إذا كان كذلك فالله- جل جلاله- هو الذي يفيض السلام ، وليس العباد هم الذين يعطون الله السلامة ، فإن الله- جل وعلا- هو الغني عن خلقه بالذات ، والعباد فقراء بالذات ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر : 15] ، فالعبد هو الذي يعطى السلامة ، والله- جل وعلا- هو الذي يسلم ؛ ولهذا كان من الأدب الواجب في جناب الربوبية وأسماء الله وصفاته أن لا يقال : السلام على الله ، بل أن يقال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على فلان وفلان ، السلام عليك يا فلان ، ونحو ذلك ، فتدعو له بأن يبارك باسم الله (السلام) أو أن تحل عليه السلامة .
فظهر بهذا أن وجه مناسبة هذا الباب للذي قبله ظاهرة . وأما مناسبته لكتاب التوحيد : فهي أن الأدب مع أسماء الله- جل وعلا- وصفاته ألا يخاطب بهذا الخطاب ، وأن لا يقال : السلام على الله ، لأن في هذا نقصا في تحقيق التوحيد ، فتحقيق التوحيد الواجب ألا تقال هذه الكلمة ؛ لأن الله غني عن عباده ، والفقراء هم الذين يحتاجون إلى السلام .(22/223)
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا : السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان » ، وإنما كانوا يقولون هذا مع كونهم موحدين عالمين بحق الله- جل وعلا- ظنا أنها تحية لا تحوي ذلك المعنى ، فجعلوها من باب التحية ، والتحية في هذه الشريعة مرتبطة بالمعنى ، فالسلام على الله من عباده كأنهم قالوا : تحية لله من عباده ، وهذا المعنى- وإن كان صحيحا من حيث القصد- لكنه ليس بصحيح من حيث اللفظ ، لأن هذا اللفظ لا يجوز من جهة أن الله - جل وعلا- هو السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام . والعباد مسلمون ، أي : يسلمهم الله- جل وعلا- ويفيض عليهم السلامة وهم الفقراء المحتاجون ، فليسوا هم الذي يعطون الله السلام ، فمعنى : السلام على الله ، يعني : السلامة تكون على الله من عباده ، وهذا لا شك أنه باطل وإساءة في الأدب مع ما يجب لله- جل وعلا- في ربوبيته وأسمائه وصفاته .(22/224)
لهذا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام « لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام » ، وهذا النهي للتحريم ، فلا يجوز لأحد أن يقول : السلام على الله ؛ لأن السلام على الله مقتض لانتقاص جناب الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .
إذا كان كذلك ، فما معنى قولك حين تسلم على أحد : السلام عليك يا فلان ، أو السلام عليكم ورحمة الله ؟ وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } [الأحزاب : 44] . قال بعض أهل العلم : إن معناها : كل اسم لله- جل وعلا- عليكم ، يعني : اسم السلام عليكم ، فيكون ذلك تبركا بأسماء الله- جل وعلا- وبصفاته ، فاسم السلام عليكم ، يعني : اسم الله عليكم ، فيكون ذلك تبركا بكل الأسماء ومنها اسم الله- جل وعلا- السلام ، وهذا أحد المعنيين .(22/225)
والثاني : ما قاله آخرون من أهل العلم : أن قول القائل : السلام عليكم ورحمة الله ، يعني : السلامة التي اشتمل عليها اسم (السلام) عليكم ، نسأل الله أن يفيضها عليكم ، أو أن يكون المعنى : كل سلامة عليكم مني ، فإنك لن تجد مني إلا السلامة ، وهذا يصدق حين تنكر فتقول : سلام عليكم ورحمه الله وبركاته ، يعني : كل سلامة مني ستأتيك ، فلن أخفرك في عرضك ، ولن أخفرك في مالك ، ولن أخفرك في نفسك ، وكثير من المسلمين يقول هذه الكلمة وهو لا يعي معناها ، لأنه حين قال لمن أتاه : السلام عليكم ، كأنه عاهده بأنه لن يأتيه منه إلا السلامة ، ثم هو يخفر هذه الذمة ، وربما أضره ، أو تناول عرضه ، أو تناول ماله ، أو نحو ذلك .
فهذا فيه التنبيه على فائدة مهمة ، وهي أنه ينبغي لكل طالب العلم ، بل كل عاقل بعامة إذا نطق بكلام أن يتبين ما معنى هذا الكلام ، فكونه يستعمل كلاما لا يعي معناه ، هذا من العيب ، إذ ليس من أخلاق الرجال أصلا أن يتكلموا بكلام لا يعون معناه ، فيأتي بكلام ثم ينقضه في فعله أو في قوله ، هذا ليس من أفعال الذين يعقلون ، فضلا أن يكون من أفعال أهل العلم ، أو طلبة العلم الذين يعون عن الله- جل وعلا- شرعه ودينه .(22/226)
والصواب أن قول القائل : السلام عليكم ، يشمل المعنيين الأول والثاني ، فهو تبرك بكل اسم من أسماء الله ، وتبرك باسم الله (السلام) الذي من آثاره السلامة عليك في دينك ودنياك ، فهو دعاء لك بالسلامة في الدين ، وفي الدنيا ، وفي الأعضاء ، والصفات ، والجوارح ، إلى آخر ذلك .(22/227)
" باب قوله : اللهم اغفر لي إن شئت "
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة ؛ فإن الله لا مكره له » (1) .
ولمسلم : « وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » (2) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الاستثناء في الدعاء .
الثانية : بيان العلة في ذلك .
الثالثة : قوله : ليعزم المسألة .
الرابعة : إعظام الرغبة .
الخامسة : التعليل لهذا الأمر .
الشرح :
_________
(1) أخرجه البخاري (6339) ومسلم (2679).
(2) أخرجه مسلم (2679).(22/228)
حقيقة التوحيد أن يوحد العبد ربه- جل وعلا- بتمام الذل والخضوع والمحبة ، وأن يتضرع إلى الله- جل وعلا- ويتذلل إليه بإظهار فقره التام إليه ، وأن الله- جل وعلا- هو الغني عما سواه ، وقول القائل : « اللهم اغفر لي إن شئت » يفهم منه أنه مستغن عن أن يغفر له ، كما يأتي العزيز أو المتكبر من الناس فيقول لآخر لا يريد أن يتذلل له : افعل هذا إن شئت ، يعني : إن فعلت ذلك فحسن ، وإن لم تفعل فلست بملح عليك ، ولست بذي إكرام ، فهذا القول مناف لحاجة الذي قالها إلى الآخر ولهذا كان فيه عدم تحقيق للتوحيد ، ومنافاة لما يجب على العبد في جناب ربويية الله- جل وعلا- من أن يظهر فاقته وحاجته لربه ، وأنه لا غنى به عن مغفرة الله ، وعن غنى الله ، وعن عفوه ، وكرمه وإفضاله ، ونعمه طرفة عين ، فقول القائل : « اللهم اغفر لي إن شئت » كأنه يقول : لست محتاجا ، إن شئت فاغفر ، وإن لم تشأ فلست بمحتاج ، وهذا فعل أهل التكبر ، وأهل الإعراض عن الله- جل وعلا- ، ولهذا حرم هذا اللفظ ، وهو أن يقول أحد : « اللهم اغفر لي إن شئت » ؛ للحديث الذي ساقه المؤلف ، فقال : " في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم(22/229)
: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له » . ولمسلم : « وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه » .
قوله : « ليعزم المسألة » : يعني : ليسأل سؤال عازم ، سؤال محتاج ، سؤال متذلل ، لا سؤال مستغن مستكبر ، فليعزم المسألة ، وليسأل سؤال جاد محتاج متذلل فقير يحتاج إلى أن يعطى ذلك ، والذي سأل سأل أعظم المسائل ، وهي المغفرة والرحمة من الله- جل وعلا- فيجب عليه أن يعظم هذه المسألة ، ويعظم الرغبة وأن يعزم المسألة .
قوله : « فإن الله لا مكره له » أي : لا أحد يكرهه لتمام غناه ، وتمام عزته وقهره وجبروته ، وتمام كونه مقيتا سبحانه وتعالى ، وهذا من آثار الأسماء والصفات .(22/230)
ولهذا لا يجوز قي الدعاء أن يواجه العبد ربه بهذا القول : « اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت » ، وهذا واضح ظاهر في الدعاء الذي فيه المخاطبة ، ولهذا قال بعض أهل العلم : إن هذا يتقيد بالدعاء الذي فيه خطاب ، أما الدعاء الذي ليس فيه خطاب فيكون التعليق بالمشيئة ليس تعليقا ؛ لأجل عدم الحاجة ، أو منبئا عن عدم الحاجة كهذا الدعاء ، بل هو للتبرك كمن يقول : رحمه الله إن شاء الله ، أو غفر الله له إن شاء الله ، أو الله يعطيه من المال كذا وكذا إن شاء الله ، ونحو ذلك ، فهذا قالوا : لا يدخل في هذا النوع ، لأنه ليس على وجه الخطاب ، وليس على وجه الاستغناء ، ولكن الأدب يقتضي ألا يستعمل هذه العبارة في الدعاء مطلقا ؛ لأنها وإن كانت ليست بمواجهة فإنها داخلة في تعليق الدعاء بالمشيئة ، والله- جل وعلا- لا مكره له ، فعموم المعنى المستفاد من قوله : « فإن الله لا مكره له » عموم هذا التعليل يشمل هذا وهذا ، فلا شك أن قول « اللهم اغفر لي إن شئت » أعظم ولكن القول الآخر داخل أيضا في علة النهي ومعنى النهي ؛ ولهذا لا يسوغ استعماله .(22/231)
وقول النبي عليه الصلاة والسلام لمن عاده وقد أصابته الحمى- كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما- : « طهور إن شاء الله » قال : بل هي حمى تفور . . إلخ كلامه (1) ، هذا ليس فيه دعاء ، وإنما هو من جهة الخبر ، قال : يكون طهورا إن شاء الله ، فهو ليس بدعاء ، وإنما هو خبر ، فافترق عن أصل المسألة .
وقال طائفة من أهل العلم من شراح البخاري : وقد يكون قوله : « طهور إن شاء الله » للبركة ، فيكون ذلك من جهة التبرك ، كقوله- جل وعلا- مخبرا عن قول يوسف : { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } وهم قد دخلوا مصر ، وكقوله- جل وعلا- : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } [الفتح : 27] .
_________
(1) أخرجه البخاري (3616) ، ولم يروه مسلم رحمه الله .(22/232)
" باب لا يقول عبدي وأمتي "
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم : أطعم ربك ، وضئ ربك ، وليقل : سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن قول : عبدي وأمتي .
الثانية : لا يقول العبد : ربي ، ولا يقال له : أطعم ربك .
الثالثة : تعليم الأول قول : فتاي ، وفتاتي ، وغلامي .
الرابعة : تعليم الثاني قول : سيدي ومولاي .
الخامسة : التنبيه للمراد ، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ .
الشرح :
هذا الباب مع الأبواب قبله وما بعده كلها في تعظيم ربوبية الله- جل وعلا- ، وتعظيم أسماء الله- جل وعلا- وصفاته ؛ لأن تعظيم ذلك من كمال التوحيد ، وتحقيق التوحيد لا يكون إلا بأن يعظم الله- جل وعلا- في ربوبيته ، وفي إلهيته ، وفي أسمائه وصفاته .
فتحقيق التوحيد لا يكون إلا بالاحتراس من الألفاظ التي يكون فيها إساءة أدب مع ربوبية الله- جل وعلا- ، أو مع أسماء الله- جل وعلا- وصفاته ، ولهذا عقد المؤلف هذا الباب فقال : " باب لا يقول عبدي وأمتي " .
_________
(1) أخرجه البخاري (2552) ومسلم (2249) .(22/233)
عبودية البشر لله- جل وعلا- عبودية حقيقة ، وإذا قيل : هذا عبد الله ، فهو عبد لله- جل وعلا- إما قهرا أو اختيارا ، فكل من في السماوات والأرض عبد لله- جل وعلا- كما قال- جل وعلا- { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا }{ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا }{ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 93- 95] ، فعبودية الخلق لله- جل وعلا- ظاهرة ؛ لأنه هو الرب ، وهو المتصرف ، وهو خالق الخلق ، وهو المدبر لشئونهم ، فالله- جل وعلا- هو المتفرد بذلك سبحانه ، فإذا قال الرجل لرقيقه : هذا عبدي ، وهذه أمتي ، كان فيه نسبة عبودية أولئك له ، وهذا فيه منافاة لكمال الأدب الواجب مع الله- جل وعلا- ؛ ولهذا كان هذا اللفظ غير جائز عند كثير من أهل العلم ، ومكروه عند طوائف آخرين .
وسبب النهي عن لفظ : « عبدي وأمتي » ما ذكرنا من وجوب تعظيم الربوبية ، وعدم انتقاص عبودية الخلق لله جل وعلا .(22/234)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقل أحدكم أطعم ربك ، وضئ ربك ، وليقل : سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي » : هذا النهي في هذا الحديث اختلف فيه أهل العلم على قولين :
الأول : أنه للتحريم ، لأن النهي الأصل فيه للتحريم إلا إذا صرفه عن ذلك الأصل صارف .
وقال آخرون : النهي هنا للكراهة ، وذلك لأنه من جهة الأدب ، ولأنه جاء في القرآن قول يوسف عليه السلام : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42] ولأن الربويية هنا المقصود بها ما يناسب البشر ، فرب الدار ، ورب العبد هو الذي يملك أمره في هذه الدنيا ؛ فلهذا قالوا : النهي للكراهة وليس للتحريم ، مع ما جاء في بعض الأحاديث من تجويز إطلاق بعض تلك الألفاظ .
قوله : « وليقل : سيدي ومولاي » السيادة مع كون الله- جل وعلا- هو السيد ، لكن السيادة بالإضافة لا بأس بها ؛ لأن للبشر سيادة تناسبه .(22/235)
« ومولاي » : المولى يأتي على معان كثيرة ، ومخاطبة البشر بقول : " مولاي " أجازه طائفة من أهل العلم ، بناء على هذا الحديث ، وقد جاء في صحيح مسلم النهي عن أن يقول : مولاي ، فقال : « لا تقولوا مولاي إنما مولاكم الله » أو نحو ذلك ، وهذا الحديث أعله بعض أهل العلم بأنه نقل بالمعني ، فهو شاذ من جهة اللفظ ، ومعارض لهذا الحديث الذي هو نص في إجازة ذلك ، فالصحيح جواز إطلاق لفظ " مولاي " و " سيدي " ، ونحو ذلك ؛ لأن المراد بالسيادة هنا سيادة تناسب البشر ، وكذلك قول : مولاي مراد به ما يناسب البشر من ذلك ، فليس اللفظان في مقام الربوبية المطلقة ؛ لأنها أعظم درجة ، ولأن العبودية لا تكون إلا لله- جل وعلا- وإطلاق ذلك على البشر لا يجوز .
فتحصل من ذلك : أن هذه الألفاظ- كما ذكرنا- يجب أن يحترز فيها ، وأن يتجنب ما ينافي الأدب مع مقام ربوبية الله- جل وعلا- وأسمائه سبحانه وتعالى ، وعليه فلا يكون جائزا أن يقول : عبدي وأمتي ، أو أن يقول : أطعم ربك ، وضئ ربك ، ونحو ذلك .(22/236)
هذا كله مختص بالتعبيد أو الربوبية للمكلفين ، أما إضافة الربوبية إلى غير المكلف فلا بأس بها ؛ لأن حقيقة العبودية لا تتصور فيها ، كأن تقول : رب الدار ، ورب المنزل ، ورب المال ، ونحو ذلك ، فإن الدار ، والمنزل ، والمال ، ليست بأشياء مكلفة بالأمر والنهي فلهذا لا تنصرف الأذهان أو يذهب القلب إلى أن ثمت نوعا من عبودية هذه الأشياء لمن أضيفت إليه ، بل إن ذلك معروف أنه إضافة ملك ؛ لأنها ليست مخاطبة بالأمر والنهي وليس يحصل منها خضوع أو تذلل .(22/237)
" باب لا يرد من سأل بالله "
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سأل بالله فأعطوا ومن استعاذ بالله فأعيذوا ومن دعاكم فأجيبوا ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه » (1) . رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح .
فيه مسائل :
الأولى : إعاذة من استعاذ بالله .
الثانية : إعطاء من سأل بالله .
الثالثة : إجابة الدعوة .
الرابعة : المكافأة على الصنيعة .
الخامسة : أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه .
السادسة : قوله : حتى تروا أنكم قد كافأتموه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (1672) والنسائي 5 / 82 وصححه النووي في « رياض الصالحين » (653).(22/238)
هذا الباب مع الباب الذي قبله ومع ما سبقه- كما ذكرنا- كلها في تعظيم الله- جل وعلا- وربوبيته وأسمائه وصفاته ؛ لأن تعظيم ذلك من إكمال التوحيد ومن تحقيق التوحيد ، ومن سأل بالله- جل جلاله- فقد سأل بعظيم ، ومن استعاذ بالله فقد استعاذ بعظيم ، بل استعاذ بمن له هذا الملكوت ، وله تدبير الأمر - جل وعلا- فكيف يرد من جعل مالك كل شيء وسيلة ؟ ولهذا كان من تعظيم الله التعظيم الواجب ألا يرد أحد سأل بالله- جل وعلا - فإذا سأل سؤالا وجعل الله- جل وعلا- هو الوسيلة فإنه لا يجوز أن يرد تعظيما لله- جل وعلا- والذي في قلبه تعظيم الله- جل وعلا- ينتفض إذا ذكر الله كما قال سبحانه : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنفال : 2 ] بمجرد ذكر الله تجل القلوب لعلمهم بالله- جل وعلا- وما يستحق ، وعلمهم بتدبيره وملكوته وعظمة صفاته وأسمائه- جل وعلا- فإذا سأل أحد بالله فإن قلب الموحد لا يكون رادا له ؛ لأنه معظم لله مجل لله- جل وعلا- فلا يرد أحدا جعل وسيلته إليه رب العزة سبحانه وتعالى .(22/239)
ومن أهل العلم من قال : إن السائل بالله قد تجب إجابته ويحرم رده ، وقد لا يجب ذلك ، وهذا القول هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار عدد من المحققين بعده ، وهو القول الثالث في المسألة .
وأما القول الأول : فهو أن من سأل بالله حرم أن يرد مطلقا .
والقول الثاني : أن من سأل بالله استحب إجابته ، وكره رده .
ومراد شيخ الإسلام رحمه الله بحالة الوجوب : أن يتوجه السؤال لمعين في أمر معين ، يعني : ألا يكون السائل سأل عددا من الناس بالله ، ليحصل على شيء ؛ فلهذا لم يدخل فيه السائل الفقير الذي يأتي فيسأل هذا ويسأل هذا ، كما لم يدخل فيه من يكون كاذبا في سؤاله ، أما إذا لم يتوجه لمعين في أمر معين ، فإنه لا يجب عليه أن يؤتيه مطلبه ، ويجوز له أن يرد سؤاله ، وعلى هذا التفصيل يكون للمسألة ثلاثة أحوال :
حال يحرم فيها رد السائل ، وحال يكره فيها رد السائل ، وحال يباح فيها رد السائل بالله .
فيحرم رد السائل بالله : إذا توجه لمعين في أمر معين ، كما إذا خصك بهذا التوجه ، وسألك بالله أن تعينه وأنت قادر على أن تؤتيه مطلوبه .(22/240)
ويستحب : إذا كان التوجه ليس لمعين ، كأن يسأل أشخاصا كثيرين ، ويباح : إذا كان من سأل بالله يعرف منه الكذب .
قوله : " باب لا يرد من سأل بالله " فيه عموم لأجل الحديث الوارد .
" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سأل بالله فأعطوه » : وإنما وجب إعطاؤه تعظيما لله- جل وعلا- . قوله : « ومن استعاذ بالله فأعيذوه » من استعاذ منك بالله فيجب أن تعيذه ، فمن قال : أعوذ بالله منك ، تعظيما لله- جل جلاله- تجيبه إلى ذلك وتتركه ؛ لأن من استعاذ بالله فقد استعاذ بأعظم مستعاذ به ؛ وفي قصة الجونية التي دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام واقترب منها ، قالت له : أعوذ بالله منك ، فابتعد عنها عليه الصلاة والسلام وقال : « لقد استعذت بمعاذ ، الحقي بأهلك » (1) . فلما استعاذت بالله منه تركها عليه الصلاة والسلام .
قوله : « ومن دعاكم فأجيبوه » عامة أهل العلم على أن هذا مخصوص بدعوة العرس ، وأما سائر الدعوات فهي على الاستحباب .
_________
(1) أخرجه البخاري (5254).(22/241)
قوله : « ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه » من صنع إليك معروفا فكافئه ، ولتكن مكافأته من جنس معروفه ، إن كان معروفه من جهة المال فكافئه من جهة المال ، وإن كان معروفه من جهة الجاه فكافئه من جهة الجاه ، وهكذا .
وعلاقة هذا بالتوحيد كما قال المحققون : أن الذي صنع له معروف يكون في قلبه ميل ونوع تذلل وخضوع في قلبه واسترواح لهذا الذي صنع إليه المعروف ، ومعلوم أن تحقيق التوحيد لا يتم إلا بأن يكون القلب خاليا من كل ما سوى الله- جل جلاله- وأن يكون ذله وخضوعه وعرفانه بالجميل هو لله - جل وعلا- وتخليص القلب من ذلك يكون بالمكافأة على المعروف ، وأنه إذا أدى إليك معروفا فخلص القلب من رؤية ذلك المعروف بأن ترد إليه معروفه ؛ ولهذا قال : « فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه » ، لأجل أن يتخلص القلب من أثر ذلك المعروف ، فترى أنك دعوت له بقدر ترجو معه أنك قد كافأته ، وهذا لتخليص القلب مما سوى الله- جل وعلا- وهذه مقامات لا يدركها إلا أرباب الإخلاص ، وتحقيق التوحيد جعلنا الله وإياكم منهم .(22/242)
" باب (1) لا يسأل بوجه الله إلا الجنة "
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يسأل بوجه الله إلا الجنة » (2) . رواه أبو داود .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب .
الثانية : إثبات صفة الوجه .
الشرح :
هذا باب : « لا يسأل بوجه الله إلا الجنة » ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة : في أن تعظيم صفات الله- جل وعلا- الذاتية والفعلية من تحقيق التوحيد ، ومن كمال الأدب والتعظيم لله- جل وعلا- ، فإن تعظيم الله- جل جلاله- وتعظيم أسمائه وصفاته يكون بأمور كثيرة ، منها : ألا يسأل بوجه الله أو بصفات الله- جل جلاله- إلا المطالب العظيمة التي أعلاها الجنة .
قوله : « لا يسأل » هذا نفي مضمن النهي المؤكد ، كأنه قال : لا يسأل أحد بوجه الله إلا الجنة ، أو لا تسأل بوجه الله إلا الجنة ، فعدل عن النهي إلى النفي لكي يتضمن أن هذا منهي عنه وأنه لا يسوغ وقوعه أصلا لما يجب من تعظيم الله- جل جلاله- وتعظيم توحيده ، وتعظيم أسماء الله- جل وعلا- وصفاته .
_________
(1) الشيخ- رحمه الله- صنع هذا كصنيع البخاري في صحيحه ، والبخاري في صحيحه على ثلاثة أصناف : تارة يضيف فيقول : باب كذا ، وتارة يقول : باب فتقول : باب وتكمل ، أو تقول : باب وتسكت ثم تكمل الكلام ، فهذه ثلاثة أصناف في البخاري جارية في هذا الكتاب .
(2) أخرجه أبو داود (1671) وله شاهد من حديث أبي موسى أخرجه الطبراني في « الدعاء » (2112) بإسناد حسن.(22/243)
قوله : « بوجه الله » وجه الله- جل جلاله- صفة ذات من صفاته سبحانه ، وهو غير الذات . والوجه في اللغة : ما يواجه به ، وهو مجمع أكثر الصفات في اللغة ، فالله- جل وعلا- متصف بالوجه على ما يليق بجلاله وعظمته ، نثبت ذلك إثباتا نعلم أصل المعنى ، ولكن كمال المعنى أو الكيفية فإننا نكل ذلك إلى عالمه وإلى المتصف به- جل جلاله- ولكن نثبت على أصل عدم التمثيل والتعطيل ، كما قال- جل وعلا- : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى : 11] .(22/244)
قوله : « إلا الجنة » الجنة : هي دار الكرامة التي أعدها الله- جل وعلا- للمكلفين من عباده الذين أجابوا رسله ، ووحدوه ، وعملوا صالحا ، وهي أعظم مطلوب لأن الحصول عليها حصول على أعظم ما يسر به العبد ؛ . فلهذا كان من غير السائغ واللائق بل كان من غير الجائز أن يسأل الله- جل وعلا- بنفسه أو بوجهه أو بصفة من صفاته أو باسم من أسمائه الحسنى إلا أعظم مطلوب ، فإن الله- جل جلاله- لا يسأل بصفاته الأشياء الحقيرة الوضيعة ؛ بل يسأل بها أعظم المطلوب ، وذلك لكي يتناسب السؤال مع وسيلة السؤال ، وهذا معنى هذا الباب ، وهو أن من تعظيم صفات الله- جل وعلا- أن لا تدعو الله بها إلا في الأمور الجليلة ، فلا تسأل الله- جل وعلا- بوجهه أو باسمه الأعظم أو نحو ذلك في أمور حقيرة وضيعة لا تناسب تعظيم ذلك الاسم .(22/245)
" عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يسأل بوجه الله إلا الجنة » رواه أبو داود ودلالة الحديث على ما بوب له الإمام المصنف - رحمه الله تعالى- ظاهرة جلية ، وقد قال العلماء هنا : إن وجه الله- جل جلاله- يسأل به الجنة ، ولا يجوز أن يسأل به غيرها إلا ما كان وسيلة إلى الجنة ، أو كان من الأمور العظيمة التي هي من جنس السؤال بالجنة ، أو من لوازم السؤال بالجنة كالنجاة من النار ، وكالتثبيت عند السؤال ، ونحو ذلك .
فالأمر المطلوب الجنة أو ما قرب إليها من قول أو عمل ، والنجاة من النار أو ما قرب إليها من قول وعمل ، فهذا يجوز أن تسأل الله- جل وعلا- إياه متوسلا بوجهه العظيم سبحانه وتعالى .
وأما غير الوجه من الصفات أو من الأسماء فالأدب أن لا يسأل به إلا المطالب العظيمة ، أما المطالب الوضيعة أو غيرها مما ليس بعظيم ، فلا يتوسل إليها بصفات الله الجليلة العظيمة ، بل يقال : اللهم أعطني كذا ، اللهم أسألك كذا ، والله أعلم .(22/246)
" باب ما جاء في اللو "
وقول الله تعالى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [آل عمران : 154] . وقوله : { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران : 168] .
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآيتين في آل عمران .
الثانية : النهي الصريح عن قول : " لو " إذا أصابك شيء .
الثالثة : تعليل المسألة ؛ بأن ذلك يفتح عمل الشيطان .
الرابعة : الإرشاد إلى الكلام الحسن .
الخامسة : الأمر بالحرص على ما ينفع ، مع الاستعانة بالله .
السادسة : النهي عن ضد ذلك وهو العجز .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2664).(22/247)
قلب الموحد المؤمن ، لا يكون محققا مكملا للتوحيد حتى يعلم أن كل شيء بقضاء الله- جل وعلا- وبقدره ، وأن ما فعله سببا من الأسباب والله- جل وعلا- ماض قدره في خلقه ، وأنه مهما فعل فإنه لن يحجز قدر الله- جل وعلا- ، فإذا كان كذلك كان القلب معظما لله- جل وعلا- في تصرفه في ملكوته ، وكان القلب لا يخالطه تمني أن يكون شيء فات على غير ما كان ، وأنه لو فعل كذا لتغير ذلك السابق ، بل الواجب أن يعلم أن قضاء الله نافذ ، وأن قدره ماض ، وأن ما سبق من الفعل قد قدره الله- جل وعلا- وقدر نتائجه ، فالعبد لا يمكنه أن يرجع إلى الماضي فيغير . وإذا استعمل لفظ (لو) أو لفظ (ليت) وما أشبهها من الألفاظ التي تدل على الندم ، وعلى التحسر على ما فات ، فإن ذلك يضعف القلب ، ويجعله متعلقا بالأسباب ، منصرفا عن الإيقان بتصريف الله- جل وعلا- في ملكوته ، وكمال التوحيد إنما يكون بعدم الالتفات إلى الماضي فإن الماضي الذي حصل إما أن يكون مصيبة أصيب بها العبد فلا يجوز له أن يقول : لو فعلت كذا لما حصل كذا ، بل الواجب عليه أن يصبر على المصيبة ، وأن يرضى بفعل الله- جل وعلا- ويستحب له الرضى بالمصيبة .(22/248)
وإذا كان ما أصابه في الماضي معصية فإن عليه أن يسارع في التوبة والإنابة وأن لا يقول : لو كان كذا لم يكن كذا بل يجب عليه أن يسارع في التوبة والإنابة حتى يمحو أثر المعصية .
فتبين أن ما مضى من المقدر للعبد معه حالان : إما أن يكون ذلك الذي مضى مصايب ، فحالها كما ذكرنا ، وإما أن يكون معايب ومعاصي فالواجب عليه أن ينيب وأن يستغفر وأن يقبل على الله . - جل جلاله- وقد قال سبحانه : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [طه : 82] .
والشيطان يدخل على القلب ، فيجعله يسيء الظن بربه- جل وعلا- وبقضائه وبقدره ، وإذا دخلت إساءة الظن بالله ضعف التوحيد ولم يحقق العبد ما يجب عليه من الإيمان بالقدر والإيمان بأفعال الله- جل جلاله- ؛ ولهذا عقد المصنف هذا الباب ؛ لأن كثيرين يعترضون على القدر من جهة أفعالهم ، ويظنون أنهم لو فعلوا أشياء لتغير الحال والله- جل وعلا- قد قدر الفعل وقدر نتيجته ، فالكل موافق لحكمته سبحانه وتعالى .(22/249)
" وقول الله تعالى : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [آل عمران : 154] وقوله : { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران : 168] " : تقدم أن قول (لو) في الماضي لا يجوز وأنه محرم ودليل ذلك واضح من الآيتين . ومناسبة الآيتين للباب ظاهرة : وهو أن التحسر على الماضي بالإتيان بلفظ (لو) إنما هو من خصال المنافقين قال- جل وعلا- عن المنافقين : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وقال : { الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } وهذا في قصة غزوة أحد كما هو معروف ، فهذا من كلام المنافقين ، فيكون استعمال (لو) من خصال النفاق ، وهذا يدل على حرمتها .(22/250)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن (لو) ، تفتح عمل الشيطان » : وجه مناسبة هذا الحديث : قوله : « وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا » و(لو) هنا كانت على الماضي ، وقوله : (فلا تقل) نهي ، والنهي للتحريم ؛ وهذا لأنه سوء ظن ؛ ولأنه فتح عمل الشيطان ، فالشيطان يأتي المصاب فيغريه بـ(لو) حتى إذا استعملها ضعف قلبه وعجز ، وظن أنه سيغير من قدر الله شيئا ، وهو لا يستطيع أن يغير من قدر الله شيئا ، بل قدر الله ماض ؛ ولهذا أرشده عليه الصلاة والسلام أن يقول : « قدر الله وما شاء فعل » ؛ لأن ذلك راجع إلى قدره وإلى مشيئته ، هذا كله من النهي والتحريم راجع إلى ما كان من استعمال (لو) أو (ليت) وما شابههما من الألفاظ في التحسر على الماضي ، وتمني أن لو فعل كذا حتى لا يحصل له ما سبق ، كل ذلك فيما يتصل بالماضي .(22/251)
أما المستقبل كأن يقول : لو يحصل لي كذا وكذا في المستقبل ، فإنه لا يدخل في النهي ؛ لأنها حينئذ تكون للتعليق في المستقبل ، وترادف (إن) .(22/252)
فاستعمال (لو) في المستقبل الأصل فيه الجواز ، إلا إن اقترن بذلك اعتقاد أن فعله سيكون حاكما على القدر كاعتقاد بعض الجاهليين ، أنه إن حصل لي كذا فعلت كذا ، تكبرا وأنفة واستعظاما لفعلهم وقدرتهم ، فإن هذا يكون من المنهي ؛ لأن فيه تجبرا وتعاظما ، والواجب على العبد أن يكون ذليلا ؛ لأن القضاء والقدر ماض ، وقد يحصل له الفعل ولكن ينقلب على عقبيه كحال الذي قال الله- جل وعلا- فيه : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ }{ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ }{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [التوبة : 75- 77] فإنهم قالوا : لئن كان لنا كذا وكذا لنفعلن كذا وكذا ، فلما أعطاهم الله- جل وعلا- المال بخلوا به وتولوا وهم معرضون ، فهذا فيه نوع تحكم على القدر وتعاظم ، فاستعمال (لو) في المستقبل إذا كانت في الخير مع رجاء ما عند الله بالإعانة على أسباب الخير فهذا جائز ، أما إذا كان على وجه(22/253)
التجبر والاستعظام ، فإنه لا يجوز ؛ لأن فيه نوع تحكم على القدر .(22/254)
" باب النهي عن سب الريح "
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم أنا نسألك من خير هذه الريح ، وخير ما فيها ، وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح ، وشر ما فيها ، وشر ما أمرت به » (1) . " صححه الترمذي .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الريح .
الثانية : الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره .
الثالثة : الإرشاد إلى أنها مأمورة .
الرابعة : أنها قد تؤمر بخير ، وقد تؤمر بشر .
الشرح :
الريح مخلوق من مخلوقات الله مسخر ، وهي واحدة الرياح ، يجريها الله- جل وعلا- كما يشاء ، وهي-كالدهر- لا تملك شيئا ، ولا تدبر أمرا ، فسب الريح كسب الدهر يرجع في الحقيقة إلى أذية الله- جل وعلا- ؛ لأن الله هو الذي يصرف الريح كيف يشاء ، فيجعل الريح تأتي بأمر مكروه ؛ ليذكر العباد بالتوبة والإنابة ؛ ويذكر بمعرفة قدرته عليهم ، وأنه لا غنى لهم عنه- جل وعلا- طرفة عين . وهو الذي يجعل الرياح بشرا ، فيسخرها- جل وعلا- لما فيه مصلحة العباد .
_________
(1) أخرجه الترمذي (2252) وقال : حديث حسن صحيح.(22/255)
فهذا الباب عقده لبيان تحريم سب الريح ، كما عقد ما قبله لبيان أن سبب الدهر لا يجوز ومحرم ؛ لأنه أذية لله- جل وعلا- وهذا الباب من جنس ذاك ، لكن هذا يكثر وقوعه ، فأفرده لكثرة وقوعه ، وللحاجة إلى التنبيه عليه .
قوله " باب النهي عن سب الريح " النهي للتحريم ، وسب الريح يكون بشتمها أو بلعنها ، وكما ذكرنا في باب الدهر ، فإنه ليس من سبها أن توصف بالشدة ، كقول الله- جل وعلا- : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا } [الحاقة : 6- 7] فهذا وصف للريح بالشدة ، ومثل ذلك وصفها بالأوصاف التي يكون فيها شر على من أتت عليه كقوله : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات : 42] فمثل هذا ليس من المنهي عنه .(22/256)
" عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح ، وخير ما فيها وخير ما أمرت به » هذا يدل على أن الريح يكون فيها خير ، وتؤمر وتنهى ، والله- جل وعلا- يرسل الرياح كيف يشاء ، ويصرفها أيضا- جل وعلا- عمن يشاء ، فهي مسخرة بأمره- جل وعلا- والملائكة هي التي تصرف الريح بأمره- جل وعلا- فللريح ملائكة تصرفها كيف شاء ربنا - جل وعلا وتقدس وتعاظم- فيكون فيها خير أو يكون فيها عذاب ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « إذا رأيت ما تكرهون فقولوا . . ، » فأرشدهم " إلى القول الآتي .(22/257)
« وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى شيئا في السماء أقبل وأدبر ، ودخل وخرج ، ورئي ذلك في وجهه ، حتى تمطر السماء ، فيسرى عنه ، ويسر عليه الصلاة والسلام ، قالت له عائشة : يا رسول الله لم ذاك ؟ قال : " ألم تسمعي لقول أولئك- أو كما قال عليه الصلاة والسلام- : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }{ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا }» [الأحقاف : 24- 25] " (1) .
فالخوف من الله- جل جلاله- إذا ظهرت هذه الحوادث أو التغيرات في السماء أو في الأرض واجب ، والله- جل وعلا- يتعرف إلى عباده بالرخاء ، كما أنه يتعرف إليهم بالشدة ، حتى يعرفوا ويعلموا ربوبيته وقهره وجبروته ، ويعلموا حلمه وتودده ورحمته أيضا لعباده .
فعلى العبد إذا رأى ما يكره أن يتضرع إلى الله ، ويستغيث به ، . وأن يسأله بقوله : « اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به » صححه الترمذي .
_________
(1) أخرجه البخاري (3206) ومسلم (899).(22/258)
أسأل الله- جل وعلا- أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وأن يجعل وسيلتنا التوحيد وأن يجعل وسيلتنا إليه الإخلاص ، فإنا مذنبون ، ولولا رحمة الله لهلكنا ، اللهم فاغفر جما وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .(22/259)
" باب قول الله تعالى : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [ آل عمران : 154 ]
وقوله تعالى : { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [الفتح : 6] . ، قال ابن القيم في الآية : فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته ، ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يظهره الله على الدين كله ، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح ، وإنما كان هذا ظن السوء ؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه ، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق ، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره ، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد ، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة ، فذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار .(22/260)
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله ، وأسماءه وصفاته ، وموجب حكمته وحمده ، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا ، وليتب إلى الله ، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء ، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك : هل أنت سالم ؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية آل عمران .
الثانية : تفسير آية الفتح .
الثالثة : الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر .
الرابعة : أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات ، وعرف نفسه .
الشرح :(22/261)
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن الله - جل وعلا - موصوف بصفات الكمال ، وله - جل وعلا - أفعال الحكمة ، وأفعال العدل ، وأفعال الرحمة والبر ، فهو سبحانه كامل في أسمائه ، كامل في صفاته ، كامل في ربوبيته ، ومن كماله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته أنه لا يفعل الشيء إلا لحكمة بالغة ، والحكمة هي : أنه - جل وعلا - يضع الأمور في مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها ، وهذا دليل الكمال . فالله - جل وعلا - له صفات الكمال ، وله نعوت الجلال والجمال ، فلهذا وجب لكماله - جل وعلا - أن يظن به ظن الحق ، وأن لا يظن به ظن السوء ، وأن يعتقد فيه ما يجب لجلاله - جل وعلا - من تمام الحكمة ، وكمال العدل ، وكمال الرحمة ، وكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ، فالذي يظن به - جل وعلا - أنه يفعل الأشياء لا عن حكمة فإنه قد ظن به ظن النقص ، وهو ظن السوء الذي ظنه أهل الجاهلية ، فظن غير الحق بالله تعالى مناف للتوحيد ، وقد يكون منافيا لكمال التوحيد ، فمنه ما يكون صاحبه خارجا عن ملة الإسلام أصلا ، كظن غير الحق بالله تعالى في بعض مسائل القدر - كما سيأتي . ومنه ما هو مناف لكمال التوحيد ، كعدم الإيمان بالحكمة ، أو بأفعال(22/262)
الله - جل وعلا - المنوطة بالعلل التي هي منوطة بحكمته سبحانه البالغة ؛ ولهذا قال - جل وعلا - : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 149 ] في الرد على القدرية المشركة ، وقد قال أيضا - جل وعلا - : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [ القمر : 5 ] ، فالله - جل وعلا - موصوف بكمال الحكمة ، وكمال الحمد على أفعاله ؛ لأن أفعال الله - جل وعلا - قسمان : أفعال ترجع إلى الحكمة والعدل ، وأفعال ترجع إلى الفضل والنعمة والرحمة والبر بالخلق ، فالله - جل وعلا - يفعل هذا وهذا ، وحتى أفعاله التي هي أفعال بر وإحسان هي منوطة بالحكم العظيمة ، وكذلك الأفعال التي قد يظهر للبشر أنها ليست في صالحهم أو ليست موافقة للحكمة ، فإن ظن الحق بالله - جل وعلا - أن يظن به ، وأن يعتقد أنه ليس ثم شيء من أفعاله إلا وهو موافق لحكمته - جل وعلا - العظيمة ، إذ هو العزيز القهار ، الفعال لما يريد .(22/263)
فالواجب - تحقيقا للتوحيد - أن يظن العبد بالله - جل وعلا - ظن الحق . وأما ظن السوء فهو ظن الجاهلية ، الذي هو مناف لأصل التوحيد في بعض أحواله ، أو مناف لكمال التوحيد ، فترجم المؤلف - رحمه الله - بهذا الباب ليبين أن ظن السوء بالله - جل وعلا - من خصال أهل الجاهلية ، وهو مناف لأصل التوحيد ، أو مناف لكماله بحسب الحال .(22/264)
" باب قول الله تعالى : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } [ آل عمران : 154 ] . الظن يطلق ويراد به الاعتقاد ، وقد يراد به ما يسبق إلى الوهم ، يعني : ما يسبق إلى الذهن ، فهم يعتقدون ، أو يسبق إلى أذهانهم - بما معهم من الشرك - أن الله - جل وعلا - ليست أفعاله أفعال حق ، والله سبحانه هو الحق ، وأفعاله كلها أفعال الحق ، وذلك الظن هو ظن الجاهلية ، فكل من ظن بالله غير الحق ، فقد ظنَّ ظنَّ الجاهلية ، بمعنى أنه ظن بالله - جل وعلا - غير الكمال ، فهذا هو ظن الجاهلية . وأما ظن أهل التوحيد والإسلام فإنهم يظنون ، يعني : يعتقدون ويعلمون ويسبق إلى أذهانهم في أي فعل يحصل لهم أن الله - جل وعلا - موصوف بالكمال وبالحكمة البالغة ، فسر ذلك - جل وعلا - بقوله : { يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ } ، وهذا فيه إنكار للحكمة ، أو إنكار للقدر ، { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ، وهذا في الرد على هؤلاء المنافقين أو المشركين .(22/265)
" وقوله : { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [ الفتح : 6 ] : يؤخذ من كلام ابن القيم الذي أورده المصنف أن السلف فسروا هذا الظن السوء بأحد ثلاثة أشياء ، وكلها صحيح : الأول : إنكار القدر .
الثاني : إنكار الحكمة .
الثالث : إنكار نصر الله - جل وعلا - لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أو لدينه أو لعباده الصالحين ، فهذه ثلاثة أشياء ، ووجه كون إنكار القدر ظنا بالله ظن السوء : أن تقدير الأمور قبل وقوعها من آثار عزة الله - جل وعلا - وقدرته ؛ فإن العاجز هو الذي تقع معه الأمور استئنافا عن غير تقدير سابق ، وأما الذي لا يحصل معه أمر حتى يقدره قبل أن يوقعه ، فيقع على وفق ما قدر ، فهو ذو الكمال ، وهو ذو العزة ، وهو الذي لا يغالب في ملكوته ؛ ولهذا قال الشاعر في وصف رجل كامل :
لأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
الخلق هنا بمعنى التقدير ، يعني : لأنت تقطع ما قدرت ، وبعض القوم - وهم الناقصون إما لعدم قدرتهم ، أو لعدم عزتهم ، أو لجهلهم - يخلق ، يعني : يقدر الأشياء ، ثم لا يفري ، أي : لا يستطيع أن يقطعها على وفق ما يريد .(22/266)
فإنكار القدر ظن بالله - جل وعلا - ظن السوء ؛ لأن فيه نسبة النقص لله - جل وعلا - ، والله - جل وعلا - هو الكامل في أسمائه ، الكامل في صفاته - جل وعلا - ، الذي يجير ولا يجار عليه ، والذي إليه الأمر كله ، كما قال هنا : { قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ؛ فلهذا كان كل ما يحصل من الرب - جل وعلا - في بريته موافقا لقدره السابق الذي هو دليل كمال حكمته ، وعلمه ، وخلقه ، وعموم مشيئته .(22/267)
أما التفسير الثاني : فهو إنكار الحكمة ، وحكمة الله - جل وعلا - ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع السلف ، واسم الله ( الحكيم ) مشتمل على صفة الحكمة ، فإنه - جل وعلا - حكيم ، بمعنى : حاكم ، وحكيم ، بمعنى : محكم للأمور ، وحكيم ، بمعنى : أنه ذو الحكمة البالغة ، فهذه ثلاثة تفسيرات لاسم الله ( الحكيم ) . وكلها صحيحة ، وكلها يستحقها الله - جل وعلا - ، فإنه - جل وعلا - حكيم بمعنى حاكم ، وحكيم بمعنى محكم ، كما قال : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] ، وقال : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } [ الملك : 3 ] ؛ لأجل إحكامه ، وقال سبحانه وتعالى - أيضا : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ يونس : 101 ] ، ونحو ذلك من دليل إحكامه - جل وعلا - لما خلق ، والثالث : أنه ذو الحكمة ، والحكمة في صفة الله - جل وعلا - تفسر كما تقدم - بأنها وضع الأمور في مواضعها ، الموافقة للغايات المحمودة منها ؛ ولهذا قال أهل السنة والجماعة ، أهل الأثر الفقهاء بالكتاب والسنة : إن أفعال الله - جل وعلا - معللة ، وكل فعل يفعله الله - جل وعلا - فله علة من أجلها فعل ، وهذه العلة هي حكمته(22/268)
سبحانه وتعالى ، فإن أفعال الله - جل وعلا - منوطة بالعلل ، وهذا أنكره المعتزلة ؛ لأنهم قدرية ، وأنكره الأشاعرة ؛ لأنهم جبرية ، فقالوا : إن أفعال الله - جل وعلا - ليست مرتبطة بالحكم ، وهو يفعل لا عن حكمة ، وهذا سوء ظن بالله - جل وعلا - ؛ ولهذا أورد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب ليبين أن تحقيق التوحيد ، وتحقيق كمال التوحيد أن توقن بالحكمة البالغة لله - جل وعلا - ، ومن نفى الحكمة في أفعال الله فهو مبتدع ، توحيده قد انتفى عنه كماله ؛ لأن بدعته شنيعة ، وكل البدع تنفي كمال التوحيد ، ومنها ما ينفي أصل التوحيد .(22/269)
والتفسير الثالث - في ظن أهل الجاهلية وأهل النفاق ظن السوء بالله - جل وعلا - : أن الله - جل وعلا - لا ينصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الله - جل وعلا - لا ينصر كتابه ، أو أنه يجعل رسوله أو دينه في اضمحلال حتى يذهب ذلك الدين ، هذا ظن سوء بالله - جل وعلا - . ولهذا كان من براهين النبوات عند أهل السنة : أنه لم يدع أحد النبوة وهو كاذب في دعواه ، إلا ويخذل ويضمحل أمره ، ومن براهينها : أن كل نبي قال إنه مرسل من عند الله - جل وعلا - أيد بالآيات والبينات ، ونصر على عدوه ، وجعل دينه وأهل دينه في عزة على من سواهم ، كما قال - جل وعلا - : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] ، وقال - جل وعلا - : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ }{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ }{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، فظن أهل الجاهلية أن الخير أو الدين سيضمحل ، وأنهم إذا بذلوا إطفاء ذلك الأمر وحاربوه بكل ما أوتوا من وسيلة وقاوموهم فإنه سينتهي ، وهذا مع كونه عملا محرما(22/270)
لما يشتمل عليه من الظلم ، فإنه أيضا سوء ظن بالله - جل وعلا - وغرور بالقوة وبالنفس ، والله - جل وعلا - ناصر رسله ، والله - جل وعلا - ناصر عباده المؤمنين ، ولكن قد يبتلي الله - جل وعلا - المؤمنين بعدم النصرة والظهور زمنا طويلا قد يبلغ مئات السنين ، كما حصل في قصة نوح عليه السلام : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } [ العنكبوت : 14 ] ، ثم بعد ذلك نصره الله - جل وعلا - وهذا الظن السيئ يحصل - كما ذكر ابن القيم - من كثير من أهل الصلاح ، بل من كثير من الناس ، بل قد يحصل من بعض المنتسبين إلى العلم ، وسبب حدوث ذلك الظن السيئ في القلوب عدم العلم بما يستحقه الله - جل وعلا - وما أوجبه - جل وعلا - من الصبر والأناة ، ونحو ذلك من الواجبات .
فالمسألة متصل بعضها ببعض ، فالذي يخالف ما أمر الله - جل وعلا - به شرعا فيما يتصل بنصرة الدين ، فإنه قد يقع في سوء ظن بالله - جل جلاله - وهذا مما ينافي كمال التوحيد الواجب .(22/271)
ولهذا يجب على المؤمن أن يتحرز كثيرا ، وأن يحترس من سوء الظن بالله - جل وعلا - فإن بعض الناس قد ينال الشيء فيرى أنه يستحق أكثر منه ، وقد يحصل له الشيء بقضاء الله وبقدره فيظن أنه لا يستحق ذلك الشيء ، أو أن الذي ينبغي أن يصاب به هو غيره ، فينظر إلى فعل الله - جل وعلا - وقضائه وقدره على وجه الاتهام ، وقل من يسلم باطنا وظاهرا من ذلك ، فكثيرون قد يسلمون ظاهرا ، ولكن في الباطن يقوم بقلوبهم ظن الجاهلية ، واعتقاد السوء ؛ ولهذا قال - جل وعلا - في الآية التي في صدر الباب : { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } ، والظن محله القلب ؛ فلهذا يجب على المؤمن أن يخلص قلبه من كل ظن بالله غير الحق ، وأن يتعلم أسماء الله - جل وعلا - وصفاته ، وأن يتعلم ، آثار ذلك في ملكوت الله ، حتى لا يقوم بقلبه إلا أن الله جل جلاله - هو الحق ، وأن فعله حق ، حتى ولو كان في أعظم خطب ، ولو أصيب بأكبر مصيبة ،أو أهين بأعظم إهانة ، فإنه يعتقد أن فيما أصابه حكمة ، لتمام ملك الله - جل وعلا - وحكمته ، وأنه يتصرف في خلقه كيف يشاء ، وأن العباد مهما بلغوا فإنهم يظلمون أنفسهم ، والله - جل وعلا - يستحق الإجلال والتعظيم ، فخلص قلبك -(22/272)
أيها المسلم ، وخاصة طالب العلم - من كل ظن سوء بالله - جل وعلا - ، فلا تظنن في أمر قدر الله وجوده أن غيره أفضل منه ، وأن عدم حصوله أصلح ، ولا في أمر قدر الله عدم كونه أن وجوده أولى ، فإن كل ذلك سوء ظن بالله - جل وعلا - ؛ ولهذا قال العلماء في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم : « إياكم والحسد ، فإنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب » (1) سبب ذلك أن الحاسد ظن أن من أعطاه الله - جل وعلا - هذه النعمة فإنه لا يستحقها ، فحسده وتمنى زوالها عنه ، فصار في ظن سوء بالله - جل وعلا - ولهذا أكل ظنه حسناته ، كما أكلت النار الحطب ، نسأل الله - جل وعلا - السلامة والعافية من أن نظن بالله - جل وعلا - غير الحق ، ونسأله أن يجعلنا من المعظمين له ، ومن المجلين لأمره ونهيه ، المعظمين لحكمته سبحانه وتعالى .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4903) .(22/273)
" باب ما جاء في منكري القدر "
وقال ابن عمر : والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ، ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : « الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره » (1) .
_________
(1) أخرجه مسلم (8).(22/274)
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة » . يا بني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من مات على غير هذا فليس مني » (1) ، وفي رواية لأحمد : « إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة » (2) ، وفي رواية لابن وهب : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار » (3) وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال : أتيت أبي بن كعب فقلت : في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي ، فقال : لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار ، قال : فأتيت عبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن ثابت ، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه
_________
(1) أخرجه أبو داود (4700) .
(2) أخرجه أحمد 5 / 317 والترمذي (2156) و (3316) .
(3) أخرجه ابن وهب في « القدر » ( 26 ) ، وابن أبي عاصم في « السنة » (111) .(22/275)
وسلم (1) . حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه .
فيه مسائل :
الأولى : بيان فرض الإيمان بالقدر .
الثانية : بيان كيفية الإيمان به .
الثالثة : إحباط عمل من لم يؤمن به .
الرابعة : الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به .
الخامسة : ذكر أول ما خلق الله .
السادسة : أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة .
السابعة : براءته - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يؤمن به .
الثامنة : عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء .
التاسعة : أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته ؛ وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط .
الشرح :
هذا " باب ما جاء في منكري القدر " . ومناسبة هذا الباب للذي قبله : أن إنكار القدر سوء ظن بالله - جل وعلا - ويكون هذا الباب كالتفصيل لما اشتمل عليه الباب الذي قبله .
_________
(1) أخرجه أحمد 5 / 182 و 185 و 189 ، وأبو داود (4699 ) ، وابن ماجه ( 77 ) .(22/276)
ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة : وهي أن الإيمان بالقدر واجب ، ولا يتم توحيد العبد حتى يؤمن بالقدر ، وإنكار القدر كفر بالله - جل وعلا - ينافي أصل التوحيد ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : القدر نظام التوحيد ، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده . يعني : أن الإيمان بالقدر هو النظام ، أي : السلك الذي تجتمع وتنظم فيه مسائل التوحيد حتى يقوم عقدها في القلب ، فمن كذب بالقدر يكون قد قطع السلك ، فنقض ذلك التكذيب أمور التوحيد ، وهذا ظاهر ؛ فإن أصل الإيمان أن يؤمن بالأركان الستة التي منها الإيمان بالقدر ، كما ذكر ذلك الشيخ في حديث ابن عمر .(22/277)
والقدر في اللغة : هو التقدير كما هو معروف ، وهو وضع الشيء على نحو ما بما يريده واضعه ، يقال : قدر الشيء تقديرا ، وقدره قدرا وقدرا ، وفي العقيدة عرفه بعض أهل العلم بقوله : إن القدر هو علم الله السابق بالأشياء ، وكتابته لها في اللوح المحفوظ ، وعموم مشيئته - جل وعلا - وخلقه للأعيان والصفات القائمة بها ، وهذا التعريف صحيح ؛ لأنه يشمل مراتب القدر الأربع . وهذه المراتب على درجتين : الدرجة الأولى : ما يسبق وقوع المقدر ، وذلك مرتبتان : الأولى : الإيمان بالعلم السابق ، والثانية : الإيمان بكتابة الله - جل وعلا - لعموم الأشياء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » ، فقوله : « قدر مقادير الخلق » يعني : كتبها .(22/278)
والدرجة الثانية : ما يقارن وقوع المقدر ، فهذا له مرتبتان : الأولى منهما : هي مرتبة عموم المشيئة ، فإن الله - جل وعلا - ما شاءه كان ، وما لم يشأ لم يكن ، والعبد لا يشاء شيئا إلا إذا كان الله - جل وعلا - قد شاءه ، كما قال تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ الإنسان : 30 ] ، وقال : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 29 ] ، فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله - جل وعلا - والمرتبة الثانية : وهي الإيمان بأن الله - جل وعلا - خالق لكل شيء ، للأعيان ، وللصفات التي تقوم بالأعيان ، أما الأعيان والذوات فإن الله - جل وعلا - خالقها باتفاق أهل الإسلام ، يعني : الله - جل وعلا - هو الخالق للإنسان ، وللحيوان ، وللسماء وللأرض . وكذلك الإيمان بأن الصفات التي تقوم بتلك الأعيان الله - جل وعلا - هو الخالق لها ، ومن ذلك أفعال العباد ، ففعل العبد داخل في عموم خلقه - جل وعلا - قال تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ، وكلمة ( شيء ) تعرف بأنها ما يصح أن يعلم ، فكل ما يصح أن يعلم يقال عنه شيء(22/279)
؟ فلهذا يدخل في عموم قوله : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } العباد ، وأفعال العباد ، فهذه أربع مراتب . وإنكار القدر الذي بوب عليه الشيخ - رحمه الله - يصدق على إنكار أي مرتبة من هذه المراتب ، ولا يقال عن أحد : إنه مؤمن بالقدر إلا إذا سلم بها جميعا ، وآمن بها جميعا ؛ لدلالة النصوص على ذلك .
فمن منكري القدر : القدرية الغلاة ، وهم نفاة القدر الذين أنكروا العلم السابق ، فهؤلاء كفار ، ينافي فعلهم أصل التوحيد ، فمن أنكر العلم السابق ، فقد أنكر القدر إنكارا انتفى معه أصل التوحيد ، وكذلك من ينكر الكتابة ، فإن إنكار الكتابة السابقة - مع العلم بالنصوص الدالة عليها - مناف لأصل التوحيد ، ولا يستقيم معه الإيمان .
وأما إنكار المرتبتين الأخيرتين : عموم المشيئة ، وعموم الخلق ، كإنكار عموم خلق الله للأفعال كما هو مذهب المعتزلة ونحوهم ، فإنه ينافي كمال التوحيد ، ولا يحكم عليهم بالكفر والخروج من الإسلام بذلك ، وإن بدعوا ، وضللوا بسببه .
فإنكار القدر منه ما هو كفر مخرج من التوحيد مخرج من الملة ، ومنه ما هو دون ذلك ، ويكون منافيا لكمال التوحيد ، وبهذا يظهر صلة هذا الباب بكتاب التوحيد .(22/280)
" وقال ابن عمر : والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر " ، وإنما كان كذلك لأن الله - جل وعلا - لا يقبل من مسلم - إذ الإسلام شرط في صحة قبول الأعمال - ومن أنكر القدر ، ولم يؤمن بالقدر ، فإنه لا يكون مسلما ، فلا يقبل منه عمل - إذا - ، ولو أنفق مثل أحد ذهبا ، حتى يؤمن بالقدر .(22/281)
" ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : « الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره » ، وفي قوله : « تؤمن بالقدر خيره وشره » دليل على أن القدر منه ما هو خير ، ومنه ما هو شر ، أي : خير بالنسبة لابن آدم ، وشر بالنسبة لابن آدم ، فالمكلف قد يكون عليه قدر هو بالإضافة إليه خير ، وقد يكون عليه القدر بالإضافة إليه شر ، وأما بالنسبة لفعل الله - جل وعلا - فالله - جل وعلا - أفعاله كلها خير ؛ لأنها موافقة لحكمته العظيمة ؛ فلهذا جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ثنائه على ربه : « والشر ليس إليك » (1) . فالله - جل وعلا - ليس في فعله شر ، فالشر بما يضاف للعبد ، فإذا أصيب العبد بمصيبة فهي شر بالنسبة إليه ، أما بالنسبة لفعل الله فهي خير ، لأنها موافقة لحكمة الله - جل وعلا - البالغة ، والله - سبحانه وتعالى - له الأمر كله .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 771 ) .(22/282)
" وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك " (1) ، وهذا لأن القضاء والقدر قد فرغ منه ، يعني : تقدير الأمور قد فرغ منه ، والله - جل وعلا - قد قدر الأشياء وقدر أسبابها ، فالسبب الذي سيفعله المختار من عباد الله مقدر ، كما أن نتيجته مقدرة ، ومن الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله - جل وعلا - جعلك مختارا ، وأنك لست مجبورا ، فالقول بالجبر لا يستقيم مع الإيمان بالقدر ؛ لأن الإيمان بالقدر إيمان معه الإيمان بأن العبد مختار وليس بمجبر ؛ لأن التكليف وقع بذلك .
والجبرية طائفتان : طائفة غلاة ، وهم الجهمية ، وغلاة الصوفية الذين يقولون إن العبد كالريشة في مهب الريح ، وحركاته حركات اضطرارية ، ومنهم طائفة ليست بالغلاة ، وهم الأشاعرة ونحوهم الذين يقولون بالجبر في الباطن ، وبالاختيار في الظاهر ، ويقولون : إن العبد له كسب ، وهذا الكسب هو أن يكون العبد في الفعل الذي فعله محلا لفعل الله - جل وعلا - فيفعل به ، فيكون هو محلا للفعل ، ويضاف الفعل إليه على جهة الكسب ، على ما هو معروف في موضعه من التفاصيل في كتب العقيدة المطولة .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4700) .(22/283)
" سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة » (1) : هذا فيه دليل على مرتبة الكتابة ، وقوله : « إن أول ما خلق الله القلم » معناه - على الصحيح عند المحققين - إنه حين خلق الله القلم ، فـ ( أول ) هنا ظرف بمعنى : حين و ( إن ) اسمها ضمير الشان محذوف : إنه أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، يعني : حين خلق الله القلم قال له : اكتب ، فيكون قول اكتب هذا من جهة الظرفية ، يعني : حين خلق الله القلم قال له : اكتب .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4700) .(22/284)
وأما أول المخلوقات فالعرش سابق في الخلق على القلم ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الذي في الصحيح : « قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء » (1) ، فقوله - صلى الله عليه وسلم : « إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب » يدل على أنه حين خلق الله القلم قال له : اكتب ، والكتابة كانت بعد الخلق مباشرة ، ودل الحديث الثاني على أن العرش كان سابقا ، والماء كان سابقا أيضا ؛ ولهذا فالقول الصحيح : أن العرش مخلوق قبل القلم ، كما قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية :
والناس مختلفون في القلم الذي ... كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو بعده ... قولان عند أبي العلى الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه ... عند الكتابة كان ذا أركان
إلى آخر ما في هذا الباب من مباحث في الإيمان بالقدر .
_________
(1) أخرجه مسلم (2653) .(22/285)
" باب ما جاء في المصورين "
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » أخرجاه (1) .
ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله » (2) ، ولهما عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم » (3) ، ولهما عنه مرفوعا : « من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ » (4) . ولمسلم عن أبي الهياج قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته » (5) .
فيه مسائل :
الأولى : التغليظ الشديد في المصورين .
الثانية : التنبيه على العلة ؛ وهو ترك الأدب مع الله ؛ لقوله : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " .
الثالثة : التنبيه على قدرته وعجزهم ؛ لقوله : " فيخلقوا ذرة أو حبة ، أو شعيرة " .
الرابعة : التصريح بأنهم أشد الناس عذابا .
_________
(1) أخرجه البخاري (5953) و (7559) ومسلم (2111) .
(2) أخرجه البخاري (5954) ومسلم (2106) .
(3) أخرجه البخاري (2225) و(5963) و (7042) ومسلم (2110) .
(4) أخرجه البخاري (5963) ومسلم (2110) .
(5) أخرجه مسلم (969) .(22/286)
الخامسة : أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور جهنم .
السادسة : أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح .
السابعة : الأمر بطمسها إذا وجدت .
الشرح :
هذا " باب ما جاء في المصورين " ، والمصورون جمع تصحيح للمصور ، والمصور : هو الذي يقوم بالتصوير ، والتصوير معناه : التشكيل ، تشكيل الشيء حتى يكون على هيئة صورة لآدمي أو لغير آدمي من حيوان ، أو نبات ، أو جماد ، أو سماء ، أو أرض ، فكل هذا يقال له : مصور ، إذا كان يشكل بيده شيئا على هيئة صورة معروفة ، هذا من حيث المعنى ، أما من حيث الحكم فسيأتي بيانه إن شاء الله .
وقوله : " باب ما جاء في المصورين " يعني : من الوعيد ، ومن الأحاديث التي فيها أنهم جعلوا أنفسهم أندادا لله - جل وعلا - .(22/287)
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد : أن التوحيد هو ألا يجعل لله ند فيما يستحقه - جل وعلا - . والتصوير تنديد من جهة أن المصور جعل فعله ندا لفعل الله - جل وعلا - ؛ ولهذا يدخل الرضى بصنيع المصور في قول الله - جل وعلا : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] ؛ إذ ذلك حقيقته أنه جعل هذا المصور شريكا لله - جل وعلا - في هذه الصفة ، مع أن تصويره ناقص وتصوير الله - جل وعلا - على جهة الكمال ، لكن من جهة الاعتقاد لما جعل هذا المخلوق مصورا ، والله - جل وعلا - هو الذي ينفرد بتصوير المخلوقات كما يشاء ، كان من كمال التوحيد أن لا يرضى بالتصوير ، وأن لا يفعل أحد هذا الشيء ؛ لأن ذلك لله - جل وعلا - ، فالتصوير من حيث الفعل مناف لكمال التوحيد ، وهذا هو مناسبة إيراد هذا الباب في هذا الكتاب .
والمناسبة الثانية له : أن التصوير وسيلة من وسائل الشرك بالله - جل وعلا - والشرك ووسائله يجب وصدها وغلق الباب ؛ لأنها تفضي بالناس إلى الإشراك ، فمناسبة الباب لكتاب التوحيد من جهتين : الجهة الأولى : جهة المضاهاة بخلق الله ، والتمثل بخلق الله - جل وعلا - وبصفته واسمه .(22/288)
والثانية : أنه وسيلة للإشراك ، نعم قد لا يشرك بالصورة المعينة التي عملت ، ولكن الصورة من حيث الجنس هي وسيلة - ولا شك - من وسائل الإشراك ؛ فإن شرك كثير من المشركين كان من جهة الصور ، فكان من تحقيق التوحيد ألا تقر الصور لأجل أن الصورة وسيلة من وسائل المشركين في عباداتهم .
" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » أخرجاه : هذا الحديث فيه معنى وفيه تمثيل ، أما المعنى هو قوله : « ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي » ، فسبب الظلم أن العبد اعتدى ، فأراد أن يخلق كخلق الله - جل وعلا - والمقصود بذلك أن يصور كتصوير الله - جل وعلا - لخلقه .(22/289)
ثم قال معجزا : « فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » معلوم أن الذرة - وهي واحدة الذر ، صغار النمل - من أصغر المخلوقات . وحبة الحنطة ، أو حبة البر ، أو حبة الرز ، يمكن أن تصنع ، ولكن لا يمكن أن تكون كخلق الله - جل وعلا - وكذلك الشعيرة يمكن أن تصنع شكلا وأن تصور شكلا ، لكن يعجز أن يجعل فيها الحياة ، فمثلا حب البر ، أو الشعير ، أو الرز ، أو نحو ذلك مما صنعه الله ينبت إذا وضع في الأرض ، أما ما صنعه المخلوق فإنه لا تكون فيه حياة ، فالرز الصناعي الذي يأكل ، لو رمي في الأرض لما خرج منه ساق ، ولما خرج له جذر ، ولما كانت منه حياة ، وأما الذي يكون من خلق الله - جل وعلا - فهو الذي أودع فيه سر حياة ذلك الجنس من المخلوقات ؛ ولهذا قال بعض أهل العلم : إن هذا على وجه التعجيز ، فالذي يخلق كخلق الله - جل وعلا - هذا من جهة ظنه ، أما من جهة الحقيقة فإنه لا أحد يخلق كخلق الله ؛ ولهذا صار ذلك مشبها نفسه بالله - جل وعلا - فصار أظلم الخلق .(22/290)
استدل مجاهد وغيره من السلف بقوله : « أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة » على أن تصوير ما لا حياة فيه أو ما لا روح فيه محرم ؛ لأنه ذكر الحبة والشعيرة ، قالوا : فتصوير الأشجار وتصوير الحب ونحو ذلك لا يجوز .
وجمهور العلماء على خلاف ذلك ، وأن الأمر في ذلك للتعجيز ، وليس لجهة التعليل ؛ ولهذا قال في الحديث الذي بعده : « من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ » ، فلما قال : « كلف أن ينفخ فيها الروح » علمنا أن النهي في التصوير كان منصبا على ما فيه روح ، يعني : على ما حياته بحلول الروح فيه ، أما ما حياته بالنماء كالمزروعات والأشجار ونحوها ، فليس داخلا في ذلك .
" ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله » : هذا فيه تنبيه على العلة ، وهذه العلة هي المضاهاة بخلق الله - جل وعلا - وهي إحدى العلتين اللتين من أجلهما حرم التصوير ، فالتصوير حرم ، وصار صاحبه من أشد الناس عذابا لأجل أنه يضاهي بخلق الله - جل وعلا - ولأن الصورة وسيلة للشرك .(22/291)
والمضاهاة بخلق الله - جل وعلا - التي رتب عليها أن يكون فاعلها أشد الناس عذابا يوم القيامة ، عند كثير من العلماء : محمولة على المضاهاة التي تكون كفرا ؛ لأن المضاهاة في التصوير يكون كفرا في حالتين : الحالة الأولى : أن يصور صنما ليعبد ، أو يصور إلها ليعبد ، كأن يصور لأهل البوذية صورة بوذا ، أو يصور للنصارى المسيح ، أو يصور أم المسيح ونحو ذلك ، فتصوير ما يعبد من دون الله - جل وعلا - مع العلم بأنه يعبد هذا كفر بالله - جل وعلا - ؛ لأنه صور وثنا ليعبد ، وهو يعلم أنه يعبد ، فيكون شركا أكبر ، وكفرا بالله - جل وعلا - .(22/292)
والحالة الثانية : أن يصور الصورة ويزعم أنها أحسن من خلق الله - جل وعلا - فيقول : هذه أحسن من خلق الله ، أو أنا فقت في خلقي وتصويري ما فعل الله - جل وعلا - فهذا كفر أكبر ، وشرك أكبر بالله - جل جلاله - وهذا هو الذي حمل عليه هذا الحديث ، وهو قوله : « أشد الناس عذابا يوم القيامة الذي يضاهئون بخلق الله » ، وأما المضاهاة بالتصوير عامة بما لا يخرجه من الملة ، كالذي يرسم بيده ، أو ينحت التمثال ، أو ينحت الصورة مما لا يدخل في الحالتين السابقتين فهو كبيرة من الكبائر ، وصاحبها ملعون ومتوعد بالنار .
" ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم » : قوله : " نفس " أفاد أن ذلك التصوير وقع لشيء تحله النفس ، وهو الحيوانات أو الآدمي ؛ ولهذا كان الوعيد منصبا على ذلك .
« كل مصور في النار » : هذا يفيد أن التصوير كبيرة من الكبائر .
" ولهما عنه مرفوعا : « من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ » ؛ لأن الروح إنما هي من أمر الله - جل وعلا .(22/293)
" ولمسلم عن أبي الهياج قال : قال لي علي : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته » . في هذا الحديث التنبيه على العلة الثانية من علتي تحريم التصوير ، وهي أنه وسيلة من وسائل الشرك ، ووجه الاستدلال من هذا الحديث : أنه قرن بين الصورة والقبر المشرف في وجوب إزالتهما ، وبقاء القبر المشرف وسيلة من وسائل الشرك ، وكذلك لاقتران بقاء الصورة أيضا وسيلة من وسائل الشرك ، « فالنبي - عليه الصلاة والسلام - بعث عليا أن لا يدع صورة إلا طمسها » ؛ لأن الصور من وسائل الشرك ، وأن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ؛ لأن بقاء القبور مشرفة يدعو إلى تعظيمها وذلك من وسائل الشرك .
وهناك خلاف في بعض مسائل التصوير محله كتب الفقه والفتوى من جهة التصوير الحديث الذي يكون بالآلات كالتصوير بالكاميرات المختلفة أو بالفيديو أو التليفزيون أو نحو ذلك .(22/294)
" باب ما جاء في كثرة الحلف "
وقول الله تعالى : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للكسب » أخرجاه (1) ، وعن سلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه » (2) . رواه الطبراني بسند صحيح . وفي الصحيح عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : « خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم » ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ؟ « ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن » (3) ، وفيه عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته » .
وقال إبراهيم : كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار (4) .
_________
(1) أخرجه البخاري (2087) ومسلم (1606) .
(2) أخرجه الطبراني في « الكبير » (6111) و« الصغير » (821) .
(3) أخرجه مسلم (2535) .
(4) أخرجه مسلم (2533) .(22/295)
فيه مسائل :
الأولى : الوصية بحفظ الإيمان .
الثانية : الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة .
الثالثة : الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه .
الرابعة : التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي .
الخامسة : ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون .
السادسة : ثناؤه - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة أو الأربعة ، وذكر ما يحدث بعدهم .
السابعة : ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون .
الثامنة : كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد .
الشرح :(22/296)
هذا " باب ما جاء في كثرة الحلف " ، ومن الظاهر والبين أن القلب المعظم لله - جل جلاله - الذي إن ذكر الله وجل قلبه أنه لا يكثر الحلف ، لأن كثرة الحلف لا تجامع كمال التوحيد ، فإن من كمل التوحيد في قلبه ، أو قارب الكمال لا يجعل الله - جل وعلا - عرضة لأيمانه ، فالذي إذا تكلم تكلم بالحلف ، وإذا باع باع بالحلف ، وإذا اشترى اشترى بالحلف ونحو ذلك ، لم يعظم التعظيم الواجب لله - جل وعلا - فإن الواجب على العبد أن يعظم الله - جل وعلا - وأن لا يكثر اليمين ، والمقصود باليمين والحلف هنا : اليمين المعقودة التي عقدها صاحبها ، أما لغو اليمين فإن هذا معفو عنه ، مع أن الكمال فيه والمستحب أن يخلص الموحد لسانه وقلبه من كثرة الحلف في الإكرام ونحوه بلغو اليمين .(22/297)
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة ؛ وهي أن : تحقيق التوحيد وكمال التوحيد لا يجامع كثرة الحلف ، فكثرة الحلف منافية لكمال التوحيد ، والحلف - كما ذكرنا - هو تأكيد الأمر بمعظم ، وهو الله - جل جلاله . فمن أكد وعقد اليمين بالله - جل وعلا - وأكثر من ذلك ، فإنه لا يكون معظما لله - جل جلاله ، إذ الله - سبحانه وتعالى - يجب أن يصان اسمه ، ويصان الحلف به واليمين به إلا عند الحاجة إليها ، أما كثرة ذلك وكثرة مجيئه على اللسان ، فهو ليس من صفة أهل الصلاح ؛ ولهذا أمر الله - جل وعلا - بحفظ اليمين ، فقال : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] ، وهذا الأمر للوجوب ؛ لأنه وسيلة لتحقيق تعظيم الله - جل وعلا - وتحقيق كمال التوحيد ، فقوله : { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } هذا إيجاب لأن يحفظ العبد يمينه ، فلا يحلف عاقدا اليمين إلا على أمر شرعي بين ، أما أن يحلف دائما ، ويجعل الله - جل وعلا - في يمينه ، فهذا ليس من تعظيم أسماء الله - جل جلاله .(22/298)
" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب » : وسبب ذلك أنه نوع عقوبة ، فإن هذا الذي يبيع بالحلف فإنه تنفق سلعته ، ولكن كسبه يمحق ؛ لأن محق الكسب يكون نوع عقوبة لأجل أنه لم يفعل الواجب من تعظيم الله - جل وعلا - .
" وعن سلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : أشيمط زان » : يعني من شمطه الشيب إذا خالطه ، وقلبه متعلق بالزنى - والعياذ بالله - فإنه ليس عنده من الدواعي للزنى ما يجعله يقبل عليه ، كحال من كان شابا ، فهو قد وخطه الشيب ، فيكون إذا في قلبه حب المعصية ، وليست مسألة غلبة الشهوة ؛ ولهذا كان من أهل هذا الوعيد العظيم بألا يكلمه الله ، ولا يزكيه ، وله عذاب أليم .
« وعائل مستكبر » : هذا النوع الثاني - وهو من جنس الأول - فإن الاستكبار - كما قال العلماء - يكون استكبارا في الذات ، ويكون استكبارا للصفات .(22/299)
فإذا كان استكبارا للصفات فهذا محرم ، ولكنه أهون كمن يكون ذا جاه ورفعة ، فيتكبر لأجل ما له من الجاه والرفعة ، فهذا لا يجوز ، لكن عنده ما يوقع في قلبه الشبهة والفتنة بالتكبر أو الاستكبار ، أو يكون ذا مال ، أو يكون ذا جمال ، أو يكون ذا سمعة ، ونحو ذلك ، فعنده سبب يجعله يتكبر ، وهذا يكثر في أهل الغنى ، فإن كثيرا من أهل الغنى يكون عندهم نوع تكبر على الفقراء ، أو من ليس من أهل الغنى ، فهذا عنده وصف جعله يتكبر ، لكن الأعظم أن يكون تكبره في الذات بألا يكون عنده صفة تجعله متكبرا ، وهذا هو النوع الأول ، وهو استكبار للذات يرى نفسه كبيرا ، ويتعاظم ، وهو ليس عنده شيء من الصفات تجعله كذلك ، فهذا يكون فعله كبيرة من الكبائر العظيمة ، ويدخل في هذا الحديث : « وعائل مستكبر » ؛ لأن العائل - وهو الفقير الكثير العيال - ليس عنده من الصفات ما يكون الاستكبار شبهة عنده ، أو لأجل تلك الصفات ، أو يكون ثم فتنة عنده ، إلا لما قام في نفسه الخبيثة من الكبر .(22/300)
« ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه » : وهذا موطن الشاهد من الحديث ، وهو ظاهر في أنه مذموم ، وأنه صاحب كبيرة ؛ لأنه جعل الله بضاعته ، يبيع باليمين ، ويشتري باليمين ، وهذا لا يجامع كمال التوحيد ، بل لا يجامع تعظيم الله - جل وعلا - التعظيم الواجب ، فيكون مرتكبا لمحرم .
والحديثان اللذان بعده واضحان ، وأما قول إبراهيم النخعي : " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار " : فهذا فيه تأديب السلف لأولادهم ولذراريهم على تعظيم الله - جل وعلا - فإن الشهادة والعهد يجب أن يقترنا بالتعظيم لله - جل وعلا - والخوف من لقائه ، والخوف من الظلم ، فكانوا يؤدبون أولادهم على ذلك حتى يتمرنوا وينشئوا على تعظيم توحيد الله وتعظيم أمر الله ونهيه .(22/301)
" باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه "
وقوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } . [ النحل : 91 ](22/302)
وعن بريدة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، فقال : « اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأتيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجرى عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم(22/303)
أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا » (1) رواه مسلم .
فيه مسائل :
الأولى : الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين .
الثانية : الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا .
الثالثة : قوله « اغزوا بسم الله في سبيل الله » .
الرابعة : قوله : « قاتلوا من كفر بالله » .
الخامسة : قوله : « استعن بالله وقاتلهم » .
السادسة : الفرق بين حكم الله ، وحكم العلماء .
السابعة : في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا ؟
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (1731) .(22/304)
هذا باب عظيم من الأبواب الأخيرة في هذا الكتاب ، وهو " باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - " ، وذكر الإمام - رحمه الله - لهذا الباب لأجل حديث بريدة الذي ساقه وفيه « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه » ، وهذا لأجل تعظيم الرب - جل وعلا - وتعظيم رسوله - صلى الله عليه وسلم ، فإن تعظيم الله - جل وعلا - في مناجاته وفي سؤاله ، وفي العبادة له - جل وعلا - وفي التعامل مع الناس ، هذا كله من كمال التوحيد ، وهذا الباب من جهة التعامل مع الناس ، كما جاء في الباب الذي قبله ، فالباب الذي قبله وهو " باب ما جاء في كثرة الحلف " متعلق بتعظيم الله - جل وعلا - حين التعامل مع الناس ، و" باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه " متعلق بالتعامل مع الناس في الحالات العسرة الصعبة ، وهي حال الجهاد ، فنبه بذلك على أن تعظيم الرب - جل وعلا - يجب أن يكون في التعامل ولو في أعصب الحالات ، وهي الجهاد ، فإن العبد يكون موقرا لله تعالى مجلا له ،(22/305)
معظما لأسمائه وصفاته ، ومن ذاك أن يعظم ذمة الله وذمة نبيه .
والذمة بمعنى العهد ، وذمة الله يعني : عهد الله وعهد نبيه ؛ فإنه إذا كان يعطي بعهد الله ثم يخفر ، فقد خفر عهد الله - جل وعلا - وفجر في ذلك ، وهذا مناف لكمال التوحيد الواجب ؛ لأن الواجب على العبد أن يعظم الله - جل جلاله - وألا يخفر عهده وذمته ؛ لأنه إذا أعطى بذمة الله فإنه يجب عليه أن يوفي بهذه الذمة مهما كان ، حتى لا ينسب النقص لذمة الله - جل جلاله ؛ لهذا كان إعطاء مثل هذه الكلمة مثل كثرة الحلف ، فلا يجوز أن تجعل في العهد ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، كما لا يجوز كثرة الأيمان ؛ لأن في كل منهما نقصا في تعظيم الرب - جل جلاله .(22/306)
" وقوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : 91 ] : العهد في قوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ } فسر بالعقد ، وفسر باليمين ، فالعهد بمعنى العقد ، كما قال - جل وعلا - : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } [ الإسراء: 34 ] ، وقال - جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] ، فالعقد والعهد بمعنى ، فلهذا فسر : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } بأنها العقود التي تكون بين الناس ، وفسر أيضا بأنه اليمين ، ودل عليه قوله بعدها : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، فيجب الوفاء بالعقد والوفاء باليمين تعظيما لحق الله - جل وعلا - ؛ لأن من أعطى اليمين بالله ، فإن معناه أنه أكد وفاءه بهذا الشيء الذي تكلم به ، أكد ذلك بالله - جل جلاله - ، فإذا خالف وأخفر فمعنى ذلك أنه لم يعظم الله - جل جلاله - تعظيما خاف بسببه من أن لا يقيم ما يجب لله - جل وعلا - من الوفاء باليمين ؛ ولهذا قال : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ(22/307)
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } [ النحل : 91 ] حين استشهدتم الله - جل جلاله - أو حين حلفتم بالله - جل جلاله - ؛ ولهذا كانت كفارة اليمين واجبه على ما هو مفصل في موضعه من كتب الفقه .(22/308)
والحديث ظاهر الدلالة على ما ذكرنا ، ففيه تعظيم الله - جل جلاله - بأن لا يعطي العبد الناس بذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل أن يعطي بذمته هو ، وفي هذا تنبيه عظيم لأهل التوحيد وطلبة العلم الذين يهتمون بهذا العلم ، ويعرف الناس منهم أنهم يهتمون بهذا العلم ، ألا يبدر منهم ألفاظ أو أفعال تدل على عدم تخلقهم بهذا العلم ، فإن التوحيد هو مقام الأنبياء والمرسلين ، ومقام أولياء الله الصالحين ، فأن يتعلم طالب العلم مسائل التوحيد ، ثم لا تظهر على لسانه ، أو على جوارحه ، أو على تعامله لا شك أن هذا يرجع - ولو لم يشعر - إلى اتهام ما يحمله من التوحيد والعلم الذي هو علم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، فتذكر قول النبي - عليه الصلاة والسلام - هنا : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه » لأجل أنه قد يدخل على أهل الإسلام أو على الدين نفسه من جهة فعلهم ؛ لأنهم إذا خفروا هذه الذمة رجع إخفارهم إلى ما حملوه من الإسلام ومن الدين ، فهذه مسألة عظيمة ، فينبغي أن تستحضر أن الناس ينظرون إليك - خاصة في هذا الزمان الذي هو زمان شبه وزمان فتن -(22/309)
على أنك تحمل سنة ، وتحمل توحيدا ، وعلما شرعيا ، فلا تعاملهم إلا بشيء فيه تعظيم الرب - جل وعلا - وحتى تجعل أولئك يعظمون الله - جل وعلا - بتعظيمك له ، ولا تستهن بشأن اليمين ، ولا تخفر ذمة الله ؛ لأن ذلك منقص لأثر ما تحمله من العلم والدين ، فتذكر هذا ، وتذكر أيضا قوله عليه الصلاة والسلام هنا : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا » ، وذلك حتى إذا حصل غلط فيكون الغلط منسوبا إلى من حكم إلى هذا البشر ، ولا يكون منسوبا إلى حكم الله ، فيصد الناس عن دين الله ، وكم من الناس ممن يحملون سنة وعلما أو يشار إليهم بالاستقامة يسيئون بأفعالهم وأقوالهم لأجل عدم تعظيمهم لله - جل وعلا - وما يجب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يدعوهم إليه الرب الكريم - جل وعلا وتعالى وتقدس - نبرأ إلى الله - جل وعلا - من كل نقص ونسأله أن يعفو ويتجاوز عنا ويرحمنا جميعا .(22/310)
" باب ما جاء في الإقسام على الله "
عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله - عز وجل - : من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له ، وأحبطت عملك » (1) رواه مسلم ، وفي حديث أبي هريرة : أن القائل رجل عابد ، قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته (2) .
فيه مسائل :
الأولى : التحذير من التألي على الله .
الثانية : كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله .
الثالثة : أن الجنة مثل ذلك .
الرابعة : فيه شاهد لقوله : « إن الرجل ليتكلم بالكلمة » إلخ .
الخامسة : أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2621 ) .
(2) أخرجه أحمد 2 / 323 و 363 وأبو داود ( 4901 ) .(22/311)
الإقسام على الله يكون على جهتين : جهة يكون فيها التكبر والتجبر ، ورفعة هذا المتألي نفسه حتى يجعل له على الله حقا ، وهذا مناف لكمال التوحيد ، وقد ينافي أصله ، وصاحبه متوعد بالعقاب الذي جاء في مثل هذا الحديث ، فهذا يتألى على الله - جل وعلا - أن يحكم بما اختاره هو من الحكم ، فيقول : والله لا يحصل لفلان كذا ، تكبرا واحتقارا للآخرين ، فيريد أن يجعل حكم الله كحكمه تأليا واستكبارا على الله أن يفعل الله - جل وعلا - ما ظنه هو ، فهذا التألي والاستكبار نوع تحكم في أمر الله - جل وعلا - وفي فعله ، وهذا لا يصدر من قلب معظم لله - جل وعلا .(22/312)
والجهة الثانية : أن يقسم على الله - جل جلاله - لا على جهة التألي ، ولكن على جهة أن ما ظنه صحيح في أمر وقع له ، أو في أمر يواجهه ، فهذا يقسم على الله أن يكون كذا في المستقبل على جهة التذلل والخضوع لله لا على جهة التألي ، وهذا هو الذي جاء فيه الحديث : « ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره » (1) ؛ لأنه أقسم على الله ، لا على جهة التعاظم والتكبر والتألي ، ولكن على جهة الحاجة والافتقار إلى الله ، فحين أقسم أقسم محتاجا إلى الله ، وأكد ذلك بالله وبأسمائه من جهة ظنه الحسن بالله - جل وعلا - فهذا جائز ، ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ؛ لأنه قام في قلبه من العبودية لله والذل والخضوع ما جعل الله - جل وعلا - يجيبه في سؤاله ، ويعطيه طلبته ورغبته .
وأما الحال الأولى فهي حال المتكبر المترفع الذي يظن أنه بلغ مقاما بحيث يكون فعل الله - جل وعلا - تبعا لفعله ، فتكبر واحتقر غيره ، فبهذا التفصيل يتضح ما جاء في هذا الباب من الحديث .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 2703 ) ومسلم (1675) .(22/313)
عن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله - عز وجل : من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ؟ » : هذا الذي قال : والله لا يغفر الله لفلان ، كان رجلا صالحا ، والآخر كان رجلا فاسقا ، فقال الرجل الصالح : والله لا يغفر الله لفلان ؛ لأن فلانا هذا كان رجلا فاسقا مريدا كثير العصيان ، فتألى هذا العابد وعظيم نفسه ، وظن أنه بعبادته لله - جل وعلا - بلغ مقاما يكون متحكما فيه بأفعال الله ، وأن الله لا يرد شيئا طلبه ، أو له أن يتحكم في الخلق ، وهذا ينافي حقيقة العبودية التي هي التذلل لله - جل وعلا - فالله - سبحانه وتعالى - عاقبه ، فقال : « من ذا الذي يتألى علي ؟ » يعني : يتعاظم ويتكبر علي ويحلف علي ؛ لأن " يتألى " من الألية ، وهي : الحلف ، ومنه قوله تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 226 ] ، والإيلاء من الألية وهي : الحلف ، فيتألى ، يعني : يحلف على جهة التكبر والتعاظم .(22/314)
« ألا أغفر لفلان ، إني قد غفرت له وأحبطت عملك » : فغفر للطالح ، وأحبط عمل ذلك الرجل العابد ، وهذا يبين لك عظم شأن مخالفة تعظيم الله - جل جلاله - وعظم مخالفة توحيد الله - سبحانه وتعالى - فهذا الرجل الفاسق أتاه خير من حيث لا يشعر ، وقيلت في حقه كلمة بحسب الظاهر أنها مؤذية له ، وأن فيها من الاحتقار والازدراء له ما يجعله في ضعة بين الناس ، حيث شهد عليه هذا الصالح بقوله : « والله لا يغفر الله لفلان » ، فكانت هذه الكلمة التي ساءته وآذته فيها مصلحة عظيمة له بأن غفر له ذنبه ؛ ولهذا نبه الشيخ في مسائل الباب بمسألة معناها : أن من الابتلاء والإيذاء للشخص ما يكون أعظم أسباب الخير له . فليست العبرة باحتقار الناس ، ولا بكلامهم ، ولا بإيذائهم ، ولا بتصنيفهم للناس ، بل العبرة بحقيقة الأمر بما عند الله - جل جلاله - فالواجب على العباد جميعا أن يعظموا الله ، وأن يخبتوا إليه ، وأن يظنوا أنهم أسوأ الخلق ، حتى يقوم في قلوبهم أنهم أعظم حاجة إلى الله - جل وعلا - وأنهم لم يوفوا الله حقه ، أما التعاظم في النفس ، والتعاظم بالكلام والمدح والثناء ونحو ذلك ، فليس من صنيع المجلين لله - جل وعلا - الخائفين من تقلب(22/315)
القلوب ، فالله - جل وعلا - يقلب القلوب ، ويصرفها كيف يشاء ، فالقلب المخبت المنيب يحذر ويخاف دائما من أن يتقلب قلبه ، فينتبه للفظه ، وينتبه للحظه ، وينتبه لسمعه ، وينتبه لحركاته ، لعل الله - جل وعلا - أن يميته غير مفتون ولا مخزي .(22/316)
" باب لا يستشفع بالله على خلقه "
عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال : « جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله نهكت الأنفس ، وجاع العيال ، وهلكت الأموال ، فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ، سبحان الله !! " فما زال يسبح ، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : " ويحك أتدري ما الله ؟ إن شأن الله أعظم من ذلك ، إنه لا يستشفع بالله على أحد » (1) وذكر الحديث . رواه أبو داود .
فيه مسائل :
الأولى : إنكاره على من قال : « نستشفع بالله عليك » .
الثانية : تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة .
الثالثة : أنه لم ينكر عليه قوله : « نستشفع بك على الله » .
الرابعة : التنبيه على تفسير : " سبحان الله " .
الخامسة : أن المسلمين يسألونه - صلى الله عليه وسلم - الاستسقاء .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (4726 ) .(22/317)
« لا يستشفع » : يعني : لا يجعل الله شفيعا على الخلق ؛ لأن شأن الله - جل وعلا - أعظم وأجل من أن يستشفع به ، ويجعل واسطة للانتفاع من أحد من الخلق ، فالشفاعة المعروفة : أن تأتى إلى أحد ، وتطلب أن يكون شفيعا عند آخر ؛ لأن ذلك الآخر هو الذي يملك ما تريد والنفع عنده ، وهذا يكون واسطة ، ولا يستطيع أن ينفعك هو بنفسه إلا بأن يتوسط . والله - جل جلاله - لا يجوز أن يظن به ذلك الظن ، لأنه ظن سوء بالله - جل جلاله - فالله - سبحانه - لا يصلح أن يجعل واسطة لأحد ، أو إلى أحد من الخلق أو على أحد من الخلق ، بل هو - جل وعلا - الذي يملك الأمور جميعا ، فالاستشفاع بالله على الخلق يعني أن يجعل الله واسطة يتوسط العبد بربه على أحد من الخلق ، وهذا مناف لكمال التوحيد ، وعمل وقول من الأقوال المنافية لتعظيم الله - جل وعلا - التعظيم الواجب ؛ ولهذا ذكر الشيخ - رحمه الله - حديث جبير بن مطعم ، والشاهد منه قول الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام : « فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله » يعني : نستشفع بالله نجعل الله - جل وعلا - واسطة يتوسط لنا عندك حتى تدعو ، والله - جل وعلا - هو الملك الحي القيوم ،(22/318)
الملك الحق المبين ، نواصي العباد بيديه ، يصرفها كيف يشاء ، فشأن الله أعظم من أن يستشفع به على أحد من خلقه ، بل الرجل أو المكلف يستشفع بأحد من الخلق عند مخلوق آخر يحتاجه في شيء ، والله - جل وعلا - هو الذي يملك الأشياء جميعا ، بيده الملك والملكوت ، وهو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض ، وبيده خزائن كل شيء { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] ، فالعباد هم المحتاجون إلى الله ، وشأن الله أعظم من ذلك ، إذ المخلوق حقير وضيع بالنسبة إلى الرب - جل جلاله - فلا يصلح أن يجعل الله - جل وعلا - واسطة عنده حتى يقبل هذه الواسطة ، بل شأن الله - جل وعلا - أعظم من ذلك ؛ ولهذا قال سيد الخلق ، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام رادا على هذا الأعرابي الذي قال : إنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : « سبحان الله ، سبحان الله !! » يعني : تنزيها ، وتعظيما لله ، وإبعادا لله عن كل وصف سوء أو شائبة نقص ، وعن كل ظن سوء به - جل وعلا .(22/319)
" فما زال يكررها حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه " : من شدة تسبيحه ، وتنزيهه لربه - جل وعلا - وهذا من الغضب لله - جل جلاله - فصلى الله وسلم على نبينا محمد ، فما كان أعلمه بربه ، وما كان أعرفه بربه .
ثم قال : « ويحك أتدري ما الله ؟ ! " إن شأن الله أعظم من ذلك ؛ إنه لا يستشفع بالله على أحد » . فالله - جل وعلا - من علم أسماءه ، وعلم الصفات المستحقة له - جل وعلا - فإنه لن يخطر بخاطره ظن سوء به - جل وعلا - أو استنقاص له - جل وعلا .
فهذا الباب فيه - كما في الأبواب قلبه - ما ينبغي أن يتحرز منه الموحد من الألفاظ التي فيها سوء ظن بالله - جل وعلا - وتنقص لمقام الربوبية لله - جل جلاله .(22/320)
" باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسده طرق الشرك "
عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال : انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : « السيد الله تبارك وتعالى » قلنا : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا ، فقال : « قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان » (1) رواه أبو داود بسند جيد . وعن أنس - رضي الله عنه - أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : « يا أيها الناس قولوا بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل - » (2) ، رواه النسائي بسند جيد .
فيه مسائل :
الأولى : تحذير الناس من الغلو .
الثانية : ما ينبغي أن يقول من قيل له : أنت سيدنا .
الثالثة : قوله : « لا يستجرينكم الشيطان » مع أنهم لم يقولوا إلا الحق .
الرابعة : قوله : « ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي » .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (4806) .
(2) أخرجه النسائي في « عمل اليوم والليلة » ( 248 ) و (249) ، وصححه ابن عبد الهادي في « الصارم المنكي » (246) .(22/321)
النبي - عليه الصلاة والسلام - حمى وحرس جناب التوحيد ، وحمى حمى التوحيد ، وسد كل طريق توصل إلى الشرك ، فإن في سنة النبي - عليه الصلاة والسلام - من الدلائل على قاعدة سد الذرائع ما يبلغ مائة دليل أو أكثر ، وأعظم الذرائع التي يجب أن تسد ذرائع الشرك التي توصل إليه ، ومن تلك الذرائع قول القائل : أنت سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا ونحو ذلك ؛ فإن مثل هذه الأقوال فيها من التعظيم الذي لا يجوز أن يواجه به بشر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو سيد ولد آدم ، كما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن كره المواجهة كما سيأتي .(22/322)
فحماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد ، وسده طرقا الشرك ، كان في جهة الاعتقادات ومن جهة الأقوال والأفعال ، فإذا تأملت سنته وما جاء في هذا الكتاب - كتاب التوحيد - وجدت أنه - عليه الصلاة والسلام - سد الباب في الاعتقادات الباطلة ، وسد الباب في الأفعال الباطلة ، كقوله : « اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (1) وسد الباب أيضا في الأقوال التي توصل إلى الغلو المذموم ، فقال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » (2) ، وهذا الباب أيضا من ذلك في بيان حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد ، فيما يتعلق بالقول الذي قد يتبعه اعتقاد .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(22/323)
" عن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال : « انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : أنت سيدنا ، فقال : " السيد الله تبارك وتعالى " ، قلنا : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا ، فقال : ( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان » رواه أبو داود بسند جيد " . في هذا الحديث أن إطلاق لفظ السيد على البشر مكروه ، ومخاطبته بذلك يجب سدها ، فلا يخاطب أحد بأن يقال له : أنت سيدنا على جهة الجمع ، وذلك لأن فيها نوع تعظيم من جهة المخاطبة ، يعني : الخطاب المباشر ، والجهة الثانية من جهة استعمال اللفظ ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - سيد كما قال عن نفسه : « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » (1) ولكن مخاطبته - عليه الصلاة والسلام - مع كونه سيدا كرهها ومنع منها ، لئلا تؤدي إلى ما هو أعظم من ذلك ، من تعظيمه والغلو فيه عليه الصلاة والسلام ، فهذه مناسبة الحديث لهذا الباب : أن في قوله عليه الصلاة والسلام : « السيد الله تبارك وتعالى » مع كونه عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم ، ما يفيد أنه عليه الصلاة والسلام حمى حمى التوحيد ، وسد الطرق الموصله للشرك ، ومنها طريق الغلو في الألفاظ .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 541 من حديث أبي سعيد الخدري وابن ماجه (4308) .(22/324)
والقول للرجل بأنه سيد ونحو ذلك إذا كان على وجه المخاطبة له ، والإضافة إلى الجمع ، أشد وأعظم مما إذا كان بدون المخاطبة والإضافة إلى الجمع . ومما ذكر العلماء : أن قوله عليه الصلاة والسلام : « السيد الله تبارك وتعالى » يدل على أنه يكره كراهة شديدة أن يقال لبشر : إنه " السيد " هكذا بالألف واللام ؛ لأن هذا قد يفهم منه استغراق معاني السيادة ؛ لأن البشر له سيادة تخصه ، ولهذا ترى الذين يشركون ببعض الأولياء كالسيد البدوي يعظمون كلمة " السيد " ، ويكثر عندهم التعبيد للسيد ، ويريدون به السيد البدوي ، فيكثر عندهم عبد السيد ونحو ذلك ، ولا يريدون به الله - جل وعلا - ولكن يريدون به ذلك الذي اتخذوه معبودا ، وتوجهوا إليه ببعض أنواع العبادة ، فيفهمون من كلمة " السيد " أنه ذو السيادة ، وذو التصرف في الأمر ، وهذا هو الذي اعتقدوه من أن للبدوي ولأمثاله تصرفا في الأرض ، وقبولا للمطالب في الحاجات .(22/325)
« قلنا : وأفضلنا فضلا ، وأعظمنا طولا ، فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان » ؛ لأن هذا فيه الثناء والمدح بالمواجهة ، وهذا من الشيطان ، فالشيطان هو الذي يفتح هذا الباب أن يمدح أحد ويعظم في مواجهته ، وذلك حتى يعظم في نفسه فيأتيه الخذلان ؛ لأن كل أحد تخلى عن ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ، وتخلى عن الازدراء للنفس ، والذل والخضوع الذي يعلمه الله من قلبه ، فإنه يخذل ، ويأتيه الأمر على غرة ؛ ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقال مثل ذلك القول مواجهة ، ونهى عن المدح ؛ لأن فيه إضرارا بالمتكلم ، وإضرارا بالمقول فيه ذلك الكلام .(22/326)
" وعن أنس - رضي الله عنه - « أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال : " يا أيها الناس قولوا بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - عز وجل » - " ، رواه النسائي بسند جيد " : هو عليه الصلاة والسلام كما وصفوه هو خيرهم ، وهو سيدهم عليه الصلاة والسلام ، لكنه حمى جناب التوحيد ، وحمى حمى التوحيد ، حتى لا يستدل أحد بعده عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام على أنه يجوز أن يقال لمن ظن الناس فيه ذلك ، بل سد الباب في نفسه وهو سيد ولد آدم ، وهو خيرهم عليه الصلاة والسلام وأفضلهم ، ولكن سد الباب حتى لا يدخل أحد منه بإقراره هذا الفعل ، فيعظم أحد ويدخل الشيطان إلى ذلك المعظِّم وإلى المعظَّم ، فيجعل القلوب تتعلق بذلك المعظَّم حتى يشرك به ، وحتى يعظم بما لا يجوز له من التعظيم .(22/327)
وهذا الباب كالجامع لما يجب من سد الذرائع الموصلة للشرك ، وهذا واجب على المسلم أن يسد كل طريق أو سبيل يجعل نفسه تتعاظم ، لأن أعظم مقامات الشرف لك أن يعلم الله - جل وعلا - منك أنك متذلل خاضع بين يديه ، وأنك خائف وجل تدعوه راغبا راهبا ، فهذه صفة الخلص من عباد الله - جل وعلا - الذين وعدهم الله - جل وعلا - بالخيرات فقال سبحانه : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء : 90 ] ، والخشوع نوعان : خشوع في القلب ، وخشوع في الجوارح ، وخشوع القلب بالتطامن والذل والخضوع بين يدي الله ، وخشوع الجوارح بسكونها ، كما قال - جل وعلا : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } [ فصلت : 39 ] .(22/328)
" باب ما جاء في قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] " .(22/329)
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء على إصبع والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : " أنا الملك " فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }» ، وفي رواية لمسلم : « والجبال والشجر على إصبع ثم يهزهن فيقول : أنا الملك أنا الله » ، وفي رواية للبخاري : « يجعل السماوات على إصبع والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع » (1) . ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا : « يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ، ثم يطوي الأرضين السبع ، ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون » (2) ، وروي عن ابن عباس قال : « ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم » (3) . وقال ابن جرير حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ،
_________
(1) أخرجه البخاري (4811) و (7414) و (7415) و (7513) ومسلم (2786) .
(2) أخرجه مسلم (2788) .
(3) أخرجه ابن جرير في « التفسير » 24 / 25 .(22/330)
قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس » (1) ، وقال : قال أبو ذر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض » . (2) ، وعن ابن مسعود قال : " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام ، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام ، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم " . أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله ، (3) قاله الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - قال : وله طرق .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير (5794) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (591) .
(2) أخرجه ابن جرير « في التفسير » (5794) .
(3) أخرجه ابن خزيمة في « التوحيد » (594) ، وأبو الشيخ في « العظمة » (203) و (279) .(22/331)
وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : " بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله - سبحانه وتعالى - فوق ذلك ، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم » (1) أخرجه أبو داود وغيره .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير قوله تعالى : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
الثانية : أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكروها ولم يتأولوها .
الثالثة : أن الحبر لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه ، ونزل القرآن بتقرير ذلك .
الرابعة : وقوع الضحك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم .
الخامسة : التصريح بذكر اليدين ، وأن السماوات في اليد اليمنى ، والأرضين في الأخرى .
السادسة : التصريح بتسميتها الشمال .
السابعة : ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4723) والترمذي (3317) ، وقال : حديث حسن غريب .(22/332)
الثامنة : قوله : « كخردلة في كف أحدكم » .
التاسعة : عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء .
العاشرة : عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي .
الحادية عشرة : أن العرش غير الكرسي والماء .
الثانية عشرة : كم بين كل سماء إلى سماء .
الثالثة عشرة : كم بين السماء السابعة والكرسي .
الرابعة عشرة : كم بين الكرسي والماء .
الخامسة عشرة : أن العرش فوق الماء .
السادسة عشرة : أن الله فوق العرش .
السابعة عشرة : كم بين السماء والأرض .
الثامنة عشرة : كثف كل سماء خمس مائة سنة .
التاسعة عشرة : أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمس مائة سنة . والله أعلم .
الشرح :(22/333)
هذا " باب ما جاء في قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] " ختم به إمام هذه الدعوة شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - كتاب التوحيد وختمه هذا الكتاب بهذا الباب ختم عظيم ؛ لأن من علم حقيقة ما اشتمل عليه هذا الباب من وصف الله - جل وعلا - وعظمة الله - جل وعلا - فإنه لا يملك إلا أن يذل ذلا حقيقيا ، ويخضع خضوعا عظيما للرب - جل جلاله - والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقروا الله - جل وعلا - { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته ، ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله ، قال - جل وعلا : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] ، فهذا في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول ، وقال - جل وعلا - في بيان صفة ذاته : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، وقوله :(22/334)
{ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } يعني : ما عظموه حق تعظيمه ، ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره ، ولما أطاعوا غيره ، ولعبدوه حق العبادة ، ولذلوا له ذلا وخضوعا دائما ، وأنابوا إليه بخشوع وخشية ، ولكنهم ما قدروه حق قدره ، يعني : ما عظموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره - جل وعلا - وعظم ذاته - سبحانه وتعالى - وصفاته .(22/335)
ثم بين - جل وعلا - شيئا من صفة ذاته العظيمة الجليلة ، فقال سبحانه : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فإن عقل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله - جل وعلا - على ما هو عليه ، والله - جل وعلا - بين لك بعض صفاته فقال سبحانه : { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ، فإذا نظرت إلى هذه الأرض على عظمها وعلى غرور أهلها فيها ، ونظرت إلى حجمها وإلى سعتها وإلى ما فيها ، فهي قبضة الرحمن - جل وعلا - يعني : في داخل قبضة الرحمن - جل وعلا - يوم القيامة ، فنفهم من ذلك أن كف الرحمن - جل وعلا - وأن يد الرحمن - جل وعلا - أعظم من هذا ، وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمن - جل وعلا - كما قال سبحانه هنا : { وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ، وقال في آية سورة الأنبياء : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] ، فهذه صفات الله - جل جلاله ، فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها ، والسماوات التي يتعاظمها من نظر فيها ، هي صغيرة وآيلة في الصغر إلى(22/336)
أن تكون في كف الرحمن - جل وعلا - والله - سبحانه وتعالى - أعظم من ذلك وأجل ، بل هو - سبحانه وتعالى - الواسع الحميد الذي له الحمد كله ، وله الثناء كله ، ويبين لك عظمة الرب - جل وعلا - في ذاته ، وعظمة الرب - جل وعلا - في صفاته ، وإذا تأملت هذه الأحاديث وما اشتملت عليه تبين لك غرور أهل الأرض في الأرض ، وبسعتها وبقواهم فيها ، وأنها بالنسبة إلى السماء تعتبر صغيرة ، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة خمسمائة سنة في مسير الراكب السريع ، وكذلك بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة سنة ، وهكذا حتى تنتهي السبع سماوات ، وكذلك السماوات السبع متناهية في الصغر أمام الكرسي ، ولهذا مثل النبي - عليه الصلاة والسلام - السماوات السبع في الكرسي الذي هو فوق ذلك ، وهو أكبر بكثير من السماوات بقوله : « إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس » يعني : هذه السماوات صغيرة جدا بالنسبة إلى الكرسي ، بل كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، والترس مكتنفها متقوس عليها ، فهي صغيرة فيه وهو واسعها كما قال - جل وعلا - عن الكرسي : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة :(22/337)
255 ] ، فالأرض التي أنت فيها نقطة صغيرة جدا بالنسبة إلى السماء ، والأرض والسماوات مجتمعة في غاية الصغر بالنسبة للكرسي ، والكرسي أيضا فوقهما ، وفوق ذلك عرش الرحمن - جل وعلا ، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ، فهو متناهي الصغر بالنسبة إلى عرش الرحمن ، والذي هو مستو عليه - جل وعلا - وهو فوقه - سبحانه وتعالى ، ولو تأمل الناس صفة الرب - جل وعلا - وما يجب له من الجلال ، وما هو عليه - سبحانه وتعالى - من صفات الذات ، ومن صفات الفعل ، وما عليه تلك الصفات من الكمال والجلال المطلق لاحتقروا أنفسهم ، ولعلموا أنه لا ينجيهم ولا يشرفهم إلا أن يكونوا عبيدا له وحده دون ما سواه ، فهل يعبد المخلوق المخلوق ؟! إن الواجب أن يعبد المخلوق من هو متصف بهذه الصفات العظيمة ، فهو الحقيق بأن يُذل له ، وهو الحقيق بأن يُطاع ، وهو الحقيق بأن يُجل ، وهو الحقيق بأن يُسأل ، وهو الحقيق بأن يُبذل كل ما يملكه العبد في سبيل مرضاته - جل وعلا - إذ هذا من قدره حق قدره ، ومن تعظيمه حق تعظيمه ، فإذا تأمل العبد صفات الربوبية وصفات الجلال وصفات الجمال لله - جل وعلا - وأن ذات الله - جل وعلا - عظيمة ، وأنه -(22/338)
سبحانه وتعالى - مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، على هذا العظم ، علم أنه لا أحد يستحق أن يتوجه إليه بالعبادة وأن يُعبد إلا الله - جل وعلا ، وأن من عبد المخلوق الحقير الوضيع فإنه قد نازع الله - جل وعلا - في ملكه ، ونازع الله - جل وعلا - في إلهيته ؛ ولهذا يحق أن يكون من أهل النار المخلدين فيها والمعذبين عذابا دائما ؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف وترك الرب العلي القادر على كل شيء - سبحانه وتعالى .(22/339)
ثم تأمل كيف أن ربك العزيز الحكيم المتصف بصفات الجلال ، وهو - جل وعلا - فوق عرشه يأمر وينهى في ملكوته الواسع الذي ما الأرض إلا كشبه لا شيء في داخل ذلك الملكوت ، يفيض رحمته ويفيض نعيمه على من شاء ، ويرسل عذابه على من شاء ، وينعم من شاء ، ويصرف البلاء عمن شاء ، وهو سبحانه ولي النعمة والفضل فترى أفعال الله - جل وعلا - في السماوات ، وترى عبودية الملائكة في السماوات لهذا الرب العظيم ، المستوي على عرشه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم ، وملك راكع ، أو ملك ساجد » (1) تعظيما لأمر الله - جل وعلا - وترى نفوذ أمر الله في ملكوته الواسع الذي لا نعلم منه إلا ما حولنا من هذه الأرض ، وما هو قريب منها ، بل نعلم بعض ذلك ، والله - جل وعلا - هو المتصرف ثم تنظر إلى أن الله الجليل العظيم المتصف بهذا الملك العظيم يتوجه إليك أيها العبد الحقير الوضيع فيأمرك بعبادته ، وهي شرف لك لو شعرت ، ويأمرك بتقواه وهي عز لك لو عقلت ، ويأمرك بطاعته وذاك فخر لك لو علمت ، فإنه إذا علمت حق الله ، وعلمت صفات الله وما هو عليه من العلو المطلق في ذاته وفي صفاته - جل
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5 / 173 والترمذي (2312) وابن ماجه (4190) .(22/340)
وعلا - وفي نفوذ أمره في هذه السماوات السبع التي هي في الكرسي كدراهم ألقيت في ترس ، ثم ما فوق ذلك ، والجنة والنار وما في ذلك ، وجدت أنك لا تتمالك إلا أن تخضع له - جل وعلا - خضوعا اختياريا ، وأن تذل له ، وأن تتوجه إلى طاعته ، وأن تتقرب إليه بما يحب ، وأنك إذا تلوت كلامه تلوت كلام من يخاطبك به ، ويأمر وينهى به ، فيثمر عندك حينئذ من التوقير والتعظيم لله - عز وجل - غير ما كنت عليه قبل ذلك ؛ ولهذا كان من أسباب رسوخ الإيمان في القلب وتعظيم الرب - جل وعلا - أن يتأمل العبد ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، كما أمر الله - جل وعلا - بذلك حين قال : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ يونس : 101 ] ، وقال - جل وعلا - : { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } [ الأعراف : 185 ] ، وقال - جل وعلا - في وصف الخلص من عباده : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي(22/341)
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ آل عمران : 190- 192 ] ، إلى آخر دعواتهم ، وهم يذكرون الله قياما ، وقعودا ، وعلى جنوبهم ، ويتفكرون ، ومع ذلك يسألون النجاة من النار ، فهم في ذل وخضوع لما عرفوا من آثار توحيد الربوبية ، ولما عرفوا من آثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس .(22/342)
أسأل الله في ختام هذا الكتاب أن يجزي مؤلفه الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب عنا وعن المسلمين خير الجزاء ، وأن يجزي كل من ساهم في شرح هذا الكتاب بما أفهمنا من معانيه ، فإنه والله لكتاب عظيم ، اشتمل على ما به نجاة العباد لو شعروا ، وقرب به الإمام - رحمه الله - نصوص الكتاب والسنة ، وأفهمنا دلائلها بما نرجو معه النجاة بعفو الله - جل وعلا - وكرمه ، هذا ووصية أخيرة أختم بها هذا المجلس المبارك فأوصي بالعناية بهذا الكتاب عناية عظيمة ، وحفظه ، ودراسته ، وتأمل مسائله ، ومعرفة ما فيه ، فإنه الحق الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم من صالحي عباد الله ، هذا وأن الانصراف عن مدارسة ما احتواه مما يجب على العبد تجاه ربه لنذير سوء ، وإن الإقبال عليه لمؤذن بالخير والبشرى ، وأسأل الله أن يغفر لنا زللنا وخطلنا ، وأن يعفو عنا ما أخطأنا فيه ، وأن يجعلنا من المعفو عنهم ، ونسأل الله التسامح ، وأن يجعلنا من المحققين لتوحيده ، وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا به ، اللهم فكن لنا يا كريم ، اللهم فكن لنا يا كريم ، اللهم فكن لنا يا كريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .(22/343)
أسئلة وفوائد
سؤال : ما حكم من يضع آية الكرسي في السيارة ، أو يضع مجسما فيه أدعية ، كأدعية ركوب السيارة ، وأدعية السفر وغيرها من الأدعية ؟
الجواب : إن هذا فيه تفصيل : فإن كان وضع هذه الأشياء ليحفظها ، ويتذكر قراءتها ، فهذا جائز ، كمن يضع المصحف أمام السيارة ، أو يضعه معه ؛ فإذا صارت عنده فرصة هو أو من معه أن يقرأ فيه قرأ ، فهذا جائز لا بأس به ، لكن إن علقها لأجل أن تدفع عنه الآفات ، فهذا يدخل في مسألة : حكم تعليق التمائم من القرآن ، وقد عرفنا أن ذلك لا يجوز على الصحيح ، بل يحرم .
سؤال : ما حكم من يوصي أحدا بالبحث عن راق يرقي له دون أن يطلب الرقية من الراقي بنفسه ، هل هذا يدخل في الذين يسترقون ؟(22/344)
الجواب : إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب أنهم : « هم الذين لا يسترقون » (1) معناه : لا يطلبون الرقية ، وفهم جواب السؤال يتبع فهم التعليل ، ذلك أن أولئك كانوا لا يسترقون ، يعني لا يطلبون الرقية ، لأجل ما قام في قلوبهم من الاستغناء بالله ، وعدم الحاجة إلى الخلق ، ولم تتعلق قلوبهم بالخلق في رفع ما حل بهم ، وكما ذكرت لك فإن مدار العلة على تعلق القلب بالراقي ، أو بالرقية في رفع ما بالمرقي من أذى ، أو في دفع ما قد يتوقع من السوء ، وعليه فيكون الحالان سواء ، يعني : إن كان طلب بنفسه ، أو طلب بغيره فإنه طالب ، والقلب متعلق بمن طلب منه الرقية إما بالأصالة أو بالواسطة .
سؤال : ما حكم من يقول له أهله : اذبح ذبيحة ووزعها على المساكين دفعا لبلاء ما ، فهل تجوز تلك النية ؟
الجواب : هذا فيه تفصيل ، ذلك أن ذبح الذبائح إذا كان من جهة الصدقة ، ولم يكن لدفع شيء متوقع ، أو لرفع شيء حاصل ، ولكن من جهة الصدقة ، وإطعام الفقراء ، فهذا لا بأس به وهو داخل في عموم الأدلة التي فيها الحض على الإطعام ، وفضيلة إطعام المساكين .
_________
(1) تقدم .(22/345)
وأما إن كان الذبح ؛ لأن بالبيت مريضا ، فيذبح لأجل أن يرتفع ما بالمريض من أذى ، فهذا لا يجوز بل يحرم ؛ سدا للذريعة ، ذلك لأن كثيرين يذبحون حين يكون بهم مرض ؛ لظنهم أن المرض كان بسبب الجن ، أو كان بسبب مؤذ من المؤذين ، فإذا ذبح الذبيحة وأراق الدم فإنه يندفع شره ، أو يرتفع ما أحدثه ذلك المؤذي . ولا شك أن اعتقاد مثل هذا محرم ولا يجوز ، فالذبيحة التي ذبحت لرفع المرض والصدقة بها عن المريض - والحالة هذه - قال العلماء : هي حرام ولا تجوز سدا للذريعة ، وللشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق رسالة خاصة في الذبح للمريض .
وكذلك إذا كان الذبح لدفع أذى متوقع ، كأن يكون في البلد داء معين ، فذبح لدفع هذا الداء ، أو كان في الجهات التي حول البيت شيء يؤذي ، فيذبح ليندفع ذلك المؤذي ، إما لص - مثلا - يتسلط على البيوت ، أو أذى ما يأتي للبيوت ، فيذبح ويتصدق بها لأجل أن يندفع ذلك الأذى ، فهذا أيضا غير جائز ، ومنهي عنه سدا للذريعة ؛ لأن من الناس من يذبح لدفع أذى الجن وهذا شرك بالله - جل وعلا .(22/346)
فإذا قيل : فما معنى ما رواه أبو داود وغيره بإسناد حسنه بعض أهل العلم ، وبعضهم ضعفه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « داووا مرضاكم بالصدقة » (1) هل يدخل فيه إراقة الدم ؟ لأجل ما فيها من الوسيلة إلى الاعتقادات الباطلة . ومعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك ، وجاءت أيضا بفتح الذرائع الموصلة للخير ، فما كان من ذريعة يوصل إلى الشرك والاعتقاد الباطل فإنه ينهى عنه .
سؤال : ما الحكم في بعض الأواني التي يكتب عليها بعض الآيات ، والتي تباع في بعض المحلات التجارية ؟
الجواب : إن هذه الأواني يختلف حالها فإن كان يستخدمها لأجل أن يتبرك بما كتب فيها من الآيات ، فيجعل فيها ماء ويشربه ؛ لأن الماء يلامس هذه الآيات ، فهذا من الرقية غير المشروعة ؛ لأن الرقية المشروعة تكون بقراءة الآيات في الماء ، وهذه الآيات لم تنحل في الماء ، بل هي مكتوبة في ذلك الإناء المعدني أو النحاسي ، والتصاق الماء بتلك الكتابات من الآيات أو الأدعية لا يجعل الماء - بذلك - مباركا أو مقروءا فيه ، فإذا اتخذت هذه الأواني لذلك : فالرقية بها غير مشروعة .
_________
(1) أخرجه أبو الشيخ في « الثواب » عن أبي أمامة . كما في « صحيح الجامع الصغير » (3358) والحديث لم يروه أبو داود بمرة .(22/347)
وأما إذا اتخذها للزينة ، أو لجعلها في البيت ، أو لتعليقها ، فهذا كرهه كثير من أهل العلم ؛ لأن القرآن ما نزل لتزين به الأواني ، أو تزين به الحيطان ، وإنما نزل للهداية كما قال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } .
سؤال : ما حكم من يضع مصحفا في درج السيارة ، معتقدا أن للمصحف أثرا في رد العين أو البلاء ؟
الجواب : إذا كان يقصد من وضع المصحف في درج السيارة ، أو في أي جهة منها ، أن يدفع ذلك عنه العين ، فهذا من اتخاذ المصحف تميمة ، وقد تقدم حكم التمائم من القرآن ، وأن الصحيح أنه لا يجوز أن يجعل القرآن تميمة ، ولا يظن أن وجوده في مكان ما يدفع العين ، لكن الذي يدفع العين : قراءة القرآن ، والأدعية المشروعة ، والاستعادة بالله جل وعلا ، ونحو ذلك مما جاء في الرقية .(22/348)
فتحصل أن وضع القرآن في السيارة لهذه الغاية داخل في المنهي عنه ، وهو من اتخاذ التمائم من القرآن ، لكن لما كان القرآن غير مخلوق - وهو كلام الله جل وعلا - لم تصر هذه التميمة شركية وإنما ينهى عنها فقط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستعمل القرآن على هذه الصفة ، ولم يجعله في عنق أحد من الصحابة ، لا الصغار ولا الكبار ، ولا أذن ، ولا وجه ، إلى أن يجعل القرآن في شيء من صدورهم ، أو في عضد أحدهم ، أو في بطنه ، ومعلوم أن مثل هذا لو كان دواء مشروعا ، أو رقية سائغة ، أو تميمة مأذونا بها ، لرخص فيها ولا سيما مع شدة حاجة الصحابة إلى ذلك ، لأن تعليق القرآن أيسر من البحث عن راق يرقي ويطلب منه ذلك وربما يكافأ على رقيته ، أو يطلب أجرا ، فلما كان هذا أيسر والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرشدهم إلى الأيسر - وقد بعث ميسرا - علم مع ضميمة الأدلة المتقدمة التي ذكرت : أن هذا من جنس الرقية غير المشروعة والله أعلم .
سؤال : قوله : " وعامرهن غيري " قد يستدل به أهل البدع على أن الله في كل مكان ، فكيف الرد عليهم ؟(22/349)
الجواب : المقصود بالسماوات في قوله - جل وعلا - في الحديث القدسي : " يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري " السماوات السبع معروفة ، وهي طباق بعضها فوق بعض ، والمراد بقوله : "وعامرهن " العمارة المعنوية ، يعني : من عمرها بالتسبيح ، والتهليل ، وذكر الله وعبادته ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم ، أو ملك ساجد ، أو ملك راكع » (1) ، ففيها عمار كثيرون عمروها بعبادة الله جل وعلا ، وقد قال - جل وعلا - في أول سورة الأنعام { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 3 ] ، فالله - جل وعلا - هو المعبود - سبحانه - في السماوات ، وهو المعبود - سبحانه - في الأرض .
_________
(1) انظر السلسلة الصحيحة رقم (852) .(22/350)
فقوله هنا : " لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري " يعني : من يعمر السماوات ، والمقصود بهذا الاستثناء في قوله : " غيري " الله - عز وجل ، ويحتمل الاستثناء هذا أن يكون راجعا إلى الذات ، أو إلى الصفات ، ومعلوم أن الأدلة دلت على أن الله - جل وعلا - على عرشه ، مستو عليه بائن من خلقه ، جل وعلا ، والسماوات من خلقه سبحانه وتعالى ؛ فعلم من ذلك أن قوله : " وعامرهن غيري " راجع إلى عمارة السماء بصفات الله - جل وعلا ، وبما يستحقه سبحانه من التأله ، والعبودية ، وما فيها من علم الله ، ورحمته ، وقدرته ، وتصريفه للأمر ، وتدبيره ، ونحو ذلك من المعاني .
سؤال : رجل عنده ولد مريض مرضا لم يجد له علاجا ، فقال : أذهب إلى مكة ، وأضع ولدي عند البيت ، وأدعو له بالشفاء ، فإذا حان الظهر دعوت مائة شخص من فقراء الحرم على الغداء ثم أقول لهم : ادعوا الله أن يشفي ولدي ، فما حكم هذا العمل ؟(22/351)
الجواب : هذا العمل فيه تصدق ودعوة الفقراء إلى الطعام ، وفيه طلب الدعاء منهم لولده ، والتصدق بالطعام هو من جنس الأعمال المشروعة - كما تقدم - وتقدم أيضا حكم الذبائح وإراقة الدماء ، فإذا كان في هذا الإطعام ذبائح : فتفصيل الجواب كما سبق .(22/352)
وإن كان قصده مجرد إطعامهم ولإشباعهم والتصدق عليهم ، ثم طلب منهم الدعاء - وهي المسألة الثانية - فهذا راجع إلى هل يشرع طلب الدعاء من الغير بهذه الصفة ، أو لا يشرع ؟ الظاهر أن هذا من جنس ما هو غير مشروع ، ومعنى أنه ليس بمشروع : أنه ليس بمستحب ولا واجب ، ولكن هل يجوز طلب الدعاء من الآخرين ؟ قال العلماء : الأصل في ذلك الكراهة ، والمتأمل فيما روي عن الصحابة وعن التابعين الذين طلب منهم الدعاء : أنهم كرهوا ذلك ، ونهوا الطالب ، وربما قالوا له : أنحن أنبياء ؟!! كما قال ذلك حذيفة ، ومعاذ ، وغيرهما رضي الله عنهم ، وكان إمام دار الهجرة : أنس بن مالك - رحمه الله - إذا طلب منه الدعاء نهى الطالب ، خشية أن يلتفت الناس إليه ، وتتعلق قلوبهم به ، وإنما يتعلق في طلب الدعاء بالأنبياء ، أما من دونهم فلا يتعلق بهم في هذا الأمر ؛ لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن طلب الدعاء من المسلم الحي يكون مشروعا إذا قصد به نفع الداعي ونفع المدعو له ، فإذا قصد الطالب أن ينفع الجهتين يعني : ينفع نفسه ، وينفع الداعي فهذا من المشروع ، وهذا هو الذي يحمل عليه ما جاء في السنة فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما(22/353)
، « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر لما أراد أن يعتمر : " لا تنسنا يا أخي من دعائك » (1) ، وهذا الحديث إسناده ضعيف ، وقد احتج به بعض أهل العلم ومعناه ظاهر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينفع عمر بهذه الدعوة ؛ فالطالب للدعاء محتاج إلى غيره .
والمقصود : أن ما فعله هذا السائل لأجل ولده الأولى له تركه ؛ لأجل ألا يتعلق قلبه بأولئك في دعائهم .
_________
(1) أخرجه أبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) .(22/354)
ومن العلاج المناسب شرعا أن يلتزم بين الركن والمقام ، يعني : بين الحجر الأسود ، وبين آخر حد باب الكعبة - وهو الملتزم ، يلتزم ويلصق بطنه وصدره وخده ببيت الله - جل جلاله ، ويقف بالباب مخبتا منيبا سائلا الله - جل وعلا - منقطعا عن الخلق عالما أنه لا يشفي من الداء في الحقيقة إلا الله - جل جلاله - فالله - جل وعلا - هو الذي يشفي ، وهو الذي يعافي ، كما قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، فهذا الفعل أعظم أثرا - إن شاء الله - من فعله الذي يريد أن يفعله من دعوة أولئك ، فالتضرع إلى الله في أوقات الإجابة ، وفي الأماكن الفاضلة ، وفي الأزمنة الفاضلة ، نرجو أن يكون معه إجابة الدعاء وشفاء المرض إن شاء الله .
سؤال : مما يقع فيه كثير من الناس أنه إذا حصل له أمر ونجا منه فإنه يوجب على نفسه الصدقة ، أو يعتقد وجوبها ، فما حكم ذلك ؟(22/355)
الجواب : أن الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب ، والشكر لله - جل وعلا - على نعمه - إذا نجى العبد من بلاء أو حصلت له مسرة - ينبغي أن يكون بالسجود ، أو بالصلاة ، أو بالصدقة شكرا لله - جل وعلا - على نعمه ، وهذا كله من المستحب ، وليس من الواجب ، إلا إذا كان ثم نذر ، كمن - نذر إن نجي من كذا وكذا - أن يتصدق . فهنا يكون قد ألزم نفسه بعبادة ، وهي الصدقة المنذورة ، فتكون في هذه الحالة - واجبة بالنذر ، أما أصل الصدقة فهو مستحب ، وإذا كانت الصدقة في مقابلة نعمة ، أو اندفاع نقمة ، فهي أيضا مستحبة ، وليست بواجبة ، فلا تجب إلا إذا نذر وتحقق الشرط .
سؤال : عند بعض الناس عادة ، وهي أن من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء لتعد من أحدهما على الآخر فيطلبون من أحدهما أن يذبح ويسمون ذلك ذبح صلح ، فيذبح ويحضرون من حصلت معه العداوة ، فما حكم ذلك ؟(22/356)
الجواب : أن ذبح الصلح الذي تعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة لا يجوز ؛ لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه ويريقون الدم تعظيما وإجلالا له لإرضائه ، فهذا النوع من الذبح يكون محرما ؛ لأنه لم يرق الدم لله - جل وعلا - وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان ، فهذا الذبح - كما قلت - محرم ، والذبيحة - أيضا - لا يجوز أكلها ؛ لأنها لم تذبح لله - جل وعلا - وإنما ذبحت لغيره .
فإن كان الذبح الذي هذا صفته يقصد به التقرب والتعظيم للمذبوح له : صار شركا أكبر ، وإن لم يكن يقصد به التقرب والتعظيم له كان محرما ؛ لأنه لم يخلص من أن يكون لغير الله فصارت عندنا مع هذه الصورة المسؤول عنها صورة أخرى تقدمت وهي : الذبح عند قدوم السلطان وبحضرته ، وفي كلتا الصورتين : إن كان قصد الذابح التقرب والتعظيم للمذبوح له ، فيكون الذبح حينئذ شركا أكبر بالله - جل وعلا - لأنه ذبح وأراق الدم تعظيما للمخلوق ، وتقربا إليه .(22/357)
وإن لم يذبح تقربا أو تعظيما ، وإنما ذبح لغاية أخرى مثل الإرضاء ، فيكون قد شابه أهل الشرك فيما يذبحونه تقربا وتعظيما ، فنقول : الذبيحة لا تجوز ولا تحل ، والأكل منها حرام ، ويمكن للإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم أو في قبائلهم مثل هذا الفعل المسمى " ذبح الصلح " ونحوه أن يبدلوه بخير منه ، وهو أن يجعلونه وليمة للصلح ، فيذبحون للضيافة ، يعني : يذبحون لمن يريدون إرضائهم ، ويدعونهم ، ويكرمونهم ، ولا يكون هذا بحضرتهم ، فهذا من الأمر المرغب فيه ، ويكون الذبح في هذه الحالة كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه ، ونحو ذلك .
سؤال : رجل في منطقة ما يأتي إليه الناس عند فقد أموالهم ، فيعطيهم خيطا معقدا ويقرأ عليه ، ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فقد فيه المال ، فما حكم ذلك العمل ؟ وما حكم هذا الرجل ؟ وما حكم الصلاة خلفه ؟
الجواب : هذا من الكهانة ؛ لأن الذي يعمل هذه الأشياء يسمى بالعراف ، أو الكاهن ، وقد يكون ساحرا أيضا ، فلا يجوز مثل هذا العمل ، ولا يحل لأحد أن يعين أحدا يدعي معرفة شيء من علم الغيب ، والصلاة خلفه لا تجوز ؛ لأن هذا إما أن يكون عرافا أو كاهنا أو ساحرا ، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم .(22/358)
سؤال : ما معنى قولهم : الشرك الأصغر أكبر من الكبائر ، وكيف يكون كذلك والشرك الأكبر يعتبر من الكبائر ؛ إذ هو أكبر الكبائر ، فنرجو إزالة الإشكال ؟
الجواب : هذا سبق إيضاحه ، وهو أن الكبائر قسمان : قسم منها يرجع إلى جهة الاعتقاد والعمل الذي يصحبه اعتقاد ، وقسم منها يرجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد .
مثال الأول - وهو الذي يصحبه الاعتقاد : أنواع الشرك بالله كالاستغاثة بغير الله ، والذبح لغيره ، والنذر لغيره ، ونحو ذلك ، فهذه أعمال ظاهرة ، ولكن هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركا أكبر ، فهي في ظاهرها : صرف عبادة لغير الله - جل وعلا - وقام بقلب صاحبها الشرك بالله ، بتعظيم هذا المخلوق ، وجعله يستحق هذا النوع من العبادة ، إما على جهة الاستقلال ، أو لأجل أن يتوسط . والقسم الثاني : الكبائر العملية التي تعمل لا على وجه اعتقاد ، مثل : الزنا ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، ونحو ذلك من الكبائر والموبقات ، فهذه تعمل دون اعتقاد ؛ لهذا صارت الكبائر على قسمين .(22/359)
فنقول : الشرك الأصغر - ومن باب أولى الشرك الأكبر - : هو من حيث جنسه أكبر من الكبائر العملية ، فأنواع الشرك الأصغر - وإن كانت لفظيا ، مثل قول : ما شاء الله وشئت ، ومثل الحلف بغير الله ، أو نسبة النعم إلى غير الله ، أو نسبة اندفاع النقم لغير الله - جل وعلا - أو تعليق التمائم ، ونحو ذلك - كلها من حيث الجنس أعظم . نعم : هي من الكبائر ، لكنها من حيث الجنس أعظم من كبائر العمل التي لا يصاحبها اعتقاد ؛ لأن كبائر الأعمال مثل : الزنا ، والسرقة ، ونحوها من الكبائر العملية ، ليس فيها سوء ظن بالله - جل وعلا - وليس فيها صرف عبادة لغير الله ، أو نسبة شيء لغير الله - جل وعلا - والحامل له على فعلها : مجرد الشهوات ، وأما في الأخرى فالحامل له على فعلها : اعتقاده بغير الله ، وجعل غير الله - جل وعلا - ندا لله سبحانه وتعالى ، وأعظم الذنب أن يجعل المرء لله ندا وهو خلقه - جل وعلا .
سؤال : لماذا لم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه كما في حديث ذات أنواط ؟(22/360)
الجواب : من المعلوم أن الشريعة جاءت بالإثبات المفصل والنفي المجمل ، والنفي إذا كان مجملا ، فإنه يندرج تحته صور كثيرة ، فمن فهم دلالة النفي فلا يحتاج - مع النفي - أن ينبه على كل فرد من أفراده ، ولهذا نقول : من فهم ( لا إله إلا الله ) ، لم يحتج إلى أن يفصل له كل مسألة من المسائل ، فمثلا : النذر لغير الله ليس فيه حديث النذر لغير الله شرك ، والذبح لغير الله ليس فيه حديث ينص أن الذبح لغير الله شرك ، وكذا : العكوف عند القبور ، أو العكوف عند الأشجار والأحجار والتبرك بها ، وكل ما سبق لم يأت فيه ما ينص عن النهي عنها بأعيانها ، ولكن نفي إلهية غير الله - جل وعلا - يدخل فيها - عند من فهم معنى العبادة - كل الصور الشركية ؛ ولهذا : فإن الصحابة - رضي الله عنهم - فهموا ما دخل تحت هذا النفي ، ولم يطلب ذات أنواط - كما للمشركين ذات أنواط - إلا من كان حديث عهد بكفر ، يعني : لم يسلم إلا قريبا ، وهم قلة ممن كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى حنين .(22/361)
وأما الإثبات : فإنه يكون مفصلا ، وتفصيل الإثبات تارة يكون بالتنصيص ، وتارة يكون بالدلالة العامة ، كما في الآيات الآمرة بوجوب إفراد الله - جل وعلا - بالعبادة ، مثلا كقوله تعالى : { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [ البقرة : 21 ] ، وكقوله : { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 و 65 و 73 و 85 - هود : 50 و 61 و84 - المؤمنون : 23 و 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وتارة يكون بالأدلة الخاصة بالعبادة كقوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [ الإنسان : 7 ] ، وكقوله { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] ، وكقوله { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } [ الأنفال : 9 ] ، فهذه أدلة إثبات تثبت أن تلك المسائل من العبادات ؛ وإذا كانت من العبادات ، فقول ( لا إله إلا الله ) يقتضي بالمطابقة أنه : لا تصرف العبادة إلا لله - جل وعلا .
فيكون ما طلبه أولئك من القول - الذي لم يعملوه - راجعا إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نفي لهم مجملا بقول لا إله إلا الله .
سؤال : ما حكم التبرك بالصالحين وبماء زمزم والتعلق بأستار الكعبة ؟(22/362)
الجواب : التبرك بالصالحين قسمان :
القسم الأول : التبرك بذواتهم ، أو بعرقهم ، أو بسؤرهم - يعني : بقية الشراب - أو بلعابهم الذي اختلط بالنوى مثلا ، أو بما فضل من طعامهم ، أو بأشعارهم ، ونحو ذلك ، فهذا لا يجوز وهو من البدع المحدثة . وقد تقدم بيان أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يعملون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وهم سادة أولياء هذه الأمة - شيئا من ذلك ، وإنما فعله الخلوف الذين يفعلون ما لا يؤمرون ويتركون ما أمروا به .
والقسم الثاني : بركة عمل ، وهي الاقتداء بالصالحين في صلاحهم ، والاستفادة من أهل العلم ، والتأثر بأهل الصلاح ، فهذا أمر مطلوب شرعا ، أما التبرك بالذات ، كما كان يفعل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا ليس لأحد إلا للنبي عليه الصلاة والسلام .(22/363)
أما التبرك بماء زمزم فإنه لا بأس به ؛ لمجيء الدليل بذلك ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام عن ماء زمزم : « إنها طعام طعم وشفاء سقم » (1) ، فمن شربها طعاما ، أو شفاء من سقم ، فقد عمل بما دل عليه الدليل ، وكذلك من شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه : فهذا أيضا جائز ، لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : « ماء زمزم لما شرب له » (2) . فمن جعل ماء زمزم سببا لأشياء يريد تحقيقها ، فلا بأس بذلك ؛ لأن هذا راجع إلى أنه سبب أذن به شرعا ، ولو شرب ماء آخر كالمياه المعدنية - مثلا - وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن ، واعتقد ذلك سببا لحفظ القرآن : فإن اعتقاده هذا خاطئ ، لأن الدليل هو الذي يدل على كون ذلك الشيء مؤثرا أو لا .
_________
(1) أخرجه الطيالسي عن أبي ذر كما في « صحيح الجامع » (2435) .
(2) أخرجه ابن ماجه (3062) .(22/364)
أما التعلق بأستار الكعبة رجاء البركة : فهذا من وسائل الشرك ، ويكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب لتحقيق مطلوبه ، أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله ، أو أنه إذا فعل ذلك عظم قدره عند الله ، وأن الكعبة يكون لها شفاعة عند الله ، أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله - جل وعلا ، فإن هذا التبرك - على هذا النحو - يكون شركا أكبر ؛ ولهذا يقول كثير من أهل العلم : إن التمسح بحيطان المسجد الحرام ، أو بالكعبة ، أو بمقام إبراهيم ، ونحوها ؛ رجاء بركتها ، هو من وسائل الشرك الأكبر ، بل هو من الشرك الأصغر ، كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله .
سؤال : يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة ، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء ؟
الجواب : يقول العلماء في كتب الفقه ، في آداب دخول الخلاء : " ويكره دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله " ، فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله في الخلاء مكروه .(22/365)
سؤال : هل يعتبر هذا النذر مطلقا أم مقيدا ، وهو : إذا حصل للعبد منفعة ، مثل أن نجح أو حصل على وظيفة ، ثم نذر أن يصوم ثلاثة أيام لله تعالى ، مع العلم أنه لم ينذر قبل نجاحه ، أو حصوله على الوظيفة ؟
الجواب : النذر المطلق : هو الذي لم يعلق بشيء سيحصل في المستقبل ، والنذر المقيد : هو الذي علق الوفاء به بحصول شيء من الله - جل وعلا - للعبد وهذا يكون في المستقبل ، كأن يقول : إن شفى الله مريضي فسأصوم ثلاثة أيام ، أو نحو ذلك . فهذا هو النذر المعلق المقيد . أما المطلق : فهو أن ينذر نذرا لله - جل وعلا - تبررا منه إما بسبب حادثة حدثت ، أو نعمة تجددت ، أو نقمة اندفعت ، أو بدون سبب ، فهذا كله يدخل في النذر المطلق ، أما المقيد فهو المعلق بشرط في المستقبل - كما تقدم قريبا .
سؤال : ما حكم عمل احتفال بسيط بمناسبة انتهاء عقد أحد العاملين بالشركة ، سواء كان مسلما أو غير مسلم ، وحجة بعضهم في عمل الاحتفال لغير المسلم أنه من باب دعوته إلى الإسلام ، مع العلم أنه خلال وجوده في العمل لم يقدم له أحد - ممن يحتجون بهذا القول - كتابا أو شريطا لدعوته للإسلام ؟(22/366)
الجواب : المقصود من تلك الاحتفالات إكرام من أقيمت له ، فإذا كان مسلما : فإكرام المسلم من حقوقه المستحبة ، وإذا كان غير مسلم فله حالتان : الحالة الأولى : أن يكون ممن لم يظهر للإسلام عداوة ، أو أظهر في الإسلام رغبة ، وهو مسالم لأهل الإسلام ، ومحب لأهل الخير وأهل الدين والصلاح - كما يظهر من بعضهم - فمن كان بهذه الصفة : فإنه يصلح أن يدعى للإسلام ؛ لأنه قريب ، سلم من البغضاء والعداوة التي تحجزه عن قبول الحق . لو عرض عليه .
فإذا كان القصد من عمل الاحتفال لمثل هذا : أن يكون ذلك بداية لدعوته إلى الإسلام ببيان محاسنه ، وبيان بطلان الأديان الأخرى ، ونحو ذلك ، فهذا بحسب قصد فاعله ، لكن أصل الإكرام لغير المسلم لا يجوز .(22/367)
وأما إن كان معاديا للإسلام ، أو لم يظهر قبولا للإسلام ، أو عرف من سيرته - حين بقي تلك المدة في المؤسسة أو الشركة - أنه لا يحب الخير ، بل ربما أظهر صدودا عن أهل الخير ، وأظهر عدم قبول لبعض أوامر الشرع التي يحكم بها : فهذا لا يجوز إكرامه ؛ لأن إكرامه من موالاة الكفار ، وموالاتهم محرمة ؛ لأنا نكون - بهذا - قد أكرمناه مع بقائه على عداوته وعلى بغضه ، وهذا لا يجوز . والأصل على هذا التفصيل دل عليه قول الله - جل وعلا : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ الممتحنة : 8 - 9 ] ، فهذه الآيات فيها بيان حال الصنفين ؛ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما أجاب دعوة اليهود : رجالهم ، أو نساءهم ، وربما أتى بعض أهل الكتاب ، وربما أهدى(22/368)
إليهم ، بل وحث على الهدية للجار ، وهذا كله لأجل الترغيب في الخير ، والترغيب في الإسلام .
فالمقصود : أن الإكرام بتلك الحفلات لا يجوز إلا إذا كانت ثمة مصلحة شرعية راجحة يقدرها أهل العلم إذا وصف الحال لهم ، وأما ما عدا ذلك ، فلا يجوز إقامة الحفلات لهم ؛ لأنها نوع موالاة للكفار .
سؤال : هل يدخل في باب : « لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله » ما يحصل - وخاصة في أوربا وأمريكا - من شراء كثير من المسلمين لكنائس قديمة ثم تعديلها لتكون مساجد ، أو هدم الكنيسة وبناء مسجد مكانها ؟(22/369)
الجواب : أنه لا يدخل في ذلك ؛ لأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تضاعف الصلاة فيه ، أقيم على مكان فيه قبور للمشركين ؛ فبعد أن نبشت تلك القبور وأزيل الرفات ، أقيم المسجد في ذلك المكان . (1) والكنيسة التي عبد فيها غير الله - جل وعلا - إذا حولت إلى مسجد ، فهذا من أعظم الطاعات ، ومن أحب الأعمال إلى الله - جل وعلا - وذكرت فيما سبق أن الفرق بين هذه الصورة وبين « لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله » : أن الذبح صورته مشتركة ، بمعنى أن : الصورة الظاهرية واحدة ، وإنما الاختلاف في النيات ؛ ولهذا منع من ذلك ، أما عبادة المسلمين وصلاتهم وهيئة مساجدهم وجلوسهم ، إلى آخر تلك الهيئات : فهي مخالفة لما عليه صلاة النصارى . فاستبدال الكنيسة بالمسجد أمر مطلوب إذا تمكن المسلمون منه ، بل هذا الذي فعله المسلمون في الأندلس ، بل وفي بعض البلاد الأخرى : كالشام ومصر .
سؤال : نرى عبارة مكتوبة على بعض السيارات " يا رضا الله ورضا الوالدين " فما حكم تلك العبارة ؟
_________
(1) أخرجه البخاري ( 428 ) ومسلم (524) .(22/370)
الجواب : قوله : " يا رضا الله ورضا الوالدين " غلط من جهتين : الجهة الأولى : أنه نادى رضا الله ، ومناداة صفات الله - جل وعلا - بـ (ياء النداء) لا تجوز ؛ لأن الصفة غير الذات في مقام النداء ؛ ولهذا : إنما يُنادى الله - جل وعلا - المتصف بالصفات ، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري ، وغيره من أهل العلم : على أن مناداة الصفة محرم بالإجماع ، فإذا كانت الصفة هي الكلمة - كلمة الله - جل وعلا : كان كفرا بالإجماع ؛ لأن من نادى الكلمة ، يعني بها عيسى عليه السلام فيكون تأليها لغير الله - جل وعلا ؛ ورضا الله - جل وعلا - صفة من صفاته ، فلا يجوز نداء الصفة .(22/371)
والمؤاخذة الثانية في تلك الكلمة : أنه جعل رضا الوالدين مقرونا برضا الله - جل وعلا - بـ ( الواو ) ، والأنسب هنا أن يكون العطف بـ ( ثم ) فيقول - مثلا - : أسأل الله رضاه ثم رضا الوالدين . وإن كان استعمال الواو في مثل هذا السياق لا بأس به ؛ لأن الله - جل وعلا - قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] ، وقال - جل وعلا - : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] ، ولأن ( الواو ) هنا تقتضي تشريكا في أصل الرضا ؛ وهذا الرضا يمكن أن يكون من الوالدين - أيضا - : فيكون التشريك في أصل المعنى ، لا في المرتبة .
سؤال : هل يجوز الذهاب للعلاج عند من يزعم أنه يعالج بمساعدة جن مسلمين ؟ وهل هذه المساعدة من الجن للقارئ من الاستعانة الجائزة أو المحرمة ؟(22/372)
الجواب : الاستعانة بالجن سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين وسيلة من وسائل الشرك ، والاستعانة معناها : طلب الإعانة ؛ ولهذا فمن المتقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز طلب الإعانة من مسلمي الجن ؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يطلبوا ذلك منهم ، وهم أولى أن تخدمهم الجن ، وأن تعينهم .(22/373)
وأصل الاستعانة بالجن : من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني ، وبرفعة مقامه ، وبالاستمتاع به ، وقد قال - جل وعلا - : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } [ الأنعام : 128 ] ، فحصل الاستمتاع - كما قال المفسرون - من الجني بالإنسي : بأن الإنسي يتقرب إليه ، ويخضع له ، ويذل ، ويكون في حاجته ، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني ، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني ، وتقرب بأنواع العبادات ، أو بالكفر بالله - جل وعلا - والعياذ بالله ، بإهانة المصحف ، أو بامتهانه أو نحو ذلك ؛ ولهذا نقول : إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز ، فمنها ما هو شرك -كالاستعانة بشياطين الجن- يعني : الكفار - ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك ، كالاستعانة بمسلمي الجن .(22/374)
وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يقول : إن الجن قد تخدم الإنسي . وهذا المقام فيه نظر وتفصيل ؛ ذلك أنه - رحمه الله - ذكر في آخر كتاب " النبوات " : أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن أمرهم ، ونهاهم ، أي : بالأوامر ، والنواهي الشرعية ، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم . فإنه ليس من سجايا أولياء الله ، ولا من أفعالهم ، قال : مع أنه قد تنفع الجن الإنس ، وقد تقدم له بعض الخدمة ونحو ذلك ، وهذا صحيح من حيث الواقع .(22/375)
فالحاصل أن المقام فيه تفصيل : فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة من الجني المسلم ، فهذا وسيلة إلى الشرك ، ولا يجوز أن يعالج عند أحد يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين . وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه ، فإن هذا قد يحصل ، لكن لم يكن هذا من خلق أولياء الله ، ولا مما سخره الله - جل وعلا - لخاصة عباده ، فلا يسلم من هذا حاله من نوع خلل جعلت الجن تكثر من خدمته ، وإخباره بالأمور ، ونحو ذلك . فالحاصل : أن هذه الخدمة إذا كانت بطلب منه ، فإنها لا تجوز ، وهي نوع من أنواع المحرمات ؛ لأنها نوع استمتاع ، وإذا كانت بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين ويستعيذ بالله من شر مردة الجن ؛ لأنه قد يؤدي قبول خبرهم ، واعتماده ، إلى حصول الأنس بهم ، وقد يقوده ذلك الاستخدام إلى التوسل بهم والتوجه إليهم - والعياذ بالله - . فإذا تبين ذلك : فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف ، لا يجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث ، وذكر ذلك أيضا الفقهاء . وهذا صحيح ؛ لأن البناء على الخبر وقبوله : هو فرع عن تعديل المخبر ، والجني غائب ، وعدالته غير معروفة ، وغير معلومة عند السامع ، فإذا بنى الخبر عمن جاءه به من الجن وهو(22/376)
لم يرهم ، ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع من خطابهم - وهي لا تكفي - فإنه يكون قد قبل خبر من يحتمل أنه فاسق ؛ ولهذا قال الله - جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الحجرات : 6 ] ، والذين يقبلون إخبار الجن ، وإعلام الجن لهم ببعض الحوادث ، تحصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة ، منها هنا : جزمهم بصحة ما أخبرتهم به الجن فربما حصل بسبب ذلك مفاسد عظيمة ، من الناس الذين أخبروا بذلك ، فيكثر القيل والقال ، وقد تفرقت بعض البيوت من جراء خبر قارئ جاهل يزعم أن الذي فعل هذا هو فلان باعتبار الخبر الذي جاءه ، ويكون الخبر الذي جاءه من الجني خبرا كذبا ، فيكون قد اعتمد على نبأ هذا الذي لا يعلم عدالته ، وبنى عليه وأخبر به ، فيحصل من جرائه فرقة ، واختلاف ، وتفرق ، وشتات في البيوت ، ونعلم أنه قد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم - رحمه الله - أن إبليس ينصب عرشه على ماء ، ويبعث سراياه ، فيكون أحب جنوده إليه من يقول له : فرقت بين المرأة وزوجها ، (1) وهذا من جملة التفريق الذي يسعى إليه
_________
(1) أخرجه مسلم (2813) (67) .(22/377)
عدو الله ، بل الغالب أنه يكون من هذه الجهة ، فأحب ما يكون إلى عدو الله أن يفرق بين المؤمنين ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أيضا مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم » . (1) فهذه المسألة يجب على طلاب العلم أن يسعوا في إنكارها ، وبذل الجهد في إقامة الحجة على من يستخدم الجن ، ويتذرع بأن بعض العلماء أباح ذلك ، والواقع أن هذا العمل وسيلة من وسائل الشرك بالله - جل وعلا - . واقرؤوا أول كتاب (( تاريخ نجد )) لابن بشر ، حيث قال : إن سبب دخول الشرك إلى قرى نجد أنه كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد ، أو أتى وقت خرف النخيل ، فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى ومعهم بعض الأدوية والأعشاب ، فإذا كانوا كذلك فربما سألهم بعض جهلة تلك القرى حتى حببوا إليهم بعض تلك الأفعال المحرمة من جراء سؤالهم ، وحببوا إليهم بعض الشركيات ، أو بعض البدع ، حتى فشا ذلك بينهم ، فبسبب هؤلاء المتطببين الجهلة ، والقراء المشعوذين انتشر الشرك - قديما - في الديار النجدية وما حولها ، كما ذكر ابن غنام . وقد حصل أن بعض مستخدمي الجن ، كثر عنده الناس ،
_________
(1) أخرجه مسلم (2812) .(22/378)
فلما رأى من ذلك ، صار يعالج علاجا نافعا ، فزاد تسخر الجن له ، حتى ضعف تأثيره ، فلما ضعف تأثيره ولم يستطع مع الحالات التي تأتيه للقراءة أو للعلاج شيئا : صار تعلقه بالجن أكثر ، ولا زال ينحدر ما في قلبه من قوة اليقين ، وعدم الاعتماد بقلبه على الجن ، حتى اعتمد عليهم شيئا فشيئا ، ثم حرفوه - والعياذ بالله - عن السنة ، وعما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله ، وإعظامه ، وعدم استخدام الجن في الأغراض الشركية ، فجعلوه يستخدم الجن في أغراض شركية وأغراض لا تجوز بالاتفاق .
فهذا الباب مما يجب وصده ، وكذلك : يجب إنكار وسائل الشرك والغواية ، وحكم من يستخدم الجن ، ويعلن ذلك ، ويطلب خدمتهم لمعرفة الأخبار ، فهذا جاهل بحقيقة الشرع ، وجاهل بوسائل الشرك ، وما يصلح المجتمعات وما يفسدها ، والله المستعان .
سؤال : ما الفرق بين التوسل والشفاعة ؟ نرجو التوضيح وجزاكم الله خيرا .(22/379)
الجواب : أن التوسل : هو اتخاذ الوسيلة ، والوسيلة : هي الحاجة نفسها ، أو ما يوصل إلى الحاجة وقد يكون ذلك التوسل باستشفاع ، يعني : بطلب شفاعة ؛ بمعنى أنه يريد أن يصل إلى حاجته - بحسب ظنه - بالاستشفاع ، وقد يروم التوصل إلى حاجته - بحسب ظنه - بغير الاستشفاع ؛ فيتوسل مثلا بالذوات فيسأل الله بذات فلان ، أو بجاهه ، أو بحرمته ، مثل أن يقول : اللهم إني أسألك بنبيك محمد - بعد وفاته عليه الصلاة والسلام - أو يقول : اللهم إني أسألك بأبي بكر ، أو بعمر ، أو بالإمام أحمد ، أو بابن تيمية ، أو بالولي الفلاني ، أو بأهل بدر ، أو بأهل بيعة الرضوان ، أو بغيرهم . فهذا هو الذي يسمونه توسلا ، وهذا التوسل معناه : أنه جعل أولئك وسيلة ، وأحيانا يستعمل في التوسل لفظ : الحرمة ، والجاه ، فيقول : أسألك بحرمتهم ، أو أسألك بجاههم ، ونحو ذلك . أما الاستشفاع : فهو أن يسألهم الشفاعة أي : يطلب منهم أن يشفعوا له .(22/380)
فتحصل من ذلك : أن التوسل يختلف عن الاستشفاع ، في أن المستشفِع : طالب للشفاعة ، وقد علم أن الشفاعة إذا طلبها من العبد يكون قد سأل غير الله ، وأما المتوسل - بحسب عرف الاستعمال - فإنه يسأل الله ، لكن يجعل ذلك بوسيلة أحد .
فالاستشفاع : سؤال لغير الله ، وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان ، أو بحرمته ، أو بجاهه : وكل هذا لا يجوز ؛ لأنه اعتداء في الدعاء ؛ ولأنه بدعة محدثة ووسيلة إلى الشرك ، وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء ، كالميت ، أو الغائب ، أو نحوهما : فهو شرك أكبر ؛ لأنه طلب ودعاء لغير الله .
فالتوسل - بحسب العرف - هو من البدع المحدثة ، ومن وسائل الشرك ، وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله ، وهو شرك أكبر .(22/381)
لكن الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون جميع عباداتهم الشركية - من طلب الشفاعة ، والذبح ، والنذر ، والاستغاثة بالموتى ، ودعائهم - توسلا وهذا غلط في اللغة والشرع معا ، فالكلام في أصله لا يصح ؛ فإن بين التوسل والشفاعة فرقا من حيث مدلول المعنى اللغوي ، فكيف يسوى بينهما في المعنى؟ ! أما إذا أخطأ الناس وسموا العبادات المختلفة توسلا ، فهذا غلط من عندهم ، لا يتحمله الشرع ، ولا تتحمله اللغة .
سؤال : ما حكم من يضع على السيارات ، أو المنازل عبارات مثل : ما شاء الله ، أو تبارك الله ، أو هذا من فضل ربي ؟
الجواب : هذا له حكم تعليق بعض الآي على الحيطان ، أو في السيارات ، أو نحو ذلك ، فإن كان المقصود منها الإرشاد إلى عمل شرعي مسنون : فهذا مشروع ، أو مباح ، وأما إن كان القصد منها أن تحفظه وأن تحرسه من العين أو من الأذى ، فهذا راجع إلى اتخاذ التمائم من القرآن ونحوه ، وهذا سبق تفصيل الجواب عنه .
سؤال : ما حكم امرأة طلبت من قريب لها ذاهب إلى مكة أن يشتري لها كفنا من هناك وأن يغسل الكفن من ماء زمزم ، وهذا الأمر منتشر بين الناس ؟(22/382)
الجواب : هذا تبرك بما يباع في مكة واعتقاد فيه ، وهو باطل ، لا يجوز فعله ؛ لأن ما يباع في مكة ليس له خصوصية في البركة ، وليس له خصوصية في النفع ، بل هو وما يباع في غير الحرم سواء ، وأما غسله بماء زمزم لرجاء أن يكون ذلك الكفن فيه من بركة ماء زمزم ، فكذلك هذا غلط ؛ لأن بركة ماء زمزم مقيدة بما ورد فيه الدليل ، ليست بركة عامة ، إنما هي بركة خاصة بما جاء فيه الدليل ؛ ولهذا : فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يستعملون ماء زمزم إلا فيما جاءت فيه الأدلة كقوله - صلى الله عليه وسلم : « ماء زمزم لما شرب له » (1) ، وقوله في زمزم - أيضا - : « إنها طعام طعم وشفاء سقم » (2) . أما التبرك بها في غير ذلك ، فهذا ليس له أصل شرعي .
سؤال : ما حكم الاغتسال بماء زمزم ، والماء الذي قرئ فيه القرآن في بيوت الخلاء ؟
الجواب : لا بأس بذلك ؛ لأنه ليس فيه قرآن مكتوب ، وليس فيه المصحف مكتوبا ، وإنما فيه الريق ، أي : النفث ، وهو : الهواء الذي خالطه المصحف ، أو خالطته القراءة .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(22/383)
ومن المعلوم أن أهل مكة في أزمنتهم الأولى كانوا يستعملون ماء زمزم ولم يكن عندهم غير ماء زمزم ، فالصواب أن لا كراهة في ذلك ، وأنه جائز ، والماء ليس فيه قرآن إنما فيه نفث بالقرآن وفرق بين المقامين .
سؤال : ما الحكم إذا ذبح العبد ذبيحة ، لأن الله قد شفى مريضه ، وخرج من المستشفى ؟
الجواب : أن هذا يرجع إلى نيته في ذبح هذه الذبيحة ، فإذا كانت بعد الانتهاء من المرض ، وارتفاعه ، وتعافى ذلك المريض ، وشفي بفضل الله -جل وعلا - وبنعمته : فهذا يختلف حاله ، فإذا قصد بالذبيحة أنها شكر لله - جل وعلا - وتصدق بلحمها فهذا حسن ؛ لأن المرض قد انتهى وارتفع ، فهو لا يقصد بها الاستشفاء ، وإنما هي نوع شكر لله - جل وعلا - ، وكذلك : فلا بأس إن دعا إليها أحدا من أقربائه ، أو ممن يحبون ذلك المريض ونحو ذلك ، فهذا من باب الإكرام .
وأما إذا كانت مقاصده أو نياته في هذا الذبح : أن يدفع رجوع هذا المرض مرة أخرى ، أو أن يدفع شيئا من انتكاسات المرض ، أو يدفع شيئا مما يخافه : فهذا غير جائز ، سدا لذريعة الاعتقادات الباطلة .(22/384)
سؤال : جاء في بعض الكتب نقل معناه : أن الإنسان إذا خاف على ولده أو على نفسه العين ، فإنه يضع على جبهته ، أو جبهة ولده نقطة سوداء ، لصرف العين ودفعها .
الجواب : اعتقادات الناس في دفع العين لا حصر لها ، والجامع لذلك : أن كل شيء يفعله الناس مما يعتقدونه سببا ، وليس هو بسبب شرعي ولا قدري : فإنه لا يجوز اتخاذه ، وهذا يختلف عما جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى غلاما صغيرا ، حسن الصورة ، وخاف عليه العين ، فقال لأهله : دسموا نونته ، ففعلوا ؛ فهذا من باب إخفاء الحسن ، ومحاولة تدميم الصورة . وليس التدسيم - وهو وضع نقطة في بعض الوجه - الذي يوضع لأجل أن تدفع تلك النقطة العين ، ولكن لأجل أن يظهر بمظهر ليس بحسن ، فلا تتعلق النفوس الشريرة به .
فإذا كان وضع هذه النقطة - التي ذكرت - لأجل اعتقاد أنها تدفع العين ، فهذا من اتخاذ الأسباب الشركية التي لا تجوز ، وإن كان لأجل إظهار عدم الحسن في تلك الصورة الجميلة ، أو ذلك الجسد المعافى ، أو نحو ذلك ، فإن هذا لا بأس به . والله أعلم .
سؤال : أجاز بعض العلماء التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليلهم حديث الأعمى فكيف يرد عليهم ؟ وجزاكم الله خيرا .(22/385)
الجواب : حديث الأعمى رواه الترمذي وغيره ، (1) وهو حديث حسن ، وهناك رواية أخرى طويلة في معجم الطبراني الصغير لهذا الحديث ، وفيها زيادة : أن أحد الصحابة - وهو عثمان بن حنيف رضي الله عنه - أرشد إلى استعمال ذلك الدعاء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام . (2) .
بالنسبة للقدر الأول وهو أن الأعمى توسل بالنبي - عليه الصلاة والسلام - في حياته ، فهذا صحيح وجار على الأصول ، حيث إن التوسل بالنبي - عليه الصلاة والسلام - في حياته توسل بدعائه وهو - عليه الصلاة والسلام - يملك ذلك ، ويستطيعه ويقدر عليه .
أما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام : أي بدعائه ، أو بذاته ، أو بنحو ذلك ، بعد وفاته ، فإنه لا يجوز ؛ لأنه طلب للشيء ممن لا يملكه ، والرواية التي في " الطبراني الصغير " ضعيفة ، وفيها مجاهيل ؛ ولذلك ليست بحجة ولم يرد أن الصحابة استعملوا هذا الدعاء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) رواه أحمد في المسند (4 / 138) والترمذي (5 / 569) والطبراني في المعجم الكبير(9 / 19 ) .
(2) رواه الطبراني في الصغير(1 / 184) .(22/386)
والذي يدل - أيضا - على أن ذلك خاص بالأعمى ، وعلى أصل الاستشفاع ، وأنه رحمة من الله - جل وعلا - للمستشفع ، وفضل منه عليه ، وإزالة عما به : أن ذلك الأعمى رأى النور وأبصر بعد دعاء النبي - عليه الصلاة والسلام - له ، وتوجه ذلك الأعمى إلى الله - جل وعلا - أن يجيب فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام .
والصحابة الآخرون الذين كانوا مكفوفين لم يدعوا بهذا الدعاء ، فكان في المدينة أناس عدة قد كفت أبصارهم منهم : ابن أم مكتوم ، وجماعة ، فما دعوا بذلك الدعاء وإنما كان ذلك خاصا بذلك الأعمى ، فالعلماء لهم في ذلك توجيهان :
التوجيه الأول : أن ذلك الدعاء كان خاصا بذلك الأعمى ، بدليل عدم استعمال بقية الصحابة ذلك الدعاء ، وعدم إرشاد النبي - عليه الصلاة والسلام - لهم أن يزال ما بهم من عمى البصر بذلك الدعاء .(22/387)
التوجيه الثاني : أن ذلك خاص بحياته - عليه الصلاة والسلام - ولا يكون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ، وهذا الثاني والأول جميعا ظاهرة صحيحة والصحابة فهموا ذلك ؛ ولهذا ثبت في صحيح البخاري وغيره أن عمر - رضي الله عنه - قال لما أجدبوا وهو يخطب في الاستسقاء : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بنبيك ، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك ، يا عباس قم فادع الله لنا . (1) .
قال العلماء : انتقل عمر من الفاضل - وهو النبي عليه الصلاة والسلام - إلى المفضول وهو العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام ، لعلة شرعية ، وهي أن الدعاء من الحي ممكن ، وأما من غير الحي - الحياة الدنيا المعروفة - فإنه غير ممكن ، وإلا كان عمر - رضي الله عنه - انتقل من الفاضل إلى المفضول لغير علة شرعية ، وهذا ممتنع في حق الصحابة رضوان الله عليهم ، لكمال فقههم .
سؤال : بعض أصحاب السيارات الخاصة ، كالليموزين ، وسيارات النقل الكبيرة ، يضعون على أطراف السيارة خرقا سوداء اعتقادا منهم بأنها حروز تمنعهم الحوادث ، فهل يجوز نزعها ؟ أو ماذا نفعل ؟
_________
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء ( 1010) .(22/388)
الجواب : إذا كان الأمر كما وصفه السائل ، من أن سبب وضع تلك الشارات أو الخرق ، هو اعتقاد أهلها فيها ، فيجب نزعها ، ومن نزعها فله فضل نزع التمائم من أماكنها ، أو تخليص أصحابها منها ، لكن هذا متوقف على أن يعلم أنهم وضعوها لهذا الغرض ، فإن وضع مثل هذه الشارات لهذا الغرض غير معروف أنه لأجل دفع التمائم ، فإذا كان بعض الناس يستعملها لدفع الشر ، ويستعملها لأنها تمائم ، فهذه يجب نزعها ، ومن رآها لا يحل له أن يتعداها حتى ينزعها ؛ لأنها اعتقاد في غير الله ؛ ولأنها نوع من أنواع المنكر وذلك الاعتقاد فيها كبيرة من الكبائر ، وشرك أصغر بالله - جل وعلا - .
سؤال : كيف نخرج قول النبي عليه الصلاة والسلام : « لولا أنا لكان عمي في الدرك الأسفل من النار » ؟(22/389)
الجواب عن هذا يأتي في بابه - إن شاء الله - والقاعدة المنضبطة في ذلك ، هو منع أن يقول القائل : لولا فلان لكان كذا ، لأنه شرك لفظي ، ونوع تشريك ؛ حيث إنه نسب النعمة لغير الله - جل وعلا - ، وهذا له صور كثيرة جدا : منها على سبيل المثال قول القائل : لولا أن فلانا كان جيدا معي لكان حصل لي كذا وكذا ، أو : لولا أن السيارة كانت قوية لهلكت ، أو لولا كذا لكان كذا ، مما فيه تعليق دفع النقم أو حصول النعم لأحد من المخلوقين . والواجب على العباد أن ينسبوا النعم إلى الله - جل وعلا - ؛ لأنه هو الذي يسدي النعم ، قال - جل وعلا - في سورة النعم : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، وقال - جل وعلا - أيضا في السورة نفسها : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] ، فالواجب على العبد المسلم أن ينسب النعم إسداء ، وتفضلا ، وإنعاما لله - جل وعلا - وأن يتعلق قلبه بالذي جعل تلك النعم تصل إليه .(22/390)
والناس أو الخلق أو الأسباب ، إنما هي فضل من الله - جل وعلا - جعلها أسبابا ، وما فلان من الناس إلا سبب أوصل الله إليك النفع عن طريقه ، أما النافع في الحقيقة فهو الله - جل وعلا - ، فإذا اندفعت عنك نقمة ، فالذي دفعها هو الله - جل وعلا - بواسطة سبب ذلك المخلوق ، آدميا كان ، أو غير آدمي ، فيجب نسبة النعم إلى الله - جل وعلا - فلا تنسب نعمة لغيره سبحانه ، ومن نسبها لغيره سبحانه فهو داخل في قول الله - جل وعلا - : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] .(22/391)
وأما الحديث الذي في الصحيح من « أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : هل نفعت عمك أبا طالب بشيء؟ قال : " هو في ضحضاح من النار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » (1) ، فقوله عليه الصلاة والسلام : " لولا أنا " هذا فيه ذكر لعمله - عليه الصلاة والسلام - وافترق عن قول القائل : لولا فلان لحصل كذا ، من جهتين : الجهة الأولى : أن ذلك القائل هو الذي حصلت له النعمة ، أو اندفعت عنه النقمة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا - يخبر عن صنيعه بعمه ، وأن عمه اندفعت عنه بعض النقمة ، فذلك النهي في المتحدث الذي تعلق قلبه بالذي نفعه أو دفع عنه الضر ، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا أنا " فهو إخبار عن نفعه لغيره ، فليس فيه تعلق القلب ، في اندفاع النقمة ، أو حصول النعمة بغير الله - جل وعلا - ، هذا وجه ، فتكون العلة التي من أجلها نهي عن قول : لولا كذا ، لما فيها من نسبة النعمة إلى غير الله ، من جهة تعلق القلب بذلك الذي حصل له النعمة ، وهذا غير وارد في قول النبي عليه الصلاة والسلام : « لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - ليس هو الذي حصلت له النعمة ، وإنما
_________
(1) أخرجه البخاري (3885) و (6564) ومسلم (360 ) .(22/392)
هو مخبر عن فعله لعمه .
الوجه الثاني في ذلك : أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد بين أن نفعه لعمه من جهة الشفاعة ، فهو يشفع لعمه حتى يكون في ضحضاح من نار ، فقوله : « لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » يعني : لولا شفاعتي . ومعلوم بنصوص الشرع أنه عليه الصلاة والسلام يكرم بالشفاعة ، ويعطى الشفاعة ، فهو سائل ؛ وهو سبب من الأسباب ، والمتفضل حقيقة : هو الله - جل وعلا ، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام - بضميمة علمنا أنه يشفع لعمه - كأنه قال : لولا أن الله شفعني فيه لكان في الدرك الأسفل من النار . فليس فيه - بالوجهين جميعا - تعليق للقلب لغير الله - جل وعلا - في حصول النعم ، أو اندفاع النقم ، مما يكون في قول القائل : لولا فلان لحصل كذا ، أو لولا السيارة لحصل كذا ، أو لولا الطيار لحصل كذا ، أو لولا البيت كان محصنا لحصل كذا ، ونحو ذلك مما فيه تعلق قلب من حصلت له النعمة بالمخلوقين ، والله أعلم .(22/393)