ما يخصه والمخلوق له ما يخصه.
حكم القيام للأشخاص
قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (وأخبثه) وهو يدل أيضاً على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم؛ لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله. قوله: (أخنع يعني: أوضع)، هذا هو معنى (أخنع)، فيفيد ما ذكرنا في معنى (أغيظ) أنه يكون حقيراً بغيضاً عند الله. وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم، كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير ، فقال معاوية لابن عامر : اجلس؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن ]. معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) يتمثل أي: أنهم يقومون له وهو جالس تعظيماً له، إما أن يقوموا على رأسه أو أمامه تعظيماً له. وقوله: (فليتبوأ مقعده من النار) تبوأ أي: اتخذ مكاناً باء به، والمعنى: أنه يكون له مقعد من النار جزاء تعاظمه، وجزاء كونه أحب أن يكون نظراؤه من العباد أشباه العبيد له، فكانوا يعظمونه ويخضعون له. والقيام عبادة، ولهذا يقول(5/220)
الله جل وعلا: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأمر بالقيام له، والقيام في الصلاة قنوت فهو عبادة، وكل عبادة لا يجوز أن يكون جنسها لمخلوق، فالقيام من جنس الركوع، ومن جنس السجود، ومن جنس الطواف، ومن جنس كشف الرأس في الإحرام تعبداً لله جل وعلا، فكل ما هو عبادة لا يجوز أن يكون لمخلوق من المخلوقين، فإن أحب المخلوق أن يكون له شيء من ذلك فهو طاغوت من الطواغيت الذين يدعون إلى عبادة أنفسهم، بل يكون أسوأ الطواغيت؛ لأن الطواغيت كثيرون جداً، ولكن رؤساءهم أنواع، ومنهم الذين يحبون أن يُعبدوا أو يدعون إلى عبادة أنفسهم. ومن ذلك الانحناء، فكون الإنسان إذا لقي آخر ينحني له ويطأطئ رأسه فإن هذا نوع من السجود ونوع من الركوع، والركوع سجود، فلا يجوز أن يكون هذا لمخلوق؛ لأن هذا من خصائص الخالق جل وعلا، فمن رضي بذلك فهو من هذا النوع يتبوأ مقعده من النار. فالمقصود: أن القيام على الإنسان الجالس تعظيماً له نوع من العبادة، ولهذا توعد فاعله بأنه يكون قد تبوأ مكاناً في النار، يجلس فيه ويتخذه مباءة، أي: مسكناً ومحلاً ومقاماً له، وهذا من أعظم الوعيد؛ لأنه نازع الله جل وعلا في حقه، والأول: نازعه في اسم من أسمائه، فتسمى: ملك الملوك، أو قاضي القضاة، أو حاكم الحكام، أو ما أشبه ذلك، وكل من نازع الله جل وعلا فيما يستحقه فهو ينصب نفسه معبوداً من دون الله جل وعلا، وجزاؤه أن يكون متبوئاً مقعده في جهنم. ......
صفات الله تعالى تمر كما جاءت بلا تأويل(5/221)
قال الشارح رحمه الله: [ وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصا فقمنا إليه فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً) رواه أبو داود . وقوله: (أغيظ رجل) هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك، وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة، وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده، كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم. والله المستعان]. قوله: (تمر كما جاءت) معناه: أن النص لا يفسر التفسير الذي يخرجه عن ظاهر لفظه، بل تفسيره ما يفهم من لفظه؛ لأن الغيظ والبغض والمحبة معروفة، وكل من سمع هذا عرف المعنى، ولكن يجب أن يعلم أن تغيظ الله وبغض الله وغضبه ليس كتغيظ المخلوق وبغضه وغضبه؛ لأن الله جل وعلا في ذاته لا يشبهه شيء، وكذلك أوصافه؛ والوصف يكون تابعاً للموصوف، والأسماء كذلك، وإن شارك المخلوق الرب جل وعلا في شيء من الأسماء في اللفظ أو في المعنى، مثل: ملك، فالإنسان يُسمى ملكاً، والله جل وعلا مالك يوم الدين وملك يوم الدين، كما جاء ذلك في القراءات، وكما يسمى المخلوق: رءوفاً، والله جل وعلا رءوف رحيم، وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم رءوفاً رحيماً فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فالرأفة والرحمة تليق بالمخلوق إذا أضيفت إليه، وإذا أضيفت إلى الله جل وعلا فهي خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، وكذلك سائر الأسماء على هذا(5/222)
الباب، فهذا معنى قوله: (تمر كما جاءت) يعني: على ظاهر ما يفهم من اللفظ، فلا يجوز أن تؤول التأويل الذي يخرجها عن معانيها، كما يفعله أهل التفرق والاختلاف وأهل البدع، بل هذا مسلك الصحابة ومن سار معهم؛ لأنهم يقدرون الله حق قدره، ويعلمون أن الله جل وعلا لا يشاركه مخلوق في خصائصه التي تخصه من الأسماء والصفات، كما أنه لا يشاركه أحد من الخلق في ذاته تعالى وتقدس. ......
مسائل باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
......
النهي عن التسمي بملك الأملاك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل: الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك ]. النهي مفهوم من قوله: (أغيظ اسم عند الله)، ومن قوله: (أخنع اسم)؛ لأن الشيء الذي يبغضه الله ويعذب عليه فإنه ينهى عنه، وهذا أبلغ مما لو جاء النهي بلفظ: لا تفعلوا ولا تسموا. ولهذا قال: النهي يقتضي التحريم؛ والسبب في إدخال هذا الباب في هذا الكتاب: أن الذي يفعل ذلك إما أن يكون قد ترك التوحيد رأساً فيكون كافراً؛ لأنه نازع الله جل وعلا، أو يكون فعل ذلك عن جهل وعدم إرادة لمنازعة الله جل وعلا، فيكون بذلك نقص في توحيده، فيجب أن يبتعد عن ذلك.
ما كان في معنى ملك الأملاك يأخذ حكمه
قال المصنف رحمه الله: [الثانية: إن ما في معناه مثله كما قال سفيان ]. يعني: أن مثل قاضي القضاة: حاكم الحكام ونحو ذلك، وقوله: (كما قال سفيان ) سفيان قال نفس هذا، فهو قال: مثل: (شاهان شاه) ولكن هذا في لغة أخرى، يعني: أنه إذا سمي اسماً بأي لغة من اللغات يدل على هذا المعنى فهو داخل في ذلك، وشاهان شاه: هو ملك الأملاك في لغة الفرس.
التغليظ في النهي عن التسمي بملك الأملاك ونحوه(5/223)
قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه ]. غلظ في هذا لأن فيه منازعة لله جل وعلا في حقه؛ لأن هذا من حقوق الله جل وعلا التي يجب أن تكون خالصة له، والمخلوق حقه أن يكون عبداً خاضعاً ذليلاً، ولا يجوز أن يتعدى طوره. قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه ]. وهذا كما سبق.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [112]
تعظيم أسماء الله تعالى وصفاته من تعظيم الله تعالى، ويكون ذلك باحترامها، وعدم امتهانها، وعدم مشاركة الله تعالى فيها بالتسمي بها، فمن تسمى بشيء من أسماء الله تعالى أو اتصف بصفة من صفاته وجب عليه تغيير ذلك؛ لأن فيه نقصاً في توحيد العبد، وعدم تعظيم لله تعالى.
باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك(5/224)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك. عن أبي شريح : أنه كان يكنى أبا الحكم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم. فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قال: شريح و مسلم و عبد الله ، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح ، قال: فأنت أبو شريح)رواه أبو داود وغيره ]. قوله: (باب: احترام أسماء الله، وتغيير الاسم لأجل ذلك). الفرق بين هذا الباب والذي قبله: أن الذي قبله من باب المنازعة ومن باب مشاركة الرب جل وعلا فيما هو خاص به، وهذا أمره عظيم جداً. أما هذا فليس من باب المنازعة؛ لأنه قد يكون غير مقصود، وقد يكون لأمر يفعله الفاعل فيسمى باسم مأخوذ من الفعل كما في هذا الحديث، وقد يكون أيضاً عن قصد حسن، ولكنه ما فهم معنى هذا التكني أو هذا التسمي، فيكون غير آثم حتى يطلع على الحكم، فإذا اطلع على ذلك وجب عليه أن يغير الاسم، تعظيماً لله جل وعلا واحتراماً لأسمائه، فيكون هذا الباب في الخطورة أقل من الباب الذي قبله، ومع ذلك فهذا من كمال التوحيد، أي: تغيير الاسم احتراماً لأسماء الله جل وعلا وتعظيماً له يكون من كمال التوحيد. ......
الحكم والتحاكم عند الجاهلية(5/225)
وقوله: (عن أبي شريح ) هو أبو شريح الخزاعي ، وأبو شريح صحابي أسلم بعد الفتح، وجاء أن هذه القصة وقعت في زمن الوفود، والوفود كانت في سنة تسع من الهجرة وما بعدها، فلما وفد مع قومه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم قومه يدعونه ويكنونه بهذه الكنية فدعاه وسأله. وقوله: (إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين) معناه: أنه كان يقوم بالإصلاح بينهم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن هذا!) يعني: الصلح بين الفريقين، فكانوا يرضون بحكمه، وهذا كان قبل أن يسلم، ومع ذلك حسنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس تحسين الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك تحسيناً لأحكام الجاهلية، وأهل الجاهلية كان لهم حكام وكانوا لا يقتنعون إلا بالشيء الذي يمكن أن يكون له وجه، فالحاكم الذي ينصب نفسه حكماً للناس عليه أن يعلم أن الناس عقلاء، فيجب أن يأتي بحكم يُقنع الفريقين، أما إذا كان على سبيل الإلزام وبالقوة، واتباع الأسلاف والآباء، وأن هذا حكم يجب أن يُخضع له، فهذا من أمور الجاهلية، ومن أحكام الطواغيت إذا كان بغير حكم الله جل وعلا، ولكن المقصود أن يرضى الفريقان -عن اقتناع بحق- بالحق بالعدل، والعدل كل يرضى به، فالذي حسنه الرسول صلى الله عليه وسلم هو العدل الذي يرضى به الفريقان، وليس حكم الجاهلية؛ حتى لا يلزم أن يقال: إن هذا كان قبل إسلامه عند أن كان يحكم بأمور الجاهلية، فيلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حسن ذلك، وهذا غير لازم؛ لأن تحسين الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو للحكم بالعدل الذي يرضى به الفريقان. ومعلوم أن العرب وغيرهم كان لهم حكام يحكمون بين المتخاصمين والمتنازعين، إما طواغيت، وإما كهان يحكمون لهم بالشيء الذي يكون غائباً، أو يكون الحكم بأمور يتعارفون عليها فيما بينهم وهو ما يسمى بطريقة الآباء، وكل هذا من حكم الجاهلية الذي لا يجوز أن يتحاكم إليه، بل التحاكم إليه تحاكم إلى(5/226)
الطاغوت، ومع هذا كله فإن الحكام الذين يحكمون بينهم لابد أن يحكموا بشيء مقنع؛ لأن الحكم ليس اعتباطاً أو تعسفاً، فإن هذا لا يرضى به أحد، ولهذا ذكروا أن أحد حكامهم الذين كانوا يتحاكمون إليهم جاءه قوم في مسألة وراثية مشكلة؛ لأن العرب كانوا يورثون الذكور ولا يورثون الإناث؛ لأن الذكور -في زعمهم- هم الذين يركبون الخيل ويحمون المال، ويذودون عن الأعراض، أما الأنثى فكانوا لا يعطونها شيئاً من الإرث، وحصل مرة في أهل بيت من العرب أنه توفي رجل منهم وخلف أبناء ومنهم واحد له آلتان: آلة أنثى وآلة ذكر، فأشكل عليهم كيف يصنعون هل يورثونه أم يحرمونه من الإرث؟ فذهبوا إلى أحد حكامهم الذين يحكمون، فلما جاءوا إليه أشكل عليه الأمر، فبقي أربعين يوماً لا يستطيع أن يحكم بينهم، وكل يوم يذبح لهم شاة، وبعد مضي أربعين يوماً بات ليلةً ساهراً ما استطاع أن ينام؛ لأنه وقع في مشكلة لم يعرف كيف يتخلص منها، ففطنت جارية له فقالت: مالك؟ قال: انصرفي عني مالك ولما أنا فيه؟ فلم تزل به حتى أخبرها وقال: الأمر فيه كذا وكذا، فقالت: الأمر سهل، انظر من أي آلة يبول فاحكم عليه بذلك، ففرح وقال: فرجت عني كرباً عظيماً، ولما أصبح الصباح دعاهم وحكم بينهم بهذا فاقتنعوا به. والشاهد في هذا: أنهم ما كانوا يحكمون إلا بشيء يُقتنع به، ومع ذلك كانت أحكامهم أحكاماً جاهلية، ولكن الناس العقلاء لا يقتنعون بالشيء الذي يكون شبه أفعال الصبيان. وهذا أبو شريح لم يكن من هذا القبيل، وإنما كان ممن يفصل بين الناس، فإذا كان هناك نزاع بين فريقين وأصلح بينهم صلحاً رضي الفريقان بصلحه؛ لأنه كان يتحرى العدل والإنصاف، ولا يميل إلى فريق دون آخر، وإنما يعدل بينهم فيرضى الفريقان، وعند ذلك سموه: أبا الحكم ، مبالغةً في أن حكمه يكون حسناً وصحيحاً ومقبولاً.
معنى اسم الله جل وعلا (الحَكَم)(5/227)
والحَكَم من أسماء الله جل وعلا، وقد جاء في أسمائه الحسنى مقروناً بالعدل، فهو الحكم العدل جل وعلا؛ لأن حكمه عدل، تعالى وتقدس، وهو الذي يحكم بين خلقه، كما قال جل وعلا: وَلَهُ الْحُكْمُ [القصص:70]، ويقول جل وعلا في آيات كثيرة: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] ، ويقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، والرد إلى الله جل وعلا هو الرد إلى حكمه، وحكمه يكون في كتابه الذي أنزله، أما الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الرد إليه في حياته، أما بعد وفاته فإلى سنته، وسنته: هي تقريراته وأقواله وأفعاله صلوات الله وسلامه عليه. فالحَكَم هو الله؛ لأنه يحكم بين خلقه في الدنيا بشرعه الذي جعله حاكماً بينهم، والإنسان إذا لم يحكم الشرع فإنه غير مؤمن، ولا يكون مؤمناً إلا بتحكيم الشرع، كما قال جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. فهو الحكم مطلقاً، في الدنيا يحكم بين خلقه بالشرع الذي شرعه لهم، ويجب أن يتحاكموا إليه وألا يتحاكموا إلى غيره.
حكم الله تعالى بين خلقه في الآخرة(5/228)
وأما في الآخرة فهو الذي يتولى الحكم بين خلقه بنفسه، فلا يحكم بينهم ملك ولا رسول، بل كل واحد منهم سوف يحكم الله جل وعلا فيه، وهو علام الغيوب لا يخفى عليه شيء من أفعال هذا المخلوق، قد أحصاها عليه، فيقرره بأفعاله كلها، ويأتي خصمه فيحكم بينه وبينه، والحكم في ذلك الموقف إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من حسنات الظالم حتى يكتفي، فإن لم يكن للظالم حسنات أُخذ من سيئات المظلوم فطُرحت على الظالم، ثم طُرح في النار. فكل واحد يحكم الله جل وعلا فيه، سواء فيما بينه وبين ربه: هل التزم أوامره واجتنب نواهيه؟ أو فيما وبين الخلق في المظالم والحقوق، فالحكم يكون عاماً في كل ما يفعله المخلوق في الدنيا من علاقاته مع ربه أو علاقاته مع الخلق، ولهذا ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وهذا الحكم يكون بعد الوقوف الطويل، فالخلق يخرجون من قبورهم، ويحشرون في مكان واحد جميعاً، فيقفون وقوفاً طويلاً، وهذا الوقوف وقوف ثقيل وعظيم كما قال تعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27]، ويقول جل وعلا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6]. فيقومون على أرجلهم ألف سنة وهم في مكان واحد، والشمس فوق رءوسهم واقفة لا تسير، فإذا اشتد بهم الكرب ويتمنى كثير منهم أن يُذهب به ولو إلى النار؛ لشدة هذا الموقف، فإذا أراد جل وعلا أن يحكم بينهم،(5/229)
يلهمهم أن يطلبوا الشفاعة من الرسل، والرسل وقوف معهم، فيبدءون بآدم عليه السلام وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحد من آدم إلى عيسى يعتذر ويقول: لا أستطيع أن أشفع في هذا اليوم العظيم؛ وربنا غضب اليوم على خلقه غضباً شديداً، وكل واحد يقول: لا أسأل ربي إلا نفسي، فيشفع محمد صلى الله عليه وسلم في أن يأتي الرب جل وعلا للفصل بين خلقه والحكم بينهم، وهذه شفاعة يشترك فيها المؤمنون والكفار والأبرار والفجار، ثم يأتي الرب جل وعلا وهو على عرشه فيحكم في كل واحد، وأما الناس الكفرة الذين ليس لهم حسنات تزون، فهؤلاء يؤمر بهم إلى النار بدون محاسبة، كما قال الله جل وعلا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] أي: لا يحاسبون. والناس هناك ينقسمون إلى أقسام: قسم هذا الذي سبق وذكرناه، وقسم آخر ليس لهم سيئات، وهؤلاء لا يحاسبون، وقسم لهم سيئات وحسنات، وعندهم مظالم، فهؤلاء لابد أن يحاسبوا، مع أن الكفار الذين ليس لهم حسنات لا يمكن أن يذهبوا إلى النار حتى يقتص ممن عنده ظلم لغيره، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن البهائم يقتص لبعضها من بعض في ذلك اليوم، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ليقتصن من الشاة القرناء للشاة الجلحاء) الجلحاء: التي ليس لها قرون، إذا نطحتها التي لها قرون فإنها تؤذيها أكثر، فيقتص منها يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، وعند ذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] أي: مثل البهائم، ولكن هيهات! فإن الإنسان خلق للعذاب أو للنعيم. فالمقصود: أن حكم الله عام في الدنيا والآخرة، ولكن في الدنيا قد ينازع ابن آدم الربَّ جل وعلا، ينازعه ويزعم أن له شيئاً من الحكم؛ لأن ابن آدم خلق ظلوماً جهولاً، فإذا اجتمع الظلم والجهل فإنه يجتمع الشر كله، فلهذا لا يجوز أن يتكنى الإنسان باسم من أسماء الله كأبي الحكم؛ لأن هذا(5/230)
فيه امتهان لاسم الله جل وعلا، ولهذا غيَّره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قوله: (ما أحسن هذا!) يعني: ما أحسن العدل والإنصاف الذي يرضى به الفريقان.
الكنية وبيان أن الأفضل أن تكون بالابن الأكبر
قوله: (فما لك من الولد؟ قلت: شريح و مسلم و عبد الله ، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح ، فقال: أنت أبو شريح)، وهذا تغيير للتكني، والعرب يكنون للتعظيم، والكنية: هي ما صدرت بأب أو أم، فيقال: أبو فلان أو أم فلان، بخلاف اللقب، فإن اللقب قد يكون -وهو الغالب- للتحقير والازدراء، وقد يكون لغير ذلك، فالكنية: ما بدأت بأب أو أم كأبي فلان أو أم فلان، وقد يكنى الإنسان بابنه، وقد يكنى بما يلازمه كأبي هريرة مثلاً، ومثل ذلك إذا كان عنده صنعة فيكنى بها لملازمته لها، وقد يكنى بشيء يكون موصوفاً به كأبي المعالي وأبي الفضائل وما أشبه ذلك، يوصف بذلك تعظيماً له، وغرض الناس من التكني بالكنية التعظيم، بخلاف اللقب، فإن اللقب قد يشعر مدحاً كزين العابدين مثلاً، وقد يشعر ذماً كأنف الناقة مثلاً، وهذا الغالب عليه، ولهذا يقول أحد الشعراء: أكنيه حين أناديه لأعظمه ولا ألقبه فالسوءة اللقب لأن اللقب قد يدل على التحقير. وهذا الذي كني بأبي الحكم هو من باب التعظيم، ولكن هذا التعظيم خطأ وامتهان لاسم الله جل وعلا؛ فلهذا غيره الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بدله بشيء يليق به. وعندما سأله عن أبنائه أخبر أن له ثلاثة وعطفهم بالواو، فقال: شريح و مسلم و عبد الله . فقال: (فمن أكبرهم؟) وهذا يدلنا على أن الواو لا تدل على الترتيب، وإنما تدل على الجمع؛ لأنها لو كانت تدل على الترتيب لما قال: أيهم الأكبر؟ فعرف أن شريحاً هو أكبرهم، فقال: شريح، فقال: (أنت أبو شريح)، وهذا يدل على أن الكبير له ميزة على الصغير، فيجب أن يميز عن الصغير ويقدر له قدر وميزة لكبر سنه، والرجل يكنى بولده الكبير، فإن لم يكن له ولد فيكنى بابنته الكبيرة، وليس التكني بالبنت عيب(5/231)
كما يقوله بعض الجهال؛ لأنها بنته، وكذلك الأم تكنى بابنها الكبير، فإن لم يكن لها أبناء كنيت بابنتها الكبيرة. ......
تغيير الاسم أو الكنية إذا كان فيها امتهان لأسماء الله
هذه الكنى والأسماء كل ما كان منها فيه شيء من امتهان أسماء الله جل وعلا وعدم احترامها فيجب أن تغير، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء لأغراض متعددة هذا أحدها، وهذا هو أعظمها الذي يجب أن يعتنى به، فكثير من الأسماء لا يجوز أن تُقر؛ لأن فيها امتهاناً لأسماء الله، وقد يكون فيها كذب، مثل: خليل الرحمان وخليل الله؛ لأن الخلة خاصة بإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فلا يجوز أن يسمى أحد بذلك، كذلك إذا سمي مثلاً: الرحمان أو ما أشبه ذلك من الأسماء الخاصة بالله فلا يجوز، بل يجب أن يغير ما وجد من هذه الأسماء، كما غير الرسول صلى الله عليه وسلم اسم أبي شريح احتراماً لأسماء الله جل وعلا. وكذلك تُغير الأسماء المبغضة المكروهة كحرب ومرة، وما أشبه ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغيرها. وكذلك الأسماء التي تدل على تزكية النفس فإنها تغير؛ لأن الله جل وعلا يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32]، فتغير امتثالاً لأمر الله جل وعلا. فهذه الأغراض التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء من أجلها أعظمها هو احترام أسماء الله جل وعلا؛ لأن هذا من باب التوحيد، فالواجب أن يغير هذا الشيء احتراماً لأسماء الله؛ لأن ذلك من تحقيق التوحيد.
ترجمة أبي شريح الخزاعي(5/232)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (عن أبي شريح ) قال في خلاصة التذهيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه : خويلد بن عمرو ، أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثاً، اتفقا على حديثنين وانفرد البخاري بحديث ]. أي: له عشرون حديثاً، وهي مروية في كتب الأحاديث في السنن والمسانيد، وأما الصحيحان فليس له فيهما إلا ثلاثة أحاديث. قال الشارح رحمه الله: [ وروى عنه أبو سعيد المقبري ، ونافع بن جبير ، وطائفة، قال ابن سعد : مات بالمدينة سنة ثمانٍ وستين. وقال الشارح: اسمه هانئ بن يزيد الكندي ، قاله الحافظ ، وقيل: الحارث الضبابي ، قاله: المزي . قوله: (يكنى) الكنية: ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك، واللقب ما ليس كذلك، كزين العابدين ونحوه. ......
لله جل وعلا في كل قضية حكم واحد فقط(5/233)
[ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم)، فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا ولله فيها حكم ]. أي: ما من قضية تقع بين الناس أو حادثة تحدث أو أمر يحدث إلا ولله فيه حكم، وهو موجود في كتاب الله؛ لأنه لم يفرط فيه بشيء، بل كل قضية تحدث صغيرة أو كبيرة فحكمها في كتاب الله، ولكن قد يفهما الناس وقد لا يفهمونها، وقد أدركت الأمة كل الأحكام وكل القضايا، فيجب أن يرجعوا إلى كتاب الله في جميع ما يحدث، وأن يكون هو الحاكم بينهم، ولا يجوز أن يعتاضوا عنه بالقوانين فإن هذا من الكفر. قال الشارح رحمه الله: [ وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة، وقد يسر الله معرفة ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة، فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلابد أن يكون المصيب فيهم واحداً ]. يعني: ليس كل مجتهد يكون مصيباً، وإنما المصيب واحد فقط، والحق لا يتعدد، فلا يمكن أن يكون هذا أصاب الحق والذي قال خلاف قوله أصاب الحق، هذا لا يكون أبداً؛ لأن الحق واحد فقط، ولكن إذا كان المخالف مجتهداً وأهلاً للاجتهاد، فيكون مأجوراً على اجتهاده وخطؤه مغفور، أما إذا كان يتخبط بجهل فإنه وإن أصاب فهو آثم، ولهذا قسم الرسول صلى الله عليه وسلم القضاة إلى ثلاثة، فجعل اثنين منهم في النار وواحداً في الجنة، فأما الذي يحكم بين الناس بالجهل فهو في النار، وأما الذي يعرف الحق ويحكم بخلافه فهو في النار، وأما الذي يعرف الحق ويحكم به فهذا هو الذي يكون في الجنة. والمقصود: أن كل قضية حكم الله فيها واحد، وهو موجود في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ما فرط، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بشرع كامل شامل إلى يوم القيامة، صالح لكل زمان، فيجب على عموم الخلق أن يرجعوا إليه، فإن لم(5/234)
يفعلوا فإنهم متوعدون بصليهم في النار؛ لأن من لم يحكم بما أنزل الله جل وعلا فليس بمؤمن. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم، وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء، يسر له ذلك بفضله ومنِّه عليه وإحسانه إليه، فما أجلها من عطية، فنسأل الله من فضله ]. ليس معنى ذلك أن الحكم يكون بأقوال العلماء أو بآرائهم، وإنما العلماء يستنتجون الأحكام من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالفهم، والفهم يتفاوت بينهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن منهم طائفة تشبه الأرض الطيبة التي تمسك الماء وتنبت الكلأ الكثير الذي ينتفع به الناس، فهؤلاء أمثال الفقهاء الذين يفهمون النصوص ويستخرجون منها الأحكام الكثيرة، وطائفة أخرى مثلهم مثل القيعان التي تمسك الماء، ولا تنبت الكلأ، ولكنها تمسك الماء فيرد الناس عليها ويرتوون من هذا الماء، فهؤلاء أمثال الحفاظ الذي يحفظون ولكن ليس عندهم فقه مثل الفقهاء، وهؤلاء هم أهل الخير وأهل الفضل، وهم الذين ورثوا الكتاب وقبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الطائفة الثالثة فجعلهم مثل الأرض السبخة أو الأرض الرملية التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، وإنما يأتيها الماء فتبلعه ولا يكون له أي أثر، فهؤلاء أمثال الذين لم ينتفعوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم والإيمان. والمقصود: أن الأحكام ليست في آراء العلماء وأقوالهم، وإنما هي في استنتاجاتهم وما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والفهم يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فقد يفهم أحد العلماء من نص واحد ألف حكم أو ما يقارب ذلك، كما يظهر ذلك لمن تتبع كتب العلماء واستنتاجاتهم وأقوالهم، ومنهم من يفهم من نص واحد حكماً أو حكمين أو ثلاثة أو نحو ذلك.......
الله هو الحكم في الدنيا والآخرة(5/235)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (وإليه الحكم في الدنيا والآخرة) كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، وقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]. فالحكم إلى الله هو الحكم إلى كتابه ..]. يعني: الحكم إلى الله في الدنيا إلى كتابه. [ والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسول الله) ]. هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده: عن أصحاب معاذ عن معاذ ، وأصحاب معاذ مجهولون، لم يسم منهم أحد، ومعلوم أن الجهالة من أسباب رد الحديث وضعفه، فلابد أن يعرف الراوي، ولكن بعض العلماء يقول: إن شهرته وقبول الفقهاء له وتلقيهم له يغني عن سنده، كما يقول ذلك ابن عبد البر وغيره، فالقول به وتصحيحه ليس من ناحية السند وإنما هو من جهة قبوله؛ لأن الأمة إذا أجمعت على شيء لابد أن يكون حقاً، وهذا قد اشتهر عند العلماء، فيقول: إن هذا يغني عن السند -وإن كان سنده ضعيفاً- فيكون صحيحاً. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة، ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكماً في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام، ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله، فيظن أن الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة، وهيهات! وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا(5/236)
الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد، فيحكم بين خلقه بعلمه، وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]. والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فطرح على سيئات الظالم، لا يزيد على هذا مثقال ذرة ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة. قوله : (فإن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال: (ما أحسن هذا!) فالمعنى -والله أعلم-: أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين، صار عندهم مرضياً، وهذا هو الصلح؛ لأن مداره على الرضا لا على الإلزام، ولا على أحكام الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي تخالف حكم الكتاب والسنة، كما قد يقع اليوم كثيراً، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله، وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم. وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده، فيعتمد على قول من قلده، ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة. والله المستعان. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما لك من الولد؟ قال: شريح و مسلم و عبد الله ، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح ، قال: فأنت أبو شريح) فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالباً، وجاء هذا المعنى في غير ما حديث. والله أعلم ]. ......
مسائل باب احترام أسماء الله تعالى
......
كل معنى يوهم امتهاناً لأسماء الله يجب الابتعاد عنه(5/237)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل: الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه ]. يعني: أن الاسم إذا أوهم امتهاناً لاسم من أسماء الله يجب أن يغير ولو كان المسمي لا يعرف المعنى، وإن كان قصد مقصداً حسناً في نفسه فإن هذا لا يعطيه تبريراً بأنه جائز، ولو قصد المعنى لكان محاداً لله جل وعلا، ولكن الغالب أنه لا يقصد المعنى، ومع ذلك يجب أن يغير الاسم ويحترم أسماء الله جل وعلا، كما بين في الحديث، فإنه لما تكنى بأبي الحكم لم يقصد أن يمتهن اسم الله لا هو ولا الذي سماه، وإنما سمي من الفعل الذي كان يفعله. قال المصنف رحمه الله: [ الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك. الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية ]. وهذا كله تقدم الكلام عليه.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [113]
اجتمع بعض ضعاف الإيمان وجعلوا يسخرون ويستهزئون بقراء الصحابة، وجعلوا يرمونهم بما هم منه براء، فأنزل الله تعالى آيات تبين أن الاستهزاء بالله أو بآياته أو برسوله كفر، وأنهم بذلك الاستهزاء قد كفروا بعد إيمانهم، وإن قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، وهكذا حكم من استهزأ بالله أو بآياته أو برسوله.. وما أكثر المستهزئين اليوم لا كثرهم الله.
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول(5/238)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول. وقول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]. عن ابن عمر و محمد بن كعب و زيد بن أسلم و قتادة -دخل حديث بعضهم في بعض-: أنه قال رجل في غزوة تبوك: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء). يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك : كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق، قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]) ما يلتفت إليه وما يزيده عليه ]. ......
حكم الاستهزاء بالله أو برسوله أو بكتابه(5/239)
قوله: (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول) يعني: أنه يكون مرتداً إذا كان مسلماً، إما إذا كان غير مسلم فالكافر كافر، ولكن إذا كان المسلمون لهم عليه ولاية فلا يجوز أن يتركوه يستهزئ بشيء من ذلك. والاستهزاء معناه: أن يسخر به، وليس لازماً أن يكون مجداً في سخريته، بل ولو كان على وجه المزاح المزح وما يضحك به القوم فإنه يكون بذلك كافراً كما دلت الآيات على ذلك. والاستهزاء بالله: أن يكون بشيء من صفاته أو من أسمائه أو من أفعاله. وأما الاستهزاء بالقرآن والسخرية به فكأن يسخر من آية منه، أو من معنىً من معانيه، أو من حكم من أحكامه. وأما الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم فكأن يستهزي بشيء من صفاته الخلقية أو الخلقية، أو بشيء مما يأمر به ويفعله أو ينهى عنه، كل هذا يدخل في الاستهزاء.
سبب نزول قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب...)(5/240)
كذلك لو استهزأ بمن يمتثل الشرع ويعمل به من أجل ذلك، فإنه يكون مرتداً كافراً خارجاً من الدين الإسلامي، والدليل على هذا قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66]. وذكر المؤلف أن سبب نزول هذا الآية: أن قوماً قالوا هذه المقالة في غزوة تبوك، وقد كانت في السنة التاسعة، وعوف بن مالك يسمعهم، قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء، والقرآء: هم حفظة القرآن الذين يعرفون معانيه ويعملون به، هذا هو الذي يسمى قارئاً في لسان السلف، أما من يحفظه وهو لا يعرف معانيه فهذا ليس بقارئ، ولم يطلق عليه ذلك إلا لما جُهلت اللغة، وضاعت لغة العرب في لغة العجم واختلطت، وصار الناس لا يعرفون معاني القرآن لهذا السبب. قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء -يعنون: الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم- أكذب ألسناً وأرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء، والواقع خلاف هذا كله، وإنما قاله من قاله ليضحك به القوم على سبيل المزاح، وهذا هو السخرية؛ لأن المزح واللعب لا يكون محله دين الله ولا شرعه ولا رسله ولا كتبه، وقوله في هذا: (من استهزأ بشيء فيه القرآن أو الرسول) لا يقصد به القرآن خاصةً ولا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم فقط، بل جميع الرسل وجميع الكتب التي أنزلها الله جل وعلا والشرع الذي أنزله على عباده داخل في ذلك. أما ذكر الله فيدخل فيه ما ذكر من أسمائه وصفاته وآياته الكونية والشرعية، وكذلك حكمه الكوني القدري الذي يتضمن الخلق، كأن يستهزئ بكون الله جل وعلا خلق الذباب مثلاً، أو بأنه خلق الحيات، أو خلق العقارب المؤذيات، أو ما أشبه ذلك مما قد لا تظهر حكمته لكثير من الناس، أو استهزأ(5/241)
وسخر بأن بعض الناس عقولهم قاصرة ثم يتحصلون على أموال طائلة في الدنيا، وأن غيرهم قد يكونون أعلم منهم ولا يحصل لهم شيء من ذلك، كما يحدث لبعض الزنادقة من الشعراء وغيرهم، فإن هذا من السخرية التي تجعل الإنسان كافراً. نسأل الله العافية. وأما الآيات الشرعية فكأن يسخر من سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، كالذي يسخر -مثلاً- من تربية اللحية وهو يعرف أنها سنة، أو يسخر من السواك وهو يعرف أنه سنة، أو يسخر من أي سنة من السنن التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبتت في كتاب الله جل وعلا. وأما السخرية بمن يحمل الدين ويعمل به فإن قصد بسخريته السخرية به في ذاته وليس لتدينه، فهذا له حكم غيره من الاستهزاء بالناس، وهذا من الأمور المحرمة ولا يكون بذلك كافراً. وكذلك الآيات التي أنزلها ربنا جل وعلا على رسله، كأن يقول مثلاً: وهذه أحكام لا تناسب الوقت الحاضر، لا تناسب التمدن ولا تناسب تقدم الإنسان وحضارته، فإن هذا كفر بالله جل وعلا، وإن كان مسلماً فهو يرتد بذلك، وإن كان كافراً من الأصل فيجب أن يمنع إذا كان عند المسلمين مقدرة على منعه، أو أن يسخر بأن المرأة لا تأخذ من الإرث إلا نصف ما يأخذ الرجل، وهذه أمثلة وإلا فالأمر في هذا واسع. وأما اللعب فكأن يذكر الأمور على سبيل المزح الغير مقصود، وإنما يقول مزحاً أو يقول كلاماً لا يعرف معناه أو لا يقصد معناه؛ لأن آيات الله ورسول الله وكذلك أسماء الله وصفاته ليست محلاً للعب، بل يجب أن تعظم غاية التعظيم وتحترم وتقدر، ولهذا أمر الله جل وعلا بتقديره وبتعظيمه وكذلك تعظيم شرعه وتعظيم رسله، فهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية جاء أن منهم من أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر ويقسم بالله أنه ما أراد حقيقة الكلام ومدلوله، وإنما قال ذلك على سبيل الترويح عن النفس؛ لأن المسافر يتعب فإذا ذكر شيئاً فيه ترويح عن النفس يجد نشاطاً، فهو يقول: أردنا هذا فقط، ومع ذلك لم(5/242)
يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يقبل عذره، وصار لا يزيد على قول الله جل وعلا: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66]. وقول ابن عمر : (كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قدميه لتنكب الحجارة)، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ارتحل بعد هذه المقالة، وصار أحدهم ممسكاً بناقة رسول الله، والنسعة: هي الحبل الذي يمسك رحل الناقة من الخلف، وقد يدخل من تحت ذنب الناقة لئلا يسقط الرحل إذا نزلت في منخفض، فهو ممسك به للمبالغة في الاعتذار، والرسول صلى الله عليه وسلم مسرع في سيره، وأرجل هذا الرجل تضرب الحجارة، وهو لا يلتفت إليه ولا يزيد على أن يتلو عليه قول الله الذي أمره أن يقوله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فهو لا يزيد على ما قال الله جل وعلا له، ولم يقبل عذره، ولم يقبل أنه ما كان قاصداً، فدل هذا على أن عدم قصد الحقيقة بالكلام والسخرية واللعب يكون كفراً، وقوله جل وعلا في هذا: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] الذي ذكر أنهم قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء! فهم وصفوهم بالقراءة، وبحفظ القرآن، ومن أجل ذلك قالوا لهم هذا القول، وقولهم: (أرغب بطوناً) يعني: أن بطونهم كبيرة واسعة، ومعنى: (أرغب بطوناً) أي: أكبر بطوناً، يأكلون أكلاً كثيراً، وهذا كذب. (وأكذب ألسناً) الكذب يكون في المنافقين، والصحابة قد وصفهم الله جل وعلا بأنهم صادقون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم. وقولهم: (أجبن عند اللقاء) الجبن: هو خلق يدعو من اتصف به إلى الهروب(5/243)
عن لقاء العدو؛ خوفاً من القتل، وهذا أيضاً من الكذب، وكونه قولاً على خلاف الواقع ضحك بعضهم منه، فهذا الذي قال الله جل وعلا: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] لأن هؤلاء تحلوا بما أمرهم الله جل وعلا، واتصفوا به، فحفظوا القرآن وعملوا به، والقرآن يأمر بالصدق، ويأمر بترك الرغبة في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ويأمر بقتال الكفار وأن يكونوا في قتالهم كالبنيان المرصوص لا يتزعزعون، وهم يمتثلون ذلك، فهذا القول صار سخرية؛ لأنه خلاف الواقع وكذب. وقد جاءت الآثار أنهم قالوا أكثر من هذا، وأن منهم من قال: يرجو هذا الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يهزم الروم أو يقتل الروم، وهم يحسبون قتال الروم كقتال العرب! فكأننا بهم غداً مقرنين في الحبال؛ يقولون هذا جبناً، وكذلك يقولونه حتى يرهبوا المسلمين؛ لأن هذه المقالة لا تصدر إلا من منافق لا يريد الحق، ولا يحبه، ولا يريد انتصاره. وجاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلت ناقته فقال قائل منهم: هذا يزعم أنه يخبر عما في السماء وهو لا يدري أين ناقته! وهذه كلها يجوز أن تكون وقعت في وقت واحد، ويجوز أن يكونوا قالوها في أوقات متفرقة ونزلت الآية بها.
تفسير قوله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون...)(5/244)
قوله جل وعلا: (قُلْ أَبِاللَّهِ) هنا الاستفهام للإنكار، أي: أن الله ليس محلاً للسخرية واللعب، (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ) والآيات سواء كانت آيات كونية أو شرعية، فليست محلاً للعب والسخرية والاستهزاء، و(رسوله) كذلك، فإن من فعل ذلك وإن كان جاهلاً فإنه لا يعذر، ويكون بذلك مرتداً وإن كان جاهلاً؛ لأن هذا ليس محلاً للسخرية والاستهزاء واللعب، وربما يتكلم الإنسان كلمة يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهو لا يلقي لها بالاً، ولا يدري ما معناها، كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل لا يتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) وجاء: (إن الرجل ليقول الكلمة ليضحك بها القوم؛ يكتب الله جل وعلا بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه). وجاء ضد ذلك: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الحق لا يلقي لها بالاً يكتب الله جل وعلا له بها رضاه)، فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه، وأن لا ينطق إلا بالشيء الذي يعرف أنه ينفع. وقوله جل وعلا: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] يدل على عدم قبول العذر في هذه الأمور، والمعتذر هو النادم الذي يظهر التوبة والأسف على ما فرط منه، فيبدي عذراً له أنه ما قصد الحقيقة، ومع هذا منع الله جل وعلا قبول عذره. وقوله: قَد كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] يدل على بطلان قول من قال: إن هؤلاء الذين قالوا هذا القول منافقون؛ لأن المنافق لم يزل كافراً، وإنما يظهر الإيمان بلسانه، وقول الذين نصروا هذا القول بأن معنى قوله: (كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان بألسنتكم، وهذا لا يصح؛ لأنهم قالوا هذه المقالة فيما بينهم، ولم يزالوا مظهرين ذلك لخواصهم، وبعضهم لبعض، وإنما يدل على أنهم كان عندهم إيمان، ولكن إيمانهم كان ضعيفاً ليس قوياً بحيث يمنعهم أن يقعوا في مثل ما وقعوا(5/245)
فيه؛ لأن المؤمن الإيمان القوي لا يدخل في مثل هذا؛ لأن هذا ليس محلاً للخوض واللعب، وإنما هذا محله التعظيم والتقدير والعمل والإيمان. وقوله جل وعلا: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:66] الطائفة يصح أن تقع حتى على الرجل الواحد، فيصح أن يقال للواحد: طائفة. وقد جاء أن اثنين منهم جاءوا يعتذرون ويقولون: إننا لم نتكلم وإنما حضرنا، وقد أنكر من أنكر منهم وقال: ووددت أننا نقاضى على كل كلمة نتكلمها كل واحد منا يضرب مائة سوط وأن لا ينزل فينا القرآن. وجاء عن رجل يقال له: مخشي بن حمير أنه هو الذي كان يعتذر، ومع ذلك لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره، وكان يقول: إني أسمع آيةً تتلى في كتاب الله أنا المعني بها تقشعر منها الجلود، وكان يسأل ربه ويقول: اللهم اجعل موتي قتلاً في سبيلك حتى لا يقول قائل: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت. وذكروا أنه لما كان يوم اليمامة تتبعوا القتلى الذين قتلوا من الصحابة فوجدوهم إلا هذا الرجل لم يعثر له على أثر وجثة، ولعل هذا هو الذي أراده جل وعلا بقوله: (نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ) أي: أن الله عفا عنه. وقوله: (نُعَذِّبْ طَائِفَةً)يعني: أن هؤلاء يصيبهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة، أما عذاب الآخرة فهو بعد الحياة عند الموت. وقوله: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الإجرام: هو ارتكاب الجرم والذنب العظيم، وهذا من أعظم الذنوب: الاستهزاء والسخرية واللعب بآيات الله، أو بشيء فيه ذكر الله، أو شيء فيه دين الله وشرعه، وهذا في الواقع قد يكون باللسان، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالقلب نفسه، وقد يشتمل على أمور تكون مكفرة ومخرجة من الدين الإسلامي؛ كعدم الاقتناع بالدين، وأنه دين باطل، وأن غيره أحسن منه؛ لأنه حكم بكذا.. وأمر بكذا.. ونهى عن كذا.. ولو لم ينطق بذلك، إذا كان هذا في قلبه فإنه يكفيه في الهلاك أنه داخل في ذلك، وإنما(5/246)
الواجب على العبد أن ينقاد لتعظيم شرع الله، ويمتثل له، ويكون مستسلماً خاضعاً لربه جل وعلا، معظماً لأمره، مجتنباً لنهيه، وأن يحذر أشد الحذر أن يقع في شيء مما يذهب بدينه، ويكون سبباً لهلاكه. وفي هذه القصة مع الآية دليل على أن الجاهل لا يعذر بجهله في كل شيء، وإنما العذر في بعض الأمور، بل يجب عليه أن يتعلم ويعمل، فإن قصر في ذلك فهو الملوم.
استهزاء بعض ضعاف الإيمان بالمؤمنين في غزوة تبوك
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول) أي: فقد كفر. قوله: وقول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]. قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى مثل قرائنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66])، وإن رجليه ليسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك(5/247)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66])وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو من هذا. وقال ابن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مخشي بن حمير ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال؛ إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لعمار بن ياسر : (أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا، فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله! قعد بي اسمي واسم أبي)، فكأن الذي عناه -أي: بقوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:66]- في هذه الآية: مخشي بن حمير ، فسمي عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: كان رجل ممن -إن شاء الله- عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آيةً أنا أعنى(5/248)
بها تقشعر منها الجلود، ويجب منها القلب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره ]. ......
التوفيق بين الروايات والأحاديث الواردة في المستهزئين
هذه الروايات فيها شيء من التخالف في الظاهر، ولكن في الواقع يمكن التوفيق بينها. رواية ابن عمر : أن عوف بن مالك سمع هذه المقالة فجاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية أخرى: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عمار بن ياسر إليهم وقال: أدرك القوم فقد احترقوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا)، يجوز أن يكون هذا وهذا، أي: أن عوف بن مالك سمع هذه المقالة فأنكرها، وسعى بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا نصحية لله جل وعلا ولرسوله، وليس ذلك من باب النميمة، وهناك فرق بين النصحية والنميمية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إتيان عوف أرسل عمار بن ياسر ؛ لأنه جاءه خبر السماء أسرع من مجيء عوف بن مالك ، ويكون الجميع وقع. ثم المقالة التي اعتذروا منها كلهم يقولون: إننا ما قصدنا الحقيقة، وإنما قصدنا الترويح عن أنفسنا، وأن نقطع بهذا الكلام وعثاء الطريق؛ لأن الإنسان إذا تروحت نفسه تنشط وذهب الكلال والتعب، وهم يقولون: هذا الذي قصدناه، وما قصدنا الحقيقة، ولكنهم أخطئوا؛ لأن هذا محله التعظيم، وليس محله الهزل واللعب، ولذلك قيل لهم: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، والآية صريحة واضحة في أنهم كانوا مؤمنين قبل هذه المقالة، وأن الكفر وقع لهم بسبب هذا القول. قد يقال: لماذا ما أقام عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الحد؛ لأن أمرهم ظهر وهو كفر، ومن كفر بعد إيمانه يقتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والمبدل لدينه المفارق للجماعة)، فالذي(5/249)
يبدل دينه يكفر بعد إيمانه، ويجب أن يقتل إلا أن يتوب؟ وأجيب بأنهم -كما ذكرنا- اعتذروا وقالوا: ما قصدنا الحقيقة، وأظهروا التوبة والندم، فإذا كانوا كذلك فيقال لهم: هذا ليس محله، ولكن عذرهم غير مقبول، ويوكل أمرهم إلى أن يظهر من أفعالهم هل كانوا تائبين أم أنهم مصرون على الكفر؟ هذا أمر.
سبب عدم إقامة النبي صلى الله عليه وسلم الحد على المستهزئين
الأمر الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع من قتل من يجب عليه القتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لئلا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه)، فيكون هذا منفراً للذين لا يعرفون الحقيقة، فامتنع من تنفيذ الحكم من أجل ذلك. وهذا الذي أخذ منه العلماء: أن الشريعة الإسلامية جاءت بتنمية المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وحصرها مهما أمكن، وإذا صار الأمر دائراً بين مفسدة ومصلحة فينظر إن كانت المفسدة أغلب فإنه يترك، وهذا من هذا القبيل، ولا يكون فيه دليل على أن المستهزئ والساخر أو المكذب لدينه لا يقتل؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، وكذلك كلام الله جل وعلا. [ قوله: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: بهذا المقال الذي استهزأتم به. (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ) أي: مخشي بن حمير . (نُعَذِّبْ طَائِفَةً) أي: لا يعفى عن جميعكم، ولابد من عذاب بعضكم. (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) أي: مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى ].
بيان أن المستهزئين كانوا مؤمنين ثم كفروا(5/250)
قال الشارح رحمه الله: [ قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم؛ لأنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، ونريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين ]. أي: أن حديثهم هذا الذي وقع بعضهم مع بعض ليس مع غيرهم، فلا يقال: إنهم أظهروه للناس؛ لأن هذا شأنهم دائماً في جميع حالاتهم، وإن كان حضرهم من حضرهم كعوف بن مالك وأنكر عليهم، وإنما كانوا يتحدثون بعضهم مع بعض. قال الشارح رحمه الله: [ وقال رحمه الله في موضع آخر: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم، مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل إنما كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدراً بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا(5/251)
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:47-51]، فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان. انتهى ]. قال الشارح رحمه الله: [ وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطراً إرادات القلوب، فهي كالبحر الذي لا ساحل له، ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة ].
أنواع النفاق وبيان أخطرها(5/252)
النفاق الأكبر خلاف النفاق الأصغر؛ لأن النفاق منه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر، فالنفاق الأصغر يكون في المسلمين وهو كثير جداً، ومثاله: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر في المعاهدة، إذا كان الإنسان عنده شيء من ذلك فعنده نفاق، ولكن جميع هذه الخصال الخمس لا تجتمع إلا في منافق، تجتمع كلها في منافق نفاقاً أكبر. أما النفاق الأكبر: فهو بغض الحق وكراهيته، كبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض بعضه، أو كأن يود ويفرح ألا ينتصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يظهر، أو يود أن دين الكفار يظهر وينتصر على الإسلام، فمن كان عنده واحدة من هذه الأمور فهو من المنافقين الذين يخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وكان مع المسلمين. وهذا النفاق يكون في القلوب، فهو من أعمال القلوب لا يظهر، ولهذا كان الصالحون المتقون يخافون أن يكون عندهم شيء من ذلك، حتى إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة بن اليمان الذي قيل له: أنت صاحب السر، يقول: أسألك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً، يعني: لو سألني أحد أن أخبره أنه سماه أو ما سماه لما أعلمته. وحذيفة رضي الله عنه أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض أسماء المنافقين، وذلك عند رجوعه من غزوة تبوك، حين مر بعقبة في جبل، ومسلكها كان صعباً وضيقاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني سالك هذا الطريق، أي: لا يذهب معه أحد، فانتهز بعض المنافقين الفرصة وقالوا: الآن نتمكن من قتله، فذهبوا وكمنوا في أثناء الطريق في وسط الجبل، يريدون أن ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيسقط في هذا الجبل، فأمر حذيفة أن يقود ناقته، وأمر عماراً أن يسوق به وهو راكب، وفي أثناء(5/253)
الطريق في العقبة خرجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيهم حذيفة وصار يضرب وجوه ركائبهم حتى نفروا وهربوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفت القوم؟ قال: لا، القوم متلثمون، ولكني عرفت راحلة فلان وفلان، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائهم قال: فلان منافق، وفلان منافق، وفلان منافق، فعدد أسماءهم وقال له: لا تخبر أحداً). والله جل وعلا أنزل في هذه الغزوة سورة التوبة، وفيها كثير من الآيات تبين أوصافهم، ولهذا يسميها الصحابة: الفاضحة؛ لأنها فضحتهم، يقولون: لم يزل الله جل وعلا يقول: ومنهم.. ومنهم.. حتى تبين بأوصافهم لهم كثيراً منهم، وعدم ذكرهم بأسمائهم سببه تأليف الناس؛ لأن هؤلاء كانوا من قبائل الأنصار، غير أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد تقوى الإيمان وعظم واعتز، فلم يجدوا بداً من المصانعة، وقلوبهم منطوية على التكذيب. وبعض العلماء يقول: إنهم انتهوا في الأخير؛ لأن الله جل وعلا يقول: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60]، فالله جل وعلا لم يغره بهم، فدل على أنهم انتهوا عن أفعالهم في آخر الأمر، وبقي قليل منهم، ولكن الأوصاف التي ذكرها الله جل وعلا فيهم كثيرة، وهي تبينهم في كل وقت، وقد ذكرها في سورة التوبة وكذلك في سورة المنافقون، وقد ذكر من أوصافهم أشياء عجيبة، بحيث أنه ذكر أنهم لهم أجسام، ولهم مناظر حسنة، ولهم فصاحة وبلاغة في كلامهم وخطابهم؛ لأنه جل وعلا يقول: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4] تعجبك أجسامهم: في مناظرهم وملابسهم، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] يعني: لفصاحتهم وبلاغتهم، ويقول: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ(5/254)
[التوبة:79]، ويقول: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49]. والمقصود: أن تسمية حذيفة : صاحب السر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر إليه بعض أسماء المنافقين وليس كلهم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا؟ فإن صلى عليه صلى عليه. وكون الصحابة رضوان الله عليهم يخافون من النفاق؛ لأن القلب قد يعمل أعمالاً يخشى أن يكون خالف فيها الحق، أو كره الحق فيها، فيخشى أن يكون منافقاً، ولهذا كان الحسن البصري رحمه الله يقول: والله ما خافه إلا مؤمن -يعني: ما خاف النفاق إلا مؤمن- ولا أمنه إلا منافق. يعني: الذي يأمن النفاق على نفسه يكون منافقاً، أما الذي يخاف أن يكون منافقاً فهو المؤمن. ومن ذلك قول ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه أن يكون منافقاً. ومن النفاق أن تحب إنساناً على شيء من الباطل فهذا نفاق، أو تكره إنساناً على شيء من الحق فهذا نفاق. فالنفاق فيه كبير وفيه صغير، فيه مكفر وفيه مفسق، فيه ما يكون كفراً وخروجاً من الدين، وفيه ما يكون فسقاً وكبيرة من كبائر الذنوب. ......
مسائل باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله
......
هزل يخرج من الملة(5/255)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا أنه كافر ]. يعني: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو هزل بالقرآن أو بشيء من القرآن. والمقصود بالذي فيه ذكر الله: إما بأسمائه أو صفاته، أو آياته الكونية الخلقية، أو دينه وشرعه الذي شرعه كأمره ونهيه. وإذا كان الهزل كفراً فكيف الذي يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أو يسب القرآن أو يسب الدين؟ هذا أعظم من السخرية، ولهذا إذا صدر ذلك من إنسان إن كان هذا بالنسبة للرسول فإنه يجب أن يقتل على كل حال، سواء تاب أو لم يتب، حتى وإن تاب وأظهر الندم فيجب أن يقتل، ولا تقبل توبته ظاهراً، وإذا قتل إن كان تائباً ومظهراً التوبة فيصلى عليه، ويدفن مع المسلمين. أما إن كان سباً للدين أو لله جل وعلا فإنه إذا تاب تقبل توبته، وليس معنى ذلك أن مسبة الرب جل وعلا أسهل من مسبة الرسول، بل هي أعظم، ولكن لأن الله جل وعلا أخبر أنه قبل توبة التائبين من الذين يسخرون ويكفرون، فإذا كان جل وعلا قبل التوبة فليس للخلق اعتراض على ذلك. وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يأمر بالذين يسخرون منه بأن يقتلوا.
أن هذا تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان
[ المسألة الثانية: أن هذا تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان ]. المقصود: أن الذي يقع منه استهزاء بدين الله أو بشيء من آياته، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو بمن يحمل الدين ويقول به ويعمل به، أن حكمه حكم أولئك، هذا معنى تفسيرها؛ لأن الآية لم تنزل في أناس معينين، فإن السبب وإن كان خاصاً، إلا أن اللفظ والحكم عام في الأمة إلى يوم القيامة.
الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله(5/256)
[ المسألة الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله ]. المقصود: هو قول عوف بن مالك حين قال: لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يخبره، نقول: هذه ليست من الغيبة والنميمة، وإنما هذه نصيحة، فالذي يقع في المعصية مرتكباً لها ويعرف أنه قاصد لذلك فيبلغ أمره إلى ولي الأمر؛ حتى يردعه ويمنعه، ويقيم عليه الحد الذي يستحقه، ولا يكون ذلك من باب النميمة وإنما هي نصيحة.
الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله
[ المسألة الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله ]. وهذا يؤخذ من قوله: إنه رآه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! والله إنما كنا نخوض ونلعب، نتحدث حديث الركب نقطع به وعثاء السفر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليه ولا يزيد على قوله: ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون) * (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) يعني: لا يزيد على ما قاله الله له، فلا يلتفت إليه أكثر من ذلك، ومثل هذا لا ينبغي أن يقبل عذره، بل يقابل بالغلظة، وبما يستحقه مما اقترفه من السخرية بآيات الله جل وعلا، أو برسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالمؤمنين الذين يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، إذا سخر بهم من أجل ذلك.
أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل(5/257)
[ المسألة الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل ]. من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل، مثل اعتذار هؤلاء فيما اعتذروا به، وهذه الأعذار لم يقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرق بين من وقع في خطأ غير قاصد، وكان ذلك فيما سبيله الاجتهاد وبين من وقع في خطأ ولو كان غير قاصد، مثل الخوض في آيات الله أو صفاته، أو في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، فرق بين هذا وهذا، فالذي يخطئ مثلاً في أمور اجتهادية هذا يقبل عذره، أما الذي يخطئ في الخوض في آيات الله والسخرية، والاستهزاء بها، وإن كان ما قصد الحقيقة وإنما ليضحك الناس، فمثل هذا لا يجوز أن يقبل عذره.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [114]
من طبيعة الإنسان إنكار نعمة المنعم سبحانه وتعالى، وإضافة النعمة إلى نفسه، وأنه اكتسبها بجهده وعلمه وذكائه، ولا شك أن هذا كفر بالنعمة وبالمنعم، وهو منقص للتوحيد، والواجب على الإنسان تجاه نعم الله تعالى أن يشكر الله تعالى عليها، وأن يستعملها في طاعته، وأن يضيفها إلى الله تعالى لا إلى نفسه، ومما يبين هذا الأمر بوضوح حديث الثلاثة النفر من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى.
باب قول الله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته...)(5/258)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت:50]. قال مجاهد : هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس : يريد من عندي. وقوله: قَاْلَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] قال قتادة : على علم مني بوجود المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف ]. ......
مقصود الباب وجوب الشكر على النعم(5/259)
مقصود الباب: وجوب الشكر على النعم، وأن الذي لا يشكر نعمة الله جل وعلا يكون ناقص التوحيد، فهو لم يأت بالتوحيد الذي يجب عليه، وكذلك إذا وقع في كفران النعمة فإن هذا نوع من كفر الربوبية، وهو منقص للتوحيد وإن لم يكن ذاهباً به بالكلية، وهذا من تفسير شهادة أن لا إله إلا الله. وقوله: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ) الضمير هنا في (أذقناه) يرجع إلى جنس الإنسان، فكل إنسان هذه طبيعته، إذا وقع في النعمة والسراء نسي ما حدث له من الكرب والضراء، وربما نسب ما وقع له من النعم إلى نفسه، وقال: هذا أنا حصلته بعملي، أو بسببي، أو بحسن تصرفي، أو بكوني ذكياً أعرف كيف أتصرف، أو بكوني أعرف طرق المكاسب، أو ما أشبه ذلك مما يضيفه الإنسان إلى نفسه، فإن هذا كله من كفر النعم. والواجب على العبد إذا وقعت له نعمة من النعم، سواء كانت في بدنه أو في ماله أو في أولاده أو نعمة عامة، فيجب أن يضيفها إلى الله، وأن يشكره عليها، وأن يعلم أنه ليس له في نفسه قوة بأن يحصل هذه النعمة لولا أن الله جل وعلا تفضل بها عليه، وإن كان لها أسباب فإن الله هو الذي يخلق الأسباب ويهيئها، ولو شاء لعطل الأسباب، ولو شاء لم تأت النعم مع وجود الأسباب، ولهذا يذكر الله جل وعلا ذلك كثيراً، كما قال جل وعلا: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة:63-65] أي: يكون يابساً ليس فيه أي منفعة، ولكنها نعم الله جل وعلا. وكذلك لما ذكر الماء الذي نشرب أخبرنا أنه هو الذي أنزله من المزن -من السحاب- وأنه لو شاء لجعله أجاجاً، يعني: مالحاً لا نستطيع شربه، وكذلك ما يتغذى به الإنسان، الشيء الذي يدخله في فمه لو شاء الله جل وعلا لم يأكله، ولم ينتفع به، ولو شاء لوقف في مكانه ولم يتفرق، فكل نعمة تصيب الإنسان يجب أن يعلم أولاً من قلبه أنها من الله، ثم يعمل(5/260)
جوارحه على شكر الله جل وعلا عليها، وأن يضيفها إلى ربه جل وعلا، وأن لا يضيف ذلك إلى نفسه، فإن إضافة النعم إلى النفس من شأن الكفار الذين ذكرهم الله جل وعلا، كما في هذه الآية وغيرها، الذين يكفرون بالله وبنعمه، ويضيفون ما يحصل لهم من النعم إلى صنعتهم، وإلى قوتهم، وإلى حسن تصرفهم، وينسون ربهم جل وعلا. وقد جرت سنة الله جل وعلا في عباده أن الإنسان إذا اعترف بنعمة الله عليه وشكره عليها، وأثنى بها عليه، واستعملها في طاعته أن الله يزيده نعمةً على نعمة، أما إذا صرفها في المعصية، أو نسي المنعم بها، أو استعملها في المعاصي، وتقوى بها على معصية الله جل وعلا، وإن استمر على ذلك وقتاً فإن الوقت قليل وقصير، ولو كان عمر الإنسان كله فإن الله جل وعلا يعقبه سوءاً في حاله عاجلاً، وعذاباً في الآجل. ومقصود الباب بذكر الآية: وجوب إضافة النعم إلى مسديها، ووجوب شكره عليها بالعمل بها في الطاعة، ومن لم يفعل ذلك لا يخلو: إما أن يكون جاحداً بالكلية، ومستعملاً النعمة في المعصية والكفر، فيكون خارجاً من الدين الإسلامي، أو يكون أقل من ذلك؛ لأنه لم يؤد شكر النعمة، ولم يستعملها في طاعة الله على ما ينبغي، وإن استعملها في شيء منها أو أنه يضيف منها في ذلك شيئاً إلى نفسه، فإنه يكون ناقص التوحيد، ويكون واجباً عليه أن يتوب من ذلك، ويشكر ربه جل وعلا ويعبده ويخضع له.
معنى قول الله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا...)(5/261)
وقوله: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا [فصلت:50] من المعلوم أن إذاقة الشيء يقصد بها الطعم الذي يذوقه، مثل الذي يأكل الطعام ويتذوقه، وذلك أن النعم مآلها إلى هذا، وقد يكون ذوقها ذوقاً معنوياً، ويكون أعظم لذةً من الحقيقي، وكل النعم مصدرها من الله جل وعلا، فعلى هذا وجوب شكر نعم الله جل وعلا، وقبل ذلك يجب على الإنسان أن يعلم أن كل ما وقع له من خير فهو من الله، أما إذا وقع له ضد ذلك فسببه معصيته، كما قال جل وعلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، وقوله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال جل وعلا: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] يعني: السيئة تقابل الحسنة، والحسنة المقصود بها النعم التي ينعم الله جل وعلا بها على الإنسان. وقوله: (من نفسك) يعني: نفسك هي سبب عملك، ثم كون الإنسان يدعي بأنه محظوظ ولهذا حصل له كذا وكذا، أو أنه كريم عند الله؛ ولهذا حصل له كذا وكذا، هذه دعوى على الله، وربما يكون الأمر بالعكس؛ لأن الله جل وعلا يبتلي بالنعم الذي يحبه والذي لا يحبه، الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنها ابتلاء واختبار؛ لينظر من يشكر ومن يكفر، فمن شكر زيد نعمة، ومن كفر فإنه لا يعجز الله، ويعاقبه الله جل وعلا، ويسلب نعمته؛ لأن الله جل وعلا يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. والأقوال التي ذكرها السلف متقاربة، قوله: أنا حقيق به، أو أنا حصلته بكسبي وبعملي، أي: بحسن تصرفي، أو بكوني علمت كيفية طرق المكاسب، أو بقوله: هذا أعطاني الله جل وعلا لأنني محظوظ عنده، أو قوله: أنا مستحق لذلك، أو قوله: أنا شريف،(5/262)
أو قوله: أنا عند الله جل وعلا محبوب أو كريم فأعطاني ذلك.. كل هذه من أعمال وأقوال الكفار التي لا يجوز للمسلم أن يقول شيئاً منها، ويجب عليه أن يجعل النعم مستعملةً في طاعة الله، ويعترف بأنها من عند الله جل وعلا، حتى يكون عبداً لله. ومعلوم أن معنى الرب جل وعلا: رب العالمين، أي: الذي يربيهم بنعمه، ويقوم على مصالحهم، فهو ربهم الذي يربيهم بما يصلح حياتهم، وهذه التربية قد يعترف بها من يعترف من المؤمنين، ويشكر الله عليها، وقد لا يعترف بها أكثر الناس، فيكون ذلك وبالاً عليهم، ويكونون من أهل العذاب، نسأل الله العافية. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: باب قول الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ... [فصلت:50] الآية. ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي. قوله: قال مجاهد : هذا بعملي وأنا محقوق به، وقال ابن عباس : يريد من عندي، وقوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب ..]. قول مجاهد وقول ابن عباس : على علم مني بوجوه المكاسب، وعلى علم عندي يعني: أني أعلم ذلك، أعلم كيف أكتسب، أعلم كيف أتصرف، وهو في الواقع مسكين! إذ لو أن الله منعه نعمته لما استطاع أن يسقي نفسه شربة ماء. قال الشارح رحمه الله: [ وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل، وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف. يعني: أن الله جل وعلا شرفني على كثير من الناس فأعطاني ذلك؛ لأني شريف أو كريم عنده. وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى ].
فتنة السراء والضراء وبيان أيهما أعظم(5/263)
قال الشارح رحمه الله: [ قال ابن كثير رحمه الله في معنى قول الله تعالى: ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر:49] ]. (خولناه) يعني: أعطيناه وخصصناه، فكل نعمة تقع للإنسان فهي من الله، وأكبر نعم الله وأعظمها على العبد أن جعله مسلماً، فهذه النعمة أعظم النعم على الإطلاق. أما كونه يكون صحيحاً معافىً واجد المال والمتاع والمسكن والزوجة وما أشبه ذلك، فهذه تزول بسرعة ولا تبقى، ولكن نعمة الإسلام هي التي تستمر معه إلى أن يحصل له بسببها الحياة السرمدية، والنعيم عند الله جل وعلا، ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يقوم بشكر هذه النعمة، ولا غيرها من النعم، وإنما إذا اعترف لربه جل وعلا بالتقصير، وخضع له، ونسب له الفضل، واستعمل ذلك في طاعته، فإن الله كريم يقبل اليسير ويعفو عن الكثير. [ يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله تعالى، وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوله نعمةً منه طغى وبغى وقال: (إنما أوتيته على علم)، أي: لما يعلم الله من استحقاقي له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا. قال الله عز وجل: (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي: ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه ..]. المقصود بالفتنة هنا: الاختبار، أي: يعطى النعم ليظهر شكره من كفره، وإلا فالله علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، يعلم أن هذا المخلوق سوف يكفر وهذا سوف يشكر، لا يخفى قبل وجود ذلك، ولكن من فضله وكرمه وتمام عدله أنه لا يؤاخذ بمجرد علمه، وإنما يؤاخذ بالعمل الظاهر الذي يبرز ويظهر، ويكتب في الصحف، وتشهد عليه الملائكة وتعمله الجوارح، هذه الفتنة فتنة النعم. وفتنة النعمة أعظم من فتنة الضراء؛ لأن الإنسان كما قال الله جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، إذا وجد الغنى تكبر وطغى، أي: ارتفع على غيره،(5/264)
فالطغيان المقصود به: الارتفاع والعلو على أبناء جنسه، فيتعالى عليهم بما أعطي من النعم، وهذه طبيعة الإنسان إلا من مَنّ الله جل وعلا عليه بالهداية. وأما الضراء فغالباً أنه يستكين، ويذل ويخضع، ويعرف قدره، فيكون هذا طريقاً لمعرفة الله جل وعلا، فلهذا صارت فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، وفتنة الضراء قد يكفر بعض الناس بسببها ويتسخط أمر الله وقدره ويقول: أنا ما أستحق هذا، أنا مظلوم، يعني: أن الله ظلمه، نسأل الله العافية! فإذا وصل إلى هذا الحد فمعنى ذلك أنه كفر بالله جل وعلا، ورأى أن الله يظلم عبده، وهو يزكي نفسه على ربه، ويرى أنه مطيع وقائم بالواجب، وهذه نهاية الكفر نسأل الله العافية. فالمقصود: أن الابتلاء لابد منه، إما أن يكون بهذا أو بهذا، حتى يتبين عمل الإنسان ظاهراً، يتبين لكل من يرى، يتبين للملائكة، ويتبين له هو، ويتبين لمن يكون مشاهداً له، فهذا الذي يؤاخذ عليه، فكونه جل وعلا يبتليهم بهذا ليظهر ذلك الذي هو كامن في نفوسهم، وقد علمه الله جل وعلا قبل وجودهم، وكتبه، ولكنه لا يقع إلا بعملهم وبتصرفهم.
عاقبة التكبر على الله وعلى الخلق بالنعم(5/265)
[ قال الله عز وجل: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر:49] أي: ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، (بل هي فتنة) أي: اختبار، (ولكن أكثرهم لا يعلمون)، فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون. قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الزمر:50] أي: هذه المقالة، وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم. فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الزمر:50] أي: فما صح قولهم، ولا نفعهم جمعهم، وما كانوا يكسبون، كما قال تعالى مخبراً عن قارون: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:76-78]. وقال تعالى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] انتهى]. القصص التي يذكرها الله جل وعلا لنا في القرآن مثل قصة قارون وعاد وفرعون وبني إسرائيل، وكذلك القصص التي يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الحديث الذي ذكره المصنف، المقصود بها: الاعتبار، فنحن المقصودون منها، وليس معنى ذلك أنه مجرد أخبار وقعت فمضت، فيأخذها الإنسان من باب التسلي أو التفكر، وكونه يذكر هذا تاريخاً مضى لأناس مضوا، بل المقصود نحن أن نعتبر نحن بذلك، وألا نقع في مثل ما وقعوا فيه، حتى لا يصيبنا ما أصابهم، هذا هو مغزى القصص وهو(5/266)
المقصود منها. وفي قصة قارون الذي جمع الأموال وكنزها، ثم نصحه من نصحه من المؤمنين وقالوا: لا تبغ الفساد بأموالك هذه، ولا تنس نصيبك من الدنيا، ولكن أحسن كما أحسن الله إليك، فنصحوه النصيحة التي لو أخذ بها لاجتمعت له نعمة الدنيا والآخرة، ولكنه تكبر وقال: إنما أوتيته على علم عندي، ومعنى (علم عندي) مثل ما قال قتادة : محظوظ عند الله، علم الله أني له أهل وأني أفضل منكم، فزعم أنه يستحق ذلك وجحد نعمة الله، فأخذه الله وخسف به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، نسأل الله العافية. وأخبر جل وعلا أن من قبله من القرون من هو أكثر منه جمعاً وأقوى منه، وأخذوا بكفرهم وظلمهم، وعادة الإنسان الكافر أنه لا يعتبر بما مضى، ولا بما يجري حوله، إذا كثرت نعمه وكثر ما لديه فإن ذلك يدعوه إلى التكبر والبغي.
شرح حديث الأبرص والأقرع والأعمى(5/267)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا،ً فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، قال: فمسحه؛ فذهب عنه قذره، فأعطي لوناً، وجلداً حسناً، قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر -شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها، فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله علي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة! فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرصاً يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، قال: وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين، وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى،(5/268)
فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط عن صاحبيك) أخرجاه ]. هذا الحديث في الصحيحين، وقوله: (إن ثلاثة من بني إسرائيل) إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وبنوه هم الذين ذهبوا إلى مصر لطلب الطعام، وترددوا بعدما عملوا ما عملوا بأخيهم يوسف عليه السلام، وحصل ما حصل، ومكنه الله جل وعلا، ثم في النهاية استجلبهم إلى مصر هم وأهليهم، فكثروا وصاروا أمة كبيرة، فسلط عليهم فرعون في تقتيل أبنائهم ذكورهم، وإبقاء نسائهم للخدمة، وسبب ذلك كما قيل: إنه قيل له: إن في العلم الذي ورث عن إبراهيم أن زوال ملكك على يد رجل من بني إسرائيل، فصار يذبح كل مولود ولد منهم، والقصة معروفة ذكرها الله جل وعلا في القرآن. والمقصود: أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، فهو نبي كريم من أنبياء الله جل وعلا، واليهود هم من ذريته، ولكن اليهود الآن من أكفر عباد الله، ولا يجوز أن نسميهم بني إسرائيل، وإنما نقول: دولة اليهود مثلاً، ولا نقول: دولة إسرائيل؛ لأن إسرائيل نبي كريم من الأنبياء، يجب أن ينزه عن هذا، فيجب أن نقول لهم: اليهود.. دولة اليهود.. وهم يفرحون عندما تسمى دولتهم بإسرائيل، ثم كأنه كان فيهم العجائب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث عنهم كثيراً، والأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم كثيرة، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه كتاباً مستقلاً سماه: (حديث بني إسرائيل)، فذكر جملاً منها، وكذلك غيره من العلماء، وأحاديث بني إسرائيل التي تذكر عنهم قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم منها ثبت، مثل الذي يذكره الله جل وعلا في كتابه، والذي يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ويصح عنه، ومثل هذا لا إشكال فيه فيصدق ويؤمن به، وهذا الذي اختلف أهل الأصول هل هو شرع لنا أم لا؟ أي: شرع من قبلنا شرع لنا أم أنه ليس شرعاً لنا؟(5/269)
والصواب أنه إذا كان أقر من شرعنا فهو شرع لنا، أما إذا لم يقر فليس شرعاً لنا، ولكن الكلام في الشيء الذي سكت عنه. القسم الثاني: ما جاء في كتاب الله أو في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكذبه ويبطله، فهذا يجب أن نكذبه، مثل دعوى اليهود بأن سليمان ملك ساحر، أو أن لوطاً عليه السلام ضاجع بنتاً من بناته فحملت منه، وغير ذلك من الأمور المنكرة التي ينسبونها إلى الأنبياء وهي كذب صريح، القرآن يبين كذب ذلك ويوضحه، وهذا كثير، وقد يذكره بعض المفسرين في تفاسيرهم، وهو من الخطأ الذي يجب أن ينزه تفسير كتاب الله عنه. القسم الثالث: ما لم يأت في كتاب الله ولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تصديقه ولا تكذيبه، أي: مسكوت عنه، فمثل هذا الحكم فيه أن يقول الإنسان: آمنا بما أنزل الله علينا وعلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء، أي: أنه لا يكذب ولا يصدق، يؤمن بكل ما أنزله الله إجمالاً، أما هذا بعينه فيتوقف فيه، إذا كان مما أنزله الله فنحن نؤمن به، وإذا لم يكن فهو لا يضر الإنسان كونه تردد فيه. وهؤلاء الثلاثة النفر جاء في صحيح البخاري ثلاث روايات: أحدها: (أراد الله أن يبتليهم)، والأخرى: (بدا لله أن يبتليهم)، وقد اغتر بهذه الكلمة بعض الذين كتبوا من المعاصرين كلاماً سيئاً في هذا وقال: إن هذا خطأ، وإن صحيح البخاري فيه أخطاء في العقيدة، فينبغي للإنسان أن يكون متنبهاً، وهذا من قلة معرفة اللغة؛ لأن (بدا) تأتي بمعنى: أراد، ومعلوم أن الرواة قد يعبر بعضهم بالمعنى ولو لم يكن هذا تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه عرف مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فعبر به، وهذا كثير جداً، فإذا جاء حديث بلفظين مثلاً أو ثلاثة ألفاظ فأحدها يفسر الآخر، إذا كان فيها شيء غريب يرجع إلى الشيء الواضح، فيكون هذا هو المعنى. ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس، وهو صلوات الله وسلامه عليه أقدرهم على البيان(5/270)
والبلاغ، وهو كذلك أنصح الخلق للخلق، وهو كذلك أغير الخلق على الله جل وعلا، فلا يجوز أن يأتي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء باطل؛ لأن هذا الذي قال هذا القول بأن (بدأ) من الابتداء، وأنه يقتضي قبل ذلك أنه لم يكن عالماً، فمعلوم أن هذا ينافي صفات الله جل وعلا، ولكن ليس هذا المراد في قوله: (بدأ)، وإنما المراد به مثل ما في الروايات الأخرى: (أراد الله أن يبتليهم)، والإرادة سبق الكلام عليها، والابتلاء هنا هو الاختبار، أي: أن يختبرهم بحالهم، وهؤلاء الثلاثة: أبرص، وأقرع، وأعمى، فهم أهل أمراض وعاهات معروفة في الناس. أما البرص: فهو من الأمراض التي تغير لون الجلد، وتجعله مكروه النظر إليه، وقد كان ولا يزال في الغالب مرضاً إلى الآن لم يستطع الأطباء أن يصلوا إلى دواء له، وقد يشفى الإنسان من هذا كما هو معروف، ولكن الغالب أنه يبقى، وإنما كثير من الأطباء لا يستطيع أن يتوصل إلا إلى إيقافه فقط، يوقف بحيث لا يزداد؛ لأن العادة أنه يزيد حتى يشمل الجلد كله، ويصبح جلد الإنسان كله بهذا اللون، ولكن يمكن أن يشفى الإنسان، وقد شفي خلق من هذا المرض، وقد جعل الله جل وعلا الشفاء منه آيةً لعيسى عليه السلام، إذا مسح بيده الأبرص شفي وزال برصه. أما القرع: فهو مرض وقروح تكون في الرأس يتساقط بسببها الشعر، ثم يحدث الصلع، وقد تكون له رائحة كريهة ويتقذر منه من قارب هذا المريض. أما العماء: فهو معروف، كونه فقد بصره، وأصبح لا يبصر شيئاً. فهؤلاء بعضهم قريب من بعض، فأرسل الله جل وعليه إليهم ملكاً، وهذا الملك جاءهم بصورة بشر من الناس يظنون أنه مثلهم، فبدأ بالأبرص فقال له: أي شيء تود وتحب وتريد؟ فقال: أحب أن يذهب عني هذا المرض، وأن أعطى جلداً حسناً، ولوناً حسناً؛ لأن جلده مريض، ولونه سيئ، فمسحه فزال المرض، وأعطي جلداً حسناً، ولوناً حسناً، وهذا مجرد مسح، ولو كان عنده مثلاً اعتبار لاعتبر أن هذا من الأمور العظيمة،(5/271)
ومن آيات الله ونعمه، ثم قال له: أي المال أحب إليك؟ فقال: الإبل أو قال: البقر، شك إسحاق أحد الرواة، فأعطي ناقة عشراء، والناقة العشراء: هي التي قاربت الولادة، أي: أتى عليها عشرة شهور وهي ستلد قريباً، وبعض أهل اللغة يقول: إذا أتى عليها ثمانية شهور تكون عشراء، والناس يختلف اصطلاحهم في هذا، فكثير من العرب إذا تبين لقاح الناقة سموها عشراء، ولو لم يأت عليها شهور، ولكن المقصود الاستعمال القديم، ثم قال له: بارك الله لك فيها، فدعا الله جل وعلا له بالبركة فيها، ودعوة الملك الغالب أنها مستجابة، وقد أراد الله جل وعلا ذلك. ثم ذهب إلى رفيقه الثاني فقال له: أي شيء تحب؟ فقال: أن يذهب عني هذا الذي قذره الناس، وأحب شعراً حسناً، فمسح رأسه؛ فذهب مرضه، ونبت شعره وصار حسناً، وقال له: أي المال أحب إليك؟ فقال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً، ثم ذهب إلى الثالث الأعمى فقال له: أي شيء تود وتريد؟ فقال: أن يرد الله علي بصري، فأبصر به الناس، ومعنى قوله: أبصر به الناس أي: أبصر به الأشياء التي يبصرها الناس، ولكن قصر ذلك على الناس؛ لأن اختلاطه بهم، وحاجته إليهم أكثر من غيرهم، فمسح على عينيه، فرد الله عليه بصره، ثم قال له: أي المال أحب إليك؟ قال:الغنم، فأعطي شاةً حاملاً. (فأنتج هذان وولد هذا) المنتج: هو الذي يتولى ولادة الناقة أو البقرة، والمولد: كذلك الذي يتولى ولادة الشاة، مثل القابلة من النساء للمرأة. فطال الوقت، وصار للأول واد من الإبل، وللثاني واد من البقر، وللثالث واد من الغنم، أي: أن هذه الناقة بارك الله فيها، وصار منها شيء كثير من الإبل، وكثر المال ونما، وكذلك صاحب البقرة، وكذلك صاحب الشاة، فلما كثر المال وصار أودية مملوءة منها، جاء ذلك الملك، وبدأ بالأبرص وجاء بصورته، أي: أنه جاء بصورة رجل أبرص وفقير حتى يذكره بحاله السابقة، وهذا معنى (جاءه بصورته) أي: بصورة الأبرص نفسه، فقال له: (إني رجل مسكين، وابن(5/272)
سبيل)، وابن السبيل: هو الملازم للسفر. قال: (وقد انقطعت بي الحبال في سفري......
شكر النعم
أركان الشكر ثلاثة: الأول: أن يعلم أن النعمة من المنعم، والمنعم هو الله جل وعلا، وأنها فضل منه بلا استحقاق. الثاني: أن يضيفها إلى المنعم، ويذكرها له، ويشكره بلسانه عليها. الثالث: أن يستعملها في طاعة الله جل وعلا، اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]، فالعمل من الشكر، وكذلك من العمل: الثناء، ومنه قبل ذلك: أن يعلم أنها من الله، فكل نعمة ينعم الله جل وعلا بها على عبده يجب أن يقوم بهذه الأمور الثلاثة حتى يؤدي شكر الله عليها، وحتى تستقر، وواضح في الحديث السابق أن شكر النعمة يقتضي استقرارها وزيادتها، وكفرها يقتضي نفورها وذهابها، ومع ذلك يعذب؛ لأنه كفر، والكفر أصله مأخوذ من التغطية؛ ولهذا يسمى الزارع حارث الأرض كافراًً؛ لأنه يغطي البذر في الأرض، وإذا غطاه قيل: كفره، إذاً: أصل الكفر التغطية، فإذا غطى نعمة الله فهو كافر لها، وأعظم النعم التي يجب أن تبرز وتظهر ويعمل بها: عبادة الله جل وعلا، ثم يتبع ذلك سائر النعم، وعبادة الله هي الأصل في هذا، فإذا آمن الإنسان بالله جل وعلا وعبده، فهذا يقتضي أن يشكره على كل نعمة من نعمه، وقد يكون كفر النعمة داعياً إلى الكفر الأكبر، فقد يكون سبباً إلى ذلك، كما حصل لهؤلاء الاثنين اللذين جحدا وكفرا نعمة الله، فعاقبهما الله جل وعلا في العاجل قبل الآخرة، وما أعده الله جل وعلا لهم في الآخرة أعظم وأشد.
ابتلاء الله تعالى لعباده(5/273)
هذا الابتلاء ليس المقصود به ذواتهم، المقصود أن يعتبر به غيرهم، أما هم فواحد منهم نجا، والآخران هلكا، وهذا فيه دليل على أن الغالب على الإنسان الكفر؛ لأن الثلاثة شكر منهم واحد، واثنان كفرا، مع قرب العهد، والتذكير بالحالة التي سبقت لهما، وكونهما يعلمان ذلك، فقال لهم: العهد قريب، والمال جاءكم بنعمة الله، وكذلك ما منّ الله جل وعلا به من إزالة المرض وإنعامه بالعافية عليكم، ومع ذلك جحدا هذا، وهما يعلمانه حقيقةً، فهذا يدلنا على أن الغالب على الإنسان هو الكفر، وهذا ظاهر في الناس، فالغالب عليهم الكفر، فيجب على العبد أن يحذر أن يقع في شيء من ذلك، فقد يكون الإنسان مبتلىً بالمال، أو مبتلىً بالجاه، حتى الجاه قد يبتلى به العبد، يكون له جاه عند الناس فيكون له بلوى: هل يستعمل ذلك في طاعة الله أو يغتر بنفسه ويقول: أنا فلان بن فلان، وأنا الذي فيه كذا وكذا؟ فيهلك، فالناس كلهم سواء، ولكن يتميزون بطاعة الله جل وعلا، ومن كان لله أطوع فهو أحب إلى الله جل وعلا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، والابتلاء والاختبار لابد أن يقع أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وآيات كثيرة يخبر الله جل وعلا فيها أنه لابد من البلوى، والبلوى قد تكون(5/274)
كبيرة وقد تكون صغيرة، ولكن يكفي بها أن يتبين هل الإنسان شاكر أم كافر، والله جل وعلا كلما أعطى الإنسان نعمة فهي من باب الاختبار؛ ولهذا كان السلف يحذرون هذه الأمور كثيراً، فيقول أحدهم: إذا رأيت الإنسان مقيماً على معصية، ونعم الله عليه متوالية من صحة ومن مال وغير ذلك فإنه يمكر به؛ لأن العادة أن الإنسان إذا كان في النعمة ينسى، ويتمادى فيها، ويفرح بها، ثم يأتيه الأمر بغتة، وهناك لا ينفعه الندم. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ثلاثة .. ) الحديث أخرجاه أي: البخاري و مسلم . و(الناقة العشراء) بضم العين وفتح الشين وبالمد: هي الحامل. قوله: (أنتج ) وفي رواية: (فنتج) معناه: تولى إنتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة. قوله: (ولّد هذا) بتشديد اللام، أي: تولى ولادتها، وهو بمعنى: أنتج في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد، لكن هذا للحيوان وذلك لغيره. قوله: (انقطعت بي الحبال) بالحاء المهملة والباء الموحدة، أي: الأسباب. قوله: (لا أجهدك) معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي، ذكره النووي . وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر، فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، وما أديا حق الله، فحل عليهما السخط. وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها وهي: الإقرار بالنعمة، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يحب ].
وجوب شكر النعم وقلة الشاكرين(5/275)
أركان شكر النعمة ثلاثة: الأول: الاعتراف أن الله هو المنعم، والاعتراف مصدره القلب ثم يأتي على الجوارح، فلابد من شكر اللسان وغيره من الجوارح. الثاني: أن تنسب النعمة إليه ولا تنسب إلى الأسباب. الثالث: أن يستعمل النعمة في طاعته. فهذه إذا أتى بها العبد فقد شكر نعمة الله، والله جل وعلا يقول: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، فقليل من عباد الله هم الذين يشكرون الله جل وعلا، وأكثرهم وإن اعترفوا بأن النعمة من الله، فلا يخلو هذا الاعتراف من النظر إلى الأسباب والاعتماد عليها، والاعتماد على السبب نوع من أنواع الشرك، وكونه يعطل السبب ولا يلتفت إليه قدح في الشرع وفي العقل أيضاً، فلابد من السبب، ولكن السبب جعله الله سبباً، وإذا شاء عطله وأصبح مفعوله لا أثر له، وإذا شاء أتى بالموانع. فعلى العبد أن يستعمل النعمة في طاعة الله جل وعلا، ويتقوى بها على طاعته، وهذا من الشكر، أما إذا تخلف واحد منها فلم يأت الإنسان بالشكر الذي يجب عليه، فيجب على عباد الله أن يشكروه على نعمه، ونعم الله كثيرة جداً، لا يستطيع الإنسان أن يقوم بشكرها، ولكن من رحمة الله جل وعلا أنه يقبل القليل، ويعفو عن الكثير، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة)، والسلامى: المفصل الذي في الجسد، يعني: العظم الذي إذا فصله فاصل انفصل، فهذا يسمى سلامى، وذكر أن في الجسد ثلاثمائة وستين مفصلاً، فيصبح عليه كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة بقدر هذه النعم؛ لأن هذه كلها نعم من الله جل وعلا، ولما استكثر الصحابة هذا وقالوا: كيف يقوم الإنسان بهذه الصدقات الكثيرة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، والكلمة الطيبة صدقة) فأعمال الخير كثيرة جداً، وبعض الناس يبخل على نفسه في بذل الخير الذي يعود نفعه إليه. فهذا كله مما يدل على وجوب(5/276)
الشكر لله جل وعلا، فيشكر الإنسان نعمة الله، وقد سبق أن قلنا: إن أكبر هذه النعم وأعظمها أن جعل الله جل وعلا عبده من المسلمين، فهذه هي أعظم النعم التي يجب على الإنسان أن يشكر الله جل وعلا عليها، ويقوم بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، حتى تبقى نعمة الله عليه؛ لأنه بالشكر تستقر النعم، وبكفر النعمة تزول وتهرب، كما في قصة الثلاثة، فعندما شكر الأعمى أقرت النعمة عنده، وازدادت، وتحصل على الرضا، وأما صاحباه فكفرا النعمة وجحداها، فزالت نعمتهما، وعادا إلى ما كانا عليه، وهذا عذاب عاجل، والعذاب الآجل أشد وأبقى.
أصل الشكر
قال الشارح رحمه الله: [ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعلم بالنعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر النعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرضى به وعنه؛ لم يشكره أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته؛ فهذا هو الشاكر لها. فلابد للشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له. قوله: ( قذرني الناس ): بكراهة رؤيته وقربه منهم].
مسائل باب قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا...)
......
حال الإنسان مع نعم الله(5/277)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية ]. ليست آية واحدة، بل عدد من الآيات في القرآن تبين جحود الإنسان، كما قال الله جل وعلا: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21] فهذه حقيقة الإنسان، فأخبر الله جل وعلا أنه إذا أنعم على الإنسان فإنه يتكبر، ويتجافى عن طاعة الله، وينسى الاعتراف بها، وإذا مسه الضر فإنه يكون جزوعاً، وفي هذه الآية أنه ينسبها إلى نفسه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت:50]، والرحمة عامة تشمل صحة البدن، وتشمل كثرة المال، وغير ذلك من نعم الله جل وعلا، فربما يقول: هذه أنا أستحقها، أو ربما يقول: أنا حصلتها بكسبي وبعملي وبقوتي، فيكون بذلك كافراً بنعم الله، وهذا جاء في آيات كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8]، وهذا يبين طبيعة الإنسان التي خلق عليها، وجنس الإنسان، وهكذا إلا من استثناهم الله جل وعلا من أهل الإيمان وأهل الطاعة، فهم قد خرجوا من هذا، أما من عداهم فإنه موصوف بذلك. [ المسألة الثانية: ما معنى: (ليقولن هذا لي)؟ ]. سبق كلام السلف فيها، فمنهم من قال: (هذا لي) يعني: حصلته بكسبي وبقوتي، أو بمعرفتي بطرق الكسب، ومنهم من قال: أي: أنا مستحق له، ومنهم من قال: أي: أنا شريف وأنا حظيظ، فالله أعطاني لشرفي أو لحظي عنده، أو أنا محظوظ عند الله، وكل هذه الأقوال تعود إلى معنى واحد وهو أن ينسب النعمة إليه، ويجحد نسبتها إلى ربه جل وعلا. [ المسألة الثالثة: ما معنى قوله: إِنَّمَا(5/278)
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]؟ ]. (أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) إما أن يكون المعنى: علم صدر مني بوجوه المكاسب ومعرفتها، فأنا أستطيع أن أتصرف وأستطيع أن أعمل كذا، أو يكون المعنى: أن الله علم أني أهل لذلك فأعطاني هذا، إما هذا أو هذا.
العبر العظيمة في قصة الثلاثة النفر
[المسألة الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة ]. يعني: قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، وملخصها كما سبق: أن الله ابتلاهم، والابتلاء المقصود: هو الاختبار، وعند الابتلاء والامتحان يكرم المرء أو يهان، إما أن يكرم في النهاية أو يهان نتيجة لذلك، فابتلاهم الله وأعطاهم الدنيا، وأعطاهم ما كانوا يتمنونه من صحة في أبدانهم من المرض الذي وقع فيهم، وأعطاهم من المال ما اشتهوه وأرادوه، ثم كثر ونما، وهذا ابتلاء ظاهر جداً؛ لأنه في النهاية أتى إليهم الملك بصورة الشخص الفقير في المرض الذي كان هو فيه، حتى يذكره بذلك، فأتى إلى الأبرص بصورة رجل أبرص فقير، وأيضاً زيادة على الفقر عابر سبيل، وليس معه شيء، فهو في حاجة شديدة جداً، ثم زيادةً على ذلك سأله، وما اكتفى بالحال؛ لأن مثل هذا إذا رآه بعض أهل الخير يكفيه منظره ولا يتركه إلى أن يسأل، ولكن مع ذلك سأله، وسأله بالله وقال: أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، وأعطاك المال بعد الفقر، أسألك بعيراً أتبلغ به في سفري هذا، فقد انقطعت بي الحبال أي: الأسباب، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فهو سؤال بإلحاح، وبإظهار الحاجة الملحة، ومع ذلك أبى وقال: الحقوق كثيرة، ولو أعطيتك فيمكن أن أعطي الآخر والآخر ثم ينتهي المال، ولما قال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟ ألم تكن فقيراً؟ فقال: لا، هذا المال ورثته كابراً عن كابر، يعني: ورثه عن أجداده. وهكذا بالنسبة للأقرع، وعند كل واحد يقول الملك: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه، وفعلاً(5/279)
صير كليهما إلى ما كانا عليه؛ لأنهما كفرا بالله جل وعلا، ومن كفر نعمة الله عاقبه الله جل وعلا عاجلاً، وهذا هو العذاب العاجل. أما الثالث فإنه شكر الله، واعترف بالنعمة وقال: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله جل وعلا، انظر هذا المال، فخذ منه ما تشاء، والله! لا أجهدك في شيء أخذته اليوم لله، يعني: إذا أخذت شيئاً فأنا لا أطلب منك رده أو أن تترك بعضه، بل خذ ما تشاء، وعند ذلك قال له: أمسك عليك مالك، إنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك. فهذه القصة من الأمور الظاهرة الجلية التي فيها الآيات الذي يعرفها كل من سمعها، والمقصود أن يعتبر بها الإنسان، وكل إنسان لا يخلو من نعم الله جل وعلا.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [115]
نعم الله تعالى كثيرة، والواجب تجاه النعم هو الشكر، ومن نعم الله تعالى التي يجب شكرها: نعمة الولد، وشكرها هو القيام بأمر الله تجاهها، ومن ذلك تسمية الولد تسمية لا تعارض الشرع، فلا يجوز أن يعبّد لغير الله أبداً، لأن ذلك كفران لنعمة الله تعالى.
باب قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما ..)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190] ]. هذا الباب قريب من معنى الباب الذي قبله؛ لأن المقصود به أن شكر الرب جل وعلا على النعم الظاهرة أمر واجب، وإذا صرف الإنسان النعمة في غير طاعة المنعم فإن هذا يكون إما قدحاً في التوحيد وتنقيصاً له، أو إذهاباً بكماله، إما أن يكون من الشرك الأكبر أو يكون من الشرك الأصغر الذي يقدح في توحيد الإنسان، وفي درجته عند الله، وفي عمله، ولا يخلو منه الناس اليوم وقبل اليوم ودائماً. ......
نعمة الولد(5/280)
وقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) الصالح إما أن يكون صالحاً في البدن وهو الظاهر، أي: ليس فيه عيوب، وليس مشوهاً، وإنما هو مخلوق من بني آدم سوي كامل الخلقة، وسيأتي أن المؤلف استنتج من هذا أن البنت إذا ولدت لإنسان فإنها من نعم الله، ويجب أن يشكر الله عليها؛ لأنها لم تكن مولوداً مشوهاً أو ذاهب العقل أو ذاهب بعض القوى، أو غير كاملة الخلقة، بل هي نعمة من النعم التي يجب أن يشكر الله عليها. والناس اليوم أقسام في هذا، فمنهم من يعمل أعمالاً منذ أن يعرف أن الزوجة حملت، فيتردد بها على المستشفيات، ويحدث في هذا أموراً غير مشروعة: من كشف العورات، ومباشرة الطبيب للمرأة من غير حاجة، ثم في النهاية إذا ولد المولود يقول: نحن قمنا بالأسباب حتى جاء المولود في الوقت المناسب وعلى الوضع المناسب، وهذا نوع من كفر النعمة، فالطبيب وغيره ليس لهم دخل في هذا، فإن هذا كله من الله. وقسم أعظم من هذا، ويوجد في بعض المجتمعات الإسلامية وللأسف، فإذا كانت المرأة عاقراً لا يولد لها تذهب إلى قبر من القبور التي يقال عنها: قبور أولياء، ثم تستنجد به وتقول: أريد ولداً، وربما تحمل بتقدير الله جل وعلا وإرادته، فينسبون ذلك إلى هذا الولي، وأنه بواسطة الولي الذي استغاثوا به وطلبوا منه، فهذا من الشرك الأكبر الذي ينافي التوحيد، نسأل الله العافية. وقسم آخر أقل من هذا، ولكن المقصود أنه إذا ولد للإنسان مولود سواء كان ذكراً أو أنثى، وكان تام الخلقة، صالحاً في بدنه، ليس فيه تغيير في خلقته، فإن هذه نعمة كبيرة يجب على الوالدين أن يشكراها. وقعت قضية في بعض المستشفيات حديثاً، وفيها عبرة للإنسان الذي يعتبر.. كان رجل من الناس رزقه الله عدداً من البنات، ثلاثاً أو أقل أو أكثر، وفي الحمل الأخير قال لزوجته: إن أتيت ببنت فأنت طالق! فالمرأة الضعيفة المسكينة ذهبت إلى المستشفى فوضعت، وإذا بالمولود بنت، فصارت تبكي، فسألوها: ما السبب؟(5/281)
فأخبرتهم، وكان هناك طبيب عاقل، فقال للموظفين: إذا أتى الزوج فأرسلوه إلي قبل أن يرى زوجته أو يرى بنته، فجاء إليه، وكان يوجد في المستشفى مولود ذكر مشوه في خلقه، فأخذه وذهب به إليه وقال: أنت القائل كذا لزوجتك؟ فإن الله قد عاقبك، فتعال وانظر، فذهب به إلى المولود المشوه، فلما رآه صار يبكي كثيراً، فقال الطبيب: هذا عقابك على ما قلت، فقال: لن أعود لمثل هذا، ثم قال له: أما الآن فليس هذا ولدك، ولدك هي بنت صالحة، واحمد الله واستغفر مما وقعت فيه، فصارت موعظة له. فالمقصود: أن الولد إذا كان صالحاً في بدنه سواء كان ذكراً أو أنثى نعمة كبرى يجب على الأب أن يشكر ربه عليها، وقد كان يمكن أن يكون رأسه رأس كلب، أو يكون له رأسان، أو لا يكون له رأس أصلاً، أو لا يكون له رجل، والحوادث كثيرة في هذا، والإنسان يجب أن يعتبر؛ ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لأقربائها سألت عنه: هل هو صالح؟ هل هو كامل الخلقة ليس فيه عيوب؟ ولا تسأل: هل هو ذكر أم أنثى؟ فإذا قيل لها: نعم، قالت: الحمد لله، أي: الحمد لله على هذه النعمة الكبرى.
تفسير قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً)(5/282)
قوله جل وعلا: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) آتاهما مثنى، وفي هذه الآية قولان للمفسرين: أحدهما: وهو مشهور جداً، وهو أكثر ما يذكره المفسرون، وبعض المفسرين لا يذكره إلا هو، وهو: أن الخطاب يعود إلى أبوي البشر آدم وحواء، وأن المقصود بذلك آدم وحواء، وذكروا حديثاً رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آدم عليه السلام وزوجه كان يولد لهما مواليد فيسميانهم بعبد الله وعبد الرحمن وعبد الأحد - يعني: يعبدونهم لله جل وعلا- وكانوا يموتون، فأتاهم الشيطان فقال: سمياه عبد الحارث وإلا سأجعل في رأسه قرني أيل -والأيل معروف وهو الوعل- فيشق بطنك أو لا يخرج، فأبيا أن يسمياه بذلك، فولد ميتاً، ثم الثاني كذلك، ثم بعد ذلك أدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فخرج سوياً)، قالوا: فهذا الحديث يفسر هذه الآية: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا أي: صالحاً في بدنه ليس فيه عيب، وليس له قرون أيل لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:189-190]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا القول غير صحيح. وقد صحت الأسانيد عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أنه آدم وزوجه، ولكن يقول ابن كثير : الظاهر أن هذا مأخوذ عن أهل الكتاب، وأما الحديث فعلله ابن كثير بعلل ثلاث: العلة الأولى: أنه من رواية عمر بن إبراهيم ، وعمر بن إبراهيم البصري قال أبو حاتم : لا يجوز الاحتجاج به، ولا يجوز الأخذ عنه، فهو ضعيف، ولكن هذا التعليل غير سليم؛ لأنه جاء من رواية غيره. العلة الثانية: أنه جاء موقوفاً، ويجوز أن يكون المرفوع وهماً من بعض الرواة. العلة الثالثة: أنه من رواية الحسن البصري ، والحسن البصري صح عنه ما يخالف(5/283)
هذا، فقد قال: هذا ليس في آدم، هذا في بني آدم من المشركين، وهذا يدل على أن الحديث لم يصح عنده، إذ لو صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خالفه، والحسن البصري رحمه الله معروف بالورع وبالعلم وبالتقى، فلا يجرؤ على مخالفة حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال الحافظ ابن كثير : ونحن على مذهب الحسن البصري ، وقد برئنا من عهدة الحديث المرفوع، يعني: أنه ضعيف فلا يؤخذ به. وأما الآثار المروية فيقول: الظاهر أنها مأخوذة عن أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من علماء أهل الكتاب الذين كثر النقل عنهم، وملئت كتب التفسير من أقوالهم، وبعضها مخالف لما في كتاب الله جل وعلا. القول الثاني: أن المقصود جنس الزوج والزوجة، فهو خطاب لجنس الزوج والزوجة، وهذا هو الأقرب، وهو الصواب والله أعلم؛ لأن آدم عليه السلام لا يجوز أن يشرك بالله جل وعلا بعدما وقع فيما وقع فيه من إخراج الشيطان له ووسوسته له، فقد عرفه، فكيف يأتيه ويقول له: أنا أفعل كذا، وأجعل له قرن أيل في بطنك؟ وهل الشيطان يستطيع أن يفعل ذلك؟ وآدم عليه السلام أعلم بالله جل وعلا، وأتقى لله جل وعلا من أن يطيع الشيطان في هذا، فلا يجوز أن ينسب هذا إلى آدم، لاسيما على قول كثير من العلماء: إن الأنبياء معصومون، وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: هل آدم نبي؟ فقال: (نعم نبي مكلم) أي: كلمه الله جل وعلا، فهو رسول إلى بنيه. إذاً: المقصود بالآية الزوج وزوجته، ولو لم يقع ذلك بالقول من الزوج؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بالله، إذا أحس بأن زوجته قد حملت فإنه يسأل ربه جل وعلا أن يكون ولده صالحاً. وصلاح الأولاد يشمل أمرين: أحدهما: صلاح الخلقة والبدن والصورة، أي: يكون صالحاً في خلقته وصورته، سليماً من العاهات التي تشوه. الأمر الثاني: أن يكون صالحاً في دينه وفي فطرته وفي اتجاهه إلى الله جل وعلا.
حكم تعبيد الأسماء لغير الله(5/284)
إذا ولد لكثير من الناس مولود قد يعبدونه لغير الله، والتعبيد إما أن يكون ظاهراً بالتسمية، كأن يسميه مثلاً: عبد النبي أو عبد الكعبة، أو عبد علي، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك كما هو معروف لمن قرأ في تاريخ العرب، فكثيراً ما نسمع التعبيد لغير الله، ومن الأسماء المشهورة: عبد الدار، عبد المطلب، عبد شمس، عبد اللات، عبد مناة، وهذا كثير جداً، فيعبدونهم إما بالأصنام التي يعبدونها أو بغيرها، فهذا شرك في الربوبية، ويتبعه الشرك في الإلهية، وهذا هو المقصود بالآية، فالله هو الذي تفرد بخلق هذا المولود من نطفة، ثم نقله في الأطوار التي تكون في بطن الزوجة طوراً بعد طور، نطفة ثم علقة -والعلقة هي قطعة دم- ثم مضغة -والمضغة قطعة لحم- ثم بعد ذلك يجعل له الأعضاء والجوف والقلب والعين والرأس وغير ذلك، فهل الزوج والزوجة لهما دخل في هذا أو أحد من الخلق كالطبيب أو غيره؟ هذا كله من الله جل وعلا، فهو الذي يصوركم في بطون أمهاتكم، وهو الذي تفضل بذلك، فإذا ولد المولود سليماً صالحاً فإما أن يعبد تعبيداً ظاهراً لله، أو يعبد للدنيا أو لأمور أخرى، وهذا يصرفه عن عبادة الله جل وعلا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) كالبهيمة تولد سليمة لا تجد فيها جدعاء، فالعرب كانوا يقطعون آذانها؛ لأنها تولد كاملة الخلقة ليس فيها شيء، ثم يقطعون آذانها. فالمربي مثل الوالد والوالدة يصرف المولود عن عبادة الله جل وعلا بالتربية، وهذا من كفر النعمة، فمن فعل ذلك فقد قابل النعمة بالكفران، وهذا ذنب عظيم يجب ألا يقع فيه المسلم العاقل، قال جل وعلا: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) يعني: سليماً ليس فيه عيب في خلقته (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يعني: من المخلوق المولود، فيجعلا لله شركاء بالتسمية، كأن يسمياه مثلاً: عبد الحارث، أو عبد مناة، أو عبد اللات، أو عبد شمس، أو(5/285)
عبد علي، أو عبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك مما هو معروف بين الناس. فالمعنى: أن هذا مستمر في بني آدم، وليس المقصود به أبو البشر فقط، وهذا القول هو الراجح والله أعلم، وإن كان الشارح رحمه الله رجح القول الأول وقال: هو الذي يدل عليه سياق الآية، ولا ينبغي أن يحاد عنه، ولكن هذا اجتهاد منه رحمه الله، والاجتهاد قد يكون صواباً وقد يكون خطأً، والظاهر والله أعلم أن القول الثاني هو الصواب، وليس المقصود آدم، وإنما المقصود ذريته، أما التسمية فهي من جنس الزوج والزوجة، وهذا يقع فيه كثير من الناس، وليس المراد آدم وحواء؛ ولهذا قال جل وعلا: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ فجمع هنا؛ لأن المقصود بنو آدم من المشركين الذين يفعلون ذلك.
ضعف الحديث الوارد في أن المراد بالآية هو آدم وحواء(5/286)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عمرو بن إبراهيم قال: حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره). وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن إبراهيم . ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعاً وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ]. هذا من تساهل الحاكم رحمه الله، فإن عمرو بن إبراهيم ليس على شرط الشيخين؛ ولهذا فإن الترمذي رحمه الله مع تساهله قال: حسن غريب، والغريب عنده ضعيف، والحسن ليس من غير هذا الوجه، وكون الحاكم صححه لا يعتمد على تصحيحه، فقد صحح بعض الأحاديث الموضوعة، وهو كما يقول بعض العلماء: لم يحرر كتابه؛ لأنه ذكر في بعض كتبه بعض الرجال وقال: لا تحل الرواية عنهم مثل عبد الرحمن بن عسكر قال: لا تحل الرواية عنه، ومع ذلك روى عنه في المستدرك حديثاً وقال: إنه صحيح! فالمقصود أنه لا يعتمد على تصحيحه رحمه الله، فلهذا ينظر في ذلك، والصواب ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله: فقد خرجنا من عهدة الحديث، يعني: بالعلل التي ذكر كونه بها ضعيفاً، وهي علل قادحة في الحديث. قال الشارح رحمه الله: [ ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمرو بن إبراهيم به مرفوعاً. وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن : جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا [الأعراف:190] قال: كان هذا في بعض أهل(5/287)
الملل، ولم يكن آدم ]. وهذه هي العلة الثالثة، وهي كما قال الحافظ ابن كثير : قادحة، فلو صح الحديث عند الحسن لما خالفه.
الآثار الواردة في تفسير الآية
قال: [ وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثني يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا. وهذا إسناد صحيح عن الحسن رحمه الله. قال العماد بن كثير في تفسيره: وأما الآثار فقال محمد بن إسحاق : عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولاداً فتعبدهم لله، وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له غلاماً فسماه: عبد الحارث، ففيه أنزل الله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ .. [الأعراف:189]الآية ]. كون الشيطان اسمه: الحارث، هذا يحتاج إلى إثبات ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا شيء يثبت، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام)، ولو كان الشيطان اسمه الحارث لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولا جعل التسمية به جائزة في قوله: ( أصدقها حارث )، فيجوز أن يسمي الإنسان ولده حارثاً أو هماماً؛ لأن الحرث هو العمل، والهم هو عمل القلب. فالذي يظهر أن هذا منقول عن أهل الكتاب كما قال الحافظ ابن كثير ، أي: كون الشيطان اسمه الحارث، وكونه كان من عباد الملائكة، فهذا يحتاج إلى إثبات، والله جل وعلا ذكر في القرآن أنه من جنس آخر وليس من جنس الملائكة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة خلقت من نور، والله جل وعلا أخبر في القرآن أن الشيطان خلق من شواظ من نار، فهو من النار وليس من النور، فأصله من غير أصل الملائكة، وكذلك عمل غير عمل الملائكة، فكونه يسمى الحارث يحتاج إلى ثبوت، وليس هناك شيء(5/288)
يثبت به، وهذا مما يقدح أيضاً في هذه القصة، وليس الحديث دليلاً على أنه الحارث؛ لأن الحديث كما قال الحافظ ابن كثير : ضعيف. [ وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون، أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، إنه لغوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سوياً ومات كما مات الأول، فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190] ]. لو صح هذا لقال آدم: وأنت لا تدري أيضاً، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً؛ لأن هذا من صنع الله جل وعلا ومن فعله، فكيف يصدقه آدم عليه السلام وهو الذي قد علمه ربه جل وعلا أسماء كل شيء، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً؟! يقول ابن حزم رحمه الله: الحديث موضوع، والآثار هذه كلها خرافة، هكذا قال في كتاب الفصل في الملل والنحل لما ذكر هذه القصة، قال: هذه خرافة، والحديث موضوع، ولكن ابن حزم رحمه الله عنده جرأة في بعض ما يحكم به. [ وذكر مثله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن أبي حاتم ، وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وجماعة من الخلف، ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة ]. وإن كان تلقاه أصحاب ابن عباس عنه، وتلقاه التابعون وأتباعهم عنهم، فلا يخرج هذا عن كونه مأخوذاً من أهل الكتاب، فآدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلمه أسماء كل شيء، ثم لما وقع في الخطيئة تلقى من ربه كلمات وتاب عليه، واجتباه وهداه، ثم بعد ذلك يقع في الشرك؟ هذا بعيد جداً، وإن كان الشارح لما ذكر قول ابن كثير قال: هذا بعيد جداً، فالبعيد جداً هو ما صححه الشارح رحمه(5/289)
الله. [ قال العماد بن كثير : وكأن أصله -والله أعلم- مأخوذ من أهل الكتاب، قلت: وهذا بعيد جداً.].
تحريم كل اسم معبد لغير الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب ]. هذا قاله ابن حزم في كتابه: مراتب الإجماع، والظاهر -كما قال الشارح- أنه يقصد بالاتفاق الإجماع، والإجماع إذا ذكر، فالمقصود به إجماع من ينضبط إجماعه من علماء الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين القريبين من عهدهم الذين يمكن أن يحصر قولهم، أما بعدما انتشر العلماء في أقطار الأرض فيصعب أن يقول الإنسان: أجمعوا على هذه المسألة؛ لأن الاطلاع على أقوالهم وما قالوه في ذلك صعب، وابن حزم له كتاب اسمه: مراتب الإجماع، ذكر فيه الأمور التي أجمع عليها العلماء، وقد ذكر هذا الكتاب أو جله في أول كتابه المحلى، وهو كتاب مستقل. وقوله: ( اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله جل وعلا، كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب ) معنى قوله: أن التعبيد لغير الله محرم، وأنه مجمع على تحريم ذلك، وأنه لا يجوز أن يسمى أحد من بني آدم عبداً لمخلوق، سواء كان المخلوق عاقلاً أو غير عاقل، كأن يكون عبداً للحجر أو عبداً للشجر أو عبداً للكعبة أو عبداً لموضع أو لغير ذلك؛ وذلك لأن هذا من الشرك الظاهر؛ لأن العبودية يجب أن تكون لله جل وعلا، وإذا قيل: هذا عبد كذا، فهذا يعني أنه يعبد هذا الذي أضيف إليه، والعبادة يجب أن تكون لله جل وعلا، ولا يجوز أن تكون لغيره، هذا هو وجه الإجماع على تحريم التعبيد لغير الله جل وعلا. ......
حكم التسمي بعبد المطلب(5/290)
ومعنى قوله: ( حاشا عبد المطلب ) أن عبد المطلب فيه خلاف، فهو غير داخل في ذلك؛ والسبب في هذا كما قالوا: أن عبد المطلب ليس من عبودية الخضوع والذل، وإنما هو من عبودية الرق، وهو غير تسمية، فلم يسمه أهله بذلك، وإنما توهم ذلك توهماً؛ بسبب أن والده هاشم تزوج من بني النجار في المدينة، فولد له عبد المطلب واسمه: شيبة الحمد ، هذا هو اسمه العلم، ويقال: إنه لما ولد وجد في رأسه شعرة بيضاء، فسمي شيبة ، فتوفي والده وهو عند أخواله، يقول أهل النسب: إن أخواله قد اشترطوا على أبيه أن تكون الولادة عندهم، فبقي بعدما توفي والده عند أخواله حتى بلغ قريباً من سن الرشد، فأتى إليه عمه المطلب أخو أبيه؛ لينقله إلى أهله وإلى بلده مكة، فأردفه خلفه، وأصابته الشمس فتغير لونه، فلما دخل مكة به رأوه رديفاً له فقالوا: هذا عبد المطلب ، ونُسي اسمه العلم، وصار يسمى بذلك، وهذا معنى كلام ابن حزم : فإن مثل هذا الاسم ما قصد للتعبيد. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أنا ابن عبد المطلب)، وهو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالده هو عبد الله ؛ فلهذا أخرجوه عن الدخول في الإجماع، والنظر الواقع أنه لا معنى لإخراج هذا، بمعنى أنه لا يجوز أن يسمى: عبد المطلب؛ لأن المطلب شخص مخلوق، والذي يخرجه عن الإجماع لا يجعله مثل عبد علي أو عبد الحسين أو غير ذلك، وقد كان يوجد في قريش بنو عبد الدار وبنو عبد مناف وبنو عبد شمس، وأخبار قريش معروفة، ولكن هذه كانت في الجاهلية؛ ولهذا يذكر هذا في أنساب الصحابة رضوان الله عليهم. في الصحيحين أنه قيل لأحد الصحابة: فررتم يوم حنين، فقال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت ولم يفر، وقد كان المشركون سبقوهم إلى المكان، وكانوا رماة، فأمطروا عليهم النبل، فهزموا، فركب الرسول صلى الله عليه وسلم بغلته، والبغلة لا تركب في الحرب، فجعل يقول: (أنا ابن عبد المطلب، أنا النبي لا كذب)، ويتقدم ويقول(5/291)
(اللهم أنزل نصرك)، وأمر العباس أن ينادي؛ لأنه كان صيتاً فقال: (يا أصحاب سورة البقرة! يا أهل بيعة الشجرة!) فمن سمع صوته حاول أن يرجع، فإن أبى بعيره الرجوع أخذ سلاحه، وألقى بنفسه من على ظهره ورجع، فرجعوا وقاتلوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآن حمي الوطيس) ويقال: إن أول من قالها هو صلى الله عليه وسلم في تلك الوقعة، والمقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) خبر عن شيء مضى ووقع، وكذلك غيره، ولا يدل هذا على جواز التسمية بعبد المطلب. وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب: أن أحد الصحابة اسمه: عبد المطلب ، لكن هذا غير صحيح، كما ذكره الحافظ بن حجر في الإصابة وغيره من العلماء، والصواب أن اسمه: المطلب ، وليس عبد المطلب، ولا يوجد في الصحابة من اسمه: عبد المطلب، وأن الذي سماه عبد المطلب من الرواة قد أخطأ في ذلك، فاسمه: المطلب . أما ما جاء في صحيح مسلم : أن ابن عبد ركانة طلق زوجته ألبتة، فهذا جاء بالتنوين ( ابن عبدٍ ) ، ولم يأت بالعبودية، وهذا الذي صححه العلماء، فيكون ما استثناه ابن حزم رحمه الله لا معنى لإخراجه، فالصحابة اتفقوا على تحريم تعبيد الاسم لغير الله جل وعلا، فكل اسم لا يجوز أن يعبد لغير الله، فيجب أن تكون العبودية لله جل وعلا، وإن كانت هذه العبودية عبودية ظاهرة؛ لأنه لا يلزم إذا سمي عبد الله أن يكون عبداً لله، بل قد يكون عبداً للشيطان، ولكن هذه تسمية أهله، ويجب أن يسميه أهله معبداً لله جل وعلا، ويحرم أن يسموه عبد مخلوق من المخلوقات؛ وهذا لأن الله جل وعلا يقول في هذه الآية: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء [الأعراف:190] فيكون داخلاً في القصة المذكورة التي وقعت لبعض بني آدم ممن ولد له ولد صالح فجعل لله فيه شركاء بأن عبده لغير الله.
نسب عبد المطلب وسبب تسميته بذلك(5/292)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ ابن حزم هو عالم الأندلس أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري ، صاحب التصانيف، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة، وله اثنتان وسبعون سنة. وعبد المطلب هذا هو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم ]. ونسبه إلى عدنان متفق عليه بين أهل النسب ولا خلاف فيه، ولكن منه إلى إسماعيل لا يعلمه إلا الله، ويقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ابن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وكذلك قريش، وأكثر العرب هم بنو إسماعيل؛ لأن العرب ينقسمون إلى قسمين: عرب أصلهم يعرب بن قحطان بن هود من ذرية هود عليه السلام، وهود عربي، وأنبياء الله أكثرهم عجم غير عرب، والعرب منهم أربعة فقط، وقد جاء هذا في حديث فيه ضعف، ولكن هذا الأمر مشهور. قال الشارح رحمه الله تعالى: [حكى رحمه الله اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله تعالى؛ لأنه شرك في الربوبية والألوهية؛ لأن الخلق كلهم ملك لله، وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته، وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولابد، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93] فهذه هي العبودية العامة. وأما العبودية الخاصة فإنها تختص بأهل الإخلاص والطاعة، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]ونحوها. قوله: ( حاشا عبد المطلب ) هذا استثناء من العموم المستفاد من (كل)، وذلك أن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيها؛ لأن أصله من عبودية الرق، وذلك أن المطلب أخا هاشم(5/293)
قدم المدينة، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج؛ لأن هاشماً تزوج فيهم امرأة فجاءت منه بهذا الابن، فلما شب في أخواله وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته، فقدم به مكة وهو رديفه، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر فحسبوه عبداً للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب ، فعلق به هذا الاسم وركبه، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به، فلم يبق للأصل معنى مقصود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب)، وقد صار معظماً في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في الجاهلية، وهو الذي حفر زمزم، وصارت له السقاية ولذريته من بعده. وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بني عبد المطلب ، وتوفي في حياة أبيه. قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتابه ( الدرة السنية في مولد خير البرية ): كان سن أبيه عبد الله حين حملت أمه آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر عاماً، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمراً لأهله، فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار، والنبي صلى الله عليه وسلم حمل على الصحيح. انتهى. قلت: وصار النبي صلى الله عليه وسلم لما وضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب . قال الحافظ الذهبي : وتوفي أبوه عبد الله وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهراً، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: وهو حمل، توفي بالمدينة، وكان قد قدمها ليمتار تمراً، وقيل: بل مر بها راجعاً من الشام، وعاش خمساً وعشرين سنة، قال الواقدي : وذلك أثبت الأقاويل في سنة وفاته. وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم، وقيل: ابن أربع سنين، فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب . انتهى ].(5/294)
العبودية قسمان
ذكر الشارح أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية عامة تشمل الخلق كلهم، كما في الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، وهذا يشمل المؤمنين والكافرين، ويشمل العاقل وغير العاقل، ومعنى هذا: أنهم معبدون، تجري عليهم أحكام الله وأقداره بدون اختيارهم، فهو خلقهم، وتعبدهم بقدره وخلقه وأمره الكوني القدري، فكل مخلوق هو عبد لله بمعنى أنه خاضع له، خاضع للقدر الذي قدره عليه وقضاه، وليس معنى ذلك أن يكون عابداً. المعنى الثاني: أن يكون عابداً، أي: تصدر العبودية منه، وهذا هو الذي ينفع، وهو الذي كلف به الجن والإنس، أن يكونوا عبيداً لله تصدر منهم العبادة من الخضوع والذل وفعل المأمور واجتناب المحذور، وهذ هي التي يترتب عليها الثواب وعلى تركها العقاب، أما الأولى فيدخل فيها كل مخلوق لله جل وعلا حتى الجمادات من السماوات والجبال والشجر والنجوم وغيرها، فكلها مذللة مسخرة لله جل وعلا، فهي عابدة لقهره وقدره وخلقه وتدبيره. أما كون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه ابن عبد المطلب، فهذا من باب الخبر الذي وقع وتعارف عليه الناس وانتهى ولا يمكن تغييره، وليس في ذلك إقرار بهذه العبودية.
خلاف العلماء في حكم التسمي بعبد المطلب(5/295)
قول ابن حزم رحمه الله: ( حاشا عبد المطلب ) بعد قوله: ( اتفقوا على تحريم تعبيد كل اسم لغير الله جل وعلا ) يعني: أنه لا يجوز أن يعبد مخلوق لغير الله، بأن يقال مثلاً: عبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد علي، أو عبد الحسن، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك، بل يجب أن يعبد لله، وقوله: ( اتفقوا ) يعني: أجمعوا على ذلك، والإجماع معروف أنه أحد الأصول التي يرجع إليها في إثبات الأحكام، وهو لابد أن يستند إلى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإخراج عبد المطلب من هذا الإجماع فيه نظر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب؛ لأن هذا من المحرمات، كما أنه لا يجوز أن يسميه عبد مناف أو عبد الدار أو عبد شمس، وهذه كانت أسماء لأناس من قريش من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها أسماء وقعت في الجاهلية، وهي محرمة، وأصبح النسب إليها شيء ثابت لا يغير، فليس عبد المطلب خارجاً مما ذكر ابن حزم . أما كونه ذكر أنه من باب عبودية الرق، وليس من باب العبادة، فهذا سبب تسميته بذلك، والآن يعرف بعبد المطلب، والمطلب رجل معروف، فلا يطلق عليه عبودية مطلقة، والعبودية لا يجوز أن تكون إلا لله جل وعلا.
كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم وحفره لزمزم(5/296)
ما ذكر الشارح من حمل الرسول صلى الله عليه وسلم وولادته، وكذلك وفاة أبيه ووفاة أمه، هو مختلف فيه بين أهل التاريخ والسير، ولكن من المتفق عليه أنه توفي والده وهو صغير، سواء كان حملاً أو بعدما كان له سنتان وستة شهور أو نحو ذلك، وكذلك والدته اختلفوا في عمره وقت وفاتها، فقيل: إنه بعدما بلغ أكثر من ست سنوات، وقيل: بعدما بلغ أربع سنوات، ومن المعلوم أن الذي كفله بعد وفاة والده هو عبد المطلب ، ثم بعد ذلك جعله إلى عمه أبي طالب ، وأبو طالب هو عمه، وعبد المطلب هو جده. ثم ذكر أنه هو الذي حفر زمزم، فكانت زمزم قد دفنت، ولم يعلم أين هي، فحفرها بعدما رأى رؤيا، كما هو معروف، فاستخرجها وصارت تنسب إليه، وصار هو أحق بها، ولهذا صارت سقاية الحاج في ذريته، وإلا فزمزم قديمة جداً، ظهرت بجبريل عليه السلام لما وضع إبراهيم صلى الله عليه وسلم هاجر أم إسماعيل في ذلك المكان وليس فيه أحد، وولى منصرفاً إلى الشام، تركها مع ابنها وصارت تناديه: يا إبراهيم! لمن تتركنا هاهنا وتذهب؟ وهو لا يلتفت إليها ولا يكلمها، فلما رأت ذلك قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، فرجعت وقالت: إذن لا يضيعنا الله، وصارت ترضع ابنها حتى نفد ما معها من ماء وطعام، فعطش الابن ثم أدركه الموت، فكرهت أن تنظر إليه وهو يموت، فنظرت إلى أقرب مرتفع إليها وهو جبل الصفا الذي هو أسفل جبل أبي قبيس، فصعدت عليه لعلها ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت وقصدت المروة لتصعد عليه لعلها ترى أحداً؛ لأنها في كرب، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وكانت إذا وصلت الوادي تسعى سعي المجهود، وفي الأخير سمعت صوتاً، فالتفتت ونظرت فلم تر أحداً، ثم قالت: لقد أسمعت فأغث إن كان عندك غوث، فنظرت فإذا برجل عند الصبي، فذهبت إليه وإذا هو جبريل عليه السلام، فقال لها: لا تخافي فإن هذا الصبي سيبني مع والده بيتاً لله جل وعلا في هذا المكان، فبحث الأرض بطرف جناحه، فنبع الماء، وصار عيناً(5/297)
جارية، فصارت تحجره بالتراب فوقف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركته لصار عيناً معيناً) يعني: لأصبح عيناً تجري، ولكنها حجرته فاحتجر، فهذا أول مبدأ زمزم، وهذا قديم من زمن إبراهيم عليه السلام. والمقصود: أن حفر عبد المطلب لزمزم كان بعد فترة طويلة جداً من وجودها؛ لأنها دفنت لما حصلت الحروب بين جرهم وبين قريش وغيرهم. ثم إن هذا التعبيد الذي لا يجوز أن يعبد لمخلوق لا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك وقال: (أنا بن عبد المطلب)؛ لأن هذا من باب الخبر عن شيء واقع ماضٍ ولا يمكن تغييره، وهو من باب النسب، والنسب ذكر في النص على ما هم عليه في أنسابهم. وأما قوله كما في صحيح البخاري : (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة) فهذا ليس إقراراً لعبودية الدينار والدرهم والخميلة والخميصة ولكنه إنكار لذلك، وإخبار بأنه ستناله التعاسة والشقاء، فلا يكون دليلاً على أن الإنسان يعبد لغير الله جل وعلا؛ لأن هذا خرج من باب الذم والتحذير، كما أنه وصف لمن يقوم به، فالذي يعبد الدينار والدرهم لا يسجد له ولا يركع له ولا يدعوه، ولكنه يعمل من أجله، فيكون عمله له، فلهذا سمي عبداً له. فالمقصود: أن هذا من باب الذم والتحذير من هذا الفعل، وهو يقع في كثير من الناس، وكثير من الناس يعبد الشيطان فضلاً عن عبادة الدرهم والدينار. ولا يجوز أن يُعبّد المخلوق لمخلوق، بل يجب أن تكون العبودية لله مطلقاً. قوله: (حاشا عبد المطلب): هذا استثناء من العموم، وذلك لأن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيه؛ لأنه مأخوذ من عبودية الرق، والمعنى: أن (عبد المطلب) لم يتفقوا على أنه من التعبيد المحرم، وليس معنى ذلك أنه جائز، بل المعنى: أن فيه خلافاً؛ لما ذكر أن السبب في التسمية هو أنها من باب عبودية الرق، كما ذكر أنه قدم به من المدينة مردفاً له خلفه على راحلته وقد أصابته الشمس وتغير(5/298)
لونه، فظنوا أنه مملوك أو أنه اشتراه، فقالوا له ذلك، ثم نسي اسمه (العلم)، وهو (شيبة ) ؛ وقد سمي بذلك لأنه لما ولد وجد في رأسه شعرة بيضاء فسمي: شيبة . وقد ذكر بعض العلماء: أن في الصحابة من اسمه عبد المطلب ولكن هذا غير صحيح، والصواب: أن هذا خطأ ممن نقله، والصواب: أنه المطلب، ففيهم: المطلب بن حاطب بن حنظل ، أما عبد المطلب فليس موجوداً، أي: ليس في الصحابة من اسمه: عبد المطلب. أما ما جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي طلق زوجته ألبتة فسمي: (عبد ركانة)، فهو ليس هكذا بالإضافة وإنما هو بالتنوين، فلا يكون من باب العبودية. ......
بيان أن قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً...) ليس المراد به آدم وحواء(5/299)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: (لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعونني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن، يخوفهما، سمياه: عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله: (( جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ))[الأعراف:190])رواه ابن أبي حاتم . و له بسند صحيح عن قتادة قال: (شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته). وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا [الأعراف:189] قال: أشفقا ألا يكون إنساناً. وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما ]. هذه القصة كما ذكر أنها رويت عن السلف، ويكون على هذا تفسير الآية: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأعراف:189] يعني: آدم، ومعلوم أن الله جل وعلا خلق آدم من التراب كما ذكر لنا ربنا جل وعلا، وهذا جاء كثيراً في القرآن، وهو أمر مقطوع به، ومما يعجب له الإنسان وهو من أعجب العجب: كون الكثير من أبناء المسلمين يتركون ما ذكره الله جل وعلا مع ظهوره ووضوحه، ويأخذون بنظرية يهودي خبيث حانق على الإسلام وعلى أهله، ويريد أن يفسده، فيأتي بنظرية من أغرب ما يكون، فيقول: إن الإنسان أصله قرد، ثم إنه تطور؛ لأن الخلق يتطور شيئاً فشيئاً ... إلى آخره! فهذا كفر من الإنسان الذي يعرف هذه الأشياء ويعلمها ثم يقول ذلك، وهذا كفر بالله جل وعلا. فالمقصود أن قوله: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) يعني: جامعها، والضمير يعود إلى آدم وحواء، (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) يعني: أنها حملت بالولد فأصبحت لا تحس به لخفته، (فَمَرَّتْ بِه) يعني: استمرت به ومشت به ومضت وقتاً، (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) يعني: كبر ابنها في بطنها وصار له ثقل:(5/300)
(دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا) يعني: آدم وحواء، (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا) يعني: رجلاً سوياً على صورتهما، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) * (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء) يعني: أنهما سمياه عبد الحارث، وهذا تفسير باطل، ولا يجوز أن يعتقد، ولا يجوز أن يكون هو معنى كلام الله جل وعلا، وإن روي بهذه الأسانيد وقيل: إنه صحيح. ولهذا يقول ابن حزم رحمه الله في كتابه (الفتن): هذه خرافة موضوعة وضعها بعض الزنادقة من أهل الكتاب عن المسلمين، وهذا أمره واضح، وذلك أن آدم عليه السلام نبي كريم، وقد وقع فيما وقع فيه من الخطأ والمعصية التي واقعها في الجنة قبل هذه الحادثة على تقدير ذلك لما وقعت من آدم، والله جل وعلا أخبر أنه نسي العهد الذي عهد إليه في الشجرة، وجاءه الشيطان وصار يقسم له بالله: إنه له ناصح، وما كان يعتقد أن أحداً يقسم بالله وهو كاذب، ولهذا لما تبين له الخطر رجع إلى ربه وتاب وأناب، وهو أمر قدره الله عليه جل وعلا ولابد من مضيه فتاب من فعله، ثم أهبط .. فكيف يأتيه الشيطان مرة أخرى وهو في الأرض؟! ثم مع ذلك يقول له: (أنا صاحبكما الذي أخرجتكما)، هل هذا يعقل؟! لو قال هذا لكان آدم رجمه، وهذا لا يدعو إلى أنهم يطيعونه، وليس الولد داع إلى أن يشرك بالله جل وعلا أبداً، وآدم رسول لا يمكن أن يطيع الشيطان ويعمل ذلك. فالمقصود: أن هذا باطل، ولا يجوز أن يكون معنى كلام الله جل وعلا، وإنما معناه الصحيح: أن هذا جنس الرجل والمرأة من بني آدم، ومعلوم أن المولود يولد من ذكر وأنثى، فهو من جنس الناس الذين يشركون، وأما هذا المخلوق الذي هو الرجل والمرأة مع العقل الذي أوتي إياه من الله جل وعلا، وأن الله عهد إليهم بأن يعبدوه، ومنّ عليهم بأن خلق لهم زوجاً وقد خلقهم من نفس واحدة، كلهم خلقوا من نفس واحدة، وهذا له نظائر في القرآن: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] ..(5/301)
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، فهو يذكر ما منّ به على الزوج والزوجة، حيث إنه جعل من رحمته الرحمة بينهما والألفة بالزواج، ثم منّ عليهم بالأولاد، ثم هذه النعمة التي يعطيها الله جل وعلا إياهما يشركون بها، وهذا لا يجوز أن يقع من نبي وإنما يقع من بعض المشركين والجهلة، فالمقصود به جنس الزوج والزوجة، أي: الجنس غير المعين، الذي وقع منهم ما وقع فلما حصل لهم ذلك وتغشى الزوج زوجته فحملت فأثقلت، دعوا الله -الزوج والزوجة-: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء [الأعراف:189-190]. شركاء في أي شيء؟ شركاء بأن عبّدوه لغير الله، وعلموه أن يعبد اللات والعزى، أو يعبد الحجر والشجر، أو يعبد غير ذلك، مع اعترافهم بأنه هبة من الله، وأنه لا دخل لهذه المعبودات التي يعبدونها في تكوينه وخلقه وإيجاده. هذا هو الصواب في معنى الآية الذي ينبغي أن يكون عليه. أما هذه الرواية التي رويت عن السلف فيظهر أنها مأخوذة من أهل الكتاب، وما جانا عن أهل الكتاب وهو مخالف لما عندنا مما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن نصدقه، ولا أن نقبله، فضلاً عن أن يكون هو معنى كلام ربنا جل وعلا. أما أن يقال: كيف يقوله قتادة و مجاهد بل وروي عن ابن عباس ويكون باطلاً؟ هل يعقل هذا؟! فنقول: ولهذا قال طائفة من العلماء: هذا هو الصواب؛ لأنه روي عن هؤلاء السلف وهم الذين قالوا به، ولكن نقول: إذا كان هذا ثابت عن أهل الكتاب فإن الراوي يخرج من العهدة إذا ذكر ذلك، وليس ذلك تعييناً؛ والخطأ يجوز على كل إنسان ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء بعد النبوة معصومون من الوقوع في الشرك، وهذا شرك، وباتفاق العلماء: أن الأنبياء معصومون من الوقوع في الشرك، وآدم منهم، فلا يجوز أن يقع ذلك منه. وأيضاً:(5/302)
إن الشيطان طلب منهم أن يسموه عبد الحارث، وهذا يحتاج إلى دليل، وهل اسم الشيطان (الحارث)؟ وإذا كان معروفاً فهل يعقل أن آدم يعرف أنه الحارث ويأمره الشيطان بأن يسمي ابنه عبداً له فيطيعه؟! هذا لا يجوز أن يعتقده مسلم، فيجب أن يقدر آدم عليه السلام؛ لأنه نبي ينزه عن مثل هذا، وإنما هذا يقع لبعض المشركين الجهلة من بني آدم وهذا يحتاج إلى دليل لكون الشيطان هو الحارث وأن اسمه الحارث، وأنه كان من العبّاد وكان يسمى بذلك، والدليل على أنه لم يثبت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أصدق الأسماء حارث وهمام)؛ لأن الحارث هو العامل، والهمام هو الذي يهم، وأفضل الأسماء ما عبّد أو حمّد، وأصدقها حارث وهمام . فهل يمكن أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقها حارث وهو اسم الشيطان؟ لا يمكن، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء التي فيها مخالفة شرعية ولو كانت لجماد وحيوانات. ......
الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة(5/303)
قوله: [ وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ]. هنا نحتاج إلى معرفة الفرق بين الطاعة والعبادة، والشرك في الطاعة والعبادة. الشرك في الطاعة قد يكون شركاً في العبادة التي تتضمن الذل والخضوع، وقد لا يكون شركاً في العبادة؛ وذلك لأن الإنسان قد يطيع ظالماً معتدياً في أمره، إما خوفاً من سطوته أو غير ذلك، أو لرغبة في أمر من أمور الدنيا وهو يعرف أنها معصية، فتكون طاعته معصية وهي نوع من العبادة، ولكن ليست كالعبادة التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم؛ لأن هذه أركان العبادة: (أن يطيع ذالاً خاضعاً معظماً خائفاً راجياً). ثم كذلك: نحن ندرك أن هذا يطيع هذا وقلبه كاره له مبغض له، ويطيعه في أمر لا يجوز أن يطيعه فيه، فيكون القلب غير عابد له بل قد يلعنه في قلبه، بخلاف الذي يطيع رب العالمين. أما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو طاعة من يأمر بطاعة الله وينهى عن معصيته، فهذه لا تسمى طاعة عبادة، ولا تسمى عبادة لمن أمر، وإنما يطاع لأنه جاء بأمر الله. قال الشارح رحمه الله: [ قال شيخنا رحمه الله: إن هذا الشرك في مجرد تسمية لم يقصد حقيقتها، وهو محمل حسن، يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث، إنما هو مجرد تسمية، لم يقصدا تعبيده لغير الله. وهذا معنى قول قتادة : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ]. هذا لا يكفي في تبرير هذه الحكاية، وكونه شركاً في الطاعة وليس شركاً في العبادة؛ لأن الشرك في الطاعة شرك، ولا يجوز أن يقع من نبي من الأنبياء، ولو كان مثل هذا وقع لذكر الله جل وعلا التوبة، وأنه تاب منها؛ لأنه لا يجوز أن يقر عليها. ......
مسائل الباب
......
تحريم كل اسم معبد لغير الله(5/304)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل:- المسألة الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله ]. وهذا كما يقول ابن حزم : اتفقوا على هذا. يعني: لا يجوز أن يعبد الإنسان لغير ربه جل وعلا، فكل اسم فيه عبودية لغير الله يجب أن يغير، والذي فعل ذلك ارتكب محرماً؛ لأن هذا من الشرك الظاهر. [ المسألة الثانية: تفسير الآية ]. وقد مر تفسير الآية. [ المسألة الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها ]. يعني: أنه شرك طاعة وليس شرك عبادة، وقد عرفنا ما فيه.
البنت السوية نعمة من نعم الله(5/305)
[ الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم ]. وهذا مأخوذ من القصة نفسها، أي: من أنه يخشى أن يخرج المولود في غير صورة الإنسان، بل يجوز أن يخرج رأسه رأس حيوان أو له قرون أو مشوهاً أو ناقصاً أو زائداً، وقد شاهد الناس أشياء كثيرة من هذا القبيل، فإذا ولد للإنسان بنت خلقتها تامة وسوية فهي من النعم التي يجب عليه أن يشكرها. لماذا يقول هذا؟ لأن كثيراً من الناس لا يرضى بالبنت، ويرى أنه إذا ولد له بنت فقد أصيب بمصيبة، وهذا ورثوه من الجاهلية الذين يقول الله جل وعلا فيهم: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58-59]، مع أنهم -قبحهم الله- يجعلون الملائكة بنات الله، تعالى الله وتقدس، فهم يأنفون من أن تكون لهم الإناث وينسبون الإناث لله تعالى الله وتقدس، وإذا بشر أحدهم بالأنثى تصير هذه حالته: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [النحل:59] يعني: أنه إذا بشر أنه رزق بنتاً ينحرف من الناس ويذهب حتى لا يعير بذلك؛ لأنه بشر بأمر سيئ، ثم يصبح يفكر في نفسه ماذا يصنع: هل يمسكها على هون، أي: على إهانة وازدراء واحتقار يحتقرها ويهينها، أم يأخذها ويدفنها في التراب حيةً كما كانوا يفعلون؟ وهذا من الإجرام نسأل الله العافية. فمثلاً: قد تولد له بنت وعنده شيء من هذا الإرث القبيح؛ لأن البنت نعمة من النعم، وقد تكون البنت خيراً من الذكر، وأفضل وأصلح وأحسن وأبر، وكذلك قد تكون أنفع للإنسان من الذكر، ثم إذا احتسب ورباها وأنفق عليها وعلمها وأدبها يعظم له الأجر مما لو قام على ابنه. إذاً: آدم عليه السلام جعل هبة البنت للإنسان من النعم التي يجب أن يشكر الله عليها، فيجوز أن يكون المولود مشوهاً أو يخرج بصورة حيوان، أو مجنوناً لا عقل معه،(5/306)
ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود من أقاربها سألت عن خلقته: هل خلقته سوية؟ فإذا قالوا: نعم، قالت: الحمد لله على نعمته، ولا تسأل: هل هو ذكر أم أنثى؟ والإنسان يجب عليه أن يعتبر من حالة الجاهلية وحالة الكفار، ويحمد الله جل وعلا حيث عافاه من ذلك، فهي منة عليه منّ الله جل وعلا بها، أن جعله مسلماً سالماً من الشرك والكفر، ومن الظلم الذي يكون في المولود، الذي هو من أعظم الظلم، وقد قال الله جل وعلا: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] يعني: أنها تسأل أولاً -لعظم الأمر- فيقال لها: بأي ذنب قتلت؟ يسألها الله جل وعلا، فتقول: لا ذنب لي، طفلة صغيرة، لا تأكل ولا تعرف شيئاً، وهذا من أعظم الجهل، وأكبر الظلم، وقد كان من العرب من يفعل هذا خوفاً من العار، وخشية أن تزني بنته أو تسبى ويأخذها أعداؤه، وطائفة منهم تفعل ذلك خوفاً من الفقر، فكله جهل وظلم، وما جاء في سنن الدارمي في ذكر الحديث المتقدم يقول: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن أمر لقد أهمني وأغمني، فقال: نعم. قال: إنه كان لي ابنة، فلما سمعت الإجابة - يعني: أنها كبرت قليلاً- دعوتها يوماً فكانت لدعوتي سعيدة - يعني: أجابته بسرعة - يقول: فأخذت بيدها وذهبت بها إلى بئر بعيدة عن البيوت. يقول: فألقيتها في البئر، فآخر ما سمعت من كلامها أنها قالت: يا أبتاه! فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الحاضرون: ويلك أحزنت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعه يسأل عما أهمه) فكيف تطيب نفسه يلقي بنته في هذا البئر؟ لولا الشيطان والأوضاع التي كانوا عليها ما فعل، ورحمة الله على الإنسان الذي عافاه الله من السوء؛ لأن السوء هو الذي يكون ظاهراً جلياً، وقد يزين لبعض النفوس فيصير حسناً. [المسألة الخامسة: ذك السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة(5/307)
].
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [116]
إن من التوسل والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى أن يكون بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وذلك بعد إثباتها والإيمان بها، وعدم الإلحاد فيها، فإنه قد حذر الله سبحانه وتعالى من الإلحاد في أسمائه وصفاته -بأنواعه المختلفة التي ذكرها العلماء- وأمر بتوحيده.
باب قول الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] . ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ( يلحدون في أسمائه ): يشركون، وعنه: سموا اللات من الإله والعزى من العزيز، وعن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها ]. هذا الباب في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]. ويقصد المؤلف بهذا أن يبين أن التوسل يجب أن يكون بأسماء الله جل وعلا وصفاته، ولا يجوز أن يكون التوسل بمخلوق من المخلوقات، وأن عبادة الله جل وعلا تكون بأسمائه التي أمر أن يدعى بها. وفيه أيضاً: التحذير من الإلحاد في الأسماء والصفات؛ لأنه نوع من الكفر الذي قد يكون منافياً للتوحيد إذا كان إلحاداً بأسماء الله جل وعلا، والإلحاد أنواع كما سيأتي، وقد يكون أقل من ذلك فيكون منافياً لكمال التوحيد، فالإنسان لا يخلو من أن يكون موحداً وسالماً من الإلحاد فيكون مرتكباً لهذا الأمر وداعياً لله جل وعلا، وعابداًَ له بأسمائه وصفاته، مكملاً لتوحيده، أو يكون عنده نقص، إما بجهل أسماء الله جل وعلا وصفاته التي يجب أن يعبد بها، أو عنده شيء من الإلحاد في أسمائه وصفاته، فيكون ذلك تركاً لما هو واجب من التوحيد، أو ترك ركن منه فيكون ناقص التوحيد. أراد المؤلف رحمه الله هنا أن يبين ما يجب على العبد في هذا، وبالإضافة إلى أن الله(5/308)
جل وعلا جعل توحيده بأسمائه وصفاته نوعاً من أنواع التوحيد، لكن الظاهر هنا أنه يقصد بذلك توحيد العبادة؛ لأنه قال: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، والدعاء يقصد به العبادة، والعبادة هي التوحيد، فلا تكون عبادة شرعية نافعة إلا إذا كانت توحيداً. أي: خالصة لله جل وعلا، ليس فيها شيء لغيره. ......
معنى قوله: (ولله الأسماء الحسنى)
وقوله: ( ولله الأسماء الحسنى ) الجار والمجرور قدم على ذكر الخبر؛ ليبين أن هذا خاص بالله جل وعلا. والحسنى: هي التي بلغت الغاية في الحسن، ومعنى حسنى: أنها كملت في معانيها ومدلولاتها، وأنها سلمت من النقص والعيب، فلا يلحقها نقص ولا عيب، وهذا بخلاف أسماء المخلوقين.
معنى قوله: (فادعوه بها)(5/309)
وقوله: ( فادعوه بها ) أمر من الله جل وعلا أن ندعوه بأسمائه الحسنى. وكيف ندعوه؟ يعني: أن تكون دعوته بها، وهذا يكون في كل مطلب بما يناسبه، إذا كنت تطلب المغفرة فتدعوه باسمه الغفار والغفور، وإذا كنت تطلب الرحمة فادعه باسمه الرحيم والرحمن، وإذا كنت تطلب الرزق فادعه باسمه الرزاق والجواد والكريم، وهكذا في كل شيء تدعو بالاسم الذي يناسبه، وهذا معنى دعائه بها. فكذلك كل أمور الإنسان يجب أن تكون ملتمسة ومقترنة بهذه العبادة. يعني: أن يعبد الله بأسمائه. فمثلاً: إذا أراد عملاً من الأعمال يقول: باسم الله. يعني: أستعين بهذا الاسم الكريم، سواءً كان يأكل أو ينام أو يعمل عملاً من أمور الدنيا أو غيرها، وقد يكون هذا واجباً في بعض الأفعال، مثل الذبيحة، فإذا أردت أن تذبح ذبيحة فيجب أن تسمي وتذكر اسم الله، وهذا نوع من عبادة الله وذكره بأسمائه الحسنى. وكذلك عند الأكل وغيره فهو داخل في الأمر، فكل أفعال الإنسان التي يكون فعلها طاعة، يجب أن تكون مكتملة بدعاء الله جل وعلا باسمه، سواء قصد بالدعاء جلب نفع أو استعانة، أو تقرب إليه جل وعلا بالذبيحة، أو فعل شيء مباح كالأكل والدخول والمشي والجلوس وأعمال الدنيا، وغيرها، فحياة الإنسان لا تنفك عن هذا الأمر، ولكن يجب أن يكون متنبهاً له وقاصداً له؛ لقوله جل وعلا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ومعنى ذلك: أن هذه العبادة لا ينفك المؤمن عنها في حال من الأحوال، فدائماً تكون معه، ويجب أن يتنبه لهذا ويقصد ذلك ويريده حتى يثاب عليه، وبعضها يكون واجباً، وبعضها يكون مندوباً.
معنى قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه)(5/310)
وقوله جل وعلا: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ): (ذر): اترك. أي: اتركهم، ولا يهمك أمرهم فإنهم صائرون إلى الله فمجازيهم بما يستحقونه، وليس معنى ذلك أنهم لا يكلمون ولا يدعون إلى الحق ويحذرون من الباطل، بل يؤخذ من هذا: أنهم لا يجادلون في إلحادهم، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يقطعون مجادلة الملحدين الذين يلحدون في أسماء الله، بل وينهون عن ذلك أشد النهي؛ لأن هذا فيه نصر لإلحادهم، وفيه إقرار لهم على ذلك، وقد يكون في مجادلتهم ومسالمتهم فتنة لغيرهم ممن يسمع ولا يتخلص من الشبه التي يلقونها، فإذا تركوا كان ذلك مدعاة لأن يموت مذهبهم ويهجر. فقوله: ( وذروا الذين يلحدون ) يفهم منه: التهديد والوعيد. (يلحدون في أسمائه): الإلحاد: هو الميل والعدول عما قصد بها، وهو مأخوذ من اللحد، ومنه لحد القبر؛ لأنه يحفر مائلاً عن سمت الحفرة إلى جهة القبلة حتى يوضع به الميت، فيسمى لحداً من هذه الناحية.
أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته
والإلحاد في أسمائه جل وعلا أنواع، منه: ......
تحريف معانيها
أولاً: تحريف معانيها؛ وهو ما يسمونه بالتأويل، مثل أن يقول: (يد الله): نعمته، (استواء الله): استيلاؤه، (علو الله): قهره، وهكذا، فهذا من الإلحاد في أسمائه جل وعلا، وهو داخل في التعطيل الذي هو أعم من هذا كله. إذاً الإلحاد يكون في تعطيلها عن معانيها وتحريفها عما قصد بها من المعاني التي دلت عليها.
اشتقاق بعض أسماء المخلوقات منها(5/311)
ثانياً: أن يشتق منها أسماء لبعض المخلوقات، كتسمية الحجر -مثلاً- أو الشجر، أو القبر أو غيره باسم (إله)، (فالإله) يجب أن يكون لله وحده، والتأله لله وحده فقط، فتسمية مخلوق (إله) من الإلحاد. وكذلك الكفار ألحدوا في أسمائه حيث سموا بعض معبوداتهم بأسماء أخذوها من أسماء الله، مثل: اللات أخذوها من (الإله) أو من (الله)، و(العزى) أخذوه من (العزيز) ولعلهم أنثوها باعتبار أنها آلهة، ومعروف أن التأنيث يدل على الضعف والرخاوة والليونة والميوعة ؛ لأن اسم المؤنث هكذا يكون، ولا يدل إلا على النقص، وكذلك قولهم: (مناة) مأخوذة من (المنان)، فهذا نوع آخر من الإلحاد. يعني: أن يشتق أسماء لبعض المخلوقات من أسمائه جل وعلا، فهذا نوع من الإلحاد؛ لأن أسماء الخالق كلها لله جل وعلا، ومعانيها كاملة وهي حسنى.
تسميته ووصفه جل وعلا بما يتنزه عنه تقدس وتعالى
ثالثاً: أن يسمى جل وعلا بما يتعالى ويتقدس عنه، كتسمية النصارى له (أب) تعالى الله وتقدس، وكذلك الفلاسفة يسمونه (علة موجبة) أو (علة فاعلة) أو يسمونه (عقل فعال).. أو ما أشبه ذلك من التسميات الباطلة، وهو نوع من الإلحاد في أسماء الله جل وعلا. رابعاً: أن يوصف بالنقص الذي يتنزه عنه جل وعلا، كما يقول اليهود لعنهم الله: (يد الله مغلولة) ويقولون: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] ويقولون: إن الله لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام وانتهى من الخلق تعب واستراح تعالى الله وتقدس، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] يعني: من إعياء وعجز نفياً لما قاله هؤلاء الخبثاء قاتلهم الله، فهذا من الإلحاد في أسمائه وصفاته جل وعلا.
الفرق بين الاسم والصفة(5/312)
وقوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ). أولاً: أسماء الله جل وعلا لم يذكر أنها محصورة في عدد معين، والحديث الذي سيأتي لا يدل على هذا، وإنما ذكر أن له الأسماء الحسنى، والتي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا مخبراً بها عنه، فكل ما ثبت أنه اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فإنه يسأل بها. والفرق بين الاسم والصفة: أن الاسم يدل على الذات، فمثلاً: الرب يدل على ذاته المقدسة التي تتصرف في كل شيء والله كذلك، والرحمان والرحيم. أما الصفة فهي المعنى الذي يقوم بالذات، مثل الرحمة، فالرحمة معنى قائم بالله جل وعلا دل عليها الاسم الذي هو الرحمن أو الرحيم. هذا الفرق الأول. الفرق الثاني: أن الأصل الصفات، والأسماء مشتقة من الصفات، فكل اسم مأخوذ من صفة، فالرحمن مأخوذ من الرحمة، والله مأخوذ من التأله، والرب مأخوذ من التربية والقيام على المخلوق بما يرضي الله، والعزيز من العزة وهكذا، فهذا هو الفرق. إذاً: الفرق الأول: أن الاسم يدل على المسمى وعلى الذات التي وضع لها هذا الاسم، وأما الصفة فهي المعنى القائم بالموصوف. الفرق الثاني: أن الأصل هي الصفات والأسماء مشتقة من الصفات، وليس العكس كما يتوهم بعض الناس فيجعل الأسماء هي الأصل والصفات مشتقة، فهذا خطأ، بل الأصل الصفة، وهذا معنى قول العلماء: إن أسماء الله مشتقة، أي: أنها مأخوذة من معان قامت في الرب جل وعلا.......
حكم إنكار الصفات(5/313)
والصفات كثيرة جداً، وإنكارها ضلال وجهل. ومن الجهل الوقوف على ظاهر النصوص بدون تأمل للمعنى، كما وقع لابن حزم رحمه الله فأنكر أن يكون لله جل وعلا صفات وقال: هذا كله من كلام المتكلمين الذي لا يدل إلا على الانحراف والشك والباطل. وقال: جاء في بعض النصوص كما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي كان يؤم أصحابه فيقرأ سورة ثم يختم بـ( قل هو الله أحد ) ويردد ذلك، فلما سألوه؟ قال: إنها صفة الله وأحبها، فلما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قال: (حبك إياها أدخلك الجنة)، قال: هذا يثبته وما عدا ذلك فلا؛ فيقال له: هل الرحمن يدل على معنى أو لا يدل على معنى؟ لابد من أنه يدل على معنى. فما هو المعنى الذي يدل عليه؟ الرحمة، وكذلك العليم يدل على العلم، والحليم يدل على الحلم، والكريم يدل على الكرم وهكذا، فيقال: هذه المعاني التي دلت عليها هذه الأسماء هي الصفات، وهي التي يسأل الله جل وعلا ويدعى بها كالأسماء تماماً لا فرق، ثم إن معنى كونها مشتقة: أنها أخذت من هذه المعاني وأنها دلت على معانٍ عظيمة، والعلماء قسموها إلى قسمين: متعدٍ ولازم، والأفعال في لغة العرب إما أن تكون متعدية أو تكون لازمة فمثلاً: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فهذا يسمى لازماً؛ لأنه يدل على الاستواء على العرش فقط، ومثل هذا يجب أن يؤمن به وبالصفة التي دل عليها وهي الاستواء. وأما قوله جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] . فهنا ( خلق ) اسم فعل يدل على الفاعل، فالخلق فعله الذي هو صفة، وله أثر. يعني: له شيء يتعدى إليه وهو المخلوق. ( السموات والأرض ) أثر الخلق، فهو تعدى بهذا المعنى، فلابد من أمور ثلاثة فيها: إثبات الاسم، والصفة، والأثر. إذاً: يكون معنى التعدي واللزوم في هذا هو التعدي واللزوم اللغوي.(5/314)
يعني: إذا قلت -مثلاً- قام زيد، فهذا يسمى لازم، كذلك ( جلس )، ولكن إذا قلت: ضرب وأكل وشرب فإن هذا يكون متعدياً، ولابد له من أثر، والأثر هو أثر الضرب، وأثر الأكل، وأثر الشرب، وهذا التقسيم من ناحية المعاني التي يدل عليها الكلام. وقوله جل وعلا: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]. يعني: اتركوا، وهذا جاء من باب الوعيد والتهديد، ويدل على توعد الملحدين وتهديدهم، وأنه على المخاطب أن يعرض عنهم، ومعنى الإعراض عنهم: عدم مجادلتهم وعدم الاهتمام بأمرهم، أما دعوتهم والبيان لهم فإنه إذا أمكن فلابد من ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، والدعوة إليه كما سبق لابد منها، ولكن إذا علم أن الإنسان لا يجدي ذلك معه فيعرض عنه، خصوصاً الملحد، فالغالب في الملحد أنه يكون عارفاً، ولكن لا يريده، بل يريد غيره ولهذا أمر بالإعراض عنه.......
معاني الإلحاد في الأسماء والصفات
( وذروا الذين يلحدون ) والإلحاد ذكر له ثلاثة معان: الأول: الشرك وإدخال ما ليس منها. الثاني: جعلها أسماء لبعض المخلوقات. الثالث: اشتقاق أسماء المخلوقات والأوثان منها. فهم يأخذون أسماء أصنامهم وأوثانهم منها فهذه معانٍ ذكرها بعض السلف: (الشرك وإدخال ما ليس منها، وجعلها أسماء لبعض المخلوقات، أو جعل بعضها أسماء لبعض المخلوقات). وبقي من معاني الإلحاد معنيان: الأول: تعطيل معانيها التي دلت عليها وهذا من أعظم الإلحاد. والثاني: تشبيه معانيها بمعاني المخلوقات، بأن يجعل ما دلت عليه شبيهاً بما دلت عليه صفة المخلوق أو اسم المخلوق. إذاً تكون معاني الإلحاد خمسة: إلحاد هو عدول بها إلى غير ما وضعت له، وإلحاد بإدخال ما ليس منها فيها، وإلحاد بجعلها أو بعضها أسماء لبعض المخلوقات، وإلحاد يكون في تعطيل معانيها، وإلحاد يكون في تشبيه معانيها بمعاني المخلوقين.......
الشرك في الأسماء والصفات(5/315)
أما القسم الأول: فالشرك بها، وهو داخل في جميع ما ذكر؛ لأن المشرك معطل ولابد، وكل مشرك معطل وليس كل معطل مشرك، فالشرك في أسماء الله وصفاته: أن يجعل -مثلاً- صفات وأسماء الرب جل وعلا تدل على ما دل عليه اسم مخلوق، مثل أن يقول: إننا لا نفهم من يد الله جل وعلا إلا الجارحة المعروفة لنا، أو يقول مثلاً: لا نفهم من كون الإنسان الذي قال: الله جل وعلا يتكلم إلا أن يكون ذلك صادراً عن فم وعن لسان وعن شفتين وحنجرة وأحبال صوتية ... وهكذا. وهذا تشبيه. وكذلك الصوت فيجب أن يثبت لله في هذا على وجه التوحيد. يعني: خاصاً به، ولهذا جاء في الحديث: (إن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) وهذا لا يكون في الخلق، وإنما هو خاص بصوت الله، وكذلك جاء: (أن الملائكة إذا سمعوا صوت الله صعقوا وأصابهم الغشي وذهبت عقولهم وسقطوا) وهذا خاص بصفة الله جل وعلا، وليس معنى ذلك أنه يكون عظيماً؛ لأن الإنسان مثلاً لو سمع صوتاً عظيماً -يعني: فوق طاقته- يصعق، وقد ذكر الله جل وعلا عن قوم ثمود لما أخذتهم الصاعقة -الصاعقة هي الصيحة- التي ذكرت في بعض الآيات. ويقول المفسرون: إن جبريل عليه السلام صاح فيهم صيحة بصوته فتقطعت قلوبهم في أجوافهم فسقطوا؛ لأن الإنسان ضعيف. وصوت جبريل مزعج وعظيم لا يتحمله الإنسان، ولكن ليس هذا هو المقصود في حق صوت الله جل وعلا، فصوته تعالى هو صوت يخاطب به ملائكته ومع ذلك يصعقون، فالمقصود أن قوله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22] يكون هذا في حقه ويكون في وصفه وأسمائه، ويكون أيضاً في أفعاله، فلا يجوز أن تكون أفعاله كأفعال المخلوقين، كما أن أسماءه وصفاته لا تجوز أن تكون كأسماء المخلوقين وكذلك حقه الذي أوجبه على خلقه، وكذلك ذاته المقدسة تعالى وتقدس، وهذا أمر متفق عليه أما بالنسبة للذات، فلا أحد ينازع فيها، ومعلوم أن الأسماء والأفعال والصفات تكون خاضعة للذات؛ ولكنهم يتناقضون.(5/316)
إدخال ما ليس من أسماء الله وصفاته فيها
أما الثاني: وهو أن يدخل فيها ما ليس منها، كأن يسميه: (علة موجبة، أو عقلاً فعالاً) أو مثل ما يقول النصارى: (الابن والأب وروح القدس)، وهذا من الإلحاد، وكذلك يلحق بهذا أيضاً أن يوصف بمعنى ينزه تعالى وتقدس عنه، كوصف اليهود له بأنه فقير تعالى الله وتقدس، أو بأنه بخيل تعالى الله وتقدس؛ لأنهم قالوا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]ولهذا لا تجد يهودياً كريماً أبداً، فكل اليهود من أبخل الناس وأعظم الناس عبادة للمال، لقول الله جل وعلا: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا [المائدة:64] فهم يصفون الله جل وعلا بالبخل، والصفات التي يرمون الرب جل وعلا بها ينزهون أنفسهم منها: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] .. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181]، والله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، فكل شيء يحصيه على عباده، فإنه يستمع لهم منذ خلقهم إلى أن يوقفهم في قبورهم، ثم بعد ذلك يبعثهم ثم يعرض عليهم ما كانوا يعملونه ويقولونه، فيقصه جل وعلا عليهم، ولا يخفى عليه شيء، ومع ذلك فكل شيء مسجل حتى لا يكون للإنسان أي اعتذار. وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]. الصواب في هذا: أن هذا الكتاب الذي يخرج هو كتاب الحسنات والسيئات التي يسجلها الملائكة على الإنسان، حيث يخرج له ويجد فيه كل ما عمل، وهناك يقول الظالمون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، لا يغادر(5/317)
شيئاً، وكل شيء يجده المرء أمامه مكتوباً محفوظاً لدى الله جل وعلا. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود يقول: كنت جالساً عند الكعبة فجاء ثلاثة نفر من المشركين، كثيرة شحوم بطونهم قليل الفقه في قلوبهم، فقال واحد منهم: أترون الله يسمعنا إذا تكلمنا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا أصواتنا سمعنا وإذا خفضنا لم يسمعنا، فقال الثالث: إن كان يسمعنا إذا رفعنا أصواتنا فهو يسمعنا إذا خفضنا أصواتنا، فذهب وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]. ( بلى ) يعني: بلى نسمعها، ومع ذلك فالرسل -الذين هم الملائكة- يكتبون، وقد أخبر الله جل وعلا في قوله في الآية الأخرى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15]وقوله: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]. يقول العلماء: (السر) هو: الذي يدور في نفس الإنسان وذهنه ولم يظهر عليه أحداً ولم يتلفظ به، وأخفى منه الشيء الذي لم يحدث في ذهنه، كل هذا يعلم الله جل وعلا أنه سيحدث كذا وكذا في وقت كذا وكذا، فلا يخفى على الله شيء، بل يخبرنا ربنا جل وعلا بالشيء الذي يكون، وأنه لو كان أنه يكون على كذا وكذا، كما قال الله جل وعلا لما قال الكفار عندما ألقوا في جهنم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا [الأنعام:27]جاء الجواب: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] أي: ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والتكذيب الذي كانوا فيه، وهذا لا يحصل فهو ممتنع؛ لأن الله أخبر أنهم لا يردون، ولكن على سبيل التنزل، لو قدر أنهم يردون لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، فالله يعلم الأشياء التي لا تكون لو كانت أنها تكون على كذا وكذا، والله على كل شيء قدير وهو بكل شيء عليم، وهو الغني بذاته عن كل(5/318)
شيء، وكل شيء فقير إليه، ولا يخفى عليه من تصرفات خلقه شيء تعالى وتقدس. إذاً أسماء الله جل وعلا معانٍ عظيمة، والتفقه فيها من أعظم ما يجب على الإنسان، ومعرفة الله جل وعلا تتوقف على ذلك، فالله جل وعلا تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته، والمقصود في هذا الباب: أن الإنسان يتعرف على ربه جل وعلا من خلال الأسماء والصفات التي سمى ووصف الله جل وعلا بها نفسه، وعلى هذا فالإلحاد يكون أنواعاً وكله متوعد فيه، وأصله من الميل والعدول؛ لأن معنى ألحد: أي عدل عن السمت المراد الذي طلب منه أن يفعله ومال وجنح عنه، وكل ميل وجنوح عن السمت يسمى لحداً، ومنه لحد القبر؛ لأنه لا يكون على سمت الحفرة بل يجنح إلى جهة القبلة في جانب القبر، فيحفر حفرة في جانب القبر من جهة القبلة ويوضع بها الميت، وهذا يسمى لحداً، وهذا اللحد بخلاف الشق، فإن الشق يكون على قدر الميت مثل اللحد ولكنه في الوسط، وكلاهما جائز، ولكن اللحد أفضل كما جاء في الأحاديث. إذاً: الإلحاد في أسماء الله يكون بتحريفها بالتأويلات الباطلة، ويكون بتعطيل معانيها، ويكون بجعلها معانٍ للمخلوقات، ويكون بإضافة شيء إليها ليس منها، ويكون بأن تجعل معانيها معانٍ معينة من معاني المخلوقات. هذه الأقسام الخمسة، والإلحاد أيضاً يكون في آيات الله التي تدل على الأحكام، ولهذا جاء أن الملحد في الحرم لا يقبل منه صرف ولا عدل، والملحد فيه هو الذي خرج عن الطاعة بفعل الكبائر والمعاصي الظاهرة. يعني: ارتكب محرماً ظاهراً وترك ما هو ظاهر الوجوب، فهذا يسمى ملحداً أو ملحداً في دين الله.
شرح حديث: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً ...)(5/319)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر) أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة . ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه ]. هذا الحديث متفق عليه، والكلام جملة واحدة. يعني: أن المقصود الإخبار عن هذه الأسماء التسعة والتسعين، وليس المعنى أن أسماء الله محصورة في هذا العدد، بل لا حصر لها، وإنما أريد الإخبار عن حكم معين، وهو أن من أحصى هذه الأسماء التسعة والتسعين يدخل الجنة. وهذا هو المقصود. إذاً: يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أحصى هذه الأسماء المعينة -التسعة والتسعين- يدخل الجنة، ولهذا يتعين أن نعرف ما معنى أحصاها؟ لأن هذا أمر مهم؛ ولأنه يترتب عليه دخول الجنة.......
معنى الإحصاء في الحديث
ووجه ذكر الحديث هنا: أن يبين المؤلف رحمه الله أن معنى الدعاء بها الذي ذكر في الآية: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] هو معنى الإحصاء المذكور في الحديث فيكون الحديث مطابقاً للآية تماماً.
مراتب الإحصاء(5/320)
ومراتب الإحصاء في الحديث ثلاث: المرتبة الأولى: حفظ هذه الأسماء التسعة والتسعين ومعرفتها مرتبة. المرتبة الثانية: أن يعرف معانيها ويفقهها. المرتبة الثالثة: أن يدعو الله بها ويعبده. هذا قول من أقوال العلماء. القول الثاني: أن معنى الإحصاء: العد والحسب، والبخاري رحمه الله كأنه يميل إلى هذا القول؛ لأنه لما ذكر الحديث قال: أحصاها: حفظها، ولكن من المعلوم أن الحفظ بلا معنى لا يفيد شيئاً. والقول الثالث: أن معنى الإحصاء: أن يقول بما يلزم من معانيها، وما دلت عليه، وأن يقوم بالعمل اللازم لها، واستدل أصحاب هذا القول بقوله جل وعلا: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20]وقال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20]يعني: أن لن تطيقوه. أي: لا تطيقون قيام الليل كله، ولكن السدس أو الربع أو ما تيسر، لهذا يقول جل وعلا: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ [المزمل:20] فهنا يقولون: (الإحصاء) معناه: أن يطيق الإنسان القيام بما تستوجبه هذه الأسماء والصفات لله جل وعلا، فهذا يكون صعباً على الإنسان. وأقرب الأقوال والله أعلم: القول الأول، أن الإحصاء له ثلاث مراتب: الحفظ، ومعرفة المعنى، ودعاء الله بها، ويكون هذا هو المقصود.
أسماء الله غير محصورة(5/321)
أول اللفظ قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) (إن) تدخل على المبتدأ والخبر، وتجعل الأول اسماً لها منصوباً، وتجعل الثاني خبراً لها مرفوعاً. ( إن لله تسعة وتسعين اسماً ) ولفظ الجلالة هنا مجرور فتصير (تسعة وتسعين اسماً لله) فتكون جملة واحدة، وهذا لا يدل على أنها محصورة في هذه الأسماء، وإنما لله جل وعلا هذه الأسماء للتعبد بها، ثم إن هذه الأسماء لابد أن تكون موجودة في القرآن؛ لأن الرسول يخبر عن شيء موجود صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه قال: (من أحصاها دخل الجنة). وكذلك إذا فات شيء في القرآن فهو موجود في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تكون موجودة فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم. يعني: قد يكون في القرآن أكثر من التسعة والتسعين اسماً، والدليل على أنه ما أريد بها الحصر ظاهر في هذا الأسلوب، فالإنسان قد يقول: عندي عشرون كتاباً أعددتها للمطالعة أو أعددتها للعارية، فلا يفهم من هذا أنه ليس عنده إلا هذه الكتب، وإنما يفهم أنه أراد بهذه العشرين شيئاً معيناً إما للمطالعة لمن يأتي ويطالع فيها، أو للعارية فمن يأتي يستعيرها، وعنده كتب أخرى غيرها. ومن الأدلة على أن أسماء الله غير محصورة بعدد: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أصاب عبد هم أو حزن فقال: اللهم أني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء همي وغمي، إلا أذهب الله غمه وأبدله فرحاً) أو كما قال. ......
أقسام أسماء الله(5/322)
في الحديث النبوي قسمت الأسماء إلى أقسام ثلاثة: قسم جعله الله منزلاً في كتابه، والمقصود بالكتاب: جنس الكتاب. يعني: الكتب التي أنزلها على عباده، والقسم الثاني: علّمه من يشاء من خلقه ولم ينزله في كتابه، والقسم الثالث: استأثر به في علم الغيب عنده، فلم ينزله في كتابه، ولم يعلمه أحداً من خلقه، وهذا دليل واضح بأن أسماء الله غير محصورة. ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما ذكر أن الناس إذا طال بهم الوقوف، وأشتد بهم الكرب يلهمهم الله جل وعلا بأن يطلبوا الشفاعة من الرسل وهم واقفون معهم في الموقف، فيقول بعضهم لبعض: من أولى من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيذهبون إلى آدم ويطلبون منه ذلك فيعتذر، وفي الأخير تئول الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم. يقول صلى الله عليه وسلم: (فأذهب إلى مكان تحت العرش فإذا رأيت ربي خررت ساجداً فيفتح علي من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن). المحامد والثناء تكون بأسمائه وصفاته جل وعلا. وقوله: ( ما لا أحسنه الآن ) يعني: أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم. ومنه أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)والثناء عليه جل وعلا يكون بأسمائه وصفاته، وما يدل على ذلك: قوله جل وعلا: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27]. يعني: لو أن جميع ما في الأرض من شجر جعل أقلاماً، والبحر جعل مداداً للأقلام فكتب بهذه الأقلام من البحار كلها، ويكون مع هذه البحار الموجودة مثلها سبع مرات، فإن البحار تنفد وكلمات الله لا تنفد. وغير ذلك من الدلائل الكثيرة على هذا، وكله يدل على أن كلمات الله من أسمائه جل وعلا وصفاته، ويدل على أن أسماء الله غير محصورة. إذاً: المقصود بهذا الحكم الذي ذكر(5/323)
وهو أن من أحصاها دخل الجنة، وإحصاؤها يكون بحفظها، وبمعرفة معانيها، وبسؤال الله جل وعلا بها، فمن فعل ذلك دخل الجنة، ولا يكون ذلك إلا لمن وحد وعرف حق الله، وعرف ما يوجب له وما يمتنع عليه. ......
ذكر أسماء الله الواردة في القرآن
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وأخرجه الترمذي عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده، مثله، وزاد بعد قوله ( يحب الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، الباري، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور ). ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ]. وهذا الحديث يدور على هذا السبب فقط، والصواب كما يقول كثير من الحفاظ: إن سرد الأسماء ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مدرج استخرجه بعض العلماء من كتاب الله جل وعلا ومن حديث رسوله، ولهذا يوجد في الروايات اختلاف من تقديم وتأخير، ومن زيادة ونقص، وهذا السرد ترك(5/324)
فيه اسم متفق عليه لم يذكر، وهو ظاهر جداً وهو الرب، مما يدل على أن هذا السرد ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء اختلفوا اختلافاً كثيراً في هذا، فأخذ بعضهم ذلك مما ثبت في كتاب الله، وبعضهم أخذوا الأفعال وجعلوها أسماء، وبعضهم صار يزيد وينقص، ولكن لا يجوز أن يؤخذ من كل فعل له اسم، فالأفعال أوسع من الأسماء؛ لأنه تذكر أفعال لله ولكن لا يؤخذ له منها أسماء؛ فإنه جل وعلا يقول: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]وما أشبه ذلك، فلا يجوز أن نأخذ من هذه الأفعال أسماء له تعالى وتقدس، كما أنه لا يجوز أن نأخذ من قوله: ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) فنسميه الصانع، وكذلك لا نسميه الماكر، ولا نسميه المخادع، ولا نسميه الكائد أخذاً من هذه الأفعال، وإنما يجب أن تكون أسماؤه موقوفة على ما سمى به نفسه كالعزيز الحكيم، البر الرحيم التواب، وما أشبه ذلك مما هو ظاهر من أنها أسماء لله جل وعلا، فإذا وجد ذلك دل ذلك على أنها أسماء، وأنها يقينية بلا شك، أما شيء يؤخذ من معانٍ، أو من أفعال، كاسم فعل أو فعل، فلا يجوز أن يعتمد على هذا. نعم.......
سرد أسماء الله في الحديث مدرج وعدم انحصارها في تسعة وتسعين(5/325)
قال الشارح رحمه الله: [ والذي عول عليه جماعة من الحفاظ: أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم و عبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد ]. الحديث يدور على الوليد بن مسلم، الذي ضعفه أهل الجرح والتعديل. قال الشارح رحمه الله: [ عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم، أنهم قالوا ذلك، أي: أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي والله أعلم. هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره، ثم قال: ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين، بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) وقد أخرجه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه]. ......
حقيقة الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى(5/326)
قال الشارح رحمه الله: [وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، قال: (إلحاد الملحدين: أن دعوا اللات في أسماء الله). وقال ابن جريج عن مجاهد : وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180]، قال: اشتقوا اللات من الله واشتقوا العزى من العزيز. وقال قتادة : يلحدون: يشركون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الإلحاد: التكذيب). وأصل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر؛ لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالـ إشراك والتعطيل والنكران وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف، تعرف بها تعالى إلى عباده، ودلت على كماله جل وعلا. وقال رحمه الله تعالى: فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب، وإخراجها عن الحق بالتأويلات. وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات، كإلحاد أهل الاتحاد، فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون، محمودها ومذمومها. حتى قال زعيمهم: هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلاً وشرعاً وعرفاً. وبكل اسم مذموم عقلاًَ وشرعاً وعرفاً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. انتهى]. ......
عقيدة أهل السنة في صفات الله سبحانه(5/327)
قال الشارح رحمه الله: [والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى حذوه ومثاله وكما أنه يجب العلم بأن لله ذاتاً حقيقة لا تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه، فهو جهمي، قد اتبع غير سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]].
أقسام ما يجري صفة أو خبراً على الرب سبحانه وتعالى(5/328)
قال الشارح رحمه الله: [وقال العلامة أيضاً: فائدة جليلة: ما يجري صفة أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولك: ذات وموجود. الثاني: ما يرجع إلى صفاته ونعوته: كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله: كالخالق، والرازق. الرابع: التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتاً، إذ لا كمال في العدم المحض: كالقدوس، والسلام. الخامس -ولم يذكره أكثر الناس-: وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة، لا تختص بصفة معينة، بل دال على معان نحو: المجيد، العظيم، الصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة، فمنه استمجد المرخ والعفار، وأمجد الناقة: علفها، ومنه: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، صفة للعرش لسعته وعظمته وشرفه. وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترناً بطلب الصلاة من الله على رسوله، كما علمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في مقام طلب المزيد، والتعرض لسعة العطاء، وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه، ومنه الحديث الذي في الترمذي: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام)، ومنه: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام!)، فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده، وأنه لا إله إلا هو المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة، وأعظمه موقعاً عند المسئول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد. السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما، نحو: الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغنى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع(5/329)
الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله فإنه أشرف المعارف ]. أولاً: علمنا أن الله جل وعلا سمى نفسه بأسماء موجودة في كتابه جل وعلا، وسماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، قد يوجد في الأسماء التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ليس في الكتاب، وكذلك الصفات؛ لأن الأصل في الاسم هو الصفة، فالله أمرنا أن ندعوه بأسمائه وصفاته: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، فالدعوة في الواقع هي: العبادة، بل هي مخ العبادة، كما جاء في الحديث وعرفنا أن معنى الدعاء بالأسماء: أننا نتوسل إليه بأسمائه فنقول: يا غفور! يا رحيم! اغفر لنا وارحمنا، يا تواب! يا كريم! تب علينا، وهكذا. وكذلك في الأعمال التي نزاولها، نبدؤها بذكر اسم الله جل وعلا، ويكون ذلك طلباً للاستعانة به وطلباً للبركة، ويكون هذا من باب العبادة، ومن باب الدعاء بأسمائه جل وعلا. وكذلك قال الله جل وعلا : وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180]، وهنا بين أن أسماءه حسنى، وعرفنا أن الحسنى: التي لا يلحقها نقص ولا عيب، وتكون كاملة في معانيها، وفيما دلت عليه. وحذر من الإلحاد في أسمائه وتوعد الملحدين بقوله: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180].
أنواع الإلحاد في أسماء الله(5/330)
فالإلحاد في أسمائه أنواع، ذكر منها عدة أنواع: أحدها: أن يسمى بها شيء من المخلوقات، بأن تسمى بعض المخلوقات الناقصة بما يشتق من أسمائه، كما كان يفعل الملحدون من المشركين، فإنهم يسمون بعض آلهتهم: آلهة، أخذاً من التأله، والتأله يجب أن يكون لله؛ لأنه من خصائصه جل وعلا، وكذلك سموا اللات أخذاً من اسم الله، وسموا العزى أخذاً من اسم العزيز، ومناة أخذاً من اسم المنان وهكذا، فهذا إلحاد. الثاني: من الإلحاد أن يوصف بما ليس من أوصافه ويسمى بشيء ليس من أسمائه، فإن أسماءه حسنى، فمن سماه بغير أسمائه الحسنى فقد ألحد في أسمائه، وألحد في معاملته، وقد مثلنا لهذا مثلما يقول خبثاء الخلق من اليهود وغيرهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمران:181]، وقولهم: إن الله تعب حينما خلق السماوات فاستراح، وقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، فهذا من الإلحاد في أسمائه وهو من أعظم الإلحاد. الثالث: من الإلحاد التأويلات التي تبطل معاني أسماء الله جل وعلا، كأن يجعل معنى اليد: القوة أو القدرة أو النعمة، ويجعل معنى الرحمة: الإحسان وما أشبه ذلك، فإن هذا إلحاد في أسمائه جل وعلا. الرابع: من الإلحاد في أسمائه أن يسمى أيضاً بما يتقدس عنه ويتنزه، كتسمية النصارى له: بالأب، والفلاسفة له: بأنه علة موجبة وما أشبه ذلك، فكل ما سمي به مما لم يسم به نفسه، أو سماه به رسوله فهو إلحاد. فإذاً يكون معنى الآية: أننا أمرنا بأن نتوسل إليه وندعوه ونعبده بأسمائه، ونقتصر على ما سمى به نفسه، ونفهم معاني الأسماء والصفات، على ما يليق بجلال الله وعظمته، ومن عدل عن ذلك فقد ألحد. فإذاً الإلحاد معناه: إما الإشراك، وإما التعطيل والجحود، وإما أن يكون ملحداً إلحاداً كاملاً، بحيث أنه يجحد الله جل وعلا ويجحد حقوقه، كما يوجد في كثير من الناس. وأما قوله جل وعلا: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ [الأعراف:180]، فليس معنى ذلك أنهم يتركون، وأن هذا أمر(5/331)
مباح لهم، بل معناه: أنه توعد لهم، يعني: إنني سوف أتولى عذابهم، أي: أن الله جل وعلا هو الذي يتولى عذاب من ألحدوا في أسمائه، ويتولى جزاءهم بما يستحقون.
باب قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه)
......
وجوب إثبات أسماء الله وصفاته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: المسألة الأولى: إثبات الأسماء ]. إثبات الأسماء لابد منه؛ لأن الله جل وعلا تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته، وقل أن تجد آية في القرآن إلا وفيها شيء من أسمائه وصفاته جل وعلا، وجاء ذكرها أكثر من ذكر الأحكام، وأكثر من الأمر بالصلاة، وأكثر من النهي عن الشرك. فذكر أسمائه في كتابه كثير جداً؛ لأن الله جل وعلا علام الغيوب، يعلم حاجة الخلق إلى ذلك، فهم لا يتعرفون على ربهم جل وعلا إلا بأسمائه وصفاته؛ لأن الله غيب لا أحد يشاهده، وليس له مثيل فيقاس عليه، تعالى الله وتقدس. فإذاً تعالى إلا من ثلاث طرق: آياته التي يحدثها، ومخلوقاته التي تدل على الخالق الموجد؛ لأن كل مخلوق له خالق ولابد، وأسمائه وصفاته. والله يتعرف إلى عباده بذلك، فإذاً لابد من إثباتها، وإثباتها يجب أن يكون على ما يليق به، وكما قال الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]، يعني: أنه يجب على الخلق أن يقدروا الله ويعظموه ويعرفوا قدر عظمته، وهذا من خلال ما يتعرفون عليه من أسمائه وصفاته. فإذاً يكون إثبات الأسماء الذي ينبني عليه معرفة الله جل وعلا هو أصل التوحيد.
إثبات أن أسماء الله وصفاته حسنى والأمر بدعائه بها(5/332)
[ المسألة الثانية: كونها حسنى ]. الحسنى: هي التي لا يلحقها نقص ولا عيب فهي كاملة تامة. [ المسألة الثالثة: الأمر بدعائه بها ]. والأمر يقتضي الوجوب، يعني: أننا نعبده بها، وعرفنا كيفية دعائه بها، والتوسل إليه بها، وكذلك الاستعانة به في أعمالنا بذكر أسمائه، إذ بذكرها تحصل لنا البركة، فهذا من دعائه ومن عبادته.
الموقف ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وإثبات الوعيد في حقه
[ الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين ]. يعني: الذي يلحد في أسمائه يترك، ومعنى يترك: أن الله يتولى جزاءه ويتولى عقابه، أما إذا كان عنده نوع من الشبه ومن تشكيك الناس فلا يترك، بل يجب أن تبطل شبهته وتبين، ويبين لمن قد يغتر به أنه ملحد. [ الخامسة: تفسير الإلحاد فيها السادسة: وعيد من ألحد ] يعني: أن الله توعده؛ لأن الآية تقتضي ذلك.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [117]
لقد جاء نهي الشارع عن قول: السلام على الله؛ وذلك لما يتضمنه من معان لا تليق بالله سبحانه وتعالى، في كونه محتاج إلى من يسلمه من الأذى، وهذا نقص، والله عز وجل كامل لا يلحقه نقص ولا أذى ولا عيب.
وجه النهي عن قول: السلام على الله(5/333)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يقال السلام على الله. في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام) ]. قوله: (في الصحيح) يعني: الحديث صحيح، وليس المقصود أنه في صحيح البخاري أو صحيح مسلم؛ لأن هذا أعم. وقوله: (باب لا يقال السلام على الله) يعني: أن هذا يكون من باب التنقص، ومن قال ذلك فإنه يكون ما عرف حق الله، ولا جاء بما يستحقه من التعظيمات والتحميدات والتمجيدات، وذلك أن قولك: السلام على كذا، على فلان، إما أن يقصد به التحية وهو الظاهر في هذا، وهو الذي قصده الصحابة، وإما أن يقصد به الدعاء، يعني: أنك تذكر اسم الله وتطلب بهذا الاسم أن الله يسلم على من سلمت عليه، تقول: لك السلامة، فالسلام عليك يعني: أنا أطلب من الله أن يسلمك من المكاره، ومن العيوب والنقائص. وقد يكون المعنى: أن السلام اسم من أسماء الله فإذا قلت: السلام عليك يعني: عليك هذا الاسم، وفي ضمنه إعلامك بأني سلم لك، يعني: أني أخوك فلا يأتيك من قبلي مكروه فلتسلم من قبلي، فلهذا يلقي اسم السلام، وإذا لم يسلم عليه قد يلحقه نقص، وقد يلحقه خوف، وقد يلحقه أذى، فيسلم عليه دفعاً لذلك. فعلى هذا لا يليق بأن يقال: السلام على الله؛ لأن الله كامل لا يلحقه نقص ولا يلحقه أذى، فهو كامل في ذاته، غني بذاته عن كل ما سواه، فالسلام منه، ولا يكون السلام مطلوباً له، بل يطلب منه للمخلوق الناقص، أما الله جل وعلا فهو تام، وهو السلام ومنه السلام. فمعنى السلام أنه سالم من كل نقص وعيب تعالى الله وتقدس، وهو سالم من الحاجة ومن الافتقار. فبين المؤلف أنه لو قيل: السلام على الله، فإن هذا ليس من التوحيد، بل هذا نقص في التوحيد؛ لأنه يتضمن التنقص لله جل وعلا، فيكون قدحاً في(5/334)
التوحيد، فأراد أن يبين أن توحيد الله جل وعلا أن يتأدب الموحد مع ربه جل وعلا، فيأتي بالتحميد والتسبيح والتهليل والكلام الذي يناسب، والثناء على الله جل وعلا، وأن يجتنب ما فيه شيء من النقص. وقوله: (كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، كنا أو كان: تدل على مزاولة الشيء وتكراره، يقال: كان يفعل كذا، أي: كان يكرر ذلك ويكثر منه. وقوله: (مع رسول الله) المعية تدل على أن هذا كان في الصلوات؛ لأن معيتهم في الغالب كانت في الفرائض؛ لأنها هي التي يجتمعون فيها ويصلونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما النوافل فكانت تصلى فرادى، هذا هو الكثير الغالب، ومطلوب أن تكون النوافل في البيت، وأن يكون الإنسان فيها خالياً، ليس عنده أحد، حتى يكون ذلك أدعى للإخلاص، وأقرب إلى أن يكون العمل لله وحده، حيث لا يقصد به رياء ولا سمعة ولا مقاصد أخرى. أما الفرائض فالطريقة فيها التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتماع في المساجد. ......
جواز السلام على الملائكة وغيرهم من الخلق في الصلاة
وقوله: (كنا نقول: السلام على الله .. السلام على فلان وفلان) جاء أنهم كانوا يقولون: (السلام على جبريل، السلام على ميكائيل)، فيسلمون على الملائكة، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: السلام على الله، وترك قولهم: السلام على جبريل وميكائيل؛ لأن جبريل وميكائيل مخلوقان من مخلوقات الله جل وعلا، والمخلوق يطلب له أن يسلم، لأنه قد يلحقه خوف أو نقص؛ لأنه ليس له غنى بنفسه، وإنما الغني بنفسه هو الله جل وعلا، وهو الذي يطلب منه تكميل الناقص، أو إزالة الخوف عمن يتوقع الخوف له.
دلالة النهي في قول: السلام على الله(5/335)
وجاء في تمامه أنه قال: (نهاهم عن ذلك)، وهذا النهي يدل على التحريم، لما عرفنا أن معناه: إما أن يتضمن نقصاً، وإما أن يتضمن سوء أدب مع الله جل وعلا، فإذا كان كذلك فإنه حرام أن يقول الإنسان: السلام على الله؛ لما يتضمنه ويدل عليه. فالله جل علا كامل غني سالم من كل نقص وعيب، فلا يسلم عليه، ولا يطلب منه أن يسلم نفسه؛ لأنه لا معنى لهذا، حيث إنه هو الغني والكامل بنفسه عن كل ما سواه، ولا يلقى عليه السلام من عباده بهذه الصفة؛ لأن هذا لا يناسبه تعالى وتقدس، فيكون ذلك سوء أدب.
معنى التحيات لله والصلوات والطيبات(5/336)
فقال لهم: قولوا: (التحيات لله والصلوات والطيبات)، ثم بين لهم السلام أن يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله). والتحيات تعني: التعظيمات من التحميد والتهليل والتكبير والقيام والركوع والسجود والدعاء، وجميع ما يعظم به جل وعلا ويكون خاصاً به أي: التحيات اللائقة به جل وعلا قوله: (لله) يعني: خالصة لله ليس لأحد فيها شيء. ثم عطف عليها الصلاة عطف الخاص على العام، قال: (والصلوات) يعني: جميع الصلوات التي يصليها يصليها لله. قوله: (والطيبات) أي: الطيبات من الأعمال الخالصة، ومن الكلمات الطيبة التي تتضمن الحمد والثناء والتمجيد؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب. فهذا الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته، وهو تعليم للأمة كلها، بدل أن كانوا يقولون: (السلام على الله من عباده)، فقال لهم: (إن الله هو السلام ومنه السلام، فلا تقولوا: السلام على الله من عباده، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات). ثم قال: و(الطيبات) إشعاراً بأنه يجب أن تكون التحيات والصلوات خالصة طيبة لله جل وعلا، ليس فيها مقصود غيره، فإذا كانت كذلك فهي طيبة، فله الطيب من العمل والطيب من القول، الذي هو التسبيح والتهليل والتكبير وغيره. ......
جواز السلام على النبي في التحيات بكاف الخطاب(5/337)
ثم قال: قولوا: (السلام عليك أيها النبي!) هكذا علمهم، والخطاب يبقى على ما هو عليه: (السلام عليك) فالذي يسلم يستشعر في ذهنه أنه يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان غائباً فيقول: (السلام عليك أيها النبي!)، وليس معنى ذلك أنه يستحضره في ذهنه، ولكن يستشعر خطابه تعظيماً لذلك، وهذا الأسلوب كان معروفاً عند العرب، فإنهم يستشعرون الحبيب أو المعظم فيخاطبونه وإن كان ميتاً أو غائباً، كما هو معروف في أشعارهم. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في تشهده كما رواه الطحاوي في مشكل الآثار: (السلام عليك أيها النبي!). أما ما قاله بعض العلماء من الصحابة وغيرهم: أن هذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما توفاه الله جل وعلا صاروا يقولون: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته)، فنقول: ما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بنفسه وعلمه الصحابة، فإنه يبقى كما كان يقول ذلك. وليس في هذا دعوة له ومخاطبة له، كما يقول الذين يحبون أو يميلون إلى عبادته ويقولون: إن هذا دليل على أنه يدعى ويخاطب ويقال له: (السلام عليك)؛ لأن هذه كاف الخطاب، والخطاب لا يكون إلا للحاضر ولا يكون للغائب، لكن يقال: إن هذا ليس كذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بتعليم الإخلاص لله جل وعلا، وفي هذا التشهد علمنا كيف نخلص لربنا جل وعلا الدعاء، فكيف يكون فيه تناقض؟ هذا لا يمكن، وإنما ذلك يبقى على صفة التعليم الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فيبقى كما هو.
معنى السلام على النبي في التحيات
قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، هو سلام عليه، وهو دعاء له بالسلامة من كل مكروه، وكذلك دعاء له برحمة الله وتبريكاته، بأن يبارك عليه في أعماله وفيما يعطيه جل وعلا من أمور الآخرة، فيزيده من فضله.
سلام الإنسان على نفسه وعلى عباد الله الصالحين في التحيات(5/338)
ثم قال أيضاً: يسلم الإنسان على نفسه: (السلام علينا)، يعني: يسلم على نفسه وعلى الحاضرين الذين في الصف معه من إخوانه المؤمنين ومن الملائكة الذين معه، ثم يسلم تسليماً عاماً على جميع عباد الله الصالحين، الذين في الأرض، والذين في السماء، الأحياء والأموات، ويكون عاماً بعد خاص: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين). ثم يتشهد التشهد الذي هو أصل التوحيد: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله). فهذه التحيات التي كان يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقد جاء في حديث ابن مسعود : (أنه كان يعلمهم إياها كما يعلمهم السورة من القرآن)، اهتماماً بها.
وجه إيراد المؤلف لحديث ابن مسعود في باب: لا يقال السلام على الله(5/339)
فعلى هذا يتبين لنا وجه إيراد المؤلف لهذا الباب (باب لا يقال: السلام على الله)؛ وذلك لأن الله هو السلام والمسلم، فإن السلام، إما أن يلقى تحية، وإما أنه يطلب السلامة للمسلم عليه، أو أنه يخبره بأنه سلم له، أي: مسالم له، وأنه لا يناله منه مكروه، وكل هذا لا يليق بالله جل وعلا، ولا يليق إلا بالمخلوق، أما الله جل وعلا فهو غني بذاته جل وعلا، لا يلحقه نقص ولا عيب، فهو الذي يهب السلامة لمن يشاء، ويهب الحياة لمن يشاء، ويهب الملك لمن يشاء، وبيده تصريف كل شيء، فلا يليق أن يقال: (السلام على الله)، فصار من معاني كمال التوحيد أن المسلم يعرف الشيء الذي يليق بالله جل وعلا فيقوله لله جل وعلا معظماً له، ويعرف الشيء الذي لا يليق بالله جل وعلا فيجتنبه، فيكون بذلك قد كمل توحيده. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (في الصحيح عن ابن مسعود) [ هذا الحديث: رواه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان ..) الحديث ، وفي آخره ذكر التشهد الأخير. ورواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه، وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله : (فإن الله هو السلام ومنه السلام) ]. هناك تشهد أول وأخير؛ التشهد الأول يقتصر فيه على هذا، والمقصود بالأول الذي يكون بعد الركعتين الطويلتين التي يقرأ فيهما بالفاتحة وسورة، ومعلوم أن قراءة السورة سنة ليست واجبة، وإنما الواجب قراءة الفاتحة، ثم يفصل بين الركعتين الطويلتين واللتين بعدهما بالجلوس، فيكون فيه التشهد الأول ويقتصر فيه إلى قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) صلى الله عليه وسلم. وكانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخففه، حتى جاء في الحديث: (أنه إذا جلس كأنه(5/340)
يجلس على رمض)، يعني: على الحجارة المحماة من سرعته في ذلك، فما كان يطيله، وهذه هي السنة، عكس ما يفعله كثير من الأئمة، فإن فعلهم خلاف السنة، فالسنة أن يخفف التشهد الأول. أما التشهد الأخير فهو الذي يصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستعاذ به من عذاب القبر وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، إلى آخره. فهذا التشهد الأخير يطال، وقد جاء في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). فكثير من العلماء يقول: هذا يقال بعد التشهد، لأنه قال: (قله دبر كل صلاة)، ودبر الشيء آخره، فهل يكون هذا بعد نهاية الصلاة، أو قبل السلام؟ فيه خلاف بين العلماء: منهم من قال: يكون قبل السلام ومعنى ذلك: أنه يقرنه بالتشهد الأخير، وقال بعضهم: إنه يقوله بعد فراغه من الصلاة؛ لأن كلمة دبر أيضاً قد يراد بها الخارج من الشيء المنفصل عنه، ولكن الغالب أنه يقصد الشيء المتصل به. ......
سلام الله على عباده في الجنة لا في موقف الحساب(5/341)
قال الشارح: [ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثاً ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!)، وفي الحديث: (إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى)، وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة، كما قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] ]. هذا جاء مكرراً في القرآن في آيتين من كتاب الله جل وعلا: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب:44]، ولقاء الله جل وعلا يكون في الموقف بين عباده، ولكن الموقف مكان محاسبة، وليس مكان إكرام. ولهذا لما سئل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ أي: مناجاة الله لعبده. وهذا شيء عظيم جداً، كونه يناجيه جل وعلا، وهذه لا تقاس بما يعرفه الإنسان؛ لأن نجواه تكون لعباده كلهم في آن واحد، كل واحد يتصور أنه لا يكلم إلا هو، وهو يكلم جميع المؤمنين في ذلك الموقف. يقول ابن عمر : (سمعته يقول: يدني عبده المؤمن فيضع عليه كنفه)، والكنف هو: الستر، يستره عن الذين يشاهدونه في الموقف، لأنه يقرره بذنوبه، ولا يوجد أحد يخلو من الذنوب أبداً. فإذا قال: (فعلت كذا يوم كذا وكذا)، وتركت كذا من الأمور الواجبة، عندها يخجل كثيراً فيتغير وجهه، فلأجل هذا ستره الله، حتى لا يراه المؤمنون ويقولون: إنه قد هلك. قال: (فإذا رأى أنه قد هلك؛ قال الله له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه فيصبح فرحه فوق ما يتصور، حتى يصبح يمد كتابه أمام الناس ويقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] يعني: يا هؤلاء! اقرءوا كتابي، كأنه لا يهمهم إلا قراءة كتابه، فالفرح استولى عليه، وكان أولاً يظن أنه قد هلك. فالمقصود أن الموقف وإن كان فيه الكلام، وإن كان فيه اللقاء، فكلام الله جل وعلا في الموقف هو محل مناقشة ومحل مسائلة، فقد يكون الإنسان(5/342)
عنده مواقف حرجة جداً، حتى يرى أنه قد هلك، فإذا أوتي كتابه بيمينه بدأت السعادة تظهر عليه، أما التحية واللقاء فلا تكون إلا في الجنة. ولهذا لما قيل للإمام أحمد : متى يأمن المؤمن؟ قال: يأمن إذا وضع أول قدم له في الجنة. أما قبل هذا فلا يأمن؛ لأن النار أمامه، فالنار بين الناس الواقفين وبين الجنة، فلا يوجد عبور على الجنة، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، قوله: (وإن) تفيد القسم وأن كل واحد سيرد. وورود الشيء لا يلزم منه الدخول، فقد يرد عليه ولا يدخله وقد يدخله. فالسلام الذي يكون من رب العالمين لعباده يكون في الجنة. ......
معنى قوله: إن الله هو السلام وأقوال العلماء في ذلك(5/343)
قال الشارح: [ ومعنى قوله: (إن الله هو السلام) أي: إن الله تعالى سالم من كل نقص، ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص. قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: السلام: اسم مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية، وفيه قولان مشهوران: الأول : أن الله عز وجل هو السلام، ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم، ونحو ذلك ]. يعني: أن السلام اسم من أسماء الله، وقد جاء ذلك في الأسماء الحسنى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23]. قال: [ فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء. الثاني : أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية ]. فهذا يكون مجرد تحية، فهو يحييك بهذه الكلمة، وليس في ظنه إلا أنه يقول لك: أنت سالم مما ينالك من الأذى، وهذا هو المقصود من المسلم لأخيه المسلم، أن يخبره أنه لا يناله منه أذى، وإذا لقيه قال: السلام عليكم، فهو يشعره بأنه أخ له، وأنه لا يلحقه منه أذى. وإذا قلنا: إنه اسم الله ففي ضمن ذلك الدعاء، وأن المسلم يدعو للمسلَّم عليه بالسلامة، أي: أنه يسلم من المكاره التي ستلحق كل مخلوق. قال: [ ومن حجة أصحاب هذا القول: أنه يأتي منكراً، فيقول المسلم: سلام عليكم، ولو كان اسماً من أسماء الله لم يستعمل كذلك، ومن حجتهم: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه: الإيذان بالسلامة خبراً ودعاء. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين، فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما، وإنما يتبين ذلك بقاعدة وهي: أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى، أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع(5/344)
إلى الله تعالى، متوسل إليه به. فإذا قال: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور، فقد سأله أمرين، وتوسل إليه باسمين من أسمائه، مقتضيين لحصول مطلوبه، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وقد سأله ما يدعو به؟ قال: قل: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل، أتى بلفظها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن لفظ السلام معنيين: أحدهما: ذكر الله، والثاني: طلب السلامة، وهو مقصود المسلم ]. يعني: أن المجموع في هذا أنه يذكر اسم الله طالباً بهذا الاسم السلامة للمسلَّم عليه، وفي ضمن هذا معنىً ثالث: وهو أنه يعلمه بأنه سالم من شره لا يناله منه شيء، فإذاً تكون المعاني ثلاثاً: ذكر، ودعاء، وإخبار. ذكر الله باسمه، ودعاء له، وتوسل له بهذا الاسم أن يسلم هذا المسلَّم عليه من الآفات، وإعلامه بأنه لا يناله منه أذى، وهذا هو مقصود السلام. وأما كونه جل وعلا تذكر أسماؤه عند كل طلب بما يناسب ذلك الطلب من الأسماء، فهذا هو الذي دل عليه القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طلب الإنسان الرزق يقول: يا رزاق! يا كريم! وإذا طلب التوبة يقول: يا تواب! يا رحيم! تب علي، وإذا طلب المغفرة يقول: يا غفور! يا رحيم! اغفر لي، ولا يقول: يا شديد العقاب! اغفر لي؛ لأن هذا لا يناسب ذلك، فهذا معنى قوله: (إنه عند كل طلب يتوسل باسمه المناسب لذلك الطلب)، هذا من المعاني التي ينبغي أن يعتني بها المسلم. ......
حقيقة السلام ومعناه وما يتضمنه هذا الاسم وتصاريفه(5/345)
قال: [ قد تضمن (سلام عليكم): اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة! وحقيقته: البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب ]. يعني: حقيقة السلام هو الرب جل وعلا، واسمه السلام يعني البراءة والخلاص والنجاة من كل عيب ونقص، فهو سالم من كل عيب ونقص، وفي ضمن هذا أن له الكمال؛ فإذاً هو نفي وإثبات، وهذا معنى قولهم: فيه سلب وإيجاب، فالسلب: هو نفي النقائص، والإيجاب: هو إثبات الكمال لله جل وعلا. قال: [ وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم]. جاء في الحديث أنه لا يتكلم على الصراط إلا الأنبياء، لأنه لما سأل أحد الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع له؟ قال: (أنا فاعل إن شاء الله، قال: أين أجدك؟ قال: عند الحوض، فإن لم تجدني عند الحوض فعند الميزان، فإن لم تجدني عند الميزان فعند الصراط، لا أعدو الثلاثة الأماكن هذه). ثم ذكر أنه عند الصراط لا يتكلم أحد؛ وذلك من شدة الكرب والهول إلا الأنبياء، وكلامهم: (اللهم سلم سلم)فقط؛ لأن الأمر صعب جداً، يسيرون من فوق جهنم ويسقط فيها أكثر الناس، المسير من فوقها أمر شديد، فالإنسان لو سار من فوق سقف على خشبة منصوبة، أو ما يشابهها، أو أكثر من كونها خشبة، فقد لا يستطيع أن يسير، فكيف إذا سار وتحته جهنم وشدة حرها، وقعرها أكثر من سبعين سنة يهوي فيها. أمر شديد جداً جداً، ومع ذلك نفس الصراط الذي يسار عليه يكون ملتهباً بالنيران؛ لأن تحته النار، ولهذا جاء أنه أحر من الجمر، ويكون مضطرباً أيضاً، فمعنى ذلك أن السير عليه بالأعمال فقط، وليس بالأقدام، فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا مستقيماً على صراط الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سوف يستقيم على ذلك الصراط الحسي ويسير عليه. أما إذا كان مرة يكبو ومرة يستقيم في هذه الدنيا فيكون سيره كذلك وربما سقط. وعليه أيضاً كلاليب، يقول الرسول(5/346)
صلى الله عليه وسلم: (كشوك السعدان)، ثم يقول لصحابته: (هل رأيتم شوك السعدان؟ هو نبت يكون في نجد تأكله الإبل)، وهو معروف، وهي شوكة عقيفاء مفلطحة، ولكن هذه التي على الصراط لا يعلم عظمها إلا الله جل وعلا، تأخذ من أمرت بأخذه، وتلقيه في النار، فمخدوش ناج ومكردس في النار، ومرة يحبو، ومرة تسقط رجله، ومرة يتعلق بيد، ومرة يسير. وأخبر أن مرور أولهم يكون كلمح البصر في سرعته، ومنهم من يكون كلمح البرق في السرعة، ومنهم من يكون كالريح، ومنهم من يكون كأجاود الخيل، ومنهم من يحبو مرة ويمشي مرة، ثم تعجز أعمال الناس عن حملهم ويتساقطون في النار، نسأل الله العافية، فهؤلاء كلهم من أهل التوحيد ولكنهم مخلطون، تركوا واجبات وفعلوا محرمات، ولم يكفهم ما مضى عليهم في القبر وفي الموقف في التطهير والتكفير، فلابد أن يطهروا بنار جهنم. ومنهم من يحترق نهائياً، إذا سقط احترق وصار حممة، وهذا جاء في الحديث أنهم فيما بعد يحملون حمماً قد احترقوا فيلقون في نهر الحياة من أنهار الجنة، فينبتون ثم يدخلون الجنة، ويزول العذاب كله، ويرون النعيم والحياة السعيدة، ومن نجا من النار ولو بعدما احترق فيها فهو سعيد. قال: [ ومنه سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده ]. لو تحقق الإنسان هذه الأمور بأنها ستمضي عليه يقيناً، لاستقامت حالته؛ ولكنه يستبعدها وكأن المراد غيره، وهي حقيقة لابد منها، فالعجيب في ابن آدم غفلته وأمله وتفكيراته، ولو قدر مثلاً وقيل للناس: إن واحداً منكم سوف ينجو من العذاب، فكل واحد من الكثيرين يؤمل أن يكون هو الناجي، وهذا أمل عجيب من هذا الإنسان، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ولخرجتم في الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) يعني: الغفلة والأمل، فلو قدر الواحد أنه سيموت، وهو يعلم أن الموت فيه انقطاع عن العمل، فقال: وأنا لابد أن أعمل(5/347)
للآخرة، بالشيء الذي يرضي الله جل وعلا، لأنه كثيراً ما يأتي الإنسان الموت فجأة، وموت الفجأة تعوذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من موت الفجأة)، وإن جاء في بعض الأحاديث أنه راحة للمؤمن، ولكن فيه أنه قد يأتي الإنسان ولم يتمكن من التفكير في نفسه، ولم يوص وغير ذلك، مع أنه يجب على الإنسان أن يوصي دائماً. قال: [ وقد تضمن سلام عليكم: اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة: وحقيقته البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: (رب سلم سلم)، ومنه: سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29] أي: خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره، ومنه السلم ضد الحرب؛ لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا بني فيه على المفاعلة، فقيل: المسالمة مثل المشاركة، ومنه: القلب السليم وهو النقي من الدغل والعيب. وحقيقته: الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فهو مستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته. وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام، فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه، ليس له فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه، وللمشرك به ]. ......
مسائل باب: لا يقال السلام على الله(5/348)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيه مسائل: الأولى: تفسير السلام. الثانية: أنه تحية. الثالثة: أنها لا تصلح لله ]. أي: أن قولهم: السلام على الله يقصدون به تحية، ولا يقصدون به الدعاء لله؛ لأن هذا غير معقول ولا يمكن أن الصحابة يجهلون هذا، فإنما نسبوا أنهم يحيون الله بالسلام. فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله) إلى آخره. والأولى أنه يقول: معنى تفسير السلام، وسبق أن عرفنا أنه يتضمن الدعاء والإخبار، فهو إخبار بأنه سلم لمن يسلم عليه، وهو يدعو له بالسلامة، وكذلك يذكر اسم الله عليه طالباً من الله أن يسلمه من المكاره، ويخبره في ضمن ذلك أنه سلم له، أي: مسالم له، وأنه لا يناله منه أذى، شأن المسلم مع المسلم؛ لأنه كلما قرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، علم أن هذا هو المسلم حقيقة، فعندما يقول: السلام عليك، يعني: أنت سالم مني، لا ينالك مني أذى، لا من لساني ولا من يدي؛ لأني مسلم. وكذلك هو يدعو له في ذلك ذاكراً اسم الله، هذا هو حقيقته، وتقدم أن معنى هذا: أن الإنسان يجب عليه أن يعلم الشيء الذي يجب لله، والذي لا يجوز أن يضاف إلى الله فيجتنبه، ويكون ذلك من كمال التوحيد. [ الرابعة: العلة في ذلك ]. وهذا هو معنى قولهم: بأن الله هو السلام ومنه السلام؛ لأنه جل وعلا كامل لا يلحقه نقص، فهو الذي يستحق أن تقدم له العبادات ويتقرب إليه بها، مثل: القيام والقراءة والركوع والسجود والتسبيح والتهليل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: التحيات لله)، يعني: التعظيمات التي فيها عبادة الله جل وعلا. [ الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله ] ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [118](5/349)
الدعاء أفضل العبادة، وله آداب، منها: العزم في المسألة، ولإجابة الدعاء أسباب ينبغي معرفتها والإتيان بها، كما ينبغي معرفة موانع الدعاء وتجنبها، وقد جاء ذكر الأسباب والموانع في كثير من النصوص.
حكم قول: اللهم اغفر لي إن شئت وما شابهه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب قول: (اللهم اغفر لي إن شئت): في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له)، ولمسلم : (وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه) ]. قوله: (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت) يعني: ما حكمه؟ هل هذا يجوز أم أنه من المحرمات التي تنقص التوحيد؟ هذا فيه نقص في توحيد الإنسان، ولا يجوز أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم أعطني إن شئت، اللهم أدخلني الجنة إن شئت، يعني: لا يجوز أن يعلق سؤال الله جل وعلا بالمشيئة لما سيأتي، بخلاف سؤال المخلوق، فإن الإنسان إذا سأل مخلوقاً ينبغي له أن يعلق عطاءه بمشيئته يقول: أعطني كذا إن شئت؛ لأن المخلوق فقير محتاج، وقد تتعلق نفسه بالمسئول به ويستحي، وتصبح نفسه معلقة به، فيصبح السائل قد ارتكب محرماً من أجل ذلك؛ لأنه أخذ شيئاً ونفس صاحبه لم تطب به، وهي متعلقة به، وذلك أن المخلوق فقير محتاج دائماً لا ينفك عنه الفقر، أما رب العالمين فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل غنى فهو منه. ......
ما يترتب على عدم العزم في المسألة(5/350)
قوله في الصحيح: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء)؛ لأن الله لا مخلف له، وفي رواية أخرى: (فليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء). تعليق سؤال الله أمور الدنيا أو أمور الآخرة بالمشيئة لا معنى له، بل هو من المحرمات، كما يدل عليه الحديث ويدل عليه المعنى، وذلك أن الذي يعلق السؤال بمشيئة الله لا يخلو: إما أن يعتقد أن إعطاء الله جل وعلا له ذلك قد يكون عن إكراه من الله، وهذا تنقص لله جل وعلا، فإن الله لا يحمله سؤال السائل على أن يعطي شيئاً لا يريده، فهو تعالى الله وتقدس لا يحمله إلحاح الملح على أن يعطي شيئاً وهو لا يريد إعطاءه؛ لأن كل شيء بمشيئته، فالملك كله له، والخلق كله له، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحمله على أن يفعل شيئاً وهو لا يريد. ومثل ذلك ما يلهج به كثير ممن لم يعرف الله حق المعرفة، فيسأل الله بالمخلوقين، كأن يقول: أسألك بفلان، وأسألك بنبيك فلان، وبكذا وكذا، يتصور أنه إذا سأله بفلان فأنه يعطيه أكثر مما لو سأله بأسمائه وصفاته سبحانه؛ لأن فلاناً يحمله على العطاء، تعالى الله وتقدس، وهذا تنقص لله جل وعلا، فهذا معنى. المعنى الثاني: أن قوله: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت) يعطي مفهوماً خاطئاً وهو: أن هذا السائل كأنه يقول: إن حصل لي ذلك المطلوب وإلا ليس بلازم، وهذا يشعر بالاستغناء عن السؤال، وهذا أيضاً لا يجوز أن يقع من العبد، العبد يجب عليه أن يظهر الفقر والفاقة والرغبة الشديدة، وأنه لا غنى له عن ربه وعن سؤاله. وهناك معنىً ثالث: وهو ما أشار إليه في الحديث: (إن الله لا مكره له)؛ لأنه قد يقول: هذا الشيء عظيم، وهذا الذي أسأل الله أن ييسره لي أنا ما أستحق هذا الشيء، فيعلقه بالمشيئة، فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأن الله جل وعلا مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتعاظمه شيء) يعني: ليس عنده شيء عظيم. وقد قال بعض الناس في(5/351)
مخلوق: وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم ونحو ذلك، ورب العالمين جل وعلا هو أكرم الأكرمين، وعطاؤه بلا عد ولا حساب، يعطي من يشاء، يعطي الجنة والجنة لا ثمن لها، لا يمكن أن يحصل الإنسان على شيء يساوي قيمة الجنة، وإنما هي بفضل الله تعالى يتفضل بها على عبده، كما أنه تفضل عليه بالإيمان وهداية القلب والتوفيق، كذلك تفضل عليه بأن يدخله الجنة، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد أنه إذا سأل الله مسألة أن يقول: هذا شيء كبير بالنسبة إلى الله، هذا لا يجوز، كل شيء بالنسبة لله جل وعلا صغير. إذاً: هذه الأمور، وهذه المعاني الثلاثة، تمنع من أن يعلق الإنسان سؤال الله بالمشيئة، وهذا في المسألة التي يسألها الإنسان ربه ويدعوه، بخلاف الخبر الذي يخبر به، فإن كونه يخبر عن شيء سيقع، هذا يعلق بالمشيئة؛ لأنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله. ولا يشكل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في سلامه على الموتى: (من أتى إلى المقبرة فليقل: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون). فمعلوم أن الموت لابد منه، ولكن التعليق هنا بالمشيئة لما يكون عليه الإنسان؛ لأنه لا يدري ماذا يموت عليه؟ ولا يدري أين يموت؟ هل سيكون مع هؤلاء أو مع غيرهم؟ وهل يكون موته على الإيمان أو على غيره؟ فهو يعلق المشيئة على ذلك؛ لأنه لا يدري ماذا يقع له؟ لا يدري هل يكون مع هؤلاء المسلم عليهم، أو يكون مع غيرهم؟ وهل يكون على الإيمان الذي كانوا عليه، أو لا يكون على ذلك؟ فلهذا قال: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). وأما قول الله جل وعلا: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ [الفتح:27]، فهذا خبر عن أمر سيقع، وكل شيء سيقع يعلق بمشيئة الله جل وعلا. وأما قوله جل وعلا في ذكر(5/352)
أهل الجنة وأهل النار: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، وقوله في أهل الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]. فالمقصود أنه جاء بالاستثناء هذا (إلا ما شاء ربك) -والله أعلم- ليبين جل وعلا أن الخلود والأبدية بمشيئته، وأن أهل الجنة وأهل النار لم يكتسبوها بذواتهم وأعمالهم، وإنما الله جل وعلا هو الذي أعطاهم ذلك، ولو شاء لغير الواقع، فيكون مثل قوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد:31]، والناس أكثرهم غير مهتدٍ، وهذا يبين لنا أن كل شيء بيد الله؛ حتى لا يطمع طامع ويقول: إنه اكتسب صفة من صفات الله جل وعلا وهي البقاء السرمدي في الجنة، وإنما أعطي ذلك فضلاً من الله جل وعلا. هذا هو الذي يظهر في معنى الاستثناء بالنسبة لأهل الجنة، وكذلك لأهل النار، وأما الاستدلال بهذه الآية على أن النار تفنى فهو استدلال غير صحيح، فقد ذكر الله جل وعلا آيات صريحة في أنها باقية، والقول بفنائها استناد على مفهوم هذه الآية هو من أقوال أهل البدع.
حقيقة الدعاء والسؤال والمقصود منهما(5/353)
الدعاء والسؤال عبادة تعبد الله جل وعلا بها خلقه، وقد جاء في الحديث: (الدعاء مخ العبادة)، والله جل وعلا يقول: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] قوله: (ادعوني) هذا أمر بالدعاء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يغضب إذا لم يسأل). والإنسان فقير إلى ربه فقراً لا ينفك عنه، إذا لم تحصل له السعادة والمغفرة والعطاء من ربه جل وعلا فهو هالك ومعذب ولا شك، فيتعين عليه أن يرغب في الدعاء إلى الله، وأن يلح، وأن يعظم الرغبة والإقبال عليه بشدة، والاستثناء وتعليق الدعاء بالمشيئة يدل على خلاف الرغبة وخلاف الجزم، وخلاف كونه فقيراً إليه سبحانه. وأما من جانب الرب جل وعلا فهو غني، يعطي ما يشاء بلا عد ولا حساب، ولا يكون الشيء عظيماً عليه بأن يعطيه، فلا داعي للاستثناء؛ لأن الاستثناء فيه نقص من ناحية العبد وجهل، وفيه تنقص من العبد لربه جل وعلا في هذا، وبهذا يتبين لنا أن تعليقه محرم وليس مكروهاً فقط. ......
مناسبة ذكر باب قول: (اللهم اغفر لي إن شئت) لكتاب التوحيد
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت) يعني: أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب ]. يبقى ما مناسبة ذكر هذا الباب في كتاب التوحيد؟ نقول: التوحيد أصله ولبه: الإخلاص، والإخلاص هو معرفة القلب لأمر الله جل وعلا وإنابته له، والرغبة والرهبة منه، فإذا كان عارفاً بمن يسأل، وراهباً منه مقبلاً عليه مخلصاً، فلابد أن يكون في سؤاله جازماً غير متردد، وغير معلق سؤاله بالمشيئة؛ لأنه يظهر الفقر، وهو الذل في العبادة لربه، وكذلك يعظم الرغبة في طلبه من ربه، فناسب أن يذكر ذلك، وإذا لم يكن الإنسان كذلك يكون توحيده ناقصاً، فصار في تعليق المطلوب بالمشيئة نقص في توحيد الطلب. ......
معنى قول الشارح: (وعطاؤه كلام)(5/354)
قال الشارح رحمه الله: [ بخلاف العبد فإنه قد يعطي السائل مسألته؛ لحاجته إليه، أو لخوفه منه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره. فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول؛ مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين، فإنه تعالى لا يليق به ذلك؛ لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام ]. قوله: (وعطاؤه كلام) يعني: أنه يقول للشيء: كن فيكون: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم ، وفيه تعليم للعباد من الله جل وعلا، يروي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا). والظلم الذي حرمه الله على نفسه جل وعلا لم يلزمه أحد بذلك، هو الذي حرمه على نفسه تكرماً وجوداً، والظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه وهو كذلك في الشرع. ويقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، الله هو الغني عن كل الخلق، ما أحد يضره، ولا أحد ينفعه، وأعمال أهل المعاصي والكفر والفجور، وأهل محاربة الله ومعاداة الله، ومعاداة أوليائه، هذه الأعمال كلها ما يضرون بها إلا أنفسهم، ولا يضرون الله شيئاً. والله جل وعلا قد جعل لهم موعداً يأتون إليه ذليلين صاغرين، كل واحد يأتي فرداً كيوم ولدته أمه، ليس عليه حتى شيء يستر عورته، يأتون إليه ما معهم خول ولا مال ولا استعداد ولا أي شيء. فهناك يجزيهم الجزاء الذي يستحقونه، أما هذه الدنيا فهي ذاهبة بسرعة، ولو جازى أناساً في الدنيا، فعذبهم في الدنيا، فما تكفي مجازاتهم وعذابهم في الدنيا؛ لأنه ينقطع العذاب وينتهي، يموت الإنسان ثم ينقطع عذابه، وليست الدنيا محلاً لتعذيب الناس، وإنما يعذبهم الله بعذابه الذي أخبر الله جل(5/355)
وعلا عنه بقوله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ [المائدة:37]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ [السجدة:20]، ولهذا يقول جل وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، ما فيه عذاب مثل عذاب الله أبداً، فهو عذاب مستمر، ومع ذلك ما يخلص الموت إلى المعذب فيستريح، ولا يخفف عنه من العذاب، كلما احترق الجلد أعيد مرة أخرى، وهكذا. يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)؛ لأن النفع يكون لهم فقط، فيجزون بأعمالهم، ثم يقول: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )، المخيط: الإبرة، فإذا أدخلت البحر ورفعت هل تنقص من البحر شيئاً؟ هذا مجرد تمثيل، وإلا فالله جل وعلا لا ينفد ما عنده. وقوله: (عطاؤه كلام) يعني: أنه إذا أراد الشيء قال له: كن فيكون تعالى الله وتقدس، ما يعجز الله شيئاً في الأرض ولا في السماء. فعلى هذا لا داعي إلى أن الإنسان يستعظم المسألة التي يسألها من الله، فالله يعطي الشيء الكثير العظيم ولا يبالي تعالى وتقدس، غير أنه جل وعلا يعطي من يستحق العطاء؛ لأنه عليم بالعباد: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وهو جل وعلا كما يقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا(5/356)
يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، له الاختيار، وله الخلق، وله العطاء، وله المنع، ولكن إذا منع أحداً فهو عدل، وإذا أعطى أحداً فهو فضل. قال الشارح رحمه الله: [ وفي الحديث: (يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه)، يعطي تعالى لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو الحكيم الخبير. فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة]. معنى العزم في المسألة: أن يقبل برغبة وإلحاح، هذا هو العزم في المسألة، ما يكون متردداً، بل يقبل على ربه جل وعلا راغباً. ......
نعم الله لا تعد ولا تحصى(5/357)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ فإن الله لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة ولا عن عظم مسألة، وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه : ويعظم في عين الصغير صغارها ويصغر في عين العظيم العظائم ]. يعني: المخلوق مهما أعطى فإن عطاءه محدود ومحصور، فلا يجوز أن يقاس رب العالمين جل وعلا في كرمه وجوده وعطائه بعطاء مخلوق ضعيف فقير مهما كان، حتى وإن كان ملكاً، فكلما في الدنيا محدود، فلا يجوز أن يقاس فعل الله بأمور الدنيا، وكل ما في الدنيا من العطاء فهو من الله، فهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وأما هذا: بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا، وإلا فإن العبد يعطي تارة، ويمنع أكثر، ويعطي كرهاً، والبخل عليه أغلب، وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم. وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال، من حيث وضعت النطفة في الرحم، فنعمه على الجنين في بطن أمه دارة، يربيه أحسن تربية، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه، ورباه بنعمه حتى يبلغ أشده، يتقلب في نعم الله مدة حياته. فإذا كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين، وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم -وإن كان بعضها على يد مخلوق- فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده. فإن الله تعالى هو المحمود على النعم كلها، فهو الذي شاءها وقدرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله، فله النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53]. وقد يمنع تعالى عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد(5/358)
يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر أو ليعطيه أكثر، فتبارك الله رب العالمين ]. يعني: أن السائل لربه لن يخيب أبداً، إذا سأل ربه فلا بد له من إحدى ثلاث: إما أن تعجل له مسألته، وإما أن تدخر له في يوم هو أفقر منه إلى هذه المسألة، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم مما لو أعطيها، فهو لا يخلو من واحدة من هذه الأمور الثلاث. ......
آداب الدعاء وأسباب الإجابة
ينبغي للسائل أن يلح في السؤال، وأن يكثر من السؤال، فالله جل وعلا أمر بالسؤال ووعد بالعطاء، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] والمفسرون منهم من يقول: أي: ادعوني أعطكم، ومنهم من يقول: ادعوني أثبكم، والمعنى قريب، فالذي يقول: ادعوني أعطكم، معناه أنها مسألة معينة، وأنه يعطي على ذلك. وأما الذي يقول: ادعوني أجبكم، معناه أنها عبادة، والعبادة يثاب عليها، والثواب قد يكون عاجلاً، وقد يكون عاجلاً وآجلاً، وقد يكون آجلاً في الآخرة. فالمعنى أن الإنسان لن يخيب إذا سأل ربه، وقد يكون عند الإنسان موانع ترد مسألته من قبل نفسه؛ لأن الدعاء له موانع، فمن أعظم الموانع أن الإنسان يأكل حراماً ويلبس حراماً، جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟!). وهذه الأمور تدل على إجابة الدعاء، كونه يبتذل، والابتذال مذلة، والافتقار مذلة، وكونه منكسر القلب، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، وانكسار القلب سبب الإجابة، فإذا انكسر قلب الإنسان فمعناه أنه ذل لربه جل وعلا، وافتقر واستشعر الفقر والحاجة من ربه جل وعلا، وألح في ذلك، فالدعاء لا يرد إذا كان بهذه(5/359)
المثابة وبهذه الصفة إلا إن كان كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم. ورفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة، ولا يكره رفع اليدين في الدعاء إلا في العبادات التي جاءت مقيدة وليس فيها أصل الرفع كبعد صلاة الفريضة مباشرة إذا سلم، والعبادة يجب أن تكون على ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر به ويفعله، ما يزاد فيها. ولكن في الدعاء العارض بعد الصلاة النافلة وما أشبه ذلك يرفع يديه، فرفع اليدين من أسباب الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده المؤمن أن يرفع يديه ثم يردهما صفراً) فهو كريم جل وعلا. ومن أسباب إجابة الدعاء: لزوم الاسم المعظم: يا رب! يا رب! يا رب! يا رب! وتكراره، وقد جاء أن العبد إذا قال: يا رب! يا رب! فإن الله يقول: لبيك! ويعطيه ما يطلب، وقيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم: يا رب! والرب هو الذي يقوم على مصالح وحاجات الخلق من الرزق، ودفع المؤذيات، وجلب المنافع. ولهذا إذا تأمل الإنسان أدعية الرسل في القرآن، وجدها كلها بهذا اللفظ إلا ما شاء الله: يا رب! ربنا، ربنا، ربنا؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يعدل عن هذا الدعاء إلى غيره، وإنما يلزم هذا الاسم، فهو من أسباب الإجابة. ......
موانع إجابة الدعاء(5/360)
من كان يأكل الحرام ويتعامل بالحرام فإن هذا من أعظم موانع إجابة الدعاء؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أنى يستجاب له؟)، والسبب أن مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فالحرام أحد الموانع. الثاني من الموانع: أن الإنسان يستبعد أن يستجاب له، يدعو وهو يظن في نفسه أنه لا يستجاب له، لهذا جاء الأمر بالدعاء مع اليقين: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة). من الموانع: أن الإنسان يدعو فيستعجل الدعاء ثم يترك، يدعو ثم يدعو ثم يقول: لم أجب؛ فيترك الدعاء، فهذا أيضاً من الموانع. جاء أن الإنسان يستجاب له ما لم يستعجل، يقول: دعوت فدعوت فلم يستجب لي. وربما يكون في ذلك خير أراده الله جل وعلا له، فيفتح عليه باب مسألة ربه جل وعلا، فيلح ويكثر من السؤال، ويكون ذلك خيراً فتح عليه. الرابع من الموانع: أن يبالغ في الدعاء، مثل أن يسأل سؤالاً لا يليق به، كأن يسأل أن يعطى ما يعطى الأنبياء من الدرجات، والأنبياء لهم درجة خاصة، أو مثلاً يسأل شيئاً ليس له كأن يقول: أسألك القصر المعين الذي فيه كذا .. وفيه كذا .. وفيه كذا .. الذي في أعلى الجنة أو في الجنة أو عن يساره أو في المكان الفلاني أو غير ذلك، هذا اعتداء وعدوان، أو يسأل الله قطيعة رحم؛ ولهذا جاء أن الإنسان إذا سأل يستجاب له ما لم يعتد أو يسأل قطيعة رحم، وغير ذلك من موانع عدم الإجابة. أما إذا خلا الإنسان من هذه الموانع فإنه لا يخلو من الأمور الثلاثة التي ذكرناها: إما أن تعجل له دعوته ويراها، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم مما دعا، وإما أن تدخر له هذه المسألة يوم القيامة، فيجدها أحسن مما لو أعطيها في الدنيا، والله كريم عليم بما يسر عبده، ولطيف به، قد يمنعه شيئاً يسأله، فيكون المنع خيراً له. قال الشارح رحمه الله: [ قوله: ولمسلم (وليعظم الرغبة) أي: في سؤاله لربه حاجته، فإنه يعطي العظائم كرماً وجوداً وإحساناً. فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه أي:(5/361)
ليس شيء عنده يعظم، وإن عظم في نفس المخلوق؛ لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله، بخلاف رب العالمين، فإن عطاءه كلام: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فسبحان من لا يقدر الخلق قدره، لا إله غيره ولا رب سواه]. ......
مسائل باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
......
النهي عن الاستثناء في الدعاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء ]. يعني: لا يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، فالنهي هنا يدل على التحريم، وليس على الكراهة، فلو فعل ذلك الإنسان لكان قد ارتكب محرماً، وعليه أن يستغفر الله ويتوب.
بيان العلة في النهي عن الاستثناء في الدعاء
[ الثانية: بيان العلة في ذلك ]. العلة واضحة، وهي أنه لم يسأل فقيراً، فالله جل وعلا لايتعاظمه شيء، إذا شاء أن يعطي أعطى، وإذا شاء أن يمنع منع، فلا معنى للاستثناء، ولا معنى للتعليل، فما هناك شيء عظيم عند الله جل وعلا، كل شيء عند الله جل وعلا سهل وميسور.
قوله: (ليعزم المسألة)
[ الثالثة: قوله: ليعزم المسألة ]. يعني: كونه يرغب إلى ربه جل وعلا ويعزم المسألة، بأن يكون راغباً مظهراً الفقر وشدة الحاجة، منكسر القلب من شدة حاجته لما عند ربه، هذا هو العزم في المسألة. وإذا عرف الإنسان أن ذلك بيد الله، وأنه قريب ليس ببعيد؛ يعزم المسألة.
التعليل لأمر الرغبة في الدعاء(5/362)
[ الرابعة: إعظام الرغبة. الخامسة: التعليل لهذا الأمر ]. وقد أثنى الله جل وعلا على الذين يدعونه رغباً ورهباً، وهذه صفة عباده الصالحين من الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، فيرهب الإنسان من ذنوبه، ويرغب في عطاء الله جل وعلا وإحسانه، فيكون معظماً ربه، خائفاً من ذنوبه، ولكن الرغبة في المسألة تكون أرجح؛ لأن الله كريم، والعبد لا ينفك عن المعصية، والرب جل وعلا مغفرته ورحمته عامة شاملة لجميع خلقه، حتى الكفار ينعم عليهم، ويغدق عليهم من النعم، وهم مع ذلك يتقوون بنعمه على معاصيه، فهذا يدل على كرمه جل وعلا.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [119]
حمى النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد حماية عظيمة؛ لئلا يقع المسلمون في أي نوع من أنواع الشرك، ومن ذلك أنه نهى عن قول السيد لمملوكه: عبدي أو أمتي؛ لأن العبودية لا تكون إلا لله وحده.
شرح حديث: (لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، ...)(5/363)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يقول: عبدي وأمتي. في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي) ]. هذا من باب الأدب مع الله جل وعلا، ومن باب تعظيم حق الله جل وعلا، واجتناب الألفاظ التي فيها منازعة لله جل وعلا، وفيها نوع من المشاركة له؛ تعظيماً له وتحقيقاً للتوحيد؛ لأن العبودية هي صفة المخلوقين كلهم، والربوبية هي صفة الرب جل وعلا، هو الرب الذي ربى الخلق بإيجادهم، وبدفع المكروهات عنهم، وجلب المصالح لهم من كل وجه، فلا يكون العباد أرباباً لبعضهم بعضاً، وإن كان يوجد منهم المملوك الذي يملك، ولكنه في الواقع متعبد لله، وملكه لا يجوِّز أن يكون في ذلك ميزة لبعضهم على بعض في العبادة. ويجب أن تكون عبوديتهم كلهم ظاهرة لله، وليس لأحد على أحد عبودية، والرق الذي كان واقعاً سببه الكفر، وقد يقع لبعضهم، وإذا كان واقعاً فالإنسان يتأدب مع ربه جل وعلا في هذا، فلا يسميه عبداً فيقول: هذا عبدي إذا كان ذكراً، وإن كان أنثى يقول: أمتي؛ لأن النساء كلهن إماء الله، والذكور كلهم عبيد الله، أحرارهم وملوكهم. فهذا من باب حماية التوحيد، ومن باب التأدب مع الله جل وعلا، فيجب أن يحمى اسم الله جل وعلا، وألا يكون فيه مشاركة للمخلوقين، وأن يقال: هذا رب فلان وفلان وهذا بالنسبة للعقلاء المكلفين. أما غير العقلاء من بهائم وجمادات وغيرها فإنها ليست معبدة التعبيد التكليفي الشرعي، وإن كانت معبدة التعبيد القدري، لكن التعبيد الشرعي التكليفي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ليس هذا من شأنها، وليس موجهاً إليها، ولهذا يجوز أن يقال: هذا رب هذه الدابة! رب الناقة! رب الشجر؛ لأنها ليست عاقلة ولا مكلفة، وإنما هذا في المكلفين من الذكور والإناث، وقد يشكل على هذا ما جاء في بعض الآيات، مثل قول الله(5/364)
جل وعلا في قصة يوسف عليه السلام: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]، ومقصوده أنه ربه الذي ملكه، فلما قالت امرأة العزيز: هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]. والجواب عن هذا: أن هذا كان في شرع من قبلنا، وشرعنا جاء بالنهي عن ذلك. وبعضهم أجاب قائلاً: يكون النهي في هذا الحديث من باب الأدب وباب الكراهة والآية تدل على الجواز، يعني: أن هذا جائز ولكن خلاف الأولى، وهذا جواب خلاف الأولى، بل هذا ليس في شرعنا، وإنما هو في شرع من قبلنا، بدليل أن يوسف عليه السلام سجد له أبواه وإخوته لما دخلوا عليه وهو على كرسيه، فهذا لا يجوز في شرعنا، وقد ذكره الله جل وعلا، ويكون هذا مثله. وأما الحديث الذي في الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربتها)، هذا لا محذور فيه لأن (ربتها) مؤنث بحيث لا يمكن أن يوصف الله جل وعلا به، تعالى وتقدس، فهذا ليس فيه محذور. فعلى هذا لا يجوز للإنسان إذا كان له عبد أن يقول: عبدي، فهو بنفسه وغيره كذلك، لا يقول هو، ولا يقال له، فلا يقول أحد: أجب ربك، أجبه أو أطعمه أو اذهب إليه أو ما أشبه ذلك، يعني: لا المخاطب ولا المخاطب يقول ذلك، كلاهما منهي عن هذا، فلا يدعوه بلفظ العبد، ولا يدعو العبد سيده بلفظ الرب فيقول: يارب، ولهذا قال: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقل: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: فتاي وفتاتي)، والفتى: هو الغلام النشيط، والفتاة كذلك. فأرشد إلى الشيء الجائز بدل الممنوع الذي فيه مشاركة لاسم الله جل وعلا، ومنازعة فيه، وأما ما يأتي فيما جاء في رواية مسلم أنه قال: (وليقل: سيدي ومولاي) فإنه جاء النهي كما سيأتي أيضاً عن إطلاق لفظ السيد، وهو سيد في الواقع، ويقال هذا على من كان له تقدم في السيادة، ولكن في الحديث الذي سيأتي أنه قال: (السيد الله)، فهذا لأنه ليس من الأسماء المشهورة التي تختص بالرب مثل(5/365)
اسم: الرب، فالرب جل وعلا لا يطلق إلا على الله، ولا يستعمل لأحد إلا إذا كان مضافاً، مثل أن يقول: رب الدار! رب الكتاب. أما أن يقول هكذا: رب، ربك، أو ربي، فالرب خاص بالله جل وعلا، فلا يكون مثل إطلاق لفظ السيد، وإن كان جاء في الحديث الذي سيأتي أنه قال: (السيد الله)، وأما المولى فإنه يطلق على القريب في النسب كالأخ وابن العم وما أشبه ذلك، ويطلق على الناصر، ويطلق على المقدم الذي له تقدم، وله فضل على غيره، ويطلق على غير ذلك. ومثل هذا منهي عنه، والمحذور فيه هو هذه الإطلاقات، ويجب أن يكون للمخلوق ما يليق به. ......
حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد(5/366)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقاً للتوحيد، وسداً لذرائع الشرك؛ لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم. فإذا أطلق على غيره شاركه في هذا الاسم، فينهى عنه لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى، وإنما المعنى أن هذا مالك له، فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الاعتبار، فالنهي عنه حسماً لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقاً للتوحيد، وبعداً عن الشرك حتى في اللفظ، وهذا أحسن مقاصد الشريعة؛ لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ، وهو قوله: سيدي ومولاي، وكذلك قوله: (ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي) لأن العبيد عبيد الله، والإماء إماء الله؛ قال الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]. ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيماً لله تعالى، وأدباً وبعداً عن الشرك، وتحقيقاً للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا: فتاي وفتاتي وغلامي، وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه نفع، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين. فلا خير إلا دلهم عليه، خصوصاً في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه، خصوصاً ما يقرب من الشرك لفظاً وإن لم يقصد به، وبالله التوفيق.
مسائل باب: لا يقول: عبدي وأمتي(5/367)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي. الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك ]. المقصود بهذا حماية جناب التوحيد، وتعظيم الله جل وعلا، فلا يشاركه المخلوق ولو في الألفاظ، هذا المقصود، ألا يشارك المخلوق ربه جل وعلا حتى في الألفاظ التي يختص بها الله جل و علا، فيجب أن تكون خاصة به مثل الرب، لا يجوز أن يكون مشاركاً المخلوق له، ولهذا عدل عن الشيء الذي يعطي المعنى، ولا يكون فيه مشاركة. [ المسألة الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي. المسألة الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي، ومولاي. الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ ]. تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ، والمراد: تخليصه وتصفيته من الشوائب التي قد تشوبه من عمل أو قول؛ لأن هذا هو تحقيقه، وحتى في الألفاظ يجب أن يكون الرب جل وعلا واحداً فيها، ليس له فيها مشارك. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [120]
لا يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب، وهي: الجنة، التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتسابق إليها المتسابقون.
لا يسأل بوجه الله إلا الجنة(5/368)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة. عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) رواه أبو داود ]. الفرق بين هذا الباب وبين الذي قبله: في الذي قبله أن من سأل بالله وجب إعطاؤه، والسؤال بالله في الذي قبله عام، مثل أن يقول السائل: أسألك بالله، أو أسألك بالذي خلق السموات والأرض، أو بالذي أنعم عليك، أو أسألك برب العالمين أو ما أشبه ذلك، عام في أي صفة من صفات الله أو أي لفظ يدل على ذلك، كما سبق في حديث الثلاثة الأعمى والأقرع والأبرص، فإن الملك جاء إلى الأول وقال: أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، وأعطاك المال، وكذلك قال للثاني، وقال للثالث: بالذي رد عليك بصرك، وأعطاك المال. إذا قال الإنسان لآخر: أسألك بالذي أنعم عليك وأغناك، فيكون سائلاً بالله، أما هذا الباب فهو خاص بوجه الله، مثل أن يقول الإنسان: أسألك بوجه الله، هذا لا يجوز أن يسأل به شيئاً من أمور الدنيا، فلو سأل شيئاً من أمور الدنيا بوجه الله فهو ملعون لعظمة وجه الله جل وعلا، ولهذا قال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)؛ لأن الجنة هي الغاية التي يسعى لها المؤمنون، وهي التي تكون بها السعادة الأبدية، وسماها الرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار). ومثل ذلك أن يسأل شيئاً يقرب إليها ويوصل إليها، أو يسأل أن يمنع من شيء يمنع منها، مثل كونه يستعيذ بوجه الله من غضبه، يستعيذ بوجه الله من أن يقع في المعاصي التي تبعده عن ربه جل وعلا، كما جاءت أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: (أعوذ بوجه الله العظيم، وبكلماته التامات، من شر ما خلق) وكذلك قوله في الحديث المشهور في قصة ذهابه إلى الطائف لما ردوا عليه الرد القبيح، وأغروا به سفاءهم؛ فصاروا يرمونه بالحجارة صلوات الله وسلامه عليه حتى أدموا رجليه، فانقلب(5/369)
على وجهه فلم يفق إلا وهو في قرن الثعالب، عند ذلك دعا بذلك الدعاء المشهور: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى)، فهذا كله من الوسائل التي تقرب إلى الجنة. أما أن يسأل بوجه الله جل وعلا شيئاً من أمور الدنيا فهذا لا يجوز؛ لأن في ذلك إهانة بالعظيم، حيث سأل به الشيء الحقير، والدنيا كلها حقيرة ليست شيئاً، والسائل بهذا الشيء ما عرف الله حق المعرفة، ولا قدره حق قدره، بل تنقصه؛ ولهذا استحق أن يكون ملعوناً، وقد جاء في الحديث: (ملعون من سأل بوجه الله غير الجنة، وملعون من سئل بوجه الله فلم يعط)، فإذا أعطى فأجره عظيم. ......
أدلة إثبات صفة الوجه لله تعالى(5/370)
في هذا الحديث دليل على إثبات صفة الوجه حقيقة. إذاً: تبين لنا الفرق بين هذا الباب والذي قبله، الذي قبله يسأل بالله، وهنا يسأل بوجه الله، فدل هذا على أن الوجه غير الذات، لا كما يقول أهل الباطل، وقد تضافرت النصوص في ذكر وجه الله جل وعلا، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض أدعيته: (أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، ومعنى ذلك أن أعظم لذة: النظر إليه. وقد جاء تفسير قول الله جل وعلا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] في صحيح مسلم من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وفي الآية الأخرى، لما ذكر الله أن جهنم يلقى فيها الناس وهي تقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]؛ أخبر أن الجنة تقرب للمتقين الذين يخشون الرحمن، ثم قال: (ولدينا مزيد)، والمزيد فسر بأنه النظر إلى وجه الله جل وعلا، وكثيراً ما يأتي في القرآن ذكر هذه الصفة كقوله جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، ولو كان معنى الآية مثلما يقول البيهقي أنه الذات ما صح أن ينعت الوجه بهذه الصفات فيقال: ذو؛ لأن المضاف يكون مجروراً، ولهذا لما ذكر الذات في آخر السورة قال: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78]، فدل على أن الوجه غير الذات. كذلك قوله جل وعلا: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:9]، وكذلك قوله جل وعلا: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] في آيات كثيرة، وكذلك الأحاديث. ومعلوم أنه لا يقال للإنسان: فلان وجه، ولا يقال ليده: وجه، ولا لرجله وجه، هذا ما يجوز أن يقال في اللغة، فهذا يبطل قول المتأولة وأهل الباطل. والواجب علينا إثبات ما أثبته الله جل وعلا لنفسه من الأسماء والصفات إثباتاً يليق بعظمته وجلاله، ومن ذلك(5/371)
الوجه. وقول الله جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:26-27] ليس معنى ذلك: أن الرب جل وعلا يفنى، وأنه ما يبقى إلا وجهه تعالى وتقدس، ولكن يذكر أشرف شيء وبقية الصفات تبع له، وهذا مثل قوله جل وعلا في الآية الأخرى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، تعالى الله وتقدس. وإن كان هذا فيه بعض الكلام لبعض العلماء، فإن البخاري رحمه الله يقول في صحيحه: (كل شيء هالك إلا وجهه) أي: ما أريد به وجهه، ولكن هذا من لازم المعنى، وليس هو المعنى الذي تنص عليه الآية، ومقصوده أن كل عمل يبطل إذا لم يرد به وجه الله، أما الذي أريد به وجه الله فهو الذي ينفع ويبقى لصاحبه، فهو ينبه بذلك على وجوب الإخلاص، ووجوب العمل لله جل وعلا. فالآية لا تدل على أن شيئاً من الرب جل وعلا يفنى -تعالى الله وتقدس- وأنه لا يبقى إلا وجهه؛ لأنه إذا عبر عن الشيء بأشرف ما فيه فالبقية تكون تبعاً له، وهذا هو المقصود.
حكم الاستعاذة بوجه الله من النار(5/372)
لما نزل قول الله جل وعلا: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك، أو من تحت رجلكم) قال: أعوذ بوجهك، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]. قال: هذا أهون! هذا أهون!) فاستعاذ بوجه الله جل وعلا من عذابه الذي يهلك، ومآل الهالك إلى النار، ومعنى ذلك أنه استعاذ بالله جل وعلا من العذاب الذي يبقى وهو النار. فإذا قال القائل: أعوذ بوجهك يا رب من النار، فإن هذا مثل قوله: (أسألك بوجهك الجنة) ولا يكون هذا ممنوعاً، بل هو من الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يفعلها. وبهذا يتبين لنا الفرق بين هذا الباب والذي قبله، فالباب الذي قبله عام: السؤال بالله أو بصفة من صفاته أو بما يدل من فعله عليه، وهذا خاص بصفة الوجه، فلا يجوز أن يسأل بصفة الوجه إلا الجنة.
جواز السؤال بوجه الله كل ما يقرب إلى الجنة(5/373)
قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: (باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). ذكر فيه حديث جابر -رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). وهنا سؤال: وهو أنه قد ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الطائف حين كذبه أهل الطائف ومن في الطائف من أهل مكة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء المأثور: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ أإلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي)، وفي آخره: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله). والحديث المروي في الأذكار: (اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد -وفي آخره- أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض) ]. الحديث في منصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صحيحاً، ولكن بعض العلماء حسنه، وهو من رواية محمد بن إسحاق، وقد ذكره في السيرة منقطعاً، وجاء في مسند الإمام أحمد أيضاً، ولكنه من رواية محمد بن إسحاق ، ومحمد بن إسحاق إذا عنعن فيقولون: إنه ضعيف. قال الشارح رحمه الله: [ وفي حديث آخر: (أعوذ بوجه الله الكريم، وباسم الله العظيم، وبكلماته التامة من شر السامة واللامة، ومن شر ما خلقت أي رب! ومن شر هذا اليوم، ومن شر ما بعده، ومن شر الدنيا والآخرة)، وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان. فالجواب: أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة، أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة كما في الحديث الصحيح: (اللهم إني أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من(5/374)
النار، وما يقرب إليها من قول وعمل)، بخلاف ما يختص بالدنيا كسؤال المال والرزق، والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة، فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث كما لا يخفى، والله أعلم. وحديث الباب: من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى، فإنه صفة كمال، وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات، كسلبهم جميع الصفات أو بعضها، فوقعوا في أعظم مما فروا منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وطريقة أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، على ما يليق بجلال الله وعظمته، فيثبتون ما أثبته لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه مشابهة المخلوق، فكما أن ذات الرب لا تشبه الذوات، فصفاته كذلك لا تشبه الصفات، فمن نفاها فقد سلبه الكمال].
مسائل باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة(5/375)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: المسألة الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب]. ومن المعلوم أن الله جل وعلا هو أعلم من كل شيء، وأقدر من كل شيء، وأنه جل وعلا هو الذي بيده كل شيء، وأن الدنيا ليست شيئاً بالنسبة للآخرة، فهي حقيرة، ولهذا جاء لعنها: (الدنيا ملعونة، معلون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً)، وما كان ملعوناً فهو مبعد عن الله جل وعلا، وكون الإنسان تكون غايته الدنيا ومقصوده الدنيا بالأمل أو بالحياة؛ هذا من أسوأ ما يسلكه الإنسان، وهو دليل على بعده عن الله جل وعلا؛ ولهذا جاء في الدعاء: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)، وإنما غاية الحياة أن يصير الإنسان إلى ما خلق له وهو الجنة، فإذا سأل الإنسان بوجه الله شيئاً من أمور الدنيا فهذا على أنه دليل لم يعرف حق الله، ولم يقدره، وكذلك لم يعرف الآخرة، ولم يعرف المهمة التي خلق من أجلها، وإنما رأى حياة حيوانية اهتم بها. ثم يجب على المسلم أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وهو أنصح الخلق بالخلق، وهو أقدر الناس على البيان والإفصاح عما يريد، وهو صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق تعظيماً لله وتقديراً له، فإذا أخبر عن الله جل وعلا بشيء كقوله في هذا الحديث: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)؛ فيجب أن يؤخذ على ظاهره، وأن يكون ظاهره كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. [ المسألة الثانية: إثبات صفة الوجه]. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [121]
من تعظيم الله عز وجل أنه من سأل به يعطى، ومن استعاذ به يعاذ، ولا يعمل بهذا إلا من امتلأ قلبه بتعظيم الله وحبه، وقد ذكر العلماء أنه يشترط في ذلك ألا يضر نفسه في الإجابة؛ ففي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار).
شرح حديث: (من استعاذ بالله فأعيذوه..)(5/376)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يرد من سأل بالله. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) رواه أبو داود و النسائي بسند صحيح ]. (باب: لا يرد من سأل بالله) السؤال بالله يختلف، قد يكون السائل يسأل شيئاً فيه حق من مال مشترك، يكون له فيه شركة أو يسأل ذا سلطان مثلاً، فسؤال السلطان الحاكم ليس كسؤال الأفراد، فمثل هذا يجوز أن يسأل فيه، أما إذا كان له فيه حق فلا بأس أن يسأل، ولكن لا يسأل الشيء الذي يكون زائداً على حقه. هذا من حيث العموم، والمقصود بالسؤال هنا سؤال المال، وقد سبق أن ذكرنا في بعض المناسبات أن سؤال الناس محرم، لا يجوز أن يسأل المخلوق إلا في حالة الضرورة، وحالة الضرورة كما جاء في حديث قبيصة الذي في صحيح مسلم، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بحالات ثلاث فقط، وما عدا ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن المسألة سحت، ومعنى السحت الحرام المحرم، وهذه الحالات هي: الحالة الأولى: إذا أصيب الإنسان بفاقة، يفتقر حتى ما يجد شيئاً، فتحل له المسألة حتى يجد ما يسد فافته، فإذا وجد ذلك يجب أن يكف عن المسألة، هذه واحدة. الحالة الثانية: إذا أصيب الإنسان بجائحة في ماله، مثل أن يحترق ماله، أو ينتهب أو يغرق أو ما أشبه ذلك من الكوارث التي قد تصيب الإنسان في ماله، فمثل هذا يجوز له أن يسأل حتى يجد سداداً من العيش. الحالة الثالثة: أن يتحمل الإنسان الأموال في سبيل الإصلاح بين المتنازعين والمختلفين والمتقاتلين من المسلمين، يتحمل أموالاً يدفعها لهم من باب الإصلاح، فمثل هذا -وإن كان غنياً- يجوز له أن يسأل حتى يجد الشيء الذي يسدده في المسألة، وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال بحال، والسبب في منع السؤال أن فيه افتقار القلب(5/377)
إلى غير الله جل وعلا، والواجب على المسلم أن يكون فقيراً لربه جل وعلا، وفيه عبودية للقلب، فالعطاء والبذل قد يأسر القلب ويستعبده، والعبودية يجب أن تكون لله وحده، ولا يجوز أن تكون لمخلوق، فجاء الشرع والحكمة البالغة في سد هذا الباب، وجعل المسلم حراً بالنسبة لنظرائه من الناس. أما بالنسبة لربه جل وعلا فهو عبد له، فتكون عبوديته كلها لله جل وعلا، ولا يكون شيء منها لغيره، هذا هو السبب في منع السؤال. السؤال بالله يكون مثل هذا الذي ذكره المؤلف هنا، والسؤال ينقسم إلى أقسام: قد يسأل الإنسان شيئاً يلزمه شرعاً، مثل أن يسأل عن مسائل علم تلزمه، فمثل هذا لا يدخل في باب النهي، ولا يجوز أن يتوقف الإنسان؛ لأن الله أمر بذلك، فهو طاعة لله، ويقول جل وعلا: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فأوجب السؤال عن الذي لا يعلم، وهذا باب واسع، فكل ما يلزم الإنسان من أمور دينه فعليه أن يسأل، ولكن يتحرى من يسأله؛ لأنه من قبل كان العلماء يتحاشون عن الجواب كثيراً خوفاً من الله جل وعلا، والآن صار الكثير من الناس يجيب بلا مبالاة، قد يجيب بغلط، وقد يجيب بخطأ. ولهذا ينبغي للإنسان أن يتحرى في المسألة الشيء الذي يكون فيه تبرئة لدينه، ولا يكون مثلما يقول بعض العوام: إن ذمته تبرأ إذا سأل، إذا سأل شخصاً برئت ذمته ولو أجابه خطأ، هذا غير صحيح، ولكن هو مخطئ، والمفتي مخطئ، كلاهما مخطئ. من يسأل بالله إما أن يكون مضطراً مثلما سبق، فهذا يجب أن يعطى، ولكن ما يعطى الشيء الذي يضر بالمسئول أو يضر أهله، يعطيه الشيء الذي لا يضره، وواجب عليه أن يعطيه، والله جل وعلا قد أمر بالصدقة، وحث عليها، ومدح الباذلين الذين يؤثرون على أنفسهم غيرهم، فهذا من أفضل الأعمال وأعظمها، فكيف إذا وجه إليه السؤال؟ وإما أن يكون يسأل محرماً، كأن يسأل مثلاً مالاً، ويعرف أنه يريد أن يشتري به خمراً أو يشتري به دخاناً، فهذا لا(5/378)
ينفع؛ لأنه أعانه على الإثم. وأما إذا كان يسأله مالاً ليأكل، أو ليلبس، أو ليدفع عنه الدين الذي لزمه؛ فهذا يجب أن يعطى إذا سأل بالله، ولكن ما يعطيه المعطي الشيء الذي يضره، يعطيه ما فضل عن حاجته، وهذا إذا لم يلتزم محرماً أو قطيعة رحم.......
معنى قوله: (من استعاذ بالله فأعيذوه)
قوله: (من استعاذ بالله فأعيذوه)، كأن يقول: أعوذ بالله من شرك، أو أعوذ بالله من شر فلان؛ فيجب أن يعاذ. وهذا كله تعظيماً لله جل وعلا، لأن إعطاءه حينما سأل بالله، وإعاذته مما استعاذ بالله؛ هو من تعظيم الله جل وعلا، وتوقيره ومعرفة حقه. ولهذا جاء في الحديث: (ملعون من سئل بالله فلم يعط) هذا معناه أنه جعل هذا العمل من الكبائر، وكذلك الاستعاذة مثل ذلك؛ ولهذا لما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة، دخل عليها ومد يده إليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: (لقد عذت بعظيم إلحقي بأهلك)، فتركها. وهكذا إذا استعاذ إنسان بالله جل وعلا من شر الإنسان أو من شر غيره وهو يستطيع ذلك، فإنه يجب أن يعيذه، إلا أن يستعيذ بالله في أمر محرم كترك واجب، يعني: كأن يلزمه بترك الصلاة، فيستعيذ ويقول: أعوذ بالله منك، ومثل هذا لا يترك ولا يعاذ؛ لأن الله جل وعلا لا يعيذ عاصياً، وإنما يعيذ من كان مطيعاً لله جل وعلا.
معنى قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه)(5/379)
قوله: (من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه) الدعوة هنا مطلقة سواء كانت في طعام -يعني: وليمة عرس- أو غيرها مما يريد إكرامه بها، وهذا من حق المسلم على المسلم، إذا دعاه يجيبه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابته، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب الداعي حتى قال: (لو دعيت إلى كراع لأجبت)، يعني الشيء القليل الحقير، وهو القدوة لأمته صلوات الله وسلامه عليه. ولكن قد يكون في الدعوة منكر، فإن علم أن فيها منكر فإنه لا يلزمه الإجابة، إلا إذا علم أنه يستطيع إنكار المنكر وإزالته فإنه يجيب لذلك، أو أن يعلم أن الداعي ماله حرام، فإذا علم أن ماله حرام لا تلزمه الإجابة، أو عرف أنه من أهل البدع والمعاصي الذين يهجرون، فهذا أيضاً لا يجيبه، أما إذا كان ظاهره الإسلام، وليس عنده بدع، وإن كان هناك شبهات في ماله فالشبهة لا تمنع من إجابة دعوته، يجاب لأن الشيء الذي يكون عاماً غير معين لا يمنع من معاملته، ولا يمنع كذلك من إجابة دعوته، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجاب يهودياً إلى طعامه، وكذلك أكل من الشاة التي صنعتها اليهودية، وكذلك كان يتعامل مع اليهود، فتوفي صلوات الله وسلامه عليه ودرعه مرهونة عند يهودي بستة آصع من شعير لأهله، واليهود معروفون بأنهم يتعاملون بالربا، وأنهم يأكلون السحت، فلا يمنع ذلك معاملتهم، هذا من ناحية المعاملة العامة.
معنى قوله: (ومن صنع لكم معروفاً فكافئوه)(5/380)
قوله: (ومن صنع لكم معروفاً فكافئوه)، المعروف هنا مطلق، والمعروف ما عرف بأنه إحسان سواء بذل مال أو عمل بالبدن أو غيره، يعني: يتوسط له في أمر من الأمور، ويسعى معه، فكل ما فيه نفع فهو معروف، ومكافأة صانع المعروف من باب كون الإنسان لا يجعل قلبه متعلقاً بشخص، مأسوراً لشخص، هو من هذا الباب. (من صنع لكم معروفاً فكافئوه)، فإن لم يكن الإنسان مستطيعاً للمكافأة فيلجأ إلى ربه جل وعلا بأن يكافأ هذا الذي صنع له المعروف، فيدعو له ويجتهد في الدعاء: (حتى يرى أنه قد كافأه)، أو حتى تُروا بضم التاء ومعناه: تظنوا، أما إذا جاءت التاء مفتوحة (حتى تروا) فمعنى ذلك: حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه، فيدعو له حتى يعلم أنه كافأه بالدعاء الذي يدعو له، ومعنى ذلك أنه يجتهد في دعاء الله جل وعلا له، هذا إذا لم يجد المكافأة. والشاهد هنا: تعظيم الله جل و علا في إجابة السائل به، فإنه من تحقيق التوحيد، فإذا سئل المسلم بالله يجيب ويعطي، ويشترط أن هذا الشيء يستطيعه ولا يضره؛ لأن الضرر في الشرع ممنوع (لا ضرر ولا ضرار).
فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله(5/381)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله، لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل، بحسب ما ورد في الكتاب والسنة، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب، فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوباً، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه ما يدفع حاجته على حسب حاله ومسألته، خصوصاً إذا سأله بالله من لا فضل عنده، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسئول بما لا يضر به ولا يضر عائلته، وإن كان مضطراً وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته. ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم والجود، وضدهما من البخل والشح، فالأول: محمود في الكتاب والسنة، والثاني: مذموم فيهما. وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه، وكثرة ثوابه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:267-268] ]. يقول العلماء: الفحشاء هنا المقصود بها: البخل، أي: أنه يأمر بالبخل وعدم النفقة. ......
الآيات الحاثة على الإنفاق(5/382)
قال الشارح رحمه الله: [ وقال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177]. فذكره بعد ذكر أصول الإيمان، وقبل ذكر الصلاة، ذلك -والله أعلم- لتعدي نفعه، وذكره تعالى في الأعمال التي أمر بها عباده وتعبدهم بها، ووعدهم عليها الأجر العظيم، قال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ [الأحزاب:35]]. ذكر في هذه الآية والآية التي قبلها فضل التصدق وإنفاق المال، ومعنى إيتاء المال على حبه ذوي القربى: كون الإنسان يحب المال ويؤتيه، وهو يحبه ويطمع في البقاء، ويحتاج إليه، فهذا من البر، ويدخل فيه الواجب والمندوب، يعني: الصدقة التي هي فرض مثل الزكاة داخلة فيه من باب أولى، وكذلك الصدقات التي هي تطوع داخلة فيه، وخص هذا بأنه إيتاء المال لمستحقيه، وبدأ بذي القربى وهذا يدل على أن النفقة والصدقة على القريب مثل الأخ وابن الأخ وما أشبه ذلك أفضل من الصدقة على البعيد، لأن الصدقة على القريب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقة وصلة). وكذلك مدح في الآية الثانية المتصدقين والمتصدقات، وهذا يدل على أنه حتى النساء يتصدقن ولو كان ذلك من بيت الزوج بالمعروف الذي يتعارف عليه، ويأذن فيه ولا يضره، أو من الشيء الذي يخصها؛ لأن الرسول(5/383)
صلى الله عليه وسلم أمرهن بالصدقة وقال: (تصدقن ولو من حليكن)، وكلمة (ولو) تدل على أن هذا الشيء ليس واجباً وإنما هو تطوع يتطوعن به. قال الشارح رحمه الله: [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء؛ نصحاً للأمة؛ وحثاً لهم على ما ينفعهم عاجلاً وآجلاً ]. قوله: (حتى النساء) لأن المعروف في الشرع أن النساء لسن أهل مال واكتساب وعمل، وإنما هن مقصورات في البيوت، ومكفيات النفقة وما يلزمهن، هذا معنى قوله: حتى النساء.
ثناء الله على الأنصار بالإيثار
قال الشارح رحمه الله: [ وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار رضي الله عنهم بالإيثار، فقال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] ]. الإيثار معناه: أن يبذل الشيء وهو محتاج إليه، فهو يؤثر على نفسه، يعني: يعطي الشيء الذي هو بحاجة إليه، والأنصار رضوان الله عليهم كانت هذه صفتهم، فأثنى الله جل وعلا على من يؤثر غيره على نفسه؛ لأن الحاجة قائمة ولكنه يقدم فيها غيره من المسلمين. قال الشارح رحمه الله: [ والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة، وقد قال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8-9] ]. يعني: هذا معنى الإيثار، قوله: (ويطعمون الطعام على حبه) أعم من الإيثار؛ لأن الإنسان مجبول على حب المال، وهذا شيء ثابت في طبيعة الإنسان أنه يحب المال، وإذا أنفق من المال وهو يحبه فهذا دليل الإيمان والرغبة في الآخرة، وقد أثنى الله جل وعلا على من كانت هذه صفته.
من حقوق المسلمين(5/384)
قال الشارح رحمه الله: [ والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جداً، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغَّب، وبالله التوفيق. قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه) هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين]. الظاهر أنه إذا دعا الإنسان أخاه يجب عليه أن يجيبه، وقد يكون هذا فيه سؤال وقسم، فيقسم عليه أنه يغديه أو يعشيه أو يقيم اليوم عنده كما يحصل لكثير من الناس الآن، ويتحرج بعض الناس من هذا، وهذا في الواقع إذا كان المقصود الإكرام فإنه لا يلزم إجابته، ولا يلزم الذي أقسم كفارة إذا لم يجبه؛ لأنه أراد إكرامه، وهذا لأن أبا بكر رضي الله عنه لما قص أحد الصحابة رؤيا رآها عند النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر : دعني أفسرها، وفسرها ثم قال: أقسمت عليك أن تخبرني هل أصبت أو لم أصب؟ فلم يخبره. وكذلك لما أمره أن يبقى في الصف، ومعروف أن أمر الرسول واجب، فلما أمره بذلك، قال: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بالناس والرسول صلى الله عليه وسلم خلفه. فإذا عرف الإنسان أنه يريد الإكرام بذلك فلا يلزم إجابته، ولا يلزم المقسم الكفارة في ذلك، أما إذا كان لا يقسم إلا على شيء يريد منه الأمر فيه والنهي عنه، فهذا يجب على المسلم أن يبر قسمه؛ لأن هذا من حق المسلم على المسلم، ولو لم يفعل ذلك لزمته الكفارة. قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه) ، ندبهم صلى الله عليه وسلم إلى المكافأة على المعروف، فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله تعالى ورسوله كما دل عليه هذا الحديث، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئيم من الناس، وبعض اللئام يكافئ على الإحسان بالإساءة كما يقع ذلك كثيراً من بعضهم، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة؛ طاعة لله، ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه، كما قال(5/385)
تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:96-98]، وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35]، وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة ]. معنى (ادفع بالتي هي أحسن) يعني: ادفع الأذى والإساءة التي نالتك من غيرك بالحسنة، والمعنى: (ادفعها بالحسنة) بأن تحسن إلى من أساء إليك، وهذا لا تتحمله نفوس كثير من الناس، لا يستطيع ذلك، ويقول: كيف يسيء إلي ثم أحسن إليه؟! وإنما يستطيع ذلك من يرغب فيما عند الله، ويعلم أن الدنيا لا قيمة لها، فيكتسب بكل ما يستطيع رضا ربه جل وعلا، وكذلك رفعة الدرجة عنده، ولهذا قال: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35] يعني: ذو حظ عند الله جل وعلا، وهم الذين يرغبون فيما عنده، ويعملون على تحصيله بعدم الانتقام لأنفسهم، وعدم أخذ حقوقهم، بل يتركونها لله، ومع ذلك يحسنون إلى من ظلمهم وأساء إليهم، رجاء ما عند الله، وليس خوفاً منهم، وإنما يرغبون فيما عند الله فيحسنون إلى من أساء إليهم. وهذا ليس واجباً على الإنسان، وإنما يستجب، فإن الله جل وعلا يقول في آية أخرى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] إذا جازيت المسيء بالسيئة فقد جازيته وصرت مثله، ولكن أنت لا تتميز عنه إلا بأن تعفو عنه، وإن صار عندك خير وفضل عفوت وأحسنت، وهذا لا يصل إليه إلا الأبرار. [ قوله: (فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له) أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة مكافأة للمعروف: فيدعو له بحسب معروفه. قوله: تُروا -بضم التاء أي:(5/386)
تظنوا- أنكم قد كافأتموه، ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى: تعلموا، ويؤيده ما في (سنن أبي داود ) في حديث ابن عمر : (حتى تعلموا) فتعين الثاني للتصريح به. وفيه: (ومن سألكم بالله فأجيبوه) أي: إلى ما سأل فيكون بمعنى: أعطوه، وعند أبي داود -في رواية أبي نهيك - عن ابن عباس : (من سألكم بوجه الله فأعطوه)، وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث: (ومن سألكم بالله)، كما في حديث ابن عمر ]. روى النسائي : (من صنع إليك معروفاً فقلت: جزاك الله خيراً فقد أبلغت في مكافأته)، وهنا يقول: (فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)، وقلنا: إن المعنى أن تبادروا في الدعاء وتبالغوا فيه حتى يحصل العلم لكم بأنها قد حصلت المكافأة، هذا معناه، فلا ينافي هذا ما ذكره النسائي أنه إذا قال: جزاك الله خيراً فقد كافأه؛ لأن كون الإنسان يقول: جزاك الله خيراً، قد تقبل وقد لا تقبل، والخير يعم الدنيا والآخرة، ومن أعظم الخير أن يدخله الجنة، والدنيا كلها ما تساوي شيئاً بالنسبة للخير الذي يكون في الآخرة. فالمعنى واضح في قوله: (من قال: جزاك الله خيراً فقد حصلت مكافأته)، وواضح بأن خير الآخرة وإن كان قليلاً فهو أعظم من الدنيا كلها، كما في الحديث الصحيح: (لموضع سوط في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس)، الدنيا كلها لا تساوي موضع سوط، فإذاً: لا منافاة بين ما رواه النسائي وبين هذا الحديث. ......
مسائل باب: لا يرد من سأل بالله(5/387)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: إعاذة من استعاذ بالله ]. معنى (إعاذته) أنه إذا استعاذ بالله من شر المخاطب الذي يخاطبه أو من غيره وقال: أعوذ بالله من شرك؛ فإنه يجب أن يكف عنه الشر، هذه إعاذته، تكف عنه شرك أو تكف عنه شر من تستطيع كفه. [ الثانية: إعطاء من سأل بالله. الثالثة: إجابة الدعوة. الرابعة: المكافأة على الصنيعة. الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه. السادسة: قوله: حتى تروا أنكم قد كافأتموه.]......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [122]
لقد نهى الشارع الحكيم عن التسخط وعدم الرضا بالقدر، لما في ذلك من الاعتراض على الله سبحانه وتعالى وشرعه وحكمه؛ وهذا منافٍ للإيمان، ومن ذلك التسخط بكلمة (لو) على أقدار الله، والظن بأن الأسباب تغير المقادير.
باب ما جاء في اللو(5/388)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في اللو. وقول الله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] ]. من المعلوم أن الطريق إلى الله جل وعلا ليس إلا بإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى السعادة الأخروية إلا إذا سلك الطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن والحديث الذي كان يقوله ويبلغه الأمة من أن الله تعالى موصوف بالصفات العلى، موصوف بأنه سميع عليم بصير، وبأنه حي قادر مريد، وبأنه يتكلم جل وعلا ويفعل ما يشاء، وبأن له وجهاً كريماً جل وعلا، وبأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأنه جل وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو قاله الله جل وعلا يجب أن يعتقد على ظاهره، ولا يجوز أن يُؤَوَّل وتطلب له الوجوه البعيدة الغريبة التي تخرج الكلام عن ظاهره، كما يفعله أهل الكلام الذين ابتلوا بالفلسفات وبالكلام الذي لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان الأئمة، مثل: سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وغيرهم رحمهم الله يقولون: من اعتقد في مثل قول الله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] غير ما في قلوب عوام المسلمين فإنه ضال. ومقصودهم بهذا أن القرآن على ظاهره، أن الله خاطبنا بخطاب واضح جلي لا نحتاج معه إلى أن نبحث عن فلسفات وأمور بعيدة على اللغة، وذلك أن الله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ(5/389)
[المائدة:67]، فهذا أمر من الله جل وعلا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المنزل إليه إلى الأمة، ولا شك أنه بلغ، ولم يبلغنا التأويل الذي يقوله هؤلاء المتكلمون، وهذا يدل على أنه باطل؛ إذ لو كان من الحق لبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الله جل وعلا إذا قال لنا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] .. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] وما أشبه ذلك من الآيات أن ظاهر هذه الآيات أن له سبحانه وتعالى وجهاً يليق بجلاله، على حد قوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله جل وعلا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وقوله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22]، وقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وما أشبه ذلك من الآيات التي تدل على تفرده جل وعلا بالكمال وبما يتصف به، وأن المخلوق لا يشاركه جل وعلا في صفاته أو أفعاله. فإذا أخبرنا أن له يداً وأن له رجلاً جل وعلا، وأنه يضع رجله في جهنم حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق على أهلها، إذا أخبرنا بذلك وجب قبول هذا والإيمان به على ما يليق بعظمة الله جل وعلا، وكذلك إذا أخبرنا أن له وجهاً. أما التأويل الباطل مثل قولهم: الوجه المقصود به الذات فهو باطل، ولا يقال في اللغة العربية: (اثنان وجه)، أو: (يد فلان وجه) أو (رجل فلان وجه)؛ فإن هذا لا يفهم ولا يأتي لغة ولا شرعاً. إذاً هو باطل، ولو أن أمامنا رجلين أحدهما أخذ بظاهر القرآن وبظاهر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر لم يأخذ بذلك بل قال: هذا الظاهر يدل على التشبيه ولا يجوز أن نأخذ به، ويجب أن نؤوله حتى لا نقع في ظاهر التشبيه ومضيا على هذا السبيل، ثم وقفا أمام الله وحاسبهما، فقال الأول: يا رب! سمعتك تقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك، وسمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك. والآخر(5/390)
يقول: ظننت أن هذا هو الحق، واعتقدت أن ظاهر خطابك وخطاب رسولك أنه غير مراد فأيهما أولى بالنجاة؟ لا شك أن الأول هو أولى بالنجاة؛ لأنه اعتصم بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقال في جميع الصفات؛ لأن باب الصفات واحد، فهو باب إثبات ونفي المشابهة -مشابهة المخلوقين- وليس باب تأويل، ومن كان سالكاً هذا المسلك -التأويل- فإنه على خطر عظيم بغير شك، بل لا نشك أنه ضال في ذلك، وأمره إلى الله جل وعلا هو الذي يتولى حسابه؛ لأنه هو الذي يتولى حساب عباده جل وعلا. يقول: [باب ما جاء في اللو] (اللو) هنا أصلها (لو)، فأدخلت (أل) عليها، وإدخال (أل) عليها لا يفيد المعرفة؛ لأن (لو) حرف وضع لمعنى كما هو معلوم، و(أل) قد تدخل على المعرف ولا تزيده تعريفاً، كما يقول الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله فأدخل (أل) على يزيد ولم تزده تعريفاً، ولكنها قد تدخل في اللغة على المعرف ويبقى على ما هو عليه. ومقصوده بهذا ما جاء من النهي والوعيد لمن قال: (لو) معترضاً بذلك على قدر الله جل وعلا. أي: إذا وقع في أمر من الأمور يعترض ويقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولو أني ما فعلت كذا ما كان كذا وكذا. و(لو) في مثل هذا المعنى فيها محاذير عدة، سواء قصد بها الاعتراض على المقدر أو قصد بها الاعتراض على الأمر والنهي، والأمر والنهي هما متلازمان، فأمر الله جل وعلا وشرعه يجب أن ويمتثل كما يجب أن يجتنب نهيه. والذي جاء فيها هو الاعتراض على المقدر، ولكن (لو) قد تأتي في أمور مستقبلة تدل على أن المتكلم بها يريد أن يفعل كذا وكذا فلا تكون داخلة في النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة). فهذا يدل على أنه في المستقبل الذي سيقع سيفعل كذا وكذا، ولا يدل ذلك على أنه يعترض على الواقع، وكذلك قوله: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) يقصد امرأة(5/391)
معينة، وما أشبه ذلك كثير مما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه تدل على أنه لو تبين له في المستقبل الأمر على هذا النهج أنه يفعل كذا وكذا، فهو يخبر عن عقيدته وعن فعله الذي سيفعله إذا صار ذلك، وهذا ليس فيه اعتراض على القدر. ......
سبب نزول قوله تعالى: (لو كان لنا من الأمر شيء ...)
أما الآية التي ذكرها المؤلف، وهي قوله جل وعلا: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]. فالآية نزلت في قصة أحد كما هو معلوم من سياق الآيات، والآيات كلها في قصة أحد، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بألف مقاتل من أهل المدينة، وفي أثناء الطريق بين أحد والمدينة رجع عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ورجع معه ثلاثمائة من الذين تأثروا به، وقال: يطيع أمر الصبيان -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- ويترك رأيي ورأيه! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى أن يبقى المسلمون في المدينة ولا يخرجون، ولكن ألح عليه بعض الصحابة الذين تخلفوا عن وقعة بدر طلباً للشهادة، وكانوا يحبون لقاء العدو، فألحوا عليه وطلبوا أن يخرج بهم إلى العدو، وكان يشير عليهم أن يجلسوا في المدينة، فإن دخلوا عليهم قاتلوهم في الطرقات والنساء ترميهم من فوق السطوح، وكان هذا هو الرأي الذي يكون موفقاً في ذلك الوقت، ولكن أمر الله لابد من نفاذه. فلما أكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيته ولبس سلاحه، ثم لام بعضهم بعضاً وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله(5/392)
عليه وسلم على شيء ما ينبغي لنا ذلك. فلما خرج قالوا له: يا رسول الله! إن شئت أن نبقى بقينا فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه). فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه، وفي أثناء الطريق رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش من أصحابه وبقي بعضهم، فهؤلاء هم الذين قالوا: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، فهم يعترضون على ما وقع، وذلك أنه -كما هو معلوم- لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي فيه القتال وزع الجيش، ووضع سبعين من الرماة على الجبل -وهو يسمى الآن جبل الرماة- وقال: انضحوا عنا الخيل ولا تعدوا مكانكم حتى أرسل إليكم، وإياكم أن تتركوا المكان قبل أن أرسل إليكم ولو رأيتمونا تخطفنا الطير. يعني: لو رأيتمونا نقتل فلا تعدوا مكانكم وهذا تأكيد. فلما بدأ القتال ما هي إلا ساعة من نهار حتى انهزم الكفار أمام المسلمين، والمسلمون خلفهم يقتلون ويأخذون ما يأخذون، فلما شاهد الرماة ذلك قالوا: علام نجلس هنا وقد انهزم الكفار؟ ما لجلوسنا هذا فائدة فذكرهم أميرهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا أن يطيعوه، ولحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع المسلمين ليأخذوا من الغنائم، فجاءت خيل المشركين وكانت بقيادة خالد بن الوليد -قبل أن يسلم- من خلف المسلمين، فقُتِل من المسلمين سبعون رجلاً، وجرح من جرح، وجُرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. هذا الذي أخبر الله جل وعلا به فقال: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152] يعني: حصل ذلك بسبب الفشل والتنازع ومعصية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فحصل ما حصل من قتل، فلما قتل من قتل. قال هؤلاء: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ(5/393)
شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]. ومعلوم أن هذا شيء مقدر مكتوب قبل خلق السموات والأرض، وأن الشيء إذا وقع يجب أن ينقاد له المؤمن ويؤمن به ويسلم لله جل وعلا، وأن يقول (إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل).
الاعتراض على الله
قولهم: (لو كان لنا من الأمر شيء) يعني: لو كان التدبير لنا ما خرجنا إلى هذا المكان، ولا قتل من قتل من أصحابنا. والمقصود بقولهم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، المقصود به أصحابهم الذين قتلوا من إخوانهم من نسب وأقرباؤهم وغيرهم من الذين قتلوا، فهم يقولون ذلك على سبيل الاعتراض على القدر، وأنهم كان يستطيعون أن يغيروا من الواقع بتدبيرهم. يقولون ذلك على سبيل التحسر والتأسف لما وقع، وكل هذا لا يجوز أن يكون؛ لأنه لا يمكن أن يقع دقيق ولا صغير ولا كبير إلا بتقدير الله جل وعلا وإرادته، وهذا لا ينافي الحديث الذي سيذكره المصنف، بل هو يتفق معه. فالإنسان عليه أن يعمل السبب الذي أمر به ويجتهد فيه، ثم إذا وقع شيء خلاف ما قصد فعليه أن يسلم لقضاء الله وقدره، والإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، فأركان الإيمان ستة، وأحد أركانه الإيمان بالقدر خيره وشره، أي: أن كل ما وقع من الأمور التي تسر أو تضر كلها مقدرة ومقضية قبل أن توجد الأنفس التي وقع عليها ذلك، كما أخبر الله جل وعلا بذلك فقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] أي: مكتوب مسجل مقضي ومفروغ منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء). أي: كل شيء كتب في ذلك اليوم، ثم يقع على وفق هذه الكتابة بلا زيادة ولا نقص في الوقت المحدد الذي حدده الله جل وعلا لذلك(5/394)
بغير تقدم ولا تأخر، ولا زيادة ولا نقص، وما تسقط من ورقة ولا يحصل كبير ولا صغير إلا وقد قدر وكتب وفرغ منه، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11] يعني: بأمر الله وتقديره وإرادته وخلقه .. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]. إذاً: قول القائل عندما يقع في أمر مكروه: لو أني فعلت كذا لما صار كذا، هذا من شأن المنافقين الذين يظنون بالله ظن الجاهلية، وظن الجاهلية سيأتي الكلام عليه في باب ظن السوء بالله جل وعلا، أنه كل ظن يتضمن باطلاً يخالف الشرع أو القدر فهو من ظن الجاهلية، وأن ظن السوء يجب أن ينزه العبد ربه سبحانه من هذا الظن؛ لأنه متوعد عليه إذا فعله. فمثلاً: إذا سافر الإنسان فوقع له حادث أو ذهب ببضاعة فخسر فيها فيقول: لو أني لم أسافر ما وقع لي كذا، ولو أني ما ذهبت بهذه الأموال إلى هذا البلد الفلاني أو هذا المكان الفلاني ما خسرت. فهذا لا يجوز؛ لأنه بذلك يظن أنه يمكن أن يواجه الواقع، ويمكن أن يتغير الواقع، وهذا غير ممكن، فالشيء الواقع لا يمكن تغييره، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس : (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ). يعني: ليس هناك تغيير، وكل ما يقع فإنه أمر مقدر لا يجوز الاعتراض عليه بقول (لو)، واعلم أن (لو) تفتح عمل الشيطان مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً هذا هو معنى قوله تعالى في هذه الآية: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ(5/395)
لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] يعني: أنهم قالوا ذلك على سبيل الاعتراض على ما وقع من قتل الصحابة وهزيمة من انهزم، وما وقع من انتصار الكافرين، وهذا من باب الابتلاء، ولهذا قال جل وعلا في حكمة ذلك قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] يعني: بسبب أنفسكم، وأنتم الذين أفسدتم في هذا وعصيتم. وهذه يجب أن يعتبر بها الإنسان، فهؤلاء أفضل الخلق من هذه الأمة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، ومع أفضل الخلق من رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم، ووقعت لهم هذه المخالفة فأصيبوا بهذه المصيبة بسبب ذلك، فكيف إذا خالف الإنسان فيما هو أعظم من ذلك وهو أيضاً لا يصل إلى عشر أولئك، فإنه لا يجوز أن يقول: لماذا أنا أصبت بكذا؟ وقد يخرج الإنسان من ظل الإسلام بالاعتراض على القدر، فكثيراً ما تسمع بعض ضعاف الإيمان إذا أصيب بمصيبة، إما مرض أو مصائب أصيب بها بسبب والد أو ولد أو ما أشبه ذلك، تجده يقول: أنا لا أدري من أين جاءتني هذه المصيبة؟ أنا أعمل كذا وكذا، وأنا أصلي! ما معنى هذا؟ معناه أنه ما رضي بما قدره الله، وكأنه يقول: إن الله ظلمني، فأنا لا أستحق هذا الشيء الذي وقع في! وهذا إذا قاله الإنسان بهذا المعنى يخشى إن يخرجه من دين الإسلام؛ لأنه اعترض على ربه ولم يرض بما قدره له جل وعلا، ولهذا فالذين يذعنون ويسلمون وينقادون يثيبهم الله جل وعلا مع أنهم لا يغيرون في الواقع شيئاً، قال تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]، ففرق بين من ينقاد لربه ويعلم أنه ملك لله، وأن الله يتصرف فيه كيف يشاء فهو مملوك له، وإذا أعطاه شيئاً فهو فضله عليه، وإن أخذه فهو ملكه، فيقول: (إنا لله وإنا(5/396)
إليه راجعون)، ويقول: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) هذا هو الذي يصلي عليه ربه ويزيده على الصلاة رحمة، أما الذي يعترض فيقول: لا أدري من أين أصابتني هذه المصيبة؟ أنا لم أعمل شيئاً أستحق به ذلك يعترض على ربه جل وعلا، ولم يسلم بالقدر: فهو إما جاهل يجب أن يعلم ويحذر من ذلك، وإما أن يكون عارفاً بذلك ويكون شأنه شأن المنافقين الذين اعترضوا على ما وقع بتقدير الله جل وعلا. ومعلوم أن مناسبة ذلك لباب التوحيد ظاهرة، فالذي يعترض على أقدار الله إما أن يكون منافياً للتوحيد وإما أن يكون توحيده ناقصاً على أقل حال، ويجب أن يتلافى هذا النقص ويبتعد عنه بأن يعلم أنه عبد لله مملوك لله، وأن أقدار الله جل وعلا جارية، وأنه لا ينفع قوله (لو)، وإنما (لو) تزيد في الأسى، وتفتح باب التسخط والحزن، وتكون وبالاً عليه.......
شرح قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ...)(5/397)
[قال المصنف رحمه الله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] ]. وهذا في نفس سياق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]: يعني لو أطاعونا في مشورتنا لهم بأن لا يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم القتل. وقد أخبر الله جل وعلا في الآية التي قبلها أنهم لو كانوا في بروج مشيدة وكانوا في بيوتهم وفي حصونهم لبرز الذي كتب عليهم إلى مضاجعهم، فلابد أن يأتي شيء يبرزهم إلى ذلك؛ لأن الله كتب قبل خلق السموات والأرض أنهم سيقتلون في هذا المكان، فلابد أن تتهيأ الأسباب إلى إخراجهم إلى المضاجع التي سقطوا فيها قتلى. فهذا نفس السياق السابق، فهذا شأن المنافقين التحسر على ما وقع، وظنهم أنهم يستطيعون أن يغيروا من الواقع بالتدابير التي يتخذونها، وهذا كذب واعتراض على أقدار الله. وقد جاء في تفسير ابن أبي حاتم بسنده، وكذلك في تفسير ابن إسحاق عن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: (ألقى الله جل وعلا علينا النعاس بعدما وقعت الواقعة). والنعاس في مواطن القتال علامة النصر وعلامة الإيمان، ولهذا قال الله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] ليسوا كلهم: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، هؤلاء هم المنافقون، وهم أخور الناس وأخوفهم، فلشدة الخوف والخور لا يأتيهم النعاس، بخلاف أهل الإيمان فإنه يلقى عليهم النعاس، وهذا علامة النصر وعلامة الظفر في مواطن القتال، والنعاس عند الصلاة علامة استحواذ الشيطان على الإنسان. يقول(5/398)
عبد الله بن الزبير عن أبيه: ألقي عليّ النعاس حتى صار سيفي يسقط من يدي فآخذه، بينما أنا كذلك إذ سمعت معتب بن قشير كأنه حلم يقول: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، وهذا وإن كان قاله فرد فمؤكد أنه قول طائفة المنافقين أجمع؛ لأنهم كلهم على هذا النحو. فهم الذين قالوا لإخوانهم: لو أطاعونا ما قتلوا. والمقصود بالإخوان هنا إما إخوان النسب وليس إخوان الدين؛ لأن المنافقين ليسوا إخواناً للمؤمنين إلا في الظاهر، أو يكون المقصود الظاهر؛ لأنهم يشاركونهم بالأعمال الظاهرة من الصلاة ومن الجهاد وغيرها من أمور الإسلام ولكنهم في الباطن ليسوا إخواناً لهم، فإما أن يقصد به الظاهر أو يقصد به إخوان النسب؛ لأنه معلوم أن الأنصار في القبيلة الواحدة بل البيت الواحد فيه مؤمنون خلص من أفضل المؤمنين، وفيه منافقون. والنفاق ما كان إلا في المدينة، ولم يكن النفاق إلا بعد وقعة بدر، وقبل ذلك لم يكن هناك نفاق؛ لأن الأمر فيه واضح إما كفر وإما إيمان، والنفاق لا يكون إلا إذا اشتد الإسلام وظهر وصار له قوة وسلطة، عندها يحدث النفاق فيوافقون في الظاهر وهم مخالفون في الباطن، فهؤلاء هم الذين قالوا هذه المقالة أيضاً، قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168] يعني: تخلفوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] يعني: أطاعونا بعدم الخروج. وهذا اعتراض على القدر وتأسف على الواقع وحزن عليه، فهم يظنون لو أنهم امتثلوا مشورتهم ما حصل لهم ما حصل، وهذا خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن القدر الذي وقع وكتب لابد من نفاذه، ويقال في هذه الآية ما قيل في الآية السابقة تماماً. ......
الاستعانة بالله وترك كلمة (لو)(5/399)
[قال المصنف رحمه الله تعالى: وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) ]. قوله: (وفي الصحيح) يعني: في الحديث الصحيح. والحديث في الصحيحين: البخاري و مسلم، ولكن اللفظ الذي ذكره هنا من رواية مسلم ، ويجوز أن يكون في الصحيح؛ لأنه اختار لفظ مسلم، وهذا جائز، والحديث أوله قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان). وهذا حديث عظيم، لهذا يقول ابن القيم رحمه الله: فهذا الحديث يجب على كل مسلم أن يعرفه ويتحلى به، ومعرفته إياه ضرورة أشد من ضرورة الطعام والشراب. لعظم هذا الحديث، وذلك أن فيه أصلاً عظيماً جداً، وهو الإيمان بالقدر. ......
شرح حديث: (المؤمن القوي خير وأحب ...)(5/400)
وقوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) المقصود بالقوي هنا: القوي في إرادته ودينه وقوة الإيمان لا تستلزم قوة البدن، بل قد يكون الإنسان ضعيف البدن وإيمانه مثل الجبل وعزيمته أقوى من الحجر، وهذا الذي يحبه الله جل وعلا. فالله جل وعلا قوي يحب القوي من المؤمنين، وهو جميل يحب الجمال، وهو كريم يحب الكرماء، وهو رحيم يحب الرحماء، والمؤمن القوي في أمر الله وفي دينه وفي عزيمته يحبه الله جل وعلا، وهو خير من المؤمن الضعيف. وهنا كلمة (خير) تفضيل، والجانب الثاني يكون فيه خير، والمؤمن الضعيف فيه خير ولكن المؤمن القوي أفضل منه، ومحبة الله له أفضل من عمله الذي يعمله وأعظم؛ لأن أسباب المحبة هي قوة الإيمان لموافقة أمر الله جل وعلا والامتناع عن نهيه بقوة وعزيمة، هذه هي التي سببت له محبة ربه جل وعلا، فالله يحبه أكثر من المؤمن الضعيف؛ لأن الضعيف قد تغلبه شهوته فيواقع المعصية، وقد تكون إرادته في فعل الفرائض ضعيفة فيترك بعضها، أو يقصر فيها فيحصل له الضعف من نواحي الترك والفعل. ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب، ويعلم أن هذا العبد القوي والضعيف سيفعل كذا قبل وجوده، ولكن هذا فضل الله يضعه حيث يشاء، فهو أعلم حيث يضع الفضل، كما قال جل وعلا: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فيضع فضله في المكان اللائق به، ويمنع فضله المكان الذي لا يليق أن يوضع الفضل فيه، والفضل يتفاوت كما في هذا الحديث، وبعض المؤمنين يكونون أحب إلى الله وهم يتفاوتون، وكلما كان إيمان العبد أكمل فمحبة الله له أكثر وأتم. (وفي كل خير) يعني أن المؤمنين على خير، إلا أنهم يتفاوتون هذا التفاوت العظيم في المحبة وكذلك في الجزاء. ولهذا عرف أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، وما بين درجة والأخرى مثلما بين السماء والأرض، وكون الذي يكون في الأعلى يكون بقوة الإيمان وبكثرة العمل الذي يعمله، وفرق بين من يكون في(5/401)
أدنى درجات الجنة ومن يكون في أعلاها عظيم جداً، فالفرق في الجزاء مرتب على الفرق في القوة في الإيمان والعمل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالحرص يكون بأمرين: أحدهما: هو بذل الوسع والجهد والطاقة على الفعل. الثاني: أن يكون الحرص في الفعل النافع. فإذا وجدا هذان الأمران فمعنى ذلك أن هذا عنوان السعادة للإنسان، فيكون حريصاً ويكون حرصه على ما ينفع، ومعلوم أن النفع المقصود به نفع الآخرة والنفع في الدين، أما الدنيا فإن الله يعطيها من يحب ومن لا يحب؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، أما الدين فلا يعطيه الله جل وعلا إلا من يحبه. فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالحرص، والحرص هو بذل الوسع والجهد في العمل، والإنسان يحرص أن يكون حرصه على النافع، ثم يضاف إلى هذين الأمرين الاستعانة بالله جل وعلا، فيفعل السبب ويكون جاداً في ذلك حريصاً عليه مستعيناً بالله. قوله: (واستعن بالله) وهذا يكون بتمام العبادة، وصاحبه متحلٍ بقوله جل وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. فحرصه على ما ينفع عبادة، والاستعانة بالله جل وعلا على حصول ذلك عبادة، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن هذا الحديث من أنفع ما ينبغي أن يتحلى به الإنسان ويعرف معناه. وقوله: (ولا تعجزن) العجز ضد الحرص. يعني: أن يكسل ويترك العمل لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلا يكلف الإنسان شيئاً لا يطيقه، ولكن لا يترك الشيء الذي يطيقه ويستطيعه، فإن تركه فهو عاجز، فالذي ترك الشيء الذي يستطيع فعله من الطاعات عاجز. أي: أخلد إلى الأرض واتبع هواه، وترك ما ينبغي له أن يفعله، وهذا هو العجز. (ولا تعجزن) والنون هنا مؤكدة، فهي تأكيدٌ للفعل المضارع، فيؤكد ليهتم الإنسان بذلك ويبتعد عن العجز. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء) يعني: إذا حرصت على النافع واستعنت بالله فلم(5/402)
يحصل لك مرادك فلا تقل: (لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاء فعل). ويجوز أن تقول بالتخفيف (قدر الله) بالإضافة. يعني: هذا الذي وقع هو قدر الله الذي قدره. ويجوز أن تقول: (قدّر الله وما شاء فعل)، و(قدّر): يعني: هذا الذي وقع قدّره الله. والله يفعل ما يشاء تعالى وتقدس، فيسلم الإنسان وينقاد لربه، ويعلم أن عمله الذي عمله لا يؤثر في الواقع في شيء، ولكن الإنسان يؤمر بالحرص والعمل؛ لأنه لا يدري ماذا سيقع، وعند وقوع الشيء فإنه ينقاد لربه ويؤمن بقدره، ويؤمن بأن هذا لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، فالأقدار مقدرة غير معلومة، والإنسان مأمور بالطاعة والحرص على ذلك. وأما الذين يحتجون بالقدر فهم في الواقع يغالطون أنفسهم ويخالفون قدر الله وشرعه، فمثلاً: إذا قلت لإنسان صلِّ يقول: لا. كتب الله علي ألا أصلي. فهذا كذب، وفعله كذب ومغالطة، فهل اطلعت على اللوح المحفوظ وعلمت أن الله كتب عليك أنك لا تصلي؟ أو أنك تريد أنك تبرر لفعلك، وتبرر ما أنت عليه فتحتج بالقدر وتجعل اللوم على القدر وتجعل نفسك ليست ملومة؟! هذا هو الواقع، وهذا القول أسوء من الفعل -نسأل الله العافية-؛ لأن العبد إذا وقع في معصية يجب أن يستغفر ويتوب ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولا يقل: إني مكتوب علي كذا. فإذا قاله فمعناه أنه يقول: أنا راضٍ بما أنا فيه ولن أغير مما أنا فيه. وهذا هو الواقع هو الحقيقة، فيجعل اللوم على القدر وهو بريء من ذلك، وكفى بهذا اعتراضاً على الله جل وعلا وعدم امتثال لأمره؛ فإن الله لم يأمر العباد إلا بالشيء الذي يستطيعونه، والشيء الذي يستطيعونه ليس بضيق وبكلفة، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وتعالى وتقدس. فالواجب على العبد أن يكون عبداً لله جل وعلا ممتثلاً لأمره؛ فإن وقع في شيء لا يرضاه من مصيبة أو ما أشبه ذلك فعليه أن يسلم لقضاء الله الذي قضى، ويؤمن بذلك، ويعلم أنه مكتوب عليه وأنه لا يمكن(5/403)
تغييره، ولهذا ثبت في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال لربه: (يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له موسى: أنت أدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟)، وفي رواية: (لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟) فقال له آدم عليه السلام: (أنت موسى الذي كلمك الله بلا واسطة، وكتب لك التوراة بيده، واصطفاك على الناس بكلامه، فقبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: (فعصى آدم ربه فغوى)، فقال موسى: وجدت أن هذا كتب قبل أن تخلق بأربعين سنة) يعني: هذا مكتوب في التوراة وليس هو في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق؟! فحج آدم موسى) قالها ثلاثاً، يعني: غلبه في الحجة ومعنى ذلك أن موسى عليه السلام لام آدم على المصيبة التي وقعت له وهو ليس بذنب؛ لأن الذنب قد علم موسى أنه تاب منه وتاب الله عليه، والتائب من الذنب لا يجوز أن يلام عليه، والإنسان إذا وقع في ذنب وتاب منه فلا يجوز أن تأتي إليه وتقول: أنت وقعت في كذا وكذا. فهذا حرام، وموسى أعلم بالله وأتقى من أن يلوم آدم على ذنب قد أخبر الله جل وعلا أنه تاب عليه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، ولكن اللوم على المصيبة والأثر الذي هو الخروج من الجنة، ولهذا قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، والخروج مصيبة، ولو كنا في الجنة ما حصل ما يحصل الآن، أعني كون أكثر الناس كفاراً، وكون أشياء كثيرة تحدث، فأخبر أن هذا الشيء مكتوب لا يمكن تغييره ولابد منه، ولهذا غلبه في الحجة، فالشيء الذي يقع للإنسان أمر مقدر عليه يجب أن يسلم ويرضى؛ فإنه لا حيلة له فيه، فما أمامه إلا أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل)، أما إذا كان له فيه حيلة مثل المعصية فيجب أن يتوب ويستغفر ويقلع عن الذنب، أما إذا وقع في ذنب يمكن استدراكه ويقول: (هذا قدر الله) ويستمر(5/404)
عليه فهذا لا يجوز، وعليه أن يستدرك ما يستطيع، أما أن يتعذر بالقدر فلا، ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب والمعائب هي الذنوب، ويجب على العبد أن يتوب ويستغفر، والمصيبة التي تقع يجوز أن يقول فيها: الحمد لله، هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله فيتسلى بذلك، كما قال آدم عليه السلام: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق). فإن فإن وقع الشيء الذي لا تريده وحصل خلاف ما تريد فلا تقل: (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) يعني: قولك (لو) لا يأتي بخير، وإنما يفتح عمل الشيطان من الأسى والتأسف والحزن والاعتراض على القدر، وعمل الشيطان كله شر يقود الإنسان إلى ما هو شر، ولهذا يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم للنافع وينهى عما فيه افتتاح عمل للشيطان، وهو أنه إذا وقع في مصيبة فإن كانت المصيبة يمكن استدراكها وتمكن الحيلة فيها والإقلاع عنها إذا كانت ذنباً بالاستغفار فهذا واجب العبد أن يستغفر ويتوب ويقلع عن الذنب، أما إذا كانت مصيبة في ماله أو في نفسه بمرض أو في ولده أو في قريبه أو ما أشبه ذلك فله أن يقول: هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله، والحمد لله رب العالمين. وهذا هو شأن العبد المؤمن. ......
الوعيد والنهي عن قول (لو)(5/405)
[قوله: باب ما جاء في اللو أي: من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة كالمصائب إذا جرى فيها القدر؛ لما فيه من الإشعار بعدم الصبر، والأسى على ما فات مما لا يمكن استدراكه. فالواجب التسليم للقدر والقيام بالعبودية الواجبة، وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره، والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة ]. الصبر أصل عظيم لا يمكن أن يستقيم إيمان الإنسان إلا به، والصبر في دين الله جل وعلا في أمور ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله إذا وقعت، ويجب أن يكون المؤمن متحلياً بهذه الأقسام كلها، فيصبر على الطاعة ويصابر، ويصبر عن المعصية فلا يقع فيها، ويصبر على قدر الله جل وعلا إذا وقع فيه كالمصائب. [وأدخل المصنف رحمه الله أداة التعريف على (لو)، وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفاً كنظائرها؛ لأن مراد هذا اللفظ كما قال الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله وقوله: وقول الله عز وجل: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، قاله بعض المنافقين يوم أحد لخوفهم وجزعهم وخورهم. قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] لقول معتب . رواه ابن أبي حاتم . قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى(5/406)
مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] أي: هذا قدر مقدر من الله عز وجل، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه. وقوله: وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] أي: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] أي: إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي لكم ألا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، يعني أنه هو الذي قال ذلك ]. ومما يستشهد به على ذلك لما حضرت الوفاة خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو على فراشه قال: (قاتل الله الجبناء -أو قال: لا نامت أعين الجبناء- ليس في بدني موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت على فراشي) يعني: لأن القدر الذي قدره الله وكتبه لابد من وقوعه. ......
العمل بالأسباب لا ينافي القدر ولا يصادمه(5/407)
[ وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى -المنافقون- ليس لها هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل. قوله: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154] يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] . قال شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان -أو كما قال- انخذل معه خلق كثير كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية أو كان المسلمين ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين وهم مؤمنون بالرسل باطناً وظاهراً، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا: آمنا فقيل لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] أي: الإيمان المطلق الذي أهله هم مؤمنون حقاً؛ فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند(5/408)
المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب. انتهى. قوله: وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة. قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره والله المستعان. قوله: في الصحيح -أي صحيح مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص) الحديث ]. قوله: (باب ما جاء في اللو) المقصود الاعتراض على القدر أو الاعتراض على الشرع، أما الاعتراض على القدر فيكون بعد وقوع الشيء، ينظر إلى الأسباب وإلى الأمور التي يفكر أنه يمكن أن يفعلها، فينجو من ذلك فيقول: لو أني فعلت كذا ما صار كذا وكذا. وفي نفسه عند هذا القول من الضيق والحرج والأسى والسخط لما وقع فيه، فهو غير راضٍ بما وقع، ويرى أنه يمكن أن يغير، وهذا كله من الكفر بالله جل وعلا. أما الاعتراض على الشرع فمثله ما ثبت عن أبي عن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين حينما قام يخاطب أصحابه في أحد ويقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان فلهذا حصل ما حصل! فهو يعتمد على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وما أمر به، ويرى أنه غير حكيم وغير رأي حازم كما هو شأن المنافقين في كل وقت، والآية فيها أن الله جل وعلا قسم الناس إلى قسمين: قسم أنزل عليهم النعاس في مصافهم أمام العدو، ونزول النعاس في موطن الخوف والحرب دليل النصر ودليل الإيمان، لهذا قال الله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] يغشى طائفة وليس كلهم. هذا قسم، وهؤلاء هم أهل الإيمان الخُلَّص الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم ويقين وبصيرة، وعلموا أنه لا يقع إلا ما قدره الله جل وعلا، وهم راضون بما قدر الله، وإنما إذا وقع ما يرون(5/409)
أنه مصيبة يقولون: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فيزدادون بذلك إيماناً. أما القسم الثاني فهو ما ذكر في قوله: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154] يعني: ليس لهم هم إلا حياتهم، يخافون الموت ويخافون أن يقتلوا، أما أمر الدين ونصره فهذا لا يهمهم، وإنما همهم كله خوفهم على أنفسهم، ولهذا وصفوا بالجبن لأنهم يخافون أن يقتلوا، ووصفوا بالخذلان لأنهم خذلوا المسلمين في المواطن، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في أحد، فإنه رجع بثلث الجيش، وهؤلاء الذين رجعوا ليسوا كلهم منافقين ولكن عندهم ضعف إيمان، وأما المنافق الخالص فهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ولا يخاطب بمثل هذا قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [آل عمران:154]، وسيأتي الكلام على ظنهم هذا وهو ظن الجاهلية: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] أي: لو جعل لنا التصرف وأخذ برأينا وامتثل قولنا ما حصل ما حصل. وهذا واضح في أنه اعتراض على ما قدره الله، أي: أنهم يقولون: يمكن أن يتغير ما وقع، ولو أخذ برأينا ما وقع القتل. مع أن هذا شيء قد كتبه الله جل وعلا قبل خلق السموات والأرض ولا يمكن تغييره، فكل ما يقع من دقيق أو جليل فهو بإذن الله بإرادته وبتقديره السابق، والأمور التي يرى أنها أسباب لا تؤثر في ذلك، وإنما يعتقد هذا من لا يؤمن بقدر الله جل وعلا ولا يؤمن بأسماء الله وصفاته؛ لأن من أسمائه وصفاته جل وعلا (العليم الخبير) الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً، فلا يقع شيء إلا عن خلقه وتقديره، وقد كتب ذلك في كتاب تأكيداً لهذا، وإلا فالله جل وعلا لا ينسى ولا يخفى عليه شيء، فقول هؤلاء: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] يعنون به: ما قتل من قتل من قومنا ومن إخواننا لأن المقتول لا يقول: ما قتلت. ولكن عبروا عن قتل(5/410)
إخوانهم بأنه كقتل أنفسهم، وقد علم أن هؤلاء يقولون ذلك غير راضين به، بل ساخطين بما صار وآسفين عليه، ومتضايقين منه أشد الضيق، وهم مع ذلك يعتقدون أنه يمكن أن يتغير، ولو أخذ برأيهم ما وقع ذلك. فهذا المقصود من المنع من قول (لو) أنها إذا كانت بالاعتراض على قدر الله جل وعلا وعدم الرضا بما وقع، فإن هذا لا يجوز أن يقع من المسلم، أو كان المقصود الاعتراض على تدبير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وشرعه الذي شرعه الله له، وأنه غير حكيم، وأن غيره يمكن أن يكون أحسن منه، فهذا اعتراض على الله وهو من الكفر بالله جل وعلا، كما أن الأول أيضاً عدم رضا بتقدير الله وكذلك عدم إيمان به وأنه لم يقدر ولم يقع عن كتابة وعلم سابق ويمكن أن يغير. أما إذا جاءت (لو) في ذكر شيء يعتقد الإنسان في المستقبل أنه سيفعله، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، وكقوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) لامرأة معينة حصلت الملاعنة بينها وبين زوجها، فلما جاءت بالولد فإذا هو على صفة الرجل الذي رمي بها على نعته شبيهاً به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) أي أن في ذلك يظهر صدق زوجها، ولكن اللعان يمنع من إقامة الحد كما هو معلوم، وكذلك ما جاء من أقواله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كما ذكره البخاري في صحيحه، فإنه ذكر جملة من قول (لو) التي تدل على جواز ذلك وليست من هذا الباب، ولهذا نقول: إن الممنوع أن يقولها الإنسان على سبيل التسخط للواقع وأنه يمكن تغييره بأسباب، فإذا قالها على هذا الوجه فهذا ممنوع، وهو قدح في التوحيد؛ بل قد يكون منافياً له، يقولها أيضاً على وجه الاعتراض على الحكمة التي أمر الله جل وعلا به من أجلها. وقد بين الحكمة جل وعلا في هذه القضية أو شيئاً من الحكمة؛ لأن الحكم كثيرة ولا يعلمها إلا الله(5/411)
جل وعلا، والله جل وعلا يبتلي عباده بأشياء قد لا تظهر لهم الحكمة منها، ويكون ذلك المقصود به تسليم عقولهم لله جل وعلا وانقيادهم بدون اعتراض، أما إذا حصل اعتراض فإنه يحصل الكفر، وهو اعتراض كامن في نفوس كثير من الناس على شرع الله وقدره، وكثير من الناس قد لا يجرؤ أن يقول ما هو في نفسه فيستتر به ويقول: آمنت بالله. ولكن في قرارة نفسه غير ذلك، وقد -مثلاً- يأمن من اللوم والعتاب أو يأمن من النكال والعقاب ولكنه لا يسلم بما في قلبه، وهذا كثير، حتى إنه يوجد في كلام الذين ينسبون إلى العلم، ولكن علمهم لم ينفعهم، كما يقول المعري معترضاً على الله جل وعلا في أبيات له: إذا كان لا يحظا برزقك عاقل وترزق مجنوناً وترزق أحمقاً فلا ضير -يا ربي- على امرئ رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا ومثلها أشياء كثيرة يذكرها هو وغيره، فهذا اعتراض على الله جل وعلا، وكأنه يقول: إنك لست حكيماً، ولست بعادل، ولست بمنصف؛ لأن الذين ينبغي أن ترزقهم ما يحصل لهم الرزق، والذين ينبغي ألا ترزقهم يرزقون، مثل المجانين والحمقى، أما الأدباء والعقلاء فيتمنون الرزق. وهذا أول من قاله إبليس -لعنه الله- حينما قال لربه: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:33]، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] يقول: ينبغي أن يسجد هو لي، وليس أنا الذي أسجد له فهذا اعتراض على الله جل وعلا، ومعلوم أن مثل هذا الذي يعترض على الله لا يرضى أن يكون شريكاً لله، بل يجعل نفسه فوق الله، يجعل نفسه مستدركاً على الله جل وعلا، وهل......
المقصود بالقوة في حديث: المؤمن القوي(5/412)
حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الذي روي في الصحيح يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف)، والمقصود بالقوة هنا قوة الإرادة وفعل السبب، قوي في إرادته مبادر إلى ما أمر به بدون توانٍ ولا فتور. هذا هو القوي الذي يحبه الله؛ لأنه قوي في إرادته وفي عمله الذي أمر به، ويعلم أنه عبد مأمور يجب عليه أن يمتثل ويبادر. قوله: (أحب إلى الله من المؤمن الضعيف) أي: ضعيف الإرادة فقد يكون ضعيفاً في إرادته، وضعيفاً فيما يواجه ولكنه مؤمن ليس عنده اعتراض ولا عنده تسخط، غير أنه ضعيف الإرادة، فهذا يحبه الله، ولكن الأول أحب إلى الله منه، وفي هذا أن الله يحب المؤمنين، وقد جاءت النصوص كثيرة في أن الله يحب أنواعاً من المؤمنين، كما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، ويحب الصادقين، ويحب الذين يسارعون في الخيرات. فالمحبة التي يوصف الله جل وعلا بها صفة تليق به لا يجوز أن نجعلها مثل محبة المخلوقين، ولا يجوز أن نعتقد أن محبة الله كالمحبة التي يفسرها الأشاعرة وغيرهم بأنها ميل في النفس إلى الملائم الذي يقتضي الموافقة أو نحو ذلك؛ فإن هذه محبة المخلوق. أما محبة الله جل وعلا فهي كبقية صفاته لا نعلم حقيقتها، ولكن نعرف ما معنى المحبة، كما أننا نعرف معنى السمع والبصر، أما حقيقة اتصاف الله جل وعلا بها فهذه لا نعلمها ولا نعرفها، فعلينا أن نثبت ما أثبته الله جل وعلا حقيقة ونؤمن به، ولا نجعله كالشيء الذي نعرفه من أنفسنا، كما أنه جل وعلا هو بنفسه لا يماثل شيئاً من خلقه، وكذلك هو في صفاته. فالمؤمن القوي محبوب إلى الله جل وعلا أكثر من المؤمن الضعيف، وهو الذي يكون عنده قوة في تنفيذ أمر الله والامتناع عن مناهيه بقوة، ذو إرادة قوية،(5/413)
فهو يفعل الأسباب أسباب الخير، ويجتنب أسباب الشر مستعيناً بربه ومتوكلاً عليه. ......
عدم العجز والحرص على ما ينفع
ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذا المعنى: (احرص على ما ينفعك)، وهنا أمر بالحرص، والأمر إما أن يكون واجب الامتثال، أو يكون على الأقل مستحباً، ومثل هذا لا يقال: إنه مستحب فقط؛ لأن من الحرص على ما ينفع فعل الصلاة وأداء الزكاة وصوم رمضان والحج وغير ذلك من الأفعال الواجبة. قوله: (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن) هنا تأكيد؛ لأن العجز هو عدم فعل السبب الممكن فعله، هذا هو العجز، التقاعس عن فعل السبب الذي يستطيع أن يفعله، يقال: عجز عنه، بمعنى ضعف عنه. أما الشيء الذي لا يستطيع فعله فلا يوصف بأنه عجز عنه، والله جل وعلا يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والوسع المقصود به هو الشيء الذي يفعله الإنسان بغير مشقة، هذا هو الصحيح في تفسير الوسع، أما إذا فعل الشيء بمشقة فإنه ليس بوسعه، فالله جل وعلا لم يشق على عباده فيما أمرهم به، بل يريد الله بهم اليسر ولا يريد بهم العسر إرادة شرعية. فقوله: (احرص على ما ينفعك) أي: على فعل الطاعات وترك المعاصي هذا هو حقيقته، احرص على فعل الطاعة وقم بها واجتنب المعصية، هذا هو النافع في الواقع، وأمور الدنيا أيضاً يجب أن تكون موافقةً لما أمر الله جل وعلا به، فإن كانت في اكتساب مال فيجب أن يحرص على أن يكتسبه من طريق شرعي، بأن يكون حلالاً، حيث لو أنفق منه أثيب، وإذا تصدق منه أثيب، وإذا تركه لمن خلفه أثيب. أما إذا كان من طريق غير شرعي فإنه إن أنفق منه لم يبارك له فيه، ولم يثب عليه، وإن أنفق منه أيضاً لم يقبل، وإن خلفه للورثه أيضاً لم يثب على ذلك بل يعاقب، فيكون حساباً ثم يكون عذاباً، وأمور الدنيا سبب لأمور الآخرة يجب أن يحرص عليها الإنسان. ثم إذا حرص الإنسان وفعل السبب فليست الأسباب مرتبة على مسبباتها؛ لأنها قد تتخلف، ولأن(5/414)
الأسباب لها موانع، ولا يقع إلا ما أراده الله جل وعلا، فإذا وقع للإنسان الشيء الذي لا يريده وما كان يتوقعه فهنا له حالة أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وهي أن يرضى ويسلم، ويقول: الحمد لله، ويقول: هذا تقدير الله، وأنا مؤمن به وراضٍ.
عدم الاعتراض على أقدار الله عز وجل
قوله: فلا تقل: (لو أني فعلت كذا وكذا) يعني: لو أني ما قلت كذا أو ما فعلت كذا ما صرت إلى هذا الذي صرت إليه. لأن هذا اعتراض على القدر، فكأنه يقول: لو أني فعلت كذا ما وقع علي هذا الشيء. وهذا الذي وقع لا يمكن تغييره، ولو اجتمع الخلق كلهم على أن يمنعوا وقوعه لما استطاعوا؛ لأن الله كتبه وقدره، فقل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان، وعمل الشيطان هو الاعتراض على القدر، وهو التأسف والأسى والحزن لما وقع وعلى ما فات، هذا عمل الشيطان، ثم يوقعه ذلك في الاعتراض على ربه جل وعلا. وعمل الشيطان كله شر ويدعو إلى الشر ونهايته أن يجتمع الإنسان معه في النار، وهذا الذي يسعى إليه الشيطان، ومقصوده كله أن يلقيه في النار ثم يتخلى عنه ويتبرأ منه هناك، فماذا تكون الحالة؟ يكون من أسوأ ما يكون، فإن الشيطان إذا أوقع الإنسان في الشر تبرأ منه، كما أخبر الله جل وعلا في ذلك أنه إذا اجتمعوا في النار، يقوم خطيباً في أهل النار -قيل: إنه ينصب له منبر حتى يسمعه أهل النار كلهم- ويقول لهم: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22]، يعني: ليس لي عليكم حجة وبرهان يجعلكم تتبعوني، وإنما هي دعوة: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، مجرد دعوة فقط، ثم قال لهم: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغن عنكم، وما أنا بمغيثكم، وأنتم كذلك لسم بمغنين عني ولا(5/415)
مغيثين لي، ثم يقول: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، هذه هي الحالة، ثم يلعن بعضهم بعضاً ويكون بعضهم عدواً لبعض، فهذا عمل الشيطان يؤول إلى هذا الشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك، وأنك إذا وقعت في شيء تكرهه: (فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، يعني: هذا قدر الله لا يمكن تغييره، وأنا راضٍ به ومؤمن به؛ لأنه لا يتغير، ومسلم لذلك غير معترض ولا منزعج ولا متسخط وآسف على ما أنا فيه؛ فإن تقدير الله كله خير، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجباً للمؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فهذا ما يكون إلا للمؤمن الذي يكون على هذه الصفة.
حال الإنسان عند النعم والمصائب وحقيقة كل منهما(5/416)
[والقسم الثاني: ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب، كما قال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين النعم، والسيئة المصائب، هذا هو الثاني من القسمين ]. الآية التي قبلها هي قوله جل وعلا: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78]، قال جل وعلا: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، ثم جاءت الآية التي بعدها: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، والحسنة هنا المقصود بها الخير الذي يصاب به الإنسان، إما رزق، وإما عافية في بدنه، وإما ولد، وإما غير ذلك مما هو مفروح به ومسرور به، فكل ما نفع الإنسان فهو حسنة. أما السيئة هنا في هاتين الآيتين فالمقصود بها المصيبة، مثل مرض، ونصر عدو، وفقد ولد، وذهاب مال، وما أشبه ذلك، فالله جل وعلا أخبر أن كلاً من عنده، يعني: كله مقدر من عند الله، سواء أكان حسنة أم سيئة: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تقديراً وخلقاً وإيجاداً. ثم فصل جل وعلا فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) يعني: من فضل فهو بفضله وكرمه وجوده وإحسانه، فعليك أن تشكر ربك وتعرف منته عليك. وقوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يعني: بسبب نفسك. فما أصبت إلا بذنبك الذي أذنبت؛ لأن الناس لو أقاموا أمر الله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وَلَمَا أصابهم شيء، ولكن لم يقيموا أمر الله ولم يستطيعوا ذلك، فهم يعصون الله، وهذه حكمة الله، فلابد أن يذنبوا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم(5/417)
يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)؛ لأن الله غفور رحيم. لو أن الخلق لم يذنبوا فأين معنى (غفور)؟ وأين معنى (رحيم)؟ وأين معنى (بر)، و(رحمن)؟ لابد أن تظهر معاني أسماء الله جل وعلا على خلقه، لابد أن تظهر، لابد أن يذنبوا فيرحمهم ويستر عليهم ويعفو عنهم، لابد، ولكن يجب أن لا يتعمدوا المعاصي، ويجب أن لا يعاندوا، ويجب أن لا يكابروا، ويجب أن ينقادوا لله، ثم إذا وقعوا في الذنب يجب أن يعترفوا بالتقصير ويستغفروا ربهم، فإنه إذا كان هذا شأنهم فإن الله يغفر لهم. [وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم. ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها]. يعني أن الإنسان إذا أمر بأمر من الأمور ما يجوز له أن يقول: إن كان هذا مقدراً علي سأفعله. لا يجوز هذا، بل يجب أن يقول: سمعاً وطاعة كما يقع لبعض المعاندين أو الجاهلين إذا قيل له: لماذا ما تصلي؟ يقول: ما كتب لي أن أصلي. وهذا غير صحيح، فما يدريك؟ وهل وأطلعت على الغيب؟ وأطلعت في الكتاب؟ لا. ولكنك راضٍ عما أنت فيه، وتريد أن تبرر لنفسك فعلك وتجعل اللوم على القدر، فهذا هو الواقع؛ لأنه إذا وقع الإنسان في مصيبة، فهنا نعم ينظر إلى القدر، فيقول: الحمد لله، هذا قدر الله. ويتسلى بذلك. أما عند فعل الواجبات وترك المحرمات فإنه يجب أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا وقع في محرم لا يقل: هذا بقدر. بل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؛ لأن الاستغفار والاعتراف بالتقصير هو الواجب عليه، ولا يقل: هذا مقدر علي لأنه إذا قال ذلك فمعنى ذلك أنه راضٍ بما صار، وأنه يرى أنه على حق، وأن القدر هو الذي يلام، وهذا لا يجوز أن يقع من المسلم. أما المصائب التي ليست ذنوباً مصائب مثل فقد ولد، وفقد مال، واحتراق وما أشبه ذلك فهنا يقول: هذا تقدير الله أو مثلاً(5/418)
رفعت مصيبة تترتب على فعل ذنب، مثل أن يسرق سارق فتقطع يده، فمثل هذا إذا نظر إلى يده فإنه يقول: الحمد لله هذا تقدير الله. أما السرقة فلا؛ لأن السرقة هي فعل السارق يجب أن يتوب منها ويستغفر، أما المصيبة فهي ما ترتب على ذلك وهو قطع اليد، فهذه مصيبة. فالمصيبة يلتفت إلى القدر فيها؛ لأنه لا حيلة له في ذلك، أما السرقة فله حيلة وهي الاستغفار والتوبة، فيستغفر ويتوب ولا يحتج بالقدر على وقوع السرقة؛ لأنها فعله، وهذا هو معنى ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال: (يا رب! أرني آدم فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له: أنت آدم أبو البشر؟ قال: نعم. قال: لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟ فقال: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ قال: نعم. قال: قبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]؟ قال: وجدته مكتوباً عليك قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى). هنا لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام لام آدم على الذنب؛ لأن آدم عليه السلام تاب من الذنب، والذنب إذا تيب منه لا يجوز أن يذكر؛ لأنه لم يصر عليه، فهو انتهى، فلا يُعَير إنسان بذنب أصابه، ولكن لامه على الخروج من الجنة، والخروج هو المصيبة التي ترتبت على الذنب، فهو لامه على المصيبة، ولهذا احتج آدم بالقدر على المصيبة، قال: (أتلومني على شيء قد كتب علي؟)، فهذا لا يمكن استدراكه ولا حيلة فيه. فهكذا -مثلما قلنا- في السارق تماماً: إن الذنب الذي وقع منه إن كان تاب من السرقة فلا يجوز أن نعيره بذلك أو نلومه عليه، ولكن إذا قيل له: لماذا قطعت يدك؟ يقول: هذا قدر الله، والحمد لله. أما قوله في حديث آدم: (قبل كم وجدت مكتوباً في التوراة قبل أن أخلق؟ فقال: بأربعين سنة)، فهذا لا ينافي الحديث الذي في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو(5/419)
بن العاص الذي فيه: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وآدم آخر المخلوقات، وقال: بأربعين سنة). فهذا مكتوب في التوراة، والتوراة الله كتبها بيده جل وعلا، خطها بيده تعالى وتقدس، ثم أنزلها على كليمه، فالله جل وعلا باشر ثلاثة أشياء بيده: غرس جنة عدن بيده تعالى وتقدس، وخلق آدم بيده، وخط التوراة لموسى بيده. وهذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأشياء فإنه يقول لها جل وعلا: (كوني) فتكون: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، تعالى وتقدس، ولا يعجزه شيء، وهذا خاص، ولهذا قال الله جل وعلا لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، كأنه جل وعلا يقول: أنا لم أتكبر عن مباشرة الخلق بيدي، وأنت تتكبر من أن تسجد له. فالمقصود أن الاحتجاج بالقدر على المصيبة التي تصيب الإنسان هو من باب التسلي، يتسلى بذلك ويقول: هذه المصيبة لا حيلة لي فيها قد كتبت علي ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب والآلام لا على المعائب والآثام، والمعائب: هي الذنوب، فما يجوز أن يحتج على الذنب ويقول: هذا الذنب الذي فعلته مقدر علي. بل يجب عليه أن يتوب ويستغفر.......
وجوب التسليم والرضا بقدر الله سبحانه(5/420)
[وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم. ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]. ولهذا قال آدم لموسى: (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى)؛ لأن موسى قال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنباً، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس فليس مراداً بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس. انتهى. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فتضمن هذا الحديث أصولاً عظيمة من أصول الإيمان: أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة. الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويجب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين. ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض. ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص: هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محموداً، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصاً، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه من غير حرص فاته من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع. ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله(5/421)
ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى، ولا يتم إلا بمعونته، فأمره أن يعبده وأن يستعين به، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله، ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه. فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز، وهو مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى (لو) ولا فائدة في (لو) هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان. فنهاه صلى الله عليه وآله وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي: النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور. وإن انتفت امتنع وجوده، ولهذا قال: (فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبداً، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهراً وباطناً في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق. انتهى]. خلاصة الباب أن العبد يجب عليه إذا أصابه شيء أن يسلم ويرضى بالله جل وعلا، وأن يجتنب قولة: لو فعلت كذا لكان كذا لأن قولة: (لو) لا يخلو الأمر لمن قالها من أن يكون متسخطاً لما يقع وغير راضٍ به، أو أنه يعتقد أن الأسباب التي يذكرها -لو فعلت كذا لكان كذا- أنه يمكن أن تغير الواقع، وهذا كله خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، فإنه لابد أن يعلم أن كل ما يقع فإنه معلوم لله أزلاً وقد كتبه،(5/422)
وأنه يقع على وفق كتابة الله له وعلمه ويكون في الوقت المحدد، ولا يمكن أن يتغير أو يزيد أو ينقص. ثم إن العبد مأمور بفعل السبب والحرص على ما ينفع، فيفعل الأسباب ويحرص عليها، ويقوم بها ويستعين بالله جل وعلا، وهذا هو معنى الكسب والاختيار، أي: أنه يعمل الأعمال التي توكل إليه باختياره، يفعلها بقدرته، وفعله ينسب إليه حقيقة. فالله جل وعلا خلقه وخلق له قوى، وخلق له الفكرة والإرادة التي يريد بها مع المقدرة، فالمقدرة والإرادة مخلوقتان لله جل وعلا، وهي للعبد، ويفعل بالقدرة وبالإرادة فيكون الفعل له وإن كان مقدراً، ففعل العبد لا ينافي التقدير، كونه ينسب إليه ويضاف إليه حقيقة أنه فعله، فالله هو الذي خلق العبد وخلق له الإرادة والقدرة، فصار فعله مكتسباً له يثاب عليه أو يعاقب عليه. فبهذا يجتمع القدر مع فعل العبد حقيقة، ولا يكون فيه مخالفة ومنافاة كما يعتقد أهل الضلال، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، وهو الذي يقول به أهل السنة.
تفسير مسائل باب ما جاء في اللو(5/423)
[ فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران ]. قوله جل وعلا: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] عرفنا أن معنى قوله: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ) يعني: لو كان التدبير إلينا والاختيار لنا، ولكنه للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو اعتراض على شرع الله، واعتراض على قدر الله جل وعلا، ولهذا ذموا في ذلك. [الثانية: النهي الصريح عن قول: (لو) إذا أصابك شيء]. فإن النهي هنا يقتضي التحريم، فإذا أصاب الإنسان شيء وقال: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا فهذا يكون محرماً. [الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يصبح عمل الشيطان]. هو عاب التعليل لكونه يفتح عمل الشيطان، فلا يكفي في كون الأمر محرماً، ولكن هذا من الحكمة؛ لأن الإنسان إذا ذكرت له العلة يقتنع ويقف غالباً، ولكن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يمتثل ولو لم يعلم الإنسان حقيقة ذلك وحكمته. [الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن]. هذا الكلام الحسن هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: قدر الله وما شاء فعل)، فالإنسان إذا وقع في شيء يكرهه يقول هذا القول الحسن، والمراد بالقول الحسن: قدر الله وما شاء فعل. يعني: أن تقديره فيه التسليم والانقياد، والإخبار أن الواقع لا يتغير عما أراده الله جل وعلا. [ الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله ]. الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالحرص، والحرص جعله فيما ينفع، والذي ينفع هو عمل طاعة الله جل وعلا، هذا هو النافع، سواءٌ أكان بامتثال الأمر أو باجتناب النهي. [السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العزم]. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [123](5/424)
نهى الشرع العظيم عن سب الريح، وعن ظن الجاهلية في الأقدار، أما سب الريح: فمنهي عنه؛ لكونها مسخرة ومأمورة منه تعالى، ولأن في سبها سب للمسخر لها تعالى الله وتقدس. أما ظن الجاهلية: فمنهي عنه؛ لأنه سوء ظن بالله، واعتراض على قدره سبحانه، والواجب على المسلم إحسان الظن بربه، والرضى بقضاء الله وقدره.
وجه النهي عن سب الريح
قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله تعالى: باب: النهي عن سب الريح ]. الريح مدبرة مأمورة مسخرة لله جل وعلا، فإذا سبت الريح وقع السب على من دبرها وأمرها؛ لأن السب هو اللعن والشتم، ويكون السبب ممن تضرر من ذلك غالباً إما بضرب، أو بحر أو بشدة الريح وكونها تلقي شيئاً أو تقلع شجراً أو تهدم بيتاً، أو ما أشبه ذلك. وسبها محرم لا يجوز ولا يقع ذلك إلا من الجاهل الذي لا يعلم بأفعال الله وأسماء الله وشرعه، وقد سبق ما في سب الدهر من النهي، وهذا مثله، ولكنه ذكر هذا الباب، والنهي جاء فيها خاصاً، وهو داخل فيما سبق من النهي عن سب الدهر؛ لأن كلما هو مدبر لله ومأمور مسخر لا يجوز سبه، والإنسان ما تصيبه مصيبة إلا بسبب ذنبه. والله جل وعلا قد يبتلي الإنسان بإنسان مثله فيناله منه ضرر، ويكون ذلك بسبب ذنبه، ولكن إذا كان الذي ناله الضرر على يده عاقلاً، فإن العاقل يعاقب؛ لأن فعله كسبه ويلام على ذلك، ومع ذلك لابد أن يكون تقديراً من الله جل وعلا، ويكون بسبب ذنوبه، حتى قال بعض السلف: (إني لأعصي الله جل وعلا فأرى أثر ذلك في خلق زوجتي وولدي ودابتي) يعني: أنه يرى ذلك عقاباً له بسبب ارتكاب المعصية، وهذا يكون لمن يحسون بالمعصية ويحسون بأثرها؛ لأن قلوبهم حية. أما إذا كثرت الذنوب فقد لا يحس الإنسان بذلك، فلا يدري، فتتراكم الذنوب بعضها على بعض، ويكون أثرها ضعيفاً جداً، كما قال الله جل وعلا: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، فالران هو تغطية القلب حتى لا يحس بشيء،(5/425)
لا يحس بالمصيبة، ولا يحس بالألم، والقلب يمرض مثل البدن، وقد يكون مرضه أشد، وقد يموت والعياذ بالله، وإذا مات فمعنى ذلك أن هذا هو الخسران التام. وإذا كان مريضاً فقد يشفى وقد لا يشفى، فقد يبقى وقد يموت مريضاً، وما يناله صاحب هذا القلب من المصائب في الدنيا قد يكون غير غير كافٍ في التكفير عنه، فيقع عليه العذاب في القبر، وقد لا يكفي فيقع عليه العذاب في الموقف، وقد لا يكفي فيقع عليه العذاب في النار، ولابد أن يكون؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا الطاهرون الطيبون الذين هذبوا وخلصوا من كل قبح. المقصود أن سب الريح يقع من الجهال الذين لا يعرفون أسماء الله جل وعلا، ولا يعرفون أحكامه، وإذا وقع من إنسان فإنه يجب عليه أن يتوب منه، فيرجع إلى ربه ويستغفره؛ ولأن سب الفعل يعود على الفاعل، والريح من أفعال الله، وهي مأمورة منه سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) صححه الترمذي ]. فهذا الحديث يرشد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأدب، فيما إذا نال الإنسان شيء من الريح وأذى؛ لأن الريح قد تحمل أشياء وقد تلقيها، وقد تكون عذاباً، وقد تكون رحمة، ولهذا جاء أن الريح من روح الله، ومعنى (من روح الله)، من رحمته، والرحمة قد تكون رحمة عامة وقد تكون خاصة، وقد تكون عذاباً، كما قال الله جل وعلا في عاد لما رأوا السحاب مقبلاً إليهم: قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24]، قيل لهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف:24-25]، أي: تدمر كل ما مرت عليه. ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى السحاب ورأى الرياح(5/426)
يتغير لونه ويدخل ويخرج، حتى يرى ذلك عليه ظاهراً، فسئل عن ذلك فقال: (وما يؤمنني إن قوماً رأوا السحاب فقالوا: (( هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ))[الأحقاف:24]، قيل: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:24-25]). فيخشى أن الخلق إذا عصوا الله جل وعلا أن يأخذهم بأي شيء وبأي وسيلة. والمقصود أن الريح مأمورة، وهي حاملة للخير والرحمة من السحاب والمطر الذي يرحم الله جل وعلا به عباده، فتكون ملقحة له، وتكون سبباً للخير، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنها بشرى، يعني: إذا جاءت الرياح تكون بشرى بين يدي رحمة الله جل وعلا، أي: بين يدي نزول المطر، ومع ذلك قد تكون عذاباً، كما هو واقع الآن من الكوارث التي تسببها الريح. والواجب على العباد أن ينظروا إلى أن ما يقع لهم من ذلك إنما هو تأديب لهم من الله، وكثيراً ما يقول الناس الآن: إن الكوارث طبيعية، فهم يجعلونها كوارث طبيعية ويرجعونها إلى الطبيعة، وما ندري ما هي الطبيعة؟ هل الطبيعة حرارة وبرودة، أو النفس، أو النار هي نفسها طبيعة؟ إن الطبيعة لا تعمل شيئاً، وإنما هو بتدبير الله جل وعلا حتى يتعظ العباد وينزجروا عن المعاصي، وكثيراً ما نسمع أن العواصف دمرت كذا وقتلت كذا وأصابت كذا، وهو كله بأمر الله جل وعلا وبعقابه، يعاقب العباد لعلهم يرعوون ويرجعون إليه، فإذا حدث من ذلك شيء فإن على الإنسان أن يعلم أنه هو السبب، وأن ما أصابه بذنبه، فيرجع إلى ربه ويستغفر ويتوب، ولا يسب الريح؛ فإنها مطيعة لله جل وعلا، أمرت فأطاعت، وإذا سبها عاد السب عليه؛ لأن من لعن شيئاً لا يستحقه فهو الملعون. وقد جاء في حديث ذكره الشافعي رحمه الله: أن سب الريح سبب للفقر -أي: من أسباب وجود الفقر-، فإنه جاء في حديث منقطع (أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشكو حاجة شديدة فقال: لعلك تسب الريح؟ قال: نعم)، فيكون ذلك من(5/427)
الأسباب أعني: من عقاب الله جل وعلا. فإذا رأى الإنسان الريح يقول ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيسأل الله من خيرها وخير ما بعثت به، ويستعيذ بالله جل وعلا من شرها وشر ما بعثت به، وأن يلجأ إلى الله جل وعلا. ......
مناسبة باب النهي عن سب الريح لكتاب التوحيد
[لأنها -أي: الريح- إنما تهب عن إيجاد الله تعالى وخلقه لها وأمره؛ لأنه هو الذي أوجدها وأمرها، فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه، كما تقدم في النهي عن سب الدهر وهذا يشبهه، ولا يفعله إلا أهل الجهل بالله جل وعلا ودينه، وبما شرعه لعباده. فنهى صلى الله عليه وآله وسلم أهل الإيمان عما يقوله أهل الجهل والجفاء، وأرشدهم إلى ما يجب أن يقال عند هبوب الرياح، فقال: (إذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به)، يعني: إذا رأيتم ما تكرهون من الريح إذا هبت، فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد، وقولوا: (اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به). ففي هذا عبودية لله وطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واستدفاع للشرور به، وتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان، خلافاً لحال أهل الفسوق والعصيان، الذين حرموا ذوق طعم التوحيد، الذي هو حقيقة الإيمان ]. مناسبة الباب لكتاب التوحيد أن مسبة الريح ذنب قد يكون كبيراً ينافي التوحيد، وقد يكون أقل من ذلك فينافي كماله؛ لأن الذنوب كلها تنقص التوحيد، فإن كانت من الشرك بأن يكون يرى أن الريح هي التي تتصرف وتفعل بنفسها، فهذا من الشرك بالربوبية وهو مناف للتوحيد، وإذا سبها على أنها هي الفاعلة لذلك، وهي التي تستطيع أن تفعل وتمتنع فهو مناف للتوحيد بالكلية، أما إذا سبها على سبيل أنها سبب من الأسباب، فهذا من الذنوب التي تلطخ توحيد الإنسان. ثم يجب أن يكون الإنسان متعلقاً بالله(5/428)
دائماً، وأن يرجع إليه عند كل ما ألم به، عند الرغبة والرهبة، ولا يجوز أن يلتفت إلى مخلوق، سواءً أكان ريحاً أم كان ميتاً من الأولياء؛ فإنهم لا يملكون شيئاً، وإنما يرجع إلى ربه في كشف المكروه، كما يلجأ إليه في استجلاب المرغوب فيه والنافع، فعلى العبد أن يتعلق بربه دائماً، وهذا هو حقيقة التوحيد، أن يكون قلبه متعلقاً بربه جل وعلا، ويرى أنه كلما حدث من شيء فإنه بإحداث الله جل وعلا، وأنه لا يصيبه إلا ما قدره الله، وأن كل نعمة تحصل له فهي من فضل الله جل وعلا وجوده وكرمه وعفوه، حيث عفا عنه؛ لأنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض أحداً. ......
تفسير مسائل باب النهي عن سب الريح
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الريح ]. يعني أن النهي هنا يكون للتحريم، فيحرم على الإنسان سب الريح. [ الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره ]. يعني الدعاء الذي يدعو به الإنسان كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: (اللهم إني أسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أمرت به). [ الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة . الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر ]. يعني: قد تكون خيراً، فالله جل وعلا يسوق بها السحاب الذي فيه المطر، وقد تكون عذاباً ينتقم الله جل وعلا بها ممن يشاء من عباده.......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [124]
الواجب على العبد أن يعرف ربه، وأن يظن به الظن الحسن، فإحسان الظن من الإيمان، وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده اعتراضاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا.
معنى ظن الجاهلية وظن السوء(5/429)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، وقوله: : الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [الفتح:6]. ......
المقصود من إيراد هاتين الآيتين في الباب(5/430)
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وفسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله سبحانه وتعالى وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم؟! فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً ]. المقصود من ذكر هذا الباب أن المؤلف رحمه الله أراد تبيين وجوب حسن الظن بالله جل وعلا، وأن كل ما يقع من فعل الله وتدبيره أنه حسن جميل، وأنه وقع من حكيم عليم عدل يضع الأمور في مواضعها، ويكون الإنسان هو محل الاتهام فيتهم نفسه؛ لأنه لم يقم لله جل وعلا بما يجب عليه. وذكر الآية التي مر ذكر بعضها في الباب وهي في سياق قصة أحد، لما ذكر الله جل وعلا أنه صدق المؤمنين وعده؛ لأنه وعدهم أن ينصرهم ولكن بشرط الصبر وعدم الفشل والتنازع، فلما حصل التنازع وحصلت المخالفة تخلف الوعد الذي وعده، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا(5/431)
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152] يعني: هذه كلها حصلت، ولكن لما حصل التنازع وحصلت المعصية تخلف النصر، فأديل العدو عليهم فحصل ما حصل. ثم بعد ذلك ذكر جل وعلا استنكارهم بقوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] أي: من أين جاء هذا وكيف؟ فأجابهم سبحانه بقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] يعني: أنتم السبب وهذا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر مِنَّته وعليهم بعد هذا بعد ما حصلت الهزيمة وحصل القتل، ذكر أنه أنزل عليهم نعاساً فقال: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، فالله جل وعلا يجب أن يظن به الحق دائماً؛ لأنه هو الحق وقوله الحق، ودينه الحق، وحكمه الحق، ووعده حق جل وعلا، وظن الجاهلية وصف بالجاهلية، والجاهلون هم الذين يجهلون أمر الله، ويجهلون صفات الله، ويجهلون مقتضى أسمائه ويجهلون حكمته، وذكر أن هذا الظن الذي ظنوه بالله أنه ينصر العدو على نبي الله جل وعلا نصراً مستقراً، حيث يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ويضمحل دينه ويمحى، بين أن هذا ظن السوء، وأن هذا ظن الجاهلية؛ لأن حكمة الله تأبى هذا. وقد أخبر أنه ينصر رسوله ويؤيده ويظهر دينه على الدين كله، وفسر هذا الظن بأنه إنكار للقدر، أي أن هذا الذي أصابهم ليس مقدراً لله جل وعلا. ومعلوم أن المقدر لابد من حصوله، بل حصول الشيء لابد أن يكون له سبب، فتأتي الأسباب والأسباب مقدرة، كما أن النتائج مقدرة، كل شيء مقدر، وإن كان الإنسان يؤخذ بعمله، ولكن الله هو الذي خلق الإنسان وأفعاله وما يصدر منه، فكله مقدر(5/432)
لله جل وعلا، وإن كان الإنسان هو السبب فسيكون اللوم عليه. وفسر الظن بإنكار الحكمة التي انتصر العدو فيها وأصيب من أصيب. وقد ذكر الله جل وعلا علتين في ذلك: الأولى: التمحيص والتمحيص معناه: التخليص والتصفية. بأن يخلص المؤمنين من ظنونهم، فيكون هذا تمحيصاً لذنوبهم. الثانية: الابتلاء وإظهار ما في النفوس وما في القلوب من الشيء المكنون. فالله يعلم ما في قلوب العباد، ولكن من كمال عدله أنه لا يؤاخذ إلا على الفعل الظاهر. فلما حصل ذلك وظهر ما في قلوب كثير من الناس وبرز صاروا يقولون: لا نسمع، يظنون بالله ظن السوء: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) ما وقع هذا، ويقولون: لو كان لنا تدبير، ولو كان لنا نهي وأمر ما وقع ذلك. فهم يعتقدون أنهم يستطيعون أن يغيروا الواقع، ويقولون ذلك على سبيل التسخط والتحسر والأسى الذي أصابهم، فهم غير راضين بما قدره الله جل وعلا. فهذا من الحكم التي ذكرها الله جل وعلا في إدالة العدو، وإدالة العدو لا تكون إلا تمحيصاً، ولا تكون مستقرة، فلابد أن تكون النهاية والنصر في آخر الأمر للمؤمنين، للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه.
عموم الظن السيئ بالله في كل ما يخالف أمره ومقتضى أسمائه وصفاته سبحانه(5/433)
ذكر عن ابن القيم أن ظن الجاهلية عام في كلما يخالف أمر الله، أو ما يخالف مقتضى أسمائه وصفاته، فمن ظن أن الله جل وعلا يساوي بين المؤمنين والمجرمين فقد ظن بالله ظن السوء، ومن ظن أنه يحبط أعمال المؤمنين بذنب أو كبيرة يفعلها المؤمن وهو قد عاش حياته كلها في الطاعة فقد ظن بالله ظن السوء، مثل الخوارج الذين يقولون: إذا فعل الإنسان كبيرة من الذنوب فهو كافر ويخلد في النار. ومن ظن أن عمله يذهب عليه ولا يحفظ له، ولا يجزى بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة مثلها فقد ظن بالله ظن السوء، ومن ظن أن الله لا يعلم ما في قلبه ولا يطلع على أفعاله فيجازيه عليها إن كانت خيراً فخيراً، وإن كانت شراً فإنه يعاقبه بما يستحق فقد ظن بالله ظن السوء، فكلما ظن الإنسان خلاف شرع الله وخلاف مقتضى أسماء الله جل وعلا، فإنه يظن بالله ظن الجاهلية. والآية الأخرى التي في سورة الفتح: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6]، وفي قراءة أخرى: (ظَنَّ السُّوْءِ)، والسوء خلاف الحسن وخلاف الجميل وخلاف العدل والحق.
استحقاق الله للحمد في المبدأ والمنتهى(5/434)
فالله جل وعلا كل ما يفعله فهو عدل وحق يحمد عليه، ولهذا بين جل وعلا أن أفعاله كلها خير، وأنه يستحق عليها الحمد في المبدأ وفي المنتهى، ولهذا ذكر حمده في مبدأ الخلق وذكر حمده في نهايته، فقال جل وعلا في المبدأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] هذا حمده في المبدأ، فهو المحمود على كل ما يفعله جل وعلا. وحمده في المنتهى كما قال جل وعلا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، فالملائكة يقضى بينهم بعد القضاء بين العباد، وقد قال قبل هذا: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69] لقد جيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق، وسائر الناس بعد ذلك، ثم انتهى بالملائكة. فالمقصود أن هذا يدل على أنه يحمد حتى على دخول أهل النار النار، يحمد على ذلك، وأهل النار أنفسهم يقرون بهذا ويعترفون أن هذا هو جزاؤهم، وأنهم في المحل اللائق بهم الذي اقتضته حكمة الله جل وعلا، ويجب أن يظن الإنسان بربه خيراً ويحسن الظن بربه، ولهذا جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي أن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن سوءاً أو شراً وجده)، ولكن الظن يكون تبعاً للفعل، ليس معناه أن الإنسان يفعل المعاصي ويترك الواجبات، ويقول: أنا أظن بربي الظن الطيب والظن الحسن، وأنه سينجيني وسيتفضل علي. فهذا تفريط وغرور من الشيطان، فالإنسان يجب عليه أن يمتثل أمر الله ويجتنب نهيه، ثم يظن بربه الظن الجميل الحسن أنه يجازيه ويعفو عنه، وأنه يجازيه على القليل كثيراً ويعفو عن(5/435)
سيئاته، ويجب أن يكون عند لقاء ربه أحسن ظناً منه في حالة صحته؛ لأنه أصبح أسيراً بين يدي الله جل وعلا، فعليه أن يحسن الظن بربه؛ لأن الله يعفو الذنب العظيم ويقبل اليسير بجوده وكرمه وسعة رحمته، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وجاء في الحديث: (لو يعلم الظالم والكافر ما عند الله من الرحمة والخير لطمع في ذلك)، مع أنه في المقابل المجتهد والمحسن لو يعلم ما عند الله من العقاب والنكال لأصابه من القلق ومن الخوف الشيء العظيم. ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)؛ لأنه هو أعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم، وذكر (أن الله جل وعلا لما خلق النار أمر جبريل عليه السلام أن يذهب وينظر إليها، فنظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحد فيدخلها، وخلق الجنة وأمره أن يذهب وينظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحداً إلا ودخلها)، ثم إن النار حفت بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، فقال له جل وعلا: (اذهب فانظر، فقال: لقد خشيت أن لا ينجو من النار أحد وأن لا يدخل الجنة أحد). فلابد للإنسان أن يبتلى بحب الدنيا والتمسك بها كثيراً، ولهذا تجده وإن كان مريضاً، -والمرض بريد الموت ورسول الموت- تجده يأمل ويخطط، وربما يخطط في نفسه أنه سيفعل ويفعل ويفعل، فهو متعلق بالدنيا مع أن الدنيا ليست شيئاً، وإذا مات فإنه لابد أن يبقى في قبره أكثر من بقائه على ظهر الأرض، وهذا بلا شك؛ لأن حياة الإنسان محدودة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، هذه هي فترة الموت تبدأ من بعد الستين، وقليل من يجاوزها أو يجاوز السبعين، فأكثر الناس في هذا ما بين الستين إلى السبعين، فما هي الستون سنة أو السبعون سنة؟ ليست شيئاً، هي عمر شاة أو عنز، والإنسان أكثر عمره يذهب إما في نوم وإما في لعب وإما في أكل وشرب أو شهوة أو ما أشبه ذلك، إذاً ما الذي يمضيه(5/436)
في طاعة الله؟ أكثر عمره للدنيا، وقليل منه لآخرته، مع أنه مسافر إلى الله جل وعلا إلى الآخرة، كل الناس مسافرون إلى الآخرة، فمنهم من وصل وانتهت مراحله، ومنهم من هو في الطريق، والأيام والليالي كفيلة في تقريب المسافة وطوي المراحل. ثم إذا بقي في قبره يبقى طويلاً، وقد يكون في قبره إما منعماً وإما معذباً ولابد؛ لأن القبر دار بعد هذه الدار، برزخ بين الحياة الدنيا وبين الآخرة، ودار البرزخ حياة في الواقع، ولكن الله أعلم بها فلا نعلم حقيقتها، فبعض الناس تكون حياته في البرزخ أكمل من حياته في هذه الدنيا، كحياة الأنبياء، فالأنبياء حياتهم أكمل من حياتهم في هذه الدنيا بغير شك، بل الشهداء الله جل وعلا أخبر أنهم أحياء، وأنهم عند ربهم يرزقون، ونهانا أن نسميهم أمواتاً، حيث قال سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154] يعني: ما نشعر، وما نعرف حقيقة حياتهم، حقيقة حياتهم الله أعلم بها. وليست هذه الحياة حياة روح فقط؛ لأن حياة الروح للمؤمن والكافر، للبر والفاجر، فالروح لا تموت، كلنا مشتركون في حياة الروح، ولكن حياة الشهداء والأنبياء حياة روح وبدن، وإن كان البدن قد يتفكك، والعظام نراها بالية، وقد تكون تراباً، ولكنها حية في الواقع حياة ما نعرفها نحن. وقد يتنعم وهو في قبره على هذه؛ لأن هذا من أمور الغيب وأمور الآخرة، وأمور الآخرة كلها غيب، ثم بعد ذلك مدة طويلة، ويكون في قبره إذا بعث، ومنهم من يقول: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا [يس:52]. يعني: كأنه مضى وقت قصير جداً. ولهذا يتساءلون فيما بينهم إذا حشروا، يقولون: كم لبثتم؟ فبعضهم يقول: لبثنا يوماً، وبعضهم يقول: بعض يوم، وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، كل الدنيا وما مر منها كأنه ساعة، فهل هذا كذب؟! هل يقولون وهم يكذبون؟! لا، وإنما هذا الذي أوصلهم إليه فكرهم ونظرهم وواقعهم الذي(5/437)
هم فيه. فالله جل وعلا يقول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس:45] فقط يتعارفون، يعني: يعرف بعضهم بعضاً ثم ينتهون. فإذا كان الأمر هكذا فيجب على العبد أن يعمل ويحسن الظن بربه جل وعلا، ويعلم أنه هو محل الظن السيئ؛ لأن نفسه مركبة من الجهل ومن الظلم، فالإنسان جهول وظلوم، وإذا اجتمع جهل وظلم ماذا يكون؟ يكون الشر كله، وهذه هي طبيعة النفوس كلها، كل نفوس بني آدم ركبت من الجهل والظلم، ولكن الله يمن على من يشاء فتتهذب نفوسهم بالوحي، بأوامر الله، وبما يأتي به الرسل من الله جل وعلا، تتهذب وتتخلق بأخلاق الملائكة، وقد يكون التخلق قليلاً وقد يكون كثيراً بحسب التأثر. فيجب على العبد أن يكون ظنه بنفسه ظن السوء؛ لأن النفس أمارة بالسوء، وتحب الباطل وتحب خلاف الحق. والحق عند غالب النفوس ثقيل، ولهذا يصف العلماء الحق بأنه مر، فيجب أن يعمل الحق وإن كان مراً؛ لأن الله جل وعلا أمر به فيجب أن يمتثل، ولكن إذا وطن الإنسان نفسه على أمر الله، تصبح في الواقع حياته سعيدة، فكونه يعمل بطاعة الله يجد أنه أحلى من الشهوات التي ينالها من الدنيا، ولا مناسبة بينها، فهو بهذا يجد حلاوة الإيمان وحلاوة الطاعة، ويكون في طمأنينة وفي سعادة، ويزداد كل يوم خيراً، وهو يفرح بلقاء الله جل وعلا، ويكون مشتاقاً إلى ذلك، فإنه لما حضرت الوفاة بلال بن رباح رضي الله عنه صارت زوجته تقول: وا كرباه، وهو يقول: (وا قرباه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه) فالمؤمن في سعادة، وإن كان أهله والذين حوله يرون أنه في شقاء وفي كرب، والواقع أنه ليس في كرب، سعادة تغمره حتى تنسيه ألم المرض وكرب الموت، وهكذا قبل ذلك وإن ناله ما ناله من الدنيا؛ لأنه يعرف أنه مسافر إلى الله، مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال تحت ظل دوحة ثم سار(5/438)
وتركها). يعني: إنما أنا كمن أدركته القيلولة فارتاح قليلاً تحت شجرة ثم سار، هذا مثله في الدنيا، فمثل هذا هل يركن إليها؟ وهل يطمئن بها؟ المسافر إذا كان مسافراً في بلد من البلاد تجده يعد العدة للرجوع إلى أهله وإلى وطنه، فهكذا العبد في هذه الدنيا، وكثيراً ما يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمثال لهذا، كما ضرب الله جل وعلا الأمثال فيها، ومن الأمثال البليغة المطابقة تماماً لحالتنا ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم سلكوا طريقاً، فلما صاروا في وسطه، لا يدرون ما مضى أكثر أو ما بقي أكثر، انتهى زادهم وماؤهم وانقطع ظهرهم)، يعني: لا مركوب ولا مأكول ولا مشروب، فما حالتهم؟ أيقنوا بالموت هنا (بينما هم كذلك ينتظرون الموت إذ طلع عليهم رجل يقطر رأسه ماء، فقالوا: إن هذا حديث عهد بماء، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: كما ترى ننتظر الموت، فقال: أرأيتم إن دللتكم على ماء روي ورياض خضراء أتطيعونني؟ قالوا: نعم ولا نعصي لك أمراً، فقال: عهودكم -يعني: أعطوني العهود والمواثيق على ذلك- فأعطوه ما شاء من عهود ومواثيق، فسار بهم إلى مياه كثيرة ورياض خضراء، فبقوا فيها يشربون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ صاح بهم: الرحيل، فقالوا: إلى أين؟ فقال: إلى رياض هي خير من هذه الرياض، ومياه أعذب من هذه المياه وأفضل، فقال أكثرهم: والله ما وصلنا إلى هذه الرياض وهذا الماء ونحن نصدق أننا ننجوا فأبوا أن يطيعوه، وأطاعه قليل منهم فنجا بهم ونجوا، وتخلف أكثرهم فصبحهم العدو، فأصبحوا ما بين قتيل وأسير). فهذا هو مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ومثلنا، فالذي يطيع الله ورسوله ويفعل الواجبات ويجتنب المحرمات ينجو ويكون في عيشة هنيئة، والذي يعصيه وإن رأى أنه في عيشة طيبة فهو في الواقع في عيشة ضنك، وإذا كان يوم القيامة تتضاعف ه
وجوب إحسان الظن بالله في حكمه وعدله وأموره كلها(5/439)
[باب قول الله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154] الآية، وهذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] يعني: أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وينجز له مأموله، ولهذا قال: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154] يعني: لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف، يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، كما قال تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12]. وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة. عن ابن جريج قال: قيل لعبد الله بن أبي : قتل بنو الخزرج اليوم، قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل. وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يظهره على الدين كله. هذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، حيث يقول: وَيُعَذِّبَ(5/440)
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6] ]. من ظن بأحكام الله جل وعلا وأوامره أنها غير عدل، وأنها غير حكيمة، فهو يظن بالله ظن السوء، فالذي يتضجر من حكم شرعي أقيم عليه، أو يرى أن غير حكم الشرع أحسن منه وأنه أكمل وأتم للإنسان الذي يكون هو أرقى المخلوقات، ويرى أنه لا يليق بالإنسان أن تقطع يده، أو أن يرجم إذا زنى وهو محصن، أو أن يكون الرجل أكثر إرثاً من المرأة، أو أن يكون الرجل عنده زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وأن هذا غير عدل، الذي يظن مثل هذا يكون ظن بالله ظن السوء. [ قال ابن القيم رحمه الله في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وفسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق. فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا(5/441)
وكذا، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً]. الواجب على العبد أن يعرف ربه جملة إذا أمكن ذلك، وأن يظن به الظن الحسن، وأن يحسن الظن بالله، فإحسان الظن من الإيمان، لهذا جاء الأمر به: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي يقول الله جل وعلا: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن شراً وجده)، وليس معنى ذلك أن الإنسان يسيء ويعصي ويترك الواجبات، ثم يقول: أنا أظن بالله جل وعلا ظناً حسناً!! والله عز وجل يضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه حكيم تعالى وتقدس، فكل ما صدر عن الله جل وعلا فهو خير، وأما هذا فإنه فسر بالشيء الخاص، كما ذكر: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وكذلك: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6] ، والسوء جاء تفسيره في الآية الأخرى التي بعدها حيث قال: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12] ، فظنهم ظن السوء في هذه الآية فسر بأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه يقتلون، وأن الكفار ينتصرون، وأن الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي أمره ويزول، هذا ظن السوء بالله جل وعلا.......
صور من ظن الجاهلية وظن السوء(5/442)
وشيء آخر من ظن الجاهلية وظن السوء هو إنكار أن الله قدر هذا الذي وقع على المؤمنين يوم أحد، وإنما ذلك بمقتضى الأسباب، وهي قوة الكفار وكون المسلمين صاروا قلة فوقع ذلك، وليس هناك تقدير سابق وعلم أزلي لله جل وعلا، وهذا تنقص لله جل وعلا؛ لأنه -كما سيأتي- لا يقع شيء من قليل أو كثير أو صغير أو كبير في الكون إلا بمشيئة الله وتقديره جل وعلا؛ لأنه هو الرب المتصرف في كل شيء، وكل ما سواه مخلوق يتصرف فيه جل وعلا كيف يشاء بمشيئته. وكذلك كونه يظن الإنسان أنه يفعل الشيء على مقتضى المشيئة فقط بغير حكمة، كما يظنه كثير من الجهال، وإن كانوا يزعمون أنهم علماء؛ لأن كل من جهل أمر الله فهو جاهل، يقولون مثلاً: تجد الإنسان عاقلاً، تجده أديباً، تجده لبيباً، ثم تجده فقيراً مدقعاً تضيق عليه وجوه الحياة في معيشته، وتجد إنساناً أحمق جاهلاً تجد عنده من الدنيا الشيء الذي لا يستطيع أن يصرفه، ثم يقولون: هذا ليس من الحكمة، فهذا اعتراض على الله جل وعلا وهو من أقبح الظن بالله جل وعلا وأسوئه، ومن لقي الله جل وعلا بمثل هذا فهو من الهالكين الذين يستحقون عذاب الله جل وعلا. فالله جل وعلا خلق الخلق بعلمه وتقديره ومشيئته وقدرته، ووزع عليهم أرزاقهم حسب مشيئته وإرادته وتقديره وحكمته، ولا يلزم أن يكون الإنسان عارفاً بالحكمة؛ لأن الإنسان قاصر، وقد ابتلى الله جل وعلا عقولهم هل تخضع وتنقاد لله جل وعلا ولأوامره، أو تعترض وتقف حتى في الأمور التي أمر الإنسان أن يزاولها كثيراً، مثل أمور العبادات وغيرها مثل الوضوء والغسل من الجنابة وما أشبه ذلك. فالعقل ليس له دخل في هذا، كون الوجه يغسل، وكون اليدين تغسلان إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ويمسح على الرأس، فالصلاة لا تصح إلا بهذا، فهذا قد لا يدرك الحكمة منه كثير من الناس. ولهذا كثير من هذه الأمور إذا ذكرها العلماء قالوا: هذا تعبدي ومعنى (تعبدي): أنا نفعله عبادة لله وخضوعاً له(5/443)
سبحانه، ولو لم نعرف الحكمة، ومن ذلك كثير من أعمال الحج، مثل رمي الجمار، فقد يعترض بعض الناس على ذلك ويقول: ما الفائدة من رمي الجمار؟ وليس كما يعتقده الجهال أن الشيطان يرمى، لا، وإنما هذا منسك من المناسك نؤديه كما أمرنا، ونرمي بهذه الحصيات كما أمرنا، وليس الشيطان واقفاً هناك يرمى، الشيطان لا يقف للناس يرمونه، ولا يجوز أن يسمى شيطاناً، بل يقال: رمي الجمار منسك من المناسك، فقد يقول -مثلاً- بعض الناس: ما الحكمة في هذا؟ وكون الناس يتزاحمون على هذا المكان يرمون بهذه الحجارة لا نرى له نفعاً دنيوياً، ولا نرى شيئاً يمكن يقابل ما يقع من الزحام ومن الموت أحياناً! نقول له: هذا أمر تعبدي، أمر الله جل وعلا عباده بذلك، فما عليهم إلا أن يخضعوا ويذلوا. ومن ذلك المبيت بمنى، والمبيت بمزدلفة، والوقوف بعرفات، والطواف بالبيت، وسائر أعمال الحج على هذا المنوال، وقد فهم الصحابة هذا؛ لأنهم ذوو العقول، ولأنهم أعمق الناس عقولاً وأكملهم إيماناً وأتمهم إدراكاً، فأدركوا ذلك وصاروا يقولون في تلبيتهم: (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً) تعبداً كوننا نجيب ما أمرتنا به تعبداً لك بدون أن نطلع على حكمة ذلك. وكذلك في مخلوقات الله جل وعلا، يقول قائل مثلاً: نجد بعض الحشرات ما الفائدة من وجودها؟ ما فيها إلا مضرة، مثل الذباب، ومثل البعوض، ومثل الحيات والعقارب والخنافس وما أشبه ذلك! هناك ناس يقولون هذا. نقول: إن عقلك قاصر، ولا يجوز أن تعترض على الله جل وعلا في خلقه وإيجاده، ولا في أمره وشرعه، ولا في قضائه وقدره، يجب أن تكون عبداً منقاداً لأوامر الله وتسلم وتذعن لذلك، وإلا فلن تعجز الله، والأمر يسير لدى الله جل وعلا إذا عصى الإنسان ربه. فشرعه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم كثير منه على هذا النحو. ولهذا لا يجوز للإنسان أن يبحث عن الأسرار ويقول: ما السر في كذا؟ ما الحكمة في كذا؟ لأن هذا غالباً يدعو إلى الاعتراض وإلى(5/444)
التعنت والتكبر على الله جل وعلا، وهذا هو الطريق إلى الهلاك، وكذلك حينما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدين وعد أنه سيظهره على الدين كله وأنه سينصره، فيجب أن يؤمن بوعده، وإذا حصلت انتكاسة على المسلمين وانتصار للكافرين فهذا معناه أنه تمحيص لذنوب المؤمنين بسبب المعاصي التي يقعون فيها. فالله قد ذكر الحكمة جل وعلا في ذلك، ثم قال جل وعلا: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، قال جل وعلا: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، يعني: بسبب ما فعلتموه أنتم. وجاء ذلك أيضاً في آيات آخر، مثل قوله جل وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، يعني: لو يؤاخذكم بكل ما فعلتموه لما بقي على وجه الأرض أحد، ولكنه يعفو عن كثير جل وعلا، ثم الأمر مثلما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) يعني: يؤجر على ذلك عندما يصبر ويحتسب، وتحصل بذلك على حسنات. (وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) بخلاف الكافر والمنافق، فإنه لا يشكر ولا يصبر، وإنما شأنه الاعتراض، ثم الظن بالله جل وعلا أنه ما يفعل شيئاً إلا لحكمة، ولا يأمر العباد إلا بما فيه مصلحة لهم قد تكون ظاهرة لهم وقد لا تكون ظاهرة، ولا يقدر شيئاً إلا لحكمة عظيمة قد يعرف شيء منها وقد لا يعرف.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [125]
سوء الظن بالله عز وجل من أكبر الكبائر، بل هو من سمات المنافقين والكفار، فإنهم يظنون بالله أنه لن ينصر دينه، ولن يعلي كلمته، وأن أهل الباطل ستكون لهم الدائرة على أهل الحق، ولكن الله يخيب ظنهم، ويجعل دائرة السوء عليهم في الدنيا قبل الآخرة.
معنى ظن الجاهلية(5/445)
قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله تعالى: قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، حيث يقول: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]، وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية -وهو المنسوب إلى أهل الجهل- وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون. فمن ظن به سبحانه أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً فقد ظن بالله ظن السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا(5/446)
عرف ربوبيته وملكه وعظمته]. ظن السوء وظن الجاهلية هو الظن بأن الله لا ينصر رسوله ولا ينصر حزبه، والمقصود بالنصر هو إظهار ما جاء به، ولا يلزم من ذلك أنه لا يحصل فيهم قتل ولا يحصل فيهم مصائب، هذا ليس لازماً، بل أخبر جل وعلا أن من الفتن التي يديل الكفار بها على المؤمنين أنه ليتخذ من المؤمنين شهداء، أي: يوجد منهم شهداء يقتلون. والشهادة هي أعلى المراتب التي يمكن أن يصل إليها المؤمن، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل). وذكر أنه لا يوجد مؤمن يموت فيرى ما أعد الله له فيود أنه يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يود أن يحيا مرة أخرى فيقتل؛ لما يرى من الكرامة التي أكرمه الله جل وعلا بها، فكون الكفار -مثلاً- قد يكون لهم نصر على المؤمنين وقد يقع قتل في المؤمنين فإن هذا من الحِكَم، وكذلك يكون تمحيصاً عاماً للمؤمنين، ولكن لا يمكن أن يُدال الكفار إدالة كاملة بحيث يقضون على المؤمنين نهائياً ويقضون على الإسلام. وظن السوء الذي ظنه المنافقون هو أما كونه يحصل في المؤمنين قتل، أو يحصل عليهم بسبب ذنوبهم ومخالفاتهم شيء من المصائب، أو شيء من تسلط العدو عليهم، وهذا ثابت في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الرسل كلهم، ولما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام كان لا يقرأ العربية، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليه الكتاب باللغة العربية، فلما ترجم له الكتاب اهتم به كثيراً، ثم أمر أن يُبحث في الشام عن أحد من قومه، فوجد جماعة من المشركين منهم أبو سفيان قبل أن يسلم، فجيء بهم إليه فسألهم: من رئيسكم؟ فأخبروه أنه أبو سفيان ، فقدمه أمامهم وأجلسهم خلفه وقال: إني سائله فإذا صدق فصدقوه يعني: قولوا: صدق. وإن كذب فقولوا: كذب. فصار يسأله عن مسائل، منها أنه قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقال: الحرب بيننا وبينه سجال، مرة يُدال علينا(5/447)
ومرة نُدال عليه يعني: مرة يكون النصر له ومرة يكون النصر لنا ثم بعد نهاية الأسئلة قال هرقل لأبي سفيان : كذلك الرسل يبتلون، ولكن العاقبة لهم. وهكذا يكون القتال بين الرسل وبين الكافرين، مرة ينصرون ومرة ينتصرون عليهم، ولكن العاقبة تكون للأنبياء، وهذه هي سنة الله جل وعلا. فمعنى الظن السيء بالله جل وعلا هو ما ظنه هؤلاء المشركون والمنافقون أن الإسلام ينتهي ويكون الكفر هو المسيطر فيُقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ويمحى دينهم، وهذا خلاف حكمة الله وخلاف أمره ووعده فهو من ظن السوء وظن الجاهلية. أما القول بأنه إنكار الحكمة فمعنى ذلك أن كل فعل يفعله الله جل وعلا أو أمر يأمر به فله فيه حكمة عظيمة، والحكمة: هي وقوع الشيء على وفق ما يكون عدلاً وحقاً تقر به العقول السليمة وتستحسنه وترى أن هذا هو أحسن ما يكون، وليس خلافه أحسن بل هو الأحسن، وكل شيء يفعله الله جل وعلا فهو بهذه المثابة، فله الحكم في أمره وفي تقديره وفي شرعه، وحكمه عدل وحق، ولا تخالف الحكمة العقل النظر، ولكن قد تدرك العقول ذلك وقد تقصر عنه، فإذا قصرت عنه فيجب أن تسلم لله جل وعلا أنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي يحسن وضعها فيه. ومن ذلك إيمان المؤمن وكفر الكافر، فهو جل وعلا يعلم من يستحق الفضل والإحسان فيتفضل عليه ويهديه للإيمان، ويعلم من لا يستحق ذلك فيحجب عنه فضله. وكذلك مِنْ الظن السوء إنكار أنه قدر هذه الأشياء التي تقع، فهذه ثلاثة أقوال: الأول: إنكار نصر الله جل وعلا لرسوله وإظهار دينه. الثاني: إنكار الحكمة في الأوامر التي يأمر بها والمقادير التي يقدرها. الثالث: إنكار القدر، وأن ذلك لم يقع بقدر وإنما هو على وفق الأسباب التي تجب، ومن كان أقوى فهو ينتصر، فكل ظن من هذه الظنون فهو خلاف الحكمة، ويكون من ظن السوء بالله جل وعلا. ......
الاعتراض على الله في جعله الخلق متفاوتين من ظن السوء به سبحانه(5/448)
وكذلك من أنكر شيئاً يتعلق بالإنسان نفسه، فقد يقع أيضاً في ظن السوء بالله جل وعلا، كأن يرى أنه لابد أن يكون غنياً ولكنه افتقر، واللائق به أن يكون صحيحاً وألا يناله مرض لأنه لا يستوجب ذلك، فإذا ناله شيء من الفقر أو من المصائب أو من الهموم أو من الأمراض فإنه يقول: هذه أمور وقعت خلاف ما ينبغي أن تقع وهذا أيضاً قد يؤول إلى الكفر بالله جل وعلا. وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أشياء عن بعض الناس تدل على أن كثيراً من النفوس عندها الاعتراض على الله، وإنما يكون هذا الاعتراض كامن فيها، فيعترض على الله في خلقه، ويقولون مثلاً: لماذا وجود الخلاف؟ يكون بعض الناس مريضاً وأجرب وما أشبه ذلك فيقولون: ما الحكمة من هذا؟ وهذا لا يفعله حكيم! تعالى الله وتقدس عما يقولون. وينكرون أن يكون فلان فقيراً وفلان غنيا،ً حتى إن بعضهم قال: كان أحد الفقهاء الذين يعرفون بمعرفة الأحكام يتردد علي كثيراً. يقول: فمرض فعدته، فسمعته يقول: ما هذا التعذيب؟ إن كان يريد أن يميتني فليس لهذا التعذيب معنى! ثم يقول: والله لو أنزلني الفردوس ما كان ذلك مشكوراً بعد هذا الذي حصل. أعوذ بالله من سوء الخاتمة، فهذا كان فقيهاً ثم يصدر منه مثل هذا الكلام الجريء على الله، ويقول: لو أنزله الله الفردوس ما كان مشكوراً؛ لما حصل له من المرض. وهذا خلاف المؤمن الذي إذا أصابه المرض فرح، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الحمى؛ فإنها حظ المؤمن من النار)، أي: لأنها تمحص الذنوب. وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً. قال: نعم. كما يوعك رجلان منكم فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ قال: نعم)، فمن فضل الله على الإنسان أن يعترف بأن كل ما وقع عليه هو بقدر الله جل وعلا، فيجب أن يحسن الظن بربه، وإن أدرك الإنسان الحكمة من ذلك فليطمئن، وإلا فعليه أن يسلم لربه جل(5/449)
وعلا حتى يكون عبداً لله، ولا يجوز أن يجعل مشاركاً لله في ذلك، ولا أن ينزل نفسه منزلة فوق منزلة الله -تعالى الله وتقدس- حتى يصبح يعترض على الله، فالشيطان لما أمره الله جل وعلا بالسجود لآدم اعترض على ربه وقال: كيف أؤمر بالسجود وأنا خير منه؟ لأن أصلي النار وهو أصله الطين فينبغي للقضية أن تعكس، وأن يؤمر هو بأن يسجد لي. فقال -كما حكى الله عنه-: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، فهذا أصل الاعتراض على الله جل وعلا على أمره وتقديره، فالذي يسلك هذا المسلك فإنه يسير خلف الشيطان، نسأل الله العافية.
إنكار القدر من ظن السوء بالله جل وعلا(5/450)
[ وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يجب وإن كانت مكروهة له]. يريد أنه يرد على بعض أهل الكلام، مثل الأشاعرة الذين يقولون: إن الله يفعل بمقتضى مشيئته فقط، وليس هناك حكمة. وينكرون الحكمة على ضوء مذهبهم الفاسد، ويقولون على مقتضى ذلك: يجوز أن يعذب الله المؤمن الذي أفنى حياته بطاعة الله ويجوز أن يجعله في النار، ويجوز أن يجعل الكافر الذي أفنى حياته في معاصي الله وفي محاربة الله أن يجعله في الجنة، مع أن الله جل وعلا ذكر ذلك في كتابه صريحاً فقال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، فالله جل وعلا ينكر هذا، ويبين أن هذا لا تقتضيه حكمته، بل حكمته على خلاف ذلك. ثم يفسرون الظلم الذي نفاه الله جل وعلا عن نفسه كما قال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] بأنه هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه وبغير حق، وكل شيء ملك لله، فإذا صرفه بمقتضى مشيئته فلا يكون ظلماً، وهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح للظلم هو أنه وضع الشيء في غير موضعه فالله جل وعلا يضع الأشياء في موضعها، كما قال جل وعلا: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وقال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68]، فهو جل وعلا اختار على مقتضى حكمته أن يضع الأشياء في مواضعها تعالى الله وتقدس. فما قدرها سدى ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، وأكثر الناس يظنون بالله غير(5/451)
الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حكمته وحمده، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوى بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء ]. القنوط هو شدة اليأس، فإذا كان الإنسان -مثلاً- يعمل ذنوباً كثيرة وكبيرة ثم يقول: لا مخرج لي من ذلك ولا يغفر لي فهذا هو القنوط. ولماذا يكون مثل هذا ظن سوء بالله؟ الجواب: لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وعفو كريم، وليس هناك ذنب لا يغفره الله إذا تاب الإنسان منه، كما قال جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فلم يستثن شيئاً. أما الآية الأخرى التي فيها استثناء الشرك فهذا في الذي يموت ولم يتب، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48] يخبر الله جل وعلا أنه لا يغفر له إذا مات مشركاً، أما ما عدا الشرك فهو تحت مشيئة الله جل وعلا وإن مات عليه مصراً، فإن شاء الله أن يعفو عنه عفا، وإن شاء أن يعذبه عذبه. [ ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء ]. لأن هذا أيضاً على خلاف مقتضى حكمته وعدله، أما الحكمة فإن الله رتب الإنسان ترتيباً حسناً، ثم بعد ذلك يهدم هذا الترتيب وينتهي، وذلك ليعاد إعادة أكمل من هذه وأتم، هذا من ناحية الخلق، أما من ناحية العدل فإن(5/452)
الناس -كما هو واقع- يشاهدون الظالم يظلم ظلماً ظاهراً ثم لا يؤخذ الحق منه، ويموت هذا ويموت هذا، وهذا يقع كثيراً، ولا يمكن أن يترك هذا، بل بل لابد من موقف بين يدي الله يؤدى فيه الحق إلى صاحبه، ولابد من البعث حتى يقتص للمظلوم من الظالم، ولهذا جاءت الأحاديث تبين أن البهائم يقتص منها فكيف العقلاء؟! فالبهائم تتناطح بقرونها بعضها يكون له قرون وبعضها أجم ليس له قرن، فتبعث يوم القيامة ليُقتص لبعضها من بعض، ثم إذا أعطي صاحب الحق من البهائم حقه يقول الله جل وعلا لها: كوني تراباً. لأنها ليس لها ثواب ولا جزاء، ولكن العدل اقتضى أنه يقتص من الظالم للمظلوم وإن كان بهيمة. وأما العقلاء المكلفون الذين خلقوا لعبادة الله فلا بد من القصاص، ثم كذلك الأعمال، تجد هذا يعمل جاهداً في طاعة الله مجتهداً وهذا يعمل جاهداً في معاصي الله، ثم يموتان وما لقي هذا الجزاء ولا لقي هذا الجزاء وهو الجزاء الأوفى، وإلا فنعمة الطاعة والأنس بالله من أكبر النعم، فلابد من بعث، ولابد من دار يتم فيها الجزاء كما أخبر الله جل وعلا. ......
من ظن السوء بالله جل وعلا الظن بأن الله لا يجازي بالأعمال، ومنه كذلك تأويل الصفات(5/453)
[ ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقب بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في أسفل السافلين، وينعِّم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة وأشار إليه إشارة ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يُتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان فقد ظن به ظن السوء ]. يشير بهذا إلى ما يقوله الأشاعرة والمعتزلة من أن ظاهر صفات الله جل وعلا التشبيه، مثل اليد والرحمة والرضى والغضب، ولهذا يؤولونها ويقولون: لا يجوز أن تؤخذ على ظاهرها؛ لأن ظاهرها يدل على التشبيه. والإنسان أمامه في هذه شيئان -كما يزعمون-: إما وجوب التأويل، وإما السكوت(5/454)
والتسليم وعدم الاشتغال بذلك مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد. أي: أن يعمي الإنسان قلبه ويمسكه عن التفكر في ذلك، فلا يفكر ولا ينظر، بل ويصبح كأن أمامه شيء مجهول تماماً، بل يعودون مرة ثانية ويقولون: لابد أن يعتقد أن ظاهرها غير مراد. وهذا معناه -على قولهم- أن ظاهر القرآن كفر، وظاهر الأحاديث شرك، وأن الناس لو تركوا بلا وحي لكان أحسن لهم؛ لأن ظاهر هذا ما أريد وإنما أريد عكسه. فالذي أريد باليد القدرة، والذي أريد بالرحمة الإحسان للمخلوق وليست رحمة تكون صفة لله، والمراد بالغضب العقاب، والمراد بالرضى الثواب، فمرة يفسرونه بمخلوق ومرة يفسرونه بصفة أخرى، ثم لا يثبتون هذه الصفة، بل يفسرونها مرة أخرى وهكذا. فالمقصود أن هذا خلاف ما أخبر الله جل وعلا به من البيان والهدى، فقد جعل القرآن هدى وشفاءً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بين غاية البيان، ما ترك شيئاً حتى الطيور التي تطير إلا ذكر لنا منها علماً، ولم يأت مرة أنه قال: إن قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] المراد به أن الله فوق ما قال هذا، بل تركهم يفهمون من هذا الخطاب ظاهره. فقوله: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل) يحمل على ظاهره، وإلا كيف يخبر بهذا ثم يقول له: لا تعتقده على ظاهره؟ هذا تناقض، وهذا التأويل في صفاته جل وعلا أو تعطيلها وردها من أعظم الظن السيء بالله جل وعلا. ......
من أسوأ الظن بالله جل وعلا القول بأن الله كان معطلاً عن الفعل(5/455)
[ فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال: إنه قادر ولم يبين وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء. ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق فهذا من أسوأ الظن بالله. فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية. ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن بالله ظن السوء. ومن ظن أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً فقد ظن به ظن السوء ]. ......
مسألة تسلسل الحوادث والأقوال فيها(5/456)
هذه المسألة التي أشار إليها مسألة كبيرة جداً، ووقع فيها ضلال كبير وكثير، وهي معروفة في كتب المتكلمين بمسألة تسلسل الحوادث، والتسلسل مأخوذ من السلسلة، والسلسلة تكون متداخلة كل حلقة داخلة في الأخرى حتى يتصل آخرها بأولها، فلا يكون فيها نقص، والتسلسل مأخوذ من أن كل حادث قبله حادث، وهكذا إلى مالا نهاية. والتسلسل يكون من الجانبين: من جانب المستقبل وجانب الماضي، فالماضي كل حادث قدر فقبله حادث، وكل مخلوق قدر فقبله مخلوق وهكذا، وأما المستقبل فكل شيء يوجد فسيوجد شيء آخر، وهكذا. والمتكلمون اختلفوا في هذا على مذاهب: فمنهم من منع التسلسل في الماضي والمستقبل، بل قالوا: إن أهل الجنة وأفعالهم تنتهي، إما أن تكون الحركة تنتهي وإما أن يكون أهل الجنة أنفسهم يفنون، وإن الجنة والنار تفنيان. وهذا قول بعض المعتزلة قالوه بناءً على هذه القاعدة. وأما في الماضي فمثل ما ذكر هنا، يقول: كان الله جل وعلا معطلاً في الأزل، فلم يكن يفعل شيئاً، ثم لما أراد أن يخلق السموات والأرض والجبال والمخلوقات صار قادراً على الفعل، أما قبل ذلك فلم يكن قادراً. والشيخ يقول: هذا من أسوء الظن بالله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا لم يزل كاملاً، ولا يلزم أن نعلم بعقولنا وإدراكاتنا أفعال الله الأزلية القديمة؛ لأن الله لا مبدأ له جل وعلا، وهو بصفاته كامل، وقد أخبر أنه فعال لما يريد، ولم يكن في وقت من الأوقات فعالاً لما يريد وفي بعض الأوقات لا يفعل -تعالى الله وتقدس-؛ لأن هذا نقص، فالله له الكمال المطلق، ولا يلزم أن يكون ذكر مبدأ هذا الكون أنه ليس قبله مخلوقات، فالله على كل شيء قدير، وهو جل وعلا له الكمال المطلق. وأما ما جاء في حديث عمران بن حصين حينما سأل أهل اليمن وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ما مبدأ هذا الأمر؟ فقال: (كان الله ولم يكن شيئاً قبله، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض ...) إلى آخره فمعنى ذلك أن الرسول(5/457)
صلى الله عليه وسلم أخبر على حسب السؤال؛ لأنهم قالوا: ما مبدأ هذا الأمر؟ وهذا لإشارة، والإشارة تكون إلى شيء موجود مثل الأرض والجبال والشجر ومن على الأرض، وكذلك السماء، فأخبر عن أول مبدئه أن الله خلقه في ستة أيام، ولا يلزم أن قبل ذلك لم يكن هناك شيء مخلوق، بل إخباره جل وعلا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام دليل على أن هناك أشياء قبل وجودها يعرف تقدير الأيام بها؛ لأن الأيام التي تعرف الآن هي بوجود الشمس، فالشمس هي التي يعرف بها الليل والنهار، أما قبل ذلك فلا ندري ما هي الأيام؟ فلابد أن تكون الأيام تلك في تدبير أجرام أخرى الله أعلم بها. والمقصود: أنه يجب اعتقاد الكمال المطلق لله، وأنه لا يجوز أن يكون ناقصاً في وقت من الأوقات أو معطلاً عن كونه إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا يفعله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وتمام الكلام على هذا أن منهم من نفى التسلسل في الماضي والمستقبل، ومنهم من أثبته في المستقبل فقط ونفاه في الماضي، وزعم أن هذا مذهب أهل السنة وليس كذلك، وهذا بناء على دوام الجنة والنار، فأخبر في المستقبل أن الحوادث ستستمر إلى ما لا نهاية، وأما في الماضي فهم يمنعونه، والمذهب الثالث الذي هو مذهب أهل السنة هو أن الحوادث في الماضي لا مبدأ لها، والمراد بذلك جنس الحوادث لا حادثاً معيناً، فإن الله لم يزل يفعل ما يشاء في الماضي وكذلك في المستقبل.
ظن السوء يدور على صاحبه(5/458)
[ ومن ظن أنه سبحانه لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السموات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: (سبحان ربي الأسفل) كمن قال: (سبحان ربي الأعلى) فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته، ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين واستنفذ ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به سبحانه أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به سبحانه خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء. ومن ظن به أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه، أو من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد(5/459)
المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء، وظن به سبحانه خلاف ما هو أهله. ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله. ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكاً أو بشراً حياً أو ميتاً يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به ظن السوء. فأكثر الخلق -بل كلهم إلا من شاء الله- يظنون بالله غير الحق وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه. ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً وتعتباً على القدر وملامة له واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟! فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغني التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه سبحانه كلها حسنى: فلا(5/460)
تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيراً فكيف بظالم جانٍ جهول وقل يا نفس مأوى كل سوء أترجو الخير من ميْت بخيلِ وظنّ بنفسك السوءى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقى فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن من الرحمان فاشكر للدليل قوله سبحانه: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6]، قال ابن جرير في تفسيره: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به، وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. يقول تعالى ذكره: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء. يعني: دائرة العذاب تدور عليهم به. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الكوفة: (دائرة السَوء) بفتح السين، وقرأ بعض قراء البصرة: (دائرة السُوء) بالضم، وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين، وقلما تقول العرب: (دائرة السُوء) بضم السين. وقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح:6] يعني: ونالهم الله بغضب منه (ولعنهم). يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته. وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ [الفتح:6] يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6] يقول: وساءت جهنم منزلاً يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات. وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يُقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ(5/461)
[الفتح:6]. وذكر في معنى الآية الأخرى نحواً مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى ]. قول الله جل وعلا: ((ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات)) يعني: أنزل الكتاب على رسوله صلى الله عليه وسلم مخبراً بالحق الذي يثيب به المؤمنين، ويعذب به الذين يصدون وينحرفون عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتقدون خلاف ذلك ويتوقعونه. فالظن الذي يظنونه هو شيء يتوقعونه في أنظارهم وأفكارهم، وهذا الذي ينظرون إليه هو من صنع الكفار، فهم يقولون: المسلمون ضعفاء وقلة والكفار أقوياء وكثيرون، فسوف يقضون عليهم فلا تبقي لهم باقية بعد ذلك. وذلك لأنهم لا يصدقون وعد الله ولا يؤمنون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله وعد رسوله النصر والظفر، ووعده أن يظهر دينه على الدين كله. فالمؤمنون يثقون بوعد الله ويؤمنون به، يثقون به يقيناً، ويظنون بالله خيراً، وأنه سينصر من يؤمن به ويتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المشركون والمنافقون يظنون خلاف ذلك، والظن هو ما يقوده نظرهم إليه من حمل الأمور التي يقيسونها على ما يشاهدونه، وهم لا يؤمنون بوعد الله وبخبره الذي أخبر، فصار من جراء ذلك أن ظنوا بالله ظن السوء. وقوله: ((عليهم دائرة السوء)) معنى الدائرة أن السوء سيدور عليهم ويتعاقب عليهم حتى يوردهم جهنم. وقوله: ((وغضب الله عليهم ولعنهم)) غضب الله جل وعلا صفة من صفاته، فهو يغضب على من يشاء كما أنه يرضى عمن يشاء من عباده، فمن غضب عليه فهو هالك وله العذاب؛ لأن من لازم الغضب العذاب، وليس العذاب هو الغضب، فالغضب صفة من صفاته جل وعلا، فإذا غضب الله جل وعلا عذب، وكذلك يلعن من يشاء من خلقه، كما أنه يصلي على من يشاء من عباده، فقد أخبر الله جل وعلا أنه يصلي على المؤمنين هو وملائكته. ومعنى اللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة. وقوله: ((وأعد لهم جهنم)) يعني أنها مهيأة ومرصدة تنتظرهم في هذا الوقت، أي: الوقت الذي كان(5/462)
يخاطب الله جل وعلا به رسوله. فهي موجودة متهيئة معدة تنتظرهم، وسوف يصلونها قريباً، وليس بينهم وبين ذلك إلا الموت، فإذا ماتوا وصلهم من جهنم وهم في قبورهم ما يصل إليهم من العذاب الذي يكون في البرزخ، وقد جاء ذلك صريحاً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر أن الرجل إذا كان من أهل السوء ووضع في قبره فتح له باب إلى النار، فيأتيه من ريحها وحرها وسمومها ونتنها ما يعذبه الله به إلى يوم القيامة. وإذا كان الإنسان صالحاً تقياً فُتح له في قبره باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحانها ما يتنعم به في قبره إلى يوم القيامة. ......
مسائل مستفادة في الباب(5/463)
[قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران ]. آية آل عمران قد تقدم تفسيرها. [ الثانية: تفسير آية الفتح. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر ]. يعني أن ظن السوء بالله أنواع كثيرة جداً، كما قال ابن القيم رحمه الله: أكثر الناس يظنون بالله ظن السوء، وهذا يكون كامناً في النفس كمون النار في الزناد، فإذا جاءت مناسبة ظهر ذلك على اللسان، وظهر من الفعل ما يكون شاهداً لمن له سمع وبصر يسمع ويرى. فإنما يخاف ربه جل و علا من علم مقتضى حكمته ومقتضى أسمائه، فإذا سلم الإنسان من أن يظن بربه جل وعلا خلاف حكمته وخلاف مقتضى أسمائه وخلاف الحق فإنه يكون سالماً ناجياً بإذن الله تعالى، وإن لم يسلم فهو هالك، وقد أخبر الله جل وعلا أن من كان كذلك فعليه دائرة السوء. [ الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه ]. معنى (عرف الأسماء والصفات) أن يعرف معانيها وهذه الأسماء قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) قال العلماء: (أحصاها): أطاق العمل بها بعد معرفة معانيها، كما قال الله جل وعلا: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] يعني: لن تطيقوا الأوامر كلها، ولكن عليكم من العمل ما تستطيعون فلابد من المعرفة والإيمان بذلك ثم العمل. والحقيقة أن معرفة أسماء الله جل وعلا هو الفقه الأكبر الأعظم الذي يجعل الإنسان عالماً بالله جل وعلا. والعلماء ثلاثة أقسام: عالم بالله عالم بأحكامه، وهذا هو الصنف الكامل، وهو الذي يكون منه من يخشى الله جل وعلا، كما قال جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. والثاني: عالم بالله غير عالم بالأحكام، وهذا منطبق على أهل التقى وأهل التعبد الذين قصروا أنفسهم على ذلك ولم يتعرفوا على الأحكام التي على المكلفين وتنزيلها من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم،(5/464)
وإنما يهتمون بأنفسهم فقط. الثالث: عالم بالأحكام غير عالم بالله، وهذا يكون من الهالكين، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القضاة ثلاثة، اثنان في النار، وواحد في الجنة، فاللذان في النار أحدهما لم يعرف الأحكام فقضى بين الناس بالجهل فهو مخطئ وإن أصاب ما دام أنه غير عالم؛ لأنه سيتخبط، وتخبطه يدعوه إلى النار، والثاني عرف حكم الله ولكنه قضى بخلافه فهو في النار، والثالث عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، فالعلماء أقسام مثل هذا التقسيم، ومثل ذلك الفتوى والتعليم، وكل ما يتصل بالناس ويتعلق بأحكام الله جل وعلا فهو على هذا المنوال، فالذي يكون عالماً بالله هو الذي يعلم معاني أسمائه جل وعلا وصفاته. وذلك أن الله جل وعلا يخبر عن نفسه بأخبار يريد من العباد أن يفهموها ويفقهوها، ويخبر عن نفسه بالصفات وبالأسماء وبالأفعال التي يفعلها حتى يتعرفوا على ربهم جل وعلا، فالمؤمنون عرفوا الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله كما أنه في فطرهم إيمان يدعوهم إلى أن يعبدوا الله جل وعلا، فهؤلاء هم العلماء الذين يكونون علماء بالله جل وعلا. فالله ليس كمثله شيء، فلا يقاس عليه تعالى وتقدس أحد، فليس هناك طريق إلى معرفة الله جل وعلا إلا عن خبره الذي أخبر به عن نفسه وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا يتبين خطأ الذين يقولون: إن النظر في أسماء الله وصفاته والتعمق في ذلك لا داعي له؛ لأنه ليس عملياً. وهذا يدل على الجهل العظيم؛ لأن هذا هو أصل العلم الذي تكون به السعادة، والواجب على العبد أن يتعرف على ربه جل وعلا بأسمائه التي عرف بها عباده، كما قال جل وعلا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، ففي هذه الآية وغيرها يخبر جل وعلا أن له الأسماء الحسنى، ويأمر بدعائه بها، أي: أن يُعبد بها، ومن عبادته تعلمها واعتقاد معناها ثم العمل على ما اعتقده. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [126](5/465)
إنكار علم الله الأزلي ناقض من نواقض الإسلام، ولا يستقيم إيمان المرء حتى يؤمن بمراتب القدر الأربع، وأهمها الإيمان بعلم الله الأزلي للكليات والجزئيات، فلا يقع في ملكه إلا شيء قد علمه، وكتبه، وشاءه، وخلقه.
حكم إنكار القدر
قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله تعالى: باب ما جاء في منكري القدر ]. قوله: ( باب: ما جاء في منكر القدر) يعني: ما جاء من ذكر بعض الوعيد الذي جاء فيمن ينكر القدر، والقدر المقصود به. علم الله جل وعلا الأزلي؛ فإنه علم كل شيء بعلمه الذي هو صفته ولا ينفك عنه بحال من الأحوال، فعلمه أزلي ليس له بداية، فكما أن الله جل وعلا لا بداية له فكذلك صفاته، فهو جل وعلا بصفاته أزلي، فعلمه لا يتغير ولا يزداد علماً بإيجاد الأشياء؛ لأن علمه كامل لا يفوته شيء. وقد علم كل حادث سيحدث قبل وجوده، وكل ذلك كتبه في اللوح المحفوظ، فلا يقع شيء إلا وهو مكتوب، ثم كذلك لا يقع شيء إلا بمشيئته وخلقه. ......
مراتب القدر
والقدر عبارة عن هذه الأمور: الأول: العلم، أي: علم الله، فإنه عليم بكل شيء. والثاني: الكتابة. كتب ما علم. والثالث: المشيئة. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وما يقع شيء وإن دق إلا قد شاءه جل وعلا، حتى نبض عروق الإنسان وتحريك يده وإصبعه، فكل شيء من حركة وسكون لا يمكن حصوله إلا بمشيئة الله. والرابع: الخلق، فهو الخالق وحده ليس معه من يخلق، وهذه الأمور الأربعة تسمى أركان الإيمان بالقدر، ولابد من الإيمان بها. وقد حدث في المسلمين إنكار القدر، وإنكار أن يكون الله جل وعلا علم الأشياء أزلاً، ثم كتبها، وهذا حدث في آخر وقت الصحابة رضوان الله عليهم، فكفروا من قال بهذا القول وتبرأوا منه، وأخبروا أنه لو عمل أي عمل فلن يقبل منه؛ لأنه ترك الإيمان بالله، والإيمان بالله جل وعلا في ضمنه الإيمان بالقدر.
أول من قال بنفي القدر(5/466)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن عمر : (والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) رواه مسلم . المصنف رحمه الله اختصر الحديث اختصاراً كثيراً، والحديث كما في صحيح مسلم أن رجلين من التابعين أتيا من البصرة وإنكار القدر أول ما حدث حدث في العراق، ويقال: إن أول من تكلم به وأنكره معبد الجهني وقد قتله عبد الملك بن مروان على إنكار القدر، ويقال: إن أول من تكلم به أيضاً رجل من المجوس يقال له سوسن وبعض المؤرخين يقول: إن أول من تكلم به بعض النصارى، فيكون معبد الجهني أخذه عن هؤلاء. ويقول بعض العلماء: إن هذا ليس رجلاً واحداً، وإنما هي مؤسسات أُسست لمحاربة الإسلام، فقد يكون من يعتنق أفكار هذه المؤسسة عنده جرأة، فيكون واجهة فيتكلم بالشيء الذي يعرف، وهؤلاء الذين أسسوا ذلك يعلمون أنه لو تكلم به أحد سيقتله المسلمون، فجعلوا لهم واجهات تقوم بهذا الشيء. فكان هذا الحدث مبدؤه في العراق في البصرة والكوفة، وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قال: (اللهم بارك لنا في يمننا، فقال الصحابة: وفي نجدنا! فقال: اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا، وهم يقولون: وفي نجدنا، فقال: ذاك يطلع منه قرن الشيطان) أي: يطلع منه الفتن. قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا وهو في المدينة، فيكون المقصود بذلك العراق، هكذا قال بعض الشراح، والواقع يشهد بهذا، ولهذا أول الفتن جاءت من هناك، وهذا الحدث من أولها. يقول يحيى بن يعمر : خرج عندنا في البصرة من ينكر القدر، فقدمت أنا وصاحب لي حاجين أو معتمرين، فلما أقبلنا على المدينة قلنا: لو لقينا أحداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله، فوجدنا عبد الله بن(5/467)
عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أن صاحبي يكل الكلام إلي فقلت: يا أبا عبد الرحمن إن عندنا أقواماً يتقفرون العلم -وذكر من عبادتهم- إلا أنهم يقولون: الأمر أنف -أي: أنه ليس معلوماً لله سابقاً ولا مكتوباً وإنما يعلمه إذا وجد- فقال عبد الله بن عمر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ثم قال: حدثني عمر أنه كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه -يعني: على فخذي نفسه- فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، فقال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره -هذا محل الشاهد-، ثم قال: أخبرني عن الإحسان، قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فقال: أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: أخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد المرأة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاءَ الشاة يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة ، وفي آخره: أن الرجل قام وذهب مولياً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ردوا علي الرجل)، فقاموا ليردوه فلم يروا أحداً، فأخبرهم أنه(5/468)
جبريل جاءهم يعلمهم أمر دينهم. فالمقصود أن عبد الله بن عمر حلف بالله أنه لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً -ومثل هذا لا يكون ولكن تقديراً- ثم أنفقه في سبيل الله فأنه لا يقبل منه شيء حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ومعنى ذلك أن الذي يرد القدر يكون كافراً غير مؤمن؛ لأن الذي لا يقبل منه العمل وإن كان كثيراً هو الكافر، وقد اتفق العلماء على أن الذي ينفي علم الله في الأزل أنه كافر بالله جل وعلا. ولهذا كان الشافعي يقول: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، أي: كفر إنكار، ولكن هذه الطائفة انقرضت وأصبحت لا وجود لها، وذهبت إلى غير رجعة إن شاء الله، فهذا كفر ظاهر مخالف للنصوص الواضحة الجلية، ولكونه واضحاً جلياً، فقد أصبح منبوذاً من قبل المسلمين فلا يلتفت إليه، فانقرض القائلون به واندثروا، ولكن فكرتهم ومحنتهم لا تزال موجودة؛ لأنها أقل من هذا القدر، فأصبح إنكار القدر يدور على شيئين: الأول: إنكار عموم مشيئة الله، أي: أنه ليس كل شيء يقع قد شاءه الله. الثاني: عموم خلق الله، أي: أنه يوجد مع الله خالق يخلق الشيء، وهل هذا دون الأول؟ إذا اعتقد الإنسان أن هناك مخلوقاً يخلق مع الله، هل هذا دون إنكار العلم؟ في الواقع هم لا يقولون ذلك صراحة لا يقولون: إنهم مشاركون لله جل وعلا في الخلق والإيجاد، ولكن هذا هو لازم قولهم، فهم أقل من أولئك، ووجه ذلك أنهم قالوا: إن الله لم يشأ الكفر ولا المعاصي، وإنما الذي شاء الكفر والمعاصي هم الكفار والعصاة؛ لأن الله لا يأمر بالفساد ولا يحبه، فالذي دعاهم إلى ذلك حسن ظنهم بالله جل وعلا، ولكنهم أخطأوا ووقعوا في الضلال البين الواضح. أما أصحاب القول الثاني فإنهم يقولون: إن العاصي أو الكافر هو الذي يوجد المعصية أو الكفر بنفسه، وليس الله هو الذي أوجد ذلك، فيكون العبد خالقاً لفعله. فيقال لهم: يلزم على هذا أن الله أراد من الكافر أن يؤمن ومن العاصي أن يطيع، ولكن العاصي(5/469)
أراد المعصية والكافر أراد الكفر فأيهما غلب؟ فعلى هذا يكون الكافر قد غلبت إرادته، وكذلك العاصي غلبت إرادته إرادة الله جل وعلا، تعالى الله وتقدس. وهذا ضلال بين ظاهر واضح، وهو لا يزال موجوداً حتى الآن عند من يزعمون أنهم علماء، وهذا إنكار لعموم مشيئة الله وخلقه جل وعلا. ......
مدار الإيمان بالقدر
ولهذا قلنا: إن مدار الإيمان بالقدر على أمور أربعة: الأول: الإقرار بعلم الله جل وعلا الأزلي، وأنه لا يفوته شيء، وعلم كل شيء، فكل شيء يقع على وفق علمه في الوقت المحدد له. الثاني: الكتابة: كتابته جل وعلا. الثالث: عموم مشيئته. الرابع: عموم خلقه. [ أخرج أبو داود عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) ]. قد حكموا بأن كل الأحاديث التي جاءت بذكر القدرية وذكر المجوس، والأحاديث التي جاءت بذكر الرافضة والشيعة غير صحيحة، ووجه تشبيه القدرية بالمجوس واضح جلي، وذلك أن المجوس يزعمون أن الخالق اثنان: أحدهما خيري، والآخر: شري، فخالق الخير عندهم هو النور، ولهذا يعبدون النار؛ لأنها مصدر النور، وأما خالق الشر فهو الظلمة، والظلمة هي مصدره، وهو شرير. والقدرية قالوا: إن الله يخلق الخير والعبد يخلق الشر. فجعلوا مع الله خالقاً، فشابهوا المجوس في ذلك، فسموا مجوس هذه الأمة. وقوله: (إذا مرضوا فلا تعودوهم وإذا ماتوا فلا تشهدوهم) أي: أنهم يهجرون على هذا القول؛ لأن قولهم ضلال خرجوا به عما اعتقده المسلمون؛ فوجب هجرهم والابتعاد عنهم، وهجرهم لأجل إنكار منكرهم. ......
القدرية مجوس هذه الأمة(5/470)
[ وعن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة -وهو ابن اليمان - رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال) ]. وهذا حديث ضعيف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله: قال ابن عمر : (والذي نفس ابن عمر بيده) إلى آخره. حديث ابن عمر هذا أخرجه مسلم . [ حديث ابن عمر هذا أخرجه: مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون القرآن ويتقفَّرون العلم -يتقفرون العلم أي: يبحثون عنه ويطلبونه- يزعمون أن لا قدر والأمر أنف، فقال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً، فأنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) ]. استغرب الصحابة كيف أن ثياب الرجل ناصعة نظيفة، وشعره كذلك أسود ليس فيه شيء من الغبار!! ولهذا قال: (لا يرى عليه أثر السفر)، ولا أحد من أهل المدينة يعرفه، فأمره غريب، وهنا وجه الغرابة، وذلك أن جبريل عليه السلام أحياناً يأتي متمثلاً برجل، وإذا تمثل يتمثل برجل حسن الهيئة، وقد يتمثل برجل(5/471)
حسن الصورة، كما كان يتمثل بدحية الكلبي -وكان رجلاً جميلاً حسن الصورة- فرئي مراراً فيحسب أنه دحية ، فرأته عائشة مرة يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما سألها من هذا؟ قالت: هذا دحية الكلبي قال: لا. هذا جبريل عليه السلام. وهذا نوع من أنواع الوحي، وهو أن يأتي بصورة رجل فيكلم الرسول صلى الله عليه وسلم كلاماً يسمعه ويأخذه عنه، وأحياناً يأتي لا يرى، بل كصلصة الجرس فيلابس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشده عليه، حيث يتفصد جبينه عرقاً وإن كان في أشد البرد. ومرة نزل قول الله جل وعلا: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95] إلى آخر الآية، فأمر زيد بن ثابت أن يكتب الآية، وكان ابن أم مكتوم موجوداً، فقال: يا رسول الله! ونحن -يعني أنه ضرير-؟ يقول: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجلي، فتغشاه ما يتغشاه في الوحي، فكادت رجلي أن ترض من ثقل الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95] فهذا الاستثناء نزل في ابن أم مكتوم وأمثاله. وأحياناً إذا نزل عليه الوحي وهو على الناقة تكاد تبرك لثقل ذلك، وأحياناً يأتيه على غير هذه الصفة، كأن يأتيه في المنام فهو أنواع متعددة، ولكن كلها بواسطة جبريل صاحب الوحي. [ (حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام!) ]. بهذه الطريقة جاء ليعلم الصحابة الأدب، وأنه ينبغي أن يُجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجلوس في الصلاة للتشهد. ومعنى: (أسند ركبتيه إلى ركبتيه) أي أن جبريل جعل ركبتيه مقابلتين لركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وضع يديه على فخذيه -أي: على فخذي نفسه- متأدباً على هذه الهيئة؛ ليقول: ينبغي أن يكون الجلوس عند رسول الله صلى الله عليه(5/472)
وسلم هكذا للتعلم منه، وطلب العلم، وكذلك طلب الإيمان الذي يزداد بالعلم الذي يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم على صحابته، فهو يعلمهم الأدب ويعلمهم الدين. [ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه) ]. وجه العجب هنا أن مقتضى حال السائل أن يسأل عن شيء لا يعلمه، فلما قال: صدقت؛ تبين أنه يعلم الشيء الذي سأل عنه؛ لأنه لو كان جاهلاً ما قال: صدقت. [ (قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت) ]. قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) يعني: تؤمن بأن كل ما يقع من خير أو من شر أنه مقدر من الله جل وعلا، ومفروغ منه في الأزل، ولابد من وقوعه، ولا يمكن تغييره ولا تبديله ولو اجتمع الخلق كلهم؛ لأن هذا حكم الله الذي حكم به أزلاً، والشر لا يجوز أن يكون مضافاً إلى الله -ولكن سببه الإنسان؛ لأنه يقع شراً بالنسبة إليه جزاء له، وإلا فهو من الله عدل وحق يجازي به من يستحقه، فيكون الشر هنا نسبياً، ومعنى ذلك أنه بالنسبة لمن وقع عليه فقط، أما بالنسبة لمن قضاه وقدره وأوقعه فهو خير. وتقريب المسألة في ذلك كأن يرتكب إنسان حداً من الحدود، فأقيم عليه الحد -كسرقة أو زنا أو ما أشبه ذلك-، فإقامة الحد بالنسبة للمجتمع خير؛ لأنها تمنع من الفساد وانتشاره واغتصاب الأموال وانتهاك الأعراض، فهو خير، وكذلك هو من الذي حكم به خير وعدل، أما بالنسبة للذي وقع عليه الحد فقد يكون فيه شر من الألم والفضيحة والخزي فيكون من هذه الناحية شراً فقط، وبعض العلماء يقول: الشر ليس إلا في المخلوقات فقط، أما في فعل الله جل وعلا فليس شر ما يفعله الله، بل خير كله، والمقصود بقوله: (خيره وشره) أن كل شيء يقع سواء أكان محبوباً(5/473)
مرغوباً فيه أم مكروهاً مؤلماً فهو بقدر الله جل وعلا وقضائه وقدره.......
من علامات الساعة
[ (قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ]. معنى قوله: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أن علم الساعة استوى الخلق فيه، حتى الملائكة والرسل لا يعلمون ذلك، وإنما هو مستأثر عند الله جل وعلا، لا يعلم وقتها إلا الله جل وعلا، كما أخبر جل وعلا أنه أخفى علم الساعة عن جميع الخلق: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15] فهي واقعة، ولكن وقت وقوعها غير معلوم. يقول علماء التفسير في معنى قوله: (أكاد أخفيها) قالوا: قد أخفاها الله عن الخلق، لكن المعنى: لو أمكن أن أخفيها عن نفسي لأخفيتها؛ وهذا إخبار عن شدة إخفائها، فلا أحد يعلمها، ولله الحكمة في ذلك. ولهذا عدل عن ذلك إلى السؤال عن أماراتها -أي: العلامات- التي تكون قبلها، وعلاماتها كثيرة، ومن أول تلك العلامات: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو نبي الساعة وعلى أمته تقوم الساعة، والله جل وعلا يقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] يعني أنها قريبة، وما ذكر الله جل وعلا أنه قريب فهو قريب بلا شك، وقد مضى على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة عاماً، وكان بعض العلماء يتوقع من هذه الأمة ألا تبلغ الألف عام، وبعضهم يتوقع أنها تبلغ الألف، ولكن هذا كله لا دليل عليه ولا أمارات عليه، فأمر ذلك إلى الله جل وعلا لا يعرفه إلا الله، ومن علامات الساعة ما ذكرت في هذا الحديث وهي ما سيأتي. [ (قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ]. العلامتان ذكر أنهما من علامات الساعة، إحداهما: أن تلد الأمة ربتها -وفي رواية: ربها-(5/474)
والمعنى أن تلد سيدها أو سيدتها، فكيف يكون ذلك؟ يقول العلماء: معنى ذلك: أن تسبى امرأة من الكفار فتكون أمة مملوكة لرجل من المسلمين، فيطؤها فتلد له بنتاً، فتكون بنتها هي التي تعتقها، فهي سيدتها؛ لأنها إذا ولدت الأمة فلا يجوز بيعها، بل تصبح أم ولد معتقة، فيعتقها ابنها أو بنتها، وهذا قد حدث في زمن الصحابة. أما العلامة الثانية فهي كون البدو رعاء الشاء -رعاة الغنم والإبل- أهل تمدن يتطاولون في البنيان، أي: يتنافسون في البناء وحسنه وارتفاعه. وهناك علامات لم تذكر هنا، قد ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، ولهذا قسم العلماء العلامات إلى ثلاثة أقسام: قسم متقدم، وقسم متوسط، وقسم متأخر قبل الساعة تماماً، والمتأخر سموه (العلامات الكبرى) والذي قبله يسمونه: (الوسطى)، والتي قبلها -مثل هذه وغيرها- يسمونها: (العلامات الصغرى).......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [127]
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان الستة، ومن لم يؤمن بالقدر فليس بمسلم، فضلاً عن أن يكون مؤمناً، وهو يقوم على أربعة أركان، وهي: الإيمان بصفة العلم لله، والإيمان بأن الله كتب كل ما سيقع، والإيمان بأن مشيئة الله نافذة، والإيمان بأن الله هو الخالق وحده وأن ما سواه مخلوق، ومن ذلك أفعال العباد.
جريان القلم بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة(5/475)
[ وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني)، وفي رواية لأحمد : (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وفي رواية لابن وهب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار) ]. سبق أن الإسلام أعم من الإيمان من ناحية مرتبته وأهله الذين يدخلون فيه، والإيمان أخص من ناحية الذين يدخلون فيه، وأما من ناحية كون الإيمان يدخل فيه الإسلام والإسلام لا يكون داخلاً فيه الإيمان فيكون العكس فهذا في حالة ما إذا اجتمع ذكرهما جميعاً، أما إذا جاء ذكر كل واحد منهما منفرداً فكل منهما يدخل في الآخر، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فجعل الدين كله الإسلام، وكذلك قول الله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] إلى آخر الآيات، وقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285]، وقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ [البقرة:177] إلى آخر الآية. فإذا جاء أحدهما منفرداً دخل فيه الآخر، ولهذا نظائر في لغة العرب، كإطلاق وصف الفقير والمسكين، فإنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر الفقير دخل فيه المسكين، وإذا ذكر المسكين دخل فيه الفقير. أما إذا(5/476)
ذكرا معاً فيفسر كل واحد منهما بمعنى مستقل، كالآية التي ذكر الله جل وعلا فيها مصارف الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] هنا ذكرا مجتمعين، فصار لكل واحد معناه، ولهذا فُسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً، وفُسر المسكين بأنه الذي يجد بعض الشيء أو بعض الكفاية؛ لأن الله جل وعلا قال في آية أخرى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة، فدل على أن المسكين أقل حاجة من الفقير، فالمقصود هنا التفريق بين الإسلام والإيمان. فعلى هذا يكون كل مؤمن مسلماً ولا عكس، فليس كل مسلم يكون مؤمناً، وكذلك يكون كل محسن مؤمناً مسلماً ولا عكس؛ فليس كل مؤمن يكون محسناً؛ لأن دائرة الإسلام أوسع، ويليها دائرة الإيمان، ويليها دائرة الإحسان فهي أخص، وهذه المراتب هي مراتب الدين، وآخرها وأعلاها مرتبة الإحسان؛ لأن الإحسان هو الإتيان بغاية ما يمكن من تحسين العمل المأمور به، ولا يترك شيئاً مما أمر به، ولهذا قسم الله جل وعلا أهل السعادة إلى أقسام ثلاثة، كما قال جل وعلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، فالسابق بالخيرات هو المحسن والمقتصد هو المؤمن، والذي ظلم نفسه هو المسلم؛ لأنه قد يقصر في بعض الواجبات، ويرتكب المكروهات أو بعض المحرمات، فكان ظالماً لنفسه بذلك، ولكنه من أهل الاصطفاء وإن ناله ما يناله من العذاب، فهو ممن اصطفاه الله جل وعلا وجعله من أهل الجنة. وأما المقتصد فهو الذي اقتصر على فعل ما أوجب الله عليه ونهى نفسه عما حرم الله عليه، وأما السابق بالخيرات فهو الذي يأتي بالمستحبات ويجتنب المكروهات بعد فعله الواجبات واجتنابه المحرمات. وهذا لا ينافي كونه جل وعلا(5/477)
قسم الناس جميعهم إلى ثلاثة أقسام: قسمان من أهل الاصطفاء، وقسم هالك في العذاب، كما في أول سورة الواقعة وآخرها، فذكر أقسامهم في أولها عند النفخ في الصور. إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1] يعني: قامت القيامة ونفخ في الصور، ليس لوقعتها كاذبة * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:2-3] يعني: تخفض قوماً وترفع آخرين على خلاف ما كان في الدنيا، فيُرفع من كان متقياً لله جل وعلا مؤمناً به، ويُخفض من كان كافراً وإن كان في الدنيا مرتفعاً. خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:3-7] يعني: أصنافاً ثلاثة، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة:8] يعني: أصحاب اليمين من كل أمة من الأمم، ومن كل جنس من أجناس الناس. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة:9] أي: الكفرة والمنافقون والفجار، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10] فهؤلاء هم الذين يسبقون إلى أعلى المراتب وأعلى الجنات، ولهذا قال: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14]، والثلة: الجماعة. ثم في آخر السورة ذكر أقسامهم عند الاحتضار -عند الموت-، فأولها عند القيامة الصغرى وآخرها عند القيامة الكبرى، فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:86-91] فسلم عليهم فقط ولم يذكر ما لهم؛ لأنهم سالمون من العذاب، ولم يذكر جزاءهم، بخلاف الأولين فإنه ذكر أن لهم من الحال ما يقَبلُون به فهم في أعلى المنازل. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ(5/478)
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:92-94]، وهذا عند الموت، فإذا مات فإنه يلاقى بحنوط من النار وكفن من النار، ثم في قبره كذلك. والمقصود أن اختلاف الناس على حسب اختلافهم في طاعة الله جل وعلا وامتثال أمره واجتناب ما نهى، فلا يستوي من أحسن ومن لم يحسن، ومجرد الإسلام -وهو الاستسلام والانقياد- لا يكون كالإيمان الذي تحلى القلب به وثبت في القلب وصار لا يتزعزع، ثم إن المقصود من ذكر الحديث كلامه صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان، فإنه جعل الإسلام غير الإيمان، فذكر الإسلام بأركانه الخمسة، وذكر الإيمان بأن قال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). فبين أن الإيمان خصال متعددة، ذكر منها أركانه الستة، وقد سميت أركاناً لأنه يبنى عليها مثل البيت الذي يبنى على ستة أعمدة إذا انهدم عمود منها لم يُنتفع بالباقي، بل ربما يؤول إلى السقوط، وكذلك الإيمان إذا ترك منه ركن، أو الإسلام، فلا يكون إيمانه أو إسلامه صحيح. فالذي لا يؤمن بالقدر لا يكون مؤمناً، ولهذا استدل عبد الله بن عمر على أنه خارج من الدين الإسلامي لقوله: (إذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء)، فالمسلم لا يمكن أن يتبرأ من المسلم -إذا كان باقياً على إسلامه- وإنما يبغضه على حسب ما عنده من المعاصي ويحبه على حسب ما معه من الإيمان والطاعة، ولا يتبرأ منه إلا إذا خرج من الدين، فإن المسلم يجب أن يتبرأ من الكافر براءة كاملة؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع إيمان مع موالاة كافر، فهذا من شروط الإيمان، ولهذا قال: (أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء)، ثم قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر - الذي يحلف به هو الله جل وعلا، أو بصفة من صفاته، وهذا شيء معلوم- لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذا(5/479)
تمثيل مجرد، وإلا لو قدر أن له ملء السماوات وملء الأرض ذهباً ثم أنفقه ما قبله الله جل وعلا منه؛ لأن الله لا يقبل من الكافر شيئاً، كما قال الله جل وعلا: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، كقوله: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18]، فإذا طار الرماد في اليوم العاصف فلا يقدر على إمساك شيء منه، وكذلك أعمال الكفار عند الله، وفي المثال الآخر لما ذكر أنهم قسمان أصحاب ظلمات وأصحاب رد وكفر وعناد وكبر ذكر أعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، فجعل أعمال هؤلاء الذين كذبوا وكفروا: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39]. هكذا يعملون ويحسبون أنهم على شيء، فإذا قدموا على الله بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون وظهر لهم العذاب، وهذا من أعظم الحسرات، ولهذا سمي ذلك اليوم يوم الحسرة، وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]. ......
أركان الإيمان بالقدر(5/480)
فعلى هذا يتبين لنا أن الإيمان بالقدر لابد منه، ومن لم يؤمن بالقدر فليس بمؤمن، بل ليس بمسلم، فقد يكون كافراً وذكرنا أن أركان الإيمان بالقدر أربعة: الركن الأول: أن يؤمن الإنسان بصفة العلم لله لأنه عليم بكل شيء، وعلمه صفة ملازمة له جل وعلا، لا يجوز أن يكون في وقت من الأوقات سابقاً ولا لاحقاً حالياً من شيء من العلم تعالى الله وتقدس، وعلمه جل وعلا لا يزداد بوجود المعلومات شيئاً لم يكن له، وهو عليم بكل شيء، يعلم الأشياء التي لم توجد أنها ستوجد على صفة كذا في وقت كذا، فتوجد على وفق علمه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، فمن أنكر علم الله جل وعلا فهو كافر بالله جل وعلا، ولا ينفعه العمل مهما عمل. الركن الثاني: الكتابة أن الله كتب كل ما سيقع -كما سيأتي من حديث عبادة - إلى قيام الساعة، سواء أكان من عمل الإنسان، أم من حركات الشجر وعدد أوراقها وما سقط منها، وغير ذلك، فما تسقط من حبة في البر ولا في البحر، ولا تسقط ورقة من شجرة إلا في كتاب مبين كتبه الله جل وعلا، حتى تحركات وتخلجات عروق الإنسان، فكل حركة وكل سكون بعد الحركة وكل وجود وكل عدم كله مكتوب بلا زيادة ولا نقص. فالكتابة هي كتابة العلم الذي علمه الله في الخلق، وسيأتي ما المقصود بها في حديث عبادة ؛ لأنه نص عليها. الركن الثالث: مشيئة الله لأنه هو رب الخلق كلهم، فلا يقع في ملكه -في الكون كله- شيء إلا بمشيئته، فما شاء كان على حسب مشيئته، وما لم يشأ لم يكن، والذي لا وجود له هو الشيء الذي لم يشأ وجوده جل وعلا. الركن الرابع: أن الله هو الخالق وحده، وما سواه مخلوق، فكل موجود من الحيوانات ومن بني آدم والملائكة وغيرهم كله مخلوق لله جل وعلا، وكذلك أفعال بني آدم مخلوقة لله جل وعلا؛ لأنه خلق الذات وخلق صفتها، ولكن جعل للعاقل قدرة وإرادة، ووكل إليه ما أمره به فيفعله، وما نهاه عنه فيتركه، وجعل ذلك إليه، والله يعلم أنه سيفعل أو لا يفعل؛(5/481)
لأنه لا يخفى عليه شيء، ولهذا كتب فعله -سواء طاعة أو معصية- لعلم الله الأزلي المحيط بكل شيء. فإذا فهم الإنسان هذه الأمور الأربعة انحلت عنه إشكالات كثيرة ضل بها كثير من الناس كالقدرية، وأهل القدر قسمان: قسم نفوا القدر، وقسم أثبتوه وغلوا في إثباته حتى سلبوا الإنسان من قدرته واختياره، فجعلوا الإنسان بمنزلة الريشة التي تكون في مهب الريح تصرفها الريح كيف تشاء، فجعلوه كالآلة لا اختيار له ولا قدرة، وهؤلاء أشر من الأولين، وكلاهما شر وضلال وانحراف عن الحق، وكلاهما لم يفهم هذه الأمور الأربعة، وقالوا على حسب ما أدركته أنظارهم وعقولهم؛ إذ أعرضوا عن فهم كتاب الله وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فضلوا. فالمسألة عظيمة كبيرة؛ إذ لا يزال كثير من المسلمين تشكل عليه أمور فيها، مع أنها واضحة وجليه -والحمد لله- وليس فيها إشكال، والكفار اليوم كاليهود والنصارى يريدون أن يشككوا المسلمين ويخبروهم بأنهم عجزة متأخرون، ويقولون: السبب في ذلك أنهم يؤمنون بالقدر، فكلما وقع لهم شيء قالوا: هذا قدر فركنوا إلى الدعة والخمول وعدم العمل، فجعلوا إيمانهم بالقدر هو السبب في تأخرهم. فهذا كذب، فالمؤمن يؤمن بالقدر، وهو مع ذلك يعمل، بل إيمانه بالقدر يزيد في عمله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فلهذا صاروا يجتهدون في العمل، حتى قال بعضهم: لو كشف لي عن الأمور المغيبة -يعني لو رأيت الجنة والنار- ما استطعت أن أزداد عملاً؛ لأنه جاء بكل ما يستطيع، وهؤلاء هم الذين وصلوا إلى عين اليقين -فأيقنوا يقيناً صادقاً، وهذا هو إيمان الصحابة رضوان الله عليهم. ثم ذكر حديث عبادة -وقد اختصره المؤلف- وله روايات متعددة، وفي بعضها أنه دخل عليه ابنه وهو في مرض الموت وقد ظهرت عليه علامات الموت، فلما رآه ابنه قال: يا أبت! أوصني. عند ذلك قال: أجلسوني -لأنه سيجتهد في وصية ابنه- ثم قال له: يا بني! وذكر ما(5/482)
ذكره المؤلف. وقوله في هذا: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). القلم لا ندري ما هو، إلا أنه قلم مثل الأقلام التي يكتب بها، أما كونه من نوع معين وكقول ابن عباس : إنه من نور، أو من غير ذلك، فالله أعلم، ثم إنه كتب بقدرة الله، مثل قوله للشيء: (كن) فيكون، فهي كتابة بقدرة الله جل وعلا الذي يعلم الأشياء كلها، وإلا فالقلم لا يعلم الأشياء، ولا يعلم المستقبلات، ولا يعلم الماضيات، ولا يعلم شيئاً، وإنما الكتابة وقعت بقدرة الله جل وعلا بهذا القلم، فقوله جل وعلا للقلم: (اكتب)، كقوله جل وعلا للسماء: (أمطري)، أو لمن كان ميتاً وأراد إحياءه: (كن)، فقوله: (كن)، فيكون كما أراد جل وعلا. أيتصور أن القلم كتب بنفسه، وأنه علم الأشياء فكتبها؟ القلم لا علم عنده، وإنما هذا كتابة بقدرة الله جل وعلا، ولكن هذه القدرة جعلها الله في القلم، ثم الذي يكتب فيه هو اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ ليس محل الكتابة، وسمي لوحاً لأنه تلوح فيه الكتابة وتظهر وينظر إليها، وهو في مكان محفوظ لا يطلع عليه إلا رب العالمين جل وعلا، لا أحد يطلع عليه من الخلق، كما أخبر جل وعلا عن ذلك. فالله جل وعلا يقول: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:12-15] إلى أن قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:17-22] محفوظ عن ابتداع الخلق وعن الزيادة والنقص فيه، لا زيادة ولا نقص، فالله جل وعلا حفظه في المكان الذي يعلمه، فلهذا إذا أمر الملك بنفخ الروح في(5/483)
الجنين الذي في رحم المرأة وقال له: اكتب كذا وكذا فهذه الكتابة تكون بيد الملك، ولكنها منقولة مما في اللوح المحفوظ. ......
أنواع الكتابات
والكتابات التي جاء ذكرها في النصوص متعددة: أولها: ما ذكر سابقاً، وهي الكتابة العامة الشاملة، فهي شاملة لجميع ما يقع بجميع ما يكون. وبعدها كتابة أخرى بعد وجود آدم، فإن الله جل وعلا استخرج ذريته وميز بعضهم من بعض، وجعلهم فريقين: فريق في السعير، وفريق في الجنة، كما جاءت النصوص في ذلك، فهذه الكتابة أخص، وهي متفقة مع الكتابة الأولى، وإنما هي مؤكدة لذلك، وليس فيها زيادة ولا نقص عنها. ثم كتابة ثالثة وهي الكتابة العُمْرية التي تكون خاصة لكل إنسان، أو التي تكون بيد الملك يكتبها في صحيفة ابن آدم، تكتب وهو في رحم أمه بعدما ينفخ فيه الروح، فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، فهذا الملك يطلع على هذا الشيء بعد نفخ الروح فيه. وكتابة سنوية، يكتب في السنة كل ما سيقع فيها: من حوادث ومن موت ومن حياة ومن إعزاز ومن إذلال ومن ملك ومن نزع الملك ومن إيمان أو كفر أو عمل أو غير ذلك، كما قال جل وعلا: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:1-5] يعني: في هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم، يعني: كل أمر يقع في هذه السنة يكتب ويعلن وتعلمه الملائكة، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:2-6]. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(5/484)
[القدر:1-3] وهي التي يفرق فيها كل أمر حكيم، هذه الليلة ليلة القدر، وهي في رمضان في كل سنة . وهناك كتابة يومية، وهي المذكورة في قوله جل وعلا: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] تعالى وتقدس ، جاء في الآثار: (كل يوم في شأن) يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويرفع قوماً ويخفض آخرين، ويدبر شئون خلقه في كل يوم. هذه الكتابات التي جاءت في النصوص، وكلها راجعة إلى الكتابة الأولى التي هي في اللوح المحفوظ. فقوله: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) هذا يدلنا على أن المكتوب هو ما سيقع لهذا الخلق في هذا العالم إلى قيام الساعة، أما بعد قيام الساعة فشيء لم يكتب، ولكن الله أخبرنا أن الجنة دائمة دوام السماوات والأرض، ومن فيها مخلدون منعمون، وأن النار كذلك دائمة دوام السموات والأرض، وأن من فيها لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36]، فهم باقون معذبون، هذا في العموم، أما تفاصيل أمورها وما سيكون فالله أعلم بذلك. ......
ما هو أول المخلوقات(5/485)
ثم قوله: (إن أول ما خلق الله القلم) يدل على أن أول المخلوقات على ظاهر الحديث، القلم، وقد اختلف العلماء هل القلم خلق قبل العرش أو العرش قبل القلم؟ والصواب أن العرش قبل القلم، والعرش كان على الماء، والدليل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)، فدل هذا الحديث على أن العرش و الماء كانا موجودين قبل خلق القلم. ثم قوله: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن) لا يقتضي هذا أن الإنسان مرغم على العمل الذي يقع منه، ليس كذلك، لكن الله علاَّم الغيوب قد علم أن هذا الإنسان سيوجد، وأنه سيعمل كذا وكذا باختياره وقدرته مختاراً مقدماً غير مُرْغَم، بل راغب، حتى لو أتيت إليه وحاولت منعه لقاتلك، فإن كان عاصياً وأردت أن تصده على المعصية يقول: مالك ولي فإذا قلت له: إنك متوعد بالنار قال: أعلم ذلك، دعني والنار فهل يكون اللوم على القدر، أو يكون عليه وهو الذي فعل باختياره؟ فالواقع أن الإنسان يعمل أعمالاً لا يدري ماذا كتبت عليه، وإنما تتبين الكتابة بعد وقوع العمل، فإذا كان الأمر هكذا فمعنى ذلك أن الله جعل الإنسان يفعل ما كتب عليه باختياره وغير مجبر ولا مقهور، ولهذا جاء تفسير اسمه الكريم جل وعلا الجبار في قوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23]: فإن الجبار الذي جبر الخلق على أن يعملوا ما علم منهم، وليسوا مجبورين على ذلك بغير اختيارهم، بل فعلوه باختيارهم، ولهذا كان العلماء إذا قالت الجبرية: إن عبدة الأوثان مجبورون يقولون: تعالى الله وتقدس أن يجبر أحداً على غير مراده؛ فإنه القادر على كل شيء، فهو خلق الإنسان مريداً لما خلق له باختياره وقدرته، وإنما(5/486)
يجبر الضعيف. مثلما يقول الفقهاء: للأب أن يجبر بنته البكر على الزواج؛ لأنها قد لا تعرف مصلحتها. والإجبار يكون على غير اختيار، أما الله جل وعلا فيتعالى ويتقدس أن يجبر أحداً، بل جعل الأمر إلى الإنسان؛ لأنه خلقه عاقلاً مفكراً، وجعل له قدرة بها يفعل ما أراد بإرادته، فإذا وجدت القدرة والإرادة وجد المراد ولابد. والمقصود أنه إذا وقع منه الفعل فقد وقع بقدرته وإرادته، وعلى هذا استحق العقاب إذا كان الفعل معصية، واستحق الثواب إذا كان طاعة، هذا هو الذي ما احتملته عقول القدرية، فما استطاعوا أن يستوعبوا أن الإنسان يفعل باختياره -مع أن الله كتب عليه هذا الفعل- فعقولهم قاصرة؛ لأنهم لم يستنيروا بنور العلم الصحيح، ولم يهتدوا بهدي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فضلوا، وكل من لم يهتد بكتاب الله وسنة رسوله فلابد أن يضل؛ لأن الهدى محصور في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه المشكلة لا تزال إلى الآن عند كثير من الناس، والآن أكثر المسلمين على مذهب القدر، فهم على مذهب الأشاعرة، والأشاعرة جبرية يقولون: الإنسان مجبور. ولكن لا يصرحون بهذا، بل يقولون: الإنسان كاسب لا عامل. ويفسرون الكسب بأنه مقارنة قدرة المخلوق التي لا تأثير لها بالفعل مقارنتها للفعل، أما التأثير بالفعل فالمؤثر فيه هو الله تعالى، حتى حداهم هذا إلى نفي الأسباب، حيث يقولون: إذا أتيت بحطب مثلاً وأججت فيه ناراً فماذا يقال لهذا؟ هل يقال: النار أحرقت الحطب؟ -هذا هو الظاهر الذي يتبادر لذهن كل إنسان، إذا سلم من الانحراف، أما الأشاعرة فلا يقولون بهذا أبداً، ولكن يقولون: إن الله خلق الاحتراق عند وجود ملامسة النار للحطب فخلق الاحتراق، فينكرونه في الأمور الظاهرة، فيقولون -مثلاً-: إذا ضربت زجاجة بحجر فكسرت هذه الزجاجة بالحجر هل يقال: إن الحجر كسر الزجاجة؟ يقولون: لا، ما كسر الحجر الزجاجة؛ لأن الحجر لا يكسر شيئاً، وإنما خلق الله(5/487)
الكسر عند ملامسة الحجر للزجاجة وهذا إنكار لأمور ظاهرة. وكذلك فعل الإنسان إذا أكل أو شرب، وإذا قام أو جلس، وإذا كفر أو آمن، فإن الله يخلق هذه الأشياء عند مقارنة قدرته غير المؤثرة في هذه الأشياء، ومعلوم أن هذا مذهب باطل، خلاف ما أخبر الله جل وعلا به؛ فإن الله يصف المؤمنين بالإيمان ويقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، ويصف الكافرين بالكفر، فيقع الكفر منهم حقيقة، ويقع الإيمان من المؤمنين حقيقة، ويقع الأكل من الآكل حقيقة، والنوم كذلك، وهكذا القيام والمشي وغير ذلك. وكل إنسان منا يجد في نفسه الآن أنه جاء إلى هذا المكان بإرادته وقدرته، ما أحد أرغمه على ذلك، فهكذا نقول في جميع الأعمال، وبهذا يتبين بطلان هذا المذهب الذي نقول: إنه الآن في جميع بلاد المسلمين ولا نقصد بذلك عوام المسلمين؛ لأن عوام المسلمين لا يعرفون هذه الأمور، ولا يقال فيهم: إنهم على هذا المذهب وإنما المقصود العلماء الذين يتبعهم الناس هذا مذهبهم، أكثر العلماء في العالم الإسلامي على هذا المذهب، ونحن نعرف أن هذا المذهب مذهب باطل، وإلا فالحق أن يؤمن الإنسان بما ذكر ويسلم من هذه الإشكالات وهذه الفلسفة الزائفة التي تؤدي إلى باطل، والأمر أوضح من هذا، والإنسان إذا قرأ النصوص الواردة عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم تجلى له الأمر وأصبح واضحاً إذا سلم من الانحراف. صحيح أن هناك معاني قد تشكل على كثير من الناس، ولكنها في الحقيقة ليست مشكلة، فالأمر فيها واضح، والفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها عباده تتفق مع ما جاء في كتابه جل وعلا وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا هو خلاصة مذهب أهل السنة والرد على هؤلاء المبتدعة. بقي أنه جاء في الأحاديث أن القدرية شيعة الدجال، وأنهم سيبقون على ذلك إلى قيام الساعة، وهذا موجود، ولكن القدر الذي صار إليه القدرية الذين كانوا في آخر عهد الصحابة الذين تبرأ منهم عبد(5/488)
الله بن عمر و عبد الله بن عباس وحكموا بكفرهم، هؤلاء انقرضوا وزالوا ولا وجود لهم اليوم، هؤلاء هم الذين ينكرون علم الله جل وعلا، وإنكار العلم كفر صريح، ولا يشك في ذلك من يعرف صورة المسألة. ......
أصل مشكلة القدرية في أفعال الإنسان
أما المتأخرون منهم فإشكالهم في أفعال الإنسان، وأصل المشكلة عندهم جاءت من تفسير الظلم، وذلك أن الله جل وعلا نفى عن نفسه الظلم، كما قال جل وعلا: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وفي الحديث الصحيح: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112] الظلم هنا في الآية: أن يوضع عليه سيئة لم يعملها، أن يوضع عليه جزاء سيئة لم يعملها، وأما الهضم: أن يؤخذ شيء من حسناته، وهذا كثير في القرآن، قالوا: الظلم: هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه أو بغير حق، هذا تفسير الظلم عندهم، وقالوا: مستحيل وقوع الظلم على هذا من الله جل وعلا؛ لأن كل شيء ملك لله جل وعلا، ويؤيدوا هذا القول بأحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، قالوا: هذا دليل على ما نقول، ولكن ليس هذا معنى الحديث كما يقولون، معنى الحديث: أن أهل السموات وأهل الأرض لن يقوموا بما يجب لله جل وعلا على الوجه الأتم المطلوب فحق الله عظيم جداً، ولكن الله عفو كريم، يقبل القليل ويعفو عن الكثير، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] جل وعلا. ثم قالوا: لو قلنا: إن الله جل وعلا كتب على الإنسان أعماله وقدرها وشاءها، ثم عذبه عليها؛ للزم أن يكون ظالماً له، هذا هو أصل المشكلة عندهم. فيقال لهؤلاء: إن الله جل وعلا خلق الإنسان في طوله وعرضه وفي لحمه ودمه وكذلك صفاته، ومن ذلك أنه خلق(5/489)
له القدرة والإرادة، وجعل القدرة والإرادة هما اللتان يفعل بهما ما يريد، فيكون فعله بقدرته وإرادته هو الذي يجازى عليه ثواباً أو عقاباً. ......
حقيقة الخير والشر في القدر
[ قوله: (وعن عبادة ) قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد، وحديثه هذا رواه أبو داود ، ورواه الإمام أحمد بكماله قال: حدثنا الحسن بن سوار ، حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال: (دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه! أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. قال: يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت: يا أبتاه! فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) يا بني! إن مت ولست على ذلك دخلت النار)، ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه، وقال: حسن صحيح وغريب ]. السبب في هذه الوصية أن إنكار القدر ظهر في وقت عبادة بن الصامت ، ولهذا أوصى ابنه بذلك، وهذا يدل على أن الذي لا يؤمن بالقدر ليس بمؤمن، وأنه إذا مات لم يقبله الله. وقوله: (تؤمن بالقدر خيره وشره) جعل في القدر خيراً وشراً، والقدر -كما سبق- قدرة الله ومشيئته وعلمه وكتابه، والشر لا يكون إلى الله جل وعلا، بل كل ما يفعله الله خير وحسن وجميل وحكمة، ولكن الشر بالنسبة للمخلوق؛ لأن الشر سببه الذنب، ولو لم يكن هناك ذنب ما كان هناك شر أصلاً، فيكون الشر بالنسبة للمخلوق، وأما إيقاعه من الله جل وعلا فهو عدل، ليس شراً بل هو خير وعدل يحمد عليه ويشكر عليه جل وعلا. [ وفي هذا الحديث ونحوه بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، كما(5/490)
قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن القدر قال: القدر قدرة الرحمن. فاستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله، والمعنى أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى فضلوا عن سواء السبيل، وقد قال بعض السلف: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا ]. هذا القول قاله الشافعي رحمه الله، ومقصوده ما دام أنهم أنكروا القدر فيسألون: هل الله عليم؟ هل علم الله شامل لكل شيء؟ فإن أقروا بهذا؛ قيل لهم: القدر علم الله وخصموا بذلك؛ لأن القدر عبارة عن علم الله السابق الأزلي لكل شيء، فإنه علم أن الخلق سيوجدون وسيعملون كذا، وستكون عاقبتهم كذا، فكتب ذلك جل وعلا، فإذا أقروا به ألزموا بترك مذهبهم، أما إن أنكروا العلم فقد كفروا وخرجوا من الدين الإسلامي، والكافر لا فائدة في مجادلته ولا في مناظرته، والكفر كله ملة واحدة، كون الكافر يترك ركناً من أركان الإسلام، أو ينفي عن الله صفة من صفاته، أو يترك الصلاة، أو يكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو يكفر بالكل، أو يكون نصرانياً أو يهودياً كله سواء، فالكفر شيء واحد. وإذا انتقل الكافر من دين إلى دين فهو كافر في الأول وفي الآخر، بخلاف الدين الحق، فإنه لا يجوز أن يتركه، وإن قدر أنه أراد تركه لا يترك، فإما أن يراجع، وإما أن يقتل. ......
حق الله عظيم لا يدركه أحد(5/491)
[ قوله: وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي -وهو أبو بسر -بالسين المهملة وبالباء المضمومة-، ويقال: أبو بشر -بالشين المعجمة وكسر الباء-، وبعضهم صحح الأول، واسمه عبد الله بن فيروز -، ولفظ أبي داود قال: (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت قال: فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك)، وأخرجه ابن ماجة . وقال العماد ابن كثير رحمه الله: عن سفيان عن منصور عن ربعي بن خراش عن رجل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد ألا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره)، وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به، ورواه من حديث أبي داود الطياليسي عن شعبة عن ربعي عن علي فذكره. قوله: (لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) معنى ذلك أن أهل السموات وأهل الأرض ما يستطيعون أن يقوموا بحقوق الله جل وعلا الواجبة له، فلو عذبهم لعذبهم على ترك الحق، لهذا جاء أن الملائكة منهم من يكون منذ خلق إلى قيام الساعة راكعاً، ومنهم من يكون منذ خلق إلى قيام الساعة ساجداً، ومنهم من يكون قائماً بالعبادة لا يفتر لحظة من اللحظات، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك؛ لأن حق عبادة الله جل وعلا لا يطيقها المخلوق، فرحمة الله جل وعلا خير من عمل الإنسان مهما عمل. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم(5/492)
أنه قال: (إن رجلاً عبد الله جل وعلا في جزيرة من البحر خمسمائة سنة، أخرج الله جل وعلا له من البحر عيناً عذبة يشرب منها، وأنبت له شجرة رمان، وكل يوم تخرج له حبة فيأكلها، وسأل ربه أن يقبضه ساجداً، فقبض وهو ساجد، فإذا كان يوم القيامة أحضر بين يدي الله جل وعلا، فيقول الله جل وعلا لملائكته: ادخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول العبد: يا رب! بل بعملي. فيقول الله جل وعلا: حاسبوه، فيحاسب، فيوجد أن عبادة خمسمائة سنة جاء عليها نعمة البصر -أو قال: نعمة السمع-، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا له: من الذي خلقك ولم تك شيئاً؟ من الذي قواك على العبادة؟ من الذي جعل في قلبك حب الإيمان وكراهية الكفر؟ من الذي جعل لك السمع والبصر والفؤاد واليدين والرجلين؟ من الذي استخرج لك من البحر المالح عيناً عذبة؟ من الذي استخرج لك من شجرة الرمان كل يوم حبة وهي لا تخرج في السنة إلا مرة؟ ثم يقول جل وعلا بعد ذلك: اذهبوا به إلى النار، فإذا ذهب به إلى النار. يصيح: يا رب! أدخلني الجنة برحمتك فيدخله الله الجنة برحمته ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله). وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحدكم الجنة عمله قالوا: ولا أنت -يا رسول الله-؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وإنما يدخل المؤمنون الجنة برحمة الله، ويتقاسمون المنازل بأعمالهم، أما دخول الجنة فهو برحمته جل وعلا؛ لأن الجنة ليست عوضاً عن العمل، وبهذا يتبين معنى قوله: (لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم). ......
الرد على نفاة القدر(5/493)
[وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة -زاد ابن وهب: وكان عرشه على الماء)رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب ]. هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص يدل على أن العرش كان مخلوقاً قبل القلم، وأنه فوق الماء، وسبق ذكر ذلك. [وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم، ومن مذهبهم تخليد أهل المعاصي في النار، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي]. مذهب المعتزلة شاركهم فيه الخوارج، وللمعتزلة أصول خمسة بدل أصول الإسلام الخمسة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه-: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ) هذه خمسة أصول، وهؤلاء المبتدعة الضلال جاءوا بأصول خمسة أخرى، وسموها (أصول الإسلام) من عندهم بدل الأصول التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها ضلال، وهذه الأصول هي: الأول: التوحيد. وما هو التوحيد؟ هل التوحيد عندهم: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ كلا. التوحيد عندهم نفي الصفات، فعندهم أن الله لا يتصف بصفة، وأن الله ليس فوق، وأن الله لا ينزل إلى السماء الدنيا، وأن الله ليس له سمع ولا بصر ولا شيء من سائر الصفات، هذا يسمونه توحيداً؛ لأن التوحيد عندهم أن يكون واحداً لا صفات له، وهذا من أعظم الضلال، كيف يكون هذا من أصول الإسلام؟ الأصل الثاني: العدل. ومعناه عندهم أنهم يوجبون على الله أشياء من عند أنفسهم، يجب أن يفعل كذا، ويجب ألا(5/494)
يفعل كذا، تحكماً وضلالاً، نصبوا أنفسهم موجبين ومحرمين على الله جل وعلا وعلى شرعه. الثالث: المنزلة بين منزلتين. ومعناها عندهم أن الإنسان إذا عمل كبيرة خرج من الدين الإسلامي ولم يدخل في الكفر، فصار بين الإسلام والكفر، لا مسلماً ولا كافراً، فهذا القول من أين أتى؟ وما دليل ذلك؟ وقالوا: إذا مات صار في النار. وهذا عجيب، في الدنيا يكون بين الإسلام وبين الكفر، وفي الآخرة يكون مع الكفار في النار. الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعندهم أن الأمر بالمعروف هو الخروج على الأئمة، أي: يجب أن يخرجوا على الأئمة إذا لم يكونوا على مرادهم، ولا داعي إلى ذكر سائر ضلالاتهم؛ لأن إماتة الضلال وعدم ذكره أولى من ذكره؛ لأنه كله ضلال في الواقع، وليس فيه شيء من الحق، فالحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المشكل أن هذا المذهب الخبيث بعث الآن من جديد، وصار له أناس يناصرونه، وصارت كتبهم تطبع وتنشر بين الناس، وصار هناك من يعتنق هذا المذهب، وهذا بسبب المستشرقين الكفار الذين صاروا يبحثون في كتب المسلمين، ويطلبون الشيء الذي يقدحون به في عقيدة المسلمين فيعملون على نشره، فصار لهم تلامذة من المسلمين يتبنون آراءهم وأفكارهم، وبسبب ذلك بعث هذا المذهب الذي مات منذ زمن طويل، إلا أنه يوجد هذا المذهب في طوائف مثل الإباضية والرافضة، فهذا المذهب موجود فيهم وإن لم يكن كله فيهم، وإنما أجزاؤه، مثل نفي الصفات، ونفي العلو، ونفي رؤية الله جل وعلا يوم القيامة، والقول بخلق القرآن، وأن الله لا يتكلم، وما أشبه ذلك. ......
مسائل وفوائد في الباب
......
كيفية الإيمان بالقدر ووجوب الإيمان به(5/495)
[وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا، وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار]. [ قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه مسائل: الأولى: بيان كيفية الإيمان بالقدر]. كيفية الإيمان بالقدر بأن يعلم الإنسان أن الذي يقع في الكون كله لا يمكن تغييره، ولا يمكن تأخيره، ولا يمكن تبديله، وأن الذي لا يقع لا يمكن إيقاعه، فكل شيء يقع من دقيق وجليل فقد قدره الله جل وعلا بعلمه الأزلي وكتبه وشاء وجوده وخلقه. [ الثانية: بيان فرض الإيمان بالقدر]. الإيمان بالقدر فريضة على كل عبد، فيجب أن يؤمن به، وإذا لم يؤمن به فهو متوعد بالوعيد الذي ذكر، وهو أنه يكون من أهل النار. [الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به].
فضل الإيمان بالقدر(5/496)
[الرابعة: الإخبار أن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به]. هذا يدل على أن الإيمان له طعم يجده بعض الناس، وبعضهم لا يجده، فالذي يؤمن بالقدر إيماناً على الوجه الشرعي يجد طعم الإيمان، وكذلك في غير هذه المسألة، ولكن المسائل التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم مرتبط بعضها ببعض، ولا يمكن أن ينفك بعضها عن بعض، فإذا قيل -مثلاً-: إذا آمن بالقدر وجد طعم الإيمان فليس معنى ذلك أنه إذا ترك الصلاة وآمن بالقدر يجد طعم الإيمان، أو يترك الصوم ويؤمن بالقدر ويجد طعم الإيمان، أو يعمل الفواحش ويؤمن بالقدر ويجد طعم الإيمان، لابد من الالتزام بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. [الخامسة: ذكر أول ما خلق الله. السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة]. بعد قيام الساعة مسكوت عنه، لم يكتب عندما أمر القلم أن يكتبه، فهذا أمر راجع إلى الله جل و علا. [السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به]. لأنه برئ ممن لم يؤمن بالقدر، والبراءة تحمل على ظاهرها، أي أنه ليس من أتباعه، وليس على دينه، هذا معنى البراءة، ولهذا قالوا: إن البراءة تدل على أنه كافر. فهذا نوع من الكفر؛ لأن المسلم يتبرأ من الكفار والمشركين، ولا يجوز للمسلم أن يتبرأ من مسلم.
إزالة الشبهة بسؤال العلماء(5/497)
[ الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء ]. الشبهة لا تزول إلا بالعلم، والعلم يجب أن يقتنع به السائل، فيكون قلبه قد زالت عنه شبهته، وهذا لا يكون إلا بالنصوص اليقينية التي تستند إلى الوحي، أما الآراء والأفكار فيقابلها أراء وأفكار، وقد تتعارض فيكون واحد رأيه وفكره أعمق وأكثر من الثاني فيفسد عليه ما يرى، هذا شأن أصحاب الآراء، ولهذا فهم ينتقلون، كل وقت قد يكون لأحدهم رأي ومذهب، ولا يثبت على مذهب، كما جاء رجل إلى الإمام مالك وقال: أريد أن أجادلك. قال: لا. اذهب إلى من كان في شك من دينه، أما أنا فلست في شك، أنا اتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم فلست في شك، اذهب إلى الذين ينتقلون كل يوم من دين إلى آخر فجادلهم. [ التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ]. يعني أن نسبة الكلام إلى الله أو إلى رسوله هو الذي يزيل الشبهات، أما نسبته لفلان وفلان فلا يزيل الشبهة؛ فإنه يوجد فلان آخر مثله، وفلان آخر مثله، ويجوز على كل واحد منهم الخطأ والصواب، فإذا جاز الخطأ عليهم فلا يوثق بكلامهم، وإنما الذي يوثق بكلامه من لا ينطق عن الهوى، وهو وحي الله جل وعلا.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [128]
الله عز وجل هو المصور، والمصورون الذين يضاهون خلق الله هم أشد الناس عذاباً يوم القيامة؛ لما في عملهم ذلك من مفاسد كثيرة، منها: أنها تفضي إلى تعظيم الشيء المصور، بل وإلى عبادته من دون الله، ولذلك يؤتى بالمصور يوم القيامة فيخلق الله له بكل صورة صورها نفساً، ويؤمر بنفخ الروح فيها، فلا يستطيع، فتكون سبباً في عذابه.
ما جاء في المصورين من الوعيد(5/498)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب ما جاء في المصورين. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة أخرجاه ) ]. المعنى: ما جاء في المصورين من العذاب الشديد، ووجه إدخال هذا الباب في كتاب التوحيد: أن المصور وعد بوعيد شديد يدل على أنه من أهل النار، وأنه يبقى معذباً، ويكلف أن يخلق الصورة التي صورها ويجعل فيها الروح، حتى تكون حية مثل الصورة التي تضاهيها وتشابهها، وهذا ممتنع، وتكليفه لا ينقطع، فيستمر بهذه الحال إلى أن ينفخ فيها الروح، وهذا غير ممكن، ولهذا يقول العلماء: إن هؤلاء وعدوا بعذاب لم يعذب به أحد من الناس، وجاءت نصوص كثيرة في ذلك جداً يتعجب الإنسان من كثرتها، ولكن هذا دليل على أن من قالها يقولها عن وحي، وعن علم غيب مما أعلمه الله جل وعلا بأنه سيكون، ولم تكن الصور قديماً منتشرة ولا كثيرة مثل اليوم، فقد ابتلي بها الناس، فأصبحت لا تجد بيتاً إلا وهو مملوء بالصور، سواءً في الملابس، أو في الأواني، أو في الصحف، أو في الكتب، أو في غير ذلك. وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن البيت الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة، والمقصود بهم ملائكة الرحمة، أما الملائكة الذين يسجلون على الإنسان أعماله فهؤلاء يضطرون إلى شيء يكرهونه، ويصبح الإنسان الذي عمل هذا العمل أو رضي به وأقره آثماً، لكونه أكره عباد الله المكرمين على شيء لا يريدونه، ولا ينظرون إليه، ولا يدخلون المنزل الذي هو فيه. ثم في هذا الحديث بين علة التحريم وعلة العذاب، قال: (ومن أظلم) يعني: لا أحد أظلم، (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) ومعنى يخلق كخلقي: أنه يصور الشيء الذي فيه الروح، (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) ثم جاء الأمر بالتعجيز فقال: (فليخلقوا ذرة) وهي من أصغر المخلوقات، يعني: فليوجدوا ذرة حقيقة تكون حية فيها روح(5/499)
وحياة، فإن لم يستطيعوا ذلك فليوجدوا من العدم ما هو أقل من هذا وهو حبة شعير، أو حبة بر، فلا يستطيعون، ولو اجتمع كل من في الأرض على أن يوجدوها ما استطاعوا، وهذا تعجيز لهم، ومعنى يضاهئون الله: يشابهونه بأن يوجدوا الصورة التي خلقها الله. فهذا أمر تعجيزي لهم؛ ولهذا استحقوا شدة العذاب، أما إذا كان التصوير لشيء لا روح فيه، فلا بأس به؛ لأنه قال: (ليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة)، فدل على أن الشيء الذي لا روح فيه لا بأس بتصويره مثل: الجبال والشجر وما أشبه ذلك؛ ولهذا لما جاء رجل إلى ابن عباس يستفتيه، وأخبره أنه يعمل الصور، فصار يقول له: ادنو، حتى جلس أمام ركبتيه فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، ثم قال له: إن كنت فاعلاً ولابد فالجبال والشجر، يعني: تصور الجبال والشجر. ......
أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون
قال المصنف رحمه الله: [ ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله) ]. يضاهئون أي: يشابهون الله في خلقه، يعني: أنهم يصورون الصور التي خلقها الله جل وعلا، وليس لله مثيل في الخلق، وليس له نظير يخلق كخلقه، ومعنى ذلك أنهم أساءوا الأدب مع الله، وجعلوا أنفسهم بمنزلة المشارك لله جل وعلا في الخلق، تعالى الله وتقدس. هذا في تصوير الصور، فكيف إذا اتجه الإنسان إلى مخلوق يعبده، ويدعوه وينزل به حاجته ويسأله؟ هذا أعظم من التصوير بكثير، بل هذا أعظم الذنوب، ولهذا حرم الله عليه الجنة.
كل مصور في النار(5/500)
قال المصنف رحمه الله: [ ولهما عن ابن عباس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم) ]. هذا وعيد شديد نسأل الله العافية، (كل مصور في النار) وكل: للعموم، فيدخل في ذلك التصوير باليد، والتصوير بالكاميرا، كلها داخلة في هذا، كل صورة عملها الإنسان سواءً بيده أو بواسطة الآلة فهي داخلة في هذا الحديث: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم) نسأل الله العافية، وهذا وعيد صريح وشديد وواضح، ولا يجوز تأويله، ولا يجوز صرفه عن ظاهره؛ لأنه قول من لا ينطق عن الهوى، وهو كلام واضح جلي، فطلب تأويله وتفسيره يكون تداركاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ذلك، بل يجب أن يبقى على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه واضح مفهوم. قال المصنف رحمه الله: [ ولهما عنه مرفوعاً: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) ]. يعني في يوم القيامة يقول له جل وعلا: انفخ الروح في هذه الصورة -وهذا في كل صورة صورها- وهذا تكليف ما لا يطاق، وهذا من العذاب الشديد، وبما أنه لن يفعل ذلك فهو يعذب دائماً.
وجوب طمس الصور(6/1)
قال المصنف رحمه الله: [ ولمسلم عن أبي الهياج قال: (قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) ]. هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وقد تقدم في باب التحذير من عبادة الله جل وعلا عند قبر الرجل الصالح، فكيف إذا عبده؟ ففيه ما اختصره المؤلف هنا. عن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج الأسدي : (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث الصحابة لطمس الصور وتسوية القبور، ومعنى تسويتها: أنها تسوى بالأرض ولا تكون مرفوعةً، خشية أن يفتتن بها الناس الذين قد يتعلقون بالميت، وهذا موجود بكثرة، ولكن كثير من الناس عاكس أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا لا يكتفون برفع القبور فحسب، بل صاروا يبنون عليها المساجد، ويجعلون عليها القباب ويزينونها بالزينة، وقد يطيبونها بسائر الأطياب، وقد يرتبون لها سدنة يدعون الناس إلى عبادتها، ويسمونهم أدلاء يدلونهم على الضلال وعلى الشرك بالله جل وعلا! وقد يضعون لها شمعاً ونذوراً وصناديق، ويسمونها: صناديق النذور. فلا يجوز التوجه إلى قبر لدعائه، وهذا من الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في النار، والمقصود أن من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم طمس الصور وتسوية القبور، وهذان الأمران: الصور والقبور هما أصل الشرك، وأصل البلاء في الناس.
سبب وقوع الشرك تصوير الصور والغلو فيها(6/2)
سبب وقوع الشرك في بني آدم تصوير الصور والغلو فيها، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون على التوحيد، ثم إنه مات قوم صالحون أسماؤهم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ماتوا في زمن متقارب، فأسف عليهم قومهم أسفاً شديداً؛ لأنهم كانوا يقتدون بهم في العبادة، وكانوا إذا رأوهم ازدادوا عبادةً واجتهاداً؛ لأنهم يقتدون بهم، فجاء إليهم الشيطان في صورة رجل ينصحهم فقال لهم: صوروا صورهم، وانصبوها في مجالسهم، فإنكم إذا رأيتم صورهم تذكرتم أفعالهم فاجتهدتم كاجتهادهم، فاستحسنوا هذه الفكرة وهذا الأمر فصنعوه، وصاروا كلما رأوا صورهم اجتهدوا في العبادة وجدوا فيها، واستمروا على هذا حتى ماتوا، ثم جاء أبناؤهم ثم أبناء أبنائهم، ونسي السبب الذي من أجله صوروا، فجاء إليهم الشيطان فقال: إن آباءكم وأجدادكم ما صوروا هذه الصور إلا لرجاء نفعها، ولطلب الوسيلة بها، والتقرب إلى الله بها ودعائها، فدعوهم فصاروا آلهة، فمن هنا بدأ الشرك، وعند ذلك أرسل الله جل وعلا إليهم نوحاً يحذرهم من هذا الشرك، ولكن الشرك قد أشربت به قلوبهم وأحبوه، وصار نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً إلى الله جل وعلا وعبادته، فحاربوه بكل ما يستطيعون، ورموه بالجنون والسفه، وقالوا: إما أن تكف عن سب آلهتنا -كما قال إخوانهم من قريش- وعن عيب ديننا وإلا رجمناك، فقال نوح عليه السلام كما حكى الله عنه: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:21-22] يعني: حاولوا قتل نوح ورجمه وإخراجه، وهذه معاداة لله جل وعلا ومحاربة له. وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23] يوصي بعضهم بعضاً ويقولون: إياكم أن تتأثروا بدعوة نوح وتتركوا عبادة أصنامكم، فيحذر بعضهم بعضاً، ويوصي بعضهم بعضاً بالشرك والتمسك به وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ(6/3)
آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] يعني: أوصوا أولاً بالتمسك بالآلهة عموماً، ثم نصوا على هذه المذكورة لعظمها عندهم، وفي النهاية: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:26-27]، فأمره الله جل وعلا بصنع السفينة، وصاروا يضحكون عليه، ويسخرون منه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، يصنع سفينة في البر، أي جنون مثل هذا الجنون؟! فقال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [هود:38-39]، فعلموا عن قرب، فصارت الأرض تنبع بالماء، والسماء ترسل المياه، فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12]، وأصبح الماء فوق أعلى جبل سبعين ذراعاً، فلم يبق على وجه الأرض حي إلا من كان في السفينة، وهذا الشرك وقع بسبب الصور. أما عبادة القبور فأمرها واضح وجلي، فإنها فتنة لكل مفتون بها، وإذا نظر الإنسان في بلاد المسلمين اليوم كالهند، وباكستان، ومصر، والعراق، وغيرها، فإنه يرى القبور تقصد، وتعظم، وتدعى، ويستغاث بأصحابها! مع أن المقبور صار تراباً ورفاتاً، ما يستطيع أن يكتسب حسنة صغيرة يضعها في صحيفة حسناته، فكيف يغني شيئاً عن الذين يدعونه ويتوجهون إليه؟! وهذا من أعظم الضلال، حين يترك المشرك دعوة رب العالمين الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون، ويدعو عظاماً ورفاتاً قد أكلها الدود، وتفتت في التراب، وربما يكون هذا المدعو مهاناً معذباً، وربما يكون مشغولاً بنعيم أنعم الله به عليه، لا يدري عمن يدعوه شيئاً، حتى يبعث يوم القيامة فيؤنب على ذلك، ويقال له: أهؤلاء كانوا يدعونك؟ هل أمرتهم بهذا؟ فيتبرأ(6/4)
منهم، قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]، فيعادونهم، ويكفرون بعبادتهم، ويتبرءون من فعلهم إلى الله جل وعلا.
العلة في تحريم التصوير ورفع القبور
قال الشارح رحمه الله: [ قوله: باب ما جاء في المصورين، أي: من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة: وهي المضاهاة بخلق الله؛ لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:7-9]. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئاً لخلق الله، فصار ما صوره عذاباً له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذاباً؛ لأن ذنبه من أكبر الذنوب. فإن كان هذا فيمن صور صورةً على مثال ما خلق الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئاً من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟ فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكاً له فيما اختص به تعالى وتقدس؛ هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به، ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع(6/5)
أنواعها لله تعالى، فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولمسلم عن أبي الهياج) الأسدي حيان بن حصين (قال: قال لي علي) هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً لذلك. أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله. وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته، ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحظور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطاً لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة والتضرع لها، والذبح لها والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك،(6/6)
ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي فذكر حديث الباب وحديث ثمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضاً قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها). وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه). ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها)، قال الترمذي : حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره. ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود عن جابر أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه) وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار، قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الآجر على قبورهم. والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضين لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادين لما جاء به، وأعظم من ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهي من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي : ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ ولأن فيها تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا) متفق عليه؛ ولأن تخصيص(6/7)
القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها. انتهى. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا،ً ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه: مناسك حج المشاهد، مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام].
الرد على المتعلقين بالقبور(6/8)
قال الشارح رحمه الله: [ ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرءون منهم، كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [الفرقان:17-18]، قال الله تعالى للمشركين: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ [الفرقان:19]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41] ]. من المعلوم أن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه وحده، والإنسان خلق عابداً، فلابد له من العبادة، ولا ينفك عن العبادة بحال من الأحوال، فإن لم يعبد الله عبد الشيطان ولابد، فإما أن يعبد الإنسان ربه، ويفعل ما أمر به، ويلقى الجزاء من الله والثواب، وتكون حياته سعيدة، وعاقبته حميدة، أو ينصرف عن أمر الله وما خلق له ويكون عابداً للشيطان، أو عابداً لشهواته أو للمظاهر الأخرى من مظاهر الدنيا، حتى الذين يزعمون أنهم(6/9)
متحررون، وأنهم ملحدون، ولا يؤمنون بدين ولا بإله ولا بجزاء ولا ببعث؛ لا ينفكون عن العبادة، فهم يعبدون رؤساءهم وكبراءهم وطغاتهم، ويعبدون شهواتهم، ثم إن كثيراً من الناس الذين أرسل الله جل وعلا إليهم الرسل كانوا منصرفين عن عبادة الله والإخلاص له في الدعاء والرغبة والرهبة والخوف والرجاء، وإنما يعبدون الله بالأمور الظاهرة الجلية، مثل كون الرب جل وعلا هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وهو الذي يتصرف في المخلوقات وفي الكون وحده؛ لأنهم لا يستطيعون أن ينكروا هذا، ولا يستطيعون أن يجعلوا أحداً من الخلق مشاركاً لله جل وعلا في ذلك، فانصرفوا إلى أمر آخر، وهو أنهم صاروا يتعلقون بالأولياء، ويقولون: إنهم يشفعون لنا، ويتوسطون لنا عند الله جل وعلا، ونحن نطلب منهم التوسط والشفاعة وهم يقربونا إلى الله زلفى، فهذا هو أصل شرك المشركين، وإلا لا يوجد عاقل يعبد مخلوقاً مثله؛ لأنه يملك له كل ما طلب منه، ويصرف عنه كل ما خافه ورهبه، لا يوجد مثل هذا، وإنما الموجود جعل بعض المخلوقين وسائط يجعلهم بينه وبين ربه، ويزعم بأن الطلب عن طريقهم أقرب إلى الإجابة؛ تسويلاً من الشيطان،وتحسيناً من العقل، وقياساً على ما هو موجود بين الخلق؛ لأن الخلق تعارفوا على أنه إذا كان هناك عظيم من الناس -رئيس أو ملك أو أمير- فالإنسان العادي لا يذهب إليه رأساً ويطلب منه، بل لابد أن يأتي إلى من هو قريب منه، كوزير، أو قريب، أو صديق فيتقدم إليه ويطلب منه أن يتوسط له عنده ويشفع له، فقاسوا رب العالمين على هذا في الأصل، فصاروا يتعلقون بالأولياء، ويطلبون منهم الشفاعة، ويطلبون منهم الوساطة، وهذا هو الشرك الذي أرسل الله جل وعلا الرسل للإنذار منه، ودعوة الناس إلى الإقلاع عنه، وجعل الدعاء والطلب لله وحده، ولا يكون بين العبد وبين ربه وساطة، فالله جل وعلا يعلم ما في النفوس، وهو مطلع على عباده، ويسمع كلامهم، ويرى تقلباتهم، ولا يخفى عليه شيء من(6/10)
أحوالهم، فيجب أن ينزلوا فقرهم به، وأن يسألوه بلا واسطة، وأن يتعلقوا به، ويعلقوا به حاجاتهم وكل ما يهمهم، وهذه هي العبادة التي يجب أن تكون لله جل وعلا. ومن هذا الباب أصبح كثير من المسلمين يذهب أحدهم إلى القبور زاعماً أن أصحابها أولياء أو أنبياء، فيطلب منهم الوساطة، ويطلب التشفع، ويطلب أن يقربوه إلى الله، وهو يقول بزعمه: هذا أقرب إلى الإجابة! ......
وجوب التعلق بالله وحده
لما بعث صلوات الله وسلامه عليه صار يقول للناس: (قولوا: لا إله إلا الله)، فكان هذا هو أول ما أمرهم به، ومعنى لا إله إلا الله أن يكون التأله -الذي هو حب القلب وخوفه ورجاؤه- لله وحده، ما يكون القلب متعلقاً بغير الله جل وعلا، وكل شيء تتعلق به القلوب من غير الله يجب أن يبطل وأن ينصرف عنه، فليس لأحد من الخلق من الألوهية شيء، وإنما هو مجرد أوضاع تواضع عليها الآباء واتبعهم عليها الأبناء، كما قال الله جل وعلا: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23]، يعني: مجرد أسماء سموها الآلهة، وليس لها من معنى الإلهية شيء، فالإلهية يجب أن تكون لله، والتأله هو حب القلب وخوفه ورجاؤه، ثم كانوا مختلفين، منهم من يعبد شجراً، ومنهم من يعبد حجارة، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد عباداً صالحين دفنوا كاللات على قراءة التشديد، فقد جاء عن ابن عباس وغيره من السلف: أنه كان رجلاً يلت السويق بالسمن، ثم يقدمه لمن يأتي إليه من الحجاج وغيرهم، فلما مات دفن تحت صخرة في الطائف فعبد، وصاروا يعكفون عنده للتبرك، ويطوفون بقبره، ويأتونه سائلين أن يشفع لهم عند الله، فكانت هذه هي عبادتهم، وما كان أحد منهم يأتي إليه ويقول: أنزل المطر .. أنبت النبات .. ادفع عني العدو .. أعطني الصحة، وأزل المرض مني، ما كان أحد يقول هذا ولا يعتقده، وإنما كانوا يجعلونهم وسطاء،(6/11)
ويقولون: اسأل لنا الله أن يفعل لنا كذا وكذا؛ لأنهم يزعمون أنه أقرب إلى الله منهم، ولم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء، ومعلوم في التواريخ وكتب السيرة أن الشيطان كان يأتي أحياناً في هذا البناء الذي يبنونه أو تحت الشجرة التي يعظمونها -مثل: العزى- فيكلمهم ليضلهم؛ لأنهم حين يسمعون الكلام يعتقدون أنه يستجيب لهم.
تكسير النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام
لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة أرسل خالد بن الوليد لهدم العزى، وعلي بن أبي طالب لهدم مناة، ومناة كانت عبارة عن صخرات قرب كديد بين مكة والمدينة، كان الأنصار قبل الإسلام إذا ذهبوا للحج أو العمرة، لابد أن يمروا بها ويذبحوا عندها الذبائح، ويعكفوا عندها، وهذه هي العبادة، ولما أرسل خالد بن الوليد إلى العزى وجد عندها السدنة، فهدم بيتها، وقطع الشجر، وكانت عبارة عن ثلاث شجرات مجتمعة، وكانوا يجعلونها أكبر معبود لهم، ولما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ماذا صنعت؟ قال: هدمت البيت، وقطعت الشجرات، قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لم أر شيئاً، قال: لم تصنع شيئاً، اذهب فاهدم العزى) فرجع فلما وصل إليها رأى امرأة عجوزاً ناشرة شعرها، تحثو التراب على رأسها، وتدعو بالويل، فطعنها بالسيف وقتلها، والسدنة يشتدون في الجبل ويقولون: يا عزى! انتصري، يا عزى! عليك بخالد ، فقتلها ورجع، ولما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل رأيت شيئاً؟ قال: نعم، رأيت عجوزاً صفتها كذا وكذا فقتلتها، فقال: تلك العزى، لا عزى بعد اليوم، هذا شيطان العزى الذي كان فيها). ولما دخل مكة صلوات الله وسلامه عليه وجد حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً منصوباً حول الكعبة، أصنام من أحجار وخشب وطين، يصورونها ويعبدونها، فجعل يضربها بعصا معه ويقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، وهي تتساقط من حين يشير إليها صلوات الله(6/12)
وسلامه عليه، فالمقصود أنهم ما كانت عبادتهم أنهم يعتقدون أنها تتصرف مع الله، وأنها تخلق وتحيي وتميت، وكذلك الذي يذهب إلى قبر الولي ويقول: أنا لا أذهب إليه لأدعوه، وإنما أذهب أتوسل به، وأتشفع به، وأجعله وسيلة لي أو شافعاً لي أطلب منه ذلك، فنقول: هذه هي عبادة المشركين نفسها، فالمشركون ما كانوا يعتقدون أن هذه الأصنام وهذه المعبودات تتصرف مع الله، وأنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وتجلب المطر، وتنبت النبات، وتفعل ما طلبوا منها، لا، ولكن مثلما قال الله عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، والعبادة هي الدعاء، فإن مجرد كونهم يدعونهم: افعلوا بنا كذا، اصرفوا عنا كذا، هذه هي العبادة، وليست العبادة السجود والركوع لهم كما يتصوره بعض الناس الذين ينافحون ويجادلون عن الوثنية وعبادة القبور، ويقولون: العبادة هي أن تعتقد أن هذا الذي تدعوه يحيي ويميت، وإلا ما تكون عبادة بل تكون توسلاً، يقولون هذا لأنهم جهلوا معنى العبادة، وجهلوا حقيقة دعوة الرسل التي أرسلهم الله جل وعلا بها؛ ولهذا السبب صار تعلق الناس بالقبور وزيارتها والطواف بها والتمسح بها والتبرك، وأخذ شيء من ترابها والإقامة عندها موجوداً بكثرة، وكذلك البناء عليها تعظيماً لها، وكذلك جعلها في المساجد، فإن هذا كله من فعل المشركين، وهو صارف عن عبادة الله جل وعلا، وربما يكون فاعله مشركاً شركاً أكبر، إذا مات على هذا يكون ميئوساً منه، نسأل الله العافية، فيكون من أهل النار؛ لأن الله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإذا كان أمر الشرك بهذه الشدة وهذه العظمة، فيجب على العبد أن يتعرف على الشرك؛ خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري أنه شرك، ويظن أنه عبادة وأنه عمل صالح، وهو مما يبعد عن الله جل وعلا.(6/13)
مشروعية زيارة القبور للاتعاظ لا لدعاء أصحابها
يشرع للإنسان أن يزور القبور على سبيل الاتعاظ والتذكر بما أمامه، والإحسان إلى المقبور نفسه كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر مطلوب؛ لأنه جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة)، وفي رواية: (ولا تقولوا: هجراً) والهجر هو: المنكر الذي يخالف الشرع، فزيارة القبور شرعت لشيئين: أحدهما: أن يتذكر الإنسان مآله؛ لأنه سيصير مثلما صار هذا المقبور، ويكون مرجعه إلى القبر، ولابد أن يكون مقبوراً مثل هذا، فيتوب ويجتهد في العمل، ويتذكر الآخرة، ويتذكر ما أمامه. الأمر الثاني: أن يحسن إلى الميت بالدعاء له، فإنه في أمس الحاجة إلى دعوة تلحقه من أخ له صادق، أما أن تنعكس القضية، ويصبح الإنسان يزور القبر ليسأل صاحبه، فهذا عكس ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً. أما ما ذكر من أن الأولياء والأنبياء لا يرضون بهذا الفعل، بل هذا يؤذيهم؛ فهذا أمر ظاهر، وقد ذكر الآيات التي تبين هذا، فإن أولياء الله لا يرضون بمعصية الله، ولا يرضون بأن يدعوا من دون الله، بل يصبح هذا الذي يدعوهم ويزعم أنه يتوسل بهم عدواً لهم، يعادونه ويكفرون به، كما قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، لأنهم أموات، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً [الأحقاف:6]، يعني: الذين يُدعون يصيرون أعداءً لهذا الداعي، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6] يكفرون بعبادهم، ويتبرءون منها، ويقولون: الله ولينا من دونكم، نبرأ إلى الله من ذلك؛ لأن الذي يرضى بأن يعبد من دون الله لا يعد طاغوتاً فقط، بل هو من رؤساء الطواغيت.(6/14)
معتقد النصارى في قتل عيسى عليه السلام
الطواغيت كثيرون جداً، والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع، ورؤساء الطواغيت خمسة: إبليس لعنه الله، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، ومن عُبِد وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، هؤلاء هم رؤساء الطواغيت، فالذي يُعبَد وهو راضٍ من رؤساء الطواغيت، أما ما ذكر من أن النصارى يشركون عند قبر المسيح عيسى صلى الله عليه وسلم؛ فهذا زعم يزعمونه هم، وهو كذب لا حقيقة له؛ لأنهم يزعمون أن عيسى عليه السلام صلب -والصليب خشبات شبه الزائد- وسمرت يداه ورأسه على الصليب، ثم أخذ وقتل على زعم اليهود، ثم بعد ذلك أنزل وقبر، هذا زعمهم وعقيدتهم، وهو كذب قد أبطله الله جل وعلا، وأخبرنا أن اليهود لم يقتلوه وإنما شبه لهم، يعني: وضع شبهه على رجل من اليهود، فقتلوا ذلك اليهودي وصلبوه، فالمقتول رجل يهودي، أما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه كما قال الله جل وعلا: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، ومعنى قوله جل وعلا: (إني متوفيك) يعني: منيمك، فعيسى عليه السلام نام ثم رفع كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فالنوم وفاة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، وقال الله في الآية الأخرى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ))[النساء:157-158] فهذا الذي يجب أن يعتقد، وجاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينزل في آخر الزمان إذا خرج المسيح الدجال فيقتله، ويكون نزوله عليه الصلاة والسلام على(6/15)
جناح ملكين من الملائكة، وقال صلى الله عليه وسلم: (اعرفوه فإنه رجل مربوع متوسط، كأن رأسه يقطر ماءً)، كأنه خرج من حمام، وإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، ويضع الجزية، ويقتل الخنزير، ولا يقبل من الناس إلا الإسلام، ويبقى أربعين سنة، ثم يتوفاه الله جل وعلا. فالمقصود أن قوله: قبر المسيح، هذا على حسب عقيدة النصارى، أما الواقع فالمسيح عيسى عليه السلام ليس له قبر، بل هو مرفوع حي، ولا يزال حياً في السماء ثم ينزل إذا أراد الله جل وعلا ويحكم بهذه الشريعة، فهو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينزل ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ضلال عباد القبور في تفضيلها على المساجد(6/16)
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع، ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريباً منه ]. يعني: أن الذين يتعلقون بالقبور، يحصل لهم عند القبر من الخشوع والتذلل والبكاء ودعوة المقبور بحضور القلب ما لا يحصل لهم في أثناء الصلوات في المساجد، ولا قريباً منه، وهذا يدل على أنهم يعبدون غير الله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4] مثل هؤلاء وأشباههم، فهم يعبدون ويخشعون وينصبون ويتعبون وينفقون الأموال ويتعبون أبدانهم، ومع ذلك يكونون من أهل النار؛ لأنهم يتعلقون بغير الله جل وعلا، والله أغنى الشركاء عن الشرك كما قال جل وعلا في الحديث الذي يرويه رسوله صلوات الله وسلامه عليه عنه: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، ويقال له يوم القيامة: اذهب إلى الذي كنت ترائي فانظر هل تجد جزاءك عنده؟ فكيف بالذي يتجه بكليته إلى الميت الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً؟ لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الدود الذي يأكل بدنه، فكيف بالذي يتعلق به؟ وهذا لا شك أنه ضلال، والرسل بعثت لإنقاذ الناس من عبادة غير الله جل وعلا ودعوته، ويجب أن تكون العبادة كلها خالصة لله ليس فيها شيء لا لحي ولا لميت، ولا لدنيا ولا لغيرها، وإنما تكون لله، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والنيات والأعمال، كل ما أمر الله جل وعلا به وأحبه فهو عبادة، والعبادة يجب أن تكون عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل عبادة يتعبد بها الإنسان يجب أن يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها وإلا فهي باطلة، والأصل في العبادة أنها محرمة حتى تعرف(6/17)
الدليل عليها، ولا يجوز أن تتعبد بعبادة إلا إذا عرفت أنها مشروعة، هذا هو الأصل فيها، بخلاف المعاملات والأمور الأخرى، فالأصل فيها الإباحة حتى يأتي الدليل بأنها ممنوعة، وكذلك المطعومات والمشروبات الأصل فيها الإباحة حتى يأتي الدليل بأنها محرمة، أما العبادة فبالعكس، الأصل أنها محرمة حتى يأتي الدليل بأنها مشروعة؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: أي عمل يعمله الإنسان تعبداً ليس عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو باطل مردود عليه لا يقبل؛ لأنه غير شرعي، فهذا مما يجب أن يكون الإنسان عارفاً به؛ لأنه أصل عظيم يجب التنبه له.
دعاء أصحاب القبور شرك أكبر(6/18)
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سداً للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولاً وفعلاً ]. أما دعاؤهم سواءً دعاهم للشفاعة، أو دعاهم بأن يتوسطوا له عند الله في شيء حاضر، أو دعاهم استقلالاً؛ فهذا هو الشرك الأكبر، أما دعوة الله بهم كأن يقول: يا رب! أسألك بوليك الفلاني، أو أسألك بنبيك، أو أسألك بجبريل، أو أسألك بفلان وفلان؛ فهذا وإن لم يكن شركاً إلا أنه من البدع التي تكون طريقاً إلى الشرك، لأننا قلنا: إن الأصل في العبادة أن تكون مشروعة وإلا فهي باطلة، وهذا لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، ولم يأمر به، ولم يقره، بل نهى عنه، فإذاً هو ليس مشروعاً، بل هو من البدع، فسؤال الله بالغير بدعة لا تجوز، أما أن يسأل الغير أن يتوسط له عند الله فهذا شرك، ولا أحد يعتقد أن أحداً من الخلق مشارك لله في الملك والتصرف، هذا لا يوجد؛ لأن الأمر في هذا ظاهر جلي، فالله هو المتصرف وحده، فالذي يسأل الميت أو الغائب، أو يسأل الحي الموجود ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين، فهذا أشرك بالله جل وعلا شركاً أكبر، ولكن كونه يسأل الله به فيقول: أسألك بفلان أو بجاه فلان فهذا بدعة، وهو سؤال بشيء أجنبي عنك، لا صلة لك به، كقول كثير من الناس: نسألك -يا ربنا- بجاه(6/19)
نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: هذا ما يصلح، قال: أليس للنبي صلى الله عليه وسلم جاه عند الله عظيم؟ نقول: بلى، له جاه عظيم عند الله جل وعلا، ولكن الله جل وعلا ما أمرنا أن نسأله بجاهه، وجاهه كعمله، فهل يسوغ لك أن تسأل الله بعمل فلان، أو بحج فلان، أو بصلاة فلان، أو بصوم فلان؟ ما يصلح؛ لأن صومه له، وحجه له، وعمله له، وكذلك جاهه له، والجاه نتيجة العمل، فمن كان أتقى لله وأعبد كان جاهه أعظم عند الله. فالمقصود أن من الناس من يتعلق بالخلق دائماً، إما أن يسألهم، وإما أن يسأل بهم، أما سؤالهم بأن يتوسطوا له عند الله، أو يعطوه مطلوبه، أو يزيلوا عنه مرهوبه، فهذا شرك أكبر، وأما سؤال الله بهم فهذا بدعة قد تجر إلى الشرك، وتكون وسيلة إلى الشرك.
فضل زيارة المقابر وآداب زيارتها(6/20)
قال الشارح رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (زوروا القبور فإنها تذكر الموت). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) رواه أحمد والترمذي وحسنه ]. ينبغي لزائر القبور أن يقول هذا الدعاء ونحوه، كأن يقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، وهذا الاستثناء (إن شاء الله) إما للتبرك أو للمكان أي: أنه يكون في هذا المكان، أما اللحوق فهو أمر متحقق لابد منه، فلابد أن يموت ويلحقه، (نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم)، هكذا ينبغي أن يقول، أما أن يذهب ويقول: أسألك يا فلان! أن تعمل كذا، وتعطينا كذا، أو تتوسط لنا، أو تشفع لنا، فهذا عكس المشروع الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك كون الإنسان يذهب إلى القبر ويتحرى العبادة عنده، يعني: يعبد الله عند هذا القبر، ويظن أن العبادة عنده أفضل، وأنها أرجى للعبادة، ويقول: أنا ما أعبد صاحب القبر، ولكن أعبد الله عند هذا الولي تبركاً، والعبادة عنده أولى من غيرها، فهذا ضلال، وهذا بدعة من أعظم البدع، وهي من وسائل الشرك ودواعيه التي تدعو إليه، فإنه أولاً يقول: أذهب أعبد الله عند القبر، ثم يتدرج به الأمر حتى يعبد صاحب القبر ويدعوه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث عبد الله بن عمر والذي في الصحيح: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا فيها)، ويقول: (فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) يعني: أن القبور ليست محلاً للعبادة، والمعنى: لا تجعلوا البيوت مشبهة بالقبور مهجورة من العبادة؛ من الصلاة ومن القراءة، لا تجعلوها بهذه المثابة، وليس المعنى: لا تقبروا موتاكم في البيوت، فهو ما(6/21)
أراد هذا صلوات الله وسلامه عليه، بل معناه: لا تعطلوا بيوتكم من العبادة فتهجروها فتكون شبيهةً بالقبور، فالقبور متقرر عندهم أنها مهجورة من العبادة، لا يتعبد عندها، فالعبادة محلها غير القبر؛ ولهذا يتفق العلماء على أن الصلاة لا تصح في المقبرة، بل هي من المواضع التي لا تصح الصلاة فيها. وكذلك كونه يوضع قبر في المسجد، فهذا يجعل الصلاة فاسدة باطلة، ولا تصلح الصلاة فيه، فإذا وضع القبر في المسجد وجب أن ينبش ويخرج منه، أما إذا بني المسجد على القبر وجب أن يهدم هذا المسجد؛ لأن القبور لا يجوز البناء عليها، ولا تجوز الكتابة عليها، ولا رفعها بحيث تتميز عن غيرها، ولا وضع شيء يدعو إلى الانتباه ولفت الأنظار إليها، وكل هذا جاء النهي عنه خوفاً من التعلق بها؛ لأنها محل للفتنة. [ فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك ]. معنى كلام الإمام مالك رحمه الله ورضي عنه أن أول هذه الأمة صلح بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك آخرها لا يصلح إلا بهذا الدين، لن تصلح الأمة إلا به، والذي جاء به هو عبادة الله وحده، وتوحيده وإخلاص الدعاء والقصد والتعلق به وحده، هذا هو أعظم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أخذ به الصحابة أحياهم الله جل وعلا، وصاروا بعدما كانوا مشركين دعاة خير وهدى، ونور الله قلوبهم بالعلم والتقى، فصاروا يدعون إلى عبادة الله، ويخرجون الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهكذا إذا أخذ آخر هذه الأمة بما أخذ به أولئك؛ يحصل لهم ما حصل لهم؛ لأن الله جل وعلا يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ(6/22)
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لا صلة بين العبد وبين ربه إلا بالتقى والطاعة فقط، والأنساب والوظائف والرئاسات والأموال والأبهات ما تفيد شيئاً عند الله، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فمن كان قلبه تقياً، وعمله مرضياً على وفق شرع الله؛ فهذا الذي يرضاه الله جل وعلا، وبهذا يحصل الصلاح لنفسه ولمن يدعوه ويستجيب له إلى هذا الطريق. ......
تجريد السلف للتوحيد(6/23)
قال الشارح رحمه الله: [ ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حين يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره: (الدعاء هو العبادة)، فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها، والاستغفار لهم والترحم عليهم ]. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الزائر للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا زاره وسلم عليه وأراد أن يدعو لنفسه، ينبغي أن يستقبل القبلة؛ لأن القبلة هي قبلة الدعاء، ولا يستقبل القبر خوفاً من أن يتشبه بالمشركين الذين يدعون القبور، وربما يراه الجاهل فيظن أنه يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا شرك، وفيه تشبه بالمشركين في الصورة، وهذا ممنوع لا يجوز، بل ينبغي له أن يبتعد عن إضلال الغير، ولو بالشيء الموهوم، حتى لا يكون قدوة في أمر لا يجوز. ولم يكن السلف يتحرون الدعاء عند القبر، ولا يقصدونه، بل كانوا ممتثلين لأمره صلى الله عليه وسلم حيث قال لهم: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم)، والعيد اسم لما يتردد عليه، ويعتاد المجيء إليه، سواء كان مكاناً أو زماناً، فما تردد واعتاد الناس مجيئه من الزمن صار عيداً، وما ترددوا عليه من مكان صار عيداً، فالعيد يكون للمكان وللزمان، فنهى صلوات الله وسلامه عليه عن ذلك وقال: (صلوا علي أينما كنتم)، فالصحابة فهموا هذا، وكانوا يتمكنون من الدخول على القبر بكل سهولة، ومع هذا لم يذهبوا إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه، بل كان أحدهم إذا دخل المسجد صلى عليه، ولم يتجه إليه، ولم يرفع يديه ويقول: أنا أسلم عليه؛ لأنهم يعرفون أن هذا لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به، بل لم يكونوا يترددون عليه للسلام.(6/24)
فالمقصود أن السلف فهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ممتثلين لأمره، مبتعدين عن نهيه، ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بما يأمر الله جل وعلا به، ورسالته ودعوته أن تكون العبادة لله وحده، وسيأتي الكلام على هذا المعنى في الباب الثاني مما يلي هذا الباب إن شاء الله. ......
تصوير حال عباد القبور وما هم فيه من خسران وبوار
قال الشارح رحمه الله: [ وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)، وإسناده جيد، ورواته ثقات مشاهير. وقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيت ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن (ما لجرح بميت إيلام). فمن المفاسد: اتخاذها أعياداً، والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الدين وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرءوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى(6/25)
القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً، يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسراناً فلغير الله -بل للشيطان- ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟! ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن، إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام فيقول: لا ولا بحجك كل عام! هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال، وهذا مبدأ الأصنام في قوم نوح كما تقدم، وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه، يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يئول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. ......
مسائل باب ما جاء في المصورين
......
حرمة التصوير والتغليظ فيه(6/26)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: المسألة الأولى: التغليظ الشديد في المصورين ]. كونه يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في النار، وكون الله جل وعلا يقول: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟! فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة). وسبق أن هذا الوعيد لم يأت مثله في كثير من الكبائر، والأحاديث فيه كثيرة مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وعيد شديد للمصور، والمصور في هذه الأحاديث هو كل من صور صورة ذات روح، لأن الأمور التي يختص بها رب العالمين جل وعلا لا يجوز أن يفعلها المخلوق؛ لأن الخلق من خصائص الرب جل وعلا، فهو الخالق البارئ المصور. ومع هذا التهديد يجعل الله له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في النار، وهذا أمر عظيم جداً. والمقصود بالصورة هي التي تكون ذات روح، أما صورة الجبل وصورة الشجرة وما أشبه ذلك فهذا لا بأس به.
المصور ترك الأدب مع الله
[ المسألة الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله لقوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟) ]. المضاهاة هي المشابهة، كونه يشابه الرب جل وعلا بالفعل، وهذا لا يمكن للمخلوق، وإنما هو جرأة من ابن آدم؛ لأن ابن آدم كما وصفه الله جل وعلا ظلوم جهول، وإذا اجتمع الجهل والظلم تمادى الإنسان في الغي، نسأل الله العافية!
تحدي الله للمصورين فيه بيان لقدرته جل وعلا وعجزهم
[ المسألة الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: (فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة) ]. قوله: (ليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة) هذا أمر يقصد به التعجيز، وهذا يستمر دائماً إلى قيام الساعة، مهما أوتوا من العلوم ومن الوسائل لن يستطيعوا أن يخلقوا حبة ولا شعيرة، فلا يستطيعون أن يخلقوا حبة من لا شيء، ويوجدوها من العدم كما أوجدها الله، وحتى الذرة وهي أصغر مخلوق لا يستطيعون خلقها، ولو اجتمع حذاق العلماء بما لديهم من الوسائل ما استطاعوا أن يخلقوا ذرة، لأن هذا من خصائص الله جل وعلا وحده.(6/27)
المصورين أشد عذاباً من الكفار يوم القيامة
[ المسألة الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً ]. (أشد الناس عذاباً المصورون)، هكذا جاء من الحديث، وهم الذين يصورون الصور، فالناس هنا مطلق، ويفهم من هذا أنهم أشد عذاباً من الكفار، نسأل الله العافية، ومع هذا لا يجوز أن نقول: إن المصور إذا كان مسلماً وصور الصور فإنه يكون كافراً بذلك، ولكن هو معرض لهذا الوعيد، ويوشك أن يقع فيه.
عذاب المصور في الآخرة على قدر ما صور في الدنيا
[ المسألة الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم ]. وهذا أمر صعب جداً على المصور، لأن الله يخلق له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم، نسأل الله العافية، فإذا كان الإنسان يؤمن بهذا الوعيد فإنه يحدث له خوف، أما إذا لم يكن مؤمناً ولا يبالي به فهذا أمر آخر، وسيلقى ذلك وسيشاهده ولكن حين لا ينفعه الندم، ولا ينفعه الاستعتاب، ولا تكون هناك توبة، فالتوبة لمن تاب من فعل الذنب في الدنيا، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
تكليف المصور بنفخ الروح فيما صوره في الدنيا
[ المسألة السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح ]. وهذا غير ممكن، وهو مثل ما سبق: (ليخلقوا ذرة)، (ليخلقوا شعيرة)، (ليخلقوا حبة) ويقال له: أحي ما خلقت، يعني: انفخ فيه الروح، وهل يمكن أن ينفخ فيه الروح؟ لا يمكن، وهذا من أشد العذاب أن يكلف ما لا يستطيعه، ولا قدرة له فيه. ولا فرق في التصوير بين كونه يصور بيده أو يصور بآلة، فإذا فعل ذلك فهو مصور.
وجوب طمس الصور
[ المسألة السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت ]. إذا وجدت الصورة الواجب أنها تطمس، يعني: تمسح بشيء يزيلها أو يحكها أو ما أشبه ذلك، وجاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد فيها صوراً، ووجد فيها صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام فقال: (قاتلهم الله! لقد علموا أنهما لم يستقسما بها).
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [129](6/28)
إن من صفات المسلم البارزة أن يعظم خالقه جل وعلا، فإذا عمل عملاً ذكر ربه جل وعلا، وإذا حلف فإنه يحلف بالله، مراعياً عدم الإكثار من الأيمان، خاصة إذا كان الأمر متعلقاً بشيء من أمور الدنيا؛ لأن ذلك ينافي الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم: رجل جعل الله بضاعته: لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه.
ما جاء في كثرة الحلف
قال المصنف رحمه الله تعالى:[ باب ما جاء في كثرة الحلف ]. قال الشارح رحمه الله: [أي: من النهي عنه، والوعيد]. قوله: (باب ما جاء في كثرة الحلف) يعني: أن الذي يكثر الحلف لابد أن يأثم، لأنه يحنث أي: يفعل الشيء الذي حلف ألا يفعله، وهذا إثم، وكثرة الحلف غالباً تدل على أن الذي يحلف ويكثر من ذلك لم يقدر الله حق قدره، ولم يعظمه حق تعظيمه، والواجب أن يعرف الإنسان ربه حق المعرفة، ويعظمه حق التعظيم، ولا يعمل الشيء الذي قد يترتب عليه سخط الله وعذابه، فإن الإنسان ضعيف، وإذا تعرض لمساخط الله يوشك أن يغضب الله عليه ويمقته، ثم يهلك بذلك. ثم إن الحلف هو في الأصل ذكرك من تعظمه عند الخبر تأكيداً لما تخبر به، وأنك إذا كنت غير صادق فإنه يعذبك، هذا الأصل في الحلف، فلهذا وجب أن يكون الحلف بالله أو بصفة من صفاته، ولا يجوز أن يكون الحلف بغير الله جل وعلا، بل جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). ......
لا يجوز الحلف بغير الله(6/29)
نحن ممنوعون أن نحلف بغير الله أو بصفة من صفاته كأن نقول: برحمة الله، بقدرة الله، وما أشبه ذلك من الصفات التي يجوز أن يحلف بها، ومن ذلك الحلف بكلام الله أو بالقرآن؛ لأن القرآن صفة من صفات الله، أو تقول: بالله أو بالرحمن أو بالحق، أو ما أشبه ذلك، أو تأتي بالواو؛ لأن أحرف القسم ثلاثة: الواو والباء والتاء، وفي لغة العرب أن التاء تختص بالله جل وعلا، تقول: تالله، وقد جاء هذا في القرآن: حيث يقول المشركون وهم في النار، يخاطبون الذين أشركوهم مع الله: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] يعني: عندما سويناكم معه في المحبة؛ لأنهم لم يسووهم معه في الخلق والإيجاد والتصرف، هذا لا يعتقده أحد. إذاً: الحلف يجب أن يكون بالله أو بصفة من صفاته، وأي حلف يكون بغير الله جل وعلا فإنه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، ولا يخرج من ذلك شيء من المخلوقات حتى المعظمة والمقربة لدى الله كالكعبة أو النبي أو جبريل أو الملائكة، فهذه كلها لا يجوز الحلف بها، وإنما يحلف بالله جل وعلا، وكثير من الناس يكثر من الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مخالفة صريحة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وقوله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وهذا الباب قصد به المؤلف وجوب تعظيم الله وتقديره حق قدره كالأبواب السابقة؛ لأن الذي يحلف بالله كاذباً أو يحلف بغيره لم يعظم الله ولم يقدره حق قدره، ونحن ممنوعون أن نحلف بغير الله، فلا يقول قائل: إن الله جل وعلا يقسم بالمخلوقات، فالله جل وعلا لا حظر عليه، يقسم بما يشاء، ويفعل ما يشاء، ولكن نحن عبيد لله، يجب أن نمتثل أمره، وقد أكثر الله جل وعلا من القسم في القرآن بالمخلوقات كقوله جل وعلا: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *(6/30)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا [العاديات:1-2]، وقوله: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، وقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، وقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، وقوله: وَالْفَجْرِ [الفجر:1]، وقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، وما أشبه ذلك. ولكن الله جل وعلا يقسم بما يدل على قدرته، وأنه المتفرد بالخلق والإيجاد والتصرف، وله أن يقسم بما يشاء، أما نحن عبيده فعلينا أن نمتثل الأمر، وأن نكون عبيداً تحت أمره، مجتنبين نهيه، والذي يكثر من الحلف لا يسلم من الحنث، والحنث هو المخالفة لما حلف أنه لا يقع أو يقع .. لا يفعله أو يفعله، ومن أكثر من ذلك وقع في الإثم؛ ولهذا ذكر المؤلف هذا الباب ليحذر منه. ثم إن هذا لا يدخل فيه لغو اليمين المذكور في قول الله جل وعلا: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89] عقدتم يعني: الشيء الذي أكدتموه وعقدتم القلب عليه هو الذي يؤاخذ به الإنسان، أما لغو اليمين فهو الذي يقع في كلام الناس عند مخاطباتهم كأن يقول: لا والله ليس كذا، أو بلى والله إنه كذا، ولم يقصد به الحلف، ولم يقصد به تأكيد الحلف، وإنما يقع في المخاطبات الجارية بين الناس، فهذا يسمى لغواً، والله جل وعلا لا يؤاخذ به، وإنما يؤاخذ بالشيء الذي يقصد أن يحلف عليه ويقسم، فتخبر بشيء أنه كذا أو تخبر أنك لا تفعل كذا، ثم تذهب وتفعله، فهذا هو الذي يؤاخذ بالمخالفة فيه، والمقصود في الحديث الآتي وجوب حفظ اليمين، وكذلك قول الله جل وعلا: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]. واليمين بعضه أشد من بعض؛ ولهذا جاء أن من الكبائر اليمين الغموس، واليمين الغموس هي: التي تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وهو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، ومع هذا فالحلف بغير الله أعظم من اليمين الغموس كما قال ابن مسعود :(6/31)
لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً. لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أكبر من الكبائر، وكون الإنسان يحلف على أمر وهو يعلم أنه كاذب لا شك أن هذا يدل على ضعف إيمانه، وقلة مراقبته لله جل وعلا، فيكون توحيده إما ضعيفاً وإما معدوماً.
قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم)
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] ] قوله جل وعلا: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] اختلف المفسرون فيها على قولين، وكلاهما حق، وأحدهما ملازم للآخر، القول الأول: أن معنى قوله: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] أي: لا تحلفوا، وهذا يروى عن ابن عباس؛ لأنه بعدم الحلف يحفظ اليمين، ولا يقع الإنسان في الإثم والمخالفة، والقول الثاني: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] أي: لا تتركوها بلا تكفير، يعني: إذا حلفتم وخالفتم فكفروا، فإن الله جل وعلا شرع الكفارة في ذلك، ولاسيما في الأمور التي يتبين للإنسان أن فعلها أو تركها أفضل، فإذا حلف الإنسان على شيء ألا يفعله فتبين له أن فعله أفضل، فإن الأولى والأحسن له أن يكفر عن يمينه ويفعله. ......
كفارة اليمين(6/32)
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على شيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، وهكذا ينبغي للإنسان إذا حلف أن يفعل شيئاً فتبين له أن فعله ليس حسناً، بل تركه أحسن؛ فينبغي أن يكفر عن يمينه ولا يفعله. فكل ما فيه خير وحلف على الامتناع منه فعليه أن يكفر ويفعله، وإن حلف على أن يفعل شيئاً فرأى أن تركه خير، فعليه أن يكفر عن يمينه ولا يفعله، وكفارة اليمين جاءت منصوصاً عليها في كتاب الله جل وعلا أنها إطعام عشرة مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89]، ومعنى (من أوسط ما تطعمون) أي: من خير ما تطعمون أهليكم؛ لأن الوسط في اللغة العربية الخيار كقوله: جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] يعني: خياراً، فالمراد من الشيء الحسن الذي تأكلون منه وترضونه وتطعمون منه أهليكم، وإطعام عشرة مساكين بأن يعطى كل مسكين نصف صاع، ولو صنع طعاماً ودعا إليه عشرة مساكين كفى ذلك، وصار كفارة، هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة:89] والكسوة كما يقول العلماء: إنها الشيء الذي تصح به الصلاة، فلا يلزم أن يكسوه الكسوة الكاملة كلها، فله أن يكسوه قميصاً وسراويل أو قميصاً وعمامة، وما أشبه ذلك، وإن لم يفعل هذا انتقل للأمر الذي هو خير منه وأفضل وهو إعتاق رقبة، فهذه الأمور الثلاثة رتبها الله جل وعلا، بدأ بالأسهل ثم ما هو أحسن وأعلى، ثم ما هو أعلى، فالأسهل الإطعام، والكسوة أفضل وأعلى، ولكنها أغلى، وإعتاق الرقبة أغلى من الجميع، وهذه الأمور الثلاثة يخير فيها الإنسان، فيختار أي واحدة شاء من هذه الثلاثة، فإن لم يجد انتقل إلى الصيام، ولا يجزيه الصيام وهو يجد الكفارة؛ ولهذا قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، فشرط الصيام عدم الوجود، وكثير من الناس يبدأ بالصيام رأساً وإن كان واجداً للكفارة، وهذا لا يجزي،(6/33)
بل لابد أن يبدأ بما بدأ الله جل وعلا به، فإن لم يجد شيئاً من الثلاثة انتقل إلى الصيام.
اليمين الغموس لا تكفر
الكفارة مشروعة، ولكن الشيء الممنوع أن يعلم أن هذا الشيء الذي يخبر به لم يقع، كالذين يحلفون عند الحاكم على شيء معين إذا توجهت إليهم اليمين، فإذا ادعى شيئاً على إنسان ما، ولم يكن له بينة، فإن اليمين تتجه إلى المدعى عليه، فإن كان يعلم أن الذي ادعى عليه صادقاً فيجب عليه أن يعترف بالحق، وإذا حلف كاذباً وهو يعرف فهذه اليمين التي ليس لها كفارة، وهي اليمين الغموس، وهي أعظم من أن تكفر، وكذلك الذي يحلف على الكذب كما سيأتي في الحديث، مثلاً إنسان يريد أن يبيع شيئاً ما، فيحلف أنه لا يبيعه إلا بكذا، ثم يبيعه بأقل من ذلك، أو يحلف أنه أعطي فيه كذا وكذا وهو كاذب، أو يحلف أنه اشتراه بكذا وكذا وهو يكذب، والصحيح أنه اشتراه بأقل من ذلك، فهذه ليس فيها كفارة؛ لأنه تعمد الكذب، وهي اليمين الغموس التي لا كفارة فيها، وهذا الذي سيأتي فيه الوعيد، أما ما ذكر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني إن شاء الله لا أحلف على شيء ثم أرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير) فمثاله أن يحلف ألا يدخل بيت فلان، فيتبين له أن دخوله أفضل من عدم الدخول، أو يحلف ألا يكلم فلاناً، أو أن يطلق زوجته فهذا يكفر عن يمينه ولا يفعل ذلك، ومثل هذا الذي تشرع فيه الكفارة.
معنى حفظ اليمين(6/34)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير : لا تتركوها بغير تكفير. وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس : يريد لا تحلفوا، وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث ]. وهذا القول الثالث الذي هو: احفظوا أيمانكم عن الحنث هو قول ابن جرير ، يعني: لا تتركوها بلا تكفير، وهنا يقول: احفظوها عن الحنث، والحنث هو المخالفة لكونه حلف وخالف، فإذا حلف وخالف فهو معنى كونه لا يتركها بلا تكفير، يعني: يلزمه أن يكفر. إذاً: يكون القول الأول والثاني: لا تتركوها بلا تكفير أو أنكم لا تحلفوا، وقد عرفنا ما هي الأيمان التي تكفر والتي لا تكفر، فالأيمان التي يحلف عليها الإنسان وهو يعلم أنه كاذب لا كفارة فيها؛ لأنها أعظم من أن تكفر، وقد سميت يميناً غموساً، أما التي تكفر فهي التي يحلف عليها لأجل الامتناع، أن يمنع نفسه أو يمنع غيره، أو لأجل الحض على فعل هذا الأمر، فيتبين له أن امتناعه من هذا الفعل خير من فعله أو أن فعله خير من الامتناع، فهذه التي تكفر، أما الحلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فهذا كفارته لا تجدي شيئاً، ولا ترفع الإثم الذي فعله.
كثرة الحلف سبب لزوال تعظيم الله من قلب المرء(6/35)
قال الشارح رحمه الله: والمصنف أراد من الآية: المعنى الذي ذكره ابن عباس ، فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه ]. الذي يكثر الحلف لابد أن يقع في الاستخفاف بالله جل وعلا، وعدم الاكتراث بالإيمان التي يقسمها، كما هو الواقع في كثير من الناس الذين يعتادون هذا، وهذا يدل على عدم تعظيمهم الله جل وعلا وتقديره حق قدره، وبذلك يكون الإنسان آثماً -نسأل الله العافية-، ويكون على خطر عظيم، فالواجب على العبد أن يتنبه لهذه المسألة؛ لأنها كثيراً ما تقع عند الناس، ولاسيما الذين يتعاطون البيع والشراء، فيجب عليهم أن يجتنبوا الحلف، وسيأتينا أن الحلف في البيع والشراء منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
حديث: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب)(6/36)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب) أخرجاه ]. هذا الحديث على وجازته تضمن معاني جليلة كسائر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه أعطي جوامع الكلم، وجوامع الكلم هي الكلمات القليلة التي تجمع فيها المعاني الكثيرة. فهنا يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب)، وفي رواية: (ممحقة للبركة) يعني أن الإنسان إذا حلف على سلعته سواء كان بائعاً أو مشترياً فإن هذا قد يكون سبباً لأن يعطى أكثر مما يستحق أو يباع عليه بأقل مما تستحق السلعة، ولكن النتيجة أن يكون هذا ماحقاً للبركة، والمحق هو المحو والإزالة والإبادة والإذهاب، ومحق الكسب معناه ذهاب بركته وإن كانت عينه كثيرة، وإذا زالت البركة فلا خير فيه لا في عينه ولا في الانتفاع به؛ لأن البركة أصبحت ممحوقة، فإنفاق السلعة بالحلف معناه: أنه إذا حلف ألا يبيع إلا بكذا أو أنه قد اشتراها بكذا فإن هذا يكون حاملاً للمشتري على أن يقدم على شرائها فتنفق، والنفاق هو أن يرغب فيها المشتري، فهذا من المرغبات ومن المنفقات للبيع، ولكن النتيجة تأتي عكسية، والحلف في الحقيقة مطلق في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للإنسان أن يحلف على الشيء الذي يبيعه أو يشتريه وإن كان صادقاً؛ لأن حلفه وإن كان صادقاً يدخل في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الحلف كاذباً فقط بل قال: (الحلف)، فمجرد الحلف في البيع منفقة ممحقة، والمفروض على المسلم ألا يحلف كاذباً. إذاً: الحديث حتى في الذي يحلف وهو صادق، فيكون حلفه وهو صادق بهذه المثابة (منفقةٌ للسلعة) يعني: يكون سبباً لأن تنفق عند الناس، فيرغبون فيها ويشترونها، ولكن يكون ذلك محقاً للكسب، فكسبه الذي يتحصل عليه ممحوق البركة، وإذا محق الكسب فلا خير فيه، إن أكل منه لم يبارك له ولم ينتفع به، وإن أنفق(6/37)
منه لم يبارك له ولم ينتفع به، فتزول المنفعة والعين نفسها أيضاً، فعلى هذا تعين على العبد أن يجتنب الحلف، فلا يحلف على الشيء وإن كان صادقاً فيه إذا أراد أن يبيع أو يشتري، بل الأمر فيه سعة، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه). ......
سبب محق الحلف للبركة
إذا اعتاد الإنسان الحلف رأى أنه لا يستغني عنه، وتصبح أموره كلها ممحوقة، نسأل الله العافية، ولا خير في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تصور الإنسان أنه في المخالفة يتحصل على كسب؛ فإن هذا الكسب ممحوق البركة، لا ينتفع به لا في استعماله ولا في تحصيله واقتنائه. أما كون الإنسان يحلف وهو كاذب فقد سبق أن هذا ليس هو المقصود من الحديث، فهذا أمر آخر، وهي اليمين الغموس التي هي من الكبائر، ولكن المقصود كثرة الحلف على الشيء وهو صادق، والسبب في هذا أن الدنيا كلها ينبغي ألا يهتم بها المسلم اهتماماً بحيث أنه يذكر اسم الله جل وعلا عليها؛ جالباً بذلك المنفعة والمصلحة منها، وإنما يذكر اسم الله جل وعلا على العبادات وعلى الأمور التي يراد بها الآخرة، فالدنيا لا ينبغي ذكر اسم الله عليها بالحلف؛ لأن هذا يدل على الرغبة فيها والتعلق بها. وعلى المسلم أن تكون رغبته وتعلقه بالآخرة أكثر، أما في الدنيا فينبغي أن يلاحظ أموراً: الأمر الأول: أن يعرف المهمة من وجوده في هذه الحياة، فإنه وجد لعبادة الله جل وعلا، فلا يخالف أوامر الله، ولا يرتكب نواهيه. الأمر الثاني: أن يعلم أنه يجب عليه أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، فإذا كان يعرف أن هذا الشيء فيه عيب لا يعلمه المشتري فيبينه، ولا يحلف له ويغره، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؛ ولهذا لما جلب بعض السلف سلعة قال له من أراد أن يشتريها: أترضاها لي؟ فقال: أنا ما رضيتها لنفسي حتى أرضاها لك! انظر مع أنه لم ير فيها عيباً، ولكنه رغب عنها. فينبغي أن يكون دين(6/38)
الإنسان أهم عنده من أمور الدنيا، فإذا أقدم على الحلف فهذا يدل على رغبته في الدنيا، وعلى استخفافه بالحلف بالله جل وعلا وعدم توقيره لله جل وعلا، وهذا هو المقصود من قوله هذا: (الحلف منفقة للسلعة) وهو مجرد الحلف، فمعنى هذا: أن يكون الحلف منهياً عنه أصلاً في البيع والشراء، فينبغي للإنسان أن يجتنب الحلف.
جواز الحلف بالله عند الحاجة
الأمور التي يطلب فيها تأكيد الخبر، ولا تجلب منفعة للحالف لا بأس أن يحلف عليها، مثلاً: إذا توجهت إليه اليمين في قضية ما، وطلب منه الحلف، فلا يمتنع من الحلف وهو يعلم أنه صادق؛ لأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقسم فقال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، فأمره الله جل وعلا أن يقسم بالله جل وعلا على الشيء الذي يعلمه حقاً، وقال: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس:53]، وهذا حلف، فأمره الله جل وعلا أن يحلف على ذلك. فإذا علم الإنسان الحق وهو صادق في ذلك فلا بأس بالحلف، ولا يتورع من ذلك ويمتنع ويقول: لا أحلف، لأني أخشى أن أقع في الإثم، لا، فإن الممنوع في مثل هذه الأمور أن يحلف ليجلب مصلحة دنيوية له؛ كجلب ربح أو كسب في أمور الدنيا، فهذا لا يصح. قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (أخرجاه) أي: البخاري و مسلم ، وأخرجه أبو داود و النسائي. والمعنى: أنه إذا حلف على سلعته أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقاً فيما يحكي مما حلف عليه، فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذب وحلف طمعاً في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأساً، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب ]. الحقيقة أن الحديث أعم(6/39)
من ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (الحلف منفقة للسلعة)، ولم يقل: الحلف الكاذب منفقة للسلعة، بل الحلف مطلقاً، فدل ذلك على أنه ينبغي الامتناع عن الحلف في البيع والشراء مطلقاً. والمفترض أن الإنسان إذا حلف أن يكون صادقاً، أما إذا كان كاذباً فهي اليمين الغموس التي ليس فيها كفارة، وهي أعظم من أن تكفر، ولكن المقصود الحلف مطلقاً، وهذا هو ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله ... ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح ]. هذا من الوعيد الشديد، وهذا له منطوق ومفهوم كما هو واضح، (ثلاثة لا يكلمهم الله) المعنى: ثلاثة أنواع وأجناس من الناس، والأشيمط: هو الذي اختلط بياض شعره بسواده، يقال: شمط الشعر إذا اختلط وصار بعضه أبيض وبعضه أسود، وهذا معناه أنه طعن في السن وكبر، وصار داعي الزنا عنده ضعيفاً، والشهوة عنده ليست كالشهوة عند الشاب القوي، فإن هذا يدل على ضعف الدين، وضعف المانع له من فعل الفاحشة، وضعف مراقبة الله، وضعف تعظيم حرمات الله، فأقدم على ذلك وهو محب له، ليس عنده وازع ديني أو خوف من الله أو خوف من عقابه، بخلاف من كان شاباً فإن الشهوة قد تغلبه وتسيطر عليه، ثم إذا وقع في الفاحشة عاد على نفسه باللوم، وأسف وندم، وتاب وأقلع؛ لأنه غلب بأمر قهره، بخلاف الأشيمط فهذا هو السبب في كونه خص بأنه لا يكلم ولا يزكى. ......
المراد من نفي كلام الله لأهل المعاصي والكبائر(6/40)
المراد بنفي الكلام: كلام الإكرام؛ لأن الله جل وعلا إذا كلم عبده فهو من النعيم العظيم، وليس المقصود نفي كلام التوبيخ أو كلام التعذيب والتهديد كقوله جل وعلا: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فالله يخاطب أهل النار، فيكلم من شاء: لماذا فعلت كذا؟ ولماذا لم تفعل كذا؟ من باب التوبيخ والمحاسبة، وهذا من العذاب، وإنما المراد: نفي الكلام الذي فيه إكرام، وهذا يدلنا على أن الله يكلم عباده المؤمنين إكراماً لهم، وهؤلاء خصوا بأنهم لا يكلمون. وقد جاء في الحديث الصحيح عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، فهذا عند المحاسبة. وجاء عن عبد الله بن عمر في الصحيحين أنه سئل : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ يعني: عندما يناجي الله عبده قال: سمعته يقول: (يدني الله عبده المؤمن فيضع عليه كنفه) يعني: يستره عن الناس، فيقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا يوم كذا في مكان كذا، فيتغير لونه، فإذا رأى أنه قد هلك يقول له الله جل وعلا: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه، فيبيض وجهه. فكونه يستره بأن يضع عليه كنفه لئلا يبصره الناس عندما يسأل فيتغير لونه، وهذا الأشيمط الزاني ليس من هؤلاء؛ لأنه لا يكلم، بل يعذب رأساً. ومثله العائل المستكبر، والعائل هو الفقير؛ لأن الفقر ليس داعياً للكبر والغطرسة والتجبر والاستعلاء على الناس، وإنما يدعو إلى ذلك الغنى والمناصب الرفيعة والرئاسات، فهذه هي التي تدعو إلى الكبر، فالله جل وعلا يقول: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]. فالغنى داع للكبر، فإذا وجدت خصلة الكبر في الإنسان بدون داعٍ دل ذلك على أنه شيء متأصل فيه، وأن هذا خلق يتخلق به، وعمل من أعماله، فاستحق المقت واستحق العذاب. أما الثالث الذي جعل الله بضاعته، يعني:(6/41)
أنه اتخذ الحلف بالله مكسباً، إذا أراد أن يبيع حلف أنه لا يبيع إلا بكذا وكذا ويحلف أنه اشتراه بكذا وكذا، فهذا كذلك؛ لأنه رغب في الدنيا عن الآخرة، وصارت الدنيا أرغب عنده مما عند الله، فاستحق أن الله لا يكلمه. وقوله: (ولا يزكيهم) التزكية هي التطهير من الأدناس، أي: لم يطهرهم الله جل وعلا من آثار الذنوب والدنس، ومعنى ذلك الهلاك؛ لأن كل إنسان لا يخلو من ذلك، وكل إنسان لابد أنه يقع في مخالفات، ويقع في دنس يدنس به دينه من معاصٍ لا ينفك عنها، وهذا أمر جبل عليه الناس لا ينفكون عنه، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) وهم الذين يرجعون إلى الله ويتوبون، فمن لم يزكه الله فمعناه أنه لم يتب عليه، وما طهره وما نقاه من عيوبه وآثامه، فيكون هالكاً، فهذا وعيد شديد لمن كانت هذه صفته.
صفات الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم
هؤلاء الثلاثة اتصفوا بصفات ذميمة: الأول: فيه صفة الرغبة في الفجور -أي: الزنا- مع ضعف الداعي. والثاني: فيه صفة التكبر مع ضعف الداعي إليه، وربما يكون معدوماً؛ لأن الفقير لا يجد شيئاً يدعوه إلى الكبر، والداعي للكبر هو أن يفضل على الناس، إما بالغنى وإما بالمعنى كالرئاسة وما أشبه ذلك، فإذا لم يوجد ذلك فمعنى هذا أنه ليس هناك داع لذلك، ولكنه أحب هذا الخلق الذميم فاستحق العذاب. الثالث: الذي جعل الله بضاعته، فقد رغب في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، والدنيا والآخرة ضرتان، إذا مال الإنسان إلى إحداهما ضر بالأخرى، ولكن هذا ليست عنده مجرد ضرة، بل عنده رغبة متأصلة؛ ولهذا يستخف بالحلف، ويقدم الكسب الذي يحصل له على تعظيم الله جل وعلا وحفظ اليمين الذي أمره الله جل وعلا بحفظه، فاستحق المقت على ذلك من عدم التكليم وعدم التزكية من الله جل وعلا، وهذا معناه أن يكون العذاب ملازماً له، نسأل الله العافية.
فضل سلمان الفارسي رضي الله عنه(6/42)
قال الشارح رحمه الله: [ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت، إن الله يحب من أصحابي أربعة: علياً و أبا ذر و سلمان والمقداد) ]. الشيخ: هذان حديثان وليس حديثاً واحداً. الأول: قوله: (سلمان منا أهل البيت). والثاني: قوله: (إن الله يحب من أصحابي أربعة). والحديث الأول ضعيف، والحديث الثاني ضعيف جداً، ولكن في الفضائل يتساهلون أكثر من هذا بخلاف الأمور التي يلزم الإنسان أن يفعلها أو يمتنع منها. وسلمان رضي الله عنه من أفاضل الصحابة، وأصل سلمان الفارسي من فارس من عبدة النار، بل والده كان هو القيم الذي يقوم على النار ويوقدها، وكان سلمان وحيد والده، ليس له ولد غيره، وكان يحبه حباً شديداً، ولا يصبر عنه إذا غاب. يقول: أرسلني مرة إلى ضيعة له، والضيعة: إما غراس أو شجر أو أغنام أو غيرها، يقول سلمان : فمررت في طريقي على نصارى يتعبدون، فوقفت عندهم ونسيت حاجة أبي، حتى بعث خلفي من يطلبني ويبحث عني، فقلت لهم: دينكم خير من ديننا فأين أصل دينكم هذا؟ فقالوا: في الشام، يقول: فلما رجعت إلى أبي قلت: يا أبت! وجدت ديناً خيراً من ديننا -وهذه فطرة الله جل وعلا التي خلق الناس عليها، وكون الإنسان يعبد النار، ويتجه إليها، فإنه قد جبل على خلاف ذلك، فإن الله فطر الإنسان على عبادته، والنصارى كانوا يعبدون الله- فلما قال ذلك لوالده، قال له والده: لا بل دينك ودين آبائك خير، فقلت: بل دينهم خير من ديننا، يقول سلمان : فخاف أبي فقيدني بالحديد، فأرسلت إلى أولئك: أن إذا جاء وافدكم من الشام فأخبروني، فلما جاء أخبروه، فاحتال وكسر الحديد الذي عليه وذهب معهم إلى الشام، قال: فقلت لهم: دلوني على خيركم، فدلوني على عالم منهم، وكان من خير الناس وأفضلهم، فأحببته حباً شديداً فلما حضرته الوفاة قلت له: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحداً على ما نحن عليه إلا رجلاً في مكان كذا في بلد كذا، فذهبت إليه فكان على طريقة صاحبه(6/43)
إلا أنه كان رجل سوء، كان يأمرهم بالصدقة ويأخذها لنفسه فجمع أموالاً كثيرة، فلما حضرته الوفاة، قلت: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحداً على ما نحن عليه إلا رجلاً في بلدة كذا، يقول: فذهبت إليه، فوجدته على طريقة الأول، من خير الناس وأفضلهم، يقول: فبقيت عنده وقتاً، واجتمع عندي شيء من المال من البقر والغنم، ولما حضرته الوفاة، قلت: إلى من توصي بي؟ فقال: ما أعلم على وجه الأرض أحداً على ما نحن عليه، ولكن قد أظلك زمن نبي يبعث، من صفته أن بين كتفيه خاتم النبوة، وأنه يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وأنه يهاجر إلى بلد ذات نخل بين حرتين، أعطاه هذه الصفات، ومعروف أن النخل لا يكون إلا في المدينة وما حولها أو في نجد، أو في العراق، وليست تلك صفة العراق ولا صفة نجد، يقول: فعلمت أنها في بلاد العرب، فجاء قوم من العرب فقلت: أعطيكم هذا المال من البقر والغنم وتذهبون بي إلى بلادكم؟ قالوا: نعم، فأخذوا ماله، وأخذوه وباعوه على رجل يهودي في وادي القرى، وهذا اليهودي باعه على رجل من يهود المدينة، فبقي رقيقاً مظلوماً، أخذ ماله واسترق، فبقي يعمل في الرق، وكان عند هذا اليهودي نخل، وكان سلمان يؤبر النخل ويشتغل فيه، يقول سلمان: بينما أنا في رأس نخلة إذ جاء أخ لسيدي فقال له: يا فلان! قاتل الله بني قيلة -وبنو قيلة هم الأنصار- يزعمون أنه جاءهم نبي، يقول سلمان: لما سمعت هذه الكلمة كدت أن أسقط من النخلة من شدة الفرح، فنزلت مسرعاً وقلت لسيدي: ماذا يقول؟ فأقبل علي ولطمني وقال: أقبل على شغلك، ما لك ولهذا؟ يقول: فأعرضت عنه، وجعلت أجمع شيئاً من التمر، وعلمت أنه في قباء، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قدم مهاجراً هو وأبو بكر ، يقول سلمان : فلما أمسى الليل وانتهيت من عملي أخذت شيئاً من التمر وذهبت به إليه، فقلت: هذه صدقة، فدفعه إلى أصحابه وقال: (كلوا) فقلت في نفسي: هذه واحدة، فلما كانت الليلة الثانية، جئت بشيء من(6/44)
التمر وقلت: هذه هدية، فقدم يده وقال: (باسم الله، كلوا)، فقلت في نفسي: هذه الثانية، ثم قمت أتطلع من خلفه لأنظر إلى خاتم النبوة ففطن لي، فحسر الرداء عن كتفيه، فرأيت خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، فأكببت عليه أقبله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ فقصصت عليه قصتي، فكان يحب أن يسمعها أصحابه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن فيها عبرة، فقال لي: (كاتب) يعني: اشتر نفسك من سيدك بالمكاتبة، وأمر المسلمين أن يعينوه، فكاتب على مال باهظ، على ثلاثين أوقية من الذهب، وعلى أن يغرس ثلاثمائة ودية، وأن يسقيها حتى تطلع، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعان وقال: (آذنوني عندما تريدون غرسها)، فصار يغرسها بيده صلوات الله وسلامه عليه، فخرجت كلها بإذن الله جل وعلا. فالمقصود أن هذه قصة فيها عبرة؛ ولهذا يقال: سلمان الفارسي ولا يعرف والده. قال الشارح رحمه الله في الحديث: [أخرجه الترمذي و ابن ماجة . قال الحسن : كان سلمان أميراً على ثلاثين ألفاً يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه ]. يعني: كان أميراً على الصحابة عندما كانوا يقاتلون في فتوح العراق، وكان هو أحد الأمراء، وكانت له عباءة يلبسها، بعضها يفترشه، وبعضها يتغطى به في الليل إذا احتاج إلى ذلك، فكانت فراشه ولحافه وهو أمير على ثلاثين ألفاً من الصحابة؛ لأن رغبتهم كانت في الآخرة لا في الدنيا، فبقوا على ما هم عليه رضوان الله عليهم حتى بعدما فتحوا الفتوحات ووجدوا الأموال والجواهر، فكانوا يأتون بها إلى الأمير؛ ولهذا لما جمعت الأموال إلى عمر رضي الله عنه قال لما رأها: والله إن قوماً أتوا بهذا لأمناء؛ لأنها أشياء يطمع الإنسان فيها، ولكن طمعهم فيما عند الله، ولا يطمعون في شيء من الدنيا. ولهذا أيديهم الله جل وعلا ونصرهم، وأنزل الرعب في قلوب أعدائهم، فأصبحوا كما يصفهم أعداؤهم: رهباناً بالليل، فرساناً(6/45)
بالنهار، إذا ركبوا خيلهم لا أحد يقوم أمامهم، وإذا جنهم الليل تجدهم ركعاً سجداً، هذه صفتهم. ......
إثبات صفة الكلام لله عز وجل
قال الشارح رحمه الله: [ قال أبو عبيد: توفي سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة، ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي . قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله) نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه، وأن الكلام صفة كمال له، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين، قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئاً فشيئاً، ولم يزل متصفاً به، هو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي و أحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال، والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضاً، وذلك في القرآن كثير ]. في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم) في نفي كلام الله مع هؤلاء إثبات لكلامه مع غيرهم، فالله جل وعلا وصف نفسه بأنه يتكلم، ولا شك أن الوحي والأمر والنهي كلام، فالله يوحي إلى ملائكته بأمره الذي يأمرهم به، ويوحي إلى رسله من البشر بواسطة جبريل عليه السلام، والذي يأتي به هو كلام الله إليهم، وكتبه التي أنزلها هي من كلامه، وكذلك سائر شرعه الذي يشرعه لعباده؛ لأنها كلها أمر ونهي، والأمر والنهي يكون بالكلام، والكلام صفة كمال، والله جل وعلا له الكمال المطلق، وكل كمال في المخلوق فالله هو الذي وهبه، وواهب الكمال أحق به جل وتقدس، وإنما جاءت الشبه ممن دخل في الإسلام مريداً إفساده، أما المسلمون فلم ينكر ذلك أحد منهم إلا من ضل عقله وفكره، فإن من ضل ينكر ما هو كثير الورود في كتاب الله، وما هو موروث عن رسل الله من كون(6/46)
الرب جل وعلا يتكلم. ومن أنكر كلام الله جل وعلا فهو في الواقع ينكر الرسالة، وينكر الشرع .. ينكر كونه سبحانه أرسل الرسل، وشرع الشرائع؛ لأن الرسل ترسل بالأمر والنهي، وإذا لم يكن الأمر والنهي من الله فمن أين يكون؟ إذاً: عطلوا الله جل وعلا عن كونه يأمر وينهى ويتكلم، فقد وصفوه بالنقص، وقد قال الله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، ومعلوم أن المبلغ لا يسمع كلام الله من الله وإنما يسمعه ممن يبلغه، والمقصود بكلام الله هنا القرآن، فإذا طلب كافر من المسلمين أن يطلع على شرعهم وجب عليهم أن يؤمنوه حتى يسمعوه كلام الله جل وعلا الذي تكلم به. والأدلة على هذا متكاثرة جداً، فالذي ينكر كلام الله يلزمه إنكار الرسالة، وإنكار الشرع، بل إنكار الكمال لله جل وعلا. والله جل وعلا توعد هؤلاء الثلاثة وغيرهم بأنه لا يكلمهم، فترك كلامهم من العذاب الذي توعدهم به جل وعلا، فيلزم من هذا أنه جل وعلا يكلم أولياءه من المؤمنين ويخاطبهم، وهم الذين اتبعوا شرعه وآمنوا بكلامه، والأدلة على هذا من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر. ......
إنكار الجهمية لصفة الكلام لله عز وجل(6/47)
لم يكن أحد من المسلمين ينكر شيئاً من صفات الله، حتى جاءت فرقة يقال لها: الجهمية، وأول من عرف بإنكار ذلك رجل مشبوه دخيل في الإسلام، يظن أنه من اليهود، وإن لم يكن من اليهود فهو تلميذ لهم تربى في أحضانهم، فأول من عرف عنه إنكار هذا رجل يقال له: الجعد بن درهم ، وأخذ عن أبان بن سمعان ، وأبان بن سمعان هذا أخذ عن يهودي ابن ساحر من سحرة اليهود، ولشناعة قوله وقبحه، لما أظهره نفرت النفوس والفطر عنه، وأنكره كل الناس، بل استعظموا ذلك، ورفعوا أمره إلى أحد قواد بني أمية في آخر دولتهم، وهو خالد بن عبد الله القسري ، فأخذه وقيده، وكان في عيد الأضحى، فجاء به مقيداً إلى المصلى، وقد جرت العادة أن القائد الذي يتولى قيادة الجيش لابد أن يستطيع أن يفصل الأمور ويقضي ويخطب ويصلي بالناس وإلا لا يصلح للقيادة، فلما حضرت صلاة العيد قام يخطب الناس، وفي آخر خطبته قال: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم ؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قوله علواً كبيراً، ثم نزل من على المنبر وقتله، فضحى به، فشكره الناس على ذلك، وأثنوا على صنيعه؛ لأن هذا ملحد خارج من دين الله وشرعه، مخالف للفطر والعقول. ثم بعد ذلك نبغ تلميذ له يقال له: الجهم بن صفوان ، ونشر فساده ثم أدرك وقتل، فهذه العقيدة الفاسدة جاءت من هؤلاء، ثم نمت الفتن وازدادت لمن يربيها وينميها قاصداً بها إفساد العقيدة، وقد علم من التاريخ أن الكفار لم يعجبهم الإسلام ولا عقائده، وما استطاعوا أن يواجهوا الإسلام بالقوة أو بالجيوش فأصبحوا مقهورين مهزومين مدحورين، من أجل ذلك ذهبوا إلى تأسيس المؤسسات التخريبية لإفساد العقيدة ومحاربتها من داخل المسلمين، فيدخل في المسلمين من ليس منهم؛ لأجل بث الفساد، وإفساد عقائدهم التي صاروا أقوياء بها، فدخل الكثير في دينهم تستراً وخفية وقصدهم الإفساد، وإلى الآن(6/48)
وهذه المؤسسات التخريبية تبث سمومها في أوساط المسلمين، ولكن أساليبهم وطرقهم تختلف حسب مقتضيات الحال. والواقع أن من المسلمين المغرر بهم من ينكر كلام الله جل وعلا، ومع ذلك فالأمر واضح وجلي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، والله جل وعلا أخبرنا أنه يحاسب عباده، وأنه سريع الحساب، فهو الذي يتولى حسابهم جل وعلا. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة المتفق عليه: (إن الله يأتي لفصل القضاء، وهم وقوف في الموقف، فيخاطبهم جل وعلا فيقول: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقولون: بلى يا رب!)، وما أظن أنه يخلو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مقطع من آيات الله جل وعلا وكتابه من إثبات أن الله يتكلم ويكلم ويخاطب ويفعل ما يريد جل وعلا، وهو فعال لما يريد، فكيف ينكر مثل هذا؟ وإذا أنكرت مثل هذا فمعنى ذلك أن تنكر عبادته وأنه هو المعبود الحق الواحد، وقد عاب الله جل وعلا على الذين عبدوا العجل والأصنام بأن هذه المعبودات لا تملك رد الخطاب إذا خاطبوها، فهذا دليل على أن المعبود الذي يجب أن تكون العبادة له يسمع من دعاه، ويخاطبه إذا شاء.
بطلان شبهة من نفوا صفة الكلام لله عز وجل(6/49)
قال الشارح رحمه الله: [ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قالوا لنا -يعني النفاة: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك، ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، كما قال ابن المبارك و أحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة]. ثم قال الشارح رحمه الله: [ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره، والله أعلم]. الأصل عند أهل السنة أن الله جل وعلا لا يوصف ولا يسمى إلا بما وصف به نفسه، أو سمى به نفسه، أو سماه أو وصفه به رسوله، ولا يجوز أن نقيسه بالمخلوقات؛ لأن الله جل وعلا غيب، لا أحد يشاهده أو ينظر إليه، وليس مثله شيء فيقاس به تعالى وتقدس. فعلى هذا يجب أن نقف مع النص الذي يأتينا عن ربنا جل وعلا، فإذا وصف ربنا نفسه بشيء وصفناه به، وإذا سمى نفسه بشيء سميناه به، وما عدا ذلك يجب أن يرد على صاحبه مهما كان، وكلمة الحوادث لم تأت في كتاب الله ولا في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يوصف بها الرب جل وعلا؛ ولهذا يقول: هو لفظ مجمل، ولكنهم يصطلحون ويقولون: الكلام والاستواء والنزول والمجيء، وما أشبه ذلك حوادث، ونحن نقول: إنها صفات وأفعال يفعلها الله جل وعلا إذا شاء، ولا يجوز أن نسميها حوادث, وإن سميتموها حوادث وقصدتم المعنى الصحيح، فالمعنى الصحيح يجب إثباته، واللفظ الباطل يجب رده، ويجب أن يعبر عن المعاني الثابتة لله جل وعلا بالعبارات التي جاءت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ولكن هؤلاء يسمون هذه الأفعال والصفات بأسماء يقصدون بها تنفير الناس عن قبولها والإيمان بها، وليس قصدهم إلا ذلك،(6/50)
ولهذا سموا صفات الله جل وعلا أعراضاً، وقد يسمونها أبعاضاً، فيقولون: يتعالى ربنا ويتقدس عن الأعراض والأبعاض، ومقصودهم بالأعراض: أنه لا يتصف بالسمع، ولا بالبصر، ولا بالعلم، ولا يتصف بالإرادة، ولا بالمحبة، ولا بالرضا، ولا بالبغض، ولا بالغضب، ولا بغير ذلك مما وصف نفسه به. ومرادهم بالأبعاض: أنه ليس له يد، وليس له عين، وليس له وجه، وما أشبه ذلك من الأوصاف التي وصف بها نفسه، والذي يعرف مذهبهم يعرف ذلك، أما الجاهل الذي لا يعرف مذهبهم ومرادهم فيغتر بكلامهم ويتصور أنهم يريدون التنزيه، وهم يريدون الكفر والتنقص. ثم إن هناك شبهاً يثيرونها في أوجه ضعاف المسلمين، أو ضعاف طلبة العلم، فيقولون مثلاً: قد اتفق العقلاء على أن الحوادث لا تحل إلا بحادث، ومن اتصلت به الحوادث يكون حادثاً، والله جل وعلا هو الأول بلا بداية، كما أنه الآخر بلا نهاية، وما سوى الرب جل وعلا هو المحدث المبتدع بعد أن لم يكن، فمثلاً يقولون عن صفة الكلام التي أنكروها: أنكرنا هذه الصفة لأنها تدل على الحدوث، وإذا قلنا لهم: ما هو الحدوث الذي تدل عليه هذه الصفة؟ قالوا: في قولك: بسم الله الرحمن الرحيم، الباء تكون قبل السين، والسين قبل الميم، وهكذا الحروف كلها متعاقبة بمعنى: أنه يأتي واحد بعد الآخر، فالباء تسبق السين بالزمن والنطق، والسين تسبق الميم بالزمن والنطق، فهذه حوادث. إذاً نقول لهم: ما هو الكلام المعقول الذي يثبت لله عندكم؟ قالوا: أن تختلط حروفه وتجتمع أولها وآخرها، ثم تأتي دفعة واحدة، هذا هو الكلام؟! هذا لا يمكن أن يكون كلاماً، ولا يسمع ولا يعقل، ولا يعرفه ولا يفهمه المخاطب. ثم يقولون: التعاقب يقتضي النقص، أي نقص يقتضيه التعاقب؟ بل كونه يأتي على الوجه الذي يريده، والوجه الذي يفهمه ويعقله المخاطب فإنه يقتضي الكمال، قالوا: نحن لا نعقل كلاماً إلا ما كان بلسان وشفتين ولهوات وحنجرة وحبال الصوت، لا نعقل الكلام إلا بهذا، يقال(6/51)
لهم: هذا كلامكم الذي تعقلونه أنتم. فهذا دليل على أنكم تشبهون الله جل وعلا بأنفسكم، فأردتم أن يكون كلامه ككلامكم الذي تتعارفون عليه، والله أكبر وأعظم من ذلك، فيجب أن يمحى هذا التشبيه من النفس، ومعلوم أن الله لا يشبهه أحد في ذاته سبحانه، فإذا كان كذلك -وهم لا يخالفون في هذا؛ ولا يمكنهم المخالفة- فيقال لهم إذاً: الصفة تتبع الموصوف، فإذا كانت ذاته جل وعلا لا تشبه الذوات، نقول: كذلك كلامه لا يشبه كلام الخلق، وسائر صفاته لا تشبه صفات الخلق. ثم يقال لهم: قد عقل المؤمنون الذي آمنوا بالله وبرسله أن الكلام لا يحتاج إلى ما ذكرتموه، فلا يحتاج إلى لسان ولا إلى لهوات ولا إلى شفتين، ولا إلى حنجرة، ولا إلى حبال صوتية، فقد أخبرنا الثقات الذين نقلوا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم النقل المتواتر: أن الحصى كان يسبح بين يديه، ويسمعون تسبيحه، وأن الطعام كان يسبح وهو يأكله مع أصحابه، فهل الطعام له فم أو لهوات أو حناجر أو شفاه؟ هل يستطيعون أن يثبتوا هذا ؟! لا. أبداً. وقد جاء بالنقل المتواتر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب على جذع نخلة يابس يتكئ عليه -وكان مسجده صلوات الله وسلامه عليه أعمدته من جذوع النخل، وكان سقفه جريد النخل، وإذا هطل المطر يخر من سقفه الماء، وربما سجد في الماء والطين وهو يصلي صلوات الله وسلامه عليه -ثم بعد ذلك أمر غلاماً نجاراً من الأنصار أن يصنع له منبراً، فصنع له منبراً من أعواد الطرفاء- طرفاء الغابة -فجيء به ونصب في المسجد، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على هذا المنبر صار ذلك الجذع الهامد يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى سمع أهل المسجد كلهم حنينه، وبقي يحن حتى نزل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واحتضنه، فهدأ كما يهدأ الطفل الذي يبكي إذا أخذته أمه، فهل هذا الجذع له لسان وفم وشفاه؟! وكذلك يخبرنا ربنا جل وعلا عن الأشقياء بقوله: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا(6/52)
أي: جاءوا إلى جهنم، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ [فصلت:20-22] يعني: ما كنتم تفعلون التقوى التي تمنعكم من هذا، وكذلك يقول جل وعلا: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65] الأيدي تتكلم، والأرجل تتكلم، ويقول الله جل وعلا: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:1-4] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحديثها بأخبارها أنها تشهد بما صنع عليها) أي: أن المكان نفسه يشهد على هذا الإنسان فيقول فعل عليّ كذا يوم كذا في وقت كذا وكذا، هذه أخبارها التي تحدثها، وذلك بأن ربك أوحى لها. ويقول جل وعلا في قصة داود أنه سخر الطير والجبال تسبح معه، ويقول جل وعلا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] ويخبر جل وعلا أن الشجر يسجد، وأن النجوم تسجد، وأن الشمس والقمر يسجدان، وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس وقال لأبي ذر : (أتدري أين تذهب؟ فقال: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب حتى تكون عند العرش، فتسجد وتستأذن في المضي، فيوشك أن لا يؤذن لها، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت فترجع وتطلع من المغرب، عند ذلك إذا شاهدها الناس آمنوا كلهم) ولكن لا ينفعهم إيمان. وهناك أشياء كثيرة لا حصر(6/53)
لها تتكلم وتنطق، وتسبح وتخضع وليس لها ألسن ولا أرجل، ولكن نحن لا نعقل كلامها. إذا ثبت هذا في المخلوق فكيف يتصور أن كلام الرب جل وعلا ككلام المخلوق؟! فيجب أن ينزه الله عن ذلك، ويجب أن يكون له الكمال المطلق، والأدلة على هذا أكثر من تحصر، ولكن تكفي الإشارة.
الكلام على حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله...)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم) لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات] وقد تقدم ذكر هؤلاء الثلاثة وهم: رجل جعل الله بضاعته، لا يشتري ولا يبيع إلا بالحلف، والله لا أبيعه إلا بكذا، والله لا أشتري إلا بكذا.. والله إني اشتريته بكذا.. ولا أبيعه إلا بكذا.. وما أشبه ذلك، فجعل الله بضاعته. الثاني: أشيمط زان، والأشيمط هو: من اختلط بياض شعره بسواده، يعني: أنه كبر وليس عنده قوة الشباب التي قد تدعوه إلى فعل الفاحشة والباطل، وقد تعمي بصيرته، فيعمى حتى يقع في المنكر، فإذا وقع في المنكر أفاق، أما هذا الأشيمط الزاني فإن فعله يدل على أن حب الزنا متأصل في نفسه فاستحق هذا العقاب. الثالث: عائل مستكبر، والعائل: هو الفقير؛ ومن المعروف أن الذي يدعو إلى الكبر هو الغنى وتبوء المناصب العالية، كما قال الله جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] أما الفقير فلا يوجد عنده شيء يدعوه إلى الكبر، فإذا تكبر دل هذا على أن الكبر أصيل في نفسه، فاستحق هذا العقاب. هؤلاء هم الثلاثة: رجل كبير اختلط شيبه بسواده، فأقدم على جريمة الزنا، وآخر صارت الدنيا هي المقدمة عنده، فأصبح لا يبالي بالحلف بالله، وليس لله عنده وقار، فلا يعظمه ولا يوقره، فيحلف على أمر تافه من أمور الدنيا، حتى يتحصل له عشرة ريالات أو خمسة أو أكثر أو أقل ، ولا يبالي، والثالث: فقير متكبر. ......
المنفق سلعته بالأيمان الكاذبة(6/54)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أشيمط زان) صغره تحقيراً له؛ وذلك لأن داعي المعصية ضعيف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا هو محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله، وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب، فإن قوة داعي الشهوة منه قد يغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع. وكذا العائل المستكبر ليس له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة، والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته، لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي. قوله: (ورجل جعل الله بضاعته) بنصب الاسم الشريف، أي: الحلف به، جعله بضاعته، لملازمته له وغلبته عليه، وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحداً فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة، بحسب ما قام بقلبه، وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه]. وهذا محل الشاهد من الحديث في هذا الباب، وهو الذي جعل الله بضاعته، لا يشتري ولا يبيع إلا بالحلف رغبة في تحصيل الربح الدنيوي، وعدم تعظيم الله جل وعلا وتقديره، وقد أمرنا الله جل وعلا بحفظ أيماننا فقال: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] وتقدم أن معنى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ إما أن يكون: لا تحلفوا، أو يكون المعنى: لا تتركوها بلا تكفير إذا حلفتم بالله، ولكن المؤلف أراد المعنى الأول: لا تحلفوا؛ لأن كثير الحلف لابد أن يقع في المخالفة. ومعلوم أن الحلف المقصود به أن يؤكد الخبر بذكر المعظم الذي إذا ذكر عند الخبر يقدر على عقاب هذا الحالف إذا كان كاذباً، هذا هو القصد من الحلف، فإذا حلف الإنسان فالمعنى أنه يقول: أنا أحلف بالله(6/55)
وهو القادر على عقابي إن كنت كاذباً. ولهذا السبب منع شرعاً الحلف بغير الله جل وعلا، وصار الحلف بغير الله شركاً؛ لأنه لا يوجد أحد من الخلق يقدر على معرفة ما في ضمير هذا الإنسان، ومعرفة مخالفته، ويقدر على عقابه أو إثابته، فإذا كان صادقاً يثاب، وإذا كان مخالفاً يعاقب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). ومعلوم أن الكفر أعم من الشرك، وأن الشرك أخص من الكفر؛ ولهذا قال: (فقد كفر أو أشرك) فلهذا يتعين على العبد الذي يهتم بنفسه أن يجتنب كثرة الحلف، وإذا حلف على أمر من الأمور يريد المنع من فعل هذا الشيء أو يريد الحض على فعله، هذا في غير البيع والشراء، أما البيع والشراء فقد جاء هذا الحديث خاصاً بهما، فلا ينبغي أن يكون الحلف في البيع والشراء. والبائع يجب أن يكون صادقاً فيما يقول، ويجب أن يكون مبيناً لسلعته إن كان فيها عيب، وإذا سئل صدق، ويبتعد عن الحلف، ورزقه الذي أراده الله له سوف يأتيه حلف أو لم يحلف، ولكن بعض الناس لسوء فعله وسلوكه يكون رزقه عن طريق محرم، وعن طريق سيئ؛ لأنه لم يتبع ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. وغالباً أن الذي يحلف عند البيع والشراء يكون كاذباً، ولا يلزم أن يكون الحالف كاذباً على الإطلاق، فإنه يوجد من يحلف وهو صادق ولكنه مخطئ في حلفه؛ لأن هذا ليس موضع الحلف، فالحلف له مواضع، وهذا الذي يحلف على البيع والشراء يدل على شدة رغبته في الكسب، وفي تحصيل الرزق، والمسلم يجب عليه أن يرغب في الآخرة أكثر من رغبته في الدنيا، أما الدنيا فهي تبع، إن جاءت بالطريق الشرعي وإلا فلا يطلبها عن طريق محرم، وهذا مسلك المسلم الذي يجب أن يسلكه. المقصود: أن الذي يحلف على البيع والشراء غالباً ما يقع في الكذب، ويكون في الجملة واقعاً في الإثم؛ لأنه لا يجوز الحلف في البيع والشراء، وعليه أن يقول: أنا لا أحلف، إن شئت صدقتني وإلا ذهبت إلى غيري، وهذا لا يختص بإنسان(6/56)
واحد، لماذا يحلف بالله عز وجل على أمور تافهة؟ والله جل وعلا يقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] ومن حفظها أن لا تبتذل في الأمور التافهة مثل هذه المسألة.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [130]
الكلام صفة ذاتية لله سبحانه، لا يشبهه فيها أحد من خلقه، دل على ذلك كتابه الحكيم وسنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك الصحابة الكرام العدول الأمناء، ثم من بعدهم من القرون الفاضلة من سلف هذه الأمة. والله جل وعلا يكلم عباده الصالحين يوم القيامة كلام رحمة، ويكلم العصاة كلام عذاب وخزي، ويعرض عن أقوام فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم، ومن هذا الصنف: من يكثر من الحلف والأيمان دون توقير لجناب الله سبحانه وتعالى.
حديث: (خير القرون قرني...)
......
القرون الثلاثة الأولى مفضلة تفضيلاً مطلقاً(6/57)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)]. هذا حديث من الأحاديث التي بلغت حد التواتر وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني) وهذا ليس في الأمة فقط، بل هو تفضيل مطلق. قوله: (ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) يقول عمران بن حصين راوي الحديث: فما أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً، أي أنه قال: ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مرتين أو قال ثلاث مرات: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد جاء في حديث ابن مسعود أنه ذكر بعد قرنه ثلاث مرات، وفي أكثر الروايات أنه لم يذكر ( ثم الذين يلونهم ) بعد قرنه إلا مرتين فقط، وهذا الذي يشهد له الواقع. وهذا صريح وظاهر في أن خير هذه الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يعتقده المسلمون الذين سلموا من الانحراف والضلال، فالذين شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الإيمان منه، وقاتلوا معه وصلوا معه وامتثلوا لأوامر الله لا يمكن أن يكون من يأتي بعدهم مثلهم، هذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها. وقد أثنى الله عليهم في كتابه في آيات كثيرة وأخبر أنه راض عنهم والله جل وعلا لا يثني على من يعلم أنه سيكون مرتداً؛ لأنه علام الغيوب. وكذلك لا يمكن أن يكون أحد مثل الرسول في الدعوة والتأثير، والتعليم والبلاغ، فلو قلنا مثلاً: إن الصحابة ليسوا أفضل ممن أتى بعدهم، أو أنهم تركوا دينهم وارتدوا، للزم أن نقول: إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فاشلة وليست ناجحة، وهذا معناه: أن قرنه شر القرون، فينعكس قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني). وقد اختلف العلماء في تحديد(6/58)
القرن، والمشهور أن القرن يقدر بمائة سنة، ولكن الذي رجحه كثير من العلماء أن القرن لا يلزم أن يكون مائة سنة، فقد يكون أكثر وقد يكون أقل، والذين قالوا: مائة سنة، قالوا: إن الصحابة منهم من بقي مائة سنة ثم مات، وهذا هو الذي سار عليه الناس، ولهذا يجعلون كل مائة سنة قرناً، ويقولون: نحن الآن في القرن الخامس عشر؛ لأنه مضى على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة سنة وزيادة، هذا الذي توارثه الناس، ويكاد يكون إجماعاً منهم. فإذاً: يكون المقصود بالذين يلونهم الذين بعدهم في المائة الثانية، والذين يلونهم في المائة الثالثة، ثم بعد ذلك يحدث ما ذكر، وهو أن يأتي قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويكثر فيهم السمن، ومعنى يخونون: تكثر فيهم الخيانة، وتقل أمانتهم، ويقدمون على الشهادة ولو لم تطلب منهم، وهذا هو معنى قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) ومعنى هذا أن الديانة والأمانة والتقوى خفت عندهم بسبب قلة مخافتهم لله، وكثرت لديهم الرغبة في الدنيا وكثرت المخالفات والمعاصي وسهلت لديهم.
فضل الصحابة في القرآن والسنة(6/59)
وقوله: (يكثر فيهم السمن) يعني: يصبحون سماناً، وهذا يدل على رغبتهم في الشهوات، وطلبهم إياها، وأنهم يطلبونها بما يستطيعون، وليس عندهم الخوف من النار الذي يمنعهم من السمن، كما منع الذين من قبلهم من الصحابة وغيرهم، الذين كان يقول أحدهم: منعني الخوف من النار النوم، ولم يكونوا يتعجلون طيباتهم في الدنيا، بل يرجون الآخرة، ويرغبون فيها أكثر من رغبتهم في الدنيا، وقوله: (خير القرون قرني) هذا نص صريح في تفضيل القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة، ولا يلزم أن يكون كل من في هذا القرن أفضل ممن يأتي بعدهم، فقد يكون في هذا القرن من لا يستحق الفضل؛ ولكن الصحابة خصوا بالفضل، وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حدث شجار بين بعض من تأخر إسلامه من الصحابة ومن تقدم إسلامه قال لهم: (لا تسبوا أصحابي فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) الخطاب هذا يوجه لبعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم، فأسلموا بعد الفتح فقال لهم: (لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فكيف بمن يأتي بعد الصحابة؟ فلا يقاس بهم أبداً ولا يكون قريباً منهم. وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من بغضهم، وقال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن أحبهم فبحبي أحبهم) والله جل وعلا يقول: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]يعني: يغيظ بأفعالهم الكفار، ولهذا يقول(6/60)
الإمام مالك رحمه الله: من أغاظه فعل الصحابة فليس بمؤمن، وليس له من الغنيمة نصيب، لقوله جل وعلا: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وكذلك أثنى جل وعلا على المهاجرين لما ذكر الفيء وذكر الغنائم قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فوصفهم بأنهم فقراء وأنهم مهاجرون: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] ثم بعد ذلك جاء دور الأنصار فأثنى عليهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] ثم أثنى على الذين يأتون من بعدهم ويدعون لهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] هؤلاء هم الذين يثني الله جل وعلا عليهم، ويحبون من سبقهم بالإيمان، ويدعون لهم بالمغفرة، ويدعون ألا يكون في قلوبهم غلاً وبغضاً لهم. وأخبر الله جل وعلا في آيات كثيرة جداً عن هذه المعاني، فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم مباشرة، ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم، ثم بعد ذلك لا يتوقف الخير، بل هو كثير ولكن يغلب الشر في هذه الأمة، بخلاف القرون المفضلة الثلاثة فإن الخير أغلب، والجهاد ظاهر وقائم، والعدو مقهور ومدحور، ومن رفع رأسه من الأشرار قمع، هذا معنى الخير في القرون السابقة. وأما ما بعدهم من القرون فقد صار الشر له(6/61)
قوة وسلطان وأنصار وأعوان، يظهرون ويتسلمون زمام الأمور، وقد يكون لهم حكم، وقد يزيد حكمهم ويغلب وقد ينقص، هذا هو المقصود، ولا يقال: إنه بعد القرون الثلاثة انعدم الخير وانتهى، بل قد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يعني: حتى تقوم الساعة وهم على هذا والطائفة تصدق على ثلاثة، وتصدق على رجل واحد، كما أن لفظ (الأمة) يصدق على رجل واحد، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ [النحل:120] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن معاذ بن جبل أمة قانتاً لله) فلما قال له: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ [النحل:120] قال: كنا نشبه معاذ بن جبل بإبراهيم، والمقصود أن الأمة تطلق على الرجل الواحد. فإذاً: قوله: (طائفة من أمتي) يصدق على جماعة سواءً كانوا ثلاثة أو عشرة أو مائة أو ألفاً. يقول العلماء: هذه الطائفة قد تكثر وتقوى، ويكون لها سلطان وقوة وشوكة تحارب العدو، وقد تضعف وتكون متفرقة في بلاد شتى، بين داع إلى الله، وبين عالم يظهر بالحجج، ويبطل الباطل، وبين منفق في سبيل الله، وبين مجاهد في سبيل الله، وما أشبه ذلك، ولا يلزم أن يكونوا على طريقة واحدة، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، ولا يلزم أن يكونوا في بلد معين، بل قد يكونون في وقت من الأوقات في هذا البلد، وفي وقت آخر في بلد آخر، وهكذا. المقصود: أنه لابد أن تبقى هذه الطائفة في هذه الأمة على الحق، ولهذا يقول العلماء: إن الإجماع حجة قاطعة لهذا الحديث وما أشبهه؛ لأن الطائفة المنصورة على الحق تكون بهذا الإجماع.
حقيقة الخيرية المذكورة للقرون الثلاثة(6/62)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وفي الصحيح) أي: صحيح مسلم ، وأخرجه أبو داود و الترمذي ، ورواه البخاري بلفظ: (خيركم) قوله: (خير أمتي قرني) لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيه وكثر أهله، وقل الشر فيه وأهله، واعتز فيه الإسلام والإيمان، وكثر فيه العلم والعلماء. (ثم الذين يلونهم) فضلوا على من بعدهم: لظهور الإسلام فيهم، وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل؛ كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة. فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب. قوله: (فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟) هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر، والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء. فقال: (ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون) لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم. قوله: (ويخونون ولا يؤتمنون) يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم، أو أكثرهم. قوله: (وينذرون ولا يوفون) أي: لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وعدم إيمانهم. قوله: (ويظهر فيهم السمن) لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة، والعمل لها. وفي حديث أنس: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم، ويتصدر للتعليم والتصنيف. قلت: بل قد دعوا(6/63)
إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظماً ونثراً فنعوذ بالله من موجبات غضبه]. الشاهد للباب من هذا الحديث قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون). قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)]. قوله: (فيه) يعني: في الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا فيه الإطلاق بأن الصحابة خير الناس، يعني: إذا كانوا خير الناس فلابد أن يخرج من ذلك الأنبياء والرسل، فهم أفضل الناس، لكن هل الناس المقصود بهم مطلقاً، أو الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ جاءت النصوص تدل على أن المقصود أنهم خير الناس مطلقاً، وأما الرسل فهم يخرجون من هذا بالنصوص الأخرى، وقد جاءت أحاديث في فضل القرن الأول منها: قوله: (أنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأفضلها)، ولا شك أن الخيرية لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى، وبهم أجدى، إذ هم الذين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا نزول الوحي، وجاهدوا معه، وكذلك بلغوا دعوته بعده. والخيرية تنحصر في قبول الدين واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه وجد من يقبل دينه ومن يناصره عليه، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد لقوا العنت والمشاق، والأمور الصعبة التي تحملوها في سبيل ذلك، وصارت عندهم سهلة ميسورة في سبيل طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتفانوا في ذلك وأنفقوا أموالهم وبذلوا نفوسهم طاعة لله مغتبطين بذلك، وبذلك صاروا هم خير الناس، ثم الخيرية فيمن بعدهم تتفاوت لتفاوت القبول لهذا الدين، والتأثر به، والقيام به على حسب أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم،(6/64)
وكلما بعد بالناس العهد بالنبوة قل التأثر، وقل التقى واتباع الحق، إلى أن يكون شرار الناس هم من تقوم عليهم الساعة، كما جاء في صحيح مسلم : (شرار الخلق الذين يتخذون القبور مساجد، ومن تقوم عليهم الساعة) وفي الصحيح عن أنس (ما يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم يقول: سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الخيرية ليست في الذوات والأجساب، والتفاخر في الدنيا، والتكاثر فيها بالأموال والأولاد، وإنما الخيرية في طاعة الله وحبه ومعرفته، وهذا أمر لا يجادل فيه من يعرف الحق، ولا شك أن الصحابة أولى الناس بذلك، إذ هم الذين فهموا الوحي وقبلوه على الوجه الذي ينبغي، ثم إنهم قاموا ببذل أموالهم وأنفسهم في الذب عن دين الله، وبذل الطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، مغتبطين بهذا راغبين فيه، فاستحقوا بذلك أن يكونوا خير الناس. والصحابي يطلق على كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عهده رآه خلق كثير جداً وهم مؤمنون به، وذلك في حجة الوداع، وإن كانت مرة واحدة فهو يصدق عليهم اسم الصحابي.
ذكر ما حصل للناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم(6/65)
ثم لما توفي صلوات الله وسلامه عليه حصل الارتداد لكثير من الناس، ولم يثبت على الدين الإسلامي إلا عدد قليل في مكة والطائف والمدينة وكذلك البحرين، أما بقية المدن فكلهم ارتدوا، وعلى هذا يحمل الحديث الذي جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم وهو على حوضه يوم القيامة: (ليردن عليَّ الحوض رجال من أمتي أعرفهم بسيماهم) -لأنه أخبر أنه يذود عن حوضه من ليس من أمته- قالوا: كيف تعرفهم؟ قال: (يردون عليَّ غراً محجلين من آثار الوضوء)، وهذا من خصائص هذه الأمة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فيحال بيني وبينهم فأقول أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين، فأقول: سحقاً سحقاً) وفي رواية: (فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) فهؤلاء هم الذين ضعف إيمانهم، وقد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته مرة، ولكن إيمانهم لم يثبت. أما الذين صحبوه وشاهدوا نزول الوحي، وجاهدوا معه، فهؤلاء قد برأهم الله جل وعلا من ذلك، وطهرهم وأثنى عليهم الثناء الحسن الجميل، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه في آيات كثيرة، ولا يثنى الله جل وعلا على من يعلم أنه سيرتد لأنه علام الغيوب.
حال الصحابة مع أهل الردة(6/66)
ثم بعد ذلك قام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه فجاهد الذين ارتدوا حتى رجعوا للإسلام. وقد كانت أسباب ردتهم مختلفة، فمنهم من منع الزكاة معللاً ذلك بأنه كالجزية التي تؤخذ من الكفار. ومنهم من قال: أخرجها أنا لمن أريد ولا أدفعها إلى خليفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معللاً ذلك بأنه لو كان نبياً ما مات، وهؤلاء الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم. ولم يفرق الصحابة بين هؤلاء، بل قاتلوهم جميعاً، بل لما تردد بعضهم في قتالهم وقالوا: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله)فقال لهم أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. والعقال حبل تعقل به الإبل، فلو منعوه وكانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، ثم كشف لهم عن وجه الحق والصواب فقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها)؟ يعني: بحق لا إله إلا الله وأن الزكاة من حقها، فأجمعوا على قتالهم، فقاتلوهم حتى استتب الأمر وعادت الجزيرة كلها إلى حظيرة الإسلام، ولم يقبض أبو بكر إلا وجزيرة العرب كلها مذعنة منقادة للإسلام وكانت خلافته قرابة سنتين وأشهر. ثم بعد ذلك امتثلوا أمر ربهم الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الله جل وعلا بقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] فبدءوا بقتال الكفار الذين يلونهم، وهم الفرس والروم، فبدأت الفتوحات في آخر عهد أبي بكر ، ثم توفاه الله جل وعلا وقام بالأمر بعده إخوانه بقيادة خيرهم وأفضلهم عمر رضي الله عنه. فهؤلاء هم الواسطة الذين بلغونا دين ربنا، الدين الذي جاء به(6/67)
النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا إلينا القرآن، ومعاني القرآن، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وأقواله بالتواتر. والدين لم ينقله رجل واحد أو رجلان أو عشرة، فلو نقله رجل واحد لكان غير مأمون وغير موثوق به، وإنما نقله جميع الصحابة إلى من بعدهم، ثم الذين بعدهم نقلوه إلى من بعدهم، وهكذا إلى اليوم. ولهذا لا يمكن أن يقول أحد: إن الصلوات المفروضة ست صلوات أو يقول: صلاة المغرب أربع ركعات وليست بثلاث، أو يقول: إنها ركعتان، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا أمر نقل إلينا بالتواتر، ولم ينقله شخص واحد فيقال: ربما أنه أخطأ أو نسي أو وهم، بل نقلته أمة بأكملها، فهم الذين نقلوا إلينا ديننا، فالذي يطعن فيهم فهو إنما يطعن في الدين الإسلامي، والله جل وعلا أخبر أنه رضي عنهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم خير الناس. فإذا كانوا خير الناس فمن المحال أن يكون أكثرهم أو جلهم ارتد عن الدين الإسلامي، أو أنه منافق كان يظهر خلاف ما يبطن، هذا من المحال. ثم إن أفعالهم وقيامهم بالأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم تدل غاية الدلالة على أنهم خير الناس. ولهذا نقول: يجب على المسلم أن يطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه؛ لأن هذا مما يثبت الدين ويقويه، ويزيل الشبه التي قد يلقيها بعض الأعداء. قوله: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم) كلمة (ثم) تدل على أن الذين أتوا بعدهم أقل منهم خيرية. وكذلك القرن الذي يلي قرن الصحابة أقل من الذين قبلهم خيرية، وهكذا، ثم تنتهي الشهادة للقرون بالخيرية. وفي هذا الحديث أن القرون أربعة، قرن الصحابة الذين فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وثلاثة بعده، ولكن أكثر الروايات الصحيحة الثابتة أنها ثلاثة قرون، والقرن الرابع لم يثبت لا في صحيح مسلم ولا في صحيح البخاري، ولهذا فالراجح أن الثلاثة قرون هي التي ثبتت، وهي قرن الصحابة، وقرنان بعده، ويشهد(6/68)
لهذا الواقع، فإن ظهور البدع وكثرة الخلافات والانحراف الجماعي لكثير من الناس، وغلبة الشر على الخير، حدثت بعد القرون المفضلة. فالخير في القرون المفضلة أكثر من غيرها، وقرن الصحابة هو خير القرون المفضلة، والخيرية فيه لجميع الناس، ولا يزال الخير موجوداً فيمن بعدهم ولكنه قليل.
حال القوم الذي يأتون بعد القرون الثلاثة
ثم وضح هذا وبينه بقوله: (ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا سببه ضعف تقوى الله عندهم، وضعف الوازع الديني، فيصبح أحدهم لا يبالي بالشهادة ولا باليمين، فيشهد وإن كانت الشهادة غير متيقنة، وغير معلومة، وكذلك يحلف وإن كان آثماً حانثاً، فمعنى: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) أنهم يبذلون الشهادة عند أدنى طلب، وكذلك اليمين فليس عندهم من الدين ما يمنعهم من بذله، بل الدين خف عندهم وضعف، بخلاف من يحفظ يمينه، ويوقر ربه، ويقدره حق قدره، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه، فإنه لا يكون بهذه المثابة. وكذلك في الرواية الأخرى أنهم يخونون ولا يؤتمنون، وهي بمعنى كونهم تكثر فيهم الشهادة وإن كانت زوراً، واليمين وإن كان كذباً، فهذا من الخيانة، وعدم الائتمان، فإذا لم يؤتمن الإنسان على دينه فهو لغيره أخون، فيكون معنى هذه الرواية والتي قبلها واحد. قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)]. قال الشارح رحمه الله: [وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء لقلة خوفه من الله، وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر. والله المستعان]. قوله: (تحملاً وأداءً) يعني: المسلم يجب عليه إذا شهد على الشيء أن يحمل الشهادة، وإذا طلبت منه أن يؤديها على الوجه الشرعي، وأن يقول الحق وإن كان على(6/69)
نفسه، وإن كان المقول عليه قريباً منه. أما التحمل فهو واجب، إذا حمل الشهادة وجب أن يحملها، يعني: إذا قيل له: اشهد، فإنه يشهد بالشيء الذي شاهد ورأى، وأداء الشهادة واجب إذا طلبت منه، وإن كتمها فهو آثم قلبه كما قال الله جل وعلا، ومعنى ذلك: أنهم مرتكبون جرماً عظيماً؛ لأنه حق جحد، وباطل ظهر، واستولي على الحق بسبب كتمان الشهادة، فيكون الذي كتم الشهادة قد ارتكب إثماً عظيماً بالنسبة للذي أكل الباطل، وبالنسبة للذي أخذ حقه، فتكون أوزارهم عليه. فالمقصود أن تحمل الشهادة وأداءها من الفروض على كل من شاهد شيئاً، فيجب عليه أن يؤديه إذا طلب منه كما شاهده وكما سمعه، ويجب عليه أن يقول الحق، وإن كان المقول عليه ذا قربى، وإن كان على نفسه. أما إذا صار يؤثر قرابته وأصدقاءه فمعنى ذلك أنه جعل دينه عرضة لأمر الدنيا، وهذا الصنف لم يكن موجوداً في القرون المفضلة، ولكنه جاء بعدهم، وأصبح يزداد حتى أصبح الناس يشهدون بالأجرة، فإذا بذل له شيء من المال شهد كذباً وزوراً، وهذه الشهادة قد جاء أنها تعدل الشرك بالله جل وعلا، وقد حذرنا الله جل وعلا منها، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن فاعل ذلك قد استحق غضب الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله: [فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف، فكن من الناس على حذر]. والمقصود بصدر الإسلام: القرن الرابع والخامس، هذا الذي يقصده، وأنه قد وقع فيهم أن شهادة أحدهم تسبق يمينه، ويمينه شهادته، فكيف فيمن بعدهم من القرون المتأخرة التي يكون الناس فيها أقل ديانة، وأقل وازعاً يزعهم ويمنعهم من ارتكاب المحرمات؟! لأنه كلما ابتعد عهد الناس عن عهد النبوة يخف إيمانهم بلا شك؛ لأن الذي يؤثر في الإيمان هو رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
تربية السلف لأبنائهم على تعظيم شعائر الدين(6/70)
قال المصنف رحمه الله: [وقال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد، ونحن صغار]. إبراهيم هو إبراهيم النخعي وهو من التابعين، يعني: في القرن الثاني الذي يلي قرن الصحابة، فكانوا في هذا القرن يضربون الصبيان إذا شهد أحدهم بالشهادة التي ليست على الوجه المطلوب، ومعلوم أن الصبي غير مكلف، ولكن يؤدبونهم ويدربونهم على الحق من الصغر، حتى يخرجوا وقد رسخ في قلوبهم بغض الباطل وكراهيته، وحب الحق وإيثاره، هذا المقصود وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) وأجمع العلماء على أن ابن عشر لا تجب عليه الصلاة، ومع ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب عليها إذا تركها، فالأدب هو الذي يجعله يلتزم، أما الأمر والتدريب فيبدأ بابن سبع، تأمره وتدربه على الصلاة حتى تغرس حبها في قلبه، فيصير آلفاً لها، بخلاف ما إذا ترك يسرح ويمرح كيف يشاء، فإنه إذا بلغ وهو متروك عن التأديب بالصلاة وتعليمه عليها يصعب عليه الالتزام بعد ذلك. وكذلك هنا: يؤدبونهم من الصغر على حب الخير، وكراهية المكروه، والابتعاد عنه، وهذا واجب ولي الأمر لمن تحت يده، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها، والإمام راع ومسئول عن رعيته) كل إنسان له مسئولية يسأل عنها يوم القيامة، فيجب أن يقوم بها حسب الأمر الشرعي، فالقرون المفضلة كانوا يهتمون بهذا الأمر كثيراً، فكانوا يضربون الصبيان على العهد أو الشهادة التي لا يكون لها أثر، إذ إن شهادة الصبي وحلفه ليس له أثر وغير مؤاخذ بها، ومع ذلك يؤدبونهم على هذا الشيء، حتى يشبوا وهم يألفون الحق ويبتعدون عن الباطل. ......
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(6/71)
قال الشارح رحمه الله: [وذلك لكثرة علم التابعين، وقوة إيمانهم، ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به، وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم]. يعني: أن الأمر بالمعروف يكون من أفضل الجهاد، والجهاد المقصود به بذل الجهد في طاعة الله وفي أن يطيع الناس ربهم، ويتابعوا دينهم، هذا هو الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا الباب، فيأمر الإنسان بالخير وبالإسلام وبالحق وبالهدى ويبذله للناس ويرشدهم إليه، وينهى عن ضد ذلك، ويبين لهم بالطرق المناسبة والأساليب اللائقة التي يمكن أن تقبل وأن تؤثر، فهذا من أفضل الجهاد، وقد عده بعض العلماء من أركان الإسلام، فجعلوا أركان الإسلام ستة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) فبين أن هذا أمر واجب متعين على كل واحد، وهذا مأخوذ من قوله: (من رأى منكم منكراً) و(من) هذه للعموم والشمول، وكذلك الأحاديث الأخرى التي بينت هذا. فلا شك في وجوب الأمر بالمعروف على الأمة الأسلامية ولكن هذا من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن البقية، وإلا أثم الجميع، وهذا في الأمور الظاهرة التي ترى وتشاهد، أما الأمور الخفية فيلزم إنكارها على من علمها، والأمور التي تكون في البيوت المسئول عنها قيم البيت، وهو الذي يسأل يوم القيامة، ولهذا جاء في الحديث: (أن الإنسان يتعلق بالآخر يوم القيامة، ويقول: يا رب! خذ بحقي من هذا، فيقول المتعلق به:(6/72)
يا رب! والله ما ظلمته، لا في مال، ولا في عرض، فيقول المتعلق: صدق ولكنه رآني على منكر فلم ينهني، فخذ لي بحقي منه) فالواجب على المسلم أن يسقط الواجب عنه اليوم قبل أن يسأله الله جل وعلا يوم القيامة، فيؤخذ من حسناته أو يؤخذ من سيئات غيره فتوضع عليه، ثم بعد ذلك يلقى في النار؛ لأن الأمة الإسلامية مثلها كمثل الرجل الواحد إذا مرض جزء منه أو عضو منه مرض الرجل كله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فيجب على الأمة الإسلامية أن تكون قائمة على الحق، متعاونة على البر والتقوى، متناصحة فيما بينها، حتى لا تكون مسئولة أمام الله جل وعلا، وهذا أمر أوجبه الله علينا ولم يوجبه أحد من الخلق، ولهذا قال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]الخيرية هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فليسوا خير أمة. ......
مسائل باب ما جاء في كثرة الحلف
......
الوصية بحفظ الأيمان(6/73)
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: الوصية بحفظ الأيمان]. الوصية بحفظ الأيمان؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] وعرفنا معنى حفظ الأيمان، إما أن الإنسان لا يحلف خوفاً من المخالفة، وهذا الذي أراده المؤلف بحفظ الأيمان، وهذا يكون لمن خاف الله، فإنه يجتنب الحلف مطلقاً، إلا في ما ألزم به ودعت الحاجة إليه، فهذا قد يتعين عليه، مثل الذي تتوجه عليه اليمين عند القاضي إذا ادعى عليه مدعٍ بشيء غير صحيح، فإذا لم يقم المدعي البينة توجهت اليمين على المنكر، فإذا طلب منه اليمين يحلف إذا كان صادقاً، ولا ضير عليه. وكذلك إذا كان المقصود باليمين بيان الحق وتأييده، فإنها تكون مستحبة؛ لأن الله جل وعلا يقول: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]فأمر الله جل وعلا نبيه أن يحلف بالله على البعث، وكذلك قوله جل وعلا: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53]فأمره جل وعلا أن يحلف بالله، فإذا كان الحلف مقصوداً به بيان الحق وإيضاحه وتقريره وثبوته يحلف، وهو بهذا مأجور. أما إذا كان الحلف يراد به أمر من أمور الدنيا، فيجب عليه أن يحفظ اليمين عنه مطلقاً. أما إذا حلف الإنسان على شيء يريد الامتناع منه، أو يريد حض غيره على فعله كأن يحلف على غيره أنه لا يدخل بيته بسبب مشاكل بينهم، ثم بعد ذلك يتبين له أن عدم الحلف أولى، فهذا ينبغي أن يكفر عن يمينه، وأن يفعل الشيء الذي حلف على الامتناع منه؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [البقرة:224]معنى الآية: أنكم إذا حلفتم على شيء ثم رأيتم أن هذا الذي حلفتم عليه خير من تركه فلا يمنعكم الحلف، كفروا عن أيمانكم وافعلوا هذا الذي حلفتم على عدم فعله، هذا معنى قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً(6/74)
لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224]. وكذلك جاءت الأحاديث بمعنى هذه الآية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : (يا عبد الرحمن ! لا تطلب الإمارة، فإنك إن طلبتها وكلت إليها، وإن أتتك بدون طلب أعنت عليها) ثم يقول (وإذا حلفت على شيء ورأيت غيره خيراً منه فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير). وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله إني إن شاء الله لا أحلف على الشيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير). أما الذي يحلف على أمور الدنيا مثل البيع والشراء والأخذ والعطاء، وما أشبه ذلك، فهذا الذي لا يجوز، وفاعل ذلك قد ضعف إيمانه، وضف تقدير الله عنده، فلهذا يكثر من الحلف، ومثل هذا لابد أن يقع في الإثم.
الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة(6/75)
[المسألة الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة]. عرفنا معنى: (منفقة للسلعة) أنه إذا حلف ألا يبيع هذا الشيء إلا بكذا وكذا فيقدم عليها المشتري ويشتريها؛ لأن المفروض أنه صادق، وإذا حلف أنه اشتراها بكذا وكذا يقبل المشتري ويبذل زيادة ويأخذ السلعة. فإذاً: هذا وإن كان صادقاً لا يجوز له الحلف؛ لأنه جعل الحلف طريقاً لكسب المال، ومن جعل يمينه طريقاً لكسب المال فهو في الحقيقة يقدم حب الدنيا على قول الله، وعلى تعظيمه وتقديره؛ لأن الله يقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] أما إذا كان كاذباً فالإثم عليه عظيم، ولكن هذا الحديث في الذي يحلف وهو صادق، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب) لم يرد الحلف الكاذب، ولكنه أراد الحلف مطلقاً وإن كان صادقاً؛ لأنه طريق لإنفاق السلع والناس إذا سمعوه يحلف يقتنعون بذلك، فيقدمون على الشراء، فيصير بهذا المعنى منفقة لسلعته. ولكن النتيجة أنه يمحق البركة، والمحق هو إبطال الشيء وإزالته، وإذا محقت البركة فلا خير فيه.
الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه
[المسألة الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه]. يعني: مطلقاً سواء كان صادقاً أو غير صادق.
التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي(6/76)
[المسألة الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي]. هذا أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله) وذكر منهم الأشيمط الزاني، والعائل المستكبر، فالأشيمط الزاني ضعفت قوة الشهوة عنده، فإقدامه على الزنا يدل على أنه يحب الفاحشة ويريدها، وليس هناك شيء يدفعه بالقوة ويغطي عقله عليه حتى يقدم على هذا الشيء، أما الشاب فإنه قد لا يستطيع كبح الشهوة، فيقدم على الفعل الشنيع، ثم إذا وقع فيه انكشف له الأمر، فندم وعاد على نفسه بالتوبيخ واللوم والتوبة، بخلاف الأشيمط الزاني فإنه ربما يفعل ذلك حباً لهذه الجريمة، فيكون عذابه مضاعفاً، فهذا يدل على أن من كانت دواعي الأفعال عنده قليلة، ثم فعل أن عقابه يتضاعف. ومثله العائل المستكبر يعني: الفقير المستكبر؛ لأن الفقر ليس دافعاً إلى التكبر، إنما يدل هذا على أن هذا خلق عنده، بخلاف الغني، فإن الغنى يدعو إلى البطر والتكبر كما قال الله جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] إذا رأى الغنى طغى.
ذم من يحلف من غير أن يستحلف
[الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون ]. هذا في الذين جاءوا بعد القرون المفضلة فإنهم يحلفون بدون استحلاف، بل الواحد منهم يبذل الحلف لأدنى الأمور. [السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث ]. يقصد: أن هذا من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فقد ظهر ذلك جلياً لكل من له نظر، ومن قرأ السير والتأريخ يظهر له هذا جلياً بارزاً جداً، فإنه قد ظهر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ذم من يشهد دون أن يستشهد(6/77)
[السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون ]. يعني: أنهم يؤدون الشهادة ولم تطلب منهم، يعني: أنها تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، وهذا دليل على الاستخفاف بشأن الشهادة، وشأن اليمين. [الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد ]. يعني: تدريباً لهم كما عرفنا.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [131]
جهاد الكفار قائم إلى قيام الساعة، وقد جعل له الشرع ضوابط وأحكاماً، يجب على المجاهد معرفتها، ومن هذه الأحكام أن الكفار يخيرون قبل أن يقاتلوا بين ثلاث: إما الدخول في الإسلام، وإما أن يدفعوا الجزية، وإما أن يقاتلوا، والجزية من الأحكام التي عُطلت اليوم؛ وذلك لنكول المسلمين عن الجهاد، وخضوعهم لسيطرة أعدائهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وجوب الوفاء بالعهد(6/78)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه) ]. قلنا فيما سبق في الباب الذي قال فيه: (باب: قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]) إن هذا بدء بفن جديد من نوع جديد من أنواع التوحيد، ولا يزال مستمراً فيه إلى آخر الكتاب، فهنا يقول: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم) والمقصود بالذمة: العهد الذي يعطيه الإنسان، مثل أن يقول: عليّ عهد الله أني ما أفعل كذا وكذا، أو أني أفعل كذا وكذا، وهذه العهود تكون بين الأمم غالباً، وتكون بين القبائل والجماعات التي تعقد العهود بالمواثيق، وقد تكتب العهود كتابة، فإذا أعطي عهد الله في مثل هذا فالأمر فيه صعب جداً، ومن خان ذلك فقد خان الله، ومن يخن الله فقد باء بالسخط والغضب، والله لا يترك من أخفر ذمته. المقصود من هذا: تعظيم الله وتوقيره وتقديره حق قدره، والابتعاد عن مساخطه، وهذا من معاني ربوبيته جل وعلا؛ لأن معنى الرب: المالك المتصرف الذي ينفذ أمره في الخلق، ويجب أن يكون أمره هو المطاع، وأن يوقف عند الذي منع منه ولا يُتجاوز، فإن الإنسان إذا لم يفعل ذلك فقد تجرأ جرأة عظيمة، ويوشك الله أن يأخذه عاجلاً في الدنيا قبل الآخرة. ثم إنه أراد بهذا: أن الإنسان يعلم هذا الشيء ويجتنبه، فإذا قدر أنه وقع بينه وبين غيره عهود وذمم فعليه أن يبذل ذمته هو، فيقول: أعطيك ذمتي ولا أعطيك ذمة الله وذمة رسوله، بل تكون ذمتي بيني وبينك. فإذا وقع الخلاف -وإن كان عظيماً- فإنه يكون في ذمته، وهذا أسهل من أن يكون وقع خلاف في ذمة الله وذمة رسوله، وهذا في العهود الجماعية التي تكون -مثلاً- في الحروب بين قوم وآخرين، والحرب يكون لها قائد، والقائد هو الذي ينفذ هذه الأشياء، فإذا أعطى لمن يحاربهم ذمة الله وذمة رسوله فقد يخالف أحد الأفراد من المقاتلين، فيكون بذلك قد أخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ لأن فعل واحد منهم كأنه(6/79)
فعل الجميع، فهذا الذي أراد التنبيه عليه، فإذا حصل مثل هذا الشيء فينبغي على الذي عقد العقد أن يعطي ذمته لا ذمة الله وذمة رسوله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا كما سيأتي في الحديث. ثم إن الله جل وعلا أمرنا بالوفاء بالعهد، فقال: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الإسراء:34] وقال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] وقال: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91] والأيمان هنا هي الأيمان الجماعية التي تكون بين الجماعات وبين الأمم، فيجب أن يوفى لهم بما عُقد لهم وبما عوهدوا عليه، فإذا حصل النقض منهم صار قتلهم مباحاً؛ لأن الخيانة جاءت منهم، كما حدث من قريش لما عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية فإنه كتب عهداً بينه وبينهم: أن الحرب تُوضع عشر سنوات لا يكون بينهم قتال فيها، ومن أراد من القبائل أن يدخل في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفه، وأسلم منهم من أسلم، فاعتدت عليهم قبيلة بنو بكر وكانت محالفة لقريش، وأعانتهم قريش على ذلك، ولما حصل هذا صار ذلك خيانة ونقضاً للعهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وصفة الحلف الذي كان في الجاهلية: أنه كانت تجتمع قبيلتان -مثلاً- ويعقدوا بينهم حلفاً وعهداً على التناصر والتعاون على العدو، والإسلام ليس فيه هذا؛ لأن الإسلام أغنى عن ذلك كله، فقد جعل الناس كلهم على دين واحد وعلى ملة واحدة وعلى طريق واحد متعاونين متآخين، متناصرين على الحق مدافعين للباطل، هذا شأنهم، وهذا الذي يجب عليهم، ولهذا قال: (لا حلف في الإسلام) ولكن إذا وجد الحلف فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة،(6/80)
هذا هو المقصود هنا، فلا يقال: هذا نظير ما سبق، بل هذا أمر آخر أخص منه. ......
نقض العهد ذنب عظيم
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91]]. معنى الآية: أن الله جل وعلا أمرنا إذا أعطينا غيرنا عهد الله أننا لا نفعل كذا أو أننا نفعل كذا فإنه يجب الوفاء بهذا العهد، وإن كان الذي أعطيناه العهد كافراً فيجب أن يوفى له بذلك. ثم نهى عن نقض هذا العهد، فقال: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وقد أكدت بذكر الله؛ لأنه يقول: لك عهد الله عليّ، أو لك يمين الله عليّ أنه ما يحصل كذا أو يحصل كذا، وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا يعني: جعلتم الله عليكم رقيباً وشاهداً فيما فعلتم، وقلتم: إن الله جل وعلا هو الكفيل، يعني: الذي يأخذ لكم الحق إذا خانوكم، ومن قال ذلك وجب عليه أن يحذر المخالفة؛ فإنه إن خالف فهو على خطر عظيم. قال الشارح رحمه الله: [قال العماد ابن كثير : وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا قال: (( وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا )) ولا تعارض بين هذا وقوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]وبين قوله: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]أي: لا تتركوها بلا تكفير، وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إني والله! إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها -وفي رواية- وكفرت عن يميني) لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي قوله: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ؛(6/81)
لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في هذه الآية: يعني: الحِلف أي: حِلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وكذا رواه مسلم ، ومعناه: أن الإسلام لا يُحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل:91] تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها] يعني: أن هذه الآية لا تعارض قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ . ......
شرح حديث بريدة: (كان رسول الله إذا أمر أميراً...)(6/82)
قال المصنف رحمه الله: [وعن بريدة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبو فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟)رواه مسلم ] الذمة المقصود بها: العهد، وعهد الله هو: الميثاق الذي يتعاقد به بين فريقين، وهذا خلاف ما سبق في الباب الذي قبله؛ لأن الذي قبله المقصود به: الحلف الذي يحلفه الإنسان على أمر إما يريد منه الحث على فعله، أو يريد الامتناع من فعله، وأما هنا فالمقصود به: العهد الذي يكون بين الدول أو بين المتحاربين أو بين قبائل أو بين الجماعات، يتعاهدون على شيء معين ويجعلون بينهم عهوداً ومواثيق، ومن نقض هذا العهد والميثاق فهو معرض لعقاب الله جل وعلا، فإذا أراد أن يتعاهد مع أحد فيتعين أن يكون العهد على عهودهم(6/83)
ومواثيقهم هم، فلا يقولون: بيننا وبينكم عهد الله، أو ميثاق الله، أو ذمة الله؛ لأن هذا أمره خطير جداً، وإذا نقضه أحد الأفراد انتقض، ولا يلزم أن يكون الجماعات هم الذين ينقضونه، بل يكفي في نقضه فرد من الجماعة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما حصل بينه وبين كفار قريش ميثاق نحو هذا، فبعض كفار قريش أعان الذين قاتلوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمال وبالسلاح فصار هذا نقضاً للميثاق، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم نقضوا الميثاق، فإذا قدر أن يكون هناك عهود فيجب على المسلمين أن يعطوا المعاهد عهد المسلمين؛ لأنهم إذا نقضوا فإن الذي ينقض هو عهد المسلمين، وهذا أهون وأسهل من أن يُنقض عهد الله وذمة الله وميثاقه، وفي هذا أنه يعمل أقل الأمرين ضرراً، ويتجنب أعظمهما ضرراً، وكذلك مثله ما إذا حاصر المسلمون أهل حصن أو أهل بلد ثم أراد أهل البلد الاستسلام، وقالوا: نريد أن تجعلوا لنا عهد الله على أنه ما ينالنا كذا وكذا، أو قالوا: نريد أن ننزل على أن تحكموا فينا بحكم الله، فلا يعطون ذلك؛ لأن حكم الله يجب أن يعمل به ويمتثل، وحكم الله فيهم يخفى على كثير من الناس، ولكن يقال لهم: تنزلون على حكمنا، ونحكم فيكم على ضوء ما نرى أنه الحق مما جاءنا عن الله وعن رسولنا، وهذا يدلنا على أن حكم الله واحد لا يتغير في الأشياء كلها، وأن المجتهد قد يصيب حكم الله وقد يخطئه، وأن كون الإنسان يحكم باجتهاده لا يمكن إلا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما الجاهل فهو لا يحكم، بل الجاهل لا يجوز أن يحكم أصلاً، وكونه يُنصِّب نفسه للحكم هو في الحقيقة يسلك طريقه إلى النار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، أما اللذان في النار فرجل عرف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، والآخر لا يعرف الحق، فهو يقضي بجهل، فهو في النار) وإن أصاب الحق فهو في النار؛ لأنه ما عرف الحق، وإنما(6/84)
أصابته للحق قد تكون مصادفة، ليس عن علم وقصد، أما الذي في الجنة فهو الذي يعرف الحق ويقضي به، وكذلك القاضي يكون قاضياً بين متخاصمين ولو في قضية واحدة، فإذا جاءك اثنان يحكمانك في أمر من الأمور فأنت قاضٍ، ويشملك هذا الحكم، فإذا رضي شخصان بحكمك وقالا: اقض بيننا ولو في قضية معينة فهذا قضاء، ومثله المفتي الذي يُستفتى فيفتي؛ لأنه يستفتى عن حكم الله في دينه وشرعه، فإن هذا أيضاً على خطر عظيم؛ لأنه يخبر الناس بحكم الله ويقول: الحكم في هذه القضية كذا وكذا، بل المفتي أشد خطراً من القاضي وأعظم؛ لأن المفتي يفتي عموم الناس، والقاضي يقضي في قضية معينة بين اثنين أو جماعتين، أما هذا فهو يفتي لكل الناس، فيعمل بفتواه خلق عظيم، فيصبح الخطر أشد من القضاء بكثير. ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا جاء من يسأل، كل واحد يود أن يُسأل غيره، وكل واحد لا يريد أن يجيب هو، ويقول: لعله يذهب إلى فلان؛ لأنهم يعرفون القضايا كما جاءت، أما في وقتنا فإذا جاء المستفتي رأيت الناس يتسارعون إلى الإجابة، وهذا بسبب قلة الدين عندهم في الحقيقة، وخفة المسئولية، وكونهم لا يبالون؛ لأنهم جهلوا فأقدموا؛ ولهذا جاء في الأثر: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)يعني: هذا هو الذي يذهب إلى النار بجرأة. نسأل الله العافية. المقصود من هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل جيشاً أو سرية أوصاهم. والفرق بين الجيش والسرية كما قال الحربي رحمه الله: السرية هي: ما تتكون من أربعمائة مقاتل فأقل، والآن قد تسمى كتيبة، وما كان أكثر من ذلك يقول: يسمى جيشاً، وقد جاء في الأثر: (لن يغلب ألف من قلة) وهذا يدل على أن الألف جيش، وإن كانت الأنظمة الآن قد اختلفت حسب اتباع الأنظمة الغربية؛ لأن المسلمين الآن لم يعد لهم استقلال في أي شيء، بل كل شيء يتبعون فيه أعداءهم، وللأسف! فكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل من يقاتل في سبيل الله سواء كانوا(6/85)
كثرة أو قلة يؤمر عليهم أميراً قائداً يقودهم، ويوصيهم بطاعته وعدم المخالفة، ويوصيه بالرفق بهم وتقوى الله فيهم، ولا يحملهم ما لا يطيقون ولا يلجئهم إلى ما يهلكهم. وكذلك يوصيهم بتقوى الله، وتقوى الله هي: أن يجعل الإنسان بينه وبين عقاب الله وقاية، أي: واقياً يقيه وساتراً يستره من عذاب الله، وهذا لا يكون إلا بطاعة الله واتباع أمره واجتناب نهيه، فتقوى الله كما يقول طلق بن حبيب هي: (أن تفعل ما أمرت به على نور من الله رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه، وأن تجتنب ما نهيت عنه على نور من الله ترجو ثوابه وتخشى عقابه) هذه هي تقوى الله. ثم يقول: (اغزوا باسم الله) يعني: اشرعوا في الغزو مستعينين بالله جل وعلا، ذاكرين اسمه للاستعانة به في ذلك، فإن لم يعنكم الله فلا عون لكم، وأنتم المخذولون؛ فالأمور كلها بيد الله. ثم يقول: (قاتلوا من كفر بالله) وهذا عام يعم قتال جميع الكفرة، سواء نصبوا الحرب للمسلمين أو لم ينصبوها كما قال الله جل وعلا: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] وهذا خلاف ما يقوله كثير من علماء المسلمين الذي يجارون المستشرقين والكفار الذين أصبحوا يطعنون في الإسلام بأي شيء رأوه مخالفاً لأذواقهم وعقولهم وأوضاعهم وقوانينهم، فأصبح كثير من المسلمين يجارونهم، ويُخشى أن يكون هذا طعناً في الإسلام؛ لأنهم يقولون: القتال في الإسلام ما شرع إلا للدفاع عن النفس فقط، فإذا جاء الكفار لقتال المسلمين شرع لهم القتال، أما أن المسلمين يذهبون لقتال الكفار فهذا لا يشرع، ولماذا؟! لأن هؤلاء الكفرة يعيبون على الإسلام بأنه يرغم الناس على الدخول فيه بالقوة، ويقولون: الإنسان حر يجب أن تترك له الحرية، وهذا على قوانينهم الوضعية الشيطانية التي ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان، فمن شاء أن يكفر -على قوانينهم- يكفر، ومن شاء أن يفجر أمام الناس يفجر، فهو يفعل ما يريد(6/86)
بحجة الحرية، وهذا لا يدعو إليه إلا كل منافق مندسٍ في المسلمين، وهو في الحقيقة يدعو إلى الكفر، وإلى أن يكون الإنسان مطلق العنان يفعل ما يشاء من الكفر والفسوق والفجور في كل مجال. وكذلك يقولون: إن الإنسان له أن يعبر عما يشاء، وإن له حرية الرأي، ولكن في دين الله وأمره ليس له حرية، وهذا أمر عجيب!! فالمقصود: أن النصوص جاءت كثيرة جداً تأمر بقتال الكفار كما في هذا النص، يقول صلى الله عليه وسلم: (قاتلوا من كفر بالله)فهذا يشمل كل كافر يكفر بالله جل وعلا. والكفر أنواع متعددة: منه ما هو كفر عناد، ومنه ما هو كفر جحود، ومنه ما هو كفر نفاق، ومنه ما هو كفر شرك، أي: شرك بالله، ومنه ما هو كفر إعراض بالكلية، وعدم اهتمام بالدين، وهذا عند من لا يرفع به رأساً، ولا يهتم به، بل تكون همته دنياه فقط، فهذا يكون معرضاً. ثم قال: (لا تقتلوا وليداً) يعني: صبياً ليس له في القتال شأن، سواء كان ذكراً أو أنثى، ومثل ذلك الشيخ الفاني الذي لا دخل له في القتال، ومثل ذلك أهل الصوامع والبيع المعتزلون للتعبد، فهؤلاء لا يُقتلون ولا يُقاتلون، ومثل ذلك النساء، فإنه لا يجوز قتلهن، إلا إذا كنَّ يقاتلن كما هو في شرع الكفار وقوانينهم -فإنهن يقتلن، وكذلك كبار السن إذا أعانوا الكفار على القتال سواء بالرأي أو بالتدبير أو بالفعل فإنهم يقتلون، أما الذي لا شأن له في القتال فلا يجوز قتله، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك، وقال: (على ما تقتل؟)؛ فلا يجوز قتل النساء، وإنما يُقتل المقاتل الذي يقاتل المسلمين، أما غير المقاتلين فلا يجوز قتلهم. ثم يقول: (ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا)أما الغلول فهو: الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، والغنيمة تكون للمقاتلين الذين يقاتلون، فإذا غنموا من أموال الكفار شيئاً تقسم الغنيمة بينهم بالسوية، ولكن على قدر مكانتهم في القتال، فالقسمة كانت أ......(6/87)
حكم التمثيل بالقتلى
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي ، وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في المفهم. قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى) فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم. قال الحربي : السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، والجيش ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه. قوله: (ومن معه من المسلمين خيراً)أي: ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيراً: من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم. وقوله: (اغزوا باسم الله) أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له. قلت: فتكون الباء في (باسم الله) هنا للاستعانة والتوكل على الله. وقوله: (قاتلوا من كفر بالله) هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر، المحاربين وغيرهم، وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلاً به: (ولا تقتلوا وليداً)وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالباً، وإن كان منهم قتال أو تدبير قُتلوا. قلت: وكذلك الذراري والأولاد. قوله: (لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا) الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد، والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به، ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة. وقوله: (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال) الرواية بالشك، وهو من بعض الرواة، ومعنى الخلال والخصال واحد]. الصواب: أن المثلة محرمة؛ لأن النصوص صريحة في ذلك، ولا يصرف معنى التحريم إلى الكراهة شيء، إلا أن بعض العلماء رخص في المثلة بقتلاهم إذا مثلوا بقتلانا، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الحديث يقول: (ولا تخن من خانك) ومن عصى الله فيك فلا تعص الله(6/88)
فيه، والمسلم يجب أن يلتزم بحكم الله، ولا يتعداه لكون الكفار تعدوا حكم الله. فالصواب: أن التمثيل محرم للنصوص الناهية عنه، وفي هذا النص لم يفرق بين التمثيل والغلول والغدر، بل جعله معها.
أوجه الإعراب في (أيتهن)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب (أيتهن) على أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر، و(ما) زائدة، ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف جر. قلت: فيكون في ناصب (أيتهن) وجهان -ذكرهما الشارح-: الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض]. المقصود بالشارح: شارح صحيح مسلم ، والوجهان الأول: أنه يكون منصوباً بالفعل، والفاعل في أيتهن أجابوا، والثاني: أن يكون على تقدير حرف الجر، أي: فإلى أيتهن ما أجابوك فاقبل، فإذا حذف حرف الجر نصب المجرور ويقال فيه: إنه نصب على نزع الخافض.
حكم الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام(6/89)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم (ثم ادعهم) بزيادة (ثم) والصواب: إسقاطها كما روي في غير كتاب مسلم كمصنف أبي داود ، وكتاب الأموال لأبي عبيد ؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال. وقوله: (ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين) يعني: المدينة، وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرها]. الهجرة هي: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، وهي باقية حتى تطلع الشمس من مغربها، أي: إلى قيام الساعة، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) فالمقصود بالفتح: فتح مكة، أي: أنه لا هجرة من مكة بعد الفتح؛ لأن مكة أصبحت دار إسلام، وإلا فالهجرة من بلاد الكفار باقية. والهجرة قد تجب على الإنسان وجوباً عينياً لقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97] وهؤلاء إذا كانوا لا يستطيعون أن يمارسوا شعائر دينهم، ولا يستطيعون أن يظهروا دينهم، كأن يكونوا في بلد لا يستطيعون أن يصلوا ويصوموا جهاراً، ولا يستطيعون أن يظهروا عبادة الله جهاراً، فإنه يجب عليهم في هذه الحالة أن يهاجروا إلى البلد الذي يستطيعون إظهار دينهم فيه، ولا يلزم أن تكون الهجرة إلى بلد معين، لا المدينة ولا غيرها، بل أي بلد يستطيعون إظهار دينهم فيه فيجب عليهم الهجرة إليه. أما إذا كانوا مستطيعين إظهار الدين ولا أحد يمنعهم من ممارسة شعائر دينهم، ولا أحد يمنعهم من أن يظهروا توحيد الله وعبادته فإنه لا يجب عليهم أن يهاجروا في هذه(6/90)
الحالة، بل يبقون في البلد الذي يستطيعون فيه أداء شعائر دينهم ظاهراً.
سبب انقطاع الهجرة في هذا الزمن
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فإن أبوا أن يتحولوا) يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يُعطى من الخمس ولا من الفيء شيئاً، وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم يرَ لهم من الفيء شيئاً، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم]. هذا من الأحكام التي تركت، ولم يعد يُعمل بها؛ لأن المسلمين تركوا الجهاد في سبيل الله، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أنه يوشك أن تتداعى علينا الأمم من أقطار الأرض فقالوا: يا رسول الله! أمن قلة نحن؟ قال: (لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) وغثاء السيل لا خير فيه، فالسيل إذا جاء يأخذ معه الشيء الذي لا خير فيه ويرميه على الجانب، هذا هو الذي يسمى غثاء السيل (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله من قلوب أعدائكم المهابة) يعني: لم يعودوا يهابونكم ولا يرهبونكم، (ويقذف في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، ويقول في حديث آخر: (إذا اتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم) هذا هو الذل الذي يُقذف في القلب بسبب حب الدنيا وكراهة الموت، فإذا كان الإنسان يحب الدنيا ويكره الموت فلا يمكن أن يجاهد؛ لأنه يخشى أن يقتل فيترك الدنيا التي يحبها، فالموت مكروه عنده، ويصبح نظير الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء أخبر الله جل وعلا عن حالهم السيئة إذا تركوا الجهاد، بل أصبح الناس الآن إخواناً لا فرق بين ملحد ومؤمن وكافر وتقي إلا عند من شاء الله، ولهذا السبب صار هناك من الناس من دعاه هذا الأمر إلى التطرف وإلى رد الفعل فجاء بمنكر آخر لا يسوغه الإسلام، وهو أنه أصبح يكفر الناس بالعموم، ويقول: كل من مالأ(6/91)
الذين يحكمون بالقوانين ويتركون الشرع أو رضي بهذا الوضع فهو كافر، وهذا منكر من القول وزور، والذي يدعو إليه هو الجهل. نسأل الله العافية. المقصود: أنه لابد أن يقوم لدين الله من يقوم بإذن الله جل وعلا، ولكن هناك فترات -كما هو معروف- يحصل من الناس فيها جفاء للدين وفترات يحصل منهم إقبال على الدين، وإن من الجفاء أن يجفو الناس بأسرهم، ومن الإقبال أن يتفقهوا في دين الله ويرغبوا فيه بأسره، لكن أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن القتال سيبقى في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وأنه سيكون في هذه الأمة من يقاتل الدجال، والدجال من المفسدين الذين يظهرون في آخر الزمان، وأول ما يظهر يدعو إلى الإصلاح ويزعم أنه مصلح وأنه جاء بالعدل، فيتبعه أكثر الناس، ولكن بعد ذلك يزعم أنه نبي، ثم بعد ذلك يزعم أنه الله رب العباد، فيُبتلى الناس به، فتكون فتن عظيمة، حتى إنه يأتيه الرجل فيقول له الدجال: إذا أحييت أباك وأمك وجئت بهما أمامك تؤمن بأني ربك، فيتمثل شيطانان أحدهما بصورة أمه والآخر بصورة أبيه، فيقولان: يا بني! أطعه فإنه ربك، ويقول للسماء: أمطري فتمطر، ويقول للأرض: أنبتي فتنبت، ويأتي القوم فيدعوهم إلى طاعته فإذا أطاعوه أُغدقت عليهم الدنيا، وكثرت أموالهم، ودرت عليهم الخيرات، ويأتي الآخرين ويردون دعوته. فيفتقرون، والناس عند الافتتان بهذه الأمور قليل من يصبر، وقليل من يثبت، هذا في آخر الزمان؛ ونحن الآن لا شك أننا في آخر الزمان، ولكن لم تأت الآيات الكبيرة التي تكون الساعة قريبة منها؛ فإن من علامات الساعة ما هو كبير ومنها ما هو متوسط ومنها ما هو صغير، كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وموته، وقد قال الله جل وعلا: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى) والفرق بينهما يسير. ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم نبي(6/92)
الساعة؛ لأنه ليس بعده نبي، وعلى أمته تقوم الساعة، والجهاد يبقى إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة آخر اليهود، حتى إن الحجارة تتكلم والشجر يتكلم.
بيان الأصناف الباقية من مستحقي الزكاة
قال الشارح رحمه الله: [كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله، وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين، وجوَّزا صرفهما للضعيف]. وهذه أحكام قد تركت، وأصبح لا يلتفت إليها، يعني: الصدقات أصبحت موكلة للإنسان نفسه غالباً، فإن كان مؤمناً وتقياً يخاف الله أخرجها وإلا فوزرها عليه، وبعضهم يكتب في الأوراق الرسمية أن ماله كذا، ويكتب جزءاً بسيطاً من ماله، والباقي يخفيه خوفاً من أن تؤخذ منه زكاة، وهذا من التحايل الذي لا يجوز. والمقصود: أنه إذا لم يكن عنده إيمان فقد لا يخرجها، ثم الصدقة الآن غالباً ما تُدفع إلى نوع واحد من الأنواع الثمانية فقط وهم الفقراء، أما البقية كعتق الرقاب فأصبح لا وجود له، وكذلك الجهاد في سبيل الله كثير من الناس يرغب عنه، وإن كان الجهاد أمره واسع، فالدعوة إلى الله من الجهاد في سبيل الله، وكون الإنسان يخرج الزكاة فيها فقد أخرجها في مصرف حق. وكذلك الغزاة؛ لأن الغزاة لا يوجد منهم الآن إلا من يغزو متبرعاً، إلا من شاء الله في بعض الجهات، وهذا نادر، وإن حصل فهو من أشخاص وأفراد وليس من أمم ودول. وكذلك ابن السبيل لا يُعطى نصبيه، وابن السبيل هو: المسافر الذي انقطع. وكذلك المؤلفة قلوبهم لا وجود لهم الآن، فلا يُعطون شيئاً؛ لأن الكفر هو الذي أصبح يرفع عنقه الآن، وهو الذي يريد أن يسيطر على الدنيا كلها، وكذلك بقية الأقسام التي ذكرها الله جل وعلا، فالغنيمة لا وجود لها، حتى يقال: إنها لا تعطى إلا الغارمين، فالجهاد ليس بموجود، ومن ناحية المفهوم هل الغنيمة غير الصدقة؟ لا شك أنها غيرها؛ لأن الله جل وعلا جعل لأهل الجهاد نصيباً في الصدقة، والصدقة المقصود بها(6/93)
الزكاة، فإذا كان لهم نصيب في الزكاة فللفقراء نصيب من خمس الغنيمة؛ لأن الله أخبر أن الخمس لله ولرسوله، وللفقراء والمساكين وابن السبيل وهؤلاء الفقراء والمساكين وابن السبيل هم من أهل الزكاة. فإذاً: لا فرق بين هذا وهذا. وعلى كل حال إذا جاءت الحاجة لمثل هذا فالأحكام واضحة بإذن الله تعالى، ولكن ما دام أن الأحكام أصبحت لا تطبق فلا فائدة فيها.
من تؤخذ منهم الجزية من غير المسلمين
قال الشارح رحمه الله [قوله: (فإن هم أبوا فاسألهم الجزية) فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربياً كان أو غيره، كتابياً كان أو غيره، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم، وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس]. وهذا الحكم من أحكام الشرع التي لا يُعمل بها الآن، ولن يُعمل به حتى يكون للإسلام السيطرة والقوة، أما ما دام أهل الإسلام تاركين الجهاد في سبيل الله فكيف الطريق إلى الجزية؟! بل ربما أخذت الجزية الآن -أو شبه الجزية- من المسلمين، فقد أصبح أعداؤهم يسلبونهم ما بأيديهم كما هو موجود في كثير من الأقطار، ويفرضون عليهم أشياء يسمونها ضريبة، وهذه الضرائب أشبه بالجزية، فإذا صار المسلمون أقوياء وصاروا مسيطرين على الكفار فإن كفار أهل الكتاب أو غيرهم يخيرون بين أمور ثلاثة: فيقال لهم: إما أن تدخلوا في الإسلام، ويكون لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، ولا فرق بينكم وبين المسلمين؛ لأن الأرض كلها لله يورثها أهل الإسلام. فإن لم يقبلوا هذا قيل لهم: إذن تدفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، ذليلون حقيرون، ولهذا ينبغي أن يُذلوا ويهانوا عند أخذها، حتى يدعوهم ذلك إلى الدخول في الإسلام، فإن امتثلوا هذا أخذت منهم الجزية وتركوا، وصار على المسلمين حمايتهم من الظلم وممن أرادهم بقتل أو غيره، وهذا بدل(6/94)
الجزية التي يدفعونها، وهذه الحماية تكون لهم إذا كانوا في بلاد المسلمين، وهؤلاء هم أهل الذمة الذين يعطون العهد بأن يتركوا على دينهم بشرط ألا يظهروا دينهم، ولا يدعوا إليه؛ لأنهم إذا أظهروه بين المسلمين فقد يغتر بهم من يغتر من جهال المسلمين، وإنما يمارسونه في صوامعهم وفي أماكن عباداتهم كما هو معروف. فإن أبوا قبول هذا قيل لهم: بقيت خصلة ثالثة وهي القتال، ولابد من قتالكم، ويد الله مع من يشاء، ومن أراد الله نصره يُنصر. فكل من يقاتل في سبيل الله إذا أتى الكفار يخيرهم بين هذه الأمور الثلاثة: يدعوهم أولاً إلى الإسلام فإن أجابوا فهذا المطلوب، وإذا جابوه وجب أن يتركهم في بلادهم وأموالهم، ولا يتعرض لهم بشيء، فإن لم يجيبوه طلب منهم الجزية. وحد الجزية اختلفوا فيه: فالمشهور في مذهب الإمام مالك أنها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا فرق بين الفقير والغني فيؤخذ من كل واحد دينار، في السنة، وهذا أمر سهل وبسيط، والمشهور في مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد أن على الأغنياء أربعين ديناراً وعلى الفقراء عشرة، وعلى المتوسطين عشرين، وهناك رواية أخرى في تحديدها، وعلى كل حال فهذه تقديرات اجتهادية. والمقصود: أن يفرض عليهم شيء يؤخذ منهم، كما فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على مجوس أهل البحرين، فإنه كان يأخذ منهم الجزية سنوياً. وهذا من الأحكام المتروكة المنسية التي لا يعمل بها، وإذا احتيج إليها فهي سهلة. قال الشارح رحمه الله: [قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، وقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)]. وقد اختلفوا فيمن تؤخذ منهم الجزية، وهل تؤخذ من كل كافر؟ والصواب: أنها تؤخذ من الكفار عموماً، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، أما عند الإمام أبي حنيفة فيخرج بذلك الكفار العرب وقال: لا تؤخذ منهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذها منهم، يعني: أنهم إما(6/95)
أن يقتلوا أو يسلموا، وليس هناك مجال آخر، ويقول الإمام أبو حنيفة: إذا كانوا من أهل الكتاب فتؤخذ منهم الجزية، يعني: اليهود العرب أو المجوس العرب، ويلحقون بأهل الكتاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية منهم، والصحابة كذلك سنوا بهم هذه السنة.
مقدار الجزية
قال الشارح رحمه الله: [وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان: قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهماً والوسط أربعة وعشرون درهماً، والفقير اثنا عشر درهماً، وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله. قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله: وقاتل يهوداً والنصارى وعصبة الـ مجوس فإن هم سلموا الجزية أصدد على الأدون اثني عشر درهماً افرضن وأربعة من بعد عشرين زيد لأوسطهم حالاً ومن كان موسراً ثمانية مع أربعين لتنقد وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي]. يعني: أن الجزية لا تؤخذ من الفقراء ولا من الشيوخ الكبار الفانين، ولا من النساء ولا من الصبيان، ولا من الأعمى ولا من الأعرج، ولا ممن أسلم.
لا يجزم الحاكم في المسائل الاجتهادية بأنه حكم فيها بحكم الله(6/96)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه) الذمة: العهد، وتخفر: تنقض يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعدٍ معتدٍ كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم. قوله: وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال، ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال، قال: وهو أن مالكاً قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم. إلا أن لم يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تلتمس غرتهم، وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سبباً مميلاً لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتواً وبغضاً. والله أعلم]. قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله أو حكم رسوله، فلا تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم) هذا فيه دليل على أن الله له في كل قضية حكم، ولكن هذا الحكم المعين قد لا يصيبه المجتهد، وإذا أخطأ وهو أهل للاجتهاد فخطؤه مغفور، وهو مأجور على اجتهاده، ولكن لا يقل: إن هذا حكم الله، بل يقول: هذا اجتهادي، فإن أصبت فهو بمنة الله وفضله، وإن أخطأت فالخطأ عليّ أنا، ولا ينسبه إلى الإسلام، فالإسلام منه بريء إذا كان خطأً. وفيه دليل على جواز الاجتهاد، وأنه يجوز حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يجتهدوا في إنزالهم القوم على حكمهم، فإن أصابوا فهو بفضل من الله، وإن أخطئوا فالخطأ يكون مغفوراً لهم، وهذا لمن كان أهلاً(6/97)
للاجتهاد، وأما الجاهل فهو ليس أهلاً للاجتهاد، فلا يجوز له أن يفعل ذلك، فالجهلة الذين ليسوا أهلاً للاجتهاد حكمهم باطل على كل حال، سواء أصابوا الحق أو أخطئوه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وواحد في الجنة، أما اللذان في النار: فأحدهما عرف الحق وقضى بخلافه، فهو في النار، والثاني لم يعرف الحق فقضى بجهل، فهو في النار) وهذا معناه: وإن أصاب الحق فإنه يكون من أهل النار؛ لأنه ليس أهلاً للقضاء، ولأنه نصب نفسه لشيء لا يحسنه، وليس هو من أهله. وكذلك الاجتهاد في المسائل. والقضاء أمر عام، حتى وإن كان بين اثنين في قضية خاصة، فيعتبر من يقضي فيها قاضياً ما دام أنهما رضيا به أن يكون قاضياً، فيجب أن يقضي بالحق إذا كان يعرفه، وإن كان لا يعرفه فيجب ألا يقدم على ذلك. ثم إن في هذا أنه ليس كل مجتهد يصيب، بل كثير من المجتهدين يخطئون، فإذا اجتهد في المسألة عدد من الناس، فقال فيها أحدهم بقول، وقال الآخر بخلاف قوله كما يحصل كثيراً من طلبة العلم، فإن المصيب يكون واحداً، أما الذي يخالفه فهو مخطئ، وهذا في كل قضية تحدث، وذلك أن كتاب الله وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم جاءت بقضايا عامة كلية جامعة، وأما أفعال المكلفين فهي لا حصر لها. فمثلاً: إذا صلى إنسان صلاة معينة فإنه لا يمكن أن يستدل على قبول صلاته من الكتاب والسنة؛ لأن هذا الفعل يتوارد إليه أسباب ويتوارد عليه موانع من القبول، فلا ندري ما حكمها عند الله، وإنما على الإنسان أن يجتهد في الظاهر، وكذلك إذا فعل فعلاً من أمور الدنيا وطلب الحكم فيه، فيجتهد في إصابة الحق فيه، فإن أصاب الإنسان ذلك فهذا المطلوب، وإن لم يصبه فحكم الله غيره، وقد ذكر الله جل وعلا عن نبيين كريمين أن أحدهما حكم في قضية معينة فأخطأ، وحكم الآخر فيها فأصاب، فأثنى الله جل وعلا عليهما جميعاً، ولكن أثنى على الذي أصاب أكثر، وهي القضية التي حدثت لداود(6/98)
وسليمان في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، فحكم فيها داود عليه السلام بأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم، بدل حرثهم الذي أكلته، أما سليمان فلم يرض بهذا، وقال: أرى أن أصحاب الحرث يأخذون الغنم يستغلونها حتى يقوم الذين أكلت غنمهم هذا الحرث عليه بالسقي والتعاهد فيعود مثلما كان، فإذا عاد مثلما كان أخذوا غنمهم واستلم هؤلاء حرثهم، فأثنى الله عليه بهذا الحكم؛ لأن هذا هو الحق وقد أصابه؛ ومع ذلك قال: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79] أي: لداود وسليمان. فدل على أن الاجتهاد لا يكفي في الإصابة، وكون المجتهد يجتهد لا يكفي في كونه يصيب، وإنما الإصابة يجب أن تكون موافقة لما حكم الله جل وعلا به في هذه القضية بعينها، ولله في كل قضية حكم معين، وهذا الذي يفتي أو يذكر حكم المسألة لا يجوز له أن يجزم جزماً معيناً وهو غير متيقن من الدليل، وإنما يقول: الذي أرى أن حكمها كذا وكذا، والعلم عند الله تعالى.
مسائل في باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
......
إخفار ذمة المسلمين أهون من إخفار ذمة الله ورسوله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين]. يعني: أن ذمة الله وذمة نبيه سواء، ونقضهما عظيم جداً، بخلاف ذمة المسلمين فإن نقضها وإن كان محرم ولكنه أسهل من نقض ذمة الله وذمة رسوله.
على المسلم أن يفعل أخف الضررين في أي أمر
[الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً]. هذا عام في كل أمر من الأمور، وفي كل مسألة من المسائل، فإذا عرض لك أمران أخذت بأخفهما، فإن كان من الممنوعات فعليك أن تختار أخفها ضرراً، وإن كان من المأمورات تختار أيسرهما وأسهلما، وهذا يتطلب نظراً وبصيرة من الإنسان للأمور، والله جل وعلا يحب البصير عند توارد الشبه، كما أنه يحب الصابرين عند توارد الشهوات.
الاستعانة بالله واجبة في كل الأمور(6/99)
[الثالثة: قوله: (اغزوا باسم الله في سبيل الله)]. معنى الاستعانة بالله جل وعلا: أن المسلم لا يستعين إلا بربه جل وعلا، فيتعلق بربه ويعتمد عليه، ويذكره بأسمائه وصفاته.
قتال الكفار واجب
[الرابعة: قوله: (قاتلوا من كفر بالله)]. يعني: أن هذا عموم يشمل جميع الكفار، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مشركين أو ملاحدة أو غيرهم، ويشمل الذين يقاتلون المسلمين ويريدون صدهم عن دينهم والاستيلاء على بلادهم أو الذين لا يقاتلون؛ لأنه قال: (قاتلوا من كفر بالله)وهذا هو الواجب على المسلمين؛ لأن الله جل وعلا يقول: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]وكثير من المفسرين وغيرهم يقولون: إن هذه الآية: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ هي آية السيف التي أمرت المسلمين بسله وشهره على جميع الكفار، فهي ناسخة لكل آية فيها الأمر بالتحمل والصبر والدفع بالتي هي أحسن، ولكن هذا -في الحقيقة- ليس صحيحاً؛ إذ إن المسلمين على حالة واحدة دائماً، وأحياناً قد يضعفون ولا تكون عندهم قوة ولا استطاعة للدفاع فيصبح التحمل والدفع بالتي أحسن والصبر واجباً عليهم حتى يتمكنوا كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة، فإن الله أمره بالتحمل والصبر ودفع الأذى بالتي هي أحسن، وليس بالحسنى فقط، إنما بما هو أحسن، أمره أن يصبر ويتحمل هو وأصحابه، حتى صار له قوة وجنود، وصار له دولة عند ذلك أمره الله جل وعلا بقتال الكفار عموماً. وهكذا تكون حالة المسلمين إذا ضعفوا، فيجب عليهم أن يتحملوا ويصبروا حتى يكون لهم قوة تمنعهم وتمنع بلادهم وأولادهم وذراريهم ومن تحت أيديهم من المسلمين، ولو: أقدموا على القتال وليس عندهم قوة لصار هذا فساده أعظم من المنافع التي ترجى منه؛ لأنه قد يتسلط عليهم العدو ويقتلهم، ويقضي عليهم نهائياً. فالواجب النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع ما(6/100)
أمره الله جل وعلا به.
الاعتماد على الله واجب في كل أمر
[الخامسة: قوله: (استعن بالله وقاتلهم)] هذا أيضاً فيه أن المسلم يجب أن يعتمد على الله جل وعلا في جميع شئونه، وأن القتال يكون بالاعتماد على الله وبعونه، لا بالاعتماد على الكفار الذين يقال: إنهم أصدقاء أو غيرهم، بل الاعتماد يكون على الله جل وعلا، ولكن هذا لابد له أيضاً من الاستعداد؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] فإذا ترك المسلم الاستعداد فمعنى ذلك أنه عاص، وأنه مفرط لم يتمثل الأمر، والله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، فلابد من فعل الأسباب، ثم بعد فعل الأسباب يعتمد على ربه جل وعلا ويستعين به في حصول مراده، هذا هو شأن المؤمنين، وهذا هو الذي أمر الله جل وعلا به.
حكم الله واحد في كل قضية
[السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء]. لأن الله له حكم في كل قضية معينة، وسوف يحكم الله بين خلقه يوم القيامة في كل دقيقة وجليلة، وكل قضية حصلت سوف تعاد يوم القيامة ويحكم الله جل وعلا فيها بالحق، وهو خير الحاكمين جل وتقدس. أما حكم العلماء وحكم المجتهدين فيجوز عليه الخطأ، بل كثيراً ما يكون خطأً، ويجب أن يضاف إليهم ذلك لا إلى الله جل وعلا.
الاجتهاد جائز لمن كان أهلاً له
[السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا]. يعني: أن الاجتهاد جائز، حتى لو قدر أن الإنسان يمكنه الرجوع إلى من يعلم القضية يقيناً فإنه يجتهد إذا وكل في هذا؛ لأن مسائل المسلمين لا يجوز أن تعطل حتى يطلب الحكم يقيناً، ويبحث عنه بأي مكان كان، بل يجب ألا تتعطل أعمال المسلمين، فيحكم فيها الحاكم ويجتهد غاية ما يمكنه، ثم الأمر إلى الله، وإذا كان نيته ومراده الحق وقد بذل وسعه فإنه مأجور وخطؤه مغفور.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [132](6/101)
الجنة والنار ملك لله جل وعلا يدخل فيهما من يشاء، فلا يجوز للعبد التألي على الله جل وعلا، والحكم بأن هذا من أهل النار، أو أن هذا من أهل الجنة، إلا من ورد فيه نص من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلينتبه الإنسان من لسانه، فرب كلمة توبق دنياه وآخرته.
حكم الإقسام على الله
قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله: باب ما جاء في الإقسام على الله ]. هذا أيضاً من جنس ما سبق، وهو مما يتعلق بالربوبية وبجناب الرب جل وعلا، وذلك أن الرب جل وعلا هو المالك لكل شيء، وليس لأحد معه تصرف ولا سلطة، فلا يجوز لمخلوق أن يقسم على الله ويقول: والله يا رب! إنك ستفعل كذا. أو يقول لآخر: والله إن الله سيفعل بك كذا وكذا. أو: إن الله سيعاقبك بكذا وكذا. أو: إن الله لا يغفر لك. أو: إن الله سيدخلك الجنة. أو: سيدخلك النار أو ما أشبه ذلك، فهذا كله لا يجوز؛ لأن هذا في الحقيقة تدخل في شئون الرب جل وعلا، ولا يجوز للعبد أن يتدخل في شئون ربه، بل يجب أن يعرف قدره، وأن يعرف أنه عبد يتصرف الله جل وعلا فيه كيف يشاء، فعليه أن يعرف ذلك ويقف عند حده. أما إن ذهب يتألى على الله ويحلف عليه ويقسم عليه فإنه في الحقيقة قد تعدى طوره وركب رأسه، فيوشك أن يأخذه الله جل وعلا ويعاقبه، هذا هو المقصود في هذا الباب. ثم لا يرد على هذا أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وذكر منهم: البراء بن مالك ، ولما وقع من الربيّع ما وقع عند أن كانت جارية صغيرة تلعب في الشارع وقع منها اعتداء فكسرت ثنية جارية أخرى، فجاء أهل الجارية المجني عليها إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكون فقال: (إن لم تعفوا فتكسر ثنية الربيع فقال أخوها: أتكسر ثنية الربيع ؟ قال: نعم. كتاب الله القصاص. فقال: والله لا تكسر ثنية الربيع)، فرضي القوم بالصلح وقالوا: لا نريد القصاص. عند ذلك قال النبي صلى الله عليه(6/102)
وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فأنس بن النضر لم يقل: والله إني أقسم عليك أن لا تكسر ثنية أختي. فإن مثل هذا قد يقوله الإنسان المخاصم أو الذي يجادل أخاه، فقد يقول: والله لا يصير هذا. وهو يريد أن يفعل الأمور والأسباب التي يتخلص بها من هذا الشيء، ولا يريد التألي على الله. وكذلك ورد أن الصحابة إذا كانوا في قتال يقولون للبراء بن مالك رضي الله عنه: أقسم على ربك أن ينصرنا، فكان يقول: (يا رب! أقسم عليك أن تمنحنا أكتافهم) فينصرون، وفي آخر مرة طلبوا منه ذلك وألحوا عليه فقال: (يا رب! أقسم عليك أن تمنحنا أكتافهم وتجعلني أول قتيل من المسلمين) فنصروا وانهزم العدو، وصار هو أول قتيل قتل، فهذا ليس معناه أنه يتعدى على الله ويدل عليه، وإنما كان يثق بربه ويسأله سؤالاً جازماً، وصورته صورة الإقسام فقط، أما أن يقسم قسماً يريد من الله أن يفعل هذا الشيء للتأكيد فهذا لا يجوز بحال من الأحوال؛ لأن الله جل وعلا هو الذي يتصرف بخلقه, وكل خلقه ملك له. ومن المسلّم به عند كل مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق، وأعلم الناس بالله وأتقاهم وأخشاهم، وهو كذلك أقربهم وأحبهم إلى الله جل وعلا، ومع ذلك لما صارت وقعت بدر كان يجتهد بالدعاء والابتهال، وكان الصحابة كلهم قد ناموا في الليل إلا هو صلوات الله وسلامه عليه فإنه بات قائماً يتهجد ويصلي ويدعو، حتى كان في آخر الليل فصار يلح إلحاحاً بليغاً ويرفع يديه ويقول: (يا رب! وعدك الذي وعدتني يا رب! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض) حتى رحمه أبو بكر رضي الله عنه، وقد سقط رداؤه من على كتفيه لشدة إلحاحه ورفعه يديه، فأخذ أبو بكر رداءه ووضعه على كتفيه والتزمه وقال: (يكيفك مناشدتك ربك)، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاز عنده أن الله جل وعلا يسلط الكفار على المسلمين؛ لأنهم كلهم ملكه وعبيده، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعبد بعد اليوم)(6/103)
أي أن الإسلام سيمحى كله، فلا يجوز لإنسان أن يدل على الله إدلال الواثق الذي يقسم بأنه يصير كذا وكذا، بل يجب أن يكون خاضعاً لله ذالاً له؛ لأن كل شيء ملك لله، ولهذا السبب لما ذكر الله جل وعلا الجنة وأهلها قال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، ولماذا جاء هذا الاستثناء ((إلا ما شاء ربك))؟ لئلا يطمعوا أن يكونوا مشاركين لله في البقاء والخلود دائماً أبداً، بل الأمر كله بمشيئة الله، لو شاء لأزال ذلك، فالأمر بيد الله جل وعلا. وكذلك إذا كان الإنسان يقرر مسألة من مسائل الشرع ثم رأى غيره مخالفاً له فصار يتهدده ويتوعده ويقول: لك النار، وسوف يأتيك كذا وكذا. أو يحلف له بأنه يحصل له كذا وكذا فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا تألٍ على الله، فكلاهما من عباد الله، والله هو الذي يحكم بينهما، وإنما على الإنسان أن يسلك أمر الله الذي أمره ولا يتعداه. أما الحكم في العباد ومآلهم وعذابهم أو إثابتهم فهو إلى الله جل وعلا. ......
شرح حديث: (قال رجل: والله! لا يغفر الله لفلان...)(6/104)
[قال المصنف رحمه الله: عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك)رواه مسلم ]. قوله: (يتألى) أي: يحلف. والأليّة -بالتشديد- الحلف. وصح من حديث أبي هريرة. قال البغوي في شرح السنة -وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار - قال: دخلت مسجد المدينة، فناداني شيخ فقال: يا يمامي! تعال وما أعرفه، قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة والآخر -كأنه يقول- مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال: فيقول: خلني وربي. قال: فوجده يوماً على ذنب استعظمه فقال: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة أبداً. قال: فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب. قال: اذهبوا به إلى النار)قال أبو هريرة : (والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)، ورواه أبو داود في سننه، وهذا لفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ قال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً؟ فقال للمذنب: اذهب(6/105)
فادخل الجنة، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) ]. ......
الكلمة قد توبق على الإنسان دنياه وآخرته
[قال المصنف رحمه الله: وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: (تكلم كلمة أوبقت ديناه وآخرته)]. يشير إلى قوله في هذا الحديث: (أحدهما مجتهد في العبادة)، وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ (قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك -يا معاذ-! وهل يكب الناس في النار على وجوهم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!)والله أعلم]. في هذا الحديث عبرة، وكونهما متآخيين يعني أنهما ليسا أخوين من النسب، وإنما هما متآخيان على شيء معين، وأحدهما مجتهد في الطاعة والآخر عنده تقصير، وكلاهما مؤمن بالله متبع لشرعه، ولكن كان أحدهما مقصراً يفعل المعاصي ويترك بعض الواجبات، فكان المجتهد يحض أخاه شفقة عليه وغيرة على دين الله، ويغضب لله لا لنفسه، وكان يشفق على أخيه أن يصاب بالعذاب، فكان يلومه كثيراً كلما رآه على ذنب، إما أمر يقصر فيه أو لا يقوم بالأمور الواجبة كما ينبغي، أو ذنب يرتكبه، فكان ينهاه ويزجره ويقول له: (اقصر) يعني: اترك هذه الأعمال وأقلع عنها وخف ربك وهذا المقصر يقول: دعني وربي، ربي هو الذي يحاسبني، وأنت لا تحاسبي ولست عليّ رقيباً، ولكن لشدة اجتهاده وخوفه من أن يناله العذاب كان يلومه، وفي هذه المرة لما رآه على ذنب استعظمه قال هذه المقولة، وهي مقوله ما قالها إلا لأنه غضب، وغضبه لأن محارم الله انتهكت فقط، ولكنه أساء -في الحقيقة- وتعدى طوره، فقال له: (والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة)، وهذا تألٍ على الله، والتألي: هو التعدي في الحلف. فقبضهما الله جل وعلا وأحضرهما بين يديه، فسأل هذا الحالف المتألي: أكنت قادراً على ما في يدي؟ أكنت تمنع ما أريد وترد مشيئتي وأمري؟ قال: لا يا رب فقال للملائكة: اذهبوا به إلى(6/106)
النار. فهذا مجتهد وغضب من المعاصي ومع ذلك ذهب دينه بكلمة قالها، كما قال أبو هريرة : (تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) يعني: أهلكته، وهذا دليل على الخطر الشديد، فالإنسان يجب أن يكون مراقباً دائماً لربه، مراقباً لنفسه أيضاً، ناهجاً الطريق الذي أُمر بسلوكه، ودائماً يستحضر أنه عبد لله يتصرف فيه كيف يشاء، ويستحضر دائماً فقره وفاقته، ويعلم أنه فقير إلى الله لا ينفك عن الفقر لحظة واحدة، وإن وكله الله جل وعلا إلى نفسه هلك، فيتعلق برحمة الله ويرجوه دائماً وأبداً، ولابد من سلوك الشرع في هذا، وإلا هلك، أما هذا المقصر المذنب فغُفر له بسبب هو من أكره الأسباب إليه، وهو كون أخاه قابله بكلام مكروه إليه جداً، فلو جاءك إنسان وقال: أنت من أهل النار ماذا يكون موقفك من هذا القائل؟! سيكون موقفاً صعباً، لكن قد يكره الإنسان شيئاً ويكون خيراً له، وقد يكون شيء مكروه لديه جداً فيكون خيراً له مثل ما وقع لهذا. ثم إن في هذا دليلاً على أن الإنسان قد يترك دينه لمجرد كلمة، مثل ما ذكر في حديث معاذ ، وحديثه عظيم جداً في هذا الباب، وهو أن معاذاً رضي الله عنه لفقهه وعلمه كان يقول: كان يدور في نفسي مسألة أحب أن أسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه كان يتحين الفرص التي يجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً عليه، وكانوا قد نهوا عن كثرة السؤال، فأصبحوا لا يقدمون على السؤال إلا لأمر ضروري، وكان يسير معه في مسير غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الرسول خالياً، فكان يسايره في الليل ويكلمه فقال: (يا رسول الله! أخبرني عن كلمة أمرضتني وأسقمتني قال: نعم سل. قال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد سألت عن عظيم -وهذا دليل على فقهه- وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال(6/107)
صلى الله عليه وسلم: يا معاذ ألا أدلك على أبواب الخير؟ فقلت: بلى يا رسول الله. قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، -يعني أن صلاة الرجل في جوف الليل أيضاً تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار-، ثم تلا قول الله جل وعلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى، يا رسول الله. فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا رسول الله. قال: كف عليك لسانك فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟! فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟) يعني: جراء ما يتكلمون به مما يكون فيه العقاب. وفي صحيح البخاري وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)، وفي رواية: (يتكلم بالكلمة ليضحك بها القوم يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب). والله جل وعلا أخبر أن الإنسان مسئول عن لسانه، كما قال جل وعلا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] أي: تسأل يوم القيامة عن هذه، فتسأل عن سمعك هل استمعت به إلى الملاهي والمزامير والأغاني، أو إلى كلام الرحمان؟ لأن السمع خلق لك لتستعمله في عبادة الله وتستعمله في ما ينفعك، لا لتستعمله في طاعة الشيطان، فهذه نعمة أنعم الله جل(6/108)
وعلا بها عليك فلا تعص الله بها، ولا تستعن بنعم الله على معاصي الله. وكذلك تسأل عن البصر الذي أنعم الله جل وعلا به عليك هل استعملته في طاعة الله؟ وهل قادك ودعاك إلى معرفة الله والاستدلال بآياته عليه، أو أنك استعملته بما يضر وما يعود عليك باللوم والعقاب؟ وكذلك تسأل عن الفؤاد -والفؤاد هو القلب- فتسأل عن نياتك ومقاصدك وإرادتك، وهذه النيات هي قبل النطق، وهي التي تدعو اللسان إلى التكلم، واللسان يتكلم بما وراءه، فيجب أن يكون اللسان مقيداً بالشرع، وكذلك السمع والبصر والأيدي والأرجل وجميع ما أعطاك الله جل وعلا يجب أن يكون مقيداً بالشرع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها الاستماع، واللسان يزني وزناه النطق، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أي: فيواقع الزنا الأكبر. فالنظر إلى المحرم زناً، والاستماع إلى المحرم والنطق به كذلك، وهذا إذا كان القلب مريضاً مرض الشهوة تكون أعماله كلها هكذا، نسأل الله العافية. والمقصود أن الإنسان خلق لعبادة الله، فيجب أن يكون مقيداً بالعبودية، ولا يكون -كما يقول الملاحدة اليوم- الإنسان حراً، وإذا نهيت إنساناً أو أمرته فقال لك: أنا حر فقل له: حر في ماذا؟ حر في اتباع الشيطان؟! لو كنت حراً لفسدت الدنيا كلها، ولا يمكن أن يستقيم عليها مجتمع أبداً؛ لأنه لابد أن يتقيد الناس بالقيود، وإن لم يتقيدوا فسوف تفسد أوضاعهم، فالإنسان لا يمكن أن يترك هكذا، فقول من يقول: إن الإنسان حر كذب، ما هو بحر، إنما قد يكون حراً في شيء أراده لنفسه، والله جل وعلا جعله عبداً ولم يجعله حراً، فهو عبد معبد لله جل وعلا، فيجب أن يكون طائعاً لله جل وعلا، فهذا الحديث فيه عبرة. ......
وجوب الإيمان بعذاب القبر، وبيان ضلال من أنكر ذلك(6/109)
ثم في هذا الحديث دليل على أن الناس إذا ماتوا تكون أرواحهم في البرزخ في الجنة أو في النار، أو تكون محبوسة معذبة في مكان ما لأنها لا تستحق عذاب النار، وإنما تعذب بما هو أقل من ذلك، ولهذا هذان الرجلان أُحضرا إلى الله بعد موتهما مباشرة إلى الله، فقال لأحدهما: ادخل الجنة. وقال للآخر: ادخل النار. وهذه المسألة من الأصول التي خالف فيها أهل البدع، فهم يقولون: الإنسان بعد الموت لا يعذب ولا ينعم؛ لأنه يصبح تراباً. وروحه أين تذهب؟! قالوا: ما ندري. وهذا مخالف لكتاب الله ولأحاديث رسوله ولإجماع السلف، فإن الله جل وعلا ذكر عذاب المقبور في آيات كثيرة، كما قال جل وعلا في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فأخبر أنهم يعرضون على النار بالغدو والعشي لتعذيبهم فيها، ثم يوم القيامة يدخلون أشد العذاب. ويقول الله جل وعلا: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:1-3] أي: تعلمون ماذا يكون بعد الموت من العذاب ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:4] أي: بعد النفخ في الصور. وقال جل وعلا: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، فالعذاب الأدنى هو: الذي يكون بعد الموت، والأكبر الذي يكون بعد نفخ الصور. أما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال)، ومر صلوات الله وسلامه عليه بقبرين قد دفنا حديثاً فقال: (هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا. فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى -يعني: يعذبان في كبير- أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله)، فأخبر أن المعاصي تكون سبباً لعذاب القبر،(6/110)
وذكر النميمة، والنميمة هي نقل الحديث للغير على وجه الإفساد. وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله، يعني: لم يكن يتنزه من بوله ويتنظف ويتطهر منه، بل كان يصيبه شيء منه ويتركه ولا يبالي به. فصار من أسباب عذاب القبر، ولهذا يقول العلماء: إن من أسباب عذاب القبر عدم التطهر الطهارة الكاملة، وكذلك من أسباب عذاب القبر أن يكون الإنسان جاهلاً بربه وبدينه، وكذلك من أسبابه بعض المعاصي المعينة كالتهاون في الصلاة والنميمة والإفساد بين الناس، والظلم عموماً، هذه بعض أسباب عذاب القبر. والمقصود أن العذاب يكون في القبر بعد الموت مباشرة، والقبر اسم لما بعد الموت، وليس بلازم أن يُدفن الإنسان في الأرض، بل لو ألقي في البحر لجاءه عذابه أو نعيمه، ولو أحرقته النار لجاءه نعيمه أو عذابه، ولو أكلته الطيور والسباع لابد أن يأتيه النعيم أو العذاب، والعذاب عند أهل الحق يكون على البدن وعلى الروح معاً، وليس على الروح فقط، والروح تبقى حية لا تموت، وإنما تخرج من البدن ويحصل الموت للبدن، ثم هذا البدن قد يصير تراباً، وقد تأكله النار فيصير رماداً وما أشبه ذلك، وقد يلقى في البحر فتأكله الحيتان ودواب البحر، وقد يخرج من بطونها دقيقاً قد طحنته أجوافها وأسنانها ومع ذلك هذه الأجزاء تعذب أو تنعم، هذه الأجزاء الصغيرة التي صارت تراباً تحس بالألم وتحس بالنعيم. فالله جل وعلا لا يعجزه شيء، بل قد يدفن جماعة في حفرة واحدة جميعاً ويصبح واحد منهم يعذب وواحد منهم ينعم، وهذا الذي يعذب لا يصل إلى من بجواره من عذابه شيء، والذي ينعم لا يصيب الذي بجواره من نعيمه شيء، وكل هذا من أمور الآخرة التي لا تقاس بأمور الدنيا، وإنما تتوقف على النصوص التي جاءت عن الله وعن رسوله، ففي هذا الحديث بيان أن الله عجل هذا إلى الجنة والآخر إلى النار بعد أن حكم الله جل وعلا بينهما. وفيه أيضاً أنه يجوز أن يحبط عمل الإنسان بفعل يفعله، فهذا الرجل تكلم بهذه الكلمة(6/111)
فأحبط عمله -نسأل الله العافية-، ولكن مذهب أهل السنة أن الإنسان لا يكفر بالذنوب، ولكنه معرض لعذاب الله، والأمر بيد الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه وعاقبه، وإن شاء أحبط عمله مثل هذا. وفيه أنه لا يجوز لإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة أن يحكم لمعين من الناس بأن هذا في الجنة أو في النار إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [133]
لا يجوز الاستشفاع بالله على أحد من خلقه؛ لأن ذلك ينافي تقدير الله وتعظيمه، أما الاستشفاع بالمخلوق إن كان حياً فجائز، بل قد يكون مستحباً، إذا كان هذا الحي صالحاً يرجى إجابة دعوته، وهذا الذي كان يطلبه الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلم يطلب أحد من الصحابة الشفاعة؛ لعلمهم أن هذا يدخل في الشرك.
حكم الاستشفاع بالله على خلقه(6/112)
قال المصنف رحمه الله: [باب: لا يستشفع بالله على خلقه]. قوله رحمه الله تعالى: [باب: لا يستشفع بالله على أحد من خلقه] الاستشفاع: هو طلب الشفاعة، والله جل وعلا الملك الحق له الملك كله، وله الخلق كله ولا لأحد معه في سلطانه شركة، فلا يجوز أن يُجعل الله جل وعلا شفيعاً عند أحد من الخلق؛ فإن هذا ينافي تقدير الله وتعظيمه، وينافي تمام ملكه جل وعلا، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من الأعرابي، كما سيأتي. أما الاستشفاع بالخلق فمعناه: طلب شفاعته إذا كان حياً حاضراً، فيجوز أن يطلب منه الدعاء والاستشفاع في أمر من الأمور، بل قد يكون مستحباً إذا كان الإنسان ترجى إجابة دعوته، وهذا الذي كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبونه من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فإنهم كانوا يطلبون منه أن يشفع لهم بالدعاء، فكان يدعو لهم أن الله جل وعلا يعطيهم من الخير الدنيوي والأخروي. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلم يطلب منه أحد من الصحابة، ولهذا لما وقع المسلمون في الجدب الشديد في خلافة عمر رضي الله عنه وأراد أن يستسقي طلب من العباس أن يدعو، وهذا هو معنى الاستشفاع به، فخرج به لما صلوا الصلاة فقال: (يا عباس ! قم فادع) فجعل العباس يدعو وهم يؤمنون على دعائه، وهذا معنى الاستسقاء به الذي ذكره العلماء، أي: بدعائه وطلبه ولو كان الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مشروعاً أو جائزاً لم يعدلوا عن ذلك إلى العباس رضي الله عنه، وإنما عدلوا إلى العباس ؛ لأن هذا ممتنع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والعباس رضي الله عنه هو أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلبوا دعاءه من أجل ذلك. فالمقصود: أن الاستشفاع من المخلوق جائز بشرط أن يكون حياً حاضراً قادراً على إجابة الطلب، أما طلب الشفاعة من الميت أو من الغائب فهذا يدخل في الشرك، نسأل الله السلامة، ولهذا جاء النهي عنه كما سيأتي. وأما الاستشفاع(6/113)
بالله على أحد من الخلق فهذا لا يجوز؛ لأنه ينافي عظمة الله، وينافي تقدير الله حق قدره؛ إذ إن العباد كلهم خلق الله وملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وسلطانه نافذ فيهم، ولا أحد له سلطان مع الله حتى يكون الرب جل وعلا هو الشافع عند ذلك المخلوق، تعالى الله وتقدس. ......
شرح حديث: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت...)
قال الشارح رحمه الله: [وذكر الحديث، وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله، ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا؛ فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا -وقال بأصابعه مثل القبة عليه-، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب) قال ابن بشار في حديثه: (إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته). قال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في (الرد على الجهمية) من حديث محمد بن إسحاق بن يسار ]. في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الذي سأل منه الشفاعة ما قال سبح وكرر التسبيح: سبحان الله، سبحان الله وهذا معناه: أنزه لله جل وعلا عما قلت؛ لأن الله جل وعلا ينزه أن يكون شافعاً عند أحد من الخلق؛ لأن هذا ينافي سلطانه وينافي تمام ملكه وقهره، فإن العباد كلهم تحت تصرفه جل وعلا، سواء الأنبياء والملائكة أو غيرهم؛ فلا أحد له مع الله سلطان، بل الملك كله لله عز وجل. هذا هو سبب تسبيحه صلى الله عليه وسلم بقوله: سبحان الله، سبحان الله،(6/114)
والتسبيح: هو التنزيه والتقديس لله جل وعلا عما لا يليق به. وهذا القول مما لا يليق به. وأما معنى الحديث فقوله: (جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال) يعني أنه أصابهم الجدب، وتأخر المطر فأمحلت الأرض وقلَّ الحليب أو انعدم وكانوا يعتمدون على مواشيهم في الأكل والشرب والحمل، فإذا قل ما في الأرض جاع من جراء ذلك العيال وغيرهم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يستسقي ربه جل وعلا حتى يأتي بالمطر فقال: (إنا نستشفع بك على الله)، وهذا اللفظ لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، فالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله شيء كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم، وقد تقدم أن معناه: أن يطلبوا منه أن يدعو لهم فيما يهمهم في أمر دينهم أو دنياهم، أو آخرتهم، فهذا لا ينكر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ما طلب منه إذا لم يكن مخالفاً لأمر الله جل وعلا، وإنما أنكر على الأعرابي قوله: (ونستشفع بالله عليك) يعني: نجعل الله شافعاً لنا عندك حتى تقبل قولنا وتدعو لنا، هذا هو الذي أنكره، وسبح الله جل وعلا من أجله تنزيهاً وتعظيماً لله؛ لأنه ينافي حق الله جل وعلا وملكه. ومثل هذا كل ما فيه تنقص لله جل وعلا في أسمائه وأوصافه أو في حقوقه أو في سلطانه وملكه، فيجب أن ينزه الرب جل وعلا عن ذلك؛ لأنه لا حق لأحد عند الله، فضلاً عن أن يكون أحد شريكاً لله جل وعلا في التصرف في الملك حتى يكون الرب جل وعلا يشفع عند هذا المخلوق، تعالى الله وتقدس. وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، فقال: (ويحك! أتدري ما تقول؟)، فدل هذا على أن هذا الرجل جاهل، يجهل حق الله جل وعلا، ويجهل ما يجب لله جل وعلا، فعمله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزه الله جل وعلا عن قوله منكراً له. ......
وجوب إثبات علو الله جل وعلا(6/115)
ثم أخبر بشيء من عظمة الله جل وعلا مما يدعو الإنسان إلى تعظيم الله جل وعلا، فقال: (إن الله فوق عرشه) والعرش هو سقف المخلوقات وأعلاها، وهو أعظمها وأكبرها وأوسعها، وهو الذي اختصه الله جل وعلا بأن يستوى عليه، والاستواء على الشيء: هو الارتفاع عليه والعلو عليه، وهذا جاء في كتاب الله في مواطن متعددة، وكذلك جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دليل على علو الله جل وعلا وارتفاعه وأنه فوق خلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال: (والله فوقه)يعني: فوق العرش. يقول الله جل وعلا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الملك:16-17] يعني أنه جل وعلا فوق، والسماء هنا المقصود بها العلو، وليس المقصود السماء المبنية حتى تكون (في) ظرفية، بل المقصود: من فوقكم في العلو. وكذلك يقول الله جل وعلا: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، ويقول الله جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]في آيات متعددة يذكر ربنا جل وعلا أنه بعدما خلق السماوات والأرض استوى على عرشه، وعرشه جل وعلا هو أعظم المخلوقات، كما جاء أن السماوات -على سعتها وعظمها- تكون بالنسبة للعرش كسبعة دراهم ملقاة في أرض من الفلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وهو أرفعها وأعلاها، وليس فوق العرش إلا رب العالمين جل وعلا، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة ووسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فعرش الرحمن هو أعلى المخلوقات على الإطلاق. ثم إنه لا ينكر هذا إلا أهل البدع الذين ضلوا عن هداية نصوص كتاب الله جل وعلا وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم(6/116)
بأفكارهم وعقولهم القاصرة، فإنهم اعتمدوا على عقولهم، والذي جعلهم يعتمدون على عقولهم ويضلون هو أنهم قاسوا رب العالمين على الخلق -تعالى الله وتقدس- ولو لم يصرحوا بهذا، ولكنهم يتكلمون بما يعقلون وبما تدركه عقولهم فقط، والله جل وعلا أعلى وأجل من أن تدركه العقول ومن أن تقيسه المخلوقات، كما قال الله جل وعلا: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] يعني: إذا وصل الفكر إلى الله فيجب أن ينتهي؛ لأنه لن يعود بطائل، فالله أعظم من كل شيء، وفوق أن يتصوره متصور، كما قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] تعالى وتقدس، وكما قال جل وعلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، والند هو: المثل والنظير في أي شيء كان، ويقول جل وعلا: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] يعني: هل تعلم له مثيلاً ونظيراً يساميه تعالى وتقدس. والواجب اتباع ما جاء عن الله جل وعلا وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، والعقل لا ينافي هذا، وكذلك الفطر التي فطر الله جل وعلا خلقه عليها؛ فإن الله فطر عباده على كونه جل وعلا فوقهم، ولهذا تجد كل داع إذا دعا ربه يرفع يديه إلى السماء، ويقول: يا رب! ولا يتجه يميناً ولا شمالاً ولا تحت، بل فطرة الله التي فطر الناس عليها هي على هذا الشيء، وأن الله فوقهم، وإنما تتغير الفطر بالتعليم وبالتربية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، والمقصود بالأبوين من يتولى تربيته، سواء الأبوان أو المدرس أو المعلم أو المربي أو غيرهم، فإذا رباه على خلاف الحق فقد رباه ضد الفطرة التي خلق عليها، وأما العقل فإن الله جل وعلا لا يجوز أن يكون حالاً في خلقه أو يكون شيء من الخلق فوقه -تعالى الله وتقدس عن ذلك-؛ لأنه أعلى(6/117)
من كل شيء، كما قال جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] فالسماوات كلها على سعتها يطويها جل وعلا بيده، وتكون صغيرة بالنسبة إليه تعالى وتقدس. فلا يجوز أن يظن ظان أن شيئاً من المخلوقات يمكن أن يحيط بالله جل وعلا وتعالى وتقدس.
وجوب إثبات صفة الإتيان لله جل وعلا
وأما كونه جل وعلا يأتي يوم القيامة إلى الأرض ليفصل بين عباده ويقضي بينهم فهو يأتي وهو على عرشه وهو عالٍ على كل شيء، ولا يمكن أن يكون شيء فوقه لا في الوقت الحاضر ولا يوم القيامة ولا غيره؛ لأنه سبحانه أكبر وأعظم من كل شيء. فيجب أن يعظم الله جل وعلا، ويجب أن تُعتقد معاني النصوص التي جاءت عن الله جل وعلا في كتابه اعتقاداً صحيحاً، وهكذا ما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه الله جل وعلا إليه ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا ووضحه إيضاحاً لا يكون بعده محلاً للكلام؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه علمنا كل ما يلزم أن نعتقده، ووضح ذلك وبينه بياناً شافياً. أما الذي يعتاض عن ذلك بقول متكلم أو متفلسف فإنه في الحقيقة يعتاض عن الهدى بالباطل؛ لأن الهدى لا يتعدى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل يجب أن يرد على قائله. وفي هذا تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به، وأنه يجب أن ينزه عما يخالف عظمته أو ينافيها أو ينافي معاني أسمائه وأوصافه جل وعلا. وفيه أنه إذا جاء كلام يشتمل على حق وباطل يبين ويفصل، فيرد الباطل ويقبل الحق، ولهذا رد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأعرابي قوله: (نستشفع بالله عليك)، وأقر قوله: (نستشفع بك على الله).
الشفاعة الجائزة(6/118)
وفيه أن الشفاعة التي تطلب من الله تكون بالدعاء، والله جل وعلا أخبر أن الشفاعة لا تقع إلا بعد إذنه؛ لتمام ملكه، كما قال جل وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وقال عز وجل: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، فالشفاعة لا تقع إلا بإذن الله، ولا أحد يستطيع أن يتقدم يطلب الشفاعة من الله إلا يوم القيامة إذا أذن له. وقد جاء بيان ذلك وتفصيله عن الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً، فإنه إذا وقف الخلق يوم القيامة لرب العالمين وقوفا طويلاً مدة خمسين ألف سنة، حتى يوجد من الشدة ما يتمنى بعضهم أو كثير منهم أن يقضى بينهم ولو إلى النار؛ لأنهم يتصورون أن ما بعده أهون منه، والأمر بالعكس، فليست النار بأهون منه، وهم مجتمعون كلهم في صعيد واحد، غير أن هذا الوقوف شدته وهوله وسهولته تتفاوت على حسب أعمال الناس، فإذا وقفوا هذا الموقف الهائل يلهمهم الله جل وعلا أن يقولوا: لماذا لا نطلب من الأنبياء أن يشفعوا لنا عند الله حتى يأتي ليفصل بيننا ويريحنا من عناء هذا الموقف الشديد؟ فيقول بعضهم لبعض: من أولى بذلك من أبيكم آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنته جنته؟! فيذهبون إليه -وآدم موجود معهم في الموقف، وكذلك الرسل موجودون معهم في الموقف- فيعرفونه، ويقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى الله حتى يأتي ليفصل بيننا ويريحنا من عناء هذا الموقف فيعتذر ويقول: إن ربي جل وعلا قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإن ربي نهاني عن أكل الشجرة فعصيته، نفسي نفسي. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فإنه أول(6/119)
رسول أرسله الله جل وعلا إلى أهل الأرض، وقد سماه الله جل وعلا عبداً شكوراً، فيأتون إلى نوح فيعرفونه مع الرسل، ويطلبون منه ذلك فيعتذر مثل ما اعتذر آدم، ويرسلهم إلى إبراهيم ويقول: إنه خليل الرحمن، فيأتون إليه، فيعرفونه ويطلبون منه أن يشفع لهم، فيعتذر ويقول مثل ما قال نوح، ثم يرسلهم إلى موسى ويقول: إن الله فضله بكلامه بلا واسطة، اذهبوا إليه، فيذهبون إليه فيعتذر ويقول: إني قتلت نفساً بغير حق، كما أن إبراهيم عليه السلام يقول: إني كذبت ثلاث كذبات، ويقول نوح عليه السلام: إني دعوت ربي ما ليس لي به علم، اذهبوا إلى غيري، وكلها أمور مغفورة لهم، ولكن الموقف هائل فموسى يرسلهم إلى عيسى عليه السلام فيعتذر، ثم يرسلهم عيسى إلى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاءوا إليّ ذهبت إلى مكان تحت العرش، فإذا رأيت ربي سجدت له فيدعني ما شاء الله أن يدعني ويفتح عليّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن، ثم يقول جل وعلا لنبيه محمد: ارفع رأسك، واشفع تشفع)، وقبل أن يقول له: (اشفع) لا يشفع، وهكذا كل شافع عند الله لا يشفع حتى يقول له جل وعلا: اشفع؛ لأن الله جل وعلا يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، فلتمام ملكه وعظمة سلطانه ما أحد يتجاسر على طلب الشفاعة قبل أن يأذن له.
الشفاعة المحرمة التي كان المشركون يتعلقون بها(6/120)
والشفاعة التي يتعلق بها المشركون قديماً وحديثاً هي من باب قياس الخالق على المخلوقين تعالى الله وتقدس، فهم يرون العظماء لا يأتي إليهم طالب الحاجة منهم إلا بواسطة شفاعة المقربين لديهم، فجعلوا رب العالمين بهذه المثابة، تعالى الله وتقدس، والله جل وعلا لم يجعل بينه وبين خلقه واسطة، بل إذا أردت ربك، فاسأله في أي مكان كنت، وعلى أي حالة كنت، ولا حاجة إلى أن تذهب تبحث عن الوسائط، فالله لم يجعل لك وسائط تتوسط بها عند الله، بل جعل هذا شركاً يمنع من قبول دعوتك إذا دعوته، ويوجب لمن فعل ذلك أن يكون خالداً في النار إذا مات عليه، نسأل الله العافية. وإنما الوساطة في الحق هي وساطة الرسل في تبليغ الدعوة وفي تبليغ الوحي فقط، فهم الوساطة بيننا وبين ربنا جل وعلا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو الوساطة بيننا وبين ربنا في تبليغ أمره وشرعه ونهيه، أما العبادة فليس بينك وبين الله وساطة، بل يجب أن تعبد ربك رأساً، وتطلب منه ما أردت بدون أن تجعل بينك وبينه وسائل ووسائط. فالمقصود: أن الشفاعة التي يتعلق بها المشركون تكون سبباً لحرمانهم من الشفاعة، ولهذا ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، الإخلاص هو أن يكون الدعاء خالصاً لله ليس لغيره منه شيء، فأهل الإخلاص هم الذين يشفع فيهم الرسل. أما أهل الشرك فشركهم يمنعهم من إجابة الشفاعة لهم، والمقصود أن الشفاعة التي جاء ذكرها في القرآن جاءت على قسمين: قسم مثبت، وقسم منفي، فالمثبت هو ما يقع بعد إذن الله ولمن يرضاه ربه جل وعلا، أما المنفي فهو الذي لم يأذن الرب جل وعلا له، كما يزعمه المشركون؛ فإنهم يجعلون أوثانهم وأصنامهم ومعبوداتهم وسائط بينهم وبين الله لتشفع لهم، كما أن في الوقت الحاضر كثير من الناس يجعلون الأولياء وسائط لهم ليشفعوا(6/121)
لهم عند الله، ولهذا يطلبون من الأولياء أن يشفعوا، ويقولون لهم: اشفعوا لنا، وهم أموات لا يستطيعون أن يزدادوا حسنة ولا أن ينقص من سيئاتهم سيئة، ومع ذلك يطلبون منهم الشفاعة، زاعمين أن هذا ينفع، وهذا خلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر عظيم جداً ينبغي للإنسان أن يعرفه؛ لأن كثيراً من الناس ضل بسببه، وكثير من الناس يسمي هذا توسلاً ويزعم أنه يقرب إلى الله، وأن الولي محبوب لدى الله، وأن هذا العمل مشروع، وفي الحقيقة هو ينافي التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن التوحيد هو أن يوحد الله في الطلب وفي الدعاء وفي القصد والإرادة، فيوحد الله في ذاته، ولا يطلب من أحد غيره. أما الادعاءات والتعلقات بالباطل وعلى قول فلان وفلان فهذا لا قيمة له، بل يضمحل إذا حصص الحق، وإذا تبين يوم القيامة للإنسان ما قدم عض على يده نادماً، فالواجب على الإنسان أن يعرف الحق، وما دام أنه بالإمكان أن يعمل ويتوب ويتعرف على الحق وعلى الباطل فليعمل ذلك، وليتمسك بالحق ويجتنب الباطل.
وجوب تعظيم الله عز وجل وإثبات صفاته كما جاءت(6/122)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر:44] إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي. قوله: (وسبح لله كثيراً وعظَّمه) لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، إن شأن الله أعظم من ذلك. وفي هذا الحديث إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سماواته، وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة خلافاً للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل]. تفسير الاستواء بالعلو ثبت عن السلف، وقد فسروا الاستواء بألفاظ أربعة، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي العالية قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يعني: علا، ففسروه بالعلو، كما فسروه بالارتفاع فقالوا: معنى استوى: ارتفع، وفسروه أيضاً بالصعود فقالوا: استوى: صعد، وفسروه أيضاً بالاستقرار فقالوا: استوى: استقر، فهذه ألفاظ أربعة جاءت مروية عن السلف الصحابة والتابعين وغيرهم في تفسير الاستواء. وأما تفسير أهل البدع فهو تفسير باطل؛ لأنهم فسروه بالاستيلاء فقالوا: معنى استوى: استولى، والاستيلاء يكون مخالفاً لمعنى الاستواء،(6/123)
ويستدلون ببيت ينسب للأخطل النصراني : قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق مع أنه لا يوجد حتى في شعره، وهذا عجيب! كيف يترك كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة التابعين الذين فهموا عن الله وعن رسوله ويؤخذ ببيت مجهول لمجهول، أو لضال ضل في ذلك؟! ولكن هكذا أهل الباطل، وهذا إلحاد في أسماء الله جل وعلا، والاستيلاء معناه: المغالبة، أي أنه كان مغلوباً عليه ثم غالب هذا الغالب فغلبه، مثل بشر، فقد كان العراق لواحد آخر فقاتله حتى غلبه فاستقر له، والله يتعالى ويتقدس عن هذا المعنى، فكل شيء ملك له تعالى، فالاستواء معناه ظاهر وواضح وجلي لا يجوز تفسيره إلا بما جاء عن السلف الصالح الذين فهموا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل أسماء الله وأوصافه يجب أن يوقف على النص فيها، ولا يتجاوز كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد من الخلق خالف ما في الكتاب والسنة، ولهذا يقول العلماء: أسماء الله توقيفية أي: أنه يوقف فيها على النص فقط، فإذا جاء النص في ذلك قيل به، وقيل بمقتضاه، وإذا لم يأت نص لا يجوز أن نقول فيها برأينا أو باجتهادنا؛ لأنها في الحقيقة مبنية على شيئين: أحدهما: أن الله ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يقاس بغيره. الثاني: أن الله غيب لم يره ولم يطلع عليه أحد، فلا يجوز أن يتكلم متكلم فيما هو غائب عنه، وإن تكلم في ذلك فهو يظن ظنوناً، والظن لا يغني من الحق شيئاً، فلهذا لا يجوز أن نصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. ويكفي هذا؛ لأن الله جل وعلا خاطبنا بما نفهم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا ما أمره الله جل وعلا ببيانه، ووضحه، فلم يترك الأمر ملتبساً مشتبهاً، بل جلاه غاية الجلاء ووضحه وبينه غاية الوضوح والبيان، وقد علّمنا أشياء أقل من هذا أهمية بكثير، مثل أدب الأكل، وآداب الجلوس، وآداب النوم، وآداب دخول(6/124)
المنزل، وكذلك آدب قضاء الحاجة، علمنا هذه الأمور مع أن هذه لو تركها الإنسان ما كان آثماً، فكيف يترك باب معرفة الرب جل وعلا ملتبساً مشتبهاً، فلا يمكن أن يتركه حتى يشتبه حقه بالباطل، ومن أقر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه بلغ عن الله فيجب عليه أن يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين باب معرفة الله جل وعلا بياناً واضحاً، وقد قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [المائدة:67]، فأمره الله جل وعلا أن يبلغ ما أنزله الله إليه، ولو ترك شيئاً لم يوضحه والناس بحاجة إليه ما كان بلغ البلاغ الكامل الذي طلب منه، ولهذا كان السلف يستدلون بهذه الآية على رد البدع كلها، ويقولون: هذه البدع لو كانت حقاً لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]يعني: إن لم تبلغ فالله يعذبك ويعاقبك على ذلك، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشهد على الناس في أعظم موقف يوم عرفات أو يوم النحر لما خطب الناس خطبته البليغة فقال: (أيها الناس! إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟) أي: إن الله سيسألكم عني، فيقول لكم: هل بلغكم؟ (فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، فجعل صلى الله عليه وسلم يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ، ومن الفروض العينية التي يجب على كل إنسان بعينه أن يعتقدها ويؤمن بها أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل إليه من ربه. فالذي يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ أوصاف الله ولم يبينها ويوضحها لنا فهو في الحقيقة ما شهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبهذا يختل إيمانه بالله عز وجل(6/125)
وبالرسول صلى الله عليه وسلم. والمقصود أننا لسنا بحاجة إلى قول متكلم أو فلسلفة متفلسف أو متحذلق، قد أغنانا الله جل وعلا عنهم بما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلم أن يستغني بذلك. ......
سفر القلب إلى الله تعالى
قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة) -بعد كلام سبق فيما يُعرِّف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته- قال بعد ذلك: والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، واغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيئته خاشعاً لعظمته عانياً لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم(6/126)
المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر وما أبركه وأروحه، وأعظم ثمرته وربحه، وأجل منفعته وأحسن عاقبته، سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب. انتهى كلامه رحمه الله]. سفر القلب: هو معرفته ووصوله إلى حقيقة العلم، والمعرفة تكون بالوحي الذي أوحاه الله جل وعلا، ويجب على العبد أن يهاجر إلى الله وإلى رسوله ويترك ما قد يعترضه من العوائق والمؤثرات التي تؤثر في سيره إلى الله جل وعلا، فإذا حصل عائق أو مؤثر فإنه قاطع يقطعه عن الله جل وعلا، والقواطع والعوائق كثيرة، والسفر لا يكون إلا بواسطة الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا إلى رسوله. والله جل وعلا غيب لا يُدرَك ولا يُعلَم، ولا أحد يطلع عليه ويشاهده، ولا له مثيل فيقاس عليه تعالى الله وتقدس، فتتوقف معرفته على وصفه نفسه، وقد تعرف جل وعلا إلى خلقه بأوصافه التي وصف نفسه بها في كتابه، وكذلك وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث ونحوه. فسفر القلب يكون بهذه الواسطة، أي: أنه يعلم أن الله مستوٍ على عرشه، وأن الله عظيم وكبير لا مثيل ولا نظير له، ويعرف أن الله أنزل الوحي وهو على عرشه، والأوامر تنفذ إلى من يشاء من خلقه ورسله، وهو جل وعلا كل يوم في شأن: يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجيب دعوة، ويجبر كسيراً، ويرحم ضعيفاً، ويقصم جباراً، فليس معه جل وعلا متصرف في الخلق كله. وأما ما في أيدي الخلق فهو أمر وهبه الله لهم، إذا شاء جل وعلا سلبه منهم، وسوف يسلب حياة الإنسان عن قرب؛ لأنها قصيرة ومحدودة، فيذهب ويترك كل ما خوله من هذه الدنيا ليس معه إلا خرقة ملفوف بها جسده، وقد يكون جسده ليس ملفوفاً بخرقة، ثم عن قرب يكون مرتعاً للدود تحت طباق الأرض، لا يستطيع جلب منفعة لنفسه ولا دفع مضرة عن نفسه، وإنما الأمور كلها بيد الله جل وعلا، وكل(6/127)
الخلق يرجعون إليه يوم القيامة، قد جعل لهم داراً للاختبار وللابتلاء، فهذه الدار جعلها الله جل وعلا ليختبرنا ويمتحننا، فهي دار امتحان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فالله جل وعلا جعل ذلك غيباً حتى يتبين من يصدق ومن يعمل بالوحي الذي يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوقن بذلك ممن لا يؤمن إلا بمحسوس، ويتبين من يعبد الله ممن يعبد غيره، ولهذا جعل للخلق دارين باقيتين أبد الآباد: الجنة والنار، الجنة لمن أطاع وامتثل الأمر وآمن بالله جل وعلا وصدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه، والنار لمن كذب وأبى اتباع الوحي، فيجب أن يكون هذا أهم المهمات لدى قلب الإنسان، يتعرف عليه وينظر فيه دائماً، ويتفكر فيه، ولا يجوز أن ينساه. ثم إن السفر الذي يجب على العبد أن يسافره هو السفر إلى الله بقلبه وبعمله وبعبادته، وأما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإلى سنته وإلى الوحي الذي جاء به ليجعله دليلاً له في عمله، وهذا أنفع ما يكون للإنسان، بل وإذا تركه الإنسان فهو الخاسر وهو الضال، وهو الذي يكون يوم القيامة من النادمين، نسأل الله العافية. ......
دعاء الميت والاستشفاع به(6/128)
قال الشارح رحمه الله: [وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم، بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: (لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك). وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك، وهذا هو الذي يشرع في حق الميت، أما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14]، فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي: ينكره ويعادي من فعله كما في آية الأحقاف: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6] فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر]. قبل هذه الآية قوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]. يقول الله جل وعلا: قد ضل الفاعل هذا الفعل الضلال البليغ المتناهي : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5] يعني: أن الأموات من الحجارة وغيرها ما تستجيب دعوة الداعي إلا إذا حشر الناس وجمعوا فهناك تجيب وتكفر به وتقول: كفرت بك، ولهذا(6/129)
قال: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]. وبين أن هذا الدعاء عبادة، فالذي يدعو الميت ويذهب إلى قبره ويقول: يا فلان! اشفع لي أو أعطني كذا أو أنا في حاجتك أو ظلمني فلان فانتقم لي منه أو أريد ولداً أو أريد مالاً أو أريد نصراً على العدو.. أو ما أشبه ذلك فهذا ضال متناهٍ في الضلال، وما يفعله شرك بالله جل وعلا؛ لأنه دعا ميتاً لا يجيب ولا يستطيع أن يستجيب، فإذا كان يوم القيامة جُمع هذا الداعي ومن دُعي ويقول الله جل وعلا له: اذهب إلى من كنت تدعوه فليستجب دعاءك، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس إذا اجتمعوا يوم القيامة وجاء ربنا جل وعلا ليفصل بينهم يخاطبهم بخطاب يسمعونه ويقول لهم: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا، فكلهم يقولون: بلى يا رب! فيمثل لكل داعٍ ما كان يدعوه) فيمثل للذين كانوا يدعون الشمس الشمس، وللذين كانوا يدعون القمر القمر، وللذين كانوا يدعون الأصنام الأصنام، وأما الذين كانوا يدعون الأنبياء أو الأولياء فيؤتى بشياطينهم؛ لأن الشياطين هي التي أمرتهم بذلك، (فيقال لهم: اتبعوهم -أي: هؤلاء الذين تدعونهم اتبعوهم-. فيذهبون بهم إلى جهنم، فيلقون في النار ويقتحمون في النار خلفهم) هذا حكم الله فيمن يدعو غيره، وكل الخلق يقر بأن هذا عدل من الله أن يولي الداعي ما كان يدعو ، (أما المؤمنون فإنهم يبقون في ذلك الموقف -يبقون بعد ما ذهب من يدعو غير الله- فيأتيهم الله جل وعلا فيقول: ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، وقد فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم) يعني: لما كنا نحتاجهم أما اليوم فلسنا بحاجة إليهم؛ لأنه لا أحد يغني عن أحد في ذلك اليوم، (فيأتيهم الله جل وعلا فيعرفونه فيتبعونه) لأنهم يعبدونه. فالإنسان يتبع يوم القيامة معبوده : فإن كان يعبد شجراً(6/130)
يتبعه إلى جهنم، وإن كان يعبد ولياً أو نبياً فإنه يمثل له شيطان ذلك النبي أو الولي. وقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك في القرآن بقوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] ولما نزلت هذه الآية احتج بعض المشركين وقالوا: إذاً: نحن نعبد الملائكة، وهناك من يعبد عيسى ويعبد أمه! فأنزل الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:101-102] فالرسول صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية وبينها، فقال: (إن من كان يعبد عيسى ومن كان يعبد عزيراً يأتيه شيطان عيسى وشيطان عزير) وكذلك الأولياء تأتي شياطينهم؛ لأن الشياطين هي التي أمرت بعبادتهم، وهي التي أمرت بدعائهم، فيتبع من كان يعبدهم شياطينهم. فهذا معنى قوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6] يعني: إذا جمعوا معهم صار المدعو عدواً للداعي مبغضاً له، كافراً بدعوته، يتبرأ إلى الله منه، سواء أكان هذا المدعو ولياً أم نبياً أم غير ذلك، فإن كل معبود يكفر بعابده. ......
الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولم يستشفعوا أو يستسقوا به(6/131)
قال الشارح رحمه الله: [والصحابة رضي الله عنهم لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الر،اشدين ولم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب، كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستسقي؛ لأنه حي حاضر يدعو ربه، فلو جاز أن يستسقى بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت؛ لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضراً، فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل، ولو كان دعاء الميت خيراً لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم، فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله هلك. وبالله التوفيق]. الاستشفاع والتوسل من الأمور المجملة التي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً عند كثير من الناس، فالاستشفاع أو التوسل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً، وفي وقتنا تستعمل هذه الألفاظ غالباً في الباطل لعدم الفهم، ولعدم التفريق بين الحق والباطل لأجل الجهل، فكثير من الناس يجهل معنى التوسل، ويجهل معنى الاستشفاع، والتوسل المستحب هو التوسل بأهل الصلاح والخير في وقت الجدب عند الاستسقاء في الصلاة، وهذا هو الذي يقول العلماء معناه: التوسل بدعاء الصالحين إذا كانوا أحياءً حاضرين فقط، أما إذا كانوا غائبين أو كانوا ميتين فلا أحد من العلماء يقول بذلك، ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بإبطال هذا. وكذلك يكون حكم الاستشفاع إذا كان المقصود به الدعاء؛ لأن كلمة (شفع) مأخوذة من الشفع الذي هو ضم الشيء إلى غيره، فهو يضم دعاءه إلى دعائه، ولكن كثيراً من الناس جهل هذا المعنى وقال: الاستشفاع هو أن أطلب به الشفاعة من الله، أو أطلبه أن(6/132)
يشفع لي ولو كان ميتاً، ولو كان غائباً، وأقول: يا فلان! اشفع لي، أو أنا أدعوك أن تشفع لي، وهذا -في الحقيقة- هو دين المشركين، فلم يكن المشركون يعتقدون أن مع الله خالقين ومدبرين ومتصرفين في الكون لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإنما كانوا يعبدون أصناماً أو أحجاراً أو أشجاراً أو رجالاً صالحين من الجن والإنس أو الملائكة أو الأنبياء، يعبدونهم ويقولون: نحن نطلب الشفاعة منهم وأن يتوسطوا لنا عند الله، هذه عبادتهم، وهذا هو الذي جاءت الرسل بإبطاله وبالتصريح بأنه شرك بالله جل وعلا، فيجب على المسلم أن يفرق بين دين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ودين أبي جهل ولكلٍ وارث، فالأنبياء لهم ورثة، والمشركون لهم ورثة، فيجب على العبد أن يفرق بين الحق والباطل. والصحابة رضوان الله عليهم سلكوا الطريق الحق الذي جاءهم به كتاب الله ودعوة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما حصل الجدب في خلافة عمر رضي الله عنه -والسنة التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المسلمين إذا أجدبوا فإنهم يصلون لله، ويدعونه، ويخشعون ويتضرعون، ويظهرون فقرهم لله جل وعلا لعله يرحمهم -خرج المسلمون في زمن عمر رضي الله عنه يستسقون ويطلبون المطر من الله جل وعلا، وتوسلوا بالعباس ، ومعنى (توسلوا بالعباس ): أنهم أخذوه معهم فدعا؛ لأنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحي الذي يقدر أن يدعو، فقال عمر : (يا عباس ! قم فادع) فجعل العباس يدعو وهم يؤمنون على دعائه. فتبين بهذا أن التوسل الذي قصده هو التوسل بدعائه، وإلا فلو كان التوسل بذاته لتوسلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا فرق -إذا كان التوسل بالذات- بين الحياة والموت، بل كله سواء، فلما عدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس وقال عمر رضي الله عنه: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) تبين بهذا أن المقصود بالتوسل التوسل(6/133)
بدعاء الحي الحاضر، وهذا هو الذي تقرر في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوز أن يدعى أحد مع الله، ولا يجوز أن يُسأل الله بالمخلوق، كأن يقول الإنسان: يا رب! أسألك بفلان، فكون الإنسان يسأل ربه بمخلوق كأن يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك، أو أسألك بعمل فلان، أو أسألك بفلان هذا من البدع التي حدثت ولم يأت بها الشرع، وإنما إذا كان الإنسان ترجى إجابته فيستحب أن يطلب منه الدعاء، فيقال له: ادع الله لنا، فيدعو هذا الذي ترجى إجابة دعوته والحاضرون يؤمنون على دعائه كما فعل الصحابة، هذا هو الذي يجوز. أما أن يذهب الإنسان إلى ميت فيقول لهذا الميت: اشفع لي، أو أعطني كذا، أو امنعني من كذا، أو أنا أستجير بك من كذا، أو فلان ظلمني فانتصر لي منه، أو ما أشبه ذلك، فهذا دين المشركين، وليس من دين الإسلام في شيء، بل هو الشرك بعينه، ومن اعتقده ومات عليه فإنه يكون مشركاً، وهو داخل في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وليس دين المشركين إلا هذا، فالمشركون ما كانوا يعتقدون أن الحجر يدبر، ولا كانوا يعتقدون أن الصنم ينزل المطر أبداً، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله، كما قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، وقد جاء أنهم كانوا إذا ركبوا في السفينة فهبت ريح شديدة يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: هذه لا تنفع ولا تضر، ويتجهون بدعائهم إلى الله خالصاً، ثم إذا أنجاهم الله جل وعلا إلى البر وجاء الرخاء عادوا إلى شركهم، هكذا كان صنيعهم. فهم في الحقيقة أصح عقولاً ونظراً ممن ينزل فقره بالمقبور الذي قد دفن وأصبح طعاماً للدود، لا يستطيع أن يخلص بدنه من الدود الذي يأكله، فكيف يذهب إنسان يدعوه ويترك رب العالمين الذي بيده كل شيء؟! والله جل وعلا لم يجعل بينه وبين(6/134)
عبده وساطة تدعى، بل أمر بأن يدعى وحده ولا يدعى معه غيره، ففي أي مكان كنت فاتجه إلى ربك جل وعلا، فإنه سميع قريب عليم يعلم ما في النفوس، بخلاف الخلق فإنهم عاجزون، وهم أيضاً فقراء إلى الله كلهم ملائكتهم وبشرهم، إنسهم وجنهم، ولا يملكون مع الله شيئاً، ولهذا يقول الله جل وعلا: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، فكل من يدعى من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، فلا فائدة من دعوتهم، وهذا أمر عام: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ هؤلاء الذين زعمتم أنهم يُدعون من دون الله سواء أكانوا عقلاء، أم غير عقلاء، كانوا أنبياء أم غير أنبياء، ملائكة أم جناً أم غيرهم، كلهم داخلون في هذه الآية: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ فإذا كانوا لا يملكون مثقال ذرة فكيف يدعوهم العاقل؟! وماذا تجدي دعوتهم؟! ثم قال: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ يعني: ما لهؤلاء المدعوين من دون الله من شركة في السماء ولا في الأرض، بل هم ملك لله يتصرف فيهم كيف يشاء، وإذا أراد أن يهلكهم أهلكهم. ثم قال جل وعلا: ((وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ )) يعني: من معاون ومساعد تعالى الله وتقدس. إذاً: فإذا كان ما لهم شيء يملكونه استقلالاً، ولا يشاركون المالك في شيء منه، ولا المالك أيضاً يتخذهم معاونين ومساعدين، فماذا بقي؟ بقيت الشفاعة، فنفاها جل وعلا بقوله: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23]، فبين أن الشفاعة ما تنفع إلا إذا أذن رب العالمين. قد يقول قائل -مثلاً-: إذا كانت تنفع فأنا أطلبها من الولي أو من النبي والله(6/135)
يأذن له! فيقال: ليس هذا الطلب طريقاً للإذن بالشفاعة، وإنما طريق الإذن للشفاعة هو إخلاص الدعوة لله، وإخلاص الدعاء له، وإخلاص العبادة، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟! قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) يعني أن الشفاعة تكون لأهل الإخلاص، أما الذين يدعون مع الله غيره فالله لا يأذن بالشفاعة فيهم. وقال جل وعلا في الآية الأخرى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43]يعني: كيف تتخذونهم ليكونوا شفعاء وهم لا يملكون شيئاً؟! فهو جل وعلا ينكر عليهم. ثم قال جل وعلا: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:44]، وسائر سور القرآن مملوءة من معنى هذا الذي ذكرنا. فلا يجوز للمسلم أن يجهل مثل هذا؛ لأن هذا من أصول الدين، وكل من مات سيسأل عن هذا، فإذا وضع في قبره أول ما يوضع يأتيه ملكان عظيمان ينتهرانه بقوة وشدة ويقولان له: من ربك؟ ومن كنت تعبد؟ وبأي شيء تعبد؟ ومن الذي جاءك بما تعبد؟ يسألانه عن هذه المسائل الثلاث، فإذا كان الإنسان ليس عابداً على الحقيقة وليس عالماً بذلك يتلعثم ولا يستطيع أن يجيب، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا سئل وكان غير موقن فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لأنه بنى دينه على تقليد، وكان يرى الناس يفعلون شيئاً فيفعل كما يفعلون، فهكذا يقول في القبر، يقول: رأيت الناس يفعلون......
حكم الاستشفاع بالله على خلقه(6/136)
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك]. سبق أن معنى (نستشفع بالله عليك): أنه تنقص لله جل وعلا، فالله جل وعلا لا يجوز أن يكون شافعاً عند أحد من الخلق، وإنما يشفع عند الله؛ لأن الله جل وعلا له الملك كله، وله الخلق كله، وبيده الخير كله، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا أحد يجبر الله أو يرغمه على شيء، أو يجعل الله يفعل شيئاً من الأشياء، بل الله أعظم وأكبر من أن يُجعل شفيعاً عند مخلوق من الخلق، تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً، ولهذا كبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أنه فسبح، قال: (سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله)، فصار يكرر التسبيح؛ لأن الأعرابي قال قولاً تنقص فيه رب العالمين، وبتسبيحه هذا إنكار، ثم لم يكف عن هذا الأعرابي، بل عاد عليه وقال: (ويحك!) و(ويح) كلمة توجع، يعني: إنك وقعت في أمر مهلك، (أتدري ما تقول؟ أتدري ما الله؟)، فأخبر أن الله جل وعلا قاهر فوق الخلق كلهم، وكلهم تحت تصرفه، وفي قبضته، لا يمكن أن يملكوا معه شيئاً، فيجب أن ينزه الله جل وعلا من هذا المعنى، ولا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي فيه تنقص بالله جل وعلا، فضلاً عن أن يعتقد، أما اعتقاد ذلك فهو كفر بالله جل وعلا، نسأل الله العافية، فلهذا بادر بالإنكار عليه، ونزه الله جل وعلا من أن يكون شافعاً لأحد من الناس عند النبي صلى الله عليه وسلم، تعالى الله وتقدس، ولم ينكر عليه قوله: (ونستشفع بك على الله) بل أقره على ذلك، وهذا هو الذي كان يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع عند الله لمن سأل، كما طلب عكاشة بن محصن ، فإنه لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وقال: (هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، قام عكاشة بن محصن الأسدي وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: اللهم اجعله منهم) فهذا طلب(6/137)
شفاعة فشفع له بذلك. وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون منه هذا، ولكن بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه لم يطلب أحد منهم شيئاً منه. ......
وجوب الغضب إذا انتهكت محارم الله جل وعلا
قال المصنف رحمه الله: [الثانية: تغيره تغيراً عُرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة]. يعني أن هذا الأعرابي لما قال: (ونستشفع بالله عليك) تغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه أصحابه من أجل ذلك من شدة تغير وجهه، غيرة وغضباً لله جل وعلا لكونه تنقص الله جل وعلا بهذه الكلمة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهكت محارم الله لا يمكن أن يسكت، ولا أحد يقوم لغضبه صلوات الله وسلامه عليه، فلهذا عرف ذلك في وجوه أصحابه، فإنها تغيرت لتغير وجه النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا التغير وقع غيرة لله جل وعلا لكون هذا الرجل الجاهل استنقص حق الله جل وعلا وملكه، فمن أجل ذلك وقع ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم عملاً وقولاً. ......
معنى: (سبحان الله)
قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله). الرابعة: التنبيه على تفسير (سبحان الله)]. يعني أن معنى (سبحان الله): تنزيه لله، و(سبحان) مأخوذ من (السبح) وهو الإبعاد في الجري، يقال: فرس سبوح: إذا كانت تبعد في سيرها وجريها، فهو يقول: إن الله بعيد كل البعد عما قلت، ويتنزه ويتقدس عما قلت، هذا معنى قوله: (سبحان الله). ......
طلب الدعاء من المخلوق الحي جائز(6/138)
قال المصنف رحمه الله: [الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء]. المسلمون كانوا يسألونه الاستسقاء ويسألونه الدعاء، سواء أكان خاصاً أم عاماً. وهكذا ينبغي للإنسان إذا كان عنده من يظن به الصلاح ومن يظن أنه ترجى دعوته أن يسأله ويقول له: ادع الله لنا، وقد جاءت سنة ذلك في القرآن، فالله جل وعلا أخبرنا عن الملائكة الذين يحفون بالعرش ويؤمنون بالله أنهم يستغفرون للمؤمنين، قال تعالى حاكياً عنهم: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]، فإذا طلب المسلم من أخيه المسلم أن يدعو له فإن هذا جائز، بل قد يكون مستحباً؛ لأنه جاء في الحديث: (إذا دعا المسلم لأخيه في ظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله)وقول الملك: (آمين) يرجى أن الله يستجيبه، ويقول: (ولك بمثله) يعني: لك من الدعوة مثل ما دعوت لأخيك، فإذا دعا الإنسان بدعوة لأخيه فإنه في الحقيقة يسعى في طلب الخير لنفسه، ثم المسلم يجب أن يحب لأخيه المسلم مثل ما يحب لنفسه، ولهذا شرع لنا أننا نقول في الصلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعباد الله الصالحون هم كل عبد صالح، فنحن نسأل الله جل وعلا لنا وله السلامة، أن يسلمه الله من العذاب، سواء أكان من الأحياء أم الأموات، والذي لا يهمه أمر المسلمين ليس منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يدعو للأمة عموماً، أي: الأمة التي آمنت، أمة الاستجابة التي استجابت لدعوته، وليس أمة الدعوة؛ فإن الخلق كلهم أمة له، ولكن الذين لم يستجيبوا هم من أهل النار لا يدعى لهم ولا يستغفر لهم، وإنما يدعى للمؤمنين. والمقصود أن هذا مشروع، فكون الإنسان يسأل الله جل وعلا لأخيه السلامة في الدنيا والآخرة، ويحب له ما يحب لنفسه أمر مطلوب. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [134](6/139)
من قواعد الشرع منع ما كان وسيلة وذريعة إلى محرم، خاصة ما كان وسيلة إلى الشرك، وذلك حماية لجناب التوحيد، ومن ذلك أنه منع المدح الذي قد يفضي إلى الغلو.
وجوب سد الطرق التي تؤدي إلى الشرك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]. قوله: (باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك) يريد بهذا أن يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما وضح عبادة الله إيضاحاً تاماً جاء بما يحمي هذه العبادة عن أن يدخلها شيء من النقص الذي ينقصها أو يكون وسيلة إلى شيء مما يذهب كمالها، هذا هو مقصوده. و(الحمى) هي: جوانب الشيء، والطرق التي يدخل منها إليه، فسد الرسول صلى الله عليه وسلم الطرق الباطلة، ومعنى هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح عبادة الله إيضاحاً كاملاً، كما أنه وضح وسائل الشرك وبينها ونهى عنها وحذر منها، وهذا كثير جداً في سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد مر معنا أشياء من ذلك، فلما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت، قال له صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده)ومعلوم أن له صلى الله عليه وسلم مشيئة، وأنه يتصرف بمشيئته، ومع هذا نفى ذلك، ونحو ذلك الحديث السابق الذي فيه أن رجلاً من الصحابة آذاه منافق فقال: قوموا بنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله) ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يأمر بقتله، ولو قال لأحد الصحابة: اقتله؛ لأسرع مبادراً إلى قتله، بل لتسابقوا إلى ذلك، ولكن أراد صلوات الله وسلامه عليه أن يمنع الوسائل التي يمكن أن يدخل معها إلى ما لا يجوز، ونحو ذلك أشياء كثيرة جداً بينت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ......
حكم المدح(6/140)
قال الشارح رحمه الله: [حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وتقدم]. هذا منها، يعني: التمادح في الوجه وكون الإنسان يمدح آخر مقابلاً له نهى عنه صلوات الله وسلامه عليه. والإطراء معناه: تجاوز الحد الذي حده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو: المبالغة في المدح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وفي رواية: (لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله إياها، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله)فحذر صلوات الله وسلامه عليه عن المدح الذي يدعو المادح إلى أن يتجاوز الحق. والمدح نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وجه الممدوح، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احثوا في وجوه المداحين التراب) يعني: إذا جاءك من يمدحك في وجهك فينبغي أن تحثو في وجهه تراباً، وتقول: هذا جزاؤك؛ لأن المدح فتنة، والنفس تحب أن تمدح، حتى إن كثيراً من النفوس إذا مدحت تستأنس بالمدح، وإن كان ما قيل ليس صدقاً، فتجده يقول: لعله صدق، وهو يعرف من نفسه أنه ليس كذلك! فيستأنس بهذا ويميل إليه، ثم فيما بعد يصبح يحب هذا، والذي لا يمدحه لا يعطيه حقه، كما لو كان الممدوح مسئولاً على أمر عام على المسلمين، فإذا مدح عمل الواجب عليه، وإذا لم يمدح ظلم هذا الذي لم يمدحه، ولم يعمل العمل الذي يجب عليه. والمفاسد التي تحدث بسبب المدح كثيرة جداً كالظلم، وترك الحق، وارتكاب الباطل، وكذلك حب النفس، بل عبادة النفس، والرسول صلوات الله وسلامه عليه طبيب القلوب، يعلم ماذا يكون أثر المدح، ولما مدح إنسان آخر في مجلسه، قال: (ويلك! قطعت عنق صاحبك،(6/141)
إن كنت مادحاً ولا محالة فقل: أحسبه كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) هكذا ينبغي أن يقول. أما أن يمدحه في وجهه فهذا -في الحقيقة- شأن المنافقين؛ فهم الذي يأتون يقولون في وجه الإنسان قولاً ثم إذا غابوا عنه قالوا خلافه، وقد عرف الناس أن الذي يمدحك حاضراً يذمك غائباً، ولو أن الناس امتثلوا ما أرشدهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم لسلموا من هذه الورطة، ومن هذه الفتنة والبلية. والمدح في الحقيقة مرض اجتماعي يجب أن يعالج بالوسائل التي تزيله أو تقلله، وعلاجه اتباع قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينهى عن المدح، فإذا رأيت أخاك يمدحك فلا تقره على هذا، بل انصحه، وقل له: إن هذا ما ينبغي؛ لأن هذا فتنة لي ولك، فلا تمدحني، ولا تقل هذا القول. وإن كان المدح كذباً، فسوف يحاسب الله جل وعلا عليه يوم القيامة، وإذا أقررت ذلك فستحاسب كذلك، فيجب على المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على الحق، وألا يكونوا أعواناً للشيطان على الباطل. فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كل وسائل الباطل، فسدها ومنعها ومنها، الإطراء في المدح، فإذا تكلم الإنسان فيجب أن يتكلم بحق، وأن يتكلم بالشيء الواقع، وإذا كان الكلام في الحاضر قد يجر إلى فتنة فلا يجوز أن يتكلم به، بل يدرأ الفتنة؛ لأن النفوس ضعيفة في الحقيقة، وتميل إلى طلب المدح، وإلى طلب الرفعة، وقد سمي هذا بالشهوة الخفية، وقد جاء التحذير منها، والشهوة الخفية هي: حب الرئاسة والترفع على الناس، وهذه الشهوة الخفية كامنة في النفوس، فكل نفس فيها حب العلو وحب الرفعة، ولكنه كامن فيها، فإذا ترك سكن وقر، وإذا أثير ثار، فلا يجوز إثارته، بل يجب أن تهذب النفوس بالحق الذي جاء به الكتاب والسنة، ولن تتهذب النفوس إلا بهذا. ......
زجر المادحين(6/142)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل)ونحو ذلك، ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنساناً: (ويلك! قطعت عنق صاحبك...) الحديث أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (قطعت عنق صاحبك، ثلاثاً). وقال: (إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)أخرجه مسلم و الترمذي و ابن ماجة عن المقداد بن الأسود ]. وقد امتثل المقداد بن الأسود رضي الله عنه هذا القول، فثبت أنه كان جالساً يوماً عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فسمع رجلاً يمدح أمير المؤمنين، فجثا المقداد على ركبتيه، وجعل يحثو التراب في وجهه ، فقال له أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: مالك؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفعل بالمداحين. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمتثلون ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على أن المقصود به ظاهره، وليس كما قال بعض الشراح: إن معنى قوله: (احثوا وجوههم التراب) يعني: خيبوا طلبهم، فإذا جاءوا يمدحون ويطلبون شيئاً فلا تعطوهم شيئاً، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود هو ما فعله الصحابي رضوان الله عليه ، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الناس قولاً، وأعلمهم علماً، وأنصحهم للأمة، فإذا قال قولاً فيجب أن يفهم كما قاله صلوات الله وسلامه عليه، ولا تطلب له غرائب المعاني، ولا يؤول، إلا أن يكون هناك نص آخر يعارضه؛ لأن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعارض.
شرح حديث عبد الله بن الشخير: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله...)(6/143)
قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)رواه أبو داود بسند جيد]. يقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: كنت في وفد بني عامر، وهو وفد من الوفود التي وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع من الهجرة، يعني: أن هذا وقع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (فلما أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: أنت سيدنا. فقال صلى الله عليه وسلم: السيد الله، فقلنا: أنت أفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً -وفي رواية-: أنت سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله ، قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال: أيها الناس! قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، أنا رسول الله فقولوا: رسول الله)فهذا من الأحاديث التي أراد بها صلى الله عليه وسلم أن يسد الطرق التي يأتي منها الشيطان، وينقص بها عبادة المسلمين، وهذا منه. ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم كما جاء ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث أبي هريرة الذي في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أتدرون ما ذلك؟ قلنا: لا، إلا أن تخبرنا فقال: إذا كان يوم القيامة، وجمع الله جل وعلا الناس في صعيد واحد، ألهم الله جل وعلا الناس أن يطلبوا الشفاعة من الله جل وعلا حتى يفصل بينهم، فيذهبون إلى آدم ويطلبون منه ذلك، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى نوح، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى إبراهيم فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى موسى فيأبى، ثم يذهبون إلى عيسى فيأبى، ثم يأتون إليّ فأقول: نعم -يعني: أشفع لكم- فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأبقى قدر أسبوع ساجداً ثم يقول لي جل وعلا: ارفع رأسك،(6/144)
واسأل تعط، واشفع تشفع) فيشفع في أن يأتي الله جل وعلا ليفصل بين عباده، وهذا جاء تفسيره بأنه هو المقام المحمود الذي وعد الله جل وعلا أن يبعثه إياه قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] أي: يحمده عليه الأولون والآخرون، حتى قوم نوح، فهو بذلك سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة هو: الرئيس المقدم بالقوم، ولكن كره صلوات الله وسلامه عليه أن يكون هذا طريقاً للشيطان بأن يأتي إليهم ويقول: هو سيدكم، ثم يأتي إليهم ويقول: اسألوه الشفاعة، ثم يتدرج بهم ويقول: اسألوا الرسول وإن كان ميتاً، اسألوه أن يعطيكم كذا، ويشفع لكم بكذا، فيدخل بهم من هذا الباب إلى الشرك، ولهذا منع ذلك صلوات الله وسلامه عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم)يعني: قولوا لي كما تقولون لبعضكم بعضاً، وقد نهانا ربنا جل وعلا أن ندعوه باسمه، فلا تقول: محمد بن عبد الله، بل أمرنا أن نقول: رسول الله، نبي الله، كما قال جل وعلا: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] يعني: نحن ندعو بعضنا بعضاً بالأسماء، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله جل وعلا أصحابه أن يدعوه بالنبوة وبالرسالة؛ لأن هذا هو أشرف ما أكرمه الله جل وعلا به، أن جعله نبياً رسولاً، والله جل وعلا أثنى عليه في مقامات الثناء التي أثنى عليه بها في كتابه بلفظ العبد؛ لأن أشرف وصف للإنسان أن يحقق عبودية ربه، والعبادة هي نهاية الذل ونهاية الخضوع للمعبود مع التعظيم والمحبة له، يقول جل وعلا في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]فجعله عبداً له، وقال في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وقال في مقام(6/145)
التنزيل: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] فهذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله وصفه فيها بلفظ العبودية، لهذا قال: (أنا عبد الله)، وعيسى عليه السلام لما جاءت به أمه تحمله بعد الولادة، وهو من الذين تكلموا في المهد، فأول كلمة تكلمها وواجه الناس بها أنه قال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، ولما جاءت أمه به تحمله اتهموها كما قال الله عنهم: قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [مريم:27]يعني: أمراً عظيماً جداً؛ كيف تأتين بالولد وليس لك زوج؟! ولهذا قالوا: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:28-29] يعني قالت: كلموه، فتعجبوا قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]فالتفت إليهم وقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] فأول كلمة قالها: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فالخلق لا يخرجون عن عبودية الله جل وعلا، بل أشرف حال للإنسان أن يحقق مقام عبودية الله جل وعلا، فقوله صلى الله عليه وسلم هنا: (السيد الله) يدلنا على أنه يطلق على الله أنه سيد، وقد اختلف الناس في هذا الإطلاق: فمنهم من منع،وقال: السيد لا يكون إلا من الجنس الذي يضاف إليه، يعني: يقال: سيد ربيعة، سيد تميم، فإذا كان رجل من ربيعة فلا يقال له: إنه سيد تميم، وإذا كان من تميم فلا يقال له: إنه سيد ربيعة، فيقولون: لا ينبغي أن نطلق هذا على الله جل وعلا، والصواب أنه إذا تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم وجب علينا أن نقوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وقد صح عن ابن عباس في قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2]قال: الصمد هو: السيد الذي كمل في سؤدده، وكذلك قال غيره من السلف، وكذلك قال في قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي(6/146)
رَبًّا [الأنعام:164] أي: إلهاً وسيداً، هكذا كان يقول ابن عباس ، ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، ففيه أنه يجوز إطلاق سيد على الله جل وعلا، ومعنى السيد الذي كمل في جميع صفاته، ولا يجوز أن يطلق على المنافق أنه سيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن كان سيداً فقد أغضبتم ربكم تعالى). ......
حكم إطلاق (السيد) على البشر
قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (يا سيدنا! قال: السيد الله تبارك وتعالى). وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (قوموا إلى سيدكم)وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كندة، ولا يقال للملك: سيد البشر، قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى، والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق، انتهى. قلت: فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام:164] أي: إلهاً وسيداً ، وقال في قول الله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2]: إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد، وقال أبو وائل : هو السيد الذي انتهى سؤدده . وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : (قوموا إلى سيدكم)فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعداً به، فيكون في هذا المقام تفصيل. والله أعلم]. قوله: (اختلف الناس في إطلاق لفظ السيد على البشر) وقد فصل في هذا، والصواب: أنه يجوز؛ لأن السيد بمعنى المقدم في القوم، وكذلك بمعنى الرئيس، وبمعنى المولى، وما أشبه ذلك، ولكن إذا أطلق على الله جل وعلا فهو بمعنى(6/147)
الرب المالك المتصرف، فهو غير ما يطلق على البشر، إلا أنه لا ينبغي إطلاقه على البشر في المواضع التي منها ألفاظ مشروعة، مثل التشهد في الصلاة، فكثير من الناس يقول: أشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالعبادات توقيفية يجب أن يوقف معها على النص الذي جاء، وأما إطلاقه في غير العبادة فهو جائز، ولا سيما وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أتدرون ما ذلك؟) ثم ذكر حديث الشفاعة. فهذا صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وأما إطلاقه على الله جل وعلا فله معنى غير هذا، وقد بين الشارح أن معناه: المولى والمالك والمتصرف والرب الذي يربي خلقه بالنعم، وبما يصلح لهم، وما يصلحهم.
مسائل باب ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد
......
التحذير من الغلو(6/148)
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تحذير الناس من الغلو]. الغلو هو: تجاوز الحد المشروع، أي: الزيادة على ما شرعه الله جل وعلا سواء كان في الأقوال أو في الأعمال. ومعلوم أن النقص الذي يدخل على الناس في دينهم يأتي إما من الزيادة في المشروع أو من النقص منه، وعدم القيام به، فيجب على العبد أن يترسم الشرع، ويتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لابد منه في كل عبادة، فإذا لم تكن العبادة مشروعة فهي فاسدة مردودة على صاحبها، ولهذا يقول العلماء: أصل الإسلام ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد الله جل وعلا إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو أصل الدين، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يعني: لا نتأله بقلوبنا حباً وخضوعاً وذلاً وتعظيماً إلا لله وحده، وتألهنا وعبادتنا لا تكون إلا بأمر الله الذي أمرنا به، فإذا جئنا بشيء غير مأمور فمعنى ذلك أننا ابتدعنا، ويكون عملنا مردوداً كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: مردود على صاحبه غير مقبول، وغير معتد به، والله جل وعلا يقول في كتابه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ* عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:2-5] أخبر أنها تخشع وتنصب وتتعب وتكدح بالعمل، والنتيجة أنها تصلى ناراً حامية! والسبب: أنهم كانوا يتعبدون بالبدع، ويتعبدون بغير ما شرع الله جل وعلا؛ فكان جزاؤهم أنهم في النار، وكل من أراد أن يصل إلى الجنة من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الباب يؤصد دونه، ويصد إلى النار، فلابد أن تكون العبادة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد فتكون غلواً، ولا نجفو وننقص فتكون معصية. والعبد يجب عليه أن يلتزم أمر الله جل وعلا، ويتبعه فإن هذا هو الذي جاءت به رسل الله من أولهم إلى آخرهم، ألا يعبد إلا الله،(6/149)
وأن يعبد بالشرع الذي جاءت به الرسل.
على الإنسان ألا يرضى بالمدح
[الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا]. أي: لا ينبغي للإنسان أن يعظم نفسه، ولا أن يسترسل مع هوى نفسه ومع المادح الذي يمدحه، وإنما ينبغي له أن يتواضع لله، وأن يخاف أن يزيغ قلبه، وألا يسكت إذا أثني عليه ولا يسترسل مع ذلك؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإذا تعدى الإنسان طور العبودية فإنه يخشى عليه أن يضل ويزيغ، فينبغي أن يكون الإنسان حذراً، وعادة أهل التقى أنهم يعودون على أنفسهم باللوم والازدراء من غير أن يقصروا، وإنما يرون أنفسهم أنهم ما قاموا بالواجب عليهم لله جل وعلا، فيزدرون أعمالهم ويتواضعون لله جل وعلا، أما إذا كان تصور الإنسان أنه فوق الناس، وأنه عظيم؛ فإن الشيطان يتخذه ولياً له -نسأل الله العافية- ويغره، والعجب بالعمل أو بالنفس طريق لإبطال العمل وإفساده والخروج عن العبودية لله جل وعلا، فإذا قوبل الإنسان بالمدح والثناء فينبغي أن ينهى المادح عن ذلك، ويقول: أنا أعلم بنفسي منك، ولا يسترسل مع من يمدحه، وغالباً أن الذي يمدحك في وجهك يذمك إذا غبت عن وجهه، ينبغي للإنسان أن يكون عوناً لأخيه على التقى وعلى البر، وألا يكون عوناً للشيطان عليه، والنفوس ضعيفة، وكل نفس تحب الترفع، وتحب أن يكون لها المقام الرفيع في نفوس الخلق، فلهذا لا ينبغي للإنسان أن يسترسل مع نفسه في مثل هذا.
النهي عن الجائز إذا كان يؤدي إلى محرم(6/150)
[الثالثة: قوله: (لا يستجرينكم الشيطان)مع أنهم لم يقولوا إلا الحق]. معنى: (لا يستجرينكم الشيطان) أي: يتخذكم جرياً له يعني: مطاياً، يركبكم ويؤزكم إلى ما يريده ويأمر به، مع أنهم قالوا: (أنت سيدنا وابن سيدنا)وهو حق، فهو سيدنا صلوات الله وسلامه عليه، ولكن نهاهم عن ذلك خوفاً من أن يدخل عليهم الشيطان ويزيد في هذا الباب فيتعدوا إلى الغلو الذي فيه الهلكة، كما وقع لكثير من الناس كما سبق التنبيه على هذا.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
[الرابعة: قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي)]. لا شك أن منزلته صلوات الله وسلامه عليه رفيعة، ولكن قصده صلوات الله وسلامه عليه بهذا أن يقولوا: نبي الله، رسول الله، فهذا أفضل ما يدعى به صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن النبوة والرسالة هما أعلى مقام يصل إليه الإنسان، فهو رسول لله جل وعلا كلفه ربه جل وعلا، بإبلاغ وحيه وشرعه، ودعوة خلقه إليه، وهذا هو الذي أراده صلوات الله وسلامه عليه.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [135]
يجب توحيد الله وتعظيمه، ومن ذلك الإيمان بأسمائه وصفاته، فإنها تدل على كمال الله وجماله وعظمته، ولا يلزم من إثباتها أي نقصٍ بوجه من الوجوه، وقد زعم أهل البدع ذلك، وأفسدوا عقائد المسلمين بشبهٍ بثوها فيهم، فقيّض الله لهم أئمة السنة يردون باطلهم، ويكشفون شبههم.
وجوب توحيد الله وتعظيمه(6/151)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ]. هذا الباب هو آخر الكتاب، أراد المؤلف أن يختم كتابه بذكر توحيد الأسماء والصفات صراحة، وقد سبق أن كل الأبواب التي ذكرها بعد قوله: (باب: ما جاء في احترام أسماء الله) تتعلق بتوحيد الربوبية، وهنا أراد أن يختم بتوحيد الأسماء والصفات. ......
أقسام التوحيد(6/152)
التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- توحيد العبادة. 2- توحيد الربوبية. 3- توحيد الأسماء والصفات. أما توحيد العبادة فهو إفراد الله بأفعال العبد التي يفعلها على وفق الشرع، فيجب أن يجعله واحداً، ويقصده ولا يقصد بعمله غير الله، فتوحيد العبادة يكون صادراً من العباد؛ لأنهم هم الذين يوحدون الله بأفعالهم التي يفعلونها، ويتقربون بها إلى الله جل وعلا، ولا يجعلون مع الله غيره، يعني: لا يقصدون بها غير الله. وهذا جاء الأمر به في القرآن في مواضع كثيرة جداً، وهو الذي وقع فيه النزاع بين الأمم ورسلهم، وهو الذي أبى أكثر الناس أن ينقاد إليه، تمسكاً بما عليه آباؤهم، وما وجدوا الناس عليه، كما قال الله جل وعلا عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]يعني: وجدنا آباءنا على دين يدينون به، وملة يتبعونها، فنحن نتمسك بها، ولما نهى هود عليه السلام قومه عن اتخاذ الآلهة رموه بالجنون وقالوا: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]يعني: أصابت عقلك بخبل، كيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا وما وجدنا عليه الناس؟! فعدوا دعوته لهم جنوناً، فقال لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55] تحداهم وقال: أنتم وآلهتكم إذا كان عندكم كيد وضر لي فأسرعوا به فلن تستطيعوا، فلو كانت آلهة لفعلت ذلك بهذا الذي يراغمها، وقد أخبر الله جل وعلا عنها بما هو أضعف من ذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73] فلو أن الذباب أخذ شيئاً من هذه الآلهة التي تعبد فلن تستطيع هذه(6/153)
الآلهة أن تأخذه من هذا الذباب. والمقصود: أن توحيد العبادة هو الذي جاءت به الرسل صراحة، فكل رسول كان يقول لأمته: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32] كل رسول قال هذا كما قص الله جل وعلا علينا ذلك في كتابه. القسم الثاني: توحيد الربوبية، ومعناه: أن يعتقد الإنسان أن الله هو الخالق وحده، المتصرف المدبر لكل شيء، المالك لكل شيء، وهذا لم ينكره أحد، بل سائر الناس يقرون به، وإنما أنكره أفراد معينون على وجه التعنت والجحود والتكبر والعناد فقط، مثل النمرود، ومثل فرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ولكن لما أدركه الغرق قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]ولكن لم يفده ذلك؛ لأنه قاله بعد أن عاين الموت، وأيقن بالهلاك. والله جل وعلا أخبر أن فرعون وهامان وقارون -هؤلاء المتكبرون- استيقنوا أن ما جاء به موسى حق، وأنه جاء به من عند الله، ولكنهم تكبروا وعاندوا. وكذلك النمرود الذي أنكر على إبراهيم عليه السلام، ولما قال له إبراهيم: إن الله يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258]إن كنت صادقاً فبهت، وما استطاع أن يتكلم أو يجيب؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً مما يفعله الله جل وعلا. فالمقصود: أن توحيد الربوبية يقر به الناس عامة، والمشركون الذين يعبدون غير الله يقرون بتوحيد الربوبية ويقولون: إن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق من قبلهم، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر وينبت النبات، وهو الذي يتصرف في الكون كما قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ(6/154)
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] يعني: يعلمون أن الله هو الذي يفعل ما ذكر من كونه خلقهم، وخلق من قبلهم، وكونه جعل الأرض لهم فراشاً يتمكنون من المشي عليها والانتفاع بها، وجعل السماء بناءً، يرونها فوقهم بلا عمد، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات ما يأكلونه وتأكله أنعامهم، ويعلمون أن الله هو المتفرد بذلك، فإذا كانوا يعلمون أن الله هو المتفرد بهذا وجب عليهم أن يعبدوا الله وحده؛ ولهذا قال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا يعني: في العبادة فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: أنه ليس معه من يتصرف بهذا الذي ذُكر أو غيره. وهذا في القرآن كثير جداً، يحتج الله جل وعلا على المشركين بما يقرون به من توحيد الربوبية على إبطال شركهم. وأما توحيد الأسماء والصفات فالله جل وعلا تعرَّف إلى عباده بما وصف به نفسه، وبما سمى به نفسه، فيجب أن يؤمن بما ذكره الله جل وعلا على حد قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقد ذكر الله جل وعلا صفات كثيرة، مثل أن له العلم الكامل الشامل، وله القدرة على كل شيء، وله السمع والبصر، وله الإرادة، وله الحياة، وله يدان كما قال الله جل وعلا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]. وأخبر جل وعلا أنه يقبض السماوات والأرض يوم القيامة بيده، وتكون صغيرة حقيرة كما في هذه الآية التي ترجم بها المؤلف، وأخبر جل وعلا أنه حكم عدل لا يظلم أحداً، وأخبر جل وعلا أنه يعلم ما توسوس به النفوس، وأنه كتب كل(6/155)
شيء، وما أشبه ذلك من أوصافه الكثيرة التي ذكرها في كتابه. وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر أشياء كثيرة جداً يصف بها ربه، وقد آمن بها صحابته بدون شك في ذلك أو تردد فيه، أخبرهم أن الله في السماء، وأخبرهم أنه مستوٍ على عرشه، وأخبرهم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل الأخير، فيبسط يده للمسيء والتائب والمستغفر فيقول: هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من تائب فيتاب عليه ؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر ، وأخبر بأشياء كثيرة، وكلها يجب أن نؤمن بها على ما جاءت بدون تأويل أو تعطيل، بل يكون الأمر مثل ما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سأله سائل عن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق، وصار العرق يتصبب منه، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج من مجلسه؛ لأن هذا لا ينكره المؤمنون، ولا يسألون عن الكيفية: كيف يد الله؟ كيف سمع الله؟ كيف بصر الله؟ الكيفية ما تعقل إلا لمن يشاهدها ويراها، والله جل وعلا غيب لا أحد يراه، وليس كمثله شيء فيقاس عليه تعالى وتقدس، وإنما علينا أن نؤمن بما قاله الله رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل بخلقه تعالى وتقدس.
قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)(6/156)
قوله تعالى في هذه الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] يعني: ما عظموه حق تعظيمه، إذ عبدوا معه غيره، إذ توجهوا بالعبادة إلى الأصنام، وإلى الرجال من الجن والإنس، وإلى الملائكة، وإلى بعض المخلوقات، صاروا يتوجهون إليها، ويجعلونها وسائط بينهم وبين الله، يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فمن فعل هذا لم يقدر الله حق قدره. ثم ذكر شيئاً مما يجب أن يعلم عنه جل وعلا ويعظم به فقال: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] يعني: أن مخلوقاته -الأرض بما فيها والسماء بما فيها- كلها يقبضها بيده، فتكون صغيرة حقيرة بالنسبة إلى يده الكريمة جل وعلا، كما قال ابن عباس: السماوات ومن فيها والأرض ومن فيها إذا قبضها الله جل وعلا تكون بيده كالخردلة بيد أحدكم، ولله المثل الأعلى، فالله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يجوز أن يتصور متصور أنه إذا قال ربنا جل وعلا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أن معنى ذلك: أنه في جوف السماء، أو أن السماء تحويه، أو أنها تقله، أو تظله تعالى وتقدس، بل هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل..)، ينزل إلى السماء الدنيا وهو فوق عرشه، ولا يكون فوقه شيء لا سماء ولا غيرها، وكذلك إذا جاء يوم القيامة إلى الأرض ليفصل بين عباده كما قال بعد هذه الآية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:68-69](6/157)
وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا يعني: إذا جاء إلى الأرض ليقضي بينهم ويحاسبهم؛ فإنه يأتي إلى الأرض وهو فوق عرشه، وفوق السماوات كلها، وفوق كل شيء، ولا يمكن أن يكون فوقه شيء تعالى وتقدس، ولهذا يقول العلماء: إن علو الله وفوقيته عقلي شرعي، دل عليه العقل والشرع، وهو ثابت بالفطرة وبالعقل وبالشرع. أما الفطرة: فما تجد إنساناً من الناس إذا دعا ربه وقال: يا رب، إلا رفع يديه نحو السماء ثم يسأل ربه وهو يشير إلى فوق، ما يسأل ربه من تحت أو من يمين أو من شمال تعالى وتقدس، فهو فطر خلقه على معرفته بأنه فوق خلقه كلهم، كما قال جل وعلا: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وكل من في السماء والأرض عباد له جل وعلا. المقصود أنه يجب أن يعظم الله ويعرف قدره، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، فقول المؤلف في هذه الآية: باب ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يقصد به: ما جاء من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة، وذكر قليلاً مما جاء بمعناه؛ ليحتذى حذوها، وتكون دليلاً يستدل به المسلم على معرفة ربه جل وعلا؛ لأن الله تعالى تعرف إلى عباده بأوصافه التي وصف بها نفسه، فعباده المؤمنون يعرفونه بما تعرف به إليهم في كتابه وعلى ألسنة رسله، لا ما يقوله الملحدون أهل الشك والريب، الذين يقيسون الرب جل وعلا على نفوسهم، وإن كانوا يزعمون أنهم ينزهون الله، لكن الواقع أنهم يشبهون الله بخلقه. ولهذا تجدهم ينفون الصفات ويقولون: إنها تدل على التشبيه، فهم ينفون يد الله ويقولون: إن الله ليس له يد، وليس له رجل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يضع رجله جل وعلا في النار يوم القيامة عندما يقال لجهنم: هَلِ امْتَلأْتِ(6/158)
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] فينتهي الخلق الذين أعدوا لها من الجن والإنس وهي لا تزال تطلب المزيد وتقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؛ عند ذلك يضع الله جل وعلا فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق وتقول: قط قط، يعني: كفاني، فالله لا يظلم أحداً، فهو الجبار المتكبر الذي هو أكبر من كل شيء. ......
وجوب أخذ كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته
يجب أن نؤمن بما قاله الله وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وعندنا قاعدة يجب على المسلم أن يعرفها، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله جل وعلا، وهو أغير الناس على الله، وأشدهم تعظيماً له، وهو -صلوات الله وسلامه عليه- أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وهو كذلك -صلوات الله وسلامه عليه- أنصح الخلق للأمة، فإذا عرف الناس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب عليهم أن يأخذوا ما قاله بكل اطمئنان وقبول، وأنه حق، فلو كان باطلاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنفاه عن الله جل وعلا، ولن يترك الأمة في دينها يلتبس عليها الأمر ويشتبه، هذا ممتنع عقلاً وشرعاً وعادة من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أردت أن تعرف هذا يقيناً، فانظر ماذا كان يعلم أصحابه صلوات الله وسلامه عليه؟ علمنا الآداب التي لو تركناها ما أثمنا، مثل أدب الأكل؛ كأن نأكل مما يلينا، ونسمي الله جل وعلا، ولا نأكل متكئين، ويعلمنا أدب الدخول إلى المنزل، فإذا أردت أن تدخل المنزل فاذكر اسم الله، وسلم على نفسك أو على من في البيت، ثم قدم رجلك اليمنى، فإنك إذا ذكرت الله فإن الشيطان يقول لأولاده ولأصحابه: منعتم من المبيت، يعني: من الدخول إلى البيت، ومعلوم أن هذا ليس بواجب، فلو تركه الإنسان لا يأثم، ولكن هذا أدب وفضل، ويعلمنا أيضاً أن الإنسان إذا أراد أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ويسمي الله، وهذا أيضاً ليس بواجب بل أدب فقط، إذا فعله الإنسان فهو خير له،(6/159)
وإن لم يفعله فليس عليه إثم. وكذلك يعلمنا أدب الدخول إلى المسجد، وأدب قضاء الحاجة، وأدب السلام، وغير ذلك من الآداب التي هي فضل وليست واجبة علينا، بحيث إننا لو تركناها لم نأثم، فكيف يعلمنا هذه الأشياء المستحبة، ويترك باب معرفة الرب جل وعلا ملتبساً مشتبهاً؟ هل يجوز أن يعتقد هذا مسلم؟ لا يجوز أن يعتقده مسلم شهد للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه بلغ ما أرسل به، بل لا بد أن يعتقد جازماً أن كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، وفيه النور والهدى والشفاء للشبهات، وأن مخالفته ضلال وخروج عن الهدى، وعن طريق الله جل وعلا، وعن سبيل المؤمنين. ......
دين الإسلام دين كامل
قال الله جل وعلا في آخر ما أنزل عليه صلوات الله وسلامه عليه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فقد كمل الدين قبل أن يتوفى الله جل وعلا نبيه، ولا شك أن أصل الدين معرفة الله جل وعلا بأسمائه وأوصافه، وإلا كيف يعبد الله من لا يعرفه؟ وهذا الأمر أجمع عليه المسلمون في أول الأمر من الصحابة ومن بعدهم من التابعين، لم يحدث فيهم أي خلاف حول هذا، وأول خلاف حدث في هذا يعتقد أنه جاء من اليهود والنصارى والمجوس، ومن الأمم التي قامت في وجه الإسلام لتصده وتمنع تقدمه في البلاد، فلما لم تستطع وقف زحف الإسلام بالقوة، واندحرت جيوشها وقواها، وأصبحت غنيمة للمسلمين، أصبحوا يعملون بالحيلة بالدسائس والمؤامرات، فأصبحوا يغتالون رجال الإسلام مثل: عمر رضي الله عنه وعثمان وعلي، وكلهم قتلوا شهداء. ومرة يخططون لإفساد عقائد المسلمين؛ لأنهم علموا يقيناً أن قوة المسلمين بعقيدتهم، فأصبحوا يخططون لإفساد هذه العقيدة. ......
أول من أفسد العقيدة وبث الشبه(6/160)
أول من عرف أنه تكلم في العقيدة لإفسادها رجل مجوسي يقال له: سوسن حيث قال: إن الله لم يعلم الأشياء قبل وجودها، وإنما يعلمها بعد وجودها، ونفى القدر، فتبعه من تبعه على هذا، فصار أئمة المسلمين يقتلون من قال هذا القول؛ لأنه كفر بالله. ثم ظهر بعد ذلك رجل يقال له: الجعد بن درهم ، وهو متهم بأنه يهودي؛ لأنه -كما قال العلماء-: تلميذ لأبان بن سمعان و أبان بن سمعان تلميذ لطالوت، وطالوت هذا تلميذ للبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطالوت هو ابن أخت لبيد، فأظهر الجعد قوله: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الكلام يتطلب لهاة وشفتين، وحنجرة -لأنه يريد أن يقيس رب العالمين على خلقه- تعالى وتقدس، فأصبح يلقي على الناس مثل هذه الشبه، ويقول: الرب جل وعلا لم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الخلة تدل على الفقر والحاجة، وهذا لا يجوز، والصحيح أن خلة المخلوق هي التي تدل على الحاجة والفقر، أما خلة الرب جل وعلا فهي تدل على الكمال، وكذلك الكلام يدل على الكمال، ومعلوم أن الكلام والخلة وغيرهما أمور صرح الله جل وعلا بها في كتابه، فأخبر أنه كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يشك المسلمون في ذلك. ولما قال هذا الرجل هذا القول، وبلغ قوله أحد قواد بني أمية وهو خالد بن عبد الله القسري ؛ طلب هذا الرجل فأخذ وجيء به مقيداً، وكان ذلك اليوم يوم عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يصلي بالناس وهو الذي يخطب، فقد كان من صفات القائد أن يكون عالماً شجاعاً بصيراً، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى مصلى العيد، فخطب المسلمين، وفي آخر خطبته قال: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم ؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فنزل من على المنبر وقتله بيده أضحية؛ فشكره العلماء على صنيعه هذا؛ لأنه قتل من حرض على الكفر(6/161)
بالله جل وعلا. وكان قد تتلمذ على الجعد بن درهم رجل يقال له: جهم بن صفوان ، وأخذ عنه الباطل والكفر؛ فتتبعه أحد القواد -وهو: سلم بن أحوز- حتى أمسكه وقتله؛ انتقاماً لله جل وعلا، ولكن كان هذا المذهب الفاسد قد انتشر، فنسبت إليه الفرقة الضالة التي يقال لها: الجهمية، وهذه الفرقة من أعظم علاماتها أنها لا تصف الله جل وعلا بصفة، ولا تسميه باسم -تعالى وتقدس- إلا بالاسم العام المجمل الذي لا يدل على مدح ولا ثناء؛ كالوجود مثلا،ً وكونه شيء -تعالى وتقدس-، وهذه معالم كثير من الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم. ثم كثر الخلاف، وكثر الملاحدة المفسدون، فظهرت المعتزلة، وتقربوا إلى ولاة الأمور، وصار منهم القضاة، ومنهم رؤساء القضاء، ومنهم مستشارون لبعض ولاة المسلمين، فغروهم أن يجبروا الناس على القول بأن القرآن مخلوق، وأن الذي لا يقول بهذا القول يجب قتله. ثم زينوا لولي الأمر أن يكتب على ستار الكعبة: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم)، غيروا كتاب الله؛ لأنهم يأبون أن يصفوا الله بالسمع والبصر -تعالى الله وتقدس-، ومع ذلك بقي الحق ظاهراً، وبقي من ثبت على الحق حتى عند الابتلاء والضرب والقتل؛ فثبت الإمام أحمد على القول بأن القرآن كلام الله، وهو صفته، منه بدأ، وإليه يعود، وأن القول بأنه مخلوق كفر؛ لأن معنى ذلك أن شيئاً من الله مخلوق تعالى الله وتقدس. فأثبت الله جل وعلا الحق بطائفة نصرها وثبتها على الحق، ودحر الباطل وأهله، والباطل قد يكون له صولة في وقت من الأوقات، ولكن صولته لا تدوم، إذ لا بد أن يظهر الحق بإذن الله. ......
تقييض الله للحق طائفة تنصره إلى أن يأتي أمره(6/162)
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يعني: على الحق: قائلين به، قائمين به، عاملين به، بعض العلماء يقول: إن هذه الطائفة يجوز أن تكون أمة كبيرة، لها جيوشها ولها نظامها ولها إمامها، ويجوز أن تكون فرقة من المؤمنين، مختلفة ما بين عالم وعابد، وما بين منفق ومجاهد، ويجوز أن يكونوا مجتمعين في مكان، ويجوز أن يكونوا متفرقين، ويجوز أن يكونوا في بلد دون آخر، ويجوز أن يكونوا متنقلين من بلد إلى آخر. المقصود أنه لا بد من وجود من يقوم بحجة الله على خلقه، حتى يأتي أمر الله، وهو ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام)، فينزل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يقتل الدجال الأعور، الكذاب الأكبر، الذي هو إمام اليهود وكبيرهم الذي ينتظرونه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صفاته كأنك تشاهده، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من فتنته في كل صلاة لعظمها، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه ما ترك بعده على أمته أشد من فتنة الدجال؛ لأنه يأتي بفتن وبلايا عظيمة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم به فانأوا عنه، فإنه يأتيه الرجل وهو واثق بإيمانه، فيتبعه لشدة لما معه من الفتن). المقصود أن عيسى عليه السلام هو الذي يقتله في الشام، ينزل من السماء بين جناحي ملكين فيقتله، ثم يقيم شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعد حدوث أمور ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضه الله إليه، ثم بعد ذلك -كما في صحيح مسلم - تأتي ريح من قبل اليمن؛ فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس، لا(6/163)
يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة، هذا هو أمر الله الذي ذكر في هذا الحديث. ومن هذا ما جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (شرار الناس الذين يتخذون المساجد على القبور، والذين تدركهم الساعة وهم أحياء) هؤلاء هم شرار الخلق. فالمقصود أن الحق ثبت رغم ما أراد الأعداء من إفساده، والواجب على العبد أن يعتصم بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعمل؛ في العقيدة التي هي باب العلم بالله ومعرفته، وباب العمل الذي يعمله الإنسان. إذاً: معنى قوله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] يعني: معناه: ما عظموه التعظيم الذي يستحقه، حيث وصفوه بما يتعالى ويتقدس عنه من كونه له شريك في الإلهية، أو له نظير في أسمائه وأوصافه. ......
قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)(6/164)
ذكر الله شيئاً مما يجب أن يعظم به فقال: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] يعني: أنه يقبض الأرض بيده إذا كان يوم القيامة؛ وكذلك السماوات كلها يقبضها بيده، ومفهوم الآية أن لله جل وعلا يدين؛ واحدة يقبض بها الأرض، والأخرى يطوي بها السماوات، والتي ذكر أنه يطوي بها السماوات هي يمينه، وقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبض السماوات بيمينه، والأرضين بشماله)، وهذا أيضاً ثبت عن ابن عباس في تفسيره لهذه الآية، فروى ابن جرير وغيره بأسانيد ثابتة عن ابن عباس قال: إن الله يقبض السماوات والأرض كلها بيمينه وشماله خلو، وسيذكر لنا المؤلف ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود (أن حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يضع السماوات على ذه -فأشار إلى أصبعه الخنصر- والأرضين على ذه، والشجر على ذه، والجبال والثرى على ذه، وسائر خلقه على ذه، يشير في كل مرة إلى أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ عند ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما قال، وتلا قول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ). وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى، عن ابن عمر ، وعن ابن عباس ، وعن عبد الله بن مسعود ، وعن أبي هريرة ، وغيرهم، وهي أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها ذكر أن لله جل وعلا يدين، وأنه يقبض بهما، وأن لليدين أصابع يضع عليهما مخلوقاته إذا شاء، ويهزهن ويقول: أنا الملك! أين ملوك الدنيا؟ ويجب أن يعلم الإنسان أن الله ليس كمثله شيء: لا في يديه ، ولا في أصابعه ، ولا في(6/165)
ذاته جل وعلا ، ولا في سمعه وبصره، والله جل وعلا ذكر أنه خلق المخلوقات ، وأنه هو الإله الحق ، وأنه هو الولي الذي يجب أن يتخذ ولياً، وذكر جل وعلا أنه جعل من المخلوقات زوجين، وأنه جعل نسل بني آدم والبهائم وغيرها من زوجين من ذكر وأنثى. قال الله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أي: أنكم تتعاقبون من هذا النسل، يذهب قوم ويأتي آخرون، إلى أن يأذن الله جل وعلا بنهاية هذه المخلوقات. ثم قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ختم الله جل وعلا هذه الآية بذكر السمع والبصر، والحكمة في هذا: أن الناس وكثيراً من المخلوقات يتصفون بالسمع والبصر، فكأنه جل وعلا لما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يقول لعباده: لا يدعوكم هذا التنزيه بقوله: (ليس كمثله شيء) إلى أن تنفوا السمع والبصر عن الله؛ فإنه سميع وبصير، ولكن له سمع يليق به، وبصر يليق به، ليس كسمعكم وبصركم، وهذا هو مذهب أهل السنة، أن يوصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، ولا يتعدون ما وصف الله جل وعلا به نفسه ووصفه به رسوله، فلا يجعلون العقل حاكماً على آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يحرفون ويؤولون، ويقولون كما يقول أهل البدع: إن صفات الله من المتشابه الذي لا ينبغي أن نتكلم فيه، بل صفات الله من المحكم البين الواضح الذي بينه الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بها على ما يليق بعظمة الله وجلاله. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [136]
لله الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأصل أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به ورسوله صلى الله عليه وسلم، دون تحريف أو تأويل أو تعطيل أو تمثيل، ولكن كثير من المبتدعة -ممن خالفوا منهج الحق- تجاوزوا هذا الأصل، ووقعوا في المحظور. فانطبق عليهم قوله: (وما قدروا الله حق قدره).(6/166)
المذهب الحق في نصوص الصفات إمرارها كما جاءت دون تأويل أو تعطيل
قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر:67] الآية، أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة. قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته، قال مجاهد : نزلت في قريش، وقال السدي : ما عظموه حق عظمته، وقال محمد بن كعب : لو قدروه حق قدره ما كذبوه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره]. هذه الأقوال كلها حق، ولكن المفسرون عادتهم أن كل واحد يذكر الشيء الذي يناسب السامع الذي يسمع، فيذكر بعض المعنى. وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، ومذهب السلف فيها وفي أمثالها: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الآية) متفق عليه. وفي رواية لمسلم : (والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله). وفي رواية للبخاري : (يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه]. هذا حديث(6/167)
متفق عليه رواه البخاري و مسلم في صحيحيهما -وغيرهما من أئمة الحديث- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود) والحبر هو العالم، وهو يهودي لم يسلم فقال: يا محمد! وهكذا عادة اليهود يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه، وما يخاطبونه بما أمر الله أن يخاطب به؛ لأن الله جل وعلا يقول: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] يعني: لا تقولوا: محمد بن عبد الله، ولكن قولوا: رسول الله، نبي الله. فقال: (يا محمد إنا نجد -يعني: في التوراة التي نزلت على موسى وتوارثوها- أن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ أين الجبارون المتكبرون؟) هذا حين يقبضهم بيده جل وعلا، فيصبحوا كلهم في قبضته، وقد قال الله جل وعلا في هذه الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني: ما عظموه التعظيم الذي يجب له، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . فلما قال اليهودي هذا الكلام؛ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لما قال هذا الحبر، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. إلى آخرها. ......
فوائد حديث الحبر الذي قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع)(6/168)
هذا الحديث يدلنا على أمور: أولاً: يدلنا على عظمة الله وكبريائه، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، وأن السموات على سعتها وعظمها تصبح بالنسبة إلى الله حقيرة صغيرة جداً، كما قال عبد الله بن عباس : إن الله يقبض السماوات كلها، فتكون في كفه جل وعلا كالخردلة، لا يجوز للإنسان أن يتصور أن هناك شيئاً أكبر أو أعظم من الله، وإذا كان بهذه العظمة فكيف يسوغ للإنسان أن يقول: إنه مع خلقه بذاته حال معهم؟ وكيف يسوغ لإنسان أن يقول: إن السموات تكون فوقه إذا نزل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة : (إذا بقي ثلث الليل الآخر ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيبسط يده فيقول: هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر) ما يجوز أن يتصور متصور أن هذا النزول الإلهي في آخر الليل إلى السماء الدنيا تكون فيه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه تعالى الله وتقدس، بل ينزل وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء. ثانياً: قوله جل وعلا: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22] هذا يوم القيامة، وقوله جل وعلا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210] هذا أيضاً يوم القيامة حين يحشر الناس على وجه هذه الأرض بعدما يمدها، ويزيد فيها، ويذهب جبالها ووهادها؛ فتصير قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً؛ حتى تتسع للخلق من الجن والإنس، منذ خلقوا إلى آخر مولود منهم، فيجمعهم عليها راغمين ذليلين حقيرين، ترى الذي عصوا الله كالذر تطؤهم الأقدام، فإذا طال بهم الوقوف استشفعوا بالأنبياء أن يأتي ربهم جل وعلا ليقضي بينهم؛ فيأتي جل وعلا وهو على عرشه فوق سماواته بل فوق كل شيء؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء. ثالثاً: فيه أن لله يدين يقبض بهما(6/169)
إذا شاء أن يقبض، فيقبض السماوات والأرض، وإحداهما يمين، كما قال جل وعلا: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، وفي صحيح مسلم: (يطوي السموات بيمينه، والأرض بشماله) وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصح تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عباس في قوله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ يقول في تفسيرها: يطوي السموات بيمينه، والأرضين بيمينه، وشماله خلو ما فيها شيء، أي: أن جميع مخلوقاته يطويها بيمينه فقط، هكذا قال حبر الأمة، ومثل هذا لا يقوله عن رأيه، إنما يقوله عن علم تلقاه من مشكاة النبوة. رابعاً: في هذا النص التصريح بأن ليديه أصابع جل وعلا، يمسك بها ما يشاء، ويضع عليها ما يشاء، وفيها أيضاً إثبات هزه الأشياء هزاً قوياً وقوله: أنا الملك، يعني: الملك الحق الذي ليس لأحد معه ملك تعالى وتقدس، وجاء هذا موضحاً في تفسير قوله جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:18-19] وقبلها قوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، يقول العلماء فيها: إن الله جل وعلا إذا كان يوم القيامة قبض على سمواته وأرضيه، ويطويها بيده، ثم يهزهن ويقول: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه فيقول: لله الواحد القهار، جاء هذا في آثار مروية عن السلف، وفيه ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأمور التي يجب الإيمان بها، ويجب أن يعلم الإنسان عظمة الله جل وعلا، وأن نصفه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله على حد قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ تعالى وتقدس، فكل ما وصف الله جل وعلا(6/170)
به نفسه، وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب أن نؤمن به على ظاهره، خلافاً لما يقوله الأشاعرة وأهل الكلام الذين يقولون: هذه ظواهر لا يجوز اعتقادها؛ لأنا لو اعتقدنا ظاهرها لدلت على التشبيه لله تعالى وتقدس، ونحن نقول: هذا باطل، وظن سوء بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم. أما كونه ظن سوء بالله؛ لأن الذي دعاهم إلى هذا القول هو تصورهم أن هذه الصفات مثل صفاتهم التي يعقلونها من أنفسهم، تعالى الله وتقدس، ولهذا إذا سمعوا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) قالوا: كيف ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل، وآخر الليل يختلف باختلاف المناطق والأقاليم؟ فلو قلنا بهذا لكان النزول دائماً متواصلاً طوال أربع وعشرين ساعة! ونحن نقول: هذا القول الذي تقولونه، والتقدير الذي تقدرونه؛ لو كان النزول مثل النزول المعهود لكم، نزول جسم إلى جسم، ولكن هذا نزول الله، والله جل وعلا يستمع لخلقه كلهم في آن واحد وهم يناجونه ويعبدونه، كل واحد منهم يقول: يا رب يا رب، وهو يسمع كل واحد، لا يشغله سماع هذا عن سماع الآخر. وكذلك يرزقهم كلهم في آن واحد، ويعلم ما في نفوسهم في آن واحد، وكذلك إذا صار يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكل واحد يكلمه رب خالياً به، يرى أنه ما يكلم غيره، وهو يكلم الخلق كلهم، فالرب جل وعلا لا يجوز أن نقيسه بالمخلوقين في أفعاله وأوصافه، فالذي يقول مثل هذا القول؛ ما قدر الله حق قدره تعالى الله وتقدس. فالمقصود: أنه يجب علينا أن نعتقد ما قاله الله في نفسه، وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، على ما يليق بالله وعظمته وكبريائه، ولهذا يقول الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] فأثبت لنفسه السمع والبصر الذي هو موجود في المخلوقات، ولكن سمعه وبصره ليس كسمع المخلوق وبصره، وكذلك سائر أوصافه جل وعلا، فهذا ظن السوء بالله. أما ظنهم(6/171)
السوء بالرسول صلى الله عليه وسلم فواضح، فعلى قولهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ أمته ما ظاهره الكفر، وتركهم بدون أن يوضح لهم، تعالى الله وتقدس أن يقر نبيه على هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم وضح للأمة غاية الإيضاح، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر لنا مثل هذه الأحاديث قال: لا تعتقدوا ظاهرها أبداً، بل جاء ما يدل على أنه يريد منا أن نعتقد ظاهرها على ما يليق بالله، ففي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب) يعني: إذا تأخر المطر، وإذا أجدبت الأرض، فمن الناس من يقنط ويستبعد الخير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة: (ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب، فقال أبو رزين العقيلي : يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، فقال: إذاً لا نعدم خيراً من رب يضحك -وفي رواية إذاً: لا يعدمنا ربنا خيراً إذا ضحك-) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وفي حديث عائشة أنه قال: (أو يضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: إي والله) أقسم صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نعظم ربنا جل وعلا، فلا يكون ضحكه كضحك المخلوق -تعالى وتقدس-، ولا تكون يده كيد المخلوق، وهكذا بقية أوصافه. فهذه طريقة أهل السنة: يقبلون ما جاء عن الله وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم مخبراً به عن ربه جل وعلا من غير تحريف يسمونه تأويلاً، وهو في الواقع تحريف، فأهل البدع قالوا: يد الله قوته، أو نعمته، أو سلطانه، أو قهره، هكذا قالوا، وهذا في اليد الواحدة فكيف باليدين، كما قال جل وعلا: قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فهل يجوز أن نقول: نعمتان مبسوطتان؟ النعمة لا حصر لها، ولو كان مثل ما يقولون لبين ذلك الرسول(6/172)
صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهم يقولون: اعتقاد ظاهر هذه النصوص كفر، ولازمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقر الأمة على الكفر، فنقول: من اعتقد هذا فهو لم يشهد أن محمداً رسول الله في الحقيقة؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله أنه رسول بلغ ما أنزل إليه من ربه البلاغ المبين، ولم يترك الأمر مشتبهاً ملتبساً على الخلق، بل وضح وبين في آخر مشهد عظيم شهده مع أمته، لما خطب في منى وفي عرفات وفي حجة الوداع قبيل وفاته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني أيها الناس، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، -هكذا قالوا له- فصار يشهد ربه عليهم، يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها إليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ، فالذي يقول هذا القول فإنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ. ثم يجب على العبد المسلم أن يعتقد عقيدة جازمة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وأنه صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله وأخشاهم له، وأعظمهم غيرة على الله أن يوصف بغير ما وصف به نفسه، فلا يمكن أن يقر اليهودي على مثل ذلك، قال أحد شراح الأشاعرة في شرحه لهذا الحديث -وللأسف فإنه شرح كلام الرسول صلى الله عليه وسلم-: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً من جرأة اليهودي على التشبيه، وهذا ظن سوء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث يضحك على الباطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع الباطل غضب ولا يقوم أحد لغضبه، فلا يقال: إنه يضحك من الباطل والكفر! فيجب أن ينزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا القول، بل آحاد الأمة يتنزه عن مثل هذا. فالمقصود أن ا......
بعض المسائل المستفادة من الحديث(6/173)
في هذا الحديث مسائل: أولاً: قد يقول قائل: سورة الزمر مكية، فكيف يقول: فنزلت الآية، وقد نزلت في مكة؟ والله جل وعلا يقول قبل هذه الآية: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. [الزمر:65-67].. إلى آخره؟ الجواب: الواقع أنه جاء في بعض الروايات: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية)، وقد يتكرر نزول الآية أكثر من مرة كما جاء في أن الفاتحة نزلت مرتين، وكذلك بعض الآيات، ومثل هذا جاء في قوله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] كما في الصحيحين: أن هذه نزلت بسبب سؤال اليهود في حديث عبد الله بن مسعود حيث قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض حوائط المدينة، ومعه عسيب يتوكأ عليه، فمررنا على ملأ من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون، فقال واحد: والله لنسألنه، فقال: يا رسول الله! أخبرنا عن الروح، يقول عبد الله بن مسعود فسكت وبقي متكئاً وكأنه يوحى إليه ثم بعد ذلك قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فقال بعضهم لبعض: ألم نقل لكم: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون؟) أي: أنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وهم يزعمون أنهم أوتوا علماً كثيراً. المقصود: أن سورة الإسراء مكية نزلت في مكة، والجواب أن يقال: إما أن تكون الآية نزلت مرتين، وإما أن يكون كما في الرواية الأخرى: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم). الأمر الثاني مما يؤخذ من هذا الحديث: أن الحق يجب أن يقبل وإن كان من عدو لك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما(6/174)
قال له هذا اليهودي ذلك قبل، وجاء بما يصدق قوله مما أنزل عليه. الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً وفرحاً بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يفرح أن يكون هناك شهود له ممن سبقه، ونزل عليه علم يشهدوا له بالحق الذي جاء به، فهذا هو سبب ضحكه وتعجبه صلى الله عليه وسلم. ثم الأمور الأخرى التي أشرنا إلى بعضها سابقاً تؤخذ من هذا أيضاً. ......
حكم الإشارة عند ذكر صفات الله تعالى
قال الشارح رحمه الله: [وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسين بن حسن الأشقر قال: حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن أبي الضحى عن ابن عباس قال: (مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماوات على ذه -وأشار بالسبابة- والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. ) وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به]. وهذا يؤخذ منه: أن الإشارة عند ذكر صفات الله توضيحاً وتبييناً لا بأس به، وأما ما جاء عن البعض أنه قال: لو أن إنساناً قرأ قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أو ما أشبه ذلك، أو قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وأشار بيده، فإنه يجب أن تقطع يده؛ لأن هذا تشبيه، نقول: هذا من قول الجهمية الذين لا يريدون أن يسمعوا أوصاف الله جل وعلا وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره لهذه الإشارة أولى بالقبول، وقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر قالت : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر قبض الله جل وعلا للسماوات والأرض يوم القيامة، فجعل يقول بيده هكذا يمجد الرب نفسه، حتى رأيت المنبر يتحرك من تحته، فقلت: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟). وكذلك جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: (كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد، فاطلعت(6/175)
عليها يوماً فوجدت الذئب قد أخذ شاة منها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فأسفت -يعني: غضبت- فضربتها في وجهها، ثم ندمت -فالإنسان في حالة الغضب يقع في أشياء لا يريدها- ثم ذهبت إلى رسول الله فأخبرته بذلك، فعظم ذلك عليه -يعني: كوني ضربتها- فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ فقال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال صلى الله عليه وسلم لها: أين الله؟ فأشارت بيدها وقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) وهؤلاء يقولون: لو أشارت اليد إلى الله لوجب قطعها؛ لأنهم معطلة، عطلوا الله جل وعلا عن أوصافه تعالى الله وتقدس عما يقولون ويعتقدون. ......
أدلة إثبات اليدين لله تعالى(6/176)
قال الشارح رحمه الله: [قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم قال البخاري : حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثنا الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟) تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر. وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد قال: حدثنا عمي القاسم بن يحيى بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك) تفرد به أيضاً من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر. وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية يوماً على المنبر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن به) ]. قال المصنف رحمه الله: [ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) ]. في هذا(6/177)
الحديث إثبات الشمال، والمقصود أن لله جل وعلا يدين، وأما ما جاء في الصحيحين في قصة آدم أن الله جل وعلا (قبض بيديه فقال له: اختر؟ فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين) فمقصود هذا أن كلتاهما كاملة تامة لا يلحقها نقص، ليس كالمخلوق الذي يمينه أكمل من شماله، هذا هو المقصود بقوله: (وكلتا يديه يمين). وإذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النص وجب قبوله والقول به؛ لأنه معصوم فيما يبلغ عن الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله: [كذا في رواية مسلم ، وقال الحميدي : وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه، وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه) ]. يعني ليس في البخاري لفظ (شماله). قال الشارح رحمه الله: [وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم . ]. قال المصنف رحمه الله: [وروي عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم]. في هذا إثبات الكف لله جل وعلا، فليده كف، وقد ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره، وهو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك القبض. ......
عظم الكرسي بالنسبة للسماوات(6/178)
قال المصنف رحمه الله: [قال: وقال: ابن جرير : حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: قال ابن زيد : حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) ]. هذا هو الصواب الصحيح من أقوال العلماء أن الكرسي غير العرش، فقد قال الله جل وعلا: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255] فالكرسي تحت العرش، وجاء عن السلف أنهم قالوا: الكرسي يكون المرقاة للعرش، يعني: الشيء الذي يجعل تحت الكرسي توضع عليه القدم، ولهذا قال ابن عباس : الكرسي موضع قدمي الرحمن جل وعلا، وإذا كانت السموات بالنسبة للكرسي على سعتها كسبعة دراهم ألقيت في ترس، فإن العرش أعظم من الكرسي، فالكرسي بالنسبة للعرش كدرهم ألقي في فلاة، فالعرش هو أكبر المخلوقات وأعظمها وأعلاها، والله جل وعلا فوق العرش تعالى وتقدس. ......
عظم العرش بالنسبة للكرسي
قال المصنف رحمه الله: [ وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض) ]. يعني: أن الكرسي مع كونه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] أوسع من السموات والأرض وأكبر، فهو بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة، والعرش كما جاء في الآثار له قوائم، ويحمل كما قال الله جل وعلا: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فأخبر جل وعلا أن له حملة، وأن له ملائكة يحفونه، ويسبحون بحمد ربهم، ويقدسونه، وهؤلاء هم أقرب الملائكة إليه، وأعظمهم طاعة له جل وعلا، وأعظمهم خلقاً، وأخبر أن هؤلاء يستغفرون للذين آمنوا. ......
سمك ما بين كل سماء والتي تليها(6/179)
قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ]. وهذا اعتقاد أهل السنة، حيث يعتقدون أن الله فوق عرشه تعالى وتقدس كما قال الله جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وأن علم الله في كل مكان، وأن قول الله جل وعلا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] معناه: بعلمه واطلاعه وسمعه وبصره وقبضته وإحاطته، وهو فوق عرشه تعالى وتقدس، فهو أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [137]
الأدلة متوافرة على أن أسماء الله وصفاته الأصل فيها التوقف، فلا يثبت منها إلا ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة، وإثبات صفات الله تبارك وتعالى يكون على ظاهرها دون تشبيه أو تأويل.
دلالة مخلوقات الله على عظمته(6/180)
قال الشارح رحمه الله: [وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله، وعظيم قدرته، وعظم مخلوقاته، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان]. قوله: (في هذه الأحاديث) المقصود التي سبق ذكرها، مثل حديث: أن الرب جل وعلا يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والثرى والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك أنا الملك، ومثل حديث ابن عمر الذي سبق (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله يقبض السماوات بيده، والأرضين باليد الأخرى، ثم يقول هكذا يمجد الرب نفسه، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يشير بيده، يقول ابن عمر : فرأيت المنبر يتحرك من تحته، فقلت: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وتحرك المنبر هو بسبب الذكر الذي يذكر عليه من عظمة الله، وإلا فالمنبر ثابت، وهذا مثل قصة الجذع الذي كان يخطب عليه، ثم اتخذ له منبراً منجوراً من خشب الطرفاء، فلما صعد على هذا المنبر أول مرة، صار ذلك الجذع يحن على ما فقد من الذكر الذي يتلى عليه، حتى سمع أهل المسجد كلهم حنينه، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم من المنبر، وذهب إليه والتزمه، فهدأه مثل ما يهدأ الصبي الذي يبكي، وقال: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة)، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم أصحابه معرفة الله جل وعلا، ويعلمهم الإيمان به، ومن الإيمان المعرفة بما تعرف الله به إلى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأسمائه وأوصافه، فقد سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بأوصاف؛ فيجب أن نتقبل ذلك كما(6/181)
جاء به المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، بدون تحريف ولا تعطيل، وبدون تمثيل ولا تشبيه للرب جل وعلا بالمخلوقات. ......
معنى التحريف والتأويل
التحريف معناه: أن يعدل بمعاني هذه النصوص عما أراد المتكلم بها إلى معان أخرى، فهذا تحريف في الواقع، وإن سماه أصحابه تأويلاً، والتأويل جاء على لسان السلف يقصد به شيئان: أحدهما: التفسير، كما يقول ابن جرير رحمه الله في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، أي: في تفسيره، فهذا معنى صحيحاً من معاني التأويل. المعنى الثاني: أن التأويل هو ما يئول إليه الشيء المخبر عنه، كما قال الله جل وعلا: يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53] يعني: يأتي حقيقة ما أخبر الله جل وعلا عنه يوم القيامة إذا عاينوه، فهذا تأويله. ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100] يعني: هذا حقيقة الرؤيا التي رأيتها، جاءت واقعة مشاهدة. أما المعنى الثالث الذي يقوله المتأخرون فهو مبتدع مخترع، ما جاء لا في اللغة ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله، وهو ما اصطلحوا عليه من صرف اللفظ عن ظاهره إلى غير ظاهره؛ لدليل يدل على ذلك، وهذا الدليل: إما أن يكون عقلياً، وهذا لا حصر له، ولا ضابط له، فكل يدعي أن العقل معه، وإما أمر آخر يزعم أنه دليل وهو ليس بدليل، وهذا الذي أنكره العلماء، وعده الإمام ابن القيم في كتابه: (الصواعق المرسلة) طاغوتاً من الطواغيت التي أُفسد بها دين الله، حيث جعله أحد الطواغيت الأربعة التي ذكرها، وقال: إن هذه الطواغيت هي التي أُفسد بها دين الله جل وعلا. والواجب على الإنسان أن يأخذ دينه من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله صلى الله(6/182)
عليه وسلم فقط، ولا ننكر كون الإنسان يستعين بأقوال العلماء على فهم كتاب الله وفهم كلام رسوله، بل ينبغي هذا، ولكن إذا جاءت أقوال تصادم كتاب الله وتصادم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن نأخذ بها، ولا يجوز أن نعتبرها من المقبول، بل يجب أن نردها؛ لأنها تخالف قول الله وقول رسوله، فكل قول من أقوال الناس خالف قول الله أو قول رسوله يجب أن يرد ولا يقبل على أي حال، ومهما كان صاحبه. ومعلوم: أن كل أحد من الخلق -من العلماء أو من غيرهم وإن بلغ في العلم درجة رفيعة- يجوز أن يخطئ وأن يقع في الخطأ؛ لأن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما ما عداه من الخلق فيجوز عليهم الخطأ؛ فإن بني آدم كلهم خطاء. إذاً: أمامنا كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت، فيجب الاعتصام بهما كما قال جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ففسر حبل الله بأنه كتابه، وأنه دينه، وفسر بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلها تفسيرات صحيحة. ......
موقف المتكلمين من النصوص وحيرتهم واضطرابهم(6/183)
قد تكاثرت النصوص من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في وصف الله جل وعلا بأوصاف متعددة، وأبى المتكلمون كثيراً منها، وحرفوها، بل ردوها صراحة، فقالوا: إن الله لا يوصف بأن له يداً، وقالوا: لا يوصف بأن يده لها أصابع، وقالوا: لا يوصف بأن له رجلاً، ولا يوصف بالغضب والرضا والمحبة، وهذا كله ثابت في كتاب الله، فكيف نعتاض عن كتاب الله بقول هؤلاء الذين عمدتهم واستنادهم على عقولهم؟!! فالأمر كما ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه حين جاءه رجل فقال له: أريد أن أناظرك؟ فقال: لا، أنا ما عندي شك في ديني، فاذهب إلى إنسان آخر عنده شك في دينه فناظره. فالمناظرات هي بالعقول، والعقول تتفاوت، وكل من كان مفرطاً في الذكاء من هؤلاء المتكلمين كانت نهايته الحيرة، فيصبح لا يدري ماذا يقول! كما ذكر عن أحد تلامذة الفخر الرازي الأذكياء أنه كان له صديق من أهل السنة الذين يتبعون السلف في الاعتقاد، وفي يوم من الأيام دخل عليه فسلم فلم يرد عليه السلام، ثم سلم فلم يرد السلام، ثم سلم الثالثة فلم يرد السلام، فعجب الرجل فما دهاه! فوقف حائراً ما يدري يجلس أو يرجع، وفي أثناء ذلك رفع رأسه إليه فقال: ماذا تعتقد يا فلان؟ فضحك وقال: ماذا أعتقد؟ أعتقد ما يعتقده المسلمون، فأطرق رأسه وجعل يبكي ويقول: ولكني والله ما أدري ماذا أعتقد!. والفخر الرازي نفسه خرج يوماً من الأيام إلى سوق نيسابور ومعه تلامذته وهم أكثر من ثلاثمائة تلميذ، وعجوز واقفة على باب بيتها، فسألت واحداً من تلامذته: من هذا الملك؟ فقال لها: ليس هذا بملك، ولكنه فخر الدين الرازي يعرف على وجود الله ألف دليل، فضحكت العجوز، وقالت: والله لو كان عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يبحث عن ألف دليل، أوفي معرفة الله شك حتى يبحث عنه؟! فهم يشكون في الأمور الظاهرة الجلية. وكان الجويني يسمى إمام الحرمين؛ لأنه جاور في مكة زمناً، وجاور في المدينة زمناً، وصار يدرس في مسجد(6/184)
النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يوم من الأيام كان يتكلم على كرسي في هذا المسجد الطاهر، ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان؛ ليس فوق ولا تحت، ليس يمين ولا شمال، فقام رجل فقال: ما قولك فيمن إذا دعا رفع يديه نحو السماء قائلاً: يا رب؟! فوضع يده على رأسه، ونزل من على الكرسي، وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل، حيرني الرجل، لماذا؟! لأن استناده واعتماده كان على عقله فقط، ما هو على كتاب الله وعلى أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما أدركه الموت صار يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أظن أنه يصل بي إلى ما وصل بي الآن ما اشتغلت به. ثم يقول: ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور لم أعرف شيئاً، ولا عجب، فبعد طول جهد وطول مسير يموت على عقيدة العجائز!! بل تمنى ذلك؛ لأن كثرة الشكوك التي تلقى عليه لا تدعه يعتقد ذلك، فهؤلاء كثير منهم يتمنى أن يكون على عقائد عوام الناس؛ والسبب أنهم أعرضوا عن طريق الهدى والشفاء الذي يشفي من الشكوك، أعرضوا عن كتاب الله، وزعموا أن آيات كتاب الله ظواهر لا تفيد اليقين، وإنما اليقين ما تدلهم عليه عقولهم، هذا هو السبب الذي جعلهم يحارون. يجب أن تثبت صفات الله بلا تمثيل ولا تعطيل، والتعطيل هو تعطيل أوصاف الله وأسمائه من المعاني التي أريد بها، كما قال الله جل وعلا : وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ [الحج:45] معطلة يعني: ما تستعمل بل تركت، ويقال في اللغة العربية: جيد عاطل: وهو رقبة المرأة إذا لم يكن عليها حلي، فمعنى التعطيل التخلية أي: أن يخلوها عن معانيها التي أرادها الرب جل وعلا، مثل ما يصنعه هؤلاء. ......
معنى التحريف(6/185)
التحريف: هو التأويل الباطل، والعدول بها وبمعانيها عما أراده الله جل وعلا، كقولهم: يد الله أي: نعمته، وكقولهم: غضب الله أي: نقمته، وكقولهم: رحمة الله أي: إحسانه، وهكذا. وهذا كثير جداً في تفاسير هؤلاء وفي شروحهم للحديث، فيجتهدون غاية الاجتهاد في صرف معاني أوصاف الله وأسمائه إلى ما يعقلونه هم، وما يتعارفون عليه، ويحرفونه من أجل ذلك؛ لأنهم ما عرفوا من اليد إلا أيديهم التي يتعارفون عليها، ولهذا كثير منهم يقول: يد الله ليست جارحة، فالله لا يوصف بالجوارح، فمن قال لك: إنها جارحة، فقل: إن الله له يد، ويجب أن نثبتها كما جاءت، أما كلمة جارحة فهي من عندك، فلا يجوز أن نثبتها، ولا يجوز أن ننفيها؛ لأنه شيء ما جاء إثباته ولا نفيه فيتوقف فيه. ثم إن الله جل وعلا قد أخبرنا أنه ليس كمثله شيء، وأنه لا سمي له، وأنه لم يكن له كفواً أحد، وأنه لا ند له، والناس جميعاً متفقون على أن الله في ذاته جل وعلا ليس له مثيل، ولا يشبهه شيء، فإذا كان الأمر كذلك فالصفات تبع للذات، يحتذى فيها حذو الذات، فإذا كان جل وعلا ليس له مثيل في ذاته، فهو كذلك ليس له مثيل في أوصافه وأسمائه ؛ لأن الصفة والاسم تبع للذات. فالواجب أن نفهم كلام الله، وأن نوقعه الموقع الذي أراد منا جل وعلا، وألا نؤول ولا نحرف، فإن التأويل والتحريف كله صد عن معرفة الله جل وعلا، وقد قال جل وعلا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] فهذا وعيد من الله للملحدين أنهم أنه سوف يلقون جزاءهم حين يلقوه وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا فندعوه بأسمائه ونعبده بها، فنقول: يا منان من علينا، يا غفار اغفر لنا، وهكذا نسأله بأسمائه، ونعبده بها جل وعلا، وكل اسم له صفة أخذ منها، فالأصل الصفات، والأسماء فرع عن الصفات، فالرحمن أخذ من الرحمة، والعزيز من العزة، والحكيم من الحكمة،(6/186)
والغفور من المغفرة، وهكذا.......
سبب رد أهل الكلام لأدلة الصفات
العقلانيون هم عباد العقل -الذين يسمون سابقاً بالمعتزلة، وقد قدموا العقل على كتاب الله وسنة رسوله، ويقولون: تثبت الأسماء وترد الصفات، لماذا قالوا ذلك؟ لأن ذكر أسماء الله جل وعلا في كتابه أكثر من ذكر الحلال والحرام، وأكثر من ذكر الأوامر التي يؤمرون بها، فردها معناه: رد لكتاب الله جملة وتفصيلاً، ومعنى قولهم: ترد الصفات: أن أسماء الله مجرد أعلام لا تدل على معاني، ومثال ذلك -ولله المثل الأعلى-: إذا سميت شخصاً زيداً، والآخر عمراً، فأنت تميز هذا عن هذا بهذا الاسم فقط، وإلا فليس له من معنى الاسم شيء، تعالى الله عن ذلك، فهذا يدلنا على إلحادهم، وعلى بعدهم عن معرفة الله؛ ولهذا ترى قلوبهم أقسى القلوب، وصاروا أجرأ الناس على الله جل وعلا، يتجرءون عليه ويصفونه بما لا يستطيع الإنسان أن يتكلم به، قال الإمام عبد الله بن المبارك : إننا لنحكي قول اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي قول هؤلاء في الله؛ لأن قولهم جرأة عظيمة على الله. فالمسلم يجب أن يكون قدوته كتاب الله، وأن يحذر من أقوال هؤلاء، والمصيبة أن أتباع هؤلاء ملئوا الدنيا بالكتب، وصارت المطابع تلفظ ما لا حصر له من كتب هؤلاء، وهم يزعمون أنهم أهل السنة والجماعة، وهم محرفون حيث يقولون: غضب الله هو نقمته، ويد الله: نعمته، ورحمة الله: إحسانه، وهكذا، فهؤلاء يزعمون أنهم أهل السنة، ومن أثبت لله غضباً على ظاهر اللفظ، وأثبت له رحمة ومحبة ويداً ورجلاً على ما جاءت به النصوص؛ سموه مشبهاً، ويحذرون من بعض الكتب مثل كتاب خلق أفعال العباد للبخاري ، وكتاب الدارمي , وكتاب الإمام أحمد ، وكتاب ابن خزيمة ، وغيرها من كتب أعلام السنة، ويقولون: هذه ما ينبغي أن يقرأها الإنسان؛ لأن فيها خطورة، ولانحرافها عن التنزيه، فيسمون تعطيل صفات الله: تنزيهاً، وقد قال أحد هؤلاء في كتاب التوحيد للإمام محمد بن(6/187)
خزيمة : هذا كتاب الشرك، وقال الآخر في كتاب الإمام عبد الله بن أحمد -كتاب السنة- هذا كتاب البدعة. وليس هناك عداوة أكثر من معاداة الإنسان في العقيدة، فإذا خالفك أحد في العقيدة فلا يتفق معك في شيء، ولهذا صار بعضهم يلعن بعضاً، حتى قال بعضهم لأحد هؤلاء -وهو يرد على إمام معروف من أئمة السنة- وهو يريد أن يهدئه، وأن يطفئ شيئاً من غضبه: يا فلان! إني لأرجو أن تلتقي مع هذا الذي ترد عليه في الجنة، وتصطحبان هناك، فماذا قال هذا الرجل نسأل الله العافية؟ قال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها، إلى هذا الحد! نسأل الله العافية، كل هذا لأنه خالفه في وصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه. فالواجب على العبد الحذر، فالأمر ليس سهلاً، ونضرب مثلاً لمصير الطائفتين: لو كان هناك اثنان: أحدهما يقول: إن الله لا يوصف بيد، أو رجل، ولا يوصف بأنه يغضب، أو يحب أو يفرح، ولا يوصف بأنه يضحك؛ لأننا إذا وصفناه بهذه الأوصاف شبهناه بالمخلوقين، لأن هذه صفات المخلوقين. وآخر يقول: أنا أثبتها على ظاهرها، وأعتقد أن الله له هذه الصفات المذكورة على ما يليق به، ثم مات هذا وهذا، والتقيا بين يدي الله، وسألهما الله جل وعلا، فقال للأول: ما مستندك؟ فسيقول: عقلي، وقول فلان وفلان من الأئمة، ولو قال للثاني: ما مستندك؟ فسيقول: كتابك، وقول رسولك، فأيهما أولى بالنجاة؟ وأيهما أولى بالعذر؟ لا شك أنه الثاني؛ لأنه اعتمد على كتاب الله وسنة رسوله. ثم هناك شيء ينبغي أن ننبه عليه، وهو أنه ما دام هؤلاء يقولون: إن هذه الأشياء ظاهرها مشابهة الخلق، فمعنى ذلك أن كتاب الله ظاهره التشبيه، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن يقال هذا؟ هكذا صرح الصاوي في حاشيته على الجلالين في تفسير سورة الكهف فإنه قال: الأخذ بظواهر كتاب الله كفر، وصل إلى هذا الحد؛ لأنه يقول: لا يجوز أن نقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] على ظاهر القرآن،(6/188)
لكن نقول كما قال الجعد بن درهم الذي أتانا بعقائد الصابئة والزنادقة، ويريد أن يفرق بين المسلمين ويشتت أذهانهم ويفسد عقائدهم، هذا هو غرضه ومراده، ولهذا ضحى به خالد بن عبد الله القسري رحمه الله لما قيل له: إن هذا الرجل ينكر أن يكون الرب جل وعلا يتكلم، وينكر أن يكون الرب جل وعلا يحب، فإنه يقول: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، لماذا يقول هذا؟ لأن الكلام عنده يتطلب لساناً، وشفتين، ولهاة، وحنجرة، ومقاطع أصوات، وكذلك المحبة والخلة تقتضي الميل إلى المحبوب، والحاجة إليه، ويقال لهذا المبطل: الذي يحتاج إلى لسان ولهاةٍ وحنجرة وشفتين كلامك أنت وأمثالك، أما الله جل وعلا فلا نظير له ولا شبيه. فلما قال هذا القول، ونمي إلى أحد قواد بني أمية خبره؛ طلبه، فأمسكه وقيده بالحديد، وكان الوقت وقت عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يخطب الناس ويصلي بهم، وإذا لم يكن القائد عالماً ما يصلح أن يكون قائداً في ذلك الوقت، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى المصلى، وقد خرج الناس إليه، فصلى بهم صلاة العيد ثم قام يخطب، وفي آخر الخطبة قال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم ؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل من على المنبر وذبحه أضحية؛ فشكره العلماء على هذا، شكروا صنيعه ودعوا له؛ لأن هذا طاغوت زنديق يريد أن يفسد الدين.......
الرد على من أنكر صفة الكلام(6/189)
الذين يقولون: إن الكلام يتطلب لسان وشفه وغيرهما أن نقول: هذه المتطلبات هي لكلام المخلوقين، وقد أخبرنا الله جل وعلا أن هناك مخلوقات تتكلم وليس لها لسان، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً من الحجارة كان يسلم عليه ويقول: السلام عليك يا رسول الله، وأخبر الله أن الجبال تسبح مع داود، وأخبر جل وعلا أن الجلود والأسماع والأبصار تنطق وتتكلم، والأيدي تشهد على أصحابها يوم القيامة، فهل لهذه ألسنة؟ قال تعالى: حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:20-21] فإذا كان هذا موجوداً في مخلوقات حقيرة بالنسبة لله جل وعلا، فكيف يقال: إنه يتطلب ذلك بالنسبة لله! فالواجب أن نثبت ما أثبته الله من غير تشبيه بالمخلوقات، وأن نعتقد أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه إذا تكلم فهو يتكلم حقيقة، والذي ينكر صفة الكلام يلزمه أن ينكر الشرع كله؛ لأن شرع الله كله أوامر وأقوال يقولها جل وعلا يخاطب بها عباده، ولقد تكاثرت النصوص عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، ففي كتاب الله وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] فمن أين يسمع كلام الله؟ أيسمعه من الله؟! بل يسمعه من المبلغ، من الرسول أو ممن يبلغه، فكتاب الله هو كلامه الذي تكلم به وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كلامه حقيقة، ولهذا لما قال رجل عند ابن عباس : الله رب القرآن؛ زجره وقال: مه! القرآن ليس مخلوقاً، القرآن صفة الله، فيقال: الذي تكلم بالقرآن، أو الذي أنزل القرآن؛ لأن كل مربوب مخلوق، أما قول الله جل وعلا: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ [الصافات:180](6/190)
فمعنى رب العزة هنا: صاحب العزة التي هي صفته، ورب يأتي بمعنى صاحب، كما يقال: رب الدار ورب الدابة ورب الكتاب، أي: صاحبه.......
النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه صفات الله تعالى
الواجب على العبد أن يتعرف على الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آخر من يخرج من النار -يعني: من أهل التوحيد- رجل يخرج منها، ويجعل وجهه إليها، فلا يستطيع أن يلتفت بوجهه عنها، فيبقى يدعو: يا رب اصرف وجهي عن النار، فقد آذاني قشبها، ونتن ريحها، لا أسألك غير هذا، فإذا طال سؤاله يقول الله جل وعلا له: لعلك إذا أعطيتك ما سألت تسأل غيره؟! فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غيره، فيستجيب الله جل وعلا له، ويصرف وجهه عن النار، ثم ترفع له شجرة خضرة يراها، فيصبر ما شاء الله أن يصبر، ثم بعد ذلك يقول: يا رب أوصلني إلى تلك الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيبقى يدعو وقتاً، فيقول الله جل وعلا له: يا بن آدم! أين ما أعطيت من العهود؟ ما أغدرك! فيقول: يا رب لا تجعلي أشقى خلقك، والله يعذره، لأنه يرى شيئاً لا يصبر عليه، فيقول الله جل وعلا له: لعلك إن أعطيتك ما سألت تسأل غيره؟ فيقسم بالله أنه لا يسأل غير هذه الشجرة، ويعطي العهود والمواثيق، فيوصله الله جل وعلا إلى الشجرة ، فإذا وصل إليها ترفع له شجرة أحسن منها وأجمل، فينظر إليها، فيصبر ما شاء الله أن يصبر، هم يقول: يا رب أوصلني إلى تلك الشجرة، لا أسألك غيرها، فيقول الله جل وعلا له: يا بن آدم! ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود والمواثيق أنك لا تسأل غيرها؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول: لعلك إن أعطيتكها تسأل غيرها، فيقول: لا والله لا أسألك غيرها وعزتك وجلالك، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فإذا وصل إليها رأى الجنة ثم ينفتح له باب الجنة، فيرى داخلها ما لا يتصوره، فينفذ صبره ويسأل ربه(6/191)
فيقول: يا رب أدخلني الجنة، يا رب أدخلني الجنة، فيقول الله جل وعلا: أين العهود؟ يقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، ثم يقول له جل وعلا: أرأيت لو أعطيتك الدنيا ومثلها أيكفيك؟ فيقول هذا الرجل: يا رب أتسخر بي وأنت رب العالمين؟ عند ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني مما أضحك؟ قالوا: مم تضحك؟ قال: أضحك من ضحك رب العالمين إذ قال له: أتسخر بي وأنت رب العالمين؟ فضحك الله، فيقول: لا ولكني على ما أشاء قدير، ثم يقول: تمنَّ! فيتمنى فتنقطع به أمنيته، فيقول له جل وعلا: تمن كذا وكذا وكذا، يذكره، فإذا انتهت أمنيته قال: لك هذا وعشرة أمثاله، هذا أدنى أهل الجنة منزلة). فتأمل هذه المحاورة وهذه الخطابات الكريمة التي يُخَاطب بها هذا الرجل، فما موقف أهل البدع من هذا؟ لا يؤمنون به -نسأل الله العافية-. وفي صحيح البخاري أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو جالس معهم: (إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه بالزرع، يقول: يا رب! أريد أن أزرع، فيقول الله جل وعلا له: ألم أكن أغنيتك مما تطلب؟ فيقول: بلى يا رب، ولكن أريد أن أزرع، فيقول الله جل وعلا: نعم فازرع، فيزرع فينبت الزرع ويستوي حتى تكون الحبوب أمثال الجبال، ثم يقول الله جل وعلا له: دونك يا بن آدم، فإنه لا يملأ بطنك شيء، عند ذلك قال أعرابي جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الرجل إما من المهاجرين أو من الأنصار، أما نحن فلسنا أصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم). والمقصود من هذا: أن آحاد أهل الجنة يخاطب ربه إذا شاء، ويخاطبه الله ويكلمه بلا واسطة، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه بلا ترجمان) كل واحد يكلمه ربه جل وعلا عند المحاسبة فيقول: يا فلان ألم تعمل كذا وكذا؟ ألم تعمل كذا وكذا؟ أشياء كثيرة جداً، كيف نترك ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم،(6/192)
ونأخذ قول الذين تربوا في أحضان اليهود، أو تلقوا علومهم من اليونان، أو من حكماء الهنود، أو من الصابئة والزنادقة، والله ما يفعل هذا إلا من ضل سعيه في هذه الحياة الدنيا -نسأل الله العافية-، ولو ذكرنا بعض الأشياء التي تدل على أوصاف الله جل وعلا لطال الكلام جداً، ولكن المقصود التنبيه فقط، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتقبلون هذه الخطابات بدون استفسار أيضاً؛ لأنهم مقتنعون بها تماماً، ولم يأت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص أبداً، ومن المعلوم قطعاً عند كل مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر الأمة على ما ظاهره الباطل أو الكفر. وقد جاء في السنن والمسانيد والأحاديث الصحيحة الشيء الكثير من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته آداب الأكل وآداب قضاء الحاجة، وآداب دخول الحمام، وآداب النوم، وآداب دخول البيت، وآداب المشي، وآداب الجلوس، جاءت في أحاديث صحيحة كثيرة، يعلمنا إياها صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا قال يهودي مخاطباً أحد الصحابة: إن نبيكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة، يعني: قضاء الحاجة، حيث يقول: (إذا ذهب أحدكم لقضاء الحاجة فليستجمر بثلاثة أحجار، ولا يستجمر بعظم ولا بروث)، فذهب هذا الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له هذا القول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أجل إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم كل ما ينفعكم) هل يتصور أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذه الآداب التي لو تركها المسلم ما كان عليه ذنب ولا عقاب، مثل: أدب الأكل أو الجلوس أو المشي، وأدب دخول المنزل، والنوم، ودخول الحمام، فهل يعلمنا هذا ويترك معرفة الرب جل وعلا لا يعملنا إياه، وهو أصل الإيمان وأساس الدين؟ هذا لا يجوز أن يعتقد أصلاً، ومن اعتقد هذا فلم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ. ......
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تقسيم النصوص إلى ظاهر وباطن(6/193)
قال الشارح رحمه الله: [وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه، بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقاً بلغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين]. وكذلك مسألة علو الله على خلقه، فهذه من المسائل الكبار التي خالف فيها هؤلاء المتكلمون، وسموا بالمتكلمين؛ لأن دينهم في الحقيقة الكلام، والجدل، ويسمون كلامهم توحيداً، وهو في الحقيقة شكوك وظنون وشبه، أما التوحيد فهو في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنكروا أن يكون الله عالياً على خلقه، مع أن أحد العلماء استخرج من كتاب الله ما يقرب من ألف دليل على علو الله، وعلو الله مفطور عليه الإنسان، فإنه لا يمكن لإنسان أن يدعو ربه ويقول: يا رب إلا ويجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى أن يطلب ربه من فوق، وهذا شيء خلقه الله جل وعلا في الأنفس، وهو مستقر فيها، لا ينكره إلا مكابر، أما أدلة الكتاب والسنة على ذلك فأكثر من أن تحصى، وسبق أن ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فصار يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) إشارة إلى أن ربهم في السماء جل وعلا، وفي صحيح مسلم : (أن معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي جارية -يعني: مملوكة- ترعى لي غنماً عند أحد، فاطلعت عليها يوماً فوجدت الذئب قد أخذ شاة منها، فغضبت(6/194)
فصككتها في وجهها، ثم ندمت، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنه حدث مني كذا وكذا؛ فعظم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، يقول: فذهبت فجئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: أين الله؟ فأشارت بيدها وقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة)، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها مؤمنة بقولها: الله في السماء، مع قولها: أنت رسول الله، وهذا يوافق قول الله جل وعلا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك:16] من الذي يخسف بنا الأرض؟ أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الملك:17] و(في) هنا المقصود به: العلو، أي: أأمنتم من في العلو من فوقكم، وليس (في) هنا ظرفية، إلا أنه يجوز أن تكون (في) هنا بمعنى (على)، أي: أأمنتم من على السماء؛ لأن (في) تأتي بمعنى (على) كما قال الله جل وعلا في قصة فرعون: َلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، وليس المقصود أن يدخلهم في جذوع النخل، بل يصلبهم فوقها، ويقول الله جل وعلا: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ [الأنعام:11] هل المقصود يدخلون في باطن الأرض؟ أبداً، بل يسيرون عليها. فالمقصود أن (في) تأتي بمعنى (على)، فإما أن يقال هنا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ (في) بمعنى (على)، أو يقال: إن السماء المقصود بها العلو، وهذا حق، ويقول الله جل وعلا في قصة عيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]. ويقول الله جل وعلا في كتابه: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، ويقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، ويقول: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ [الزمر:1] ينزل الوحي(6/195)
من السماء ، والأدلة كثيرة جداً لا حصر لها، إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وسبق لنا أن العرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها، وليس فوق العرش شيء من المخلوقات أصلاً، ما فوقه إلا الله جل وعلا، فما أكثر أدلة علو الله جل وعلا، تقول زينب رضي الله عنها -وهي تفتخر على أزواج النبي- (زوجكن أهاليكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات)، وعلو الله ثابت حتى في كلام أهل الجاهلية.
الصحابة تلقوا صفات الله بالقبول
قال الشارح رحمه الله: [وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله، وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا كما قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء، كلهم وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا شيئاً من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة].
علو الله تعالى وأدلته
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم) أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ]. ......
أدلة علو الله في القرآن(6/196)
المقصود بهذا الأثر الاستدلال به على علو الله على خلقه، والنصوص في علو الله جل وعلا كثيرة جداً، حتى لو تتبعتها في كتاب الله ما حصرتها بأفرادها، وإنما بأنواعها، ولهذا يذكرها العلماء أنواعاً في كتاب الله. فمن أنواعها: كون الله جل وعلا أخبر في آيات كثيرة أنه أنزل الكتاب على عبده ، وأنزل الكتب على رسله، فالإنزال لا يمكن أن يكون إلا من فوق إلى أسفل، وكلها جاءت بهذا اللفظ، وهذا نوع من الأنواع، وأفراده كثيرة، فلو تتبع الإنسان ما في القرآن من لفظ التنزيل الذي يخبر الله جل وعلا أنه فعله تنزيلاً من عنده لوجده كثيراً. ومن أنواعها: الإخبار بأنه جل وعلا في السماء، كما قال جل وعلا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:16-17] وهذا أيضاً جاء كثيراً، والسماء المراد بها: العلو الذي فوق، فكل ما علاك يسمى سماء كما قال الله جل وعلا: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج:15] والمقصود بهذا: من كان يتوقع أن الله لا ينصر رسوله، ويترقب هذا ويترصد؛ فليضع حبلاً في السقف، ثم ليضعه في حلقه، ثم ليقتل نفسه، فإن الله لا بد أن ينصر عبده ورسوله. فالمقصود من السماء العلو، وليس المراد بفي الظرفية مثل ما يقال: الماء في الكوز، والماء في الإناء. ومن أنواع الأدلة على علو الله: الإخبار بأنه القاهر فوق عباده، وأنه فوق خلقه، وقد جاء هذا في آيات متعددة، كالتصريح بالفوقية. ومن أنواع الأدلة في كتاب الله على العلو أيضاً: أنه يذكر بعد خلق السماوات والأرض استواءه على عرشه، مرتباً الاستواء على الخلق بكلمة (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، كما قال جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ(6/197)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وجاء هذا في سبعة مواضع من كتاب الله بهذا الأسلوب، بكلمة (ثم) مرتبة على خلق السماوات والأرض. ومن أنواع الأدلة: أنه يذكر جل وعلا أن من عباده من هو عنده: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ [فصلت:38]، والعندية تقتضي التميز والعلو والارتفاع عن خلقه جل وعلا، وأنواع أخرى كثيرة جداً.
أحاديث رسول الله تثبت العلو
توجد أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة تدل على علو الله، فمنها: الإشارة الحسية إلى أن الله فوق، سؤالاً وفعلاً وقولاً من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صح في صحيح مسلم وغيره أنه سأل الجارية: (أين الله؟ فقالت: في السماء) فحكم عليها بعد ذلك بأنها مؤمنة، وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم سأل الناس فقال: (أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد بإنك قد بلغت، فصار يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي. ومنها: التصريح بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الرقية: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما أن رحمتك في السماء، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاءك على هذا الوجع) هكذا كان يرقي صلوات الله وسلامه عليه بعض أهله. وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم يصرح بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وكذلك يوم عرفة، وغير ذلك من أنواع شتى كثيرة جداً. وقد قال العلماء: إن اتصاف الله بالعلو دل عليه العقل ودلت عليه الفطرة، مع الكتب المنزلة، وما جاء به الرسول، وكلها متضافرة عليه، فإنكارها إنكار لما عرف بالضرورة، فمن أنكر علو الله على خلقه يكون منكراً لشرع الله، ولفطرة الله التي فطر عليها الخلق، ولدينه الذي أرسل به الرسل.
العقل يدل على علو الله(6/198)
العقل يدل على علو الله العلماء: إن الله هو الخالق للسماوات والأرض، والإنس والجن، وكل شيء، وهذا أمر لا يُشك فيه، وكل مخلوق له خالق مدبر هو الله، فقالوا: عندما خلق الله المخلوقات لا يخلو الأمر من تقديرات: أحدها: أن يقدر أنه خلق المخلوقات في ذاته تعالى وتقدس، ومن اعتقد هذا فهو كافر، وهذا التقدير باطل قطعاً، أما التقدير الثاني: فهو أنه خلق المخلوقات خارج ذاته، فإذا كان ذلك فلا يخلو الأمر؛ إما أن يكون تحت المخلوقات، أو مخالطاً لها، أو فوقها، وكونه تحتها أو مخالطاً لها باطل قطعاً؛ لأنه بهذا يساوي الخلق ويماثلهم في الوجود في المكان، فإذا: لا بد أن يكون فوق خلقه، وهذا نوع من الأدلة العقلية، وهناك أنواع أخرى عقلية ذكروها.
الفطرة تدل على علو الله
مما يدل على علو الله الفطرة، فالإنسان مفطور على دعوة ربه في العلو، فإذا دعا الإنسان ربه رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب يا رب، ولا يلتفت لا يمين ولا شمال ولا تحت، فإذاً: هذه فطرة فطر الله جل وعلا عليها خلقه. وبقي سؤال وهو: ما حكم الذي ينكر علو الله؟ وما شبهته؟ وهل لهم دليل؟ هم في الواقع اعتاضوا عن كتاب الله وعن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم بعقولهم، ولن تستقل العقول بمعرفة الله، مع أن الأصل الذي اتفق عليه علماء الأمة، من الذين لهم مقام صدق، ولهم لسان صدق عند الناس، أنه لا يثبت لله جل وعلا من الأوصاف والأفعال إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. أما ما يقوله الناس، فإنه يجب أن يعرض على كتاب الله وعلى أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبل، وما خالفهما رد على صاحبه مهما كان مقام وعلم هذا القائل.
إثبات رؤية الله يوم القيامة(6/199)
الله جل وعلا غيب لم يره أحد، ولم يطلع عليه أحد فيصفه، ولو أمكن لأحد أن يراه لرآه أفضل الخلق وخاتم الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإن الله عرج به -وهذا أيضاً من أنواع الأدلة على العلو- إلى السماء السابعة، بل إلى سدرة المنتهى -وسدرة المنتهى في السماء السابعة- ثم أوحى إليه ما أوحى جل وعلا، والذي جاءنا صريحاً أنه أوحاه إليه الصلاة، ففرض عليه الصلوات الخمس هناك، ولم ير صلى الله عليه وسلم ربه في ذلك المقام، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هل رأيت ربك؟ -يعني: في المعراج- فقال: (رأيت نوراً) -وفي رواية- (رأيت ناراً) -وفي رواية- (نور أنى أراه؟)) يعني: لا أستطيع رؤيته. وكذلك أخبرنا ربنا جل وعلا عن كليمه -الذي كلمه بلا واسطة، وسمع كلامه- موسى عليه السلام، حيث كلمه الله جل وعلا وهو على عرشه عالياً على خلقه، وموسى بالأرض، فكلمه فسمع كلامه، وخاطبه، ثم طمع في أن يرى ربه، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ؛ فقال له جل وعلا: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] يقول علماء التفسير: تجلى الله جل وعلا للجبل شيئاً قليلاً جداً، فما استطاع الجبل الثبات لرؤية الله. وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وسبحات الوجه: بهاؤه ونوره وجماله جل وعلا، فلو كشف للخلق هذا النور(6/200)
لاحترقوا عن آخرهم. فالمخلوقات في هذه الحياة الدنيا لا تقوى على مشاهدة الله جل وعلا، ولكن المؤمنين يوم القيامة يرون ربهم؛ لأن تركيبهم يتغير، فيصبح تركيباً كاملاً لا يقبل الموت، ولا يقبل النقص، فيثبتون لرؤية الله، بل تكون الرؤية هي أعلى نعيمهم في الجنة. ورؤيته تعالى تكون في الجنة، ويرونه أيضاً في الموقف كما جاء صريحاً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري الطويل الذي فيه ذكر الشفاعة، وأن الله جل وعلا بعد الشفاعة يأتي للفصل بين خلقه، فيخاطب خلقه كلهم، فيقول جل وعلا: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى يا رب) ومعنى (يتولاه في الدنيا) يعني: يتخذه ولياً يدعوه ويرجوه ويسأله ويتضرع إليه، فالذي يتولى الله يكون الله وليه، والذي يتولى صاحب القبر يكون صاحب القبر هو وليه، والذي يتولى الصنم يكون وليه. وذكر صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا يمثل لهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا، فالذين كانوا يعبدون الأصنام تأتي أصنامهم بأعيانها، والذين كانوا يعبدون عيسى وعزيراً ومريم والأولياء تأتي شياطين بصورهم، والذين كانوا يعبدون الشمس والقمر تأتي الشمس والقمر، فإذا اجتمعت لديهم يقول الله جل وعلا: اتبعوهم فهؤلاء أولياءكم، فيتبعوهم، فيذهب بهم إلى النار فيلقون فيها، يلقى أتباعهم خلفهم، قال الله جل وعلا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:98-99] لما نزلت هذه الآية قال مشرك من المشركين: الآن سأفحم محمداً -يعني: أغلبه في الحجة- فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعبد الملائكة، والنصارى يعبدون عيسى وأمه، فالملائكة وعيسى وأمه يكونون في النار، فجاء الوحي من الله جل وعلا وأنزل عليه:(6/201)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102].. إلى آخر الآيات، وقد أخبر الله جل وعلا عن هذا في القرآن، وأنه إذا حشر الناس إلى يوم القيامة، خاطب الملائكة قائلاً: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] فيقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41] فهم الذين زينوا لهؤلاء تلك العبادة. المقصود: أنه لا يجوز أن نصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كوننا نستدل على علو الله بالعقل وبالفطرة؛ لأنهما اتفقا مع الشرع، وإلا فإنه لا يجوز أن يكون العقل مستقلاً -وكذلك الفطرة- في دليل لا يشارك الشرع فيه، فنحن كلفنا بالوحي الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله؛ ولذلك فكل إنسان أول ما يوضع في قبره يأتيه ملكان عظيمان، مع كل واحد منهما مطرقة من حديد لو ضرب بها جبل لانهد، فيجلسانه، وترد عليه روحه، ويكون كهيئته في الدنيا، فيسألناه فيقولان له: ما كنت تعبد؟ وبأي دين كنت تتعبد؟ ومن الذي جاءك بهذا الدين؟ هذه الأسئلة الثلاثة لا بد منها لكل واحد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها، فيتعلم أمور العبادة، ويتعرف على ربه سبحانه وتعالى، ورسوله الذي يأخذ الدين من طريقه؛ لأن كل عبادة لم يأت بها الرسول فهي باطلة مردودة؛ لأنها بدعة، والبدع ضلال، قال الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4] يقول العلماء: هم أهل البدع الذين يتعبدون الله بالبدع، فيتعبون وينصبون، ويبكون ويخشعون، والنتيجة أنهم يصلون النار، لأنهم تعبدوا بغير دين الله(6/202)
الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]. فالمقصود: أن الدين -سواء كان عقيدة أو عملاً- لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وأما صفات الله فلا دخل للعقل فيها. لهذا يقول علماء أهل السنة في عقائدهم: اتفق العلماء على أن أوصاف الله توقيفية، أي: تتوقف معرفتها على ما في النصوص فقط. ......
وجوب الإيمان بالصفات الثابتة في الكتاب والسنة(6/203)
يجب على الإنسان أن يثبت كل ما أثبته الله جل وعلا لنفسه في كتابه، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات، فلو ترك المسلمون على فطرهم لما شكوا فيها، فإذا سمعوا قول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] إذا سمعوا هذا اعتقدوا أن الله يقبض مخلوقاته إذا شاء، وأنه يطوي السماوات والأرضين وجميع الخلق بيده، وكذلك إذا سمعوا قول الله جل وعلا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] اعتقدوا أن لله يدين يبسطهما بالعطاء وبالنعم وبالفضل على من يشاء من خلقه. وكذلك إذا سمعوا قوله جل وعلا في مخاطبته لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] اعتقدوا أن لله يدين، وكذلك إذا سمعوا أن الله سميع بصير اعتقدوا أن له السمع والبصر، كقوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1] هذه الآية نزلت بسبب امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه وهو في بيت عائشة -أي: في غرفتها، لأن بيت عائشة عبارة عن غرفة واحدة، وكل بيوت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن غرفة واحدة-، قالت عائشة : لقد جاءت المجادلة وإني في طائفة البيت، والله إنه يخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله جل وعلا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا يعني: كونها تحاور الرسول صلى الله عليه وسلم حول مظاهرة زوجها لها، والظهار كان معروفاً في الجاهلية، فحرمه الله جل وعلا في الإسلام، وأثبت فيه(6/204)
أحكاماً، وهو أن يشبه زوجته بظهر أمه أو بيد أمه أو ببطن أمه أو بظهر أخته، أو بظهر بنته، فيشبهها ببعض محارمه التي تحرم عليه على الأبد، فمن شبهها بذلك فقد ارتكب محرماً، ولا يجوز له أن يقربها حتى يكفر، والظهار كان طلاقاً في الجاهلية، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه رجل كبير وفقير، ولي أولاد منه، فكيف أصنع بهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا أراك إلا قد حرمت عليه)، فصارت تقول: اللهم إليك أشكو صبية إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، فأنزل الله جل وعلا الحكم في ذلك بالكفارة فقال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2] إلى أن قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا .. [المجادلة:3] إلى آخر الآية، فلا بد أن يحرر رقبة، فإن لم يجد فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] فهذه الكفارة التي نزلت في الظهار هي قبل أن يمسها أو يقربها فلا بد أن يكفر. فالمقصود: أن الله جل وعلا سمع قول هذه المرأة وهو فوق عرشه، فأنزل قوله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1] فالمسلمون يعتقدون أن الله سميع بصير، وأنه لا يخفى عليه شيء، فسمعه يسع كل صوت وإن دق، يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في ظلمة الليل. وكذلك يعتقدون أنه عليم بكل شيء، وأنه خبير بكل شيء، ويعتقدون أنه لا يخفى عليه شيء -تعالى وتقدس- فلماذا يراد منهم ما لا يعتقدونه؟......
نفي أهل البدع لصفات الله الثابتة بشبه مضلة(6/205)
جاء أهل الضلال فقالوا: لا يجوز أن نعتقد أن الله مستوٍ على العرش؛ لأن الذي يكون فوق العرش جسم في جهة، كما قالوا: لا يجوز أن نعتقد أن الله يتكلم؛ لأننا ننزه الله عن التشبيه؛ لأن الكلام لا يكون إلا لمن له لسان ولهاة وحنجرة وشفتان، والكلام له مقاطع، وله مبدأ وله آخر، وإذا قلنا: إن الله يتكلم، فيلزمنا أن الحوادث تحل به -تعالى وتقدس-. فالجواب أن نقول لهؤلاء الضلال -الذين أرادوا أن يلبسوا على المسلمين، وأن يشككوهم في ربهم- كلمة جسم من أين أتيتم بها؟ هذه كلمة مبتدعة لا وجود لها في كتاب الله ولا في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نفياً عن الله ولا وصفاً له بها، فنردها عليكم، ونثبت ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله، ولا نقول كما تقولون، ولسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا ذلك. وأما إذا أردنا التفصيل والجدال فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ فأنتم تختلفون في تعريفه، فهل تريدون بالجسم: البدن المكون من اللحم والدم والعظام؟ إذا كنتم تريدون هذا فالله يتعالى عن ذلك ويتقدس، وهذا تكلف ما جاءنا به كتاب ولا سنة، ولكن جاءنا قوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهذا الذي تعرفونه أنتم من أنفسكم نعتقد أنه تشبيه، حيث شبهتم الله في أذهانكم أولاً، ثم نطقتم بنفيه، أما أهل الحق فلا يعتقدون هذا، وإن اعتقدتم أن الجسم يشغل مكاناً؛ فنحن نعتقد أن الله فوق، وأنه مستو على عرشه، وأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء؛ لأن نصوص الشرع جاءت بهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار إليه، والله أخبرنا أنه ينزل متى يشاء، وأخبر أنه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، فلا يجوز أن يترك كتاب الله وشرعه ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم لقول هؤلاء المبطلة المعطلة الضلال، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. أما مسألة الكلام فنقول: هل المخلوق الذي يتصف(6/206)
بالكلام أكمل ممن لا يستطيع أن يتكلم أو أنقص؟ أليست صفة الكلام صفة كمال؟ فالله جل وعلا قد عاب على قوم موسى عليه السلام حينما عبدوا العجل وهو لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملك لهم قولاً، فلا يخاطبهم إذا خاطبوه، ولا يجيبهم إذا سألوه. فدل هذا على أن صفة الكلام صفة كمال وليست صفة نقص، هذا في كلام المخلوق، والله جل وعلا قد أعلمنا أنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وأن كلامه لا يشبه كلام الخلق، كما أن ذاته جل وعلا لا تشبه ذوات المخلوقات، وأخبرنا أنه يتكلم، وأنه أرسل الرسل بالشرع الذي يوحيه إليهم، ويخاطبهم به، وأنه يخاطب خلقه، وأنه يحاسبهم، فنفي هذا كفر بالله جل وعلا، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعرف حجراً في مكة كان يسلم عليّ) يقول: السلام عليك يا رسول الله. حجرٌ أصم يخاطبه خطاب فصيح عربي ويقول: (السلام عليك يا رسول الله) كلما مر عليه، فكلما مر على هذا الحجر سلم عليه. وثبت أنه صلوات الله وسلامه كان يخطب في مسجده على جذع نخلة يابس اتخذه منبراً له، كما أنه اتخذ سواري المسجد من جذوع النخل، هكذا كان مسجده، بنى سواريه بجذوع النخل اليابس، فجذع النخل يجعله سارية، وسقف المسجد من جريد، وإذا جاء المطر نزل عليهم، ويسجد صلوات الله وسلامه عليه أحياناً في الماء والطين، فيظهر أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحا رجلان -يعني: تجادل رجلان- فرفعت، فقال صلى الله عليه وسلم: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحا فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً، وقد رأيتني صبيحتها أسجد في ماء وطين)، يقول أبو سعيد الخدري : وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسقوفاً بجريد النخل، فجاء المطر ليلة إحدى وعشرين من رمضان فوكف سقف المسجد، فرأيت أثر الماء والطين في جبهة(6/207)
رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة؛ ولهذا كان أبو سعيد يقول: إن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين استناداً إلى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود أنه كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب على جذع نخلة يابس، ثم فيما بعد أمر نجاراً أن يصنع له منبراً، فصنع له منبراً من طرفاء الغابة، فترك ذلك الجذع وصار يخطب على هذا المنبر، فأول ما صعد على هذا المنبر للخطبة وترك الجذع سمع الحاضرون الذين في المسجد حنين الجذع، فصار يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى نزل صلوات الله وسلامه عليه من على منبره والتزمه فهدأ، وقال: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة)، يحن على الوحي الذي فقده، وكان يُتلى عليه، فعلى ذكر الله وآياته يحن. فهذا جذع جماد يابس له صوت، فكيف يقول هؤلاء: إذا أثبتنا الكلام لله أثبتنا التشبيه؟ تعالى الله وتقدس، فالله ليس كمثله شيء، فكلامه لا يشبه كلام الخلق، وكلامه لا يتطلب ما تقولون، فالكلام الذي يتطلب ما تقولون هو كلامكم، كلام الآدميين وكلام المخلوقين، فهذا دليل على أنهم مشبهة، وأنه ارتسم عندهم التشبيه أولاً، ثم صاروا ينفونه بالتعطيل. وعلى كل حال فالإنسان مسئول عما أنزله الله إليه في كتابه، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس عن فلان وفلان، وهذه عقيدة الأمة التي سلكت طريق الصحابة وأتباعهم، يصفون الله جل وعلا بما وصف به نفسه وما وصف به رسوله، فكل ما أثبته الله جل وعلا لنفسه أو أثبته له الرسول يُثبتونه، لا يحرفون، ولا يعطلون، ولا يكيفون، ولا يشبهون ولايمثلون، تعالى الله وتقدس؛ فإن الله ليس كمثله شيء، ولكن يثبتون ما أثبته لنفسه، فكل ما جاء موصوفاً به الرب جل وعلا يجب أن يثبت له، ولا يُلتفت لقول هؤلاء. ونزيد هذا ونقول: إن الله جل وعلا أخبرنا أنه يخاطب الجلود، وأنها تتكلم يوم القيامة، ويخاطب الأسماع والأبصار، وأن السمع والبصر يتكلم، وكذلك الأيدي، فقد أخبر جل(6/208)
وعلا أنه يختم على أفواه قوم، وأنها تتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فالأيدي والأرجل تتكلم، فيقال لهم: أخبرونا كيف تتكلم الأيدي والأرجل فأنتم تؤمنون بهذا؟ وحينئذ لابد لهم من التسليم للوحي. أقول: إذا ثبت هذا في المخلوقات بدون أن يكون لها فم ولسان وشفتان، فكيف يشترط في كلام الله وجود هذه الأشياء؟!! وكل ما قالوه من هذا النوع باطل، وبعضه بطلانه ظاهر جداً؛ ولهذا صاروا يردون الكتاب والسنة رداً صريح، ويقولون: ما نقبل هذا، وما نقبل إلا عقولنا، فهل الله يسألكم عن عقولكم، أو يسألكم عما أرسل به رسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ فسوف ترون عاقبة أمركم يوم تقفون بين يدي الله جل وعلا.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [138]
إن مما يجب على العبد المسلم أن يؤمن بصفات الله وأسمائه، فيثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك صفة علو الله تعالى على خلقه، وهذا أمر قد تضافرت النصوص على إثباته، بالإضافة إلى دلالة العقل والفطرة التي فطر الله تعالى عليها خلقه، فلا يخالف في ذلك إلا ضال، حرمه الله من إدراك الحق اليقيني.
فوقية الله عز وجل واستواؤه على العرش(6/209)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستوٍ على عرشه، مثل قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقوله تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، وقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقوله تعالى: ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:3-4]، وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وقوله تعالى:هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة:29]، وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، وقوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس:3]، فذكر التوحيدين في هذه الآية ]. المقصود بالتوحيدين توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة -توحيد التأله-، وهذا هو أعظم ما جاءت به الرسل، وأوجب ما يجب على الإنسان أن يفعله،(6/210)
والله جل وعلا لا يقبل من العبد حتى يوحد، وسمي توحيد الأسماء والصفات لأن الله يختص به وحده لا يشاركه فيه أحد غيره -تعالى وتقدس- فهذه الصفات خاصة به جل وعلا، وكل صفة يتصف بها لا يشاركه فيها خلقه، وإن شاركوه في اللفظ أو في مجرد التسمية أو المعنى العام من بعيد، ولكن إذا أُضيف الشيء لله فهو خاص به، ولا يجوز أن يكون خلقه مشاركين له ، فعلوّه خاص به جل وعلا، ولا يمكن أن يكون شيء من الخلق فوقه. ......
أقسام صفات الله تعالى(6/211)
قال العلماء: إن صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفة تسمى ذاتيه، أعني: صفة ذات تتعلق بذاته، ولا تنفك عنه في حال من الأحوال، مثل الحياة، ومثل العلم، ومثل السمع، ومثل البصر. وصفة فعلية مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، أي: الشيء الذي يتعلق بمشيئته، فإذا شاء أن يفعله فعله، وإذا شاء ألا يفعله لا يفعله، فهذا سموه صفة فعل. قالوا: وعلو الله من النوع الأول، أي: من صفات الذات، فذاته لا يجوز أن تكون تحت شيء من خلقه أصلاً؛ لهذا إذا جاء إلى الأرض يوم القيامة للفصل بين خلقه يأتي وهو فوق كل شيء، وقد علمنا كما ذكر لنا ربنا جل وعلا في هذه الآية أنه يقبض السموات كلهن بمن فيهن بيده، فتكون صغيرة حقيرة بالنسبة إليه تعالى وتقدس، كما قال جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. وسبق أن ذكرنا أن ابن عباس يقول في هذه الآية: السماوات والأرض كلها بيمينه. فهو يرى أن هذه الآية خبر وحي، في قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، يعني: أنه يقبض الأرض ويقبض السماء بيمينه، ولهذا قال: (يقبض المخلوقات كلها بيده اليمنى وتكون شماله فارغة) هكذا قال، والسند إليه صحيح ثابت. وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يتفق مع هذا القول، وفي غيره من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم، كحديث عبد الله بن عمر المتفق عليه وغيره. فإذاً لا يجوز أن يتصور متصور أن شيئاً من المخلوقات يمكن أن يساوي الرب جل وعلا، فكل المخلوقات بسمائها وأرضها بالنسبة إلى الله حقيرة صغيرة، فيجب على العبد إذا قال: (الله أكبر) أن يستشعر أنه أكبر من كل شيء تعالى وتقدس. والحديث الذي جاء في ذكر المسافات أن ما بين السماء والأرض(6/212)
مسيرة خمسمائة سنة، جاء في بعض الروايات أن ما بين السماء والسماء مسيرة اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، وجاء قول الله جل وعلا: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]. فهذه المسيرة ألف سنة بين الأرض وبين السماء، وقد يقول قائل: اختلفت النصوص هنا، فكيف يكون الجمع بين القولين في هذا؟ نقول: إن الاختلاف هنا هو اختلاف السير، فالسير قد يكون سريعاً وقد يكون بطيئاً، والله جل وعلا أصعد رسوله إلى السماء في ليلة واحدة، والصواب الذي دل عليه الحق أنه عُرج بجسده وروحه لا بروحه فقط كما يقوله البعض، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، ثم عُرج به من هناك، والأحاديث في هذا متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك ثبت أنه إذا قبض العبد وخرجت فإن روحه يُصعد بها إلى السماء، وإنها كلما مرت على ملأ من الملائكة بين السماء والأرض إذا كانت صالحة سلموا عليها ودعوا لها، وإن كانت خبيثة لعنوها قبل أن تصل إلى السماء الدنيا، فإن كانت صالحة استفتح لها ففُتح لها باب في السماء الدنيا، ثم يُصعد بها إلى الثانية فيُستفتح لها فيُقال: من؟ فيُقال: فلان جيء به -يعني: روحه- فيفتحون له إلى السماء السابعة، فإذا وصل إلى السماء السابعة خاطبهم الله جل وعلا وقال: (اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض)، فيعيدونها إلى الأرض، وهذا كله يقع قبل أن يُدفن، أي: ما بين موته وتجهيزه والصلاة عليه ووضعه في قبره، فإذا وُضع في قبره أعيدت روحه إليه، وبعدها يوقف في القبر ويسأل، وهذا ثبتت فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسافات تختلف. أما ما يقوله الملاحدة اليوم من أنهم يغزون الفضاء، وأنهم(6/213)
أطلقوا صاروخاً إلى الفضاء، وأنهم كذا وكذا، وأنهم ذهبوا إلى كوكب كذا وكوكب كذا، فيسمون الفوق فضاءً، أي: ليس فيه شيء، ويزعمون أنه ليس فيه إلا هذه الكواكب التي يقولون: إنها تسبح. ويقولون: إذا صعدوا مسافة عالية أصبحوا لا يرون شيئاً، فلا يرون سماءً ولا أرضاً ولا شيئاً، وبهذا يستدلون على أنه ليس هناك سماء. ونقول: هذا كله باطل، فالسماء لا تُرى إلا إذا كان هناك شيء يعكسها فتُرى، أما إذا انعدم العاكس انعدمت الرؤية لشدة بعدها، فإذا أصبحت الأرض لا أثر لها، ولا تأثير لها في انعكاس الرؤيا فلا تُرى، فهم إذا أبعدوا في الصعود انعدم تأثير الأرض فانعدمت الرؤية، فأصبحوا لا يرون. ومعنى قولهم هذا: أنه ليس هناك سماء، والله جل وعلا يقول: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا [ق:6]، فهل يأمرنا جل وعلا أن ننظر إلى شيء عدم؟ كلا أبداً، فالسماء مبنية حقيقة، ولها أبواب لا تُفتح إلا لمن يشاء الله جل وعلا، وقد أخبر أن الكفار لا تُفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا يدخلونها. فالمسافة التي ُذكرت إنما يكون اختلافها باختلاف السير، فإذا كان السير سريعاً كان التحديد أقل في الوقت، وإذا كان بطيئاً كان التحديد أكثر في الوقت فهذا هو الجواب عن اختلاف هذه النصوص.
النصوص الدالة على الاستواء وما ورد عن السلف في ذلك(6/214)
قال رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2] ]. (ترونها) هنا تكميل لما سبق، يقول جل وعلا: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]، واختلف المفسرون في رجوع الرؤية هل إلى السماء أو إلى العمد؟ والصواب أنها إلى السماء، فبعضهم يقولون: على عمد ما ترى، وهذا ليس بصحيح، وهي غير مقصود، بل الصحيح: أنها أمسكت السماء بدون أعمدة، فأنتم ترون أن السماء ثابتة أمسكت بقدرة الله جل وعلا، وتعرفون أنكم إذا أردتم أن تبنوا بناء لابد أن يعتمد على أعمدة، فالمقصود هنا: الإخبار عن قدرة الله جل وعلا، وهنا يقول: (ترونها) يعني: نرى السماء بدون أعمدة. قال رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:4-5]، وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58-59]، وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:4-5]، وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا(6/215)
يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته. وقوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك:16-17]، وقوله تعالى: تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقوله: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، وقوله تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37] ]. هذه الآية وجه الاستدلال بها هو أن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء، وجاء بهذا في الشرع الذي جاء به إلى الناس، وكلفهم قبوله والإيمان به ولهذا قال فرعون -يلبس على الناس- لوزيره هامان: ابن لي صرحاً سأصعد فيه فأنظر هل موسى صادق أو كاذب. ولهذا قال: ((إني لأظنه كاذباً)) يعني: في الخبر تلبيس. وهكذا المجرمون يفعلون ويُقابلون الرسل بالتكذيب وأنهم جاءوا بما يخالف الواقع. قال الشارح رحمه الله: [ وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله وعليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان والجحود به كفر. رواه ابن المنذر و اللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح ]. معنى قولها: (الاستواء غير مجهول) أي: معلوم في اللغة، فمعلوم لغة أن(6/216)
الاستواء هو العلو على الشيء، والارتفاع على الشيء، ولا أحد يجهله. وأما قولها: (الكيف غير معقول) فالكيف المقصود به: كيفية الاستواء، وتعني به الهيئة التي كان عليها لما استوى. وهذا ما هو معقول، بل هذا يتطلب المشاهدة والرؤية، والرؤية غير واقعة، فالكيفية غير معلومة للخلق، ولا أحد يطلع عليها. وقولها: (والإقرار به إيمان) تعني: أن هذا جاء في الشرع، وتكاثر في الشرع، فإذا أقر به الإنسان فهو مؤمن بما جاء به من عند الله، وإنكاره كفر، وهكذا جاء عن الإمام مالك رضي الله عنه وعن شيخه ربيعة ، كلهم قالوا هذا القول، وكذلك يُقال في جميع صفات الله جل وعلا. فلو قيل لك: كيف يده؟ نقول: اليد معلومة، وردت في الشرع فيجب الإيمان بها، أما الكيف فالكيف ما نعلمه؛ لأن الكيفية تتطلب المشاهدة والرؤيا، وهكذا السمع والبصر والرجل وغير ذلك، كلها نقول فيها هذا القول. قال رحمه الله تعالى: [ وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: لما سئُل ربيعة بن أبي عبد الرحمن : كيف الاستواء؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق ]. وهذا معناه أن الاستواء معلوم غير مجهول، والكيف غير معلوم، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق والقبول، أي: نقول: إن هذا شيء ورد في الشرع فيجب علينا أن نقبله، والرسول بلغه عن الله جل وعلا، فلا يجوز أن نعترض عليه بشيء لا تدركه عقولنا، فعلينا أن نؤمن بظاهر النصوص على ما نتعارف عليه، أما الكيفية فنكلها إلى الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وقال ابن وهب : كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء، وقال: (الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يُقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه ) رواه البيهقي بإسناد صحيح(6/217)
عن ابن وهب ، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضاً ولفظه قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ) ]. معنى قوله: (وأخذته الرحضاء) الرحضاء: العرق، يعني: صار يتصبب عرقاً؛ لأن هذا أمر ليس بسهل، يسأله عن قوله تعالى: ((الرحمن على العرش استوى)) كيف استوى؟ والكيفية ما هي معروفة للناس حتى يسأل عنها، ولهذا أنكر عليه الإمام مالك رضي الله عنه وقال: أخرجوه. لأنه صاحب بدعة، فأخرجوه من مجلسه بعدما أجاب الجواب الصحيح السديد الذي يجب أن يكون أصلاً نتبعه ونسير عليه في كل شيء، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. يعني: ما هو معلوم للخلق، ولا يُعقل أنهم يعلمونه؛ لأنه أمر غيبي، ثم أخبر أن الإيمان بالاستواء واجب، وأن السؤال عن الكيفية بدعة، فما يسأل عنها إلا مبتدع، وهكذا يُقال في جميع صفات الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفكيك، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد : (استوى: علا على العرش) ]. هذا تفسير (استوى) بأنه علا، وكذلك جاء تفسيره أيضاً بأنه صعد، وجاء تفسيره بأنه ارتفع، وجاء تفسيره بأنه استقر، أربعة ألفاظ فقط هي التي جاءت عن السلف في تفسيرهم للاستواء: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار. وكلها رويت بالأسانيد عن السلف، وهي بمعنى الاستواء، ولكن قد يكون إنسان عنده لفظ العلو أوضح من لفظ الاستواء، وآخر قد يكون عنده لفظ الصعود أوضح من لفظ الاستواء، فيفسرون بحسب حال السامع حتى يفهمونه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وقال إسحاق بن راهويه : سمعت غير واحد من المفسرين يقول (الرحمن على العرش استوى) أي: ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أي: علا وارتفع. وشواهده بأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فمن(6/218)
ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا ]. يقصد بالملائكة الشداد حملة العرش الذين أخبر الله جل وعلا أنهم يحملونه، وأخبر أنه من الملائكة من يحف بالعرش ويطوف به ويسبح لله جل وعلا، ويعبده، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر:7]. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وروى الدارمي و الحاكم و البيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية ]. والجهمية سموا بذلك نسبة لرجل اسمه الجهم بن صفوان أنكر صفات الله جل وعلا، وصار إماماً فيها بالكفر والإلحاد -نسأل الله السلامة-، وهو الذي يقول عن فرقته الإمام عبد الله بن المبارك : إننا لنحكي قول اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نح
منكرو الاستواء وعمن أخذوا مقالتهم(6/219)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب. وقال الحافظ الذهبي : وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه هو الجعد بن درهم ، وكذلك أنكر جميع الصفات، وقتله خالد بن عبد الله القسري ، وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية ] . الجعد بن درهم كان في آخر دولة بني أمية، وهو معروف أنه ليس من المسلمين، ومتهم بأنه يهودي؛ لأنه تتلمذ على اليهود فصار يريد هدم عقيدة المسلمين، ومعلوم أن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم ما استطاعوا أن يقوموا في وجه الإسلام بالقوة، فلما أعجزهم هذا صاروا يدبرون الحيل، ويدبرون الأفكار في تمزيق المسلمين وإضعاف قوتهم، وقد علموا أن قوتهم في عقيدتهم، فقالوا: لابد أن نبدأ في إضعاف العقيدة وإفسادها، فصاروا يؤسسون المؤسسات، ويتخيرون الأشخاص الذين فيهم جرأة وفيهم قوة، وعندهم حجج يدسونها بين المسلمين، وهذا الرجل كان من هذا النوع، وهم كثر، ومن قرأ التاريخ وأمعن نظراً في ذلك عرف يقيناً أن هذا هو الواقع. فصار أول الأمر ينكر أشياء عند بعض الناس، فيقول: أيجوز أن نعتقد أن الله يحب؟ يقول: المحبة تقتضي الميل والموافقة، فالله ليس كمثله شيء. وهكذا .. إلى أن تجرأ فقال: إنه لا يجوز أن يتكلم الله، ولا يجوز أن يتخذ خليلاً، فلما قالوا له: هذا خلاف القرآن قال: وإن كان فنحن نقول بالعقل، فالقرآن يمكن أنه ما جاء بالصواب. فرفع أمره إلى أحد أمراء بني أمية، وهو خالد بن عبد الله القسري ، فأخذه مقيداً، وكان الوقت يوم عيد أضحى، فكان هو الذي يتولى الصلاة، فصلى بالناس ثم خطب خطبة العيد، ثم قال في آخر الخطبة: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ(6/220)
بالجعد بن درهم ؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فتعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً ثم ذبحه أضحية.
دليل آخر على علو الله تعالى على خلقه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض، قلنا: الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم) أخرجه أبو داود وغيره ]. هذا الحديث من أدلة علو الله جل وعلا على خلقه، وهذا أمرٌ قد تضافرت عليه أدلة الكتاب والسنة، وكذلك دلالة العقل مع دلالة الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، ولا يخالف هذا إلا ضال مخالف للحق اليقيني، وقد خالف كثيرٌ من الخلق ذلك فتأولوا النصوص الصريحة الواضحة التي جاءت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليها الأمة التي اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مخالفة النصوص الصريحة جرأة على الله جل وعلا، وجرأة على دينه، وكذلك تعطيل لصفاته التي تعرف بها إلى عباده، وهذا الحديث سرد من مجاميع كثيرة تدل على علو الله، ولكن المصنف اختاره لما فيه من الصراحة في ذكر المسافات بين الأرض والسماء، وبين كل سماء مع التي تليها، وكذلك ذكر صراحة المسافة التي تكون في كل سماء، أعني: سمكها وارتفاعها، ثم إنه ذكر أن الله فوق ذلك كله صراحة، أمر لا يحتمل تأويلاً، ولا يحتمل تحريفاً، فاختاره لأجل ذلك، وإلا فكتاب الله مملوءٌ من ذكر علو الله على خلقه، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ(6/221)
[الأعراف:54] في آيات متعددة، في سبع آيات من كتاب الله كلها فيها ذكر استوائه على العرش، مرتباً على خلق السماوات والأرض بـ(ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، وفي كتاب الله كثير من الآيات تدل على أن الله فوق خلقه، كما في قوله جل وعلا: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1] في آيات متعددة، والنزول لا يكون إلا من العلو إلى الأسفل، وكقوله جل وعلا: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وكقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]. ولو أن الإنسان أراد أن يحصي النصوص التي جاءت في فوقية الله وعلوه ما تهيأ له ذلك إلا بكلفة وبوقت، فكيف يجوز للمسلم أن يخالف هذه النصوص؟ وما السبب الذي يدعو إلى هذا؟ الواقع أنه ليس هناك إلا سبب واحد فقط، وهذا إذا كان المخالف مسلماً، أما إذا كان غير مسلم فالأمر غير هذا، فسبب قول المخالف المسلم هو ما يتوهم من التشريك، وهي أمور وهمية لا حقيقة لها، فهم يقولون: لو قلنا: إن الله فوق؛ لاقتضى ذلك أن يكون في جهة، والجهة تكون محصورة، وكل ما حوته الجهات فهو جسم. فهذا هو السبب، وهذه هي الشبهة التي دعتهم إلى إنكار ما هو ثابت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الشبهة باطلة داحضة؛ وذلك أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في أوصافه التي يتصف بها، وقد بين لنا ربنا ذلك. ثم إنه يجب على العبد أن يقبل من الله جل وعلا ما قاله وما علمه خلقه وعباده المؤمنين، وكذلك يقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة الواضحة على وجوب ذلك قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، فلو كان ما يقولونه حقاً، للزم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما أنزل إليه، ومن اعتقد هذا فليس بمسلم فضلاً عن أن(6/222)
يكون على الحق الصواب الذي اختلف فيه؛ لأنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ الذي أخبرنا ربنا جل وعلا أنه بلغه، وقام بما يلزم، فلو كان ما يقولونه هذا حقاً للزم هذا الكفر -نسأل الله العافية-، وذلك أن الأمة التي امتثلت أمر الله، واتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم شهدت لرسول الله صلى الله عليه سلم بالبلاغ المبين، وبالنصح التام، وبأنه لم يترك شيئاً يقرب الأمة للخير إلا ودلهم عليه، وبينه لهم، ولم يترك شيئاً يبعدهم عن الخير إلا حذرهم منه. فقد كان في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه يسألهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ فيقولون: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فيقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد)، وهذا أمر متواتر. والمقصود أن هذا من الأدلة الواضحة على وجوب قبول ذلك واتباعه، والأدلة على هذا كثيرة. ثم إن كل من احتاج إلى ربه لمسألة يسأله لابد أن يرفع يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب! ويجد لهذا دافعاً يدفعه في قرارة نفسه، فهو خلق على ذلك، ووضع في قلبه وفي عقله، فما يستطيع أن يكف نفسه عن هذا، وهذه الفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه. نحن نقول في صلاتنا: (سبحان ربي الأعلى)، وعلى مقتضى قول هؤلاء المبطلين الضالين يجوز أن نقول: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله؛ لأنهم يقولون: إن الله في كل مكان.
المعيّة والعلو(6/223)
أما ما يتشبثون به مثل قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وكون هذا يدل على أن الله في كل مكان فهذا لا ينافي علو الله وارتفاعه؛ لأن ربنا جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وقد دل هذا الحديث على أن أعظم المخلوقات وأكبرها العرش. وقد سبق في حديث أبي ذر وحديث ابن عباس أن السماوات السبع على سعتهن لا يساوين شيئاً أمام العرش، فالسماء الدنيا محيطة بالأرض من جميع الجهات، فأي جهة ذهبت إليها من الأرض فالسماء فوقك، والسماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا من جميع الجهات، فإذا كان كل من على السماء الدنيا، تكون السماء الثانية فوقه في أي جهة كان من السماء، مثل الذي يكون في الأرض، والسماء الثالثة محيطة بالسماء الثانية من جميع الجهات، والسماء الرابعة هكذا، والخامسة والسادسة والسابعة، وأعظم السماوات وأوسعها وأكبرها السماء السابعة، وهي التي فيها الجنة التي أخبر جل وعلا أن عرضها عرض السماوات والأرض؛ لأنها فوق السماء السابعة أكبر من السماوات كلها وأوسع، فهذه السعة الهائلة والبون الشاسع جاء في حديث ابن عباس وحديث أبي ذر : (السماوات السبع بالنسبة للكرسي كسبعة دراهم ألقيت في الفلاة)، يعني: أن الكرسي أكبر من جميع السماوات كلها، فنسبة السماوات إليه كنسبة الدراهم السبعة التي تلقى في الفلاة، ثم نسبة الكرسي إلى العرش كدرهم ألقي في فلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها وأعلاها. وفوق العرش رب العالمين جل وعلا، فإذاً جميع المخلوقات السماوات والأرضون ومن فيهما بالنسبة لله صغيرة جداً، وتقدم قول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فعلى سعة السماوات وعظمها يطويها بيده جل وعلا، فتكون صغيرة بالنسبة إليه فكيف مع هذا يجوز(6/224)
أن يتصور أن سماءً من السماوات أو أرضاً تظل الله جل وعلا أو تقله تعالى الله وتقدس، فلا شك أن الذي يعتقد هذا ضال في دينه وفي عقله، وأنه في الحقيقة لم يعرف ربه، ولم يقدره حق قدره.
أقسام التوحيد وواجب العبد نحوها
المؤلف عندما ذكر هذه الآثار أراد أن يختم كتابه بالقسم الثاني من أقسام التوحيد؛ لأن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في القصد والإرادة، والقصد والنية والإرادة تصدر من العبد بنيته وقصده وإرادته، فيجب أن يكون هذا خالصاً لله، وهذا الذي ذكر فيه ما ذكر من أول الكتاب إلى آخره إلى هذا الباب، فذكر ما يخلص القصد والنية والإرادة أو يشوبه تحذيراً من ذلك وتنفيراً منه. وختم الكتاب فجاء بالقسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة الذي يتعلق بالله جل وعلا بأوصافه وما يجب أن يعرف به، وهذا لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله أو بقياسه ونظره، وإنما يعرفه عن طريق تعريف الله جل وعلا عباده، فهو يتعرف إلى عباده بما ذكر من أوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، وهذا أمر واجب لا يجوز التفريق فيه، ولا يكفي أحد القسمين عن الآخر، فلا يكفي قسم من قسمي التوحيد عن القسم الثاني، بل يجب على العبد أن يجمع بينهما، ولكن لما كان ظهور أدلة هذا القسم وقلة الاختلاف فيه اقتصر على شيء يسير منه، بخلاف القسم الأول؛ فإن أكثر الناس ضلوا فيه بسبب التعلق بالأولياء وطلب شفاعاتهم؛ لأن العبد في الأصل خلق عابد ذليل خاضع، فهو يتلمس الشيء الذي يتلبس به ويتعلق به، فأكثر الناس لم يهتد إلى الطريق السواء طريق الحق، فصار يتعلق ويجعل له وسائط بينه وبين ربه يزعم أنها تقربه وتشفع له، فلهذا السبب أكثر من بيانه وما يجب من أجل إكماله، وما يجب اجتنابه لئلا ينقص أو ينتفي تماماً. ثم إن القسم الثاني قد أولاه العلماء من العناية ما يكفي وردوا على المخالفين، وبينوا الحق في ذلك، والحق فيه واضح وجلي، بخلاف الأول فإن العناية به أقل من العلماء السابقين، والسبب(6/225)
أن المخالفة فيه سابقاً قليلة، وليست منتشرة كالمخالفة الثانية، والمخالفة التي حصلت في القسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة سببها في الأضل الكيد للإسلام والمسلمين من قبل قوم مشبوهين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً دخلوا الإسلام تستراً لأجل إفساده، لا رغبة فيه، بل لأجل أن يفسدوه، فصار -في الحقيقة- إفسادهم بالغاً جداً، حيث شككوا المسلمين في ربهم، وصاروا يشبهون عليهم بذكر الشبه، ولا شك أن هناك شبهاً يتعلق بها المشبه الذي يشبه على الناس، فالذي ليس عنده علم وليس عنده معرفة قد تنطلي عليه هذه الشبهة؛ لهذا تولى العلماء تبيين هذه الشبه وبيان بطلانها، ووضحوا ذلك في كتبهم المعروفة المنتشرة بأيدي المسلمين والحمد لله.
النصوص الواردة في مقدار ما بين السماء والأرض وكيفية الجمع بينها(6/226)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله: (عن العباس بن عبد المطلب ) ساقه المصنف رحمه الله مختصراً، والذي في سنن أبي داود : عن العباس بن عبد المطلب قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: (ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب قال: والمزن؟ قالوا: والمزن قال: والعنان؟ قالوا: والعنان -قال أبو داود: لم أتقن العنان جيداً- قال : هل تدرون ما بعد ما بين السماوات والأرض؟ قالوا: لا ندري قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك -حتى عد سبع سماوات- ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك)، وأخرجه الترمذي و ابن ماجة، وقال الترمذي : حسن غريب. وقال الحافظ الذهبي : رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: (ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام)]. هذا الاختلاف في كون ما بين الأرض والسماء اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين سنة، وفي الرواية الأخرى: (خمسمائة سنة) لا يضر؛ لأن هذا الاختلاف بالنظر إلى سرعة المسير من بطئه، ومعلوم أن سير البرج، ليس كالسير العادي، وإلا فهناك أيضاً مسير أسرع من هذا بكثير، فالنبي صلى الله عليه وسلم عرج به من الأرض إلى السماء السابعة في ليلة واحدة، فذهب ورجع بصحبة جبريل، ولكنه سير لا نعرفه، فلا صواريخ ولا غيرها مثله، بل أسرع بكثير جداً، والآن هؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، ولا يؤمنون بأن فوقنا سماء، يقولون: إنما هي كواكب تسبح في الفضاء؛ لأنهم لا يؤمنون إلا بالشيء الذي يشاهد، والآن يريدون أن يصلوا إلى المريخ، ويقدرون الوصول إليه بالصاروخ الذي لا يمكن أن يقاس بسير القوافل أو الأقدام، فيقدرون(6/227)
شهوراً وسنين للوصول إليه، مع أن الكوكب ليس هو السماء، بل دون السماء. فإذاً الاختلاف بالمسير حسب السرعة من بطئها. وقد جاءت النصوص في أن الروح إذا قبضتها الملائكة تصعد بها إلى السماء الدنيا، فتستفتح لها السماء الدنيا، فإما أن يفتح لها، وإما أن لا يفتح فتعاد، فإذا كانت صالحة فتحت لها السماء الدنيا وصعدت، ثم استفتحت لها السماء الثانية والثالثة والرابعة إلى السابعة، فإذا وصلت إلى السابعة واستفتح لها وفتح لها وصارت فيها ينادي الله جل وعلا الملائكة: أن اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فيعاد. هذا الصعود والنزول والإعادة يكون في وقت تجهيز الميت بين موته وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فإذا وضع في قبره تكون الروح حاضرة، بل إذا حمل على نعشه وسير به إلى مستقره -إلى قبره- تكون الروح موجودة، فتصير تتكلم بكلام يسمعها كل من يليها، ما عدا الجن والإنس فلا يسمعون، فالبهائم والشجر والحجر وغيرها تسمع كلامها، فإما أن تقول: قدموني قدموني، أسرعوا بي. أو تقول: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ وهذا كله يدلنا على اختلاف المسير في الصعود والذهاب، ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فينزل جبريل في الحال من السماء بالجواب من عند الله جل وعلا، وجبريل أقرب الملائكة إلى الله جل وعلا، وهو الذي يخاطبه الله جل وعلا مباشرة، ويأمره بأن يذهب حيث شاء الله جل وعلا ليبلغ رسالاته، فهو أمينه على وحيه من الملائكة، كما أن أمينه على وحيه من البشر محمد صلوات الله وسلامه عليه والرسل الذين ائتمنهم على وحيه. فالمقصود أن هذا كله يدلنا على اختلاف في المسير، وأن هذا التقدير الذي ذكر في هذا الحديث أمر نسبي، ليس ثابتاً لكل شيء، بل هو نسبي يختلف باختلاف السير، فلا يكون هذا مشكلاً؛ فإن بعض العلماء ضعف الحديث من أجل ذلك، وهذا لا وجه له في الواقع. ثم إن الحديث صحيح، والذين ضعفوه إنما ضعفوه بسبب محمد بن إسحاق، الذي لم يكن ذنبه إلا(6/228)
أنه خالف الجهمية وروى ما يرغم أنوفهم، فلهذا حملوا عليه، وقلد هؤلاء بعض من لم يتنبه لهذا الأمر، وكل المطاعن التي طعن بها عليه لا أصل لها وليست ثابتة، بل الذي روى الطعن مطعون فيه ولا يجوز أن يثبت طعنه؛ لأنه هو في نفسه ضعيف مشكوك في صدقه وفي أمانته، فكيف يطعن في إمام من الأئمة ممن هذه حاله؟ ثم هناك حكاية مشهورة تحكى وتجعل سبباً لتضعيفه، وهي زائفة في الواقع، وقد تولى الإمام ابن القيم رحمه تبيين ذلك في كتابه (تهذيب السنن)، فينبغي مراجعة ذلك. ثم إن ذكر هذه المسافات إنما هو لتقريب الأمر للأذهان فقط، وليست بالتحديد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاطبنا بما نفهمه وبما نعقله، فهو يقرب لنا الشيء الذي لا نعقله بما هو معقول ومفهوم. فعليه لا يجوز أن يعترض على هذا الحديث لذلك، ثم إن التصريح بأن الله جل وعلا فوق العرش ليس مختصاً بهذا الحديث، وكذلك التصريح بأن الله عال على خلقه ليس مختصاً بهذا الحديث، فهذا الحديث ليس -في الحقيقة- أصلاً في هذا يعتمد عليه وحده، بل جاء متفقاً مع النصوص الكثيرة، فليس فيه شيء غريب أبداً، وإنما فيه ذكر مسافات فقط، أما ذكر الأوعال التي ذكر أنها ثمانية أوعال فوق البحر الذي بينه وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، وبين أسفل هذا البحر وأعلاه مسيرة خمسمائة عام، وفوق هذا البحر ثمانية أوعال فهؤلاء هم حملة العرش الذين ذكر الله جل وعلا أنهم يحملون العرش، وذكر أنهم أربعة، وإذا كانوا يوم القيامة صاروا ثمانية كما قال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وذكر من عظم خلقهم أن ما بين أقدامهم إلى عواتقهم مسيرة خمسمائة عام، وكل هذا لحكمة أرادها الله جل وعلا، وإلا فالله يحمل كل شيء بقدرته، ويحمل العرش وحملة العرش، والسماوات والأرض كلها قائمة بقدرته جل وعلا، ولكن لحكمة أرادها جل وعلا جعل العرش على هؤلاء الملائكة، والملائكة على البحر،(6/229)
وهذا البحر هو الذي أخبر جل وعلا عنه أن عرشه على الماء لما ذكر مبدأ الخلق كما قال تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] يعني: على هذا البحر الذي فوق السماوات السبع. وكله ثابت في نصوص كثيرة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [غافر:7]، فذكر ربنا جل وعلا من وظائفهم أنهم يحملونه، وأن معهم أيضاً من يحف بالعرش من الملائكة يسبحون الله ويحمدونه ويستغفرون للمؤمنين، ويطلبون من الله جل وعلا أن يتوب على التائبين، وكل هذا من رحمة الله جل وعلا، ولكن هذا مما يجب اعتقاده، والإيمان به. قال رحمه الله تعالى: [ ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد؛ لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوماً باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد ]. من كان في الشام يقول: فلسطين من الشام وبيروت من الشام، وبينهما ثلاثة أيام للبريد، أما نحن في الحجاز فبيننا وبين مصر أكثر من ذلك بكثير.
دلالة الحديث على عظمة الله جل جلاله(6/230)
قال رحمه الله تعالى: [ وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه. قال الشارح رحمه الله: [فيه التصريح بأن الله فوق عرشه، كما تقدم في الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها، وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه، وبالله التوفيق ]. هذا لا يعرفه الذين يعبدون غير الله، أو يعبدون معه غيره، فلا يعرفون هذا القدر ولا التعظيم، حيث يتعلقون بالمخلوقين ويدعونهم، ويتشفعون بهم، ويجعلونهم مسالك بينهم وبين الله جل وعلا، فما قدر الله حق قدره من هذا فعله، ولا عرف عظمته، وسوف يتبين له إذا وقف بين يدي الله جل وعلا يوم القيامة، بل قبل هذا سيتبين له حينما تحضر الملائكة لقبض روحه، وملائكة الله رسله الموكلون بأمره، والرسول صلى الله عليه وسلم وضح الأمر جلياً، وما ترك عذراً لمعتذر أبداً، وليس الذي يفعل هذا معذوراً بجهله، فالله جل وعلا قد أرسل الرسل وأنزل الكتب، فالذي يعرض عن ذلك هو الملوم، فماذا يقول الإنسان لربه يوم القيامة إذا سأله؟ أيقول: ما رأيت. أو: ما تأملت الكتاب. أو: ما تلقيت ما جاء به الرسول. أو يقول: ما بلغنا الرسول؟! فما هناك عذر. فالإنسان الذي لا يبلغه أن لله رسولاً وديناً وكتاباً أنزله، هذا لابد من إبلاغه، وإذا مات والحالة هذه فأمره إلى الله، فإما أن يعذبه وإما أن يعفو عنه. فإذا مات ولم يسمع بدين لله وبرسول لله وبكتاب لله فأمره إلى الله، وهذا في الوقت الحاضر الظاهر أنه غير موجود؛ لأن وسائل التبليغ ووسائل العلم أصبحت متوافرة، والأمة والخلق كلهم يعرفون أن(6/231)
الله جل وعلا أرسل رسولاً، ولكن اليهود والنصارى وغيرهم لا يهتمون بهذا، أو يقولون: هو رسول العرب فقط. وهم الآن كما هو مشاهد يجهدون أنفسهم ويبذلون أموالهم في إطفاء نور الله وإطفاء دينه بكل ما يستطيعون، وهذا أمر معلوم، فهل يسوغ أن يقال: إنهم معذورون في هذا. فما بالك بمن هو في بلاد المسلمين ويعبد غير الله، فيطوف بالقبور، ويستنجد بها ويسألها، فهل يكون هذا معذوراً؟ كلا. ما يكون معذوراً، مع أن عبادة الله ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم أمر لا يجوز جهله لأحد، وقد ثبت أن كل ميت يسأل عن مسائل ثلاث، فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإن كان الإنسان مقلداً يسير خلف الناس، فإذا فعلوا فعلاً فعله، وإذا تركوا شيئاً تركه بدون بصيرة ولا برهان ولا علم فإنه سيتلعثم في الجواب، فيقول: رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته أو: سمعتهم يقولون شيئاً فقلته، وهذا هو الواقع؛ لأن المسلمين ينقسمون إلى قسمين: مسلم يسمى مسلم اختيار، أسلم باختياره وبعلمه، فهذا الذي يجيب بلا تلعثم وبلا تردد، والله يثبت من يشاء عند المسألة، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]. وقد فسر القول الثابت في الحياة الدنيا بأنه التلفظ بالشهادة عند الموت، وأنه في الآخرة جواب الملكين اللذين يختبرانه، وقد جاء أن منظرهما وصوتهما مهول مفزع مخيف، وأن كل واحد معه مطراق من نار من حديد لو ضرب به الجبل لانهد، والإنسان ضعيف، وصوت الملك مثل الرعد القاصف، ويسأل بانتهار، لا بسهولة ويسر، بل ينتهر الإنسان انتهاراً. ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لعمر قال: كيف بك إذا سألك وأنت بهذه الصفة؟ قال: له أأكون بعقلي؟ قال: نعم. قال: إذاً أكفيكهما. وهذا يكون للمؤمن، فلا يتلعثم ولا يتردد، أما الذي عنده(6/232)
شك، أو يكون إسلامه إسلام دار لا إسلام اختيار، فأصبح يرى الناس يصنعون شيئاً فيصنع مثلهم فقط، ولكن لو جاءه من يشككه في دينه لشك، ولو دعاه داع إلى الضلال لاتبعه، فإن ستر الله جل وعلا عليه، وبقي تابعاً للمسلمين فيجوز أن الله ينجيه؛ لأنه يصلي ويصوم، ولكن ليس عنده يقين وإيمان يمنعه من قبول الشكوك والريب، وهذا يخاف عليه أنه إذا سئل في قبره يتلعثم ويقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ورأيتهم يصنعون شيئاً فصنعته فيقال له: لا دريت ولا تليت أي: ما علمت العلم اليقيني الذي يمنعك من الشك والريب، ولا تلوت كتاب الله وآمنت به واتبعته، أي أنك تركت ما يجب عليك مما أنزله الله جل وعلا على رسوله وأمره بإبلاغه، فهذا معنى قولهم: (لا دريت ولا تليت). فالمقصود أن كل ميت يسأل عن هذه الأسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعثك فيكم؟ أي: من الذي تعبده؟ وبأي شيء تعبد؟ ومن أي طريق أخذت عبادتك؟ فهذا معنى السؤال، فهل تعبده بالآراء، وتعبده بالقياس وبالبدع؟ ثم يؤكد هذا بالسؤال عمن جاء به، فيقال له: من نبيك؟. ولهذا يعد العلماء هذه الأصول بأنها الأصول الثلاثة التي يسأل عنها كل مسلم ومسلمة، فيجب على المسلمين أن يتعلموا هذه الأصول ويؤمنوا بها؛ لأنهم يسألون عنها في القبر، ولا يجوز الشك فيها، وهي عبادة الله، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الذي يتعبد ربه به، فكيف يصلي ومن أين أخذ الصلاة؟ وكيف يزكي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يحج؟ وهذه الأمور الخمسة هي التي رتب عليها دخول الجنة، فما يدخل الجنة إلا من أتى بها، وهي أن يعبد الله ولا يشرك به، وأن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إذا استطاع إليه سبيلاً، وهذا من رحمة الله جل وعلا، أعني كونه يعلق الحج بالاستطاعة، ومن تقصير كثير من المسلمين في هذا أن أحدهم إذا مرض وجدته يتساهل بالصلاة، وربما يقول: أنا لا أستطيع أن أصلي، فما أستطيع(6/233)
أن أقوم، وما أستطيع أن أتوضأ، فإذا شفيت أصلي وقد يموت ولا يشفى.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [139]
صفات الله تعالى وأسماؤه قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وليس على العبد إلا التسليم بما دلت عليه النصوص، والحذر من اتباع من يعملون فكرهم ويقدمون آراءهم في مثل هذه المسائل، مجافين في ذلك ما دلت عليه النصوص، فلا يلبثون أن يضمحل باطلهم، وينهار أساس معتقدهم، فيبقون في حيرة وشك.
مسائل في باب ما جاء في قول الله: (وما قدروا الله حق قدره)
......
تفسير قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة)(6/234)
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الأولى: تفسير قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] ]. تفسير هذه الآية سبق، وهو قوله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، وهذا بعدما ذكر عظم الشرك، فلما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]، ثم قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ [الزمر:67]. وهذا خطاب لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي: من الأنبياء لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وهو يدل على أنه ليس بين الإنسان وبين ربه صلة إلا بطاعة الله جل وعلا، فلو قدر أن نبياً من الأنبياء أشرك بالله لحبط عمله، ولأصبح من الخاسرين، وقد حمى الله جل وعلا أنبياءه من ذلك وعصمهم، وإنما ذكر هذا ليعلم المشرك شيئاً من عظمة الله. قال: ((وما قدروا الله)) يعني: ما عرفوا قدر الله وعظمته، ولهذا يقول المفسرون: وما عظموه حق تعظيمه. قال تعالى: ((والأرض جميعاً قبضته)) القبضة تكون باليد، وتكون داخل اليد، والأرض جميعاً قبضته، يقول ابن عباس رضي الله عنه: تكون الأرض في كف الرحمن كخردلة في كف أحدكم. ولله المثل الأعلى تعالى وتقدس، فتكون كخردلة صغيرة حقيرة بالنسبة لله جل وعلا. قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]، والله يوم القيامة يقبض(6/235)
الأرض، ويطوي السماء أيضاً بيده الأخرى، فجميع المخلوقات تكون بيديه جل وعلا على سعتها وعظمتها.
صفات الله تعالى وما عند اليهود منها
[ المسألة الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها ]. يعني: الذي جاء في حديث ابن مسعود : (كان الرسول صلى الله وسلم جالساً مع أصحابه، فجاء حبر من أحبار اليهود -والحبر: هو العالم- فقال: يا محمد! إنا نجد -يعني: في الكتاب الذي نزل على موسى عليه السلام- أن الله يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والجبال على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الدنيا؟ يقول: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً لما قال، ونزل قول الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]). وهذا من العلم المتوارث عن الأنبياء، وهو باق عند اليهود، وقد جاء كتابنا مصدقاً ومقرراً وموافقاً له، وهذا هو سبب ضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يفرح أن تكثر الشواهد التي تشهد على صدقه، وعلى صحة ما قاله وجاء به، فيفرح بذلك، وهذا سبب ضحكه صلوات الله وسلامه عليه. ولقد ضل من قال: إن ضحكه من جرأة اليهود على التشبيه. فهل يجوز أن يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفر؟! كلا والله، لا يضحك، وإنما يغضب ويكفهر وجهه وينكر الباطل، فكيف يقال هذا؟! لا يقول هذا عاقل. [ المسألة الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك ]. اعترض معترض على هذا فقال: من المعلوم المتقرر أن هذه السورة مكية -أعني: سورة الزمر- وهذه الحادثة وقعت في المدينة، فكيف تنزل الآية؟ فيقال: هذا الأمر سهل، فإما أن تكون(6/236)
الآية هذه نزلت مكررة، أو أنها نزلت في المدينة ولم تنزل في مكة، وهذا كثير في كتاب الله، فسور مكية تنزل فيها آيات مدنية في المدينة، فتوضع في المكان الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن توضع فيه، فليس هذا إشكالاً. [ المسألة الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم ]. قلنا: إن الضحك في كونه وافق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مصدقاً له.
ذكر يدي الله جل جلاله وإثبات شماله عز وجل
[ المسألة الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى ]. وقد جاء تسمية الأخرى شمالاً في صحيح مسلم وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يطوي السماوات بيمينه ويقذف الأرض بشماله)، وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً وجب قبوله والإيمان به؛ لأنه معصوم أن يقع في الخطأ، ولأنه صلوات الله وسلامه عليه ما يقول إلا ما يوحيه الله إليه، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] ، وأما ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أو قال: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين) وفي أحاديث أخرى كذلك أنه قال: (وكلتا يديه يمين) فالمقصود بذلك: كلتا يديه كاملة تامة لا يلحقها نقص. إذ المخلوق شماله ليست كيمينه، فشماله تكون ناقصة، والرب جل وعلا بخلاف ذلك، فكلتا يديه كاملة تامة لا يلحقها نقص، فهذا معنى قوله: (وكلتا يديه يمين). [ المسألة السادسة: التصريح بتسميتها الشمال ]. قلنا: إن هذا ثابت في صحيح مسلم وفي غيره أيضاً، وأما قول من يقول: إن هذا شاذ، فهذا في الواقع خطأ، فالشذوذ لا يكون في مثل هذا الشيء المستقر، وإنما الشذوذ يكون في مخالفة ما هو ثابت عن الثقات، أما شيء يأتي تأسيساً في مثل أسماء الله جل وعلا فلا يقال: إن هذا شاذ.
منازعو الله جل جلاله في صفاته ومصيرهم(6/237)
[ المسألة السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك ]. يعني: عند ذكر عظمة الله جل وعلا يذكر الجبارون والمتكبرون الذين يتكبرون في الدنيا، ولهذا يكونون أحقر الخلق، فقد جاء أنهم يكونون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فالجبارون والمتكبرون يحشرون مع الناس أمثال الذر، فيصبحون تحت أقدام الناس؛ لأنهم نازعو الله جل وعلا في شيء من صفاته، فاستحقوا هذا الجزاء بذلك. [ المسألة الثامنة: قوله كخردلة في كف أحدكم ]. هذا التمثيل -ولله المثل الأعلى- تقريب للأذهان فقط، وليس هذا تشبيهاً لصفات الله، وإنما هو تفهيم للمخاطبين للتقريب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) فهذا هو المثل.
عظم الكرسي والعرش وماهية العرش
[ المسألة التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء ]. يعني: أنه أوسع من السماوات وأكبر. [ المسألة العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي ]. يعني: أن العرش هو أعظم المخلوقات على الإطلاق، فأكبر المخلوقات على الإطلاق هو عرش الرحمن جل وعلا. [ المسألة الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء ]. فهذا رد على من قال: إن الكرسي هو العرش، وقد جاء في القرآن ذكر الكرسي وذكر العرش، وأعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، وفيها قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وقد فسر بعض الناس الكرسي بالعلم، وهذا خطأ في التأويل، ولهذا رده الأئمة، وقرر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره، وقال: لو كان كذلك لكانت الآية فيها تكرار، والله جل وعلا ينزه أن يكون في كلامه تكرار.
المسافة العظيمة بين السماوات وبين السماء السابعة والكرسي وبين الكرسي والماء(6/238)
[ المسألة الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. ]. المقصود بهذا ذكر المسافة التي بين السماء والأرض، وبين السماء والسماء إلى آخر ما ذكر، وأن هذه المسافة وإن جاء الاختلاف في تحديدها بأنها مسيرة اثنين وسبعين عاماً أو خمسمائة عام فإن هذا يختلف باختلاف السير كما سبق. [ المسألة الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي ]. المقصود أن البعد بين الكرسي والسماء السابعة مثل ما بين سماء وسماء، وهذا ارتفاع هائل جداً، ثم إن الكرسي تحت العرش، والعرش فوقه، والعرش على ماء، والماء ارتفاعه أيضاً وسمكه مثل ما ذكر في السماء، والمقصود ذكر علو الله جل وعلا، وأنه عالٍ على جميع المخلوقات بذكر هذه المسافات، وهذا أمر صرح به تصريحاً مع التحديد الذي لا يحتمل تأويلاً، ولا يحتمل غير العلو لله جل وعلا، لا علو القدر الذي فسروه به، ولا عظمة الخلق فقط، وإنما علو الله جل وعلا وارتفاعه على جميع مخلوقاته. [ المسألة الرابعة عشرة:كم بين الكرسي والماء ]. المقصود بالماء البحر الذي عليه العرش، وهو فوق الكرسي.
فوقية الله تعالى على عرشه وكون العرش على الماء(6/239)
[ المسألة الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. المسألة السادسة عشرة: أن الله فوق العرش ]. نعم، وهذا تصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضح منه أن الله فوق العرش، ولا يجوز أن يقال: (فوق) بمعنى أعظم كما يقوله الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله، حيث قالوا: معنى (فوق العرش) أنه أكبر من العرش وأعظم. والمعنى واضح في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فالفوق هنا معناه العلو، أي أنه عال عليه مستوٍ عليه، ولهذا فسره السلف بالارتفاع والعلو، وبأنه مستقر على العرش ومستو عليه، ومرتفع وعال وصاعد عليه، هكذا جاءت تفاسيرهم بألفاظ أربعة، ففسروه بالعلو كما في صحيح البخاري عن أبي العالية ، وكذلك أنه ارتفع، وكذلك أنه استقر على العرش، وكذلك أنه صعد على العرش، فهذه التفاسير الأربعة جاء مفسراً بها قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ومع ذلك فالأصل واضح لا يحتمل تأويلاً.
المسافة بين الأرض والسماء وصفة العرش(6/240)
[ المسألة السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض ]. يعني: أن السماء الدنيا بينها وبين الأرض مثل ما ذكر في المسافة بين سماء وسماء، وبين السماء السابعة والكرسي، وبين الكرسي والبحر الذي عليه العرش، وفوق الماء عرش الرحمن، وهو أعظم المخلوقات وأوسعها، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أن كرسيه وسع السماوات والأرض. وسبق أن نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة من حديد ألقيت في أرض من الفلاة، فهو صغير بالنسبة إلى العرش، فالعرش أعظم مخلوقات الله على الإطلاق وأوسعها وأكبرها، ولهذا يسأل الله بذلك، فيقال: (ورب العرش العظيم)، كما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقو ل في دعائه: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض..) إلخ. فيأتي التوسل في ذكر ربوبيته للعرش وعظمة العرش بقوله: (رب العرش العظيم). وقد جاء هذا في مواضع متعددة من القرآن ، فمرة يوصف بالكرم رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، والكريم معناه: الواسع العظيم، ومرة يوصف بالعظمة رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129]، والشيء الذي يعظمه الله جل وعلا عظيم، فهو أعظم المخلوقات على الإطلاق. والعرش ليس مكوراً كالسماوات؛ لأنه له قوائم، وله حملة، أما السماوات فإنها مستديرة كل سماء محيطة بالتي تحتها، والسماء الدنيا محيطة بالأرض من جميع الجهات، والسماء التي فوقها محيطة بالتي تحتها، وهكذا. أما العرش فهو له قوائم، وله حملة، فليس مستديراً، بل هو أوسع من كل المخلوقات على الإطلاق وأعظمها وأكبرها. وقد جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فسقف الفردوس عرش الرحمن، فعرش الرحمن أعلى المخلوقات، والفردوس هي أعلى الجنان، ولا يكون الشيء وسطه أعلاه إلا إذا كان مكوراً على شبه الكرة، فهو الذي يكون وسطه(6/241)
أعلاه، لهذا قال وسط الجنة وأعلى الجنة. أما إذا كان مسطحاً فلا يكون كذلك، أي: لا يكون وسطه أعلاه، فما يلزم أن يكون وسطه أعلاه، ولهذا ذكر أنه منه تفجر أنهار الجنة، وأنهار الجنة تفجر من أعلى شيء في الجنة، فالفردوس هو أعلى الجنان، وهو أرفعها، وهو مستقر عباد الله الذين وصفهم بأنهم لا يعبدون غيره، ولا يعصونه وهم يستطيعون، ولا يتركون أمره، وهم أولياؤه.
كثف كل سماء وعمارها
[ المسألة الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة ]. هذا بالإضافة إلى مسيرة المسافة التي بين سماء وسماء، والكثافة: هي سمك السماء؛ لأن كل سماء فيها سكان، وفيها عمّار يعمرونها بالطاعة، وعددهم لا يعلمه إلا الله، فالملائكة الذين فيها يعمرونها بالطاعة، وقد جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع)، وهذا ليس المقصود به السماء الواحدة، بل السماوات كلها. وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه لما عرج به رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة حيال الكعبة على الأرض، يقول: (فرأيته يدخله سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعودوا لكثرة الملائكة، إنما يدخله الملك مرة واحدة ثم يترك الأمر لغيره، والملائكة هم جند الله الأعظم، وقد قال جل وعلا: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] لما ذكر أن النار عليها تسعة عشر من الملائكة الذين يقومون على إيقادها وتعذيب أهلها، فتقال الكفار هذا العدد، فصاروا يهزءون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، يقول قائل منهم: أنا أكفيكم كذا عدداً، أكفيكم سبعة عشر. أو قال: أكفيكم عشرة. فالإنسان ظلوم جهول، والله جل وعلا وصفهم بأنهم غلاظ شداد، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وأخبرنا جل وعلا أن ملكاً من الملائكة يطلع على الأمة القاهرة في البلاد المترامية الأطراف فيصيح(6/242)
صيحة فيهم فيموتون عن آخرهم بصيحة فقط، وعنده شيء أكثر من ذلك، وجبريل عليه السلام لما أتى إلى لوط ومعه عدد من الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فأضافهم إبراهيم وقدم لهم العجل الحنيذ المشوي فرأى أنهم لا يأكلون، فعند ذلك خاف منهم؛ لأن الذي يأتيك في صورة ضيف ثم تكرمه وتقدم له الطعام فيأبى أن يأكل لابد أنه مضمر شيئاً ويريد أمراً. فعند ذلك خاف منهم وأوجس في نفسه خيفة منهم، فلما رأوا ذلك قالوا له: لا تخف؛ لسنا من بني أدم الذين يأكلون ويشربون، إنا أرسلنا إلى قوم لوط -يعنون أنهم ملائكة- ثم أتوا إلى لوط عليه السلام، ولوط هو ابن عم إبراهيم، وقد آمن بإبراهيم فجعله الله رسولاً، وأرسله إلى قومه، وكانوا قد ابتدعوا بدعة لم يسبقوا إليها، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويتركون أزواجهم، فنهاهم نبيهم فلم ينتهوا، وتمادوا في ذلك حتى أصبحوا إذا أتى إليهم آت تسارعوا إليه ليفعلوا به الفاحشة. فلما جاءت الملائكة في صورة أضياف كان من تمام الفتنة والابتلاء أن جاءوا بصورة شباب حسان الوجوه، فجاءوا يهرعون مسرعين إليهم ليفعلوا بهم الفاحشة، فحاول معهم لوط عليه السلام بكل ممكن، حتى قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى الله، وأي ركن أشد من ركن الله جل وعلا؟! ولكن المقصود أنه ضاقت عليه الأرض، وضاق بما فعل قومه، فلقد حاولوا فعل الفاحشة بأضيافة، وقال لهم: لا تخزوني في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟! وما فيهم رجل رشيد في الواقع. فعند ذلك لما رأى جبريل عليه السلام الأمر قد وصل إلى نهايته عند لوط قال له: لا تخف؛ لن يصلوا إلينا ولن يصلوا إليك، نحن رسل الله أتينا لتعذيبهم وإهلاكهم، فأومأ بطرف جناحه فطمس أعينهم فعموا، عند ذلك قال لوط عليه السلام: خذوهم الآن وأهلكوهم. قالوا: موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟! وأمروه بأن يخرج(6/243)
من هذا البلد هو وأهله، وألا يلتفت إليهم بجسده لئلا يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يدل على الحنو وعلى التعلق بهم، فالذي يتعلق بهم يخشى أن يصيبه ما أصابهم. فلما جاء الوقت المحدد اقتلع جبريل عليه السلام المدن -وكانت سبع مدن- من الأرض، وحملها على طرف جناحه - وله أكثر من ستمائة جناح- فطار بها وعلا بها حتى كانت الملائكة الذين في العنان يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، عند ذلك قلبها فجعل عاليها سافلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل على كل حجر اسم صاحبه الذي يرميه ويهلكه. ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83] يعني: هذه العقوبة ليست من ظالمي هذه الأمة الذين يفعلون هذه الفعلة ببعيد، بل قريب. ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يكون في هذه الأمة خسف وقذف بالحجارة، فيقذفون مثلما قذف قوم لوط إذا فعلوا فعلهم، نسأل الله العافية. فالمقصود أن الملائكة عظام شداد، فلو أذن لأحدهم أن يقتلع الأرض لاقتلعها كلها، ومع كثرتهم وقوتهم لا يعصون الله ما أمرهم من شدة خوفهم، فجبريل عليه السلام مع هذه العظمة وهذا الكبر الهائل والقوة الهائلة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرج به ووصل جبريل إلى سدرة المنتهى يقول: (رأيته خاضعاً لله ساجداً له كالحلس البالي) خضوعاً وذلاً لله جل وعلا؛ لأن من عرف الله كان له أخوف، وله أطوع. فالمقصود أن عظمة السماء وسعتها وكبرها بهذه المثابة التي ذكرت، وذلك لما فيها من كثرة الخلق ومن كثرة العباد الذين خلقهم الله جل وعلا لطاعته، والملائكة قسم كبير جداً منهم خلقوا للعبادة فقط، ومنهم من خلق لوظائف معينة منها القيام على مصالح بني آدم، ومنها حفظهم، كما قال الله جل وعلا: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]؛ لأن الملائكة تتعاقب عليه لتحفظه، فلو نام(6/244)
إنسان في البر بقي فمه مفتوحاً وأذنه مفتوحة، فتأتيه الهوام فيصدها الملائكة الذين يحفظونه فلا يدخل في فمه، ولا في منخره، ولا في أذنه شيء، فيحفظه الله بالملائكة، فإذا جاء القدر تخلوا عنه وتركوه، وسلموه لما قدره الله جل وعلا. ومنهم الذين يحفظون أعماله، ويسجلون عليه كل ما نطق وتكلم به، ومنهم الذين يتولون قبض روحه، ومنهم الذين يتولون إنزال المطر، إلى غير ذلك مما ذكر الله جل وعلا من وظائفهم التي تكون في مصالح بني آدم. ومنهم الذين لا نعرفهم، ولا نعرف إلا أنهم في الجملة عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أكرمهم الله جل وعلا بطاعته، فهم الذين يسكنون السماء، وهم كذلك يتولون المصالح التي تكون للمؤمنين حتى في الجنة، كما جاء في قول الله جل وعلا: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24] فيسلمون عليهم ويحيونهم ويهنئونهم لدخلوهم الجنة وكرامة الله جل وعلا لهم.
الجمع بين علو الله عز وجل ومعيته لخلقه(6/245)
[ المسألة التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ]. المقصود بهذا الحديث ذكر علو الله جل وعلا، وعلو الله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها عباده، فكل إنسان يريد أن يسأل ربه يجد دافعاً من نفسه يدفعه أن يسأل ربه من فوقه ويمد يده إليه، فيمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب! يا رب! وهذا أمر لا يتخلص منه أحد، حتى الكفار إذا وقعوا في الضرورة يجدون هذا في نفوسهم، فهو أمر مقطوع به، ولهذا يقول العلماء: إن صفة الله بالعلو صفة ذاتية، أي: أنها ملازمة لله دائماً وأبداً، وما جاء في ذكر معية الله جل وعلا لخلقه، أو للمؤمنين، أو لأوليائه، كقوله جل وعلا لموسى وأخيه هارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وكقوله جل وعلا في قصة سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم مع صديقه ورفيقه في الغار: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] يعني: معنا دون الكفار الذين يحيطون بالغار. وكذلك قوله جل وعلا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، مثل المعية مع المؤمنين الأتقياء والأولياء والأنبياء فهذه تسمى معيّة خاصة، وهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ، أي: النصر على الأعداء، وتأييدهم، وحفظهم، وحمايتهم مما يريد العدو بهم، فهذا مقتضاها، ومعناها أن الله محيط بهم يراهم ويسمعهم ويحفظهم، فهم في تقلباتهم في قبضته. وأما المعنى الثاني الذي جاءت المعية به فهي معية عامة، كقوله جل وعلا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] في آيات متعددة، فهذه المعية لا تنافي علو الله، وذلك أن الله أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، فهو فوق عرشه يسمع كلام عباده، ويرى تصرفاتهم، وهم في قبضته. والمعية في اللغة(6/246)
العربية تأتي بمعنى المصاحبة، والمصاحبة تكون بحسب ما أضيفت إليه، فإذا قال القائل: سرت مع القمر صح الكلام، وقد جاء هذا عن العرب، يقولون: سرنا مع القمر. فالقمر في السماء وهم في الأرض، وهذا الكلام يكون صحيحاً، فيجوز للإنسان أن يقول: مالي معي. وإن كان ماله في بلد وهو في بلد، ويجوز أن يقول: زوجي معي وإن كانت في بلد وهو في بلد. وكذلك قول الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] يعني: المصاحبين له. وليست المعية هنا المخالطة والممازجة كما يتوهمه من ضل في دينه وعقله. فتراه يقول: إن المعية معناها المخالطة. ويقول: إن هذه الآية التي فيها ذكر المعية تنافي العلو. وهي في الواقع لا تنافي علو الله، بل المعية معناها المصاحبة، وهي إما أن تقتضي التخويف والاطلاع والعلم، أو تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد، فإذا كانت خاصة اقتضت الحفظ والنصر والتأييد، وإذا كانت عامة اقتضت التخويف والاطلاع والعلم. ولهذا السلف يفسرون المعية بالعلم، فقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ [الحديد:4] يعني: بعلمه. وهذا جزء من معناه، وليس كل معناه. ثم كذلك ما ذكر في النصوص الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وذلك في كل ليلة، فإذا بقي ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا فقال -ينادي عباده-: (هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، وهذا كل ليلة. فهذا لا يقتضي أن نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا تكون معه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه، كلا! بل هو ينزل وهو على عرشه فوق جميع مخلوقات؛ لأن المخلوقات كلها بالنسبة إليه صغيرة حقيرة، ولا يجوز أن يتوهم متوهم أن السماء تقل الله أو تظله تعالى وتقدس، فهو أكبر وأعظم من ذلك. وكذلك أخبر الله جل(6/247)
وعلا عنه في كتابه بقوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وهذا يوم القيامة إذا جاء للفصل بين عباده، وكذلك قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210]، فيوم القيامة يأتي إلى الأرض ليفصل بين خلقه، فيأتي وهو على عرشه أعلى من كل شيء وفوق كل شيء، فعلوه ثابت له ثبوتاً ذاتياً لا ينفك عنه جل وعلا، وهذا معنى قول السلف: إن علو الله صفة ذاتية؛ لأن صفة الذات معناها الصفات التي تكون ملازمة لا يمكن أن يخلو الرب جل وعلا منها في وقت من الأوقات، بخلاف صفة الأفعال، فإن صفات الأفعال يفعلها في وقت دون آخر، وكذلك قوله جل وعلا. فهو الحامل لخلقه وللعرش ولحملة العرش وللسماء التي تراها مرفوعة بلا عمد، كل ذلك بقدرته، ولكن لحكمته جعل هذه الأشياء حتى يبتلي عباده ليؤمن من يؤمن، ويأبى الإيمان بذلك من يأباه، فالمؤمن يستحق الإثابة والكرامة، ومن يأبون ذلك الله يحكم فيهم بما يستحقون، وكل الخلق عباد الله وفي ملكه يتصرف بهم كيف يشاء، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] تعالى وتقدس. ثم إن العلو الثابت لله أقسام ثلاثة: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر. كلها ثابتة لله جل وعلا، ولا يجوز أن نثبت واحداً دون البقية، والمخالفون يجعلون العلو علو قدر، وعلو القدر معناه: تقديره وتعظيمه في قلوب عباده. فهذا علو القدر، ويجعلونه كذلك علو قهر، أي أنه هو الذي يحكم ويتصرف في خلقه، أما علو الذات فينكرونه ويأبون قبوله. وشبهتهم -ما سبق أن ذكرناه- أنهم يقولون: هذا إذا أثبتناه دل على التشبيه؛ لأنه يعني أن الله في مكان، والله جل وعلا -كما يقولون- لا تحويه الأمكنة، ولا تحصره، ولا يكون في جهة، ومعلوم أن الذي لا يكون كذلك يكون عدم، ولهذا يصفون الله جل وعلا في كتبهم فيقولون: إن الله ليس في فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا هو في داخل(6/248)
العالم ولا في خارج العالم. إذاً أين يكون؟ فلن يكون هذا إلا العدم. وإذا قيل لهم: إنكم تذكرون عدما.ً قالوا: الله في كل مكان، أي: حتى في بطونكم تعالى الله وتقدس، فكونه في كل مكان هذا كفر بالله جل وعلا وإلحاد؛ لأنه لا يجوز أن يكون في الأمكنة النجسة والأمكنة السفلى الخبيثة -تعالى الله وتقدس-، وإذا كان الأمر هكذا يقال لهم: أخبرونا! لما خلق الله جل وعلا السماء والأرض أين كان ربنا؟ فهل كان فيهما وخلق السماء والأرض في ذاته جل وعلا؟ فمن قال هذا فقد كفر، فلابد أن يقال: إنه خلقها خارج ذاته، فإذا كان خلقها خارج ذاته فلابد أن يكون فوقها وعالياً عليها، وهذا عند المجادلة بالعقل فقط، ولكن لا نحتاج إلى هذا؛ لأن كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم أغنيانا عن ذلك، فيجب أن نتبع ذلك ونؤمن به، ونتعرف على ربنا بما عرفنا به نفسه تعالى وتقدس، فيجب أن نعرف الله في ذاته، والله جل وعلا يهدي من يشاء إلى الحق ويضل من يشاء، وله الحكم، وهو الذي يفصل بين خلقه تعالى وتقدس.
نتيجة الاستعاضة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم(6/249)
ومن القصص والحكايات التي وقعت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في القرن السادس أن أحد كبار العلماء الذين توغلوا في الكلام، وصار لهم أثر كبير، وهو مشهور جداً، بل هو قطب من أكبر أقطاب المتكلمين، وهو معروف بإمام الحرمين الجويني ، وسمي بإمام الحرمين لأنه جاور بمكة والمدينة أوقاتاً، وكان يعلم ويدرس في المسجد النبوي، وكان مذهبه مذهب أهل الكلام في نفي علو الله جل وعلا ولا يقر بذلك، فكان على كرسي في المسجد، وكان يقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا مداخلاً للعالم، ولا خارجاً منه، فقام رجل ممن كان حاضراً فوقف أمامه حتى تنبه له ورآه، وعند ذلك قال: عندي سؤال: قال: نعم، قال: دعني من هذا الكلام الذي تقوله، كان ولا مكان.. إلى آخره ، وأخبرني عن شيء أجده أنا في نفسي وتجده أنت وغيرك، والناس كلهم يجدونه، أخبرني عن الضرورة التي أجدها في نفسي ويجدها غيري، فعندما أدعو ربي أجد دافعاً يدفعني من داخل نفسي أني أطلب ربي من فوق، فمن أين جاءت هذه الضرورة؟ فوضع رأسه وجعل يفكر ثم صار يبكي، ونزل من على الكرسي، وقال: حيرني الرجل حيرني. فلم يدر بم يجيب، وقد التبس عليه علمه الذي كان يقرره، وذهب بهذه الكلمة فحار. وهكذا الذي يترك كتاب الله ويعتاض عنه بأقوال الرجال وأفكارهم ويجعلها هي مستنده في النتيجة فيحار. ثم إن هذه الحيرة أصبحت ملازمة له حتى إنه لما حضرته الوفاة صار يوصي أصحابه ويقول: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أظن أنه يصل بي إلى ما وصل ما اشتغلت به. ويقول لهم عند وفاته: إنني لم أعلم حقيقة من الحقائق، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. ويقول: لقد تركت أهل الإسلام وعلومه، وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي. ثم يقول: ها أنا ذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور. لأنه نيسابوري، ومات هناك، ولكن هل يمكن هذا؟ إنه لا يستطيع أن(6/250)
يموت على عقائد عجائز نيسابور؛ لأن العجائز على فطرة سلمت من الانحراف وسلمت من الشكوك، وما يستطيع الذي عنده شكوك وانحرافات أن يموت عليها. ومن القصص الغريبة في هذا الموضوع أن هناك رجلاً آخر عظيماً أيضاً قد ملأت كتبه الدنيا، وهو معروف بالفخر الرازي ، وله في التفسير وفي الفقه وفي الأصول وفي الكلام وفي غيرها من سائر العلوم، وكان أيضاً في نيسابور، فخرج يوماً من الأيام إلى السوق ومعه أكثر من ثلاثمائة تلميذ خلفه، فوقفت عجوز في بابها تتفكر، فقالت لأحد المارة: من هذا الملك -وكان تلميذاً من تلامذته-؟ فقال لها: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يقيم على وجود الله ألف دليل. عند ذلك ضحكت العجوز وقالت: واعجباً! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يتعرف إلى ألف دليل، وهل وجود الله يحتاج إلى أدلة. إنه تعالى يعرف. فالمقصود أن الذي يعتاض عن كتاب الله بالآراء والأفكار لابد أن يضل، وهو أيضاً قال في آخر كتاب ألفه -أعني: فخر الدين -: لقد جربت المناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فلم أرها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق إلى الحق طريقة القرآن. ثم جعل يمثل: اقرأ قول الله كذا، اقرأ قول الله كذا. وهذا يدل على أنه رجع في آخر حياته عما كان عليه، وكذلك كان للفخر الرازي تلميذ من أبرز تلامذته وأذكاهم، وكان لهذا التلميذ صاحب ممن لم يسلك مسلك المتكلمين، بل ترسم طريق الكتاب والسنة، وكان يزوره، وفي مرة من المرات دخل عليه في بيته والرجل يتفكر، فسلم فلم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام فلم يرد السلام، ثم أعاده ثالثة فلم يرد عليه، عند ذلك قال: ما الذي دهاه؟ إن الرجل ليس في عقله. فهم أن ينصرف لكونه يسلم على الرجل ولا يرد السلام، فعند ذلك تنبه ورفع رأسه إلى صاحبه الواقف الذي حار مما علاه، وبادره عندما رفع رأسه فقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك عليه صاحبه الواقف ساخراً منه، وقال: ماذا أعتقد؟ أعتقد(6/251)
ما يعتقده المسلمون. فأطرق وجعل يبكي ويقول: ولكني والله ما أدري ماذا اعتقد في ربي. فهذه نتائج الاشتغال في علم الكلام وكتب أهل الآراء الذين يعتاضون بآرائهم عن كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا يقول العلماء: أكثر الناس شكاً عند الموت الذين يشتغلون بالكلام. فأكثر الناس شكاً عند الموت هؤلاء؛ لأنه عند حضور الموت تذهب البهارج ويذهب الباطل، ويبقى الحق، فالباطل الذي معهم يذهب فيحارون ويشكون، ويبقون في حيرة وشك. وعلى كل فعلينا الاعتصام بكتاب الله، والله جل وعلا أمرنا بالاعتصام به في العقيدة وفي العمل، ففي العمل نعتصم به عن البدع، وفي العقيدة نعتصم به عن الانحراف الذي وقع لمثل هؤلاء وهو كثير.
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [140]
أصل اللات والعزى
السؤال: سمعت عن اللات والعزى أنهما اسمان لرجلين صالحين في قوم نوح، فما مدى صحة ذلك؟ الجواب: اللات والعزى غير ذلك، فاللات اسم لرجل في الطائف كان يلت السويق، فمات فدفن تحت صخرة فعبد، أما العزى فهي ثلاث شجرات (سمرات) في وادي نخلة قرب عرفات، كانت قريش تعبدها، والعزى أحدث من اللات، واللات أحدث من مناة. ......
الدليل على منع تكرار زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال: ما هو الدليل على منع تكرار الزيارة والإكثار منها؟ الجواب: الدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري عيداً)، فيخشى إذا اعتيد ذلك أن يكون عيداً، وإنما الزيارة أحياناً فقط، وتكون للاتعاظ. ......
الحكمة من شرعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم(6/252)
السؤال: هل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لتذكر الموت فقط؟ أزيلوا عنا هذا اللبس. الجواب: الزيارة ينبغي أن يكون مقصدها هذا مطلقاً، ولكن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام عليه، وليس للدعاء له؛ لأنه ليس في حاجة لتدعو له صلوات الله وسلامه عليه، بل أي عمل تعمله من الصالحات فله مثله من الأجر؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه سبب هداية الناس. فكل إنسان من أمته يعمل خيراً منذ بعثه الله إلى أن تقوم الساعة فله من الأجر مثل أجر هذا الإنسان، فكذلك الله جل وعلا أخبرنا أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه أعطاه الوسيلة، ولكن شرع لنا الصلاة عليه لزيادة أجورنا، وإلا فقد صلى الله -جل وعلا- عليه وسلم. ولهذا أخبرنا أنه إذا سمع أحدنا المؤذن فقال مثلما يقول، ثم سأل له الوسيلة -وهي منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، قال: (وأرجو أن أكون أنا) - حلت له شفاعته صلى الله عليه وسلم، هذا جزاؤه، وقد قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فنحن نفعل ذلك امتثالاً لأمر ربنا جل وعلا، ويحصل لنا بذلك ما قاله كما في الصحيح: (من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً) أي: عشر صلوات. والذي يصلي عليه ربه جل وعلا سعيد، فالصلاة خلاف اللعن، فهذا هو المشروع. ......
معنى السلام على النبي صلى الله عليه وسلم(6/253)
السؤال: أليس السلام دعاءً بالسلامة؟ الجواب: الدعاء في السلام عليه صلوات الله وسلامه عليه ليس كله دعاء، فليس كل سلام يكون دعاءً، وإنما هو إخبار له بأني مسالم وأنا مسلم، وأنا ممن يتبعك ويستسلم وينقاد لشرعك الذي جئت به، وإذا كان دعاءً فهو لأجل نفعك أنت، فيحصل لك بكل دعوة عشر حسنات، لأنه ما كان معروفاً عند الصحابة أنهم يسألون هذا، كان أحدهم إذا دخل المسجد صلى على النبي صلى الله عليه، وسلم، ولا يدخل القبر، فما كانوا يدخلونه مع تمكنهم من الوصول إليه في وقته، وما أحد يحول بينهم وبينه، مع ذلك ما كانوا يأتون إليه، ولم يرو إلا عن عبد الله بن عمر فقط أنه كان يذهب إليه إذا أراد أن يسافر أو إذا قدم من السفر. ......
حكم وضع علامة على قبر الميت
السؤال: هل يجوز وضع علامة على قبر الميت للدعاء له ولزيارة أهله له والدعاء أم أن الدعاء للأموات جميعاً أفضل؟ الجواب: ما يجوز إلا إذ كان يريد أن يعرف قبر أمه أو قبر أبيه؛ فيضع علامة يتميز بها، ولا تلفت النظر، بل تكون علامة له يعرفها حتى لا يختلط بالقبور الأخرى. ......
حكم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم(6/254)
السؤال: هل التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم فيه خلاف بين السلف؟ وهل لا ينكر على من توسل بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: التوسل في الواقع لفظ مجمل قد يقصد به باطل وقد يقصد به حق، فإذا أريد بالتوسل بالرسول التوسل بذاته، فيقول الإنسان: اللهم إني أتوسل إليك برسولك، اللهم إني أتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، وأسألك بجاهه أو ما أشبه ذلك؛ فهذا بدعة من البدع، ما أحد فعله من الصحابة ولا من التابعين. أما إذا أريد بالتوسل التوسل باتباعه، والإيمان به، ومحبته صلوات الله وسلامه عليه، ومحبة شرعه، ومناصرته؛ فهذا مشروع، وأما التوسل الذي كان يفعله الصحابة فهو غير ممكن، وهو التوسل بدعائه، فيسألون منه أن يدعو لهم، فهذا انقطع بموته صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا ما أحد من الصحابة ذهب إلى القبر يطلب منه أن يدعو له، أو ذهب يتوسل إليه، ولما حصل القحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخرجوا يستسقون قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنينا فتسقينا، وإننا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: قم -يا عباس - فادع. فقام العباس ورفع يديه وصار يدعو والمسلمون يؤمنون على دعائه. فهذا معناه توسل بالدعاء، ولو كان توسلاً بالذات فلا يمكن أن يعدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس ؛ لأن التوسل بالذوات ممكن في الحياة وبعد الموت، فعدولهم إلى العباس دليل على أن المقصود بالتوسل هو التوسل بالدعاء. ......
حكم الصلاة على الميت بعد دفنه(6/255)
السؤال: هل تجوز الصلاة على الميت بعد دفنه؟ الجواب: الميت إذا صلي عليه لا يصلى عليه في القبر؛ لأن الصلاة في القبور ممنوعة لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في القبور، ولا حجة لمن يقول: إنه صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة. لأن الصلاة عليها تحتمل خصوصية، وتحتمل أن يقصد بها الدعاء، والرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يصلي على أهل البقيع، أي: يدعو لهم، وصلاته دعاء، كما قال الله جل وعلا: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] يعني: ادع لهم، فيحمل على هذا. ......
حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور
السؤال: يوجد في بلد إسلامي مساجد فيها قبور للصالحين والشهداء، ويطوف الناس بهذه القبور ويستغيثون بأصحابها، فما حكم الصلاة في هذه المساجد خاصة إذا كان بين القبر والمسجد حائط به أبواب على المسجد؟ الجواب: المسجد الذي فيه قبر لا تجوز الصلاة فيه ولا تصح، سواء أكان القبر في مؤخره، أم في يمينه، أم في شماله، أم في مقدمته، أم في وسطه، فلا فرق. أما إذا كان المسجد مسوراً قائماً، والقبور خلفه -أعني: بينه وبينه الحوائط- فهذا تصح الصلاة فيه، ولكن لا يجوز أن تدفن القبور قرب المسجد، بل ينبغي أن تكون القبور بعيده عن المساجد. فالمسجد لا تصح الصلاة فيه إن كان فيه قبر، ويجب أن يهدم إذا بني على القبور، وإذا كانت القبور أدخلت فيه فيجب أن تنبش وتخرج منه، ويطهر المسجد منها، فنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك صريح، وليس هو مسألة اجتهاد، ومسألة خلاف بين العلماء، بل هذه نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم. ......
حكم تكرار زيارة المقابر وحكم اتباع الجنائز(6/256)
السؤال: هل يجوز تكرار الزيارة للمقابر بغرض أخذ العظة والعبرة؟ وما حكم اتباع جنازة والوقوف عندها حتى الدفن للحديث الوارد؟ الجواب: أما اتباع الجنازة فقد جاء الحث على ذلك بأن من صلى على جنازة فله قيراط، ومن صلى عليها وتبعها فله قيراطان، فاتباع الجنازة غير الزيارة، فكونه يتبع الجنازة حتى تصل إلى مكانها وتوضع فيه ولا ينصرف إلا وهي مدفونه؛ هذا اتباع، وليس لأجل الزيارة، أما الزيارة فلا تكرر حتى لا يعتاد الإنسان التردد على القبور، وإنما تفعل لما ذكر في الحديث، أي: ليتعظ الإنسان إذا وجد من قلبه قسوة، فيزور لعله يرق قلبه، وينظر في القبور، ويتذكر أنه سوف يكون فيها، ويدعو لأصحابها لعل الله يقبل منه شيئاً ينفعهم به، وهذا لا يكون دائماً، وإنما يكون لهذا الغرض فقط. ......
حكم من أجاز علماؤهم البناء على القبور(6/257)
السؤال: ما حكم الذين أجاز علماؤهم زيارة القبور للنساء، وتعلية القبور، وبناء الأضرحة عليها، والدعاء لها؟ الجواب: لا شك أن هذا من أعظم المحرمات، أعني: البناء على القبور، وجعل الأضرحة عليها، ثم الدعوة إلى زيارتها، هذا ضد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، فيكون هذا الفاعل مضاداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي المحادة التي ذكر الله جل وعلا أن من يحاد الله ورسوله فإنه مكبوت، وهو جل وعلا سوف يعاقبه، وهذا إذا سلم من كونه يدعو صاحب القبر، أو يعتقد أنه ينفع وأنه يدفع، وكانت دعوته للزيارة وليست لأجل تعظيم القبر، أما إذا كانوا يدعون صاحب القبر فهذا شرك، والدعاة للشرك هم الذين يتقدمون من استجاب لهم يوم القيامة، كما قال الله جل وعلا في فرعون وغيره يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98]. فهكذا دعاة عبادة القبور، وليس للإنسان عذر في كونه سمع فلاناً يدعو أو اغتر بفلان؛ لأن فلاناً ليس رسولاً، وليس معصوماً، وأنت ما كلفت باتباع فلان، وإنما كلفت باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للإنسان أن يقدم على عمل من الأعمال وهو لا يدري حكم الله فيه، فيجب عليه أن يعرف حكم الله، فهل الله أمر بهذا أم لم يأمر؟ أما أن يقدم على ذلك لأن فلاناً أمر به أو قاله فهذا لا يجوز. ......
جزاء الصالحين عند نزول البلاء العام(6/258)
السؤال: إذا ابتلى الله قوماً بسبب ذنوبهم فما جزاء صالحيهم وهم يعانون نفس الابتلاء؟ فهل لهم أجر أم لا؟ الجواب: في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو هذا البيت جيش من الشام، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، ولا يبقى منهم إلا من يخبر عنهم، فقلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! - تعني: الذين ليس لهم تصرف، وإنما جيء بهم بالقوة- فقال: يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، فيبعثون يوم القيامة على نياتهم، فمن كانت نيته صالحة كان جزاؤه الثواب، ولكن العذاب يعم الجميع، ولهذا قال الله جل وعلا: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] فإنها إذا جاءت أصابت الكل وعمت. وكذلك إذا جاء جزاؤها وهو العقاب فقد يعم، ولكن إذا بعثهم الله جل وعلا يكونون على نياتهم. ......
معنى رؤية الله تعالى في المنام(6/259)
السؤال: إن كانت رؤية الله تعالى في المنام ممكنه فكيف يكون ذلك، مع اتفاق العلماء سلفاً وخلفاً أنه لا يمكن لأحد من الخلق أن يرى الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا؟ الجواب: الرؤية المنامية ليست هي رؤية لله جل وعلا، لا يفهم هذا، فرؤية المنام لا يرى فيها الله حقيقة، ولكن الرائي في منامه يرى شيئاً من المرائي التي يعهدها، كأن يتصور ذلك الشيء المعهود، وذلك الشيء ما هو عنده، هو نائم مغلق عليه بيته، ولم يأته هذا الشيء الذي يراه، ومع ذلك يرى إما شخصاً، وإما مدينة، وإما غير ذلك، فالرؤيا في المنام ليست حقيقة، والإنسان إذا رأى ربه في المنام إذا كان إيمانه صحيحاً وحسناً رأى شيئاً يناسب هذا الإيمان، وإن كان دون ذلك رأى دونه، ولهذا لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن الناس إيماناً وأكملهم، قال في الحديث الذي رواه أحمد : (رأيت ربي في أحسن صورة) يعني: في المنام. فالرؤية في المنام ليست هي الرؤية البصرية التي تكون في اليقظة، لا يفهم هذا، فلا يقال: معلوم اتفاق السلف أنه لا يرى في الدنيا، فهذا نصت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في هذا أنه لا يرى في المنام، وقد يرى الإنسان في المنام شيئاً على خلاف المطلوب شرعاً، وقد يرى الشيطان، وقد يراه أيضاً في اليقظة، فالشيطان يتمثل ويقول له: أنا ربك، كما جاء عن عبد القادر الجيلاني قال: رأيت الشيطان قد وضع كرسياً بين السماء والأرض فقال: يا عبد القادر ! أنا ربك. فقلت: اخسأ فإن الله جل وعلا لا يرى، ولا يأتي إلى الناس. فالمقصود أن الشيطان قد يضر الإنسان، وقد يتراءى له في المنام في شيء، ففرق بين الرؤية الصالحة والرؤية التي تقع من الشيطان أو تكون أضغاث الأحلام. ......
حكم الموالد(6/260)
السؤال: يوجد عندنا في مصر كثير من الأضرحة أو المساجد المسماة بقبر الإمام الحسين ، والسيدة زينب ، والسيد البدوي ، و إبراهيم الدسوقي ، ويعملون لها موالد كل عام، فما حكم الإسلام في ذلك؟ الجواب: يجب على الإنسان أن يجتنب هذه الأشياء، أعني: الموالد والذهاب إليها؛ لأن هذه من البدع التي هلك فيها كثير من الخلق. ......
هل كانت الكعبة قبل إبراهيم عليه السلام؟
السؤال: قال الله تعالى على لسان إبراهيم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37] ألا يفهم من هذه الآية أن البيت كان مبنياً؟ الجواب: البيت ما كان، ولكن مكان البيت، كما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26]، هكذا جاءت الآية، ولقد جاء أن البيت قديم، وأن آدم عليه السلام طاف به، وأن الملائكة بنته قبل آدم، ولكن لما جاء الطوفان دمره فبقي مكانه ربوة، حتى جاء إبراهيم فبناه، هكذا ذكروا في التاريخ، والمقصود أن إبراهيم هو الذي وضع القواعد. ......
العذر بالجهل(6/261)
السؤال: نرجو منكم أن تبينوا لنا بياناً يشفي الصدر مسألة العذر بالجهل؟ الجواب: الجهل لا يعذر به مطلقاً، وإنما يعذر به في المفاهيم والأمور الذي ترجع إلى مفهوم النصوص، فالإنسان يعذر بها إذا جهل ذلك، أما عبادة الله مثل الصلاة مثل الصوم ومثل الحج والصدقة والأمور الواضحة والجلية فالإنسان لا يعذر بجهلها، بل يعاقب بهذا، فيجب أن يكون عارفاً بهذا الأمور، فلا عذر لمن تركها، ولهذا كل مقبور يسأل إذا قبر: من تعبد؟ ومن الذي جاءك بالعبادة؟ وهل تعرفه؟ وبأي شيء تعبد؟ فيسأل عن هذه المسائل: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ وهو مقبور، فإن أجاب قيل له: وما يدريك؟ فإنه إذا قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، قيل له: وما يدريك -أي: ما الدليل؟- فإن أجاب قال: قرأت كتاب الله وآمنت بما فيه واتبعته. فيقال له: قد علمنا، ولكن هذا اختبار لك. أما إذا قال: هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً أو رأيت الناس يعملون شيئاً فعملت، قيل له: ما دريت ولا اهتديت. ثم يعذب فيضرب بمطراق من نار فيلتهب عليه قبره ناراً وهذا لكل واحد، فهل عذر هذا بالجهل؟ إذا قال: أنا أعبد أحمد البدوي ، أو أعبد الدسوقي ، أو أعبد الحسين لأني ما أدري، فهل هذا عذر بالجهل؟ المقصود أن العذر بالجهل لا يعذر به مطلقاً، ولا كل جاهل يقال له: إنه غير معذور، والناس يختلفون، فقد يكون الإنسان في مكان بعيد ما يبلغه شيء عن الإسلام، فمثل هذا ليس كمثل من يكون في بلاد المسلمين. ......
التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه(6/262)
السؤال: ما معنى التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما حكمه؟ وما هي الأشياء التي يجوز أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بها؟ الجواب: التوسل بالجاه بدعة لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أحد من السلف، كونه يقول: يا ربي! أسألك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أو أسألك بجاه نبينا صلى الله عليه وسلم فإن جاهه عند الله عظيم فيسأل به، هذا بدعة ما شرعت لنا، ولم يفعله أحد ممن يهتدى به من أهل الهدى، وإنما فعله الخلوف الذين ضلوا طريق الهداية، وأصبحوا يتخبطون في أمور لا يدرون أمشروعة هي أم لا، ويأخذ بعضهم عن بعض. ذلك أن السؤال بالجاه كما إذا سألت الله بصلاته وبصومه وبإيمانه فأي صلة بينك وبين هذا؟! بخلاف ما إذا قلت: اللهم إني أسألك بأني أتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، وأسألك بأني أؤمن به. فهذا مشروع؛ لأن هذا إيمانك، وهذا عملك، والتوسل بعمل الإنسان مشروع إذا كان خالصاً لله جل وعلا، كما جاءت الأحاديث في ذلك. وأما الأمور التي يجوز التوسل بها فهي بدعائه إذا كان حياً حاضراً يسمع ذلك، فتسأله أن يدعو لك، فهذا من التوسل الجائز. ......
الحجة على الطائفين بالقبور(6/263)
السؤال: نرجو توضيح صفة إقامة الحجة على الطائفين بالقبور، وهل يكفرون بعد إقامة الحجة إذا استمروا على ذلك؟ الجواب: ما يحتاج إلى إقامة حجة، فإقامة الحجة أن العبادة لله جل وعلا، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم جاء بها واضحة، ولا يجوز لمسلم يدعي الإسلام أن يكون جاهلاً بعبادة الله جل وعلا، فليس في الدنيا كلها شيء يطاف به في الشرع إلا الكعبة فقط، والطواف عبادة، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، فهم يجب أن يعرفوا معنى (لا إله إلا الله)، وإذا كان الإنسان ما عرف معنى (لا إله إلا الله)، فكلامه بها ما يفيد، ونطقه بها ما يفيد، فالإنسان لا يدخل الإسلام إلا بهذه الكلمة إذا قال: (لا إله إلا الله)، ومعنى (لا إله إلا الله) أن يكفر بجميع الآلهة التي تؤله من دون الله جل وعلا، ويجعل العبادة لله وحده. ......
حكم تكرار تحية المسجد لتكرر الخروج والدخول
السؤال: إذا خرج أحد من باب من المسجد ودخل من آخر هل تجب عليه تحية المسجد؟ الجواب: إذا خرج الإنسان من المسجد ثم عاد، فذهب لغرض ما من الأغراض إما لوضوء أو لغير الوضوء ثم عاد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، إلا إذا وجد الصلاة قد أقيمت؛ لأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). وعلى كل حال إذا صلى الإنسان ثم خرج من المسجد ودخل يدخل في عموم هذا الحديث؛ لأنه خرج ودخل. أما إذا كان خروجه لغرض يتردد فيه، كمن هو موظف في المسجد مثلاً ويتردد من هنا إلى هنا فهذا لا يلزم أن يصلي كلما جاء؛ لأن هذا عمله، فهو مضطر لهذا الشيء. ......
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم العامة والخاصة(6/264)
السؤال: كيف الجمع بين الآيتين وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وقوله جل وعلا: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]؟ الجواب: الآيتان تتفقان، وما فيهما خلاف حتى نجمع بينهما، فقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] أي: رحمة ظاهرة. وقد يقول القائل: هي للعالمين، فيدخل فيها الكافرون والمنافقون! فأجاب العلماء على هذا بأن رحمته شملت الكافرين، ولكن إذا أصروا على كفرهم وتمادوا فإن عذابهم يكون أشد. ولكن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قد يقاتل الكافرين ويقتل من يقتل، وقتل صلى الله عليه وسلم في غزواته خلقاً كثيراً من الكافرين، فأين الرحمة هنا؟ وقتله إياهم لماذا؟ فالجواب: إن الكافر يزداد بحياته إثماً، والتعجيل بموته أحسن من بقائه؛ لأنه لا يزداد بحياته إلا إثماً، كما قال الله جل وعلا: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178] يعني: طول حياتهم شر لهم لا خير، فالخير ألا تطول حياة الكافر لئلا يزداد عذابه. ......
حكم طاعة الأب في الأمر بطلاق الزوجة
السؤال: لقد طلق إسماعيل زوجته عن أمر أبيه دون السؤال عن السبب؟ الجواب: هذا في السلف كثير، يأمر الإنسان أبوه أن يطلق زوجته، والقصص في هذا معروفة، وقد وقع في الصحابة، ولكن إذا كان بلا سبب وبلا جرم للزوجة فهذا لا يلزم، ومع ذلك لو أطاعه لا يلام؛ لأن طاعة الوالد متعينة. ......
نقل الناس إلى المزارات وحكم ذلك(6/265)
السؤال: أنا أعمل على سيارتي في المدينة، وآخذ بعض الزوار والمعتمرين المارين إلى المدينة إلى مزاراتها مثل مسجد قباء وشهداء أحد ومسجد القبلتين والسبعة المساجد، فهل علي شيء من ذلك؟ الجواب: أما كونه يذهب إلى قباء أو إلى القبلتين والشهداء فليس عليه شيء، أما أن يذهب إلى المساجد السبعة، أو موضع الناقة، أو إلى شيء من هذا؛ فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من البدع، ولا تجوز زيارتها، ولا بذل الأموال فيها. ......
صلاة عائشة في حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم مدفون فيها
السؤال: عائشة كانت تصلي في الحجرة والنبي مقبور فيها، فيستدل بذلك على جواز الصلاة في المواطن التي فيها مقابر، فما الرد على هذه الشبهة؟ الجواب: إذا صلت في الغرفة فهذا ظن منه أنها تصلي عند القبر، ولكن إذا وجد هذا فهذا يكون خاصاً بها؛ لأن هذا منزلها ضرورة، فما تستطيع أن تذهب إلى غيره، فيكون هذا خاصاً يستثنى لهذه الضرورة فقط، ولا يكون هذا قاضياً على الأحاديث، لاسيما أن هذا ليس في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا جاءنا فعل من أحد الناس لا يجوز أن نجعله كحديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ......
حكم الإكثار من زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام
السؤال: يحتج بعض المسلمين على زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم أو كل أسبوع بأن الرسول قال: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، وهذه قبور يشرع زيارتها والسلام عليها، لأنها ثلاثة قبور مجموعة مع بعضها، فما الجواب على هذا؟ الجواب: هذا كلام الجهلاء، وكلام الجهلاء لا يجاب عليه، فزيارة القبور كانت ممنوعة أصلاً، فهذا معنى: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور) يعني: لا تزوروها أصلاً، ثم بعد ذلك أذن فيها، وقيدت بالقيود الذي جاءت في الأحاديث، ولا يجوز ضرب النصوص بعضها ببعض أو تكذيب بعضها وقبول بعضها. ......
حكم الذبح باسم الله تعالى عند القبر(6/266)
السؤال: أنكرت على أحد القبوريين ذبحه عند القبر فقال: إنما أذبح باسم الله، والشرك إنما هو الذبح باسم الميت. فما جوابكم عليه؟ الجواب: هذا تلبيس منه وتبرير لفعله، وإلا فمعلوم أن قصد القلب هو الركن الأعظم، ولو قال: باسم الله، وهو يقصد بهذا الذبح التقرب إلى الميت فهو من الشرك الأعظم، ولا يجوز أكل هذه الذبائح لأمرين -كما قال النووي رحمه الله-: الأمر الأول: لأنها مما أهل به لغير الله. والأمر الثاني: لأنها ذبيحة مرتد عن الإسلام، وذبيحة المرتد حرام لا تؤكل. وكونه يدعي ويقول: إني سميت الله فلماذا يتقرب بها للميت إذا كان قصده أنها ذبيحة لله؟! فالمقصود أن الأعمال الظاهرة التي تدل على المقاصد لا تخفى على الناس، والقبر ليس محلاً للعبادة لا لذبح ولا لصلاة ولا لغير ذلك، فصورة فعله هذا تكذب قوله، فلا يلتفت إلى قوله. ......
حكم الصلاة في مسجد فيه قبر ولا يوجد غيره
السؤال: شخص يسكن في منطقة بها مسجد مقام على قبر، ولا يوجد غير هذا المسجد، فهل يجوز له ترك الصلاة مع الجماعة أو يصلي مع الجماعة في هذا المسجد؟ الجواب: الصلاة في هذا المسجد باطلة ولا تصح، ولكن يصلي جماعة في غيره ولو في بيته أو في مكان آخر، أما أن يصلي في المسجد الذي فيه قبر فصلاته غير صحيحة، وهذا المسجد يجب أن يهدم إذا كان القبر سابقاً له، أما إذا كان القبر أدخل فيه فيجب أن يخرج منه، ويوضع في القبور حتى تصح الصلاة فيه. ......
حكم قول: اعتمادي عليك بعد الله
السؤال: قول: اعتمادي عليك بعد الاعتماد على الله في قضاء حاجتي الفلانية هل هو من الشرك؟ الجواب: ليس من الشرك بشرط أن يكون هذا الشيء يستطيع فعله الذي يقول له: أعتمد عليك، فإن كان مستطيعاً لفعله فليس بشرك. ......
طلب الدعاء من الغير وحكمه(6/267)
السؤال: حديث: (لا تنسنا من دعائك يا أخي)، هل هو من التوسل غير المشروع؟ الجواب: ليس من التوسل غير المشروع، بل هذا مشروع؛ لأنه فيه نفع للسائل والمسئول، والمسلمون بعضهم يدعو لبعض، وقد شرع ذلك، والأمر المشروع لا يقال: إنه فيه نظر، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو المشرع، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا عن ملائكته أنها تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم، وكذلك المؤمنون وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا [الحشر:10]، فهذا شأن المؤمنين، أن يدعو بعضهم لبعض، وإذا أوصى أحدهم أخاه فقال: لا تنسنا، فهو يقصد بذلك النفع العام، نفعه ونفع الثاني، هذا هو المقصود. ......
حكم تغسيل الابن لوالدته
السؤال: هل يجوز للأبناء الذكور تغسيل والدتهم عند الموت؟ الجواب: لا يجوز للابن أن يغسل والدته، ولا الوالدة أن تغسل ابنها البالغ، وإنما مثل هذا يجوز في الزوجة فقط، فالزوجة تغسل زوجها، والزوج يغسل زوجته، وفي غير ذلك المرأة لا يغسلها إلا امرأة، والرجل لا يغسله إلا رجل، ولو قدر أن الميت مات بين نساء وليس فيهن زوجة له؛ فإنه ييمم ولا يغسل، ويكفي، وبالعكس كذلك إذا امرأة ماتت بين رجال وليس فيهم زوجها؛ فإنهم ييممونها ويكفي، ولا يغسلونها. ......
الحائض ومناسك الحج
السؤال: امرأة أتت للحج وحاضت وقت المناسك قبل أن تقف بعرفات، فماذا تفعل؟ الجواب: تبقى على إحرامها حتى تطهر، ووقوفها في عرفات صحيح، وأداؤها جميع المناسك صحيح، إلا الطواف في البيت، فلا تطوف حتى تطهر، أما بقية المناسك فإنها تؤديها كغيرها. ......
حكم من اعتمر ولم يأخذ من شعر رأسه(6/268)
السؤال: رجل اعتمر ولم يحلق ولم يقصر شعر رأسه، فماذا عليه؟ الجواب: عليه أن يقصر في الحال إذا كان لم يقصر إلى الآن، وبعض العلماء يرى أنه يلبس إحرامه ثم يقصر، ثم بعد ذلك ليس عليه شيء. ......
حكم من نسي إخراج صدقة الفطر عن بعض الأولاد
السؤال: سها والدي عن زكاة الفطر، حيث زكى عن بعض أولاده، ولكنه سها ونسي العدد، وتذكر ذلك بعد صلاة العيد، فماذا يجب عليه؟ الجواب: يجب عليه أن يخرج الزكاة حين تذكر، فيخرجها قضاءً، فهي صدقة من الصدقات؛ لأنه ذهب وقتها، ومع ذلك يجب أن يخرجها. ......
الراجح فيمن سكت الله عنهم في قصة أصحاب السبت
السؤال: ما هو الراجح من أقوال المفسرين في الصنف الثالث الذين سكت الله تعالى عنهم في سورة الأعراف، وهل هناك حديث صحيح يدل على أنهم يعاقبون؟ الجواب: كان ابن عباس رضي الله عنه يظن أنهم هلكوا، ويقول: إن الله جل وعلا ذكر صنفين فأخبر عن الهالكين أنه مسخهم قردة، وأخبر عن الذين نهوا عن السوء أنه نجاهم، وأولئك لما سكت عنهم كانوا مع الهالكين. فقال له مولاه عكرمة : ليس كذلك، فالله جل وعلا عاقب الفاعلين، والذين نهوا أثابهم بأن نجاهم، والذين سكتوا سكت عنهم، وليسوا هالكين، فأعجبه هذا، وكساه بردته، مما يدل على أنه رضي بذلك. وهذا هو الظاهر، والله أعلم، وإن كان بعض السلف يقول: إنهم مع الهالكين، ويستدل بذلك على وجوب الإنكار، وأن من لم ينكر يهلك، ولكن الله تعالى حكى لنا قولهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ [الأعراف:164]، فهذا يدل على كراهتهم هذا الفعل، وأنهم كارهون له، ولا يوافقونهم عليه، ومن كان كذلك فهو ناجٍ. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [141]
هل التداوي ينافي التوكل؟(6/269)
السؤال: هل أخذ الدواء والعلاج يختلف عن الرقية الواردة في حديث سبعين ألف يدخلون الجنة بغير حساب؟ وهل من أخذ الدواء لا يشمله هذا الحديث؟ الجواب: هذا ليس صحيحاً، وليس المقصود في الحديث الرقية التي لا تطلب من الغير، بل المقصود: الاسترقاء وهو طلب الرقية، فالمقصود الطلب؛ لأن الطلب والسؤال من الغير فيه التفات القلب إلى غير الله جل وعلا، أما الرقية فهي مستحبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه ويرقي غيره، وهو أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وكون الإنسان يرقي غيره هذا إحسان، فلا يكون الإحسان سبباً في منعه من السبق مع السابقين، بل يكون من أسباب السبق، والمعنى المتعين في الحديث: أنه من طلب غير الله وسأل غير الله؛ فافتقر قلبه لغير الله جل وعلا، وصار عنده نوع من الالتفات إلى غير الله، أو نوع من الشرك الأصغر. ......
حكم رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة
السؤال: هل يجوز رفع الصوت بالذكر بعد صلاة المغرب إذا كان في ذلك تشويش على المصلين مع أنه سنة؟ الجواب: يجوز ذلك، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يفعلونه، حتى أخبر ابن عباس أن المسجد يرتج. والسنة لا تترك لأجل أمر آخر، وهذه السنة لا تترك لأنه يشوش على غيره. ......
الدعاء عند زيارة البيت الحرام
السؤال: ما هي الأدعية المأثورة عند زيارة البيت الحرام؟ الجواب: ليس لزيارة البيت الحرام أدعية معينة تحفظ، وقد جاء في رؤية البيت دعاء في حديث سنده ضعيف، وعلى الإنسان أن يجتهد في الدعاء الذي يناسبه ويحتاجه لنفسه فيدعو الله به. ......
حكم تقبيل المريض(6/270)
السؤال: هل من السنة تقبيل المريض عند الزيارة أم المصافحة باليد؟ الجواب: التقبيل لا يجوز للمريض ولا لغيره، وليس سنة، وقد نهي عنه، ولاسيما في الوجه أو في الخد أو الفم، فإن هذا مكروه، ولا يكون هذا إلا للزوجة، حتى الوالدة والوالد لا يفعل بها ذلك، وإنما يقبل رأسه أو جبهته، وكذلك الإنسان مع الآخر لا يقبله، وهذا ليس من السنة، ومن توهم أنه من السنة فقد أخطأ، وإنما السنة المصافحة أو المعانقة، وهو كونه يجعل عنقه على يمينه أو على شماله، أما تقبيل اليد فهو مكروه. ......
الشرك المخرج من الملة
السؤال: هل من عمل الشرك يكون كافراً مثل: أن يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله وما شابه ذلك؟ وهل تجري عليه أحكام الكفر؟ الجواب: الشرك نوعان: أكبر وأصغر، والذبح لغير الله من الشرك الأكبر، وإذا ذبح لغير الله فإنه يكون بهذه الذبيحة مرتد، وتجري عليه أحكام المرتدين إلا أن يتوب ويرجع ويستغفر، فإنه إذا تاب تقبل توبته إذا شاء الله جل وعلا كسائر الذنوب الأخرى؛ لأن الله جل وعلا يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] ،هذا عام شامل لجميع الذنوب وإن كانت شركاً. وإن كان الإنسان جاهلاً فلا يعذر بالجهل في فعل لشرك، لأن الله جل وعلا وضح الأمور وبينها، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك غاية البيان، والإنسان مقصر في كونه لا يطلب معرفة عبادة الله، وكيف يعبد الله، وكيف يوحده، فالتقصير من قبله واللوم عليه. ......
تأثير الاسم على المسمى(6/271)
السؤال: هل للأسماء تأثير في المسميات؟ وهل اعتقاد هذا يكون من الطيرة؟ الجواب: أسماء المخلوقين أعلام فقط ليس لها معنى غير ذلك، يعني: أنها وضعت علامة تميز هذا عن هذا، وليس لها تأثير، وإنما التأثير بالأعمال، فمن عمل مثقال ذرة من خير جزي به، ومن عمل مثقال ذرة من شر يجزى به، فالتأثير للأعمال وليست للأسماء، ولكن أمر الإنسان أن يحسن اختيار الاسم، وروي في حديث: (إن خير الأسماء ما عبد أو حمد)، وهناك من الأسماء ما هو قبيح مثل: مرة، وحرب، وما أشبه ذلك، ولكن الاسم لا يؤثر على المسمى وإنما يؤثر عليه عمله. ......
الجن ذرية إبليس
السؤال: هل لإبليس ذريه؟ وكيف يكون ذلك؟ الجواب: نعم، وذريته هم الجن، الجن هم ذرية إبليس. ......
حكم الامتناع من السفر لرؤيا
السؤال: هل من التطير إذا رأى الإنسان شيئاً يكرهه في منامه أن يمتنع منه، مثل: أن يرى أنه يصاب بمكروه إذا سافر فامتنع من السفر؟ فهل هذه من الطيرة؟ الجواب: الرؤيا قد تكون حقاً، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون وساوس مما يزاوله الإنسان في حياته، فيرى في المنام ذلك لكثرة تلبس النفس بذلك واستغراقها فيه، فإذا نام يرى أنه يفعل ذلك الذي كان يزاوله، فهذه ليست رؤيا، ويعرض عنها الإنسان، وأما الرؤيا الصحيحة فهي أمثال يضربها الملك الموكل بالرؤية، وإذا رأى رؤيا على شيء قبيح فامتنع عن فعل شيء من الأشياء لا يكون هذا من الطيرة. ......
التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب(6/272)
السؤال: كيف نجمع بين صفة التوكل والأخذ بالأسباب بحيث لا يطغى هذا على هذا؟ الجواب: هذا سؤال عجيب، التوكل هو فعل الأسباب، ومن أعظم فعل الأسباب: التوكل، وليس معنى التوكل أن يجلس عن العمل ويقول: توكلت، فهذا يسمى عجزاً ولا يسمى توكلاً، ولكن التوكل أن يفعل السبب ويعتمد على ربه في حصول المقصود والمراد. أما بدون فعل السبب فهو عجز وتواكل، ولا يسمى توكلاً، وهذا واضح كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل). فأمر بالحرص على فعل الخير وعدم العجز، لأن ترك الأسباب عجز، وليس معنى ذلك أن يعتمد على السبب، ولكن الله جل وعلا جعل للأمور أسباباً، وقد يتخلص المسبب عن وجود السبب مع تمامه إذا أراد الله. إذاً: التوكل ليس فيه منافاة لفعل السبب، بل فيه ارتباط كامل. ......
الشؤم في الأعمال لا الذوات
السؤال: هل في السيارات شؤم، وهل يجوز أن يقول الإنسان: أتشاءم من مدينة كذا؟ الجواب: ليس في ذلك شؤم، لا في السيارات ولا في غيرها، ولكن هذا شيء يقع في النفس، وإذا وقع في نفس الإنسان شيء من هذا فينبغي أن يخلص نفسه منه، وإلا سبق أن قلنا: إن الشؤم في الأعمال وليس في الذوات، فالذوات ليس فيها شؤم، ولكن العمل قد يجذب الإنسان إليه، ويجعله محبوباً مطلوباً، وإذا كان العمل شريراً صار بعكس ذلك، فالأمور بالأعمال وليست بالذوات. ......
حقيقة كفر فرعون(6/273)
السؤال: هل فرعون -عليه لعنة الله- كان يعتقد أنه هو رب السماوات والأرض والمدبر أم هو السلطان والحاكم والسيد؟ الجواب: فرعون كان متكبراً متجبراً، جاحداً للحق الظاهر الجلي، وإلا فإنه في قرارة نفسه قد استيقن أن موسى رسول الله، وأنه جاء بالحق كما قال الله جل وعلا عنه وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، ولما رأى الموت والغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] عند ذلك قال له الملك: (آلآن) يعني: لا يفيدك هذا، لما ذهب سلطانك ورأيت أنه أحيط بك أقررت ورجعت! هذا لا يفيد، تقر وترجع الآن هذا ما يفيد، وفرعون يعلم أن الله هو رب السماوات، وأنه هو الحق الذي يجب أن يعبد، ولكن سلطانه وكبره منعه من ذلك. ......
رؤية الجن
السؤال: فضيلة الشيخ: يقال: إن بعض الناس أعينهم كاشفة، أي: أنهم يرون الجن والشياطين، فهل هذا صحيح؟ الجواب: ليس هذا صحيحاً، فهم لا يرونهم، ولكن الجن والشياطين قد يتراءون ويظهرون لبعض الناس، كما أن الملائكة قد تظهر لبعض الناس، والملائكة تظهر لكل واحد عند الموت، وكل منا إذا حضره الموت سوف يرى الملائكة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يعاين) يعني: يعاين ملائكة الموت، والله جل وعلا يقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] هذا عند الموت. يعني: ينزلون يبشرونه ويخاطبونه ويراهم، وكذلك ورد في آيات أخرى. ......
حكم قراءة القرآن للجنب
السؤال: هل يجوز لمن عليه جنابة أن يقرأ آية الكرسي قبل أن ينام؟ الجواب: لا يقرأ القرآن، ولكن يغتسل ثم يقرأ. ......
تفسير الرؤى والأحلام(6/274)
السؤال: هل قراءة كتب تفسير الأحلام وتصديقها، وتصديق الأشخاص الذين يؤولون الأحلام من التطير إذا رأى شراً؟ الجواب: ليس كذلك، فالأحلام كما قلنا: أمثال يضربها الملك إذا كانت صحيحة، والأحلام أقسام ثلاثة كما سبقت الإشارة إليها، فإذا كانت الرؤيا صحيحة فهي تقع، وإذا فسرت على الوجه الصحيح وقعت، وهي المبشرات التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون مبشرة، وقد تكون منذرة. ......
إضافة الخير أو الشر إلى النجوم شرك أكبر
السؤال: فضيلة الشيخ: هل قولهم: (إذا ولد مع النجم الفلاني يكون له كذا وكذا) من الشرك الأصغر؟ الجواب: إذا أضاف الخير أو الشر إلى النجم واعتقد أن له تأثيراً في ذلك، وأنه مؤثر فليس هذا من الشرك الأصغر، بل هو من الشرك الأكبر؛ لأنه جعل التصرف للنجم في الإسعاد والشقاء أو الخير والضر. ......
استراق الجن للسمع
السؤال: هل في قول الله جل وعلا في الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8] هل هذا كان في زمن البعثة فقط أم هو مستمر إلى الآن؟ الجواب: قولهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ [الجن:8]. ليس معنا (لمسنا السماء) أننا مسكناها بالفعل، بل ذهبنا إلى الفوق إلى السحاب ونحوه فوجدناها مملوءة حرساً وشهباً، يعني: ما استطعنا، ولم يعد الأمر كالعادة التي سبقت، فهم ما استطاعوا أن يصلوا إلى هذا الاستراق في زمن الوحي؛ لأن الله جل وعلا حرس السماء حراسة شديدة، فأصبح الشيطان لا يستطيع أن يذهب إلى جهة السماء إلا ويأتيه شهاب يقتله صيانة أن يحدث شيئاً من استراق السمع مما يوحيه الله جل وعلا إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيكون في ذلك فتنة للناس أو تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم. ......
كروية الأرض ودورانها(6/275)
السؤال: هل الأرض تدور وهل هي كروية؟ الجواب: أما كونها كروية فلا شك فيه؛ لأن الشمس في السماء دائماً، والسماء فوق الأرض دائماً، وهي تغيب في الأرض فقط. أما كونها تدور فالعلم عند الله، وإن كانت تدور فهذا من قدرة الله جل وعلا وإتقانه، وإن كانت لا تدور فليس طلب ذلك والبحث عنه من الأمور الذي تهمنا في ديننا. ......
كذب المنجمون ولو صدقوا
السؤال: فضيلة الشيخ: هل هذا حديث: (كذب المنجمون ولو صدقوا) ؟ الجواب: لا، ليس بحديث، فالمنجمون كذبة، ولا يمكن أن يصدقوا؛ لأنهم لا يصدقون، إلا أنه قد يوافق قولهم قدراً فلا يكون ذلك دليلاً على صدقهم، ولكنه وقع كما تقع أخبار غيرهم التي تكون في المستقبل، والتي يسميها الناس اليوم التنبؤ، فإن هذا أيضاً لا يجوز، وكلمة (تنبؤ) مأخوذة من الإملاء فيما يستقبل ويأتي، وهذا لا يكون إلا لنبي، وكون الإنسان يدعي أنه نبي أو أن عنده شيئاً من خصائص النبوة من أعظم الفرية على الله جل وعلا، وعلى كل حال فهذا ليس صحيحاً. ......
التحذير من إتيان الكهنة والعرافين والمنجمين ونحوهم
السؤال: كيف نحذر الأمة من المنجمين والكهنة والعرافين والناس مقبلون عليهم؟ الجواب: هؤلاء الناس الذين يقدمون عليهم لا يعرفون حكم ذلك أو أنهم لا يبالون، فيجب أن ينبهوا، والحمد لله فالناس الذين يعرفونهم ويعرفون أن هذا من المحرمات لا يقدمون عليهم، ومع ذلك يجب على الذي يعرف شيئاً من ذلك أن يحذر إخوانه من الذهاب إلى المنجمين والكهنة والعرافين والسحرة. ......
حكم إضافة الحر والبرد للنجوم
السؤال: قولهم: هذا النجم يأتي بالحر، وهذا يأتي بالبرد ما صحة ذلك؟ وما حكمه؟ الجواب: هذا غير صحيح ولا يجوز، فالنجم لا يأتي بشيء، لا يأتي بالحر ولا بالبرد. ......
القرآن كلام الله(6/276)
السؤال: القرآن الكريم كلام الله محفوظ في صدور المؤمنين، فهل يفهم من ذلك: أن بعض صفات الله تدخل في المخلوق؟ الجواب: ليس كذلك، فالقرآن محفوظ، والكلام معنى غير الصفة القائمة، والصفة لا تكون إلا بالموصوف، وإذا تكلم الإنسان بالكلام فهذا معروف، حتى كلام الناس يتناقلونه وليس هو صفة فيهم، بل هو صفة لمن صدر منه، فمن قاله فهو صفته، فالإنسان مثلاً لو حفظ شعر امرؤ القيس فهل يكون صفة له أو تكون صفة امرؤ القيس دخلت فيه؟ لا هذا ولا هذا أبداً، وإنما حفظ كلاماً قاله امرؤ القيس أو غيره، والكلام له وضع، وغيره من الصفات لها وضع. ......
الفرق بين الدخول والحلول
السؤال: هل هناك فرق بين الدخول والحلول؟ الجواب: الدخول هو الحلول، لكن إذا حل الشيء فمعناه أنه لازمه. ......
النية في ترك الواجب
السؤال: ما حكم من بيت النية من الليل على ألا يصلي الفجر مع الجماعة، ويريد أن يصلي عند الاستيقاظ من النوم والذهاب إلى العمل؟ الجواب: هذا من أعظم المحرمات؛ لأن الصلاة في جماعة واجبة، وعلى الإنسان أن ينوي الخير ويعزم عليه ويفعله، ولا يعزم على المعصية، ونية المعصية ذنب يعاقب عليه الإنسان. ......
التردد أو الاطمئنان في السفر ليس من التطير
السؤال: بعض الناس يقول: حينما أريد سفراً أجد في نفسي شيئاً يردني عن هذا السفر أو أرتاح فهل هذا من التطير؟ الجواب: لا، مثل هذا يستخير ويصلي ركعتين، ويسأل ربه الخيرة، ويفتح الله جل وعلا عليه إذا شاء. ......
مس العورة من وراء حائل
السؤال: من مس عورته فوق اللباس هل ينتقض وضوؤه؟ الجواب: لا ينتقض إلا إذا باشرها مباشرة.......
التصديق بالسحر غير التصديق بوجوده(6/277)
السؤال: قوله: (مصدقاً بالسحرة) خلاف التصديق بأن السحر حقيقة، كيف يمكن الجمع بينهما؟ الجواب: المقصود: يصدق بالسحر الذي يعمل به، ويذهب إلى الساحر ويأخذ عنه، ويطلب منه أن يعمل له العمل وما أشبه ذلك، أما كونه يصدق بوجوده فهذه أمور ظاهرة، والتصديق بالشيء هو فعله وعمله. ......
معنى قول العلماء: (إن الله لا يخلف وعده ويجوز أن يخلف وعيده)
السؤال: ما معنى قول بعض العلماء: إن الله لا يخلف الوعد ويخلف الوعيد؟ الجواب: يقولون: إن الله لا يخلف وعده، ويجوز أن يخلف وعيده؛ هذا قول لبعضهم. وأما الوعد فبالاتفاق: أن الله لا يخلف الميعاد، وقد جاء خبر الله به كثيراً، إذا وعد جل وعلا بشيء فلابد من وقوعه، ولكن الوعيد الذي هو التعذيب والتهديد يجوز ألا يقع؛ لأن الله جل وعلا خاطبنا بلغة العرب، والعرب يتمدحون ويفتخرون بإخلاف الوعيد، كما قال الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف ميعادي ومنجز موعدي يفتخر بأنه يخلف تهديده وإيعاده؛ لأنه إذا كان قادراً على الوفاء بوعيده ثم عفا فهذا فخر، وهذا ولا شك أفضل من كونه يعذبه مع القدرة، فالعفو مع القدرة هو من تمام التصرف والحلم والكرم. ومن العلماء من يقول: لا يجوز أن يقال: إنه يخلف وعيده، ولا يخلف وعده؛ لأن هذا فيه نظر، فإذا أخبر الله جل وعلا بشيء فهو أصدق القائلين تعالى وتقدس، وسيقع لا محالة. ......
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة مدمن خمر)
السؤال: فضيلة الشيخ: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة مدمن الخمر)، لو قلنا: إنه لا يدخل الجنة أولاً، فهل هذا من التأويل؟ الجواب: نعم هذا من التأويل. ......
الاستسقاء بالأنواء(6/278)
السؤال: متى يكون الاستسقاء بالأنواء شركاً أكبر؟ ومتى يكون أصغر مع مزيد من التوضيح؟ الجواب: إذا زعم أن الكوكب سبب في نزول المطر أو أنه هو الذي أوجد المطر، فهذا شرك أكبر. أما إذا كان مجرد نسبة قال: مطرنا بنوء كذا. ونسب نزول المطر لخروج الكوكب مجرد نسبة لفظية، فهذا من الشرك الأصغر، من شرك الألفاظ. ......
الحدس ليس من ادعاء علم الغيب
السؤال: الذي يرى سحاباً وغيوماً في الليل ويقول: غداً يكون مطر؟ الجواب: هذا حدس، ولكن يقول: يمكن أن ينزل المطر في الغد؛ لأن من أسباب المطر وجود السحاب والغمام، أما أنه يجزم فهذا غير صحيح، وأما ما يسمع في نشرة الأخبار من أحوال الطقس؛ فهذا أمر تقريبي مبني على أمور حسية، ولا جزم في ذلك؛ ولهذا يتخلف كثيراً عن قولهم، فهي استدلالات لمقدمات يرونها بالرصد من الجو والسحاب وغيرها. ......
كتاب: مسائل الجاهلية
السؤال: ما هو الكتاب الذي صنفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فيما خالف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية؟ الجواب: الكتاب هو: مسائل الجاهلية، وقد شرحه محمود الآلوسي ، وزاد عليه مسائل أخرى وهو موجود مطبوع. ......
النهي عن النياحة
السؤال: هل يأثم من لم ينح ولكنه استمع إلى النائحة؟ الجواب: إذا استمع ولم ينكر عليها، أو رضي بفعلها فهو آثم. ......
سبب اختلاف ألفاظ الأحاديث القدسية
السؤال: قلتم: إن الحديث القدسي لفظه من الله، فكيف هذا ونحن نجد في الحديث روايتين أو ثلاث؟ الجواب: هذا من اختلاف الرواة، فكل واحد يعبر بلفظ آخر، أو يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عدة مرات، فيتكلم به في كل مرة بلفظ آخر يكون مرادفاً للأول، وهذا لا مانع منه. ......
حكم نسبة الظواهر الطبيعية إلى غير الله(6/279)
السؤال: هل على طالب العلم الذي يدرس الظواهر الكونية أن ينسب الظاهرة إلى سبب من الأسباب الحسية دون نسبته لله مع اعتقاده أنها من الله؟ الجواب: لا ينسب إلا إلى لله جل وعلا، فجميع الحوادث تنسب إلى الله، فهو الذي أحدثها وأوجدها وسخرها. ......
قول أهل السنة في القرآن: (منه بدأ وإليه يعود)
السؤال: هل قولهم: (منه بدأ وإليه يعود) حديث؟ الجواب: ليس بحديث، بل هذا قول أهل السنة والجماعة في كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وذكرنا أن المقصود معنيين: إما أنهم يقصدون: إليه يعود، فهو منه بدأ، ويقصدون رفعه آخر الزمن كما جاء في الحديث، أو يقصدون أنه صفة، وكلاهما صحيح. ......
قول: الله ورسوله أعلم
السؤال: ذكرتم أنه يجوز قول: (الله ورسوله أعلم) إن كان الأمر من أمور الدين، فهل هناك ضابط في معرفة هل هذا من أمر الدين أومن غيره؟ الجواب: الأحكام الشرعية لها حكم، وأفعال المكلفين كلها لها حكم، وكل فعل يفعله المكلف له حكم، من بيع وشراء، وقول ومعاملة وعمل وغير ذلك. ......
من شرك الألفاظ قول: (لولا فلان..)
السؤال: فضيلة الشيخ: قول المسلم: لولا فلان أنقذني لغرقت. هل يعتبر شرك أصغر؟ الجواب: هذا من شرك الألفاظ التي لا ينبغي أن تقال، والأولى أن يقال: لولا الله ثم فلان. ......
حديث: (لولا أنا لكان في ضحضاح من النار)(6/280)
السؤال: كيف يمكن الجمع بين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أنا لكان في ضحضاح من النار) والنهي عن قول: (لو)؟ الجواب: سبق أن قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الأحكام التي يأمر بها، وأن (لو) تأتي على صفتين: الأولى: أما أن يعترض بها على الشيء الواقع ويقال: لولا كذا لكان كذا، فهذا من باب الاعتراض؛ ولأنه يجعل السبب الذي تخلف هو الذي يمكن أن يحول بين هذا الواقع ووجوده، وهذا منهي عنه لا يجوز. أو يكون ذلك لبيان حكم من الأحكام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، ولو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) وما أشبه ذلك. فهذا في بيان أحكام وليس فيها اعتراض، وإنما المنهي عنه الاعتراض. ......
قتل من سب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
السؤال: ما الدليل على أن من سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يقتل؟ الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالذين يسبون أن يقتلوا، ولم يقل: إن أسلموا يتركوا، بل قال: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة). ......
ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
السؤال: كيف تكون المصيبة من الله؟ وكيف تكون من النفس؟ الجواب: كل الحوادث من الله، ولكنها تكون جزاء لأفعال العباد، فالله يجزيهم على أفعالهم: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]؛ لهذا يقول: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]. ......
حكم قراءة الحائض للقرآن
السؤال: إذا كانت المرآة حائضاً وهي حافظة للقرآن، وتخشى أن تنسى القرآن، فهل يجوز لها أن تقرأ القرآن؟ الجواب: الحيض غالباً يكون من ثلاثة إلى سبعة أيام، وهذا وقت يسير لا تنسى فيه. ......
هل قولهم: (إن نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة) من الإسرائيليات؟(6/281)
السؤال: قولهم: إن نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة من الإسرائيليات، ما صحة هذا القول؟ الجواب: صح عن ابن عباس أنه قال ذلك، ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فإذا جاء مثل هذا فله حكم المرفوع. ......
كتاب مدارج السالكين شرح منازل السائرين
السؤال: من هو صاحب شرح المنازل؟ الجواب: شارح المنازل هو ابن القيم ، والمقصود بشرح المنازل: مدارج السالكين؛ لأن الكتاب اسمه: مدارج السالكين شرح منازل السائرين. ......
علامة المحبة الصحيحة لله سبحانه
السؤال: ما هي علامات المحبة الصحيحة لله تعالى؟ الجواب: علامتها اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ......
حكم مس المصحف بغير وضوء
السؤال: ما حكم مس المصحف والقراءة منه على غير وضوء؟ الجواب: لا يجوز، ويجب أن يكون الإنسان متطهراً إذا أراد أن يقرأ من المصحف، ولا يجوز حمله لمن لا يكون متوضئاً إلا من وراء حائل. ......
الأمور التي يجب على المسلم معرفتها في الإسلام(6/282)
السؤال: هل المسلم مطالب بمعرفة الله ورسوله ودينه بلا أدلة أم لابد من معرفة الأدلة؟ الجواب: إذا كان يريد الأدلة التفصيلية فهذا من شأن العلماء، أما في الجملة، وكونه يعرف أن الله هو الخالق المدبر لكل شيء، ويستدل على ذلك بالمخلوقات وبنفسه وبما حوله من آيات الله فهذا لابد منه، وكذلك يعرف أن رسوله صلى الله عليه وسلم حق، ويعرف دينه وأنه حق، وأنه جاء به من عند الله. يعني: هذا في الجملة لابد منها، وهذه المسائل التي يسأل عنها الإنسان في قبره: يسأل عن ربه، وعن دينه ونبيه صلى الله عليه وسلم. أما أن يعرف الأدلة بالتفصيل والدقة فهذا لا يكلف به، ولا يكلف الإنسان مالا يطيقه، وهذا شأن العلماء، فهم الذين يعرفون هذه الأشياء، أما عوام المسلمين إذا بقوا مؤمنين في الجملة، واتبعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واجتنبوا نهيه في الجملة، وإن لم يكن عندهم الإيمان اليقيني، وستر الله عليهم، وماتوا على ذلك؛ فإنهم يكونون من أهل الجنة، وإن كان أحدهم إن جاءه من يشككه قد يشك؛ لأنه ليس عنده اليقين والأدلة التي يدفع بها الشكوك، ولكن كون الإنسان يكلف بالشيء الذي لا يعرفه إلا العلماء فهذا ليس من دين الإسلام. ......
الفرق بين محبة الله ومحبة الرسول(6/283)
السؤال: لم يتضح لي الفرق بين محبة الله ومحبة رسوله، وما حد محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل هناك مانع من أن يحب لذاته؟ الجواب: هذا سؤال جيد، محبة الله جل وعلا محبة عبادة، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحب محبة العبادة. يعني: محبة خضوع وذل وتعظيم، فهذه محبة عبودية، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فيحب؛ لأنه حبيب لله جل وعلا، ومحبته تابعة لمحبة الله، وليست معها، ولا يشارك الله جل وعلا في الحب لا مع الرسول ولا مع غير الرسول. ولهذا قلنا: إن الذي يحب لذاته فقط هو الله، وليس في الوجود من يحب لذاته إلا الله، أما غيره فيحب لوصفه، فالرسول يحب لأنه رسول؛ ولأنه يحب الله؛ ولأن الله يحبه؛ ولأن الله أمر بحبه. إذاً: محبته لا تكون محبة ذل وخضوع وتعظيم وعبودية؛ لأن هذه المحبة لا تكون إلا لله جل وعلا، ويجب أن تكون خالصة له. وهكذا إذا أحببت عبداً من عباد الله فتحبه لأجل طاعته فقط، وعلامة هذه المحبة إذا أحببته لله أنها لا تنقص بالجفاء، فلو جفاك مثلاً وصار لا يزورك، ولا يتصل بك، لا تنقص ما دام أنه مطيع، ولا تزيد بالصلة لو وصلك، أما إذا كانت تنقص بذلك وتزيد فهذه محبة لغير الله. ......
علامات يعرف بها تقديم حب النبي صلى الله عليه وسلم على حب النفس(6/284)
السؤال: كيف يعرف الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين؟ الجواب: هذا يعرف بشعور الإنسان، لا بد أن يكون عنده من الشعور ما يميز به ذلك، فإذا قدم طاعة أحد من الخلق على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا علامة على أنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قدم حبه لأطاعه بامتثال أمره، وقدمها على كل أحد، وعلى كل منفعة من منافع الدنيا. والله يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، والعلماء جعلوا هذه العلامة علامة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتباعه صلوات الله وسلامه عليه، والعلامة ظاهرة. ......
الحدس في نزول المطر ليس من الاستسقاء بالنجوم
السؤال: هل من الاستسقاء بالأنواء قول الرجل: لقد اعتزم نزول المطر في شهر كذا مع اعتقاده أن المنزل هو الله؟ الجواب: لا، هذا ليس منه، إذا قال: نزل المطر في الشهر الفلاني أوفي اليوم الفلاني أو مطرنا في الشهر الفلاني أو مطرنا في اليوم الفلاني أوفي الأسبوع الفلاني كذا، فهذا ليس من الاستسقاء بالأنواء؛ لأنه يخبر أن نزول المطر كان في هذا الظرف في هذا الشهر أوفي هذا اليوم. وسبق أن قلنا: إن الاستسقاء بالأنواء هو قول العرب: (مطرنا بنوء كذا) والباء هنا لا تصلح أن تكون سببية ولا مصاحبة، ولا تكون لمعنى من المعاني إلا أنها إضافة سبب إلى هذا القول، فلهذا فهو شرك، أما إذا جاءت الفاء فقيل: في الشهر الفلاني أو في اليوم الفلاني أو في طلوع النجم الفلاني؛ فإن هذا لا يدخل في هذا. ......
سبب إنكار المتكلمين صفة المحبة(6/285)
السؤال: ما هو سبب إنكار المتكلمين صفة المحبة لله تعالى؟ الجواب: السبب في هذا أنهم تركوا كتاب الله وسنة رسوله، وأخذوا بعقولهم وأهوائهم؛ فأصبحوا يقيسون الله جل وعلا على خلقه، فقالوا: نجد المحبة فينا كالميل إلى الملائم. يعني: إذا أحب الإنسان شيئاً فهو يحبه لميله إليه، وهذا فيه حاجة، فإذا أثبتنا المحبة لله لزم من ذلك أن نثبت له حاجة، والله يتعالى ويتقدس أن يكون كذلك، فزعموا أن هذا هو أصل إنكارهم؛ لئلا يشبهوا الله جل وعلا. المسألة في الواقع أنهم فروا من شيء زعموه، ووقعوا فيما هو شر منه، ومعلوم أن صفات الله جل وعلا لا تشبه صفة المخلوقين، فإذا أحب عباده فليس لأنه يحتاج إليهم، وليس لأنه جل وعلا بحاجة إلى خلقه، فهذا من إحسانه وكرمه، وصفته سبحانه لا تشبه صفة المخلوقين، كما أن ذاته جل وعلا لا تشبه ذوات المخلوقين. ......
ترك الواجبات وفعل المحرمات من الكبائر
السؤال: هل كل من ارتكب معصية تخالف أمره صلى الله عليه وسلم يعد من أصحاب الكبائر؟ الجواب: كل من خالف الأمر الواجب أو ارتكب ما نهي عنه نهياً محرماً، فإنه يكون من أصحاب الكبائر، ولكن الإنسان قد يتوب، وقد يأتي بأعمال تكفر عنه هذا الشيء، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما أخبر الله جل وعلا، فلا يلزم من وقوعه في شيء من ذلك أنه يتبعه أثره. ......
حكم الاحتفال بالمولد النبوي(6/286)
السؤال: بعض الناس يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يحتفلون بمولده فهل لهذا أصل؟ الجواب: أما الدعوى فلا تفيد، وسبق أن ذكرنا أن الدليل على المحبة: اتباع السنة، أما إذا جاءت مخالفة للسنة وإن كانت عادة، وزعم أنه يحبه أكثر من غيره، أو أنه يحبه؛ فهذه دعوى، والناس لا يعطون بدعاويهم، بل يجب أن تكون الدعوى عليها برهان، والبرهان هنا هو هذا الاتباع: قل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدليل على طاعته، والمولد لم يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله ولا أصحابه، فهو من البدع. ......
مدى صحة حديث: (أول ما خلق الله نور نبيك)
السؤال: حديث: (أول ما خلق الله نور نبيك) رواه عبد الرزاق في كتابه، فهل هو صحيح؟ الجواب: هذا حديث موضوع. ......
حقيقة الإسلام
السؤال: ذكرت أن الإسلام هو الانقياد والطاعة وعدم معارضته، وأن الإنسان إذا لم ينقاد وعارض فليس بمسلم، فهل الذي يعمل المعاصي يكون غير مسلم وذلك لأنه لم ينقد لأمر الله؟ الجواب: الذي لم يفعل الواجبات التي أوجبها الله، ولم يصل ولم يزك، ولا يصوم ولا يحج، فهذا ليس بمسلم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) فإذا لم يعمل هذه الأعمال فهو ليس بمسلم، فمعنى الإسلام هو: الطاعة لله جل وعلا في هذه الأمور، والانقياد له، وعدم الاعتراض عليه في هذه الأوامر. فإذا وجد الامتناع وعدم الانقياد فإنه لا يكون مسلماً، أما إذا فعل أشياء وترك شيئاً فهذا يصبح من أصحاب الكبائر كما مر. ......
الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء(6/287)
السؤال: ما صحة قول من قال: إن الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء خلاف لفظي؟ الجواب: ذكرنا السبب الذي بينهم جعلهم يقولون: إن الخلاف لفظي، وهو أنهم نظروا إلى النتائج والحقائق، فما دام أنهم يقولون: الأعمال واجبة، وهي من مقتضى الإيمان، ومن تركها فهو معرض للعقاب، فالنتيجة واحدة. ......
سبب تقديم الظالم لنفسه على السابق بالخيرات في الآية
السؤال: لم قدم الله تعالى الظالم لنفسه في الآيات على السابق بالخيرات؟ الجواب: قدم -والله أعلم- لأجل الكثرة، والعلم عند الله جل وعلا. ......
مناط الإيمان والكفر هو القلب
السؤال: يقول بعض الناس: إن مناط الإيمان والكفر هو القلب، فهل هذا صحيح؟ الجواب: الأصل هو القلب، ولكن القلب لابد وأن يبعث الجوارح؛ لأن القلب هو ملك الجوارح؛ فإذا تحلى بالشيء لابد أن تمتثل جنوده -الجوارح- لأوامره، أما أن يكون القلب في شيء والجوارح مخالفة لذلك فهذا ممتنع لا وجود له. ......
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
السؤال: يقول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] هل هؤلاء يدخلون الجنة؟ الجواب: نعم، بلا شك، وهذا نص الآية. ......
الفرق بين محبة الله ومحبة الولد(6/288)
السؤال: كيف نوفق بين قول الله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، رغم أن بياض العينين من الحزن يلزم منه شدة الحزن التي هي أقوى من مجرد الحزن فقط؟ الجواب: أقول هذا ليس فيه معارضة حتى نحتاج إلى التوفيق، كون الإنسان يحب ولده هذا شيء لا يمكن أن يتخلى عنه أبداً، وقد يتضاعف حبه لما يكون متصفاً به، وليس معنى ذلك أنه يحبه كمحبة الله أو قريب من ذلك، لا أبداً، وأصلاً لا معارضة حتى نحتاج إلى الجمع، فمحبة الله محبة عبودية كما سبق، وهذه محبة شفقة وحنان، وسبق أن قسمنا المحبة إلى قسمين: - محبة مشتركة وهي أنواع. - ومحبة خاصة يجب أن تكون لله، وهي محبة العبودية والذل والخضوع والتعظيم، وهذا لا يجوز أن يكون لغير الله أصلاً، ولا تكون محبة الولد بهذه المثابة، ولا قريب من ذلك. ......
من علامات الإيمان: حصول اللذة والمتعة في العبادة
السؤال: هل يفهم من كلام ابن القيم رحمه الله أن في الدنيا جنتان، وأن الذي لا يجد حلاوة الإيمان لا يدخل الجنة؟ الجواب: نعم، هو يقول: (في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة) ومقصوده جنة الإيمان والطاعة ولذتها، فالإنسان الذي يصلي ولا يعرف معنى الصلاة، ولا يعرف معنى الإيمان، هذا يصلي لأجل غرض ما. أما إذا كان يدعوه إيمانه إلى فعل الطاعة فإنه يجد الحلاوة واللذة، ولكن الحلاوة تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً، وإذا فاته شيء من الطاعة، يجد أن قلبه يؤنبه، ونفسه تؤنبه، ويجد نفسه خسر فيحزن لذلك، فهذا من علامة الإيمان، ولكن الناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً كما هو معروف. ......
أولو العزم من الرسل(6/289)
السؤال: ذكر الله سبحانه أولو العزم، ومنهم نوح عليهم السلام، فمن هم أولو العزم، وما معنى أولو العزم؟ الجواب: أولو العزم من الرسل من نصت عليهم الآية، والقرآن أشار إلى أنهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، واستدلوا بهذا بجمع في آيتين من القرآن، آية الأحزاب، وآية الشورى، فجمعوا هؤلاء، والله قال لنبيه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] وقالوا: إن آدم عليه السلام ليس من أولي العزم لقول الله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، فأخرجوه من ذلك لهذا السبب. أما أن نقول: إن هناك نصاً بأن أولي العزم فلان وفلان فلم يأتِ. ......
معنى حديث: (بئس الخطيب أنت)
السؤال: قوله عليه الصلاة والسلام: (بئس الخطيب أنت) يستدل به البعض على جواز التشنيع والذم للمصلح إذا ظهر خطؤه وبان؟ الجواب: هذا قاله له في وجهه للتأديب، واستدلوا به على التأديب، أن يؤدب الإنسان ويعلم بخطئه حتى يتأدب، أما التشنيع فلا. ......
الفرق بين المودة والموالاة
السؤال: هل هناك فرق بين المودة والموالاة بالنسبة للكافرين؟ الجواب: نعم، الموالاة كفر بالله جل وعلا: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] ، أما المودة فقد تزيد وقد تنقص، وقد تؤدي إلى العمل وقد لا تؤدي، والمودة في القلب، وتظهر آثارها على الأفعال. ......
نصيحة تارك الصلاة والمتهاون بها(6/290)
السؤال: هل يسلم على من لا يصلي أم يقاطع؟ الجواب: الذي لا يصلي يجب أن يدعى إلى الله، ويذكر بالله ويخوف، وأما المقاطعة النهائية فلا تصلح إلا إذا تبين أنه لا فائدة من كلامه ودعوته، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو رؤساء الكفرة الصناديد فيقول لأحدهم: يا أبا فلان! ويكنيه بكنيته، يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى تلا عليه شيئاً من القرآن، فإن قال: لا حاجة لي في ذلك تركه. وهذا كان في مكة لما كانت السيطرة للكفار، فإذا كان للإنسان قريب أو صديق أو من يعرفه وهو لا يصلي فينبغي أن يحاول بكل ما يستطيع أن يوجد في قلبه باعثاً على الصلاة بالتخويف والنصيحة، وبالوسيلة التي يرى أنها مناسبة، والوسائل المناسبة تختلف باختلاف الناس، واختلاف المقامات، فلا يقابله بالمعاداة وإظهار البغضاء إلا إذا رأى أنه لا فائدة فيه، ولا يلزم كونه ينصحه ويكون كلامه بالرق أن يكون هذا فيه مودة له، فالمودة في القلب وهذه دعوة، الله عز وجل أمر كليمه وأخاه هارون أن يقولا لأشر الناس: قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فامتثل موسى وقال له: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:18] (هل لك): يعرض عليه عرضاً رقيقاً، ويقول: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19] يقول: أصير دليلاً لك حتى ترى الطريق الذي فيه خشية الله وسعادته، ولكن إذا جاء العناد والتكبر ورد الحق والمكابرة فيكون مقاماً آخر؛ ولهذا لما قال له في مقام آخر: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا [الإسراء:101] قال له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102] يعني: رد عليه الرد المناسب في المقام المناسب ، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون على هذه الصفة. فإذا كانت الدعوة بالكلام اللين(6/291)
يجدي وينفع فهو أولى وأحسن، ثم ينبغي أن يكون أمام الإنسان شيء دائماً وهو أن تكون أعماله لله جل وعلا، يقصد بها وجه الله، ثم يكون عنده رحمة للخلق، فهذا المسكين الذي سوّل له الشيطان وغره يرحمه أن يقع في النار، ويحاول أن ينقذه، والمحاولة هذه طاعة لله جل وعلا، ودعوة إليه تعالى. ......
حكم مقابلة الكافر بالبشاشة
السؤال: لدي جار غير مسلم، وأقابله بالبشاشة وحسن الخلق، فهل هذا من الموالاة لغير الله؟ الجواب: لا يصلح أن تقابله بالبشاشة، أما حسن الخلق فشيء آخر، وحسن الخلق معناه: عدم الإساءة، وكف الأذى، فلا تؤذه، ولكن تبغضه وتكرهه، وتخبره أنك تبغضه لكفره، وتقول: أود أن تكون مسلماً حتى أودك أما بهذه الصفة فلا. ......
الوعيد الشديد لمن قدم حب الدنيا على حب الله
السؤال: هل من كانت هذه الأمور الثمانية المذكورة في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ [التوبة:24]الآية، أحب إليه من الله أو مساوية له مخرجة من الملة أم لا؟ الجواب: إن كانت أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، فهذا وعيد شديد مثلما قال الله: فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24] وأخبر أنه يكون من الفاسقين، والفاسق قد يكون كافراً، وقد يكون مرتكباً للكبائر، والفاسق هو الخارج عن الطاعة في اللغة، والناس يختلفون، ولكن لا يجوز أن تكون أحب إليه من الله، فإن كانت أحب إليه من الله فإما أن إيمانه ضعيف جداً لا فائدة في كونه يبعث على العمل، أو أنه معدوم لا يخلو من هذا أو هذا. ......
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه(6/292)
السؤال: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم..) كما في الحديث. قال الشارح: (المنفي هو الكمال الواجب)، فما هو الإيمان المستحب في حق الله وحق رسوله؟ الجواب: الإيمان الواجب هو الذي يمنع من العذاب، وإذا ترك الواجب فإنه يكون من أهل الكبائر, وهذا معناه: أن من لم يكن كذلك فهو من أهل الكبائر، والسبب في هذا أنه ترك الإيمان الواجب، ولا يلزم أن يكون ترك أصل الإيمان، بل يكون عنده أصل الإيمان الذي لا يخرجه من الدين الإسلامي، ولكنه ترك الإيمان الكامل الذي يمنع من العذاب، هذا الكمال الواجب. أما الكمال المستحب فشيء آخر، وهناك كمال واجب وكمال مستحب من الإيمان، والكمال المستحب هو فعل النوافل التي يحبها الله ورسوله. ......
حكم هجر المبتدع
السؤال: هل يجوز للمسلم أن يهجر المسلم فوق ثلاث لأنه مبتدع؟ الواجب: يجب أن يعلم أن الهجر علاج، إن كان العلاج به يجدي صير إليه وإلا فلا يصار إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم هجر هجراً أفاد، وهكذا غيره ممن يقتدى به، أما إذا كان الهجر يزيد من الشقة والخلاف والفرقة والابتعاد فإنه يكون غير مشروع، ولا يجوز أن يعمل ما يدعو إلى الشقاق. ثم هذا يختلف باختلاف الناس، فقد يكون الإنسان يقول: هذه بدعة، وهي ليست بدعة، وقد يختلفون في وجهة النظر، وليس كل ما قال فلان: هذا مبتدع أو هذه بدعة، تكون بدعة، بل البدعة مخالفة ما هو معروف مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرع، إما إذا خالفه إنسان في فهمه أوفي غير ذلك فيزعم أنه مبتدع فهذا لا يُسلم له. ......
لا تجد قوماً يؤمنون بالله يوادون من حاد الله ورسوله
السؤال: يقول الله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [المجادلة:22]، فهل هنا (لا يؤمنون) نفي للإيمان الكامل؟ الجواب: هنا نفي الإيمان الواجب، أما إذا كان كمال الاستحباب فلا، يعني: يعاقب عليه، وهو ترك الشيء المستحب فقط؛ لأن من ترك المستحب لا يعاقب عليه. ......(6/293)
حكم مجالسة أهل المعاصي لدعوتهم إلى الله
السؤال: هل من حرج على من يجالس أهل المعاصي بقصد الدعوة؟ الجواب: لا حرج في ذلك إذا كانت مجالستهم لا تؤثر في المُجالس، وإنما يدعوهم، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وأما كون الإنسان يجلس مع من يشرب الخمر فهذا لا يجوز، ومن يتعاطى هذه الأمور والمحرمات في المجالس لا يجوز الجلوس معه، فإما أن ينكر أو يترك. ......
أنواع الخوف
السؤال: فضيلة الشيخ: من أي أقسام الخوف هذه الآية: إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل:10]؟ الجواب: هذه من النوع الثاني الذي نزلت فيه الآية الكريمة كما قال: نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] يعني: فرعون معروف بجبروته وطغيانه، وكونه استبعد عباد الله فيقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، وادعى أنه هو ربهم. فالخوف من هذا القبيل، فأخبر جل وعلا أنه يحميه، وأن فرعون لا يفرط عليه ولا يطغى، ولهذا صار يكلمه حسب أمر الله له، أمره أن يقول له قولاً ليناً فقال له قولاً ليناً، قال: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:18]، وهل هنا يقصد بها العرض، فصار يعرض عليه حسب أمر الله: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19] يعني: أكون دليلاً لك إلى الخشية. هذا أول الأمر، فلما تمادى في الجبروت والغطرسة وقال: لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا [الإسراء:101] قال له بشيء يناسب ذلك: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102] ما خافه ولم يبال به؛ امتثالاً لأمر الله جل وعلا، وهو يقوم بالدعوة حسب أمر الله جل وعلا له. والمقصود أن هذا من هذه القضية، مثلما قال الناس لمحمد صلى الله عليه وسلم إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا(6/294)
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] وموسى عليه السلام كذلك. ......
الخوف على المستقبل
السؤال: المخاوف الغيبية كالخوف على مستقبل الأولاد من ناحية الرزق هل هذا يعد شركاً؟ الجواب: هذه ليست مخاوف، هذه كما أن الإنسان يخاف المقادير، والخوف يجعله يعود إلى الله جل وعلا، والإنسان له أن يفعل الأسباب التي أمره الله جل وعلا بها، ولكن لا يجوز له أن يرتكب في ذلك محرماً، فلا بأس ببذل السبب المأمور به من الأسباب، أما كونه إذا فرط ترك الأمور فهو ملوم بلا شك، وإذا وقع في أمر مخوف فهو السبب. ......
الأعمال التي توجب كمال الإيمان
السؤال: ما هي الأعمال التي تختص بكمال الإيمان المستحب؟ الجواب: الأعمال كثيرة، وكل ما أوجبه الله فهو من الإيمان، وكذلك كل أمر حرمه الله جل وعلا فتركه من الإيمان، وأعمال الإيمان الواجبة لا تنحصر فهي كثيرة جداً.......
عمارة المساجد عمارة حسية ومعنوية
السؤال: ذكرتم بأن المقصود من عمارة المسجد في الآية تشمل عمارة البناء أو الطاعة، وعلى هذا التفسير؛ فإن المشرك قد يكون عامراً لمسجد باعتبار البناء، فهل هذا يصلح؟ الجواب: نعم؛ ولكن عمله فاسد؛ لأنه ما بناه على الإخلاص وعلى طاعة الله، فهو مثلما قال: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39] وإن كان ظاهره وصورته أنه عمل صالح، ولكنه في الحقيقة فاسد لهذا السبب.......
ترك العمل بسبب الخوف
السؤال: هل الخوف الذي يجعل الإنسان يترك واجباً أو يفعل محرماً يعتبر شركاً؟ الجواب: نعم، يعتبر شركاً، ولكن هذا الشرك قد يكون من الشرك الأكبر، وقد يكون من الأصغر. ......
الفرق بين الخوف والخشية
السؤال: هل يوجد فرق بين الخوف والخشية؟ الجواب: الخشية من الخوف، هذا يفسر هذا، والخشية نوع من الخوف، والخشية أبلغ لأسباب ذكرها العلماء ولكنها من الخوف. ......
الأجر على المصيبة والصبر عليها(6/295)
السؤال: هل الأجر يكون على المصيبة أم على الصبر عليها؟ الجواب: يكون عليها وعلى الصبر، فهي تكفير للذنوب كما قال جل وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] يعني: كفارة، والصبر عليها والاحتساب أمر آخر أيضاً. ......
المكافأة على صنع المعروف
السؤال: كيف نكافئ الناس على صنع المعروف؟ الجواب: يكافئون بالمعروف؛ لأن المسلم لا يجوز أن يكون لأحد عليه منه، ويتعلق قلبه به، حتى لا يكون قلبه إلا لله وحده، فإذا صنع أحد إليه شيئاً فإنه يكافئه عليه، بل ينبغي أن يزيد على ذلك، سواءً بالعطاء والمال، وإن لم يستطع ذلك فبالدعاء حتى يرى أنه جازاه عن معروفه بالدعاء، يدعو له حتى يرى أنه كافأه، كما في الحديث الذي مر معنا: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه عليه فادعوا له حتى تروا -يعني: تظنوا- أنكم قد كافأتموه ). فإذاً: يكون بالمال إذا كان قدم لك شيئاً من المال، فأنت تعطيه مثل الذي أعطاك وأفضل، فيكون الفضل لك، فإن لم تستطع ذلك فتدعو، والدعاء أحسن من المال وأفضل. ......
الابتلاء بالمرض النفسي(6/296)
السؤال: هل المؤمن يبتلى بالمرض النفسي؟ الجواب: نعم، يؤتى على حسب ما عنده من الذنوب، والأمراض النفسية من العقاب، وغالباً قد تكون من الشيطان يسلط على الإنسان، ومن باب الابتلاء والامتحان، وعليه أن يصبر ويجاهد، لا أن يضعف ويستسلم ويصبح لا يستحق الكرامة والرفعة، وهذا من الابتلاء والامتحان، فالشيطان هو الذي يوسوس في النفوس، والأمراض تأتي من قبله، وأمراض الشك وأمراض الشبهات كلها من قبل الشيطان، وقد يحب الشهوات لمرض في قلبه، ولهذا ذكر الله جل وعلا أن مرض القلب أنواع: -منه مرض شبهة. -ومنه مرض شهوة. قال جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج:52-53]، هذا مرض الشبهة. أما مرض الشهوة فهو الذي ذكره الله جل وعلا حيث يقول: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، هذا مرض الشهوة. فالوسوسة من الشيطان، وقد يكون منها آلام في النفس، وأمور يضطرب الإنسان من أجلها، فإذا كان توكله على الله ضعيفاً يزداد، أما إذا لجأ إلى ربه واعتصم به، واستعاذ به من الشر والشكوك، ضعفت الشبهة، وطردها باليقين وبطلب العلم، وكذلك مرض الشهوة يلجأ العبد إلى ربه أن يعافيه منها، فتزول عنه بإذن الله ويعافى، ويكون بعد ذلك أحسن مما كان، فإنه ربما صحت الأبدان بالعلل، وكذلك القلوب. ......
التحذير من إرضاء المخلوق بسخط الخالق(6/297)
السؤال: من أرضى مخلوقاً بسخط الله سبحانه وتعالى: هل هذا من الشرك الأكبر؟ الجواب: لا يلزم أن يكون من الشرك الأكبر، وقول الله جل وعلا في الآية التي فيها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، وقوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة:31] إلى آخر الآية، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ليست عبادتهم بالسجود والإيمان بهم، وإنما هي طاعتهم في المعصية، إذا حللوا شيئاً من الحرام اتبعوهم أو حرموا شيئاً من الحلال اتبعوهم، فتكون هذه عبادتهم، فالذي يكون بهذه المثابة يطيع المخلوق في تحليل الحرام أو تحريم الحلال فقد عبده عبادة، ويكون شركاً أكبر، أما إذا كانت أقل من ذلك فيكون من الشرك الأصغر، والإنسان قد لا يسلم من هذا، والله المستعان. ......
حكم رد القرض النقدي بزيادة تكرماً
السؤال: إذا أقرضني رجل مالاً ثم رددته إليه، ووضعت له زيادة على ما أعطاني بدون طلب منه، هل في ذلك شيء؟ الجواب: هذه المسألة اختلف العلماء فيها، والصواب أنه لا يجوز أن يزيده في النقود، بخلاف ما إذا كان غير نقود، إذا أقرضه شيئاً آخر من الأثاث أومن غيره فزاده فلا بأس، وقد جاء (أن الرسول صلى الله عليه وسلم استسلف بكرة، فجاء صاحبه يطلب الوفاء، فقال: أعطوه بكرة فقالوا: لم نجد إلا جذعاً. يعني: كبيراً فقال: أعطوه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً). أما الزيادة في النقود فإنها من الربا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) فلا يجوز أن يكون ذلك بالنقود. ......
المصيبة في الدين(6/298)
السؤال: المصيبة في الدين -نسأل الله العافية- مثل ماذا؟ الجواب: كثيرة، فقد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، وقد تجد إنساناً إذا أصيب بمصيبة ظاهرة كمرض أو فقد مال أو ما أشبه ذلك تسخط وقال: أنا لا أستحق هذا، وهذا في الواقع مصيبة في الدين، بخلاف ما إذا حمد الله ورضي وقال: هذا قدر الله، والحمد لله، كل ما قدر الله خير، فإنه يزداد خيراً، وربما يعوضه الله أكثر مما فقد، وهذا مثال فقط، وإلا فهي أمور كثيرة. ......
ما نزلت مصيبة إلا بذنب وما رفعت إلا بتوبة
السؤال: كيف يعرف العبد أن ما أصابه من المصائب ابتلاء من عند الله أو بسبب ذنوبه؟ الجواب: يجب أن يعتقد أن كل ما أصابه من مصيبة فإنها بسبب ذنوبه؛ لقول الله جل وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال جل وعلا في الآية الأخرى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] المصيبة تكون من الأنفس بسبب الذنوب، وقد يصاب الأولياء مثل الأنبياء والرسل بمصائب فتكون رفعة لهم في درجاتهم، فيحصلون على درجات بسببها لا يتحصلون عليها بالعمل، ولكن الناس قد يكونوا مقصرين في أمر الله، فالإنسان لا يكون على أمر الله على الوجه المطلوب، ولابد أن يحصل التقصير، فيكون من نعمة الله جل وعلا عليه أن يصاب بمصائب، وهذه نعمة إذا حمد الله على ذلك، ورأى أنه أهل لهذه المصيبة، وأن الله فضله واسع، وحمد الله أنها ما كانت أكبر من هذا، فإنه يزداد بذلك أجراً وخيراً وإيماناً، فتكون المصيبة في حقه نعمة. ......
الفرق بين الحديث المرفوع والحديث الموقوف
السؤال: ما الفرق بين الحديث المرفوع والحديث الموقوف؟ الجواب: الحديث الموقوف ما وقف على الصحابي من قوله، أما المرفوع فالذي رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم. ......
الفرق بين التوكل والتواكل(6/299)
السؤال: هل هناك فرق بين التوكل والتواكل؟ الجواب: التوكل أن يكون القلب اعتماده على الله جل وعلا، وهو من أفضل الإيمان كما سمعنا، أما التواكل فهو اصطلاح لعمل الناس، وكل واحد يتصور أن الآخر سيعمله، مثلاً: إذا كانوا مسافرين، فواحد يأخذ استعداده، وواحد لا يأخذ شيئاً، وقد يكون هذا الذي لا يأخذ شيئاً يعتمد على الثاني، ثم لا يأخذ الثاني شيئاً، فهذا تواكل، وهو خطأ. ......
التوكل من أعمال القلب
السؤال: من يتوكل على غير الله فهل يجوز الصلاة خلفه؟ الجواب: ما يدرينا أنه يتوكل على غير الله؟ التوكل هو اعتماد القلب، وعمل القلب، وإذا تبين أنه يتوكل على غير الله في حصول أمور لا تحصل إلا من الله فهو مشرك، والمشرك لا يصلى خلفه. ......
حكم قول القائل: (أنا معتمد عليك في كذا)
السؤال: هل يجوز هذه اللفظة: أنا معتمد عليك في الأمر الفلاني؟ الجواب: يجوز إذا كان في أمر عادي، ويعني: في السبب، أما فعل القلب فلا يجوز، يقول: أن أعتمد على الله، وأنت تجتهد في هذا الشيء، وتتوكل على الله في أنه يحصل، ويجوز أنه يعتمد عليه. إذاً: يجوز في الفعل العادي، كونه يبيع ويشتري، وكونه يأتي إليه بشيء من مكان ما، فهذه أمور عادية، ومع ذلك لا يقول: اعتمد عليك، بل أعتمد على الله في هذا؛ لأن هذا سبب، والأسباب لا يعتمد عليها، وإنما يعتمد على مسبب الأسباب جل وعلا. ......
التوكل يزيد وينقص
السؤال: إذا كان التوكل بمنزلة الجسد للإيمان، وإذا فقد فقد الإيمان، فهل يكون من لم يتوكل على الله خارجاً من الملة؟ الجواب: الذي لا يتوكل على الله ليس بمؤمن، ولكن التوكل ينقص ويزيد مثل الإيمان، فقد يكون التوكل عند إنسان ضعيفاً وقد يكون عند آخر كاملاً، وقد يكون عند ثالث متوسطاً، فالناس يختلفون فيه اختلافاً عظيماً، أما أن نوجد إيماناً بلا توكل فلا يوجد إيمان بلا توكل. ......
حكم قول: رب الأرباب(6/300)
السؤال: قول المؤلف: (رب الأرباب) هل هذه اللفظة جائزة؟ الجواب: نعم، الأرباب هم: الخلق، جعل الله جل وعلا بعضهم أرباباً لبعض، فملكهم أشياء مثل الحيوانات، وملكهم حتى بعض العقلاء، فكل مالك يسمى رباً، يقال: رب الدار، رب الكتاب، رب البيت، رب السلعة، وهكذا، فالرب إذا ذكر لغير الله فلابد أن يضاف، ولا تطلق (رب) مجردة إلا على الله جل وعلا، فمن هنا قيل: رب الأرباب. يعني: رب كل شيء. ......
حكم الترحم على الأنبياء
السؤال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى) أيجوز الترحم على الأنبياء؟ الجواب: كيف لا يجوز؟! ولكن الأنبياء صار لهم خاصة أنهم يصلى عليهم، والصلاة من الآدميين الترحم، إنما إذا ذكر الأنبياء قيل: صلى الله عليهم وسلم، وهذا طلب من الله، والرحمة داخلة فيه، فصار خاصاً بهم مع أنه يجوز أن تقول لإنسان عادي: صلى الله عليه وسلم، يجوز ذلك، ولكن ما يجوز أن يكون عادة، لما جاء عبد الله بن أبي أوفى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بزكاته قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى) المقصود أنه صارت الصلاة علم على الأنبياء، كما صار الترضي علم على الصحابة، والترحم على سائر الأمة من العلماء وغيرهم. ......
حكم الاعتماد على الوساطة
السؤال: من اعتمد على شخص يتوسط له في وظيفة أو دراسة أو غيرها فهل هذا من المنهي عنه؟ الجواب: هذا ليس باعتماد، فلا تقل: أعتمد عليك، بل تقول: إنه يشفع، ويسعى في ذلك، والشافع يسعى ويعمل، وأنت تعمل، أما الاعتماد فيكون على ربك جل وعلا. ......
قوله تعالى: ( ويمكر الله والله خير الماكرين)(6/301)
السؤال: فضيلة الشيخ: هل تثبت صفة المكر لله عز وجل؟ الجواب: المكر ليست صفة، ولا يقال: صفة المكر، وإنما هذا فعل يفعله الله جل وعلا إذا شاء، فيثبت على ما أثبته الله جل وعلا فقط، يعني: على الصيغة التي جاءت وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30] فنقول: خير الماكرين. تقول: إنه يخادع الكافرين والمنافقين، وتقول: إنه يستهزئ بالذين يستهزئون به، على الصيغة التي جاءت فقط، ولا يجوز أن يؤخذ منها صفة، ولا يؤخذ منها اسم، بل تثبت كما جاءت، وهذا في كل فعل يأتي وهو في الأصل قد يدل على كمال، وقد يدل على نقص، وقد يدل على خير، وقد يدل على شر؛ لأن هذا لا يدخل في الأسماء الحسنى، بل يكون في موضعٍ كمال وفي موضعٍ نقص، فيثبت لله في الموضع الذي هو كمال، وينفى عنه في الموضع الذي هو نقص، والطريق في هذا: اتباع ما جاء في النصوص فقط. ......
معنى الران(6/302)
السؤال: قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] ما معنى هذه الآية؟ وهل هي للكفار أم لعصاة المؤمنين؟ الجواب: الران يختلف باختلاف قدره وسببه، والران معناه: تغطية القلب، أن يغطى ويعمى فيصبح لا يرى الحق حقاً ولا يحبه ولا يريده، يعني: تتراكم عليه أسباب الذنوب حتى يعمى، فهذا قد يكون للعصاة ويكون للكفار، على حسب الران، وقد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً، ولكل ذنب نصيبه من ذلك. والمعروف أن من أسبابه كثرة الذنوب، فالذنب يجر الذنب، فكل ذنب يجر ذنباً آخر، والعمل الصالح يجر عملاً صالحاً؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] يعني: كان الزيغ سبباً عندهم أولاً، ثم جاءت إزاغة القلوب بعد ذلك بسبب كونهم ردوا الحق من أول الأمر، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] هذا هو الران. فهو يختلف اختلافاً كبيراً جداً في الناس، ولكل نصيب، فالعصاة لهم نصيب منه، والكفرة لهم النصيب الأوفر منه. ......
معنى قوله تعالى: (فأمه هاوية)
السؤال: ما معنى قول الله تعالى في سورة القارعة: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]؟ وهل الأم لها ذنب في ذلك إذا كانت أمه التي ولدته؟ الجواب: (أمه) يعني: مصيره ونهايته، وليست أمه التي ولدته. والهاوية: النار. يعني: يهوي فيها على رأسه إلى مستقرها، فالأم هي النار، وليست الأم التي ولدته. ......
خوف المؤمن(6/303)
السؤال: هل المؤمن يكون آمناً منذ خروجه من قبره حتى يدخل الجنة؟ الجواب: سئل الإمام أحمد متى يأمن المؤمن؟ فقال: إذا وضع أول قدم له في الجنة. فهناك يأمن الأمن التام، فهو يخاف من ذنوبه دائماً، والمؤمن يكون خائفاً، ليس بآمن، بمعنى أنه لا يصبح آمناً أمناً تاماً يحدوه إلى ترك العمل، هذا لا ينبغي. ......
التوبة سبب في النجاة من عذاب القبر
السؤال: هل نستفيد من قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً أن الإنسان لو تاب ثم مات بعد فعل المعاصي الكثيرة لا يطهر في القبر أو النار؟ الجواب: نعم، إذا كانت توبته صادقة صالحة ختم له بالحسن في هذه التوبة، فهو من أهل الجنة ولا يعذب. ......
أسباب عدم قبول الدعاء
السؤال: ما سبب عدم قبول الدعاء؟ الجواب: الأسباب كثيرة، منها: أكل الحرام، ومنها: الغفلة في القلب، ومنها: كون الإنسان مصراً على ذنب، فالإصرار على الذنب يمنع من إجابة الدعاء. والحمد لله رب العالمين. ......
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [142]
معنى الحياة الطيبة(6/304)
السؤال: ما المقصود بالحياة الطيبة في قول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]؟ الجواب: الحياة الطيبة هي الإيمان والعمل الصالح الذي يجعله متصلاً بربه يأنس به، وكلما عمل عملاً طلب ما هو أفضل منه إلى أن يلقى ربه، فهذه هي الحياة الطيبة، وهذه هي التي يعبر عنها بجنة الدنيا، فيقول بعض العلماء: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) فهي نعيم يجده كلما وقع في شيء؛ لأنه إما عمل يكتسب به أجراً، أو مصيبة يكتسب بها أجراً: (عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهكذا الذي يكون في حياة طيبة، فهو يعرف طريقه، ويعرف أين يسير، فهو آمن في عمله مطمئن، إلا أنه يخاف من ذنوبه، فقد تكون في أعماله غوائل ودواخل يخاف عليه منها، وإن كان من أشد الناس إيماناً. فهذا عمر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، وصار الناس يذكرون له أعماله الجميلة الطيبة، قال: (وددت أني أخرج منها كفافاً) وهو أحد المبشرين بالجنة، هكذا الصالحون، وهذا معاذ رضي الله عنه الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه يحشر أمام العلماء برتوة) لما حضرته الوفاة صار يقول: (اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار)، وهكذا يقول وهو واثق بربه جل وعلا تمام الثقة. ......
هل الذنوب مقدرة؟(6/305)
السؤال: كيف نوفق بين القضاء والقدر بسبب الذنوب، وبين القضاء والقدر الذي يكون من عند الله سبحانه وتعالى؟ الجواب: قد يكون السائل يقصد هل الذنوب مقدرة أو غير مقدرة؟ أو هل سبب الذنوب من الإنسان؟ أفعال الإنسان مقدرة بلا شك، ولكن الإنسان له اختيار وقدرة وإرادة، فإذا فعل شيئاً بإرادته واختياره فهو مسئول عنه، وإن كان ذلك مقدر، ولا ينافي أن الله جل وعلا قدر على الإنسان الذنب، وأنه فعله بقدرته واختياره، فلا منافاة ، فإذا كان السائل يسأل عن هذا فالأمر واضح فأقول: إن الله جل وعلا خلق الإنسان عاقلاً، وبين له طريق الهدى من طريق الردى، وبين له الخير والشر، وأمره بأوامر محددة يستطيع أن يفعلها، ونهاه عن مناه معينة يستطيع أن يتركها، ثم وكل الأمر إليه وقال: هذا طريق الخير إذا سلكته فلك الجزاء الأوفى، وإن تركته فعليك العقاب، وأنت معرض لعذاب الله، فقد وكل الأمر إليه، فإذا فعل ذلك يكون قد استحق الجزاء بفعله؛ لأنه بإرادته واختياره، وإن لم يفعله فقد عصى واستحق العقاب، والأمور كلها مقدرة. ولكن: ما معنى التقدير؟ هل معنى التقدير أن الله أجبره على هذا الشيء وقصره عليه وألزمه به؟ لا. ولا يجوز أن نفهم هذا. التقدير معناه: أن الله علم أن هذا المخلوق سيوجد، وأنه سيفعل كذا وكذا بقدرته وإرادته واختياره، وهو الذي خلق المخلوق، وخلق إرادته وقدرته ومقدرته، وجعل ذلك إليه، فإذا فعل شيئاً فهو يقع عن قدرة الله وعن مشيئته التي جعلها للإنسان، فقد جعل الله للإنسان قدرة واختياراً وإرادة، فالإنسان ليس هو الذي يجعل في نفسه القوة، ولا الذي يجعل في نفسه الإرادة، ولكن الله هو الذي جعلها فيه. إذاً: هو الذي خلق فعله ولكن جعله إليه باختياره. وعلى هذا نقول: إذا آمن العبد فهو المؤمن حقيقة، وإذا صام فهو الصائم حقيقة، وإذا صلى فهو المصلي حقيقة، وليس الله تعالى وتقدس، وإن كان هذا مقدراً، وكذلك إذا كفر وإذا عصى فبذلك يستحق العقاب أو(6/306)
يستحق الثواب، فليس بين اختيار الإنسان وإرادته وفعله وبين تقدير الله معارضة، هذا هو الجواب إذا كان السائل يقصد هذا. ......
العسر مع اليسر
السؤال: كيف يكون مع العسر يسرى في قول الله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6]؟ الجواب: إن كان السائل يقول: إن العسر يكون معه يسر. يعني: يكون اليسر مختلط معه فنقول: لا، ليس هذا هو المقصود، والمعنى: إذا وقع العسر فلا بد أن يتبعه اليسر؛ لأن الله أخبر: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] يعني: إذا حصل العسر يأتي بعده يسر، فالخير أكثر من الشر، وإن كان الشر سببه الإنسان، ولكن خير الله أكثر. فالله كرر وقال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5] ثم كرر إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6] فالعسر واحد؛ والأخير هو الأول، فإذا قلت مثلاً: رأيت رجلاً، ثم بعد ذلك قلت: رأيت الرجل. فالرجل المذكور هو الرجل الأول، فأما إذا رأيت رجلاً ثم قلت: رأيت رجلاً، فالرجل الثاني غير الأول، هذا رجل، وهذا رجل غيره، وهنا لما جاء العسر محلاً بأل (إن مع العسر يسراً) ثم جاء بعد ذلك محلاً بأل (إن مع العسر يسراً)، صار الثاني هو الأول، أما اليسر في الثاني فهو غير الأول؛ لأنه قال: (يسراً) ما قال: اليسر، فلما قال: (يسراً) دل على أن اليسر الثاني غير الأول، والمعية هنا لا يقصد بها الاختلاط، بل يقصد أنها تعقبه أو أنها تصاحبه. ......
أصحاب الكبائر تحت المشيئة(6/307)
السؤال: من المعلوم أن صاحب الكبيرة تحت مشيئة الله، فكيف نوفق بين ذلك وبين قول الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، وبهذا حق عليه العذاب؟ الجواب: لا يلزم من هذا إحقاق العذاب عليه، وإذا أحقه الله عليه فهو حق، وهذا من الوعيد الذي نقول: إنه تحت مشيئة الله، فهو فعل فعلاً يكون سبباً لدخوله النار: إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10] يعني: أن هذا سبب في دخول النار، ولكن هل هذا يتحقق؟ لا يلزم أن يتحقق، فقد يتوب إلى الله جل وعلا، فيعفو عنه، وإن لم يتب ومات مصراً على أكله مال اليتيم، لا يلزم أن الله ينفذ ما أخبر به، فقد يتوعد ويعفو، فالأمر إليه، بخلاف الشرك الذي أخبرنا أنه لا يعفو عنه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] فهذه الآية داخلة في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فأكل مال اليتيم دون الشرك، وهو داخل في ما هو (دون ذلك).. فلا منافاة بين كلام الله جل وعلا. ......
التسخط من المصائب إثم
السؤال: هل الذي يتسخط من المصيبة في نفسه دون أن يظهر ذلك لأحد بلسانه وإنما كتم ذلك في نفسه آثم؟ الجواب: بلا شك أنه آثم، والله يعلم ما في قلبه، وسوف يجزيه على ذلك، ولا بد من تسليم الرضا، والأعمال والأقوال وأعمال الجوارح تبعاً لما في القلب، فإذا كان القلب ساخطاً فهو الملك الذي تتبعه جنوده، والجوارح واللسان منها، فتكون تابعة له ساخطةً مثله، ولكن قد يظهر وقد لا يظهر. ......
عدم منافاة الأخذ بالأسباب للتوكل على الله(6/308)
السؤال: كيف التوفيق بين الصبر على المرض والذهاب إلى الأطباء، ومثله شراء الملابس للتدفئة عند وجود البرد؟ الجواب: هذا سؤال عجيب! الإنسان أمر بفعل الأسباب، وفعل الأسباب امتثالاً لأمر الله جل وعلا طاعة، فإذا أصيب الإنسان بمرض فلا يجلس في البيت حتى يموت، ولكن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله) إلا داء واحد وهو الموت، فإنه لا دواء له، فالتداوي من الأسباب التي أمر الله بها، وكذلك سائر الأسباب الإنسان مأمور بها، وفعل السبب غير مناف للصبر، ولا مناف للتوكل، بل هو منه. فالشيء الذي أمرت به فافعله؛ فإن تركته فأنت ملوم، ولا يتركه إلا ضعيف العقل أو لا يعلم الشرع. ......
المبالغة في الزجر
السؤال: أليس تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا) بأنه ليس على هدينا وطريقتنا الكاملة ينافي المبالغة في الزجر؟ الجواب: لا ينافي المبالغة؛ لأن أكثر المسلمين ليسوا على الطريقة الكاملة، ومع ذلك لا يقال: إنهم مرتكبون لجرائم وعظائم، من الذي يستطيع أن يكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه الكامل؟ لا أحد، بل من الذي يستطيع أن يكون على طريقة الصحابة؟ ومعلوم أن الجنة رتب دخولها على أمور سهله، مثل: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، هذه مع شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. ولكن المكملات هذه فيها اكتساب الدرجات في الجنة، وهي تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً، أما هذا لا ينافي ذلك. ......
العطاء مع الشكر أحب من الابتلاء مع الصبر
السؤال: هل قول أحد السلف: (إذا أعطيت وشكرت أحب إلى من أن أصاب فأصبر) صحيح؟ الجواب: الناس يختلفون في هذا، فمنهم من تكون المصيبة أفضل له من العطاء؛ فإنه يجد فيها من انكسار القلب والرقة والرجوع إلى الله بالتوبة ما لا يجده فيما إذا أعطي نعمة. ......(6/309)
قول: (لا ندري هذه الدنيا ما تفعل بنا)
السؤال: قول الرجل: (لا ندري هذه الدنيا ماذا تفعل بنا) هل هذه اللفظة صحيحة؟ الجواب: الدنيا لا تفعل أي شيء، لكن يقول: لا ندري ما يحدث لنا، والدنيا في يد الله جل وعلا، وهي عبارة عن الليل والنهار وجريان الأمور فيها.......
حكم الندب في الرثاء
السؤال: هل الرثاء بالشعر يعتبر نياحة على الميت؛ لأن فيه ذكر محاسن الميت؟ الجواب: الرثاء إذا كان فيه ذكر الندب كفعل بعض الجاهلية فهو من هذا الباب، أما إذا كان مجرد ذكر أعماله والثناء عليه بها، وليس من الندب؛ فلا. ......
حقيقة الندب والنياحة
السؤال: إذا كان الميت سيئاً فهل يذكر بمحاسنه لقوله صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم) وهل هذا من النياحة؟ الجواب: النياحة ليست بأن تذكر المحاسن، فالنياحة أن يذكر حظوظه منه، ويندبه بحظوظه التي كان يتحصل عليها منه، ويرفع صوته بها أو يفعل فعلاً محرماً. ......
البكاء على الميت
السؤال: هل البكاء على الميت حزناً على الفراق من غير أصوات وشق للجيوب منهي؟ الجواب: قال بعض العلماء: إنه مستحب إذا كان ليس فيه شيء منهي عنه. ......
البكاء على الميت لا ينافي الصبر
السؤال: عندما يموت الميت، ويتذكر الحي هذا المتوفي، فتخرج دموعه ويبكى حزناً عليه، هل هذا ينافي الصبر؟ الجواب: لا ينافي الصبر، فدمع العين وحزن القلب لا ينافي الصبر، بل هذا أفضل من الذي لا يكون قلبه حزيناً، ولا تكون عينه دامعة، جاء عن بعض السلف أنه مات ابنه فضحك، وقال: أنا أرضى بما رضي ربي به، فهذا ليس أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما مات ابنه ذرفت عيناه وقال: (يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول إلا ما يرضي الرب جل وعلا) فليس الذي لا يبكي أو قد يضحك أكمل من الذي تدمع عينه، ويحزن قلبه، فدمع العين وحزن القلب رحمة، والله يرحم بها، وهذا دليل على أنه يثاب عليه. ......
حكم من مات حسرة وندماً على ميت له(6/310)
السؤال: ما حكم من مات حسرة وندامة على ميت له؟ الجواب: نسأل الله العافية! هذا معناه أن حياته صارت متعلقة بالميت، وهذا لا يجوز أن يحدث، ويجب على الإنسان أن يصبر، ومن فعل ذلك فقد ارتكب جرماً وترك ما أمر به؛ لأنه مأمور بالصبر. ......
ليس الإيمان بالتمني
السؤال: كيف نجمع بين حديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وحديث: (ليس الإيمان بالتمني) إلى قوله: (ولكن ما وقر في القلب)؟ الجواب: التمني يعني: الكلام، ليس الإيمان بالكلام المجرد، ولكن الإيمان بالفعل الذي يكون في القلب أو يكون بالأعمال. ......
الصوت الفاجر في حال النعمة
السؤال: ما المقصود بالصوت الفاجر في حال النعمة؟ الجواب: الصوت الفاجر: مثل الغناء عند النعمة، والطرب والرقص أو ما يشبه ذلك، فهذا الصوت الفاجر. ......
الفرق بين المصيبة والابتلاء
السؤال: ما الفرق بين المصيبة والابتلاء؟ الجواب: المصيبة هي التي يفقد الإنسان بها نعمة أنعم الله جل وعلا بها عليه من ولد، أو أب، أو أخ، أو مال، أو مرض يصيبه، أو ما يشبه ذلك، فهذه مصيبة. أما الابتلاء فهو أعم من هذا، فالابتلاء قد يكون بالنعم، وهذا قد يكون أصعب من الابتلاء بالمصائب؛ لأنه ينسى بذلك آخرته وينسى ربه، فكثير من الناس يصلح قلبه بالفقر والمرض والابتلاء، ويفسد قلبه بالنعم؛ لأنه كما قال الله جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]. ......
حكم الاجتماع في المآتم
السؤال: ما يفعله بعض الناس اليوم من التجمع في المآتم هل هو من النياحة على الميت؟ الجواب: المآتم من أمور الجاهلية، لا يجوز أن يجتمعوا لمأتم يذكرون فيه محاسن الميت أو أن يتجمعوا لأجل حزن أو ما يشبه ذلك؛ فإن هذا من أمور الجاهلية التي كانوا يفعلونها. ......
ترك الذنوب خشية المصائب(6/311)
السؤال: إذا ترك الإنسان الذنوب خشية المصائب فهل يثاب على هذا الترك؟ الجواب: هذا لا ينبغي؛ لأنه يصير مقصوده بذلك الدنيا، أما إذا كان خشية المصائب من خشية عذاب الله؛ فيثاب عليه؛ لأنها خوف من الله، ولا يجوز أن يكون لأجل الدنيا فقط. ......
الفرق بين الرضا والصبر
السؤال: ما الفرق بين الرضا والصبر؟ الجواب: الرضا أن يرضى بحالته التي هو فيها، ويصبح راضياً بها، يعني: لا يتمنى غيرها، ولا يتمنى أن يخرج عنها، فهذا هو حال الرضا، أما الصبر فيصبر على المصيبة التي أصابته، ويحمل نفسه على هذا الشيء، ولا يتضجر، ولا يتوجع، ولا يغضب من ذلك، بل يصبر ويسلم لله جل وعلا، فالصبر أسهل من الرضا؛ لأن الرضا فيه الصبر وزيادة على الصبر، والصبر لا يتضمن الرضا. ......
الضيق والألم بعد الذنب
السؤال: هل ما يجده الإنسان من ضيق وألم في نفسه من أثر الذنب يعتبر من العقوبة العاجلة؟ الجواب: نعم، وقد يكون هذا من التوبة، حيث يجد ضيقاً في نفسه، وتأسفاً على أنه وقع في ذلك، أما إذا كان الضيق ليس أسفاً على الذنب، ولا حزناً على فعله، فهذا يكون عقوبة، وقد تكون مكفرة وقد لا تكون مكفرة؛ لأنه من جزاء الذنب فعل الذنب الآخر بعده. ثم الله جل وعلا يقول: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14] يقول العلماء: هذا عام في الدور الثلاث: في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة، فالأبرار في نعيم في دورهم الثلاث، والفجار في جحيم في دورهم الثلاث، وإن كان يظهر من حاله للمشاهد أنه متنعم، وليس كذلك، فتجد عنده الهموم والخوف والشيء الذي هو نار في قلبه وجحيم، نسأل الله العافية!......
الفرق بين الغضب والسخط(6/312)
السؤال: ما الفرق بين الغضب والسخط؟ وهل هما بمعنى واحد؟ الجواب: إذا أراد السائل صفات الله، فليسا بمعنى واحد، وإن كانت بعض معاني السخط قد تكون قريبة من معنى الغضب، ولكن هذه صفة، وهذه صفة، أما للناس فهذا شيء معروف؛ لأن الغضب من أثر السخط.......
هل الإنسان مأجور على المصائب؟
السؤال: هل المصائب مكفرات للذنوب فقط أم مكفرة وزيادة الجزاء والثواب؟ الجواب: الظاهر أنها مثل ما مضى، والراجح أنها مكفرات للذنوب، والناس يختلفون في هذا، فبعضهم تكون له مكفرات وزيادة أجر، واكتساب حسنات؛ لأنه ورد في الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه)، وهذا واضح؛ لأن هذا يكون للجزاء، وليس للتكفير فقط. ......
خطر التسخط على أقدار الله
السؤال: إذا حصل في القلب أي نوع من التسخط في بعض الأحيان بسبب المصائب فهل صاحبها على خطر؟ الجواب: بلا شك، وتكون هذه مصيبة أعظم؛ لكونه اتهم ربه، ومعنى ذلك أنه صارت له مصيبة أخرى، فأحدثت له مصيبة أكبر منها، وتصبح المصيبة لا أثر لها في تكفيرها السيئات، ويحتاج إلى مصيبة أخرى أكبر، نسأل الله العافية!......
الإثابة على المصائب
السؤال: هل المصائب العظيمة والكبيرة يؤجر ويثاب عليها الإنسان أم يثاب بمجرد وقوع أي مصيبة ما؟ الجواب: يثاب في كل المصائب إذا صبر واحتسب. ......
ضرورة إقران اسم الضار بالنافع في أسماء الله
السؤال: هل يجوز إطلاق اسم الضار على الله جل وعلا؟ الجواب: لا يجوز إطلاقه منفرداً، ولكن مقترناً بالنافع فيقال: الضار النافع، لابد أن يقرن الاثنين معاً. ......
حكم ترك الدواء بحجة التوكل على الله(6/313)
السؤال: هل صدر من بعض السلف ترك الدواء عند المرض ثقة بالله وإيماناً به؟ وهل يجوز للإنسان تركه؟ الجواب: هذا فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من يرجح أن عدم استعمال الدواء من التوكل على الله، وأنه أرجح، ومنهم من يعكس القضية، والصواب: أن الإنسان يتداوى؛ لأن الدواء سبب ولا ينافي التوكل. ......
حكم طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته
السؤال: بعضهم يقول: يجوز أن أقول: (يا رسول الله! (استغفر لي) ويحتج بأن الأنبياء أحياء في قبورهم؟ الجواب: قلنا: لابد أن يكون الإنسان متقيداً بالشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا يجوز فعليه الدليل، والدليل على خلافه، وقد ثبت أن رجلاً قال: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟!)، فلا يجوز أن يقول: استغفر لي؛ لأن الرسول لما توفي انتقل من هذه الحياة إلى حياة أخرى، وهو عندما يخاطبه أو يطلب منه شيئاً، فقد طلب من ميت، ومثله أن يطلب من الملك أو الجني الغائب، وهذا من الشرك بالله جل وعلا، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يطمع فيهم الشيطان، وقد وقعوا في مشاكل وأمور صعبة ولم يطمع فيهم الشيطان، فلم يأتوا إليه يستفسرون منه أو يطلبون منه، وهم يعرفون دينه، ويعرفون ما جاء به، وكونه يأتي إنسان ويقول: هذا يجوز؛ نقول: عليك الدليل؛ لأن هذا شرع وعبادة، وكل عبادة يجب أن تكون مقيدة بالشرع، وإلا فهي مردودة على صاحبها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ذلك، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] فلو كان من الدين لبلغه، فإذا لم يبلغه فهو ضلال. ......
ترك العمل خوفاً من الرياء شرك(6/314)
السؤال: بعض الناس يترك إمامة الناس بالصلاة، ويترك الموعظة لهم؛ خشية الرياء؟ الجواب: ترك العمل الصالح خوفاً من أن يقول الناس: مراءٍ لا يجوز، والعمل من أجل الناس لا يجوز، وكله يدخل في الشرك، لكن يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه دائماً، ولا يطيع الشيطان، فكونه مثلاً لو أمر بمعروف وقال له الشيطان: لا تأمر بهذا، حتى لا يقال لك: إنك مراءٍ، أو أنك كذا وكذا، فلا يطعه، والشيطان يحب هذا، ولكن الواجب على الإنسان أنه يعمل ويجتهد، وكل عمل يحتاج إلى جهاد، والأعمال بالنيات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) والنية يجب أن تخلص لله جل وعلا، وإذا أخلص الإنسان نيته فلا عليه من قول الناس ولا يضره سواء قالوا أو لم يقولوا. ......
الرياء بعد العمل
السؤال: إذا عمل العبد عملاً قاصداً به وجه الله تعالى، ثم بعد انقضاء العمل أخبر بهذا العمل، أو حدث عنه. وهل يدخل في باب الرياء؟ الجواب: إذا كان يخبر عنه ليذكر به، ويثنى به عليه؛ فهذا من السمعة التي هي رياء، ولكن إذا عمل الإنسان عملاً لله خالصاً، ثم ظهر للناس بدون فعله، فأثنوا عليه فهذا لا يضره؛ وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) ولكن لا يجوز أن يتأثر الإنسان بهذا، ويجب أن يكون أعرف بنفسه من غيره. ......
تخليص الأعمال أشق على العاملين من طول الاجتهاد
السؤال: ما معنى قول شيخ الإسلام رحمه الله: إن تخليص الأعمال أشق على العاملين من طول الاجتهاد؟ الجواب: معناه: إن النية صعبة، ومعالجة النية هو الأساس في العمل، ولكن الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن حظوظ النفس تريد الشيء الذي تطلبه، وكون الإنسان يخالف نفسه ويقهرها يصعب على الإنسان. ......
الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر(6/315)
السؤال: ما الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر؟ الجواب: الشرك الأكبر هو ما كان مخرجاً من الدين الإسلامي، وإذا مات عليه الإنسان كان خالداً في النار. والشرك الأصغر من عظائم الذنوب، لكنه لا يخرج من الدين الإسلامي، وإذا مات عليه الإنسان فلا يكون خالداً في النار، ويجوز أن يعذبه الله به. إن الله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فأخبر أن الشرك غير مغفور لصاحبه، فلابد من المؤاخذة عليه. هذا هو الفرق. أما الفرق في الضوابط بين هذه الأعمال نفسها، والتفريق بين العمل الذي يكون شركاً أكبر والعمل الذي يكون شركاً أصغر فهذا صعب؛ لأن العمل قد يكون ظاهره أنه صغير، وهو في نفس الأمر كبير، ويرجع إلى نية الإنسان ومقصده؛ ولهذا فالعلماء يعرفون الشرك الأصغر بالأمثلة، يقولون: مثل: الرياء، والحلف بغير الله، أو قول: (لولا الله وأنت)، (لولا الله وفلان)، و(أنا بالله وبك)، (توكلت على الله وعليك)، وما أشبه ذلك، وقد يكون هذا من الشرك الأكبر، وقد يكون من الشرك الأصغر، فليس الشرك الأصغر كل عمل يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر، فهذا ضابط غير صحيح؛ لأن هناك أعمالاً تكون وسائل للشرك الأكبر، وليست من الشرك الأصغر. ......
معرفة الرياء في النفس
السؤال: كيف يعرف المسلم أنه مرائي؟ الجواب: بأن يعرف إذا كان مخلصاً لله أم لا، لابد أنه يعرف هذا، ولكن كيف يعرف الآخر؟ هذا يظهر من أعماله وأقواله. ......
علاج الرياء
السؤال: ما هو العلاج لمن أصيب بالرياء؟ الجواب: العلاج: أن يعلم أنه عبد لله جل وعلا، وأن الذي يجزيه على عمله هو الله وليس الناس، وأن سائر الناس ذمهم لا ينفعه بشيء، والناس مثله، منهم من هو مساوٍ له أو أقل منه أو فوقه بالعمل الصالح: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. ......
الرياء يحبط العمل(6/316)
السؤال: إذا صدرت الأعمال من العبد مشوبة بالرياء، ثم تاب إلى الله من ذلك، ثم سأل الله تعالى أن يردها عليه، فهل يردها الله عليه بعد التوبة؟ الجواب: لا، العمل الذي خالطه الرياء حابط، والله غني عنه، ولا يرده عليه. ......
طروء الرياء أثناء العمل
السؤال: إذا بدأ العبد بالعمل مخلصاً لله تعالى، ثم طرأ عليه الرياء، فركن إليه واسترسل معه، ثم قبل انتهائه من العبادة تذكر فتاب مما حصل منه من ركونه للرياء، هل يستأنف العمل من جديد؛ لأنه حابط أو يستمر في عمله؟ الجواب: إذا كانت العبادة مثل الصلاة وغيرها فلا يعيدها؛ لأنها فرض سقطت في ظاهر الأمر، وإن كان معاقباً وآثماً بسبب الرياء، وإن كان يريد أن يثاب عليها فليعدها؛ لأن الإخلاص شرط في صحة العمل كما في الآية: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] فذكر شرطين في صحة العمل: الشرط الأول: أن يكون صالحاً، والصالح ما كان صواباً على السنة. الشرط الثاني: أن يكون خالصاً لله جل وعلا. فمعنى ذلك أنه إذا تخلف شرط من هذين الشرطين فالعمل غير معتد به شرعاً، ولا يثاب عليه، ولا يقبل منه، ويكون صاحبه معاقباً عليه. ......
الأعمال المتعدية النفع
السؤال: قال ابن رجب رحمه الله: ( وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيره من الأعمال الظاهرة التي يتعدى نفعها ) ما هي الأعمال التي يتعدى نفعها؟ الجواب: مثل الصدقة.. الأمر بالمعروف.. القيام بنفع إنسان ومساعدته ببدنه أو بماله أو ما أشبه ذلك. يعني: شيء يرى ويتعدى نفعه للناس، فهذا الإخلاص فيه عزيز يعني: لا يكون خالصاً إلا عند من أيقن إيقاناً بأن الذي يتولى الجزاء هو الله، وأنه لا ينفعه قول الناس ومدحهم وثناؤهم. ......
الفرق بين النية والإخلاص(6/317)
السؤال: ما الفرق بين النية والإخلاص؟ الجواب: الإخلاص: أساسه النية، ويكون العمل خالصاً بنيته، ولا يكون فيه شيء لغير الله جل وعلا، فالإخلاص يدخل في النية وفي العمل، ومعلوم أنه لا يوجد عمل إلا بنية، فهي الأساس، ولهذا صار قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) هو الأساس في هذا. وقالوا: إن هذا الحديث يدور عليه أمور الدين كلها، فإذا ضم إليه حديث عائشة وحديث النعمان بن بشير ، فهي ثلاثة أحاديث فقط تكفي في جميع دين الإسلام؛ لأن حديث النعمان بن بشير فيه أن الحلال والحرام من الله، ولا يكون حلال أحله فلان وحرام حرمه فلان. وحديث عائشة فيه أنه يكون على السنة، فهو ميزان للأعمال الظاهرة، وهو قوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وحديث عمر ميزان للأعمال في الباطن: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا هو الإخلاص. ......
مواجهة المرائي بريائه
السؤال: هل من اتضح لي أنه مراءٍ أقول له: أنت مراءٍ؟ الجواب: ما الفائدة من ذلك؟ ولكن الواجب أن الإنسان ينصح لأخيه ويحذره، أما أن تقول: هذا مراءٍ، فلا فائدة منه. ......
الستر عند ارتكاب المعاصي
السؤال: من يختفي عند المعصية من الناس حياء منهم وخوفاً، هل يعتبر مرائياً؟ الجواب: هو أحسن من المجاهر؛ لأنه يستحي من الناس، والحياء من الناس مطلوب، ولكن يجب أن يكون الخوف من الله وليس من الناس، ومع ذلك فالذي يخفي المعصية أحسن حالاً ممن يظهرها؛ لأنه جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) والمجاهرون: هم الذين يظهرون المعاصي ويجاهرون بها، وهؤلاء قد نزع الله منهم الحياء، ونزع منهم المخافة. ......
تجديد النية والإخلاص في العمل
السؤال: كيف يجدد المسلم نيته وإخلاصه في العمل لله سبحانه وتعالى؟ الجواب: النية دائماً تحتاج إلى تثبيت وتجديد؛ لأنه يعرض لها عوارض، وكل عارض يعرض لها يجب أن يصد بالتجديد والإخلاص. ......
ويل للمطففين(6/318)
السؤال: الويل يأتي في مواضع الشرك الأكبر فكيف في قول الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1]؟ الجواب: وكذا قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7] فالويل يقوله جل وعلا لمن يستحقه؛ لأن العبد يجب أن يكون عبداً لله خالصاً فالمطفف همه الدنيا، ومقصوده الدنيا، ومقصوده قول الناس وأنظارهم؛ فاستحق أن يقال له (ويل). ......
الخوف الموصل إلى الشرك الأكبر
السؤال: كيف يكون الخوف من الشرك الأكبر؟ الجواب: الخوف من مقامات العبادة، فيجب أن يكون خالصاً لله، فالخوف من الغيب ليس من الخوف الطبيعي، أو الخوف الذي يكون مع ذل وخضوع، فهذا يجب أن يكون لله جل وعلا وحده، ولكن الإنسان قد يخاف من الظالم، ولكن قلبه يلعنه ويشتمه، فمثل هذا ليس من العبادة. ......
تفسير قول الله: (لئن أشركت ليحبطن عملك...)(6/319)
السؤال: ما تفسير قول الله سبحانه وتعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]؟ الجواب: تفسيره ظاهر، فالشرك يحبط العمل، وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتبين أنه ليس من الخلق مخلوق يصلح معه الشرك أصلاً، فالشرك محبط للأعمال مطلقاً: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وهذا نظير قوله جل وعلا في آية أخرى: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] يعني: الشرك، والشرك محبط للأعمال مطلقاً، وإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم صلوات الله وسلامة عليه أن يقع منه ذلك؛ ولكن ليبين جل وعلا أن الشرك أعظم الذنوب، وأنه لو وقع من أعبد الناس وأكثرهم اجتهاداً فإن عمله يحبط ويصير إلى النار؛ لأن الأنبياء هم خلاصة الخلق، فلو أشركوا لحبط ما كانوا يعملون. إذاً: الشرك محبط للأعمال مطلقاً. ......
قول: (توكلت على الله ثم عليك)
السؤال: هل يصح قول: توكلت على الله ثم عليك؟ الجواب: يجوز في الشيء الذي يجوز، أما في الشيء الذي لا يجوز فلا، يعني: يجوز في الوكالة الجائزة، كأن يشتري له شيئاً يستطيعه أو يعمل له عملاً يستطيعه، فهذا يجوز أن يقول له: (توكلت على الله ثم عليك) أي: في هذا الشيء الذي يستطيعه ويقدر عليه، أما في الأمور التي لا يستطيعها فلا يجوز، حتى ولو قال: (ثم)، ولا يفيده ذلك. ......
الشرك الأصغر لا يحبط العمل(6/320)