وهذا الذي يجب، فإنه يجب علينا أن ننبذ الآراء والعقول والأفهام التي تخالف ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمور الإعتقاد جميعا، بل وفي أمور الدين جميعا، فكل ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو الميزان المستقيم الذي تزن به فهمك، وتزن به الأحوال والأمور والفئات والناس، لأننا أُمرنا بالاتباع، وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أوصانا بهذه الوصية الكافية الشافية؛ بأننا نتبع الصحابة لأنهم تكلموا فيما تكلموا فيه على علم، فهدي الصحابة واجب الاتباع، سواء كان ذلك في الأمور الاعتقادية، أو كان ذلك في الأمور العملية، أو كان ذلك في الأمور السلوكية؛ يعني في أمور الأخلاق والعبادات والزهد ونحو ذلك، فما جاوز طريقتهم فهو غلو، وما قَصُرَ عن طريقتهم فهو تحسير، فما دونهم مقصر، وما زاد على ما أتوا به فهو من الغلاة والذين سيكون مآلهم إلى التقصير والحسرة.
فهذا كلام عمر بن عبد العزيز كمنهج عام، وهو الذي اتبعه الأئمة في أبواب الاعتقاد والعمل والسلوك إلى آخره، فقالوا ما جاء عن الصحابة نأخذه، فمنهاج الصحابة هو الميزان، وفهم الصحابة هو الميزان، و طريقة الصحابة هي الميزان، فهم أهل العلوم وأهل العقول وأهل الأفهام، وما حدث بعدهم فإنما حدث بالرأي، مثل ما أوصاك به أبو عمرو الأوزاعي الإمام المشهور إمام أهل الشام البيروتي حيث قال ”إياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول“ وإن زخرفوا الآراء بالأقوال، ونمّقوا القول وزخرفوه وجملوه، فإياك وإياه، لا ترغب عن السنة لأجل تحسين من حسّن رأيه بألفاظ، وخُذ بالسنة وبما جاء عن أهلها وإن كان أهلها لا يحسنون اللفظ ولا تجميله؛ لأن الميزان هو الاتباع، فمن اتبع فهو الناجي، ومن ابتدع فهو الهالك، وقانا وإياكم سُبُل الهلاك.
?????(19/20)
10_ وقالَ محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الأَدْرَمِيُّ لرَجُلٍ تكَلَّمَ ببدْعَةٍ وَدَعَا الناسَ إليها: هَلْ عَلِمَهَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكْرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ أوْ لَم يعلَموها؟ قال: لَم يعلَموها، قال: فَشَيْءٌ لَم يعلَمْه هؤلاء أَعلِمْتَهُ أنتَ؟ قال الرَّجلُ: فإنِّي أقولُ قدْ علِمُوها، قال: أَفَوَسِعَهُمْ أنْ لا يتَكَلَّمُوا به ولا يدْعُوا الناسَ إليه، أمْ لَم يَسَعْهُمْ؟ قال: بَلْ وَسِعْهُمْ، قال: فَشَيْءٌ وَسِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءَه، لا يَسَعُكَ أنتَ؟ فانْقَطَعَ الرَّجلُ، فقال الخليفةُ، وكان حاضِرا: لا وَسَّعَ اللهُ على مَنْ لَم يَسَعْهُ ما وَسِعَهُمْ.
11_ وهكذا مَنْ لَم يَسَعْهُ ما وَسِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه والتَّابعين لَهُم بإحسانٍ، والأئمةَ مِنْ بَعْدِهِمْ، والرّاسِخين في العِلْم، مِنْ تِلاوَةِ آيات الصِّفاتِ وقِراءَةِ أخْبارِها، وإِمْرارِها كما جاءَت، فلا وَسَّعَ اللهُ عليه.
12_ فمِمَّا جاءَ مِنْ آياتِ الصِّفاتِ قولُ الله عزّ وجل { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، وقولُه سبحانَهُ وتعالى { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، وقولُهُ تعالى إخْبارًا عنْ عيسى عليه السلامُ أنَّه قال { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [المائدة:116]، وقولُه سبحانه { وَجَاءَ رَبُّكَ } [الفجر:22]، وقولُه تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } [البقرة:210]، وقولُه تعالى { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [المائدة:119].
هذا شروع في ذكر آيات الصفات، أو نصوص الصفات التي اشتملت على ذكر أسماء الله جل وعلا أو ذكر صفاته، وصفات الله جل وعلا تنقسم بأحد الاعتبارات إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية.(19/21)
فالصفات الذاتية: هي التي لا تنفكّ عن الموصوف مطلقا، وهي في حق الله جل وعلا التي لم يزل الله جل وعلا متصفا بها، يعني لا يتصف بها في وقت دون وقت، بل اتصافه بها دائما؛ من مثل صفة الوجه، كما قال جل وعلا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27]، ومن مثل صفة اليدين كما قال جل وعلا { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، وقال جل وعلا { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75] ونحو ذلك من صفات الذات.
وقوله هنا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27] هذه أول الآيات التي ذكر، وهذه الآية صريحة في إثبات صفة الوجه لله جل وعلا، وقوله(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) وجه الدلالة منه أنه أضاف الصفة -التي هي الوجه- إلى المتصف بها؛ قال(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ).
ونحن نعلم أنه ما يُضاف إلى الله جل وعلا -وهذه قاعدة-: تارة يكون معنى، وتارة يكون ذات.
وإذا كان ذاتا: فتارة تكون ذاتا تقوم بنفسها، وتارة لا تقوم بنفسها:
1. مثال المعنى مثل الرحمة، والغضب، والرضا، فنقول رضا الله, رحمة الله ونحو ذلك، وهذا إضافة معنى إلى الله جل وعلا.(19/22)
2. أما إضافة الذات؛ يعني إلى شيء يكون ذاتا، تارة هذا الذي يكون ذاتا -يعني مستقل له معنى، يعني شيء محسوس، يعني يمكن أن تفهمه بأنه ليس وصفا بدون ذات ولكنه ذات- هذا تارة يكون قائما بنفسه مثل قوله { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } [الشمس:13] فهنا أضاف الناقة إلى نفسه جل وعلا فقال (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) والبيت بيت الله كما جاء في الحديث «ثم خرج إلى بيت من بيوت الله» أو «ثم مشى إلى بيت من بيوت الله» فهذا أضاف البيت إلى الله، ومثل القسم الثاني وجه الله, ويد الله، وساق الله, وقدم الله, وعين الله جل وعلا ونحو ذلك، فإذن إذا أضيف ما يقوم بنفسه، فهذا الأصل أنه تكون الإضافة للتشريف والتعظيم, فقوله { نَاقَة اللَّهِ } ([4]) أضاف الله جل وعلا الناقة إلى نفسه، ومعلوم أن الناقة ذات منفصلة تقوم بنفسها، فهذا يقتضي تشريف ما أضافه الله جل وعلا إلى نفسه، ويقتضي تعظيمه. الثاني مثل بيت الله كذلك, أما وجه الله, { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح:10]، { بِأَعْيُنِنَا } ([5]) ونحو ذلك، فالعين، والوجه، واليد، والقدم، والساق، ونحو ذلك، هذه ذوات لكنها لا تقوم بنفسها, يعني لا وجود وجه بدون صاحب وجه, لا توجد يد بدون صاحب يد, لا توجد عين بدون صاحب عين، فهذه إذا أُضيفت إلى الله جل وعلا أو إلى غيره فهذه تقتضي الصفة لا تقتضي التشريف بها.
فإذن تلخص هنا أن الإضافة للذوات على قسمين:
o تارة تكون إضافة للتشريف: وهو ما أضيف من الأعيان مما يقوم بنفسه.
o وتارة الإضافة تقتضي الوصف: إذا كان لا يقوم بنفسه.(19/23)
فقوله هنا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن:27] وجه الاستدلال أنه أضاف الوجه إلى الله جل وعلا؛ فقال عز من قائل سبحانه (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) فأضاف الوجه إلى الرب، فدل على أنه صفة له، المبتدعة يقولون وجه هنا بمعنى الذات، يعني ويبقى ربك نقول هنا قال جل وعلا(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ثم وصف الوجه بقوله { ذُو الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن:27]، ولما أراد أن يصف الرب جل وعلا قال { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن:28] فوصف الله جل وعلا في أول السورة الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام ووصف نفسه سبحانه دون اسمه في آخر السورة بقوله { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن:28], وذلك أن الله جل وعلا هو ذو الجلال والإكرام وكذلك صفاته ذات جلال وإكرام.
قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64] يداه تجرى عليها القاعدة، هذه من آيات الصفات أم لا؟ الجواب: نعم من آيات الصفات؛ لأنه أضاف ذاتا لا تقوم بنفسها إلى الله جل وعلا، أضافها إلى نفسه، فدل أنه إضافة الصفة إلى متصف بها، واليد في القرآن أتت تارة مفردة، وتارة مثنّاة، وتارة مجموعة:
¨ فأما المجموعة في قوله-يعني أيدي- { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } [يس:71]هذا واحد.
¨ اثنين قال { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]. وكما قال هنا { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64] فجعلهما اثنتين.
¨ الثالث أنه ذكر يدا واحدة فقال { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك:1].(19/24)
وهذا التعارض بين الإفراد والتثنية والجمع, وهل يوصف أن الله جل وعلا له يدا واحدة؟ أو يوصف بأن له يدين؟ أو يوصف بأن له أيديا؟ الجواب:أنه يوصف جل وعلا بأن له يدين, وأما إضافة اليد الواحدة إليه جل وعلا فهذا من إضافة الجنس، فهذا معروف؛ تضيف المفرد وتريد به الجنس, وأما الجمع في قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } [يس:71]فهنا جمع لأن العرب من لغتها أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير جمع أو تثنية فإنه يُجمع, من لغة العرب أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو جمع فإنه يُجمع لأجل خفة اللفظ؛ ممن مثل قوله تعالى { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم:4] (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) هما امرأتان, أليس كذلك؟ فخاطبهما بقوله(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) ثم قال (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)، والمرأتان لهما كم قلب؟ لهما قلبان؛ كل واحدة لها قلب واحد, فإذا كان كذلك فلما جمع؟ الجواب:لأن هذا من سَنن لسان العرب؛ أنه أضيف المثنى إلى ضمير مثنية أو جمع فإنه يجوز جمعه طلبا لخفة اللفظ، فهنا في قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } [يس:71] (أَيْدِينَا) هنا جَمَع، وليس ثم معارضة بين الجمع هنا وبين قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة:64]، بل جَمَعَ هنا لأنه أضاف المثنى أصلا إلى ضمير الجمع، فجَمَعَ لأجل الخفة خفة اللفظ، أصل الكلام أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت يَدَيْنَا أنعاما، ثم صارت (أَيْدِينَا)، يعني ما يقتضيه اللسان العربي، فإذن نصف الله جل وعلا بأن له يدين جل وعلا، والآيات التي فيها ذكر اليدين تدل على التثنية، وأما المفرد فلا يعارض التثنية، والجمع كذلك لا يعارض التثنية، على أن بعض أهل العلم حمل قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا(19/25)
أَنْعَامًا } [يس:71] قال هذا جمع وأقل الجمع اثنان, وهذا إحالة إلى أمر مختلف فيه، إذن بعض أهل العلم يقول إن الجمع ثلاثة، ولا يسوغ في مثل هذه المسائل المشكلة أن يُحال إلى أمر مختلف فيه، بل إلى أمر متيقن منه، وهو ما نعلمه من لغة العرب بدلالة تحفظونها، والأشعار على هذه المسألة كثيرة والشواهد كثيرة -معروفة في النحو- لكن إن تحفظ آية سورة التحريم { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم:4].
القسم الثاني: وذكر المجيء والإتيان هذه صفات فعلية، والصفات الفعلية هي التي يتصف الله جل وعلا بها بمشيئته واختياره، يعني يتصف بها بوقت دون وقت، فهو جل وعلا ليس دائما ينزل إلى السماء الدنيا، وليس دائما يجيء، وإنما يجيء إذا شاء في وقت دون وقت، وهذه تسمى الصفات الفعلية الاختيارية.
???
وقولُه تعالى { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]، وقولُه تعالى في الكفّارِ { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ([6]) وقولُه تعالى { اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } [محمد:28] وقولُه تعالى { كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } [التوبة:46].(19/26)
هذه كلها من الصفات الفعلية؛ لأنه أضاف المعاني مثل الغضب, الرضا, الكره, السخط, هذه معاني أضافها إلى نفسه، والإضافة هذه تقتضي إضافة صفة إلى موصوف, المؤولة يتأولون مثل هذه النصوص فيقولون في مثل الرضا يقولون هو إرادة الإنعام، والغضب يقولون إرادة الانتقام. طيب، إذا سألتهم قلت لما أوّلتم الغضب مثلا بإرادة الانتقام؟ قالوا: لأن حقيقة الغضب هو ثوران أو غليان دم القلب، هذا حقيقة الغضب؛ غليان دم القلب، وهذا يجب تنزيه الله جل وعلا عنه. نقول: لاشك يجب تنزيه الله جل وعلا عن مثل هذا، ولكن هل هذا هو الغضب؟ وتلاحظ أنك في فهمك لنصوص الصفات، أو في فهمك لشبه المؤولة، لابد أن تغوص إلى أصل كلامهم وشبهتهم حتى تستطيع الرد؛ لأنه أحيانا يمكن أن يزخرف القول، لكن إذا رجعت إلى أصل الكلام وجدت أنه باطل، فمثل هذا الأشاعرة والماتريدية والكلابية قبلهم ومن نحى نحوهم يقولون: الغضب هو إرادة الانتقام، لماذا؟ قالوا لأن حقيقة الغضب هو غليان دم القلب. فنقول: الصواب أن الغضب صفة ينشأ عنها في ابن آدم غليان دم القلب؛ لأن ابن آدم أولا يغضب، ثم بعد غضبه ينتج عنه غليان دم القلب، ويظهر ذلك باحمرار الوجه والانتفاخ إلى آخره. نقول: هذا أمر ينشأ عن الغضب، وليس هو الغضب نفسَه. فإذن هم يؤولون لأنهم بنوا على مقدمات باطلة، وأصل هذا التأويل من نفي الصفات هذه؛ من رضا وغضب ونحو ذلك، أصله من جراء القول بنفي الصفات الاختيارية، وأن الله جل وعلا لا يتصف بصفة في وقت دون وقت، فإما أن يتصف بها مطلقا أو إما أن لا يتصف بها مطلقا. فلهذا يؤولونه، لما يؤولونه إلى الإرادة؟ ذلك أن الإرادة من الصفات العقلية السبع التي يثبتونها، فيؤولون الصفات غير السبع بإحدى الصفات السبع التي يثبتونها، فهم يثبتون -الأشاعرة والماتريدية ونحوهم- سبع صفات، فهم يؤولون هذه الآيات بإحدى الصفات السبع، أما المعتزلة والجهمية فتارة يجعلون الاسم أو الصفة يراد بها مخلوقا(19/27)
منفصلا؛ يعني - رضي الله عنه - الرضا بمعنى المرضي عنه الرحيم، وهو الغفور الرحيم؛ الغفور هو ما حصل لمن... يعني المغفور له، ليس هو صفة الله لكن هو صفة للعبد، فالمخلوق هو الذي يُقال الغفور الرحيم ونحو ذلك، وهو عمل الجهمية والمعتزلة، وتجدون هذا في بعض التفاسير، أما الماتريدية والأشاعرة والكلابية فهم يفسرونها بإحدى الصفات السبع، تارة يفسرونها بالإرادة في بعض الصفات، وتارة يفسرونها بالقدرة ونحو ذلك؛ مثل التوفيق والخذلان يفسرونه بالقدرة لأنهم يثبتون القدرة، فيفسرون توفيقه سبحانه لعبده وخذلانه سبحانه لعبده بالقدرة.
المقصود من هذا أننا نثبت هذه الصفات سواء كانت صفات ذاتية أو صفات فعلية اختيارية أو غير اختيارية نثبتها جميعا لله جل وعلا دون تفريق كما جاء في نصوص الكتاب والسنة. وهذا أصل من الأصول، ونقول إن هذا الاتصاف لله جل وعلا بهذه الصفات على أساس قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11] فهنا قال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) والكاف هنا:(19/28)
¨ من أهل العلم من يقول هي صلة يعني زائدة، ومعنى كونها زائدة يعني للتأكيد، فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في تقدير قولك ليس مثله شيء, ليس مثله شيء، لأن العرب تزيد حرفا أو كلمة وتريد بالزيادة تكرير الجملة؛ يعني وتأكيد الجملة, فقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على هذا القول؛ وهو أن الكاف هنا صلة يكون المعنى ليس مثله شيء, ليس مثله شيء، فهو تأكيد للجملة بتكرارها، وهذا من مثل قوله { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } [البلد:1]، { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القيامة:1] هل هو ترك للقسم أو إثبات للقسم؟ من أهل العلم وهو القول الظاهر أنه قسم { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القيامة:1] يعني أقسم، لكن (لا) هنا صلة لتأكيد القسم، فيكون المعنى بوجود (لا) معناه: أقسم بيوم القيامة، أقسم بيوم القيامة. وهذا من أسرار اللسان العربي الشريف.
¨ القول الآخر: أن الكاف هنا بمعنى المثل، هي حرف لكنها اسم، بمعنى مثل فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يعني (ليس مثلَ مثلِه شيء) هذا يقتضي المبالغة في نفي المثيل، وورود الكاف بمعنى مثل، معروف في اللغة من مثل قوله تعالى في سورة البقرة { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة:74] ومن مثل قول الشاعر:
لو كان في قلبي كقدر قلامة
حبا لغيرك ما أتتك رسائلي
يعني لو كان في قلبي مثل قدر القلامة لغيرك كذا وكذا.(19/29)
فإذن هنا الكاف إما أن تكون بمعنى هذا أو هذا، فقوله جل وعلا هنا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هذا فيه أبلغ النفي لوجود المثيل لله جل وعلا، ثم لمّا نفى أثبت، وهذا على القاعدة المعروفة: أن النفي يكون مجملا، والإثبات يكون مفصلا. فنفى مجملا فقال (ليس مثلَ مثله شيء) ثم فَصَّل فقال (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). لما خص السمع والبصر هنا؟ وصف الله جل وعلا هنا نفسه بالسمع والبصر؛ قال بعض أهل العلم: لأن السمع والبصر من أكثر الصفات اشتراكا بين ذوات الأرواح. فالسمع يوجد في الذباب, يوجد في النمل، كذلك البصر يوجد في البعوض ويوجد في الإنسان ويوجد في الهرّ؛ يعني جميع المخلوقات -تَدَرَّجْ بها- فيها سمع وبصر. فينبهك على أنه هل سمع البعوض وبصره هل هو مثل سمع ابن آدم وبصره؟ لا, يشترك ابن آدم مع البعوض في بعض معنى السمع والبصر؛ لأن السمع ما تدرك به المسموعات، والبصر ما تدرك به المرئيات، فالبعوض له سمع وبصر يناسب ذاته, ابن آدم له سمع وبصر يناسب ذاته ولا يقارن به سمع وبصر البعوض. فنبه الله جل وعلا بهاتين الصفتين السمع والبصر لأجل اشتراكها في كثير من ذوات الأرواح؛ من أنه كما أنها لا تتماثل ذوات الأرواح في الاتصاف بهاتين الصفتين، فكذلك جل وعلا له سمع وبصر (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، مع قطع المماثلة وقطع طمع إدراك الكيفية لصفات الله جل وعلا، فله جل وعلا سمع وبصر يناسب ذاته العظيمة الجليلة جل وعلا وتقدس وتعاظم. نواصل إن شاء الله غدا أسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
13_ ومِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَنزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلّ ليلةٍ إلى سماءِ الدّنيا»وقولُه «يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ»، وقولُه «يَضحَكُ اللهُ إلى رجُلَين يَقُتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلانِ الجنّة».(19/30)
14- فهذا وما أشْبَهَهُ مِمّا صَحَّ سَنَدُهُ، وعُدِّلَت رُوَّاتُه، نُؤْمِنُ بِهِ، ولا نَرُدُّهُ، ولا نَجْحَدُهُ، ولا نَتَأَوَّلُهُ بِتَأْوِيلٍ يُخالِفُ ظاهِرَه، ولا نُشَبِّهُهُ بصفاتِ المخلوقين، ولا بِسِماتِ المُحْدِثِينَ، ونعلَمْ أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى لا شبيهَ لَهُ، ولا نظيرَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، وكلُّ ما تُخِيِّلَ في الذِّهْنِ أوْ خَطَرَ بالبَالِ, فإنَّ اللهَ تعالى بخلافِه.
15- ومِنْ ذَلكَ قولُه تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(19/31)
أما بعد: فلما ذكر المؤلف ابن قدامة رحمه الله تعالى أن الأصل الجامع لمذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات أنهم يُمرونها كما جاءت لإثبات ذلك لفظا ومعنى والإيمان بما اشتملت عليه لا يتجاوزون القرآن والحديث, بدأ بتفصيل الكلام على بعض الصفات، فذكر بعض الأدلة من التنزيل؛ من القرآن على بعض الصفات، كما مر معنا، ثم ذكر ما هو من الأحاديث في الصفات، فذكر حديث النزول وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ينزل ربنا كل آخر ليلة» وفي لفظ آخر «ينزل ربنا في الثلث الأخير من كل ليلة»وفي بعض الروايات «في النصف الأخير من كل ليلة، فينادي عبادَه: هل من سائل فأعطيه, هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له» وهذا نزول خاص يليق بجلال الله جل وعلا وعظمته، وليس هو كنزول المخلوقين، كما يُعلم من نزولهم، وإنما هو نزول خاص بالله جل وعلا كسائر صفاته؛ يُثبت المعنى ويُنفى العلم بالكيفية، لأن الله جل وعلا لا تتمثله العقول بالتفكير ولا تتخيله القلوب بالتصوير { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، فالنزول يثبت لله جل وعلا على معتقد أهل السنة والجماعة، وأما المبتدعة من الكلابية والأشاعرة والماتريدية، ومن قبلهم من المعتزلة ونحوهم؛ فيتأولون هذه الأحاديث إذا أثبتوها، بأن معنى النزول نزول رحمته، والجواب عن هذا التأويل من أنه:
* أولا: خلاف الأصل، والله جل وعلا أوجب علينا أن نؤمن بظاهر الآيات والأحاديث.
* والثاني: أن رحمته جل وعلا نازلة على العباد في كل حين، فتخصيص الثلث الأخير من الليل بنزول الرحمة لا معنى له؛ لأن رحمة الله جل وعلا نازلة في كل حين وأوان، بل العباد لا يخلون من رحمة الله جل وعلا، ولو أُخلوا من رحمة الله جل وعلا لفسدت معايشهم ولهلكت أنفسهم.(19/32)
وهذا تأويل باطل من أن يتأول النزول بنزول الرحمة، بل هو نزول الرب جل وعلا، وصفه بذلك نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ لا يصف الله جل وعلا أحد من الخلق أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أكثر تنزيها وتعظيما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ذكر الصفة الثانية ألا وهي صفة العجب فذكر الحديث المشهور المعروف الذي رواه الإمام أحمد وغيره من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «عجب ربنا من شاب ليست له صبوة» يعني ليس له ميل وجنوح إلى ما يهتم به الشباب من الشهوات وغير ذلك، فقال (عجب ربنا) وهذا الحديث من جنس أحاديث الصفات فيه ذكر صفة العجب، وأن الله جل وعلا يعجب، وهذه الصفة؛ صفة العجب ذُكرت في القرآن في قول الله تعالى في سورة الصافات { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ(12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ } [الصافات:12-13] على القراءة السبعية الثانية إذْ في الآية قراءتان القراءة الأولى { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } [الصافات:12] والقراءة السبعية المتواترة الثانية { بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُون } [الصافات:12]، فإذن يكون صفة العجب دل عليها القرآن والسنة، ويوصف الله جل وعلا بالعجب كما وصف به نفسه، وليس وصف الله جل وعلا بالعجب من الفعل، أو مما يعمله العبد، ليس هذا ناتج عن عدم العلم؛ بل هو من كماله جل وعلا، إذْ العجب تارة يكون عن عدم علم وتارة يكون عن علم, والعجب يقتضي رفع منزلة المُتعجَّب منه، وهذا يثبت لله جل وعلا كما قال جل وعلا (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ)، أو كما جاء في الأحاديث التي فيها إثبات صفة العجب من مثل قوله عليه الصلاة والسلام «عجب ربكم من قنوط عباده وقرب غِيَرِه ينظرون إليكم أزلين قنطين يعلم أن فرجكم قريب» وغير ذلك من الأحاديث.(19/33)
فهذه الأحاديث وأمثالها مما صح إسناده وعُدِّلت نقلته، نثبت ما جاء فيها على القاعدة المقررة من أنه إثبات بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه.
قال المؤلف رحمه الله كلمة عظيمة مهمة قال (وما خطر ببالك فإن الله جل وعلا بخلافه) إذا خطر في بال المرء أن الله جل وعلا في اتصافه بالصفة يكون على النحو الذي خطر بباله، أو تخيل صورة، فليجزم بأن الله جل وعلا بخلاف ما تخيل، وذلك لأن المرء لا يمكن أن يتخيل شيئا أو يتصور شيئا إلا إذا كان:
* قد رآه. ([7])
* الثاني: أن يكون قد رأى مثله.
* الثالث: أنه قد رأى جنسه.
* الرابع: أنه وُصف له وصف كيفية.
وهذه الأربع لا تنطبق على صفات الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا لم يُر حتى تتخيله القلوب بالتصوير، ولم يُر جنسه، وكذلك لم يوصف وصف كيفية، فلهذا كل ما خطر بعقلك أو تصوره قلبُك فلتجزم بأنه الله جل وعلا بخلاف ذلك، فهذه قاعدة عظيمة، والشيطان وإبليس يأتي للمؤمن فيجعله يتصور، ويُصَوِّر له ربه جل وعلا على نحو من الصور، وهذا لأجل أن يُشغل العبد عن تنزيه الله جل وعلا، وعن إثبات الصفات لله جل وعلا على ما يجب له سبحانه وتعالى، وليدخله في نوع من الضلالات من التجسيم و التشبيه والتمثيل ونحو ذلك.
فذكر المؤلف القاعدة العظيمة في هذا؛ وهو أنّه ما خطر ببالك أو تصوره بقلبك فاعلم بأن الله جل وعلا بخلافه.
?????
وقولُه تعالى { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16]، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - «رَبُّنَا الله الّذِي في السّماءِ تَقَدّسَ اسْمُكَ» وقال للجاريَّة «أيْنَ الله؟» قالتْ: في السَّماءِ قال «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». رواه مالكُ بنُ أنَسٍ ومسلمٌ وغيرُهما مِنَ الأئمة.(19/34)
16- وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحُصَيْنٍ«كَمْ إلهًا تَعْبُدُ؟» قال: سبْعةً؛ سِتَّةً في الأرضِ وواحِدًا في السَّماءِ، قالَ «مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟» قالَ: الّذي في السَّماء، قالَ«فَاتْرُكْ السِّتَّةَ وَاعْبُدْ الذِي في السَّماءِ وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْن»فَأَسْلَمَ وَعَلَّمَهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ«اللَّهُمَّ ألْهِمْنيِ رُشْدِي وَقِنيِ شَرَّ نَفْسِي».
17_وَفيمَا نُقِلَ مِنْ عَلاماتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأصحابِهِ في الكُتُبِ المتقدِّمةِ أنَّهم يَسْجُدون بالأرْضِ، ويَزْعُمون أنَّ إلهَهمْ في السَّماءِ.
18_ وَرَوَى أبو داودَ في سُننه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ «إنَّ مَا بَيْنَ سمَاءٍ إلىَ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ كذَا وَكذَا -وذَكَرَ الخَبَرَ إلى قَوْلهِ- وَفَوْقَ ذَلِكَ العَرْشُ وَالله سُبْحَانَهُ فَوْقَ ذَلِكَ».
19_ فَهَذَا وَمَا أشْبَهَهُ مِمَّا أَجْمَعَ السَّلَفُ رَحِمَهم اللهُ على نَقْلِهِ وقَبُولِهِ ولم يَتَعَرَّضُوا لِرَدِّهِ ولا تَأْوِيلِهِ ولا تَشْبِيهِهِ ولا تَمْثِيلِه.
20_ سُئِلَ الإمامُ مالك بنُ أنسٍ رَحمه اللهُ فَقِيلَ: يا أبَا عبدِ الله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] كيْف استوى؟ فقال: الاسْتِواءُ غيْرُ مجهولٍ، والكيْفُ غيْرُ معْقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ والسُّؤالُ عنْه بدعةٌ، ثُمّ أَمَرَ بالرَّجُلِ فأُخْرِجَ.
هذه الجمل فيها إثبات لصفة العلو لله جل وعلا، فذكر استواء الله جل وعلا على العرش، ثم ذكر صفة العلو، واستدل لها بقوله { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء } [الملك:16]، وبحديث حُصين المعروف، وبوصف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الكتب المتقدمة.(19/35)
وصفة العلو لله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع وبدلالة الفطرة على ذلك؛ فإن علو الله جل وعلا مركوز في الفطر، وقد جاء من الأدلة في كتاب الله وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد على ألف دليل يدلّ على أن الله جل وعلا عالٍ على خلقه، والعلو ثلاثة أقسام:
¨ علو الذّات.
¨ وعلو القَهْر.
¨ وعلو القَدْر.
وأهل السنة والجماعة يثبتون علو الله جل وعلا بأقسامه الثلاثة؛ فهو جل وعلا عالٍ على خلقه بذاته، كما أنه جل وعلا عالٍ على خلقه بقدره، كما أنه جل وعلا عالٍ على خلقه بقهره وبجبروته.
وأما المبتدعة فإنهم يؤولون العلو بعلو القهر والقدر، وينفون علو الذات.
وهذه المسألة من المسائل العظيمة التي يجري فيها الامتحان بين أهل السنة والجماعة وبين المبتدعة الضُّلاَّل، فمن أنكر العلو فهذا من أهل الضلال ومن أهل الزيغ؛ بل قد حكم طائفة من أهل العلم بكفره لأنه ينفي ما دل القرآن عليه ودلت نصوص السنة عليه بأكثر من دليل، فمسألة العلو هي من أظهر مسائل الصفات، فمن أنكر العلو فهو على شفير هلكة، ومبتدع بدعة مغلظة، وهذا إن لم يصل به الأمر إلى الكفر بالله جل وعلا.(19/36)
قول النبي عليه الصلاة والسلام للجارية أين الله؟ قالت: في السماء, فيما رواه مسلم في الصحيح، وكذلك قوله تعالى { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] (فِي) هنا الصحيح أنها بمعنى (على) { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] يعني من على السماء، فهذا فيه إثبات العلو ومجيء (في) بمعنى (على) ثابت معروف في لغة العرب، وجاء استعمال ذلك في القرآن؛ أرأيت قول الله جل وعلا { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [طه:71] ومعلوم أن التصليب يكون على الجذوع لا أن تُجعل الجذوع ضلفا للمصلبين؛ يعني أنهم يصلبون عليها، وقوله تعالى { ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } [الملك:16] يعني مَنْ على السماء؛ وذلك أن السماء تُفَسَّر تارة بالعلو، فإن السماء اسم لما علا, فالعلو يُطلق عليه السماء، فكل ما علا يُطلق عليه السماء، والعلو المطلق يطلق عليه السماء، وسميت السماوات بهذا الاسم لعلوها، وكذلك سمي المطر سماءً لأجل علوه، قال الشاعر:
إذا نزلَ السماءُ بأرضِ قومٍ
رأيناهُ وإنْ كانوا غِضابا
ويعني بالسماء المطر وهذا لأنه يأتي من جهة العلو، فالسماء بمعنى العلو.
قال بعض أهل العلم: المراد هنا بالسماء ليس هو العلو ولكن جنس السماوات السبع. فيكون المعنى من على السماوات، وذلك أن الله جل وعلا مُتصف بأنه مستوٍ على عرشه العظيم.(19/37)
أخصّ من العلو الاستواء على العرش، والعرش في اللغة هو سرير الملك، وهو مشتق من الارتفاع، فسُمِّي العرش عرشا لارتفاعه ولعلوه { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } [الأنعام:141]، { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل:68], ونحو ذلك، هذا كله فيه معنى الارتفاع والعلو، فالله جل وعلا استوى على عرشه وهو سرير ملكه جل وعلا استواءً يليق بجلاله وعظمته، والاستواء معناه في اللغة: العلو؛ استوى بمعنى علا، قال جل وعلا { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون:28] معنى قوله (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) يعني عَلَوْتُمْ على الفلك.
قال ابن الأعرابي -أحد أئمة اللغة المعروفون-: كنا عند أحد الأعراب فأطلَّ علينا مِن على بيته وقال: استووا إليَّ, يعني ارتفعوا إليَّ، واصعدوا إليَّ. فهذا هو المعروف في لغة العرب؛ لأن استوى بمعنى علا على الشيء، لكن قد يُضمَّن هذا العلو معنىً آخر بحسب الحرف الذي يُعدَّى إليه الفعل، كما قال جل وعلا { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت:11] (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ترى أنَّه من السلف ومن أهل العلم من فسرها بمعنى قصد وعمد. وهذا مما يسمى التفسير باللازم؛ فإنه مع العلو هناك قصد وعمد، وذلك مستفاد من قوله (إِلَى السَّمَاءِ) فلما عدّى الفعل بـ(إِلَى) قال (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) علمنا أنه مُضمَّن معنى القصد والعمد، والتضمين فيه إثبات لأصل المعنى مع زيادة ما دل عليه الحرف الذي عُدِّيَ الفعل به.
والاستواء على العرش مما تميز به أهل السنة، فالمبتدعة يُنكرون استواء الله جل وعلا على عرشه:(19/38)
1. فطائفة منهم يجعلون الاستواء على العرش عبارة عن الاستيلاء عليه، وهذا فيه تنقّص لله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا قال { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف:54] فبيّن أن الاستواء على العرش كان بعد أن لم يكن, فإذا فسر الاستواء بالاستيلاء دلّ هذا على أن الاستيلاء من الله جل وعلا على العرش لم يكن ثم كان، وهذا فيه تنقّص لله جل وعلا إذ فيه سلب قهره وجبروته على خلقه أجمعين، فهذا يُبَيِّن ويُقرّر أن الاستواء ليس إلا بمعنى العلو.
2. بعضهم فسّر ”الاستواء على العرش“ بأنّه يعني ”العرش“ بأنه العلم، واستوى على العرش يعني حاز العلم وكَمُل له العلم، وهذا أيضا باطل.
3. ومنهم من فسَّر ”العرش“ بالكرسي، والكرسي يقولون هو العرش.
وهذه أقوال كلها ليس هذا مجال تفصيل الرد على أصحابها، لكنها جميعا مخالفة لما تقتضيه الأدلة، ولما هو ظاهر الأدلة، ولما دل عليه القرآن والسنة.
والاستواء على العرش يختلف عن العلو بأنه أخصّ منه، فالله جل وعلا من صفاته الذاتية العلو، وأما الاستواء فإنه صفة فعلية باعتبار أنه جل وعلا لم يكن مستويا على العرش ثم استوى، وصفة ذاتية باعتبار أن الله جل وعلا لم يزل مستويا على عرشه منذ استوى عليه؛ يعني أنه لا يستوي في حال دون حال، بل هو جل وعلا مستوٍ على عرشه لا ينفكُّ عن هذا الوصف.
?????
21-ومِنْ صِفات الله تعالى أنَّه مُتَكَلِّمٌ بكلامٍ قَديمٍ، يُسْمِعُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. سَمِعَهُ مُوسى عليْه السلامُ مِنْهُ مِنْ غيُرِ وَاسِطَةٍ، وسَمِعَهُ جِبْريلُ عليْه السلامُ، وَمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ ملائكتِهِ، وَرُسُلِهٍ.(19/39)
22-وأنَّه سُبْحَانَه يُكَلِّمُ المؤمنين في الآخِرَةِ، ويُكلِّمُونَهُ، ويَأْذَنُ لهم فَيَزُورُونَهُ، قال اللهُ تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:164]، وقال سبْحانه { يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } [الأعراف:144]، وقال سبْحانه { مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } [البقرة:253]، وقال سبْحانه { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [الشورى:51]، وقال سبْحانه { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } [طه:11-14]، وقال سبحانه { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [طه:14] وغيْرُ جائِزٍ أنْ يقولَ هذا أَحَدٌ غيْرُ الله.
23- وقالَ عبْدُ الله بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: إذَا تَكَلَّمَ اللهُ بالوَحْيِ سَمِعَ صَوْتَهُ أَهْلُ السَّماءِ، رُوي ذلك عَنِ النبي- صلى الله عليه وسلم -.
24- وَرَوى عبدُ الله بْنُ أُنَيْسٍ عَنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ «يَحْشُرُ الله الخلائِقَ يوْمَ القيامَةِ عُرَاةً حُفاةً غُرْلاً بُهْمًا فَيُنَادِيهم بصوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الملِكُ، أنَا الدَّيَّان» رواهُ الأئمةُ واسْتَشْهَدَ به البخاريُّ.
25- وفي بعْضِ الآثارِ أنَّ موسى عليْه السلامُ ليْلةَ رأى النّارَ فَهَالَتْهُ، فَفَزِعَ منْها، فَنَاداهُ رَبُّهُ: يا موسى! فأجابَ سريعًا اسْتِئْناسًا بالصَّوْتِ، فَقَالَ: لبَّيْكَ لبَّيْكَ أسْمَعُ صوْتَكَ ولا أَرَى مكانَكَ، فأين أنتَ؟ فقال: أنا فَوْقَكَ، وَأَمَامَكَ، وعَنْ يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، فَعَلِمَ أنَّ هذِهِ الصِّفَةَ لا تَنْبَغِي إلاَّ للهِ تَعالى. قال: كَذَلِكَ أنْتَ يَا إِلهي أفَكلامَك أسمعُ أمْ كلامَ رسولِك؟ قال: بلْ كلامي يا موسى.(19/40)
صفة الكلام ثابتة لله جل وعلا بالعقل وبالسمع، ولهذا الذين يثبتون الصفات السبع أو الثمان يجعلون صفة الكلام من تلك الصفات التي يثبتونها؛ لأنه دلّ عليها العقل، كما أنه دل عليها النقل.
أما دليل العقل على هذه الصفة فهو أنه جل وعلا ذكر الآلهة التي أُدِّعيت وجعل عدم كلامها دليلا على عجزها وأنها لا تصلح آلهة قال جل وعلا { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } [طه:89]، وكذلك في قوله جل وعلا { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ } [الأنبياء:63] وذلك أن الفارق بين الحيّ ومن ليست فيه حياة هو الكلام، فإذا كان متكلما كان هذا أكمل؛ بل كان هذا من صفات الكمال، فالكلام من صفات الكمال، وعدم الكلام من صفات النقص، ولهذا كان هذا يصلح دليلا عقليا.
كما أن السمع أثبت صفة الكلام في نصوص الكتاب والسنة، كما سمعتم من إيراد المؤلف وظاهرة في الدلالة على صفة الكلام، قال جل وعلا { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء :164]، وقال جل وعلا { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف:143]، وقد سأل بعض أهل البدع أحد أئمة اللغة عن قوله { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء :164]، سأله أن يقرأه بنصب لفظ الجلالة؛ يعني وكلّم اللهَ موسى تكليما؛ يعني أن يجعل المتكلم هو موسى وأن يجعل الله جل وعلا هو المكلَّم، رغبة منه أن ينفي الصفة؛ صفة الكلام لله جل وعلا، وذلك الرجل هو أحد رؤوس المعتزلة أظنه عمرو بن عبيد, يقول: فقال هذا الإمام هَبْنِي قرأتُها كذلك فما تصنع بقول الله جل وعلا { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف:143]. وهذا يدلُّك على أن أهل البدع لهم رغبة في نفي الكتاب والسنة.(19/41)
وصفة الكلام ثابتة لله جل وعلا، والمعتزلة يجعلون كلام الله مخلوقا منفصلا فيقولون موسى سمع كلام الشجرة، والجهمية يجعلونه مخلوقا منفصلا مطلقا، وأما الأشاعرة والماتريدية فهم يثبتون صفة الكلام؛ لأنها من الصفات السبع عند الأشاعرة ومن الصفات الثمان عند الماتريدية، ولكن يقولون هو متكلم بكلام نفسي قديم.
وأهل السنة والجماعة يتميزون عن أولئك جميعا بقولهم إنه جل وعلا يتكلم بكلام يُسمع بحرف وصوت إذ الذي يُسمع هو ما كان بحروف وما كان بصوت، وكذلك أن كلام الله جل وعلا صفة له جل وعلا، قديمة النوع، حادثة الآحاد؛ فهو جل وعلا يتكلم إذا شاء، كيف شاء، وليس كلامه صفة نفسية، بل هو يتكلم بصوت يسمعه من بَعُد، كما يسمعه من قرب يوم القيامة، وصوته ينفذ في ملائكته في السماء، وصوته سمعه موسى عليه السلام، ولهذا اعترف بعض حُذّاق الأشاعرة والمتكلمين وهو الآمدي في بعض كتبه بأن سماع موسى لكلام الله جل وعلا من الشجرة بأنه دليل لا يقبل التأويل، قال ”لأننا إذا قلنا إن كلام الله جل وعلا قديم فهل سمع موسى الكلام القديم؟ وإذا كان كلام الله جل وعلا قديما فقوله جل وعلا { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة:1] يكون الله جل وعلا يخبر عن نفسه أنه سمع كلام المجادلة قبل أن توجد المجادلة، وقبل أن يوجد ذلك الكلام؟ يقول: إنّه لا مفرَّ إما من إثبات صفة الكلام المسموع؛ حادث الآحاد، وإما أن يعتقد في الله الاعتقادات الباطلة. يعني من الإخبار بخلاف الواقع كما عليه مذاهب الفلاسفة, المقصود أنه اعترف بأنه لا مَحِيد من إثبات صفة الكلام فأهل السنة والجماعة يتميّزون بأنهم يثبتون صفة الكلام، وأن كلامه جل وعلا بصوت يُسمع، وأنه بحرف إذْ إنما يفهم العباد الحروف، وأنه ليس معنىً نفسيا قائما به جل وعلا يُلقى في رُوع جبريل فيأخذه جبريل ويعبر عنه، ولهذا يقول أولئك المبتدعة إن كلام الله جل وعلا معنىً واحد(19/42)
قائم بالنفس؛ إن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنا، أو عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، أو عبر عنه بالعبرانية كان توراة، فيجعلون كلام الله جل وعلا شيئا واحدا، ويجعلونه هو عين الأمر، وهو عين النهي، وهو عين الخبر، وهو عين بقية أنواع الكلام وهذا، والعياذ بالله فيه تنقص لله جل وعلا، والاعتقاد الحق ظاهر لما دلّ عليه الكتاب والسنة من مثل قوله تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى } [النساء:164] ثم أكّد بالمصدر الذي ينفي احتمال معنىً آخر غير التكليم فقال(تَكْلِيمًا)؛ يعني إذا كان (كلَّمَ) لها معنى آخر غير الكلام الذي يسمع فإنه رفع ذلك التوهم بقوله (تكليما)، ولهذا خُصَّ موسى عليه والسلام بهذه الخاصية؛ وهو أنه مُكَلَّم، وأنه كليم الرحمان يعني من كلَّمه الله جل وعلا بلا واسطة.
?????
26-ومِنْ كلامِ الله سبْحانه القرآنُ العظيمُ، وهو كتابُ الله المبينُ، وحَبْلُه المتينُ، وصراطُهُ المستقيمُ، وتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ المرسَلِينَ بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، مُنَزَّلٌ غيْرُ مخلوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وإِليْهِ يَعُودُ.
27-وهُوَ سُوَرٌ مُحْكَمَاتٌ، وآياتٌ بَيِّنَاتٌ، وحُرُوفٌ وكَلِماتٌ، مَنْ قَرَأَهُ فَأَعْرَبَهُ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عشْرُ حسَناتٍ. لَهُ أَوَّلٌ وآخِرٌ، وأجْزاءٌ وأَبْعاضٌ، مَتْلُوٌ بالألسِنَةِ محْفوظٌ في الصُّدورِ، مَسْمُوع بالآذانِ، مَكْتوبٌ في المصاحِفِ، فِيهِ مُحْكَمٌ ومُتَشابِهٌ، ونَاسِخٌ ومنْسُوخٌ، وخاصٌّ وعامٌّ، وأمْرٌ ونَهْيٌ { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:42]، وقَوْله تعالى { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء:88].(19/43)
28- وهَذَا هُوَ الكتابُ العربيُّ الّذي قال فِيهِ الذين كَفَرُوا { لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ } [سبأ:31]، وقال بعضُهم { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [المدثر:25]، فَقال الله سُبْحانه { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر:26]، وقَالَ بَعْضُهم هو شِعْرٌ. فقال الله تعالى { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } [يس:69]، فَلَمَّا نَفَى اللهُ عنْهُ أنَّهُ شِعْرٌ وأثبتَهُ قُرْآنا لم يُبقِ شُبْهةً لِذِي لُبٍّ في أنَّ القرآنَ هو هذا الكتابُ العرَبيُّ الَّذي هُوَ حُرُوفٌ، وكلِماتٌ، وآياتٌ؛ لأنَّ ما ليْس كذلِك لا يقُولُ أحَدٌ إنَّه شعِْرٌ.
29-وقالَ عزّ وجلّ { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [البقرة:23]، ولا يجوزُ أنْ يَتَحَدَّاهُمْ بِالإتْيانِ بِمِثْلِ ما لا يُدْرَى ما هُوَ ولا يُعْقَلْ.
30- وقالَ تَعالى { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } [يونس:15]، فأَثْبَتَ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ الآياتُ الَّتي تُتْلَى عَلَيْهِمْ.
31-وقال تعالى { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت:49]، وقال تعالى { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة:77- 79]، بَعْدَ أنْ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ.
32-وقال تعالى { كهيعص } [مريم:1], { حم(1)عسق } [الشورى:1-2]، وافْتَتَحَ تِسْعًا وعِشْرينَ سُورةً بالحروفِ المقطَّعَةِ.(19/44)
33-وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -«مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ فَلَهَ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَلَحَنَ فِيهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ حَسَنَةٌ»حديثٌ صحيحٌ.
34-وقال عليْه الصّلاةُ والسّلامُ«إقْرَأُوا القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ إِقَامَةَ السَّهْمِ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَتَعَجَّلُونَ أَجْرَهُ وَلاَ يَتَأَجَّلُونَهُ».
35- وقَالَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رضيَ اللهُ عنْهُما: إِعْرابُ القُرآنِ أَحَبُّ إليْنَا مِنْ حِفْظِ بعْضِ حُرُوفِهِ.
36- وقالَ عليٌّ - رضي الله عنه -: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلَّهُ.
37- واتَّفَقَ المسلمون على عَدِّ سُوَرِ القرآنِ وآياتِهِ وكلِماتِهِ وحُروفِهِ.
38- ولا خِلافَ بيْن المسلمين في أنَّ مَنْ جَحَدَ مِنَ القُرآنِ سُورَةً أو آيَةً أو كلِمَةً أو حرْفًا مُتَّفَقًا عليْه أنَّه كافِرٌ، وفي هذا حُجَّةٌ قاطِعَةٌ على أنَّهُ حُروفٌ.(19/45)
الكلام على أن القرآن كلام الله أخصّ من الكلام على صفة الكلام، فإن كلام الله جل وعلا وأنّه قديم عند بعض الطوائف، هذا أعم من أن يُقال إن القرآن النّازل هذا هو كلام الله جل وعلا، ولهذا فإننا نقول إن أهل السنة والجماعة اعتنوا بإثبات صفة الكلام لله جل وعلا في كلامهم على أنَّ القرآن كلام الله جل وعلا، إذْ إذا ثبت هذا الأخصّ الذي نُوزع فيه، فإنَّ إثبات صفة الكلام وأن كلامه جل وعلا بحروف وأصوات وأنه كلمات وحروف وجمل، فإنَّ هذا يَثْبُتُ بظهور، فإذا أثبت الأخص أثبت الأعم في هذا الباب من باب الأوضح والأظهر، فكلام الله جل وعلا الذي ألقاه إلى جبريل فسمعه جبريل منه، وأمره بتبليغه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسَمَّى ذلك الكلام قرآنا، فنزل به جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو القرآن، فالقرآن كلام الله؛ والقرآن بعض كلام الله جل وعلا؛ فكلام الله جل وعلا منه ما هو قرآن ومنه ما هو ليس بقرآن، فالله جل وعلا من كلامه الكلمات الكونية التي قال الله جل وعلا فيها { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف:109] ومعنى الكلمات هنا الكلمات الكونية.(19/46)
والقرآن كلام الله جل وعلا الذي ألقاه إلى جبريل فبلَّغه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سمعه، فإذن القرآن كلماته وآياته وحروفه وسوره هو مسموع لجبريل، من تَكَلُّمِ الله جل وعلا به بحرف وصوت، فهو حروف كما قال جل وعلا { ألم } ([8]), { حم عسق } [الشورى:1-2] إلى آخر الآيات التي فيها الأحرف المقطعة، وهذا يدل على أن جبريل سمعه على هذا النحو سمعه حروفا, وإذا كان سمعه حروفا فثبت أن الله جل وعلا تكلّم بحروف، إذْ جبريل عليه السلام يُقال إما أن يكون سمع كلاما عامّا ففصله بحروف، وهذا فيه نفي لصفة الكلام على النحو الذي أسلفنا إثباته، وإما أن يُقال إن جبريل عليه السلام سمعه هكذا على هذا النحو بالحروف، فيثبت ما يراد إثباته من أن الله جل وعلا يتكلم بكلام هو جمل وكلمات وحروف ويُسمع منه بصوت.
فإذن القرآن العظيم له مراتب:
?المرتبة الأولى: مرتبة الكتابة، وهذا ظاهر في قوله عز وجل { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } [الواقعة:77-78]، فالله جل وعلا قبل أن يتكلم بهذا القرآن في الأزل -يعني حين خلق اللوح المحفوظ وأودعه ما سيكون- جعل فيه القرآن مكتوبا، وهذه مرتبة الكتابة قبل مرتبة التكلم به، وهو جل وعلا جعله مكتوبا في اللوح المحفوظ، وذلك لسعة علمه جل وعلا، فهو يعلم ما سيوحيه إلى عبده محمد عليه الصلاة والسلام، فحفظه مكتوبا في اللوح المحفوظ.
?ثم بعد أن بعث نبيه عليه الصلاة والسلام جعل القرآن جميعا في مرحلة الكتابة أو في رتبة الكتابة جعله جل وعلا في بيت العزة في سماء الدنيا([9]) كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن الله أنزل القرآن وجعله في بيت العزة في السماء الدنيا, قال ابن عباس ثم أنزل منجما على ثلاث وعشرين سنة.(19/47)
?المرتبة الثالثة: مرتبة الكلام والتكلم به، وهذه هي التي يُخص بها وصف القرآن؛ لأن الله جل وعلا تكلّم بهذا القرآن وسمعه منه جبريل فبلغه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فتكلُّم الله جل وعلا بهذا القرآن إنما كان بعد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال جل وعلا { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [المجادلة:1] فتكلم الله جل وعلا بقوله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) إنما كان بعد أن كانت المجادلة وبعد أن حصل من المرأة وزوجها ما حصل فقوله جل وعلا (قَدْ سَمِعَ) هذا حادث، وهذا حادث بمعنى جديد ليس بقديم، وهذا كما وصف الله جل وعلا كتابه بقوله { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [الأنبياء:2] (مُحْدَثٍ) أي محدثٌ تنزيله, أي محدث التكلُّم به، فليس تكلم الله جل وعلا بالقرآن قديما كما يزعمه أهل البدع، لا؛ بل إنما تكلّم الله جل وعلا به بمشيئته جل وعلا وإرادته واختياره، حسَب ما يُوافق حكمته جل وعلا فيسمعه جبريل فيبلغه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا فيه نفي أقوال :
¨ الأول: أنه معنىً نفسي.
¨ الثاني: أنه مخلوق منفصل كما تزعمه المعتزلة، وحصل في ذلك الافتتان العظيم للإمام أحمد ولأهل السنة في فتنة خلق القرآن.
¨ والثالث: من يزعم أن جبريل أخذ القرآن في مرتبة الكتابة من اللوح المحفوظ، وأنزله على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما زعمه السيوطي -وجمع أيضا ممن قبله- في كتابه الإتقان حيث زعم أن جبريل عليه السلام أخذ القرآن في مرتبة الكتابة أخذه من اللوح المحفوظ فأنزله على النبي - صلى الله عليه وسلم -، يريدون بذلك نفي أن يكون الله جل وعلا تكلم بالقرآن، أو أن جبريل سمع منه هذه الآيات وهذه الأحرف.(19/48)
إذن فالأدلة التي أقامها المؤلف رحمه الله تعالى ظاهرة في أن القرآن آيات وحروف وكلمات وسور، والله جل وعلا تكلم به على هذا النحو والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } [يونس:15] (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) وهذا يدلّ على أنه عليه الصلاة والسلام إنما هو مبلِّغ، ولهذا قال جل وعلا { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ([10]) في آيتين في سورة التكوير وفي سورة الحاقة، وهذا ليس معناه أنه كلام الرسول، فإنه في سورة الحاقة يعنى به من؟ في سورة التكوير يعنى به من؟ قال جل وعلا { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } [التكوير:19-20]، وكذلك في سورة الحاقة { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } [الحاقة:40-41] ففي سورة الحاقة الرسول الذي نُسب إليه القول يعني القرآن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي سورة التكوير الرسول الكريم الذي نُسب إليه هذا القرآن هو جبريل عليه والسلام؛ فقال (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني جبريل عليه السلام، فهو قوله لكن الكلام كلام الباري جل وعلا، والقائل له مُبلغا عمن تكلم به مبلغا عمن تكلم به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل، فإذن نسبة القرآن إلى جبريل وأنه قوله هذه نسبة تبليغ، فإنّك إذا سمعت منّي كلاما أنقله عن أحد أهل العلم، فإنه يكون القول قولي، ولكن الكلام كلام من أنقل كلامه، ففرق بين القول وبين الكلام، وهذا لم يتفطن له كثير ممن زعم أن في هاتين الآيتين نسبة القرآن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى جبريل، يعني أن الله جل وعلا لم يتكلم به أنه ليس هو قول الله جل وعلا، كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي بلّغ القرآن، والقرآن لمّا تكلم(19/49)
به النبي عليه الصلاة والسلام صار قولا له؛ لكنه هو يبلغه عن الله جل وعلا، فهو يبلغ كلاما وهذا الكلام هو كلام الله جل وعلا، وهذا به يظهر بعض ما يتعلق به الكلام عن مسألة كلام الله جل وعلا، وهي من أوائل المسائل التي أختلف فيها في صفات الله جل وعلا، ولذلك سمّى بعض الناس ما يتعلق بالكلام عن العقيدة سماه علم الكلام؛ لأنه من أوائل المسائل الحادثة التي تكلم الناس فيها واختلفوا فيها.
فتلخص من ذلك أن معتقد أهل السنة والجماعة أن الله جل وعلا يتكلم، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأنه جل وعلا يتكلم بصوت يُسمع وأن كلامه حروف سمعها منه موسى عليه السلام ويسمعها منه جبريل عليه السلام والملائكة ويسمعها الناس يوم القيامة، وأن كلامه جل وعلا ليس ككلام غيره؛ بل ينفذ في الخلائق يوم القيامة يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأن كلامه لا يأتي من جهة، وإنما هو يأتي من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال بدون أن يكون من جهة واحدة، وهذا من عظيم اتصاف الله جل وعلا بهذا الوصف، وأن القرآن هو كلام الله منزّل غير مخلوق، إذا حُفِظَ في الصدور فهو كلام الله، وإذا كُتِب في الأوراق فهو كلام الله، وإذا تُلي على الألسن فهو كلام الله جل وعلا، فإذا تُلي نقول الكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، فهذه مراتب مختلفة وكلها لا تَخرج عن كون هذا المتكلم به أو المكتوب أو المحفوظ أنه جميعا كلام الله جل وعلا وتعالى وتقدس وتعاظم.
?????
39-والمؤمنون يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الآخرةِ بأبْصارِهِم، ويَزُورُونَهُ، ويُكَلِّمُهُم ويُكَلِّمُونَهُ، قال اللهُ تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22-23]،(19/50)
40- وقالَ تعالى { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففون:15]، فلمَّا حَجَبَ أولئك في حالِ السُّخْطِ دَلَّ على أنَّ المؤمنين يَرَوْنَهُ في حالِ الرِّضَا و إِلاّ لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
41-وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -«إِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لاَ تُضَامّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» حديث صحيح متفق عليه.
42-وهذا تشبيهٌ للرؤيةِ بالرؤيةِ لا للمرئيِّ بالمرئيِّ، فإنّ الله تعالى لا شبيهَ له ولا نظيرَ.
أيضا من عقائد أهل السنة والجماعة التي تميّزوا بها عن طوائف المبتدعة أنهم يعتقدون أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة، وأنه لا يمكن لأحد أن يراه في الدنيا كما قال جل وعلا لموسى حين سأله الرؤية قال { لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف:143]، فالرؤية في الدنيا ممتنعة، وأما في الآخرة فهي ممكنة؛ بل ستقع كما أخبر الله جل وعلا بقوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22:23]، ويرى المؤمنون ربهم جل وعلا في عرصات القيامة وكذلك في الجنة، فيتمتّعون بذلك النظر إلى وجه الله الكريم، فلم يُعطَوا نعيما أعظم من رؤية الرب جل وعلا فهو أعظم النعيم وأجزل النعيم، ولهذا سماه الله جل وعلا زيادة في قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس:26]، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى» رواه مسلم وغيره.(19/51)
خالف في ذلك المبتدعة فقال طائفة منهم: إن الرؤية غير ممكنة أصلا، والنظر غير واقع أصلا لا في الدنيا ولا في الآخرة.([11]) هذا كلام الجهمية والمعتزلة ومن شابههم، ويؤولون قوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة } [القيامة:22:23] بأن (نَاظِرَة) هنا بمعنى منتظرة، فيقولون هي كقوله تعالى { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا } ([12])يعني ينتظرون فالنظر في هذه الآية بمعنى الانتظار(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة)يعني منتظرة لرحمة الله، ومنتظرة لأمر الله جل وعلا.
والجواب عن احتجاج المعتزلة بهذا والخوارج، ويحتج بهذا أيضا طوائف الخوارج الموجودة اليوم من الإباضية وغيرهم وكذلك أهل الاعتزال, والجواب عن هذا الاحتجاج أنه لغة غير مستقيم، فضلا عن أنه ثبت النظر ورؤية المؤمنين لربهم جل وعلا في غير ما دليل، لكنه من حيث اللغة غلط، وذلك لأن الله جل وعلا قال(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة) ولفظ النظر صحيح أنه يأتي بمعنى الانتظار ولكنه إذا أتى بمعنى الانتظار فإنه لا يُعَدَّى بـ(إِلَى) لأنه يكون لازما، كما قال جل وعلا(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) فلما قال (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) ولم يعدها بإلى علمنا أن النظر هنا بمعنى الانتظار(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) (يَنْظُرُونَ) بمعنى الانتظار أما إذا عُدي النظر بإلى فهو نظر العين لا غير ولا تحتمل اللغة غير هذا كما قال جل وعلا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة) الدليل الثاني أنه جل وعلا قال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة) فمن هي الناظرة إلى ربها؟ هي الوجوه، فهذا دليل على أن النظر هو نظر العين؛ لأنه جل وعلا جعل الناظر إلى الله جل وعلا هي الوجوه؛ يعني لأنها محل الإبصار وهذا ينفي الانتظار.(19/52)
وخالف أيضا في مسألة رؤية الله جل وعلا الأشاعرة والماتريدية ومن نحى نحوهم، فأثبتوا رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا يوم القيامة، وردّوا على المعتزلة في أنهم ينفون الرؤية، فالأشاعرة والماتريدية يثبتون الرؤية من أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة، لكنهم يقولون نظر لا إلى جهة، ولهذا قد تجد من الأشاعرة من يُثبت الرؤية بل هم يُثبتونها، لكن تنتبه إلى أنهم يختلفون في إثباتها عن أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة يجعلون الرؤية بالعينين إلى جهة العلو حيث الله جل وعلا، أما أولئك فيجعلونها رؤية بقُوىً يُحدثها الله جل وعلا في الأجسام يوم القيامة لا إلى جهة، وهذا غير مُتصور، ولهذا أهل الاعتزال ردوا على الأشاعرة وقالوا أنتم خالفتم المعقول، في كلام ومناقشات ليست في هذه الدروس المختصرة بمحلها، وكان المعتزلة في تأصيل المسألة أحذق من الأشاعرة بتأصيل المسألة عقليا, لكن الأشاعرة ضعُفوا فأثبتوا ما دل عليه الدليل، لكنهم خالفوا المعقول وخالفوا كل ما اشتمل عليه الدليل، وأما أهل الاعتزال فنظروا بالنظر العقلي فنفوا، وكان الصواب أن يُثبت الجميع، فتثبت الرؤية، والرؤية إلى جهة بحاسة الإبصار، يقول أولئك إن الله جل وعلا يقول لموسى إنك { لَنْ تَرَانِي } [الأعراف:143] قال, قال جل وعلا { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } [الأعراف:143] يقول أولئك إن (لَنْ) هنا تنفي نفيا مؤبدا، وهذا النفي المؤبد الذي حلت عليه (لَنْ) يشمل الحياة الدنيا والآخرة فلا يمكن الرؤية لا في الدنيا ولا في الآخرة بدليل قول الله تعالى: قال { لَنْ تَرَانِي } [الأعراف:143] ولم يُخصص الحياة الدنيا من الآخرة، والجواب أن هذا غلط في باب النحو، وغلط على العربية، ولهذا قال ابن مالك رحمه الله تعالى في الكافية الشافية غير الألفية متن أكبر من الألفية:
ومنْ رَأَى النفيَ بِلَنْ مُؤبَّدا(19/53)
فقولَه أُردُد وسِواهُ فاعْبُدا
(ومنْ رَأَى النفيَ بِلَنْ) وهم المعتزلة، (فقولَه أُردُد) لأنه لا يُعرف عن العرب ذلك، (وسِواهُ فاعْبُدا) لأن لن لا تدل على النفي المؤبد ودليل ذلك من القرآن أن الله جل وعلا أخبر عن مريم أنها قالت { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم:26]، فلو كانت (لَنْ) تدل على النفي المؤبد لم يكن التقييد بقولها (الْيَوْمَ) له معنى أليس كذلك؟ فقوله جل وعلا { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم:26] ظاهر في الدليل أن (لَنْ) لا تقتض التأبيد، كما قال ابن مالك رحمه الله مبينا(لَنْ)
ومنْ رَأَى النفيَ بِلَنْ مُؤبَّدا
فقولَه أُردُد وسِواهُ فاعْبُدا
على كل حال هذه المباحث التي نتعرض لها مختصرة، والحديث من هذه المسائل ينبغي فهمه، لكن نذكر ما يناسب الوقت والزمان، لكن من رام التفصيل فليرجع إلى الكتب التي فُصلت فيها هذه المسائل، فنحن نعطيكم إشارات فيها كفاية لمن تأملها وفهمها جيدا، ولكن من رام المزيد فليطلب ذلك في الكتب المفصلة.
?????(19/54)
43-ومِنْ صِفاتِ اللهِ تعالى أنَّهُ الفَعَّالُ لِمَا يُريدُ لَا يَكُونُ شَيءٌ إلَّا بِإرادَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ شَيءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَلَيْسَ في العالَمِ شيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ تَقْدِيرِهِ وَلَا يَصْدُرُ إِلا عَنْ تدبِيرِهِ، ولا مَحِيدَ عَنِ القدَر المقدورِ، ولا يتجاوَزُ ما خُطَّ في اللَّوحِ المسْطورِ أرَاد ما العالَمُ فاعِلوهُ، وَلَوْ عَصَمَهُم لمَاَ خالَفوهُ، وَلَوْ شاءَ أنْ يُطِيعُوهُ جَمِيعًا لأَطاعُوهُ، خَلَقَ الخَلْقَ وأفعالَهم، وقَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجَالَهُم، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بِحِكْمَتِه، قال اللهُ تعالى { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء:23]، قال اللهُ تعالى { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر:49]، وقال تعالى { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان:2]، وقال تعالى { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد:22]، وقال تعالى { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [الأنعام:125].
44-ورَوَى ابنُ عُمَرَ أنَّ جِبْرِيلَ عليه السلامُ قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ» فقال جبريل: صَدَقْتَ. رواه مسلم.
45-وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «آمنْتُ بالقدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ».
46-ومِنْ دُعَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الّذي علَّمَهُ الحسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَدْعُو بِهِ في قُنُوتِ الوِتْرِ«وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ».(19/55)
الركن السادس من أركان الإيمان هو الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
والقضاء والقدر لفظان يكثر ورودهما فهل بينهما فرق؟
من أهل العلم من قال إنه لا فرق بين القضاء والقدر؛ فالقضاء هو القدر، والقدر هو القضاء.
وفرَّق طائفة من أهل العلم بين القضاء والقدر؛ بأنّ القدر هو ما يسبق وقوع المقدَّر، فإذا وقع المقدَّر وانقضى سُمِّي قضاءً، فما قبل وقوع المقدر مشاهدا معلوما به يسمى قدرا، وإذا وقع ومضى سُمِّي قضاءً مع كونه يسمى قدَرا باعتبار ما قضي، وهذا التفريق حسن وظاهر، وذلك لأن مادة القضاء تختلف عن مادة القدر في اللغة، وقوله عليه الصلاة والسلام «وقني شر ما قضيت» هذا باعتبار أن ما قدر الله جل وعلا هو قضاء؛ يعني أنه كائن لا محالة، فيسأل الله جل وعلا أن يدفع عنه شر ما قدّر وما قضى.
وكثير من أهل العلم ومنهم ابن القيم رحمه الله يقولون لا فرق بين القضاء والقدر، فالقضاء هو القدر والقدر هو القضاء فيتواردان.
الإيمان بالقدر على مرتبتين؛ يعني كيف يكون إيمان أهل السنة والجماعة بالقدر؟ على مرتبتين:
?المرتبة الأولى ما يسبق حصول المقدر؛ ما يسبقه في الزمان؛ يعني ما كان في الماضي.
?المرتبة الثانية هي ما يكون حال وقوع المقدر.
أمّا المرتبة الأولى: فتضم مرتبتين أيضا: الأولى هي العلم، والثانية هي الكتابة. وهذه سابقة، والله جل وعلا علم ما الخلق عاملون إلى يوم القيامة، وكتب جل وعلا -وهذه المرتبة الثانية- مقادير الخلائق إلى قيام الساعة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء.
فإذًا السابق من مراتب القدر أننا نؤمن بأن الله جل وعلا علم ما الخلق عاملون من خير وشر ومن أحوالهم وسكناتهم، وعلمه بهذا لم يزل أوَّلْ؛ لأنه جل وعلا عالم بهذا، ولم يتضرع إليه جل وعلا عدم العلم بهذا.(19/56)
الثاني أنه جل وعلا كتب هذا في اللوح المحفوظ؛ يعني ما الخلق عاملون، وما هم سائرون فيه ومن سيُهدى منهم، ومن سيضل، وكفر الكافر، ومعصية العاصي، وطاعة المطيع، وكل الحركات والسكنات هي مكتوبة في اللوح المحفوظ.
قال جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج:70] فذكر في آية الحج هذه مرتبتين التي هي المرحلة الأولى والمرتبة الأولى السابقة وهما العلم والكتابة، فنوقن بأن الله جل وعلا لم يحدث له علم بشيء، وليس الأمر أُنف؛ بل الله جل وعلا عالم بكل شيء قبل أن يكون أي شيء، وبعد ذلك كتب الله جل وعلا في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق إلى قيام الساعة، فلا يتعدون ما كتب لهم.
المرتبة الثانية: ما يواكِب المقدور، فأهل السنة والجماعة يجعلون الرتبة الثالثة من مراتب القدر وهي المرحلة الثانية, -المرحلة الأولى علم وكتابة- المرحلة الثانية ما يوافق المقدّر، وهي:
أولا: أن الله جل وعلا مشيئته نافذة في عباده؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يحدث في ملكه وملكوته شيء إلا وقد أذن الله جل وعلا به كونا، فطاعة المطيع أذن الله بها كونا، ومعصية العاصي أذن الله بها كونا، وكفر الكافر أذن الله جل وعلا بها كونا، والمصائب التي تصيب العباد أذن الله بها كونا { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ } [الإنسان:30]، فما يشاء العبد داخل في مشيئة الله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن كما قال جل وعلا { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الإنسان:30]، فجعل مشيئة العبد تبعا لمشيئة الله جل وعلا، وأن العبد إذا شاء شيئا لا يكون استقلالا؛ بل إذا شاء الله جل وعلا أن يكون كان.(19/57)
الثانية في هذه المرحلة: وهي الرابعة من مراتب القدر، أنّ الله جل وعلا لا يكون في ملكه شيئا إلا وهو خالقه، فالله جل وعلا خالق كل شيء كما قال جل وعلا { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الزمر:62]، فالله جل وعلا خلق كل شيء، من ذلك طاعة المطيع ومعصية العاصي, من ذلك أفعال العباد, من ذلك المصائب, كل ما يحدث في ملكوت الله جل وعلا خالق له.
هاتان المرتبتان أو المرحلة الثانية هذه تواقع المقدور، يعني إذا حصل المقدر وشاء الله وقوعه بما هو مكتوب في اللوح المحفوظ وسبق به علم الله جل وعلا، لا يكون إلا بمشيئة الله جل وعلا، وإذا كان فالله جل وعلا هو الذي خلقه.
هذا الأمر بمراتبه الأربعة هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة، فعندهم القدر هو: علم الله جل وعلا الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم مشيئته جل وعلا لها، وخلقه جل وعلا للأشياء جميعا.
هذا تعريف القدر عند أهل السنة والجماعة، فشمل هذا التعريف الأربع مراتب العلم، والكتابة, المشيئة العامة, الخلق لكل شيء، فالله جل وعلا خالق كل شيء.
خالف بعض أهل البدع فقالوا: إن الله جل وعلا لا يخلق فعل العبد؛ بل العبد يخلق فعل نفسه، وهذا هو قول القدرية يعني نفاة القدر، والجواب أن الله جل وعلا قال { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات:96] فخلق الله جل وعلا العباد وأعمالهم، فعمل العبد من الطاعات والمعاصي مخلوق لله جل وعلا، لكنه واقع لمشيئته، وهو الذي خلقه، وإذا كان معصية فإنما أذن بها كونا، ولم يرض بها شرعا ودينا؛ أرادها كونا، ولم يردها شرعا، فهو جل وعلا لا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا يكون في ملكه شيء إلا وهو خالقه، وهو الذي أنشأه فصوره وبرأه وخلقه، ويجامع هذا في معصية العاصي وكفر الكافر وأنه لا يرضى بتعدي الشرع.
نفاة القدر قسمان:(19/58)
1. قدرية غلاة: وهؤلاء هم نفاة العلم، وهؤلاء فرقة انقرضت، وهي التي قال فيها أئمة السلف ”ناظروا القدرية بالعلم، فهم إن أقروا به خُصموا وإن أنكروه كفروا“.
2. الطائفة الثانية: القدرية الذين ينفون خلق الله جل وعلا لأفعال العباد، وينفون القدر ويقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
ويقابلهم الجبرية، والجبرية قسمان:
1. جبرية غلاة: وهم الذين يقولون إن المرء ليس له اختيار بتاتا، بل هو كالريشة في مهب الريح، وهذا اعتقاد الجهمية، وطوائف من الصوفية الغلاة موجودون اليوم.
2. والطائفة الثانية الجبرية غير الغلاة: وهؤلاء هم الأشاعرة، فإن الأشاعرة يقولون بالجبر لكنه جبر مؤدب؛ يعني جبر في الباطن دون الظاهر، يقولون: ظاهر المكلف أنه مختار، ولكنه في الباطن مجبر، ولهذا اخترعوا لفظ الكسب، فاخترع أبو الحسن الأشعري لفظ الكسب، وقال: إن الأعمال كسب للعباد. ما تفسير الكسب؟ اختلف حُذَّاقهم في تفسير الكسب إلى نحو من اثني عشرة قولا، ولا يهمنا ذكر هذه الأقوال الآن، كنه خلاصة الأمر أنه لا معنى للكسب عندهم، ولهذا قال بعض أهل العلم:
مما يقال ولا حقيقة تحته([13])
معقولة تدنو لذي الأفهام
الكسب عند الأشعري
والحال عند البهشمي
وطفرة النظام(19/59)
ثلاثة لا حقيقة لها، فالكسب إذا أردت أن تفسره أو تستفسر من الأشعري ما معناه لا يكاد يجتمع منهم جماعة على تفسيره بتفسير صحيح، ولهذا ذكر بعض شُرّاح الجوهرة -من متون الأشاعرة المعروفة- جوهرة التوحيد: أنه لابد من الاعتراف بأننا جبرية، ولكننا جبرية في الباطن دون الظاهر، فلسنا كالجبرية الذين يقولون للإنسان مجبر مطلقا، لا، ولكنه مختار ظاهرا، ولكنه مجبر ظاهرا. طيب كيف تفسرون الأفعال التي تحصل من العبد؟ قال: هو كالآلة التي يقوم الفعل بها فإمرار السكين, لا نقول أن السكين هي التي أحدثت القطع، ولكن نقول حدث القطع عند الإمرار، كذلك العبد نقول هو أُجبر على الصلاة؛ أُجبر على الصلاة لما قام، هو عصى وأُجبر على المعصية لما أتى، فيجعلونه كالآلة وكالمحل الذي يقوم بها إجبار الله جل وعلا، وينفذ فيه حكم الله جل وعلا، وهذا غاية في المخالفة لما دلت عليه النصوص.
فالأشاعرة طائفة من الجبرية, والمعتزلة طائفة من القدرية، والجبرية الغلاة والقدرية الغلاة قد مرّ بك تفصيل الكلام على اعتقادهم، وبهذا يتبين لك خلاصة ما يتعلق القدر، وأن الله جل وعلا مقدر للأشياء قبل وقوعها، ومعنى ذلك أنه علم ذلك، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن قضاءه نافذ في عباده لا يخرجون عما قدّر ولا عما قضى، وأن ذلك لا يعني إجبار العبد؛ بل هو يفعل باختياره ويجازى على أفعاله.
?????
47-ولاَ نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَهُ حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِهِ واجْتِناب نَوَاهِيه، بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبَعْثَةِ الرُّسُلِ، قال اللهُ تعالى { لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء:165].(19/60)
48-ونعلَمُ أنَّ اللهَ سبْحانه وتعالى ما أَمَرَ ونَهى إلاَّ المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَدا على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَةٍ، وقال اللهُ تعالى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286]، وقال تعالى { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن:16]، وقال تعالى { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } [غافر:17]. ([14])
49-فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلًا وكَسْبًا يُجْزَى على حَسَنِهِ بالثَّوابِ، وعلى سَيِّئِهِ بالعِقابِ، وهو واقِعٌ بقضاءِ الله وقَدَرِه.
ليس معنى إثبات القدر أننا نقول أننا مجبرون على أعمالنا، وأن يكون قضاء الله جل وعلا وقدره حجة لنا في ترك ما فرض علينا، فإذا ترك العبد فرضا من فرائضه قال قُدِّر علي، أو ترك واجبا من الواجبات قال قُضي عليَّ، وإذا فعل معصية قال هذا مُقدّر عليّ.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا يُحتجّ بالقدر على المعايب، ولكن يحتجّ بالقدر في المصائب. فإذا وقعت مصيبة على العبد فإنه يقول هذا قضاء الله وقدره فلا تلمني على شيء قضاه الله وقدّره، ولكن إذا كان منه تفريط في أمر واجب فإنه لا يحتجّ بالقدر على المعصية، وإنما كما عند أهل السنة: يُحتج بالقدر في المصائب لا في المعائب. وهذا مأخوذ من قصة محاجّة آدم عليه السلام مع موسى عليه السلام.(19/61)
وهنا ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى لفظ الكسب أيضا، وهذا الموضع مما أنتقد عليه أيضا، وذلك أن لفظ الكسب مما استعمله الأشاعرة وجاء في القرآن { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة:286]؛ ولكنه إذا كان في باب الاعتقاد فينبغي إذا استعملت الألفاظ التي يستدل بها أهل البدع ينبغي أن يكون استعمالها موضَّحا بالمعنى الصحيح، فلا تستخدم الألفاظ التي تحتمل معنىً ليس بصحيح كما عليه أهل البدع، فقوله عز وجل { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة:286] يعني عمِلت، فالكسب في القرآن هو العمل، أما الأشاعرة ومن شابههم من المبتدعة فاستعملوا الكسب بمعنى أن العبد يكون محلاًّ لفعل الله جل وعلا، فيقول هو كسب الفعل لأنه محله، ولا يجعلونه فاعلا حقيقة، ولكن العبد فاعل لفعله حقيقة، والله جل وعلا هو الذي خلق فعله، فيُضاف الفعل إلى الله جل وعلا خلقا وتقديرا، ويضاف الفعل إلى العبد أيضا فعلا منه واختيارا وعملا، فهو فاعل لفعله حقيقة، والله جل وعلا هو الذي خلق العبد وخلق أفعاله.
وبهذا يتبين لك مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في مسألة القدر، وهي مسألة مهمة، ولكن لنتذكر قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ”القدر سر الله فلا تكشفوا“ يعني أن القدر من الأسرار التي إذا أتى العبد وخاض فيها فإنه لن يصل فيها إلى مبتغاه، إلا إذا سار على ما دلت عليه النصوص، وقد جاءت في بعض الأحاديث «وإذا ذُكر القدر فأمسكوا» لأن العبد إذا خاض في هذا على غير بصيرة فإنه يقع في الضلال، وسبب ضلال الخلق أنهم دخلوا في تعليل أفعال الله، ودخلوا في البحث في مسائل القدر دون معرفة لما دل عليه الكتاب والسنة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تائيته القدرية التي ردّ بها على اليهودي الذي شكّك في قدر الله جل وعلا وفي أفعال الله، قال من ضمن ما قال فيها:
وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةٍ(19/62)
هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةٍ
فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ
فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ
وما أحسن قول ابن الوزير أيضا في كتابه ”إيثار الحق على الخلق“لما تعرض لمسألة التعليل وأفعال الله جل وعلا وكيف نفهم القدر، وأنّه يجب علينا أن نَسْلُوَا ونبتعد عن فهمنا للحِكَم جميعا، قال مما قال في أبيات لطيفة طيبة قال:
تسلّ عن الوفاق فربنا قد
حكى بين الملائكة الخصاما
كذا الخضِر المكرّم والوجيه الـ
ــمكلّم إذ ألم به لماما
تكدر صفو جمعهما مرارا
وعجل صاحب السرّ الصراما
ففارقه الكليم كليم قلب
وقد ثنّى على الخضر الملاما
وماسبب الخلاف سوىاختلاف ال
ــعلوم هناك بعضا أو تماما
فكان من اللوازم أن يكون الإله
مخالفا فيها الأناما
لأننا لو فهمنا, لو كان علمنا كعلم الله جل وعلا لفهمنا الأسرار، لكن علمنا قاصر، فلا يمكن أن نفهم قال هنا مبينا السر في ذلك: (وما سبب الخلاف) وهذه قاعدة عامة:
وماسبب الخلاف سوىاختلاف ال
ــعلوم هناك بعضا أو تماما
فكان من اللوازم أن يكون الإله
مخالفا فيها الأناما
فلا تجهل لها قدْرا وخذها
شكورًا للذي يحيى الأناما([15])
وهذا ظاهر، في أن العبد المؤمن يتأمل في قصة موسى، وأن موسى أنكر على الخضر بعض الأفعال؛ لأنه لا يعلم الحكمة من ورائها؛ قتل غلاما ما يعلم الحكمة من ورائه فاحتج، وخرق سفينة ما يعلم الحكمة من ورائها فاحتج؛ لأجل نقص علمه في تلك المسائل عن علم الخضر، فكيف بعلم الله جل وعلا مع الخلق، لم يبق لنا في هذا الباب إلا التسليم المحض والعمل الجاد.
أسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى سبيله القويم، وأن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا العلم والعمل والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
50- والإيمانُ قوْلٌ باللسانِ وعمَلٌ بالأرْكانِ وعَقْدٌ بالجَنَانِ، يزيدُ بالطاعةِ وينْقُصُ بالعصيانِ.(19/63)
51-قال الله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة:5]، فجعَلَ عبادَةَ اللهِ تعالى وإخلاصَ القلبِ، وإقامَ الصَّلاةِ، وإيتاءَ الزَّكاةِ، كُلَّهُ مِنُ الدِّينِ.
52-وقالَ رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -«الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, أَعْلاَهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ».
53-فجعَلَ القَوْلَ والعَمَلَ مِنَ الإيمانِ. وقال تعالى { فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [التوبة:124]، وقال { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا } [الفتح:4].
54-وقال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ بُرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمانِ» فجعَلَهُ متفاضلاً.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه الجمل فيها ذكر مبحث الإيمان ومعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، ومن أوائل المسائل الواقعة في هذه الأمة مما اختلف فيه أهل الفرق عما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان مسألة الإيمان؛ هل تدخل الأعمال في مُسمّى الإيمان؟ وهل الإيمان متفاضلا؛ يتبعض؟ يعني هل يزيد و ينقص؟ وهل هو أبعاض؟ قد يذهب بعضه ولا يذهب كله؟
فقال أولئك الضُّلاّل: إنّ الإيمان قول واعتقاد، وأما العمل فلا يدخل في مسمى الإيمان، وهؤلاء يسمون المرجئة والمرجئة على قسمين:
1. غلاة المرجئة: الذين يقولون إنّ الإيمان هو المعرفة؛ معرفة القلب لا غير، وهذا موجود اليوم في غلاة المتصوفة، وفي طوائف متنوعة.(19/64)
2. والقسم الثاني: الذين يقولون إنّ الإيمان قول واعتقاد، ويُخرجون العمل من مُسمّى الإيمان، فيجعلونه تابعا للإيمان، وليس منه، وليس من مسماه، يعني أن العمل ليس ركنا في الإيمان لا يقوم الإيمان إلا به، وهؤلاء يُسَمَّوْنَ مرجئة الفقهاء، كثر هذا في الحنفية لأنه قد قال به الإمام أبو حنيفة.
وطائفة أخرى خالفت، وقالت: إنّ الإيمان إما أن يبقى جميعه، وإما أن يذهب جميعه، فليس متفاضلا، فإذا عمل العبد بالمعصية الكبيرة فإنه يذهب جميعُ إيمانه. فالإيمان على حالين إما أن يبقى، وإما أن يذهب، وليس الإيمان متبعضا يزيد وينقص وقد يذهب بعضُه ولا يذهب أصلُه، وهذا هو المعروف من قول الخوارج ومن نحى نحوهم من التكفير بالذنوب والمعاصي.
ومعتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان أنهم يقولون: إن الإيمان هو ما جمع خمسة أمور؛ يعني معتقدهم في الإيمان ما جمع خمسة أمور:
?الأول: اعتقاد القلب.
?الثاني: قول اللسان.
?الثالث: العمل؛ عملٌ بالأركان.
?الرابع: أن الإيمان يزيد بطاعة الرحمان.
?الخامس: أن الإيمان ينقص بمعصية الرحمان وبطاعة الشيطان.
فهذه خمسة أمور تميز بكل واحد منها أهل السنة والجماعة عمّن خالفهم في هذا الأصل، وأدلّة ذلك ظاهرة بينة، فهو قول وعمل.
فالإيمان قول وعمل؛ قول القلب وعمل القلب، وقول الجوارح وعمل الجوارح:
½ وقول القلب: هو نيته وإخلاصه.
½ وعمل القلب: هو ما يقوم به من الاعتقاد.
½ وقول الجوارح: هو قول اللسان.
½ وعمل الجوارح: هو جنس الأعمال التي تعمل بها الجوارح من طاعة الله جل وعلا.
فهو قول وعمل، فمن قال من السلف إن الإيمان قول وعمل فيعني به هذه الأمور الخمسة؛ لأن قولَه: قول وعمل. يشمل ذلك.
أما زيادته و نقصانه فقد دلت عليها الأدلة الكثيرة، فإذن صار عندنا مسمى للإيمان غير ما تدل عليه اللغة في الإيمان، وذلك أنّ الإيمان:(19/65)
في اللغة: أصله التصديق الجازم، وقال بعض أهل العلم: إنّ أصله من الأمن؛ لأن من صدَّق جازما فإنه يأمن غائلة التكذيب.
وفي الاصطلاح: عند أهل السنة والجماعة هو ما فسّروه بالأمور الخمسة.
وفي القرآن أتى الإيمان بالمعنى اللغوي وبالمعنى الشرعي، وقد فرّق بين مجيء هذا وهذا في القرآن بعض أهل العلم بقوله ”إن غالب ما جاء فيه الإيمان بالمعنى اللغوي فإنه يُعَدَّى باللام، وما جاء فيه بالمعنى الشرعي فإنه يُعدَّى فيه بالباء“.
فمن الأول: يعني الإيمان اللغوي الذي عُدي باللام قوله جل وعلا { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } [يوسف:17]، فلما قال (بِمُؤْمِنٍ لَنَا) تعدّى الإيمان باللام علمنا أن المعنى هنا الإيمان اللغوي، تقول آمنت لك، يعنى صدّقتك تصديقا جازما، وكما قال جل وعلا { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت:26] يعنى صدّق به تصديقا جازما.
أما القسم الثاني: وهو الإيمان الشرعي فإنه يعدّى بالباء { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ } [البقرة:285], { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ } [البقرة:138] فهذا إيمان شرعي خاص.
وزيادة الإيمان ونقصانه أصل عند أهل السنة والجماعة يخالفون به الخوارج ومن يكفرون بالذنوب.
وينبغي أن يُعلم هنا أن أهل السنة يقولون: لا نكفر بذنب. ويقصدون بذلك لا يكفرون بعمل المعاصي، أما مباني الإسلام العظام التي هي الصلاة والزكاة والصيام والحج ففي تكفير تاركها والعاصي بتركها خلاف مشهور عندهم، فقولهم ”إنّ أهل السنة والجماعة يقولون لا نكفر بذنب ما لم يستحله بإجماع.“ يعني المعصية، أما المباني العظام فإن التكفير عندهم الخلاف فيه مشهور؛ منهم من يكفر بترك مباني الإسلام العظام أو أحد تلك المباني، ومنهم من لا يكفر.(19/66)
كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا ”العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به.“ نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط للإيمان، فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي.
كذلك الإيمان مرتبة من مراتب الدين، والإسلام مرتبة من مراتب الدين، والإسلام فُسِّر بالأعمال الظاهرة، كما جاء في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الإيمان في القلب والإسلام علانية» يعني أن الإيمان ترجع إليه العقائد -أعمال القلوب-، وأمّا الإسلام فهو ما ظهر من أعمال الجوارح، فليُعلم أنّه لا يصح إسلام عبد إلا ببعض إيمان يصحّح إسلامه، كما أنَّه لا يصح إيمانه إلا ببعض إسلام يصحح إيمانه، فلا يُتصور مسلم ليس بمؤمن البتة، ولا مؤمن ليس بمسلم البتة.
وقول أهل السنة ”إنّ كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا“ لا يعنون به أن المسلم لا يكون معه شيء من الإيمان أصلا، بل لابد أن يكون معه مطلق الإيمان الذي به يصح إسلامه، كما أن المؤمن لابد أن يكون معه مطلق الإسلام الذي به يصح إيمانه، ونعني بمطلق الإسلام جنس العمل، فبهذا يتفق ما ذكروه في تعريف الإيمان وما أصَّلوه من أن كل مؤمن مسلم دون العكس.
فإذن هاهنا كما يقول أهل العلم عند أهل السنة والجماعة خمس نونات:
?النون الأولى: أن الإيمان قول اللسان، هذه النون الأولى يعني اللسان.
?الثانية: أنه اعتقاد الجنان.
?الثالثة: أنه عمل بالأركان.(19/67)
?النون الرابعة: أنه يزيد بطاعة الرحمان.
?الخامسة: أنه ينقص بطاعة الشيطان وبمعصية الرحمان.
والإيمان متفاضل؛ كلما عمل العبد طاعة زاد الإيمان، وإذا عمل معصية نقص الإيمان؛ ([16]) فبقدر إيمانه؛ فبقدر متابعته وبقدر إحداثه للطاعات يزيد إيمانه، سواء كانت طاعات القلوب من الاعتقادات، أو طاعات الجوارح من الأعمال الصالحات، فإن بذلك زيادة في الإيمان، فإذا عمل معصية نقص الإيمان.
كذلك الناس في أصل الإيمان ليسوا سواء؛ بل مختلفون، فإيمان أبي بكر ليس كإيمان سائر الصحابة، ولهذا قال شعبة أبو بكر بن عياش القارئ المعروف: ”ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلبه.“ وهذا مستقاً من بعض الأحاديث أو من بعض الآثار، يعني أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان معه من أصل الإيمان ما ليس عند غيره، فيُغلِّطُ أهل السنة من قال: إن أهل الإيمان في أصله سواء، وإنما يتفاضلون بعد ذلك بالأعمال. بل هم مختلفون في أصله.
وفهم معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان يمنع من الدخول في الضلالات؛ من التكفير بالمعصية، أومن التكفير بما ليس بمكفر، فمن فهم معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان، حصّن لسانه وعقله من الدخول في الغلو في التكفير، وإتّباع الفرق الضالة التي سارعت في باب التكفير، فخاضت فيه بغير علم، فكفّروا المسلمين، وأدخلوا في الإسلام والإيمان من ليس بمسلم ولا مؤمن.
?????
55-ويجبُ الإيمانُ بكلِّ مَا أَخبَرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصَحَّ به النَّقلُ عَنْه فيما شَاهَدْناه أو غابَ عَنّا نَعْلَمُ أنَّه حَقٌّ وصِدقٌ، وسواءٌ في ذلك ما عقَلْناهُ وجَهِلناهُ، ولم نَطَّلِعْ على حقيقةِ معناهُ، مِثْلَ حديثِ الإسْراءِ والمِعراجِ وكان يَقَظَةً لا مَنامًا، فإنَّ قُريْشًا أنْكَرَتْهُ وأَكْبَرَتْهُ ولم تُنْكِرُ المناماتِ.(19/68)
56-ومِنْ ذلك أنَّ ملَكَ الموْتِ لمَّا جاءَ إلى موسى عليه السلامُ ليَقْبِضَ روحَهُ لَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إلى ربِّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ عَيْنَهُ.
57-ومِنْ ذلك أشراطُ السّاعةِ، مِثْلُ خُروجِ الدَّجَّالِ، ونُزولِ عيسى بنِ مريمَ عليه السلامُ فيَقْتُلَهُ، وخروجِ يأجوجَ ومأجوجَ، وخروج الدَّابّةِ، وطُلُوعِ الشَّمسِ مِنْ مغْرِبِهَا، وأشْباهِ ذلك مما صحَّ به النَّقْلُ.
58-وعذابُ القبْرِ ونعيمُه حقٌّ، وقد استعاذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ، وأَمَرَ بِهِ في كلِّ صلاةٍ.
59-وفِتْنَةُ القَبْرِ حقٌّ، وسُؤالُ مُنْكَرِ ونَكيرٍ حقٌّ، والبَعْثُ بعْدَ الموْتِ حقٌّ وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ عليه السلامُ في الصُّورِ { فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس:51].
هذه الجمل مشتملة على أصل عند أهل السنة والجماعة، وهو أنهم يسلمون بما جاء من النصوص في أمور الغيب، ولا يدخلون في ذلك متأولين بآرائهم وأفهامهم، وإنما يسلمون الجميع مما جاء من الأمور الغيبية، ويصدّقون دون دخول في تأويل أو تحريف، وذلك لأنّ الأحاديث بل والآيات التي فيها ذكر الأمور الغيبية مما خاض فيه المبتدعة من العقلانيين المعتزلة ومن نحى نحوهم، فأنكروا كثيرا من تلك الأحاديث التي فيها بعض أخبار الغيب، مثل ما جاء في حديث الإسراء من بعض الأوصاف، ومثل ما جاء من أن موسى عليه السلام فقأ عين ملك الموت، ممن مثل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - به مما يكون في الساعة، فينكرون حقائق ذلك ويؤولونه ويحرفونه.(19/69)
وأهل السنة عندهم أمور الغيب بابها واحد؛ وهو أن يُسلَّم لكل نص دون دخول في حقيقة المعنى، لأن الأمر الغيبي إنما يسلمون فيه بظاهر المعنى الذي دل عليه النص، أما ما عليه حقيقة تلك الأحوال فإنهم يكلُون علمها إلى بارئها؛ لأنها أمور غيبية، فكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم نرَه، سواء مما سيكون قرب قيام الساعة، أو سيكون بين موت كل عبد إلى قيام الساعة -يعني في الحياة البرزخية-، أو ما يكون في عرصات القيامة ويوم القيامة، كل ذلك يجعلونه بابا واحدا فيسلمون به ويثبتونه كما جاء، ولا يدخلون فيه متأولين ولا محرفين، وهذا بناء على أن الواجب على العباد أن يؤمنوا بظواهر الألفاظ، وأن يؤمنوا بظاهر الأدلة، ولا يدخلون في ذلك، مخرجين الأدلة عما دلّ عليه ظاهرها، لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وهو ذكر عدة أمثلة، وسيأتي ذكر عدة أمثلة أخر مما سنوضحه إنشاء الله تعالى، لكن ليُعلم الأصل أنّ كل من دخل في أحاديث الغيب؛ الأحاديث التي فيها أمور غيبية، أو بعض الآيات، ودخل متأولا بعقله، محرفا عن ظاهره، فهو من أهل الأهواء والبدع، وقد ظهر في هذا الزمان طائفة ممن يحكّمون عقولهم على النصوص، ويستنكرون مثل هذه الأحاديث التي فيها ذكر الغيب، ويحرفون ويؤولون، فأحاديث المسيح الدجال أنكروها وقالوا هذه لا تعقلها العقول السليمة، وحديث فقأ موسى لعين لملك الموت أولوه وقالوا هذا لا تعقله العقول السليمة، وهكذا فيما يكون في عرصات القيامة، و ما يكون في القبر، حتى جعل بعضهم عذاب القبر إنما هو صوري، ونعيم القبر إنما هو صوري، وليس له حقيقة, قالوا لأن ذلك غير معقول، على ما جاء تفصيله في بعض الأحاديث مثل ضغطة القبر، ومن مثل إقعاد الميت ونحو ذلك، مما سيأتي بيانُه.
?????(19/70)
59- وفِتْنَةُ القَبْرِ حقٌّ، وسُؤالِ مُنْكَرِ ونَكيرٍ حقٌّ، والبَعْثُ بعْدَ الموْتِ حقٌّ وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ عليه السلامُ في الصُّورِ { فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس:51].
60-ويُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيّامةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا فيقِفونَ في موْقفِ القيّامةِ، حتّى يَشْفَعَ فيهم نبيُّنَا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ويُحاسِبُهُم اللهُ تبارك وتعالى، وتُنْصَبُ الموازينُ، وتُنْشَرُ الدَّواوينُ، وتَتَطايَرُ صُحُف الأَعْمالِ إلى الأَيْمانِ والشَّمائِلِ { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا } [الانشقاق:7-12].
61-والميزانُ له كِفَّتانِ ولِسانٌ، تُوزَنُ به الأعمال { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون:102-103]
62-ولنبيِّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حوْضٌ في القِيامَةِ ماؤُهُ أشَدُّ بياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ، وأَبَارِيقُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بعْدَها أبدًا.
63-والصِّراطُ حقٌّ يَجُوزُهُ الأَبْرارُ، ويَزِلُّ عنْهُ الفُجَّارُ.(19/71)
عذاب القبر ونعيمه حق، وفتنة القبر حق, ونعني بفتنة القبر سؤال الملكين الميت عن ربه وعن دينه وعن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأما المؤمن فيجيب فيقول ربي الله، يعني معبودي الله، إن الرب هاهنا بمعنى المعبود، لأن الابتلاء وقع في العبادة لم يقع في توحيد الربوبية، ويقول محمد جاءنا بالبينات والهدى، ويقول ديني الإسلام، { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم:27]، قوله هنا (فِي الْآخِرَةِ) يعني عند الممات، يعني حين سؤال الملكين، فعذاب القبر ونعيمه حق، وما يجري في القبر من النعيم والعذاب حق، يثبته أهل السنة والجماعة، ونفاه من نفاه من أهل البدع والضلالات، قال جل وعلا في سورة غافر { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر:46]، فجعل العذاب بالنار على قسمين:
? يعرض أولئك على النار غدوا وعشيا.
? ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب.
وهذا نفهم منه أنه يعني بالغدو والعشي عذاب القبر، ولهذا استدل أهل السنة والجماعة على عذاب القبر بالقرآن وبالسنة، وبما يدل عليه العقل أيضا، فعذاب القبر حق، وما يحصل فيه من نعيم وبسط وسعة في قبر المؤمن، وضيق وحسرة ونار في قبر الكافر، هذا كله حق، ولا نعلم كيفية حصول ذلك.
كذلك ضغطة القبر حقّ لا يسلم منها أحد، لا المسلم ولا غير المسلم؛ فالكافر يضغط حتى تختلف أضلاعه عذابا، وأما المؤمن فيضغطه القبر، قال أهل العلم: ضمة القبر للمسلم كضمة الحبيب للحبيب يصله منها بعض الأذى، ولكنها ضمة حبيب لحبيبه. يعني أن ضمة القبر حق، ولكنها للمؤمن ضمة حب، وللكافر ضمة بغض وعذاب، وهذا كله يضعه جل وعلا ويخلقه جل وعلا في الأرض، فتضم هذا وتضم هذا، وفرق بين تلك الضمّة وتلك الضمّة.(19/72)
الناس يحشرون يوم القيامة، فالناس إذا ماتوا وكانوا في قبورهم يَبلى كل شيء من ابن آدم إلا عَجْبَ الذنب، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنّ أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل شيء يبلى من ابن آدم إلا عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» فتبقى هذه البذور لآخر العظام عظام العمود الفقري, عجب الذنب، يبقى في الأرض كبذرة ينبت منها جسم صاحبها إذا أراد الله جل وعلا بعث الورى، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، وماتت الخلائق جميعا إلا من شاء الله، بعث الله جل وعلا سحابا يحمل مطرا كمني الرجال، فتُمطر الأرض منه أربعين صباحا، فتنبت منه أجسام الورى, تنبت منه أجسام الناس، حتى تكون على أكمل هيئة شباب في سن ثلاث وثلاثين، الصغير والكبير يكونون على هذا السن إلا بعض الخلائق، ثم إذا كانوا و شبّت أجسامهم وأخرجت الأرض أثقالها ولم يكن في الأجسام أرواح، نُفخ في الصور نفخة البعث، فتنطلق الأرواح من الصور إلى نفس كل صاحب نفس، فتهتز الأجسام بالأرواح، ويحشرون إلى أرض المحشر، وصف ذلك ابن القيم رحمه الله في نونيته وصفا بليغا جيدا يحسن حفظه من طالب العلم فقال رحمه الله:
وإذا أرادالله إخراج الورى
بعد الممات إلى المعاد الثاني
ألقىعلى الأرض التي هم تحتها
والله مقتدر وذو سلطان
مطرا غليظا أبيضا متتابعا
عشرا وعشرا بعدها عشران
فتظل تنبت منه أجسام الورى
مثل النبات كأجمل الريحان
حتى إذا ما الأم حان ولادها
وتمخضت فنفاسها متداني
أوحى لها رب السماء فتشققت
فإذا الجنين كأكمل الشبان
ثم إذا بعث الله جل وعلا الناس ورجعت الأرواح إلى الأجسام سيق الناس إلى أرض المحشر؛ منهم الراكب، ومنهم من يُساق سوقا، منهم السعيد في حشره إلى أرض المحشر، ومنهم من يفد على الرحمن وفدا، ومنهم من يساق إلى جهنم وردا, في عرصات القيامة تكون أمور عظام.(19/73)
ومنها حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والحوض يكون في أول ما يقدم الناس على عرصات القيامة، يكون حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وماؤه من نهر الكوثر في الجنة، كما جاء إثبات ذلك في غير ما حديث بأن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، وقد قال الله جل وعلا لنبيه: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر:1]، والكوثر نهر من أنهار الجنة، وبعضهم قال الكوثر هو الحوض، وكلا القولين صحيح؛ لأن الحوض ماؤه من نهر الكوثر الذي في الجنة، ومن أهل العلم من يقول إن الحوض بعد الصراط، أي بعد عبور الصراط يكون الحوض. ولكل نبي حوض وقد جاء ذلك في بعض الأحاديث وفي إسنادها بعض الشيء، لكن أهل العلم منهم طائفة كبيرة يقولون: ولنبينا حوض ولكل نبي حوض، لكن يختص حوض نبينا عليه الصلاة والسلام بخصائص منها أنه أكثر الأحواض ورودا عليه، وأن الناس منهم من يرد و منهم من يذاد عنه, ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته كعدد نجوم السماء، وطوله شهر وعرضه شهر، يفد عليه من لم يحدث في الدين حدثا، ومنهم يُرَدُّ عن الورود عن حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام «أصحابي, أصحابي» وفي لفظ «أمتي, أمتي» فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك.
ولهذا قال أهل العلم: إن من أسباب عدم ورود حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - و الذود عليه والحرمان منه المحدثات، فمن كان محدثا في الدين حدثا أو آوى محدثا فإنه يحرم من السقيا من حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -.(19/74)
كذلك في عرصات يوم القيامة الميزان والميزان جنس للموازين قال جلّ وعلا { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأنبياء:47] وقال جل وعلا { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } ([17]) فهي موازين، ومن أهل العلم من قال إنه ميزان واحد، وهاهنا نبه المؤلف رحمه الله تعالى إلى أن الميزان حقيقة، فقال (له كفتان ولسان) ويعني بذلك مخالفة المعتزلة الذين قالوا إن الميزان لا يُعقل أن تكون حقيقته في الآخرة كحقيقته في الدنيا: أنه توزن به الأمور. ويوزن في الميزان العمل، وصاحب العمل، وصحائف الأعمال، العمل واحد، صاحب العمل يوزن، وصحائف الأعمال، ومنهم من قال يعني من أهل العلم: إن وزن صاحب العمل هو وزن عمله. لكن هذا جاء أحاديث فيها وزن صاحب العمل، وفيها وزن الصحائف؛ صحائف الأعمال.
كذلك ما في عرصات القيامة تطاير الصحف، والناس على صنفين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه بشماله وراء ظهره، فيكون ذلك التلقي للكتب من اليمين وعن الشمال، بشارة للمؤمن، وحسرة على الكافر، كما جاء ذلك في سورة الحاقة مبيّنا.
الصراط حق، وهو دحض مذلة، يمر عليه الناس، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر عليه كأسرع جواد، ومنهم يمر عليه يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم من يمشي تارة ويكبو تارة، ومنهم من يزل عنه فيخر في جهنم، منصوب على متن جهنم، والمرور عليه ذلك هو الورود الذي قال الله تعالى فيه في سورة مريم { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } [مريم:71] فقد ثبت عليه الصلاة والسلام أنّه فسّر ذلك بالمرور على الصراط.(19/75)
وكل ما يكون في القيامة مما صحّت أسانيده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعُدّلت نقلته، وأثبته أهل العلم، أو جاء في الآيات في الكتاب العظيم، كل ذلك يثبته أهل السنة دون أن ينفوا من ذلك ما لم تعقله عقولهم أو تدركه أفئدتهم، وإنما يجعلون ذلك الباب باب غيبيات، بابه التسليم، ومداره على الاستسلام لخبر من لا معقب لخبره، لخبر من هو صادق في خبره، لا يعلم حقيقة الأمر إلا هو، وليس أحدا يعلم إلا هو جلّ وعلا، أو ما أخبر به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، فكل ذلك حق من كل تفاصيل ما يجري في يوم القيامة.
?????
64- ويَشْفَعُ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - فيمَنْ دخلَ النّارَ مِنْ أُمّتِهِ مِنْ أَهْلِ الكَبَائِرِ فيَخْرُجونَ بِشفاعَتِهِ بَعْدَمَا احْتَرَقُوا وصاروا فَحْمًا وحِمَمًا، فيدخلونَ الجنَّةَ بشفاعَتِهِ.
65-ولسائِرِ الأنبياءِ والمؤمنين والملائكةِ شفاعاتٌ، قال تعالى { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء:28]
66-ولا تَنْفَعُ الكافِرَ شفاعةُ الشّافعين.
67-والجنَّةُ والنّارُ مخلوقتانِ لا تفْنيانِ، فالجنَّةُ مأوى أوليائه، والنّارُ عِقابٌ لأعدائِهِ، وأهلُ الجنَّةِ فيها مُخَلَّدونَ { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74)لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [الزخرف:74-75].
68-ويُؤْتَى بالموْتِ في صورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فيُذبَحُ بين الجنَّةَ والنّارِ، ثم يُقال ”يا أهلَ الجنَّةِ خلودٌ ولا موْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ خلودٌ ولا موْتَ“.(19/76)
إثبات الشفاعة يوم القيامة مما تميز به أهل السنة و الجماعة، فهناك شفاعة متفق عليها، وهي الشفاعة العظمى، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع للناس عند ربه جل وعلا في أن يسرع في حسابهم؛ ليرتاحوا من هول الموقف وما فيه من أمور عظام، وذلك كما جاء في حديث الشفاعة الطويل، مِنْ أنّ الناس يذهبون إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى عليهم جميعا الصلاة والسلام، فيرجعون ويعتذرون عن الشفاعة، يسألهم الناس أن يدعوا الله جلّ و علا ليريحهم من الموقف، ويعجل عليهم الحساب، فيعتذرون عن الشفاعة، ثم يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيطلبون منه الشفاعة، فيقول: «أنا لها، أنا لها» وذلك أن الله جل وعلا أعطى كل نبي من الأنبياء دعوة يستجاب له فيها جزما، قال عليه الصلاة والسلام «لكل نبي دعوة مجابة، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» وهذا يحصل بالشفاعة العظمى، ويحصل أيضا بالشفاعة الخاصة للمؤمنين؛ ممن دخل النار أن يخرج منها وممن استحق الجنة أن يدخل الجنة، فيأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي العرش فيسجد بين يدي الله جل وعلا، ويحمد الله بمحامد، فلا يتعجل الشفاعة، ولا يتعجل الدعاء؛ بل يُثني على الله جل وعلا بما هو أهله، قال عليه الصلاة والسلام «فأخرّ ساجدا بين يدي العرش، فأحمد الله بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، ثم يقول جل وعلا: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع» وهذه هي الشفاعة العُظمى؛ الشفاعة في تعجيل حساب الناس، فيبدأ الحساب.(19/77)
من الشفاعات التي يؤمن بها أهل السنة والجماعة ما أعطيه نبينا عليه الصلاة والسلام من أنه يشفع لأناس استحقوا النار ألاّ يدخلوها، ويشفع لأناس دخلوا النار أن يخرجوا منها، ويشفع لمن استحق الجنة أن يدخلها ولا يتأخر عنها، وكذلك هذا الجنس من الشفاعة ثابت أيضا للمؤمنين؛ فالمؤمنون يشفعون فيمن شاءوا أن يشفعوا فيه من بعد إذن الله لمن شاء ويرضى، يشفعون ويخرج بشفاعتهم بعض من شفعوا فيه من النار، وكذلك الملائكة تشفع، كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عن ربه أنه يقول يوم القيامة «شفع الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، وبقيت رحمة أرحم الراحمين، فيُخرج من النار قوما لم يعلموا خيرا قط، فيلقيهم في ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السيل».
فهذه الشفاعات خالف فيها الخوارج، وخالف فيها المعتزلة، ولم يثبتوا تلك الشفاعات؛ لا للمؤمنين، ولا للملائكة، ولا الشفاعة في أهل النار أن يخرجوا منها؛ يعني لأهل الكبائر أن يخرجوا من النار.
كذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - أختص بشفاعة لكافر، وهو أبو طالب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع له حتى يُخفَّف عنه من العذاب.(19/78)
الجنة والنار، يعتقد أهل السنة والجماعة أنهما مخلوقتان الآن، وأنهما لا تفنيان، ولا تبيدان, الجنة حق والنار حق, الجنة دار لأولياء الله، والنار دار لأعدائه. يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيذبح على قنطرة بين الجنة والنار، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت. فالجنة والنار لا تفنيان ولا تبيدان، وينص أهل السنة والجماعة على ذلك مخافة لبعض أهل الاعتزال والتجهم الذين يقولون: إن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار يفنى، وإن الجنة والنار تفنيان، أو أنهما اليوم ليستا بمخلوقتين. وأهل السنة يثبتون تجدد النعيم وتجدد العذاب في النار، كما أن النعيم يتجدد على أهل الجنة، والمسألة فيها مزيد تفصيل ليس هذا بمحل بيانه.
وهذا الفصل هو كالشرح لركن الإيمان الخامس؛ ألاَ وهو الإيمان باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بما بعد الموت؛ من فتنة القبر، إلى ما يحصل في الحياة البرزخية، والنفخ في الصور، وما يحصل في عرصات القيامة، وما هو بعد ذلك من حال الجنة والنار والشفاعات إلى آخره، هذا كله يدخل في الإيمان باليوم الآخر.
فالمؤلف لم يرتب ترتيبا على أركان الإيمان، فقدَّم الكلام على القدر، وأخَّر الكلام على الإيمان على اليوم الآخر، وسيأتي الكلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر سهل ميسور، وحبَّذا عند شرح العقائد أن تُرتَّب على ما جاء في حديث جبريل عليه السلام؛ من ذكر الإيمان بالله، ثم الملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، حتى يستقيم فهمها وترتيبها.
?????
69- ومحمدٌ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاتَمُ النَّبِيِّينَ وسَيِّدُ المرسلينَ، لا يصحُّ إيمانُ عبْدٍ حَتّى يُؤمِنَ برسالته، ويشهَدَ بنبوتِه، ولا يُقْضَى بيْنَ النَّاسِ في القيامَةِ، إلاَّ بشفاعَتِهِ، ولاَ يَدْخُلُ الجنّةَ أُمّةٌ إلاّ بعْدَ دُخولِ أُمّتِه.(19/79)
70- صاحِبُ لِواءِ الحمْدِ والمقامِ المحمودِ والحوْضِ الموْرودِ، وهوَ إمامُ النَّبِيّينَ، وخَطِيبُهم، وصاحِبُ شفاعتِهم.
71- أمّتُه خيْرُ الأممِ، وأصحابُه خيْرُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم السّلامُ.
وأفضلُ أمّتِه أبو بكْرٍ الصِّديقُ، ثُم عمرُ الفاروقُ، ثُم عثمانُ ذو النُّورَينِ، ثُم عَليّ المُرْتَضَى - رضي الله عنهم - أَجْمَعِينَ. لِمَا رَوى عبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِي الله عنهما قال: كنَّا نقولُ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: أَفْضَلُ هذه الأمّة بعْدَ نبيّْها أبو بكرٍ، ثمَّ عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليّ فيبلغَ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلا يُنْكرُه.
72- وصحَّتِ الرِّوايَةُ عنْ عليّ - رضي الله عنه - أنَّهُ قالَ: خَيْرُ هذهِ الأمةِ بعد نبيِّها أبو بكرٍ ثم عمرُ ولو شئْتُ لسميْتُ الثَّالثَ.
73-ورًوى أبو الدّرْدَاءِ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال «مَا طَلَعَتْ الشَمْسُ وَلاَ غَرُبَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ عَلَى أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ».
74-وَهُو أَحَقُّ خَلْقِ اللهِ بالخِلافَةِ بعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لفَضْلِهِ وسَابِقَتِه، وتَقْدِيمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له في الصّلاةِ على جميع الصّحابةِ - رضي الله عنهم -، وإجماعِ الصّحابة على تقْديمِه ومُبايَعَتِه، ولم يكنِ اللهُ ليَجْمَعَهم على ضَلالةٍ.
75-ثم مِنْ بعده عمرُ - رضي الله عنه - لفضْلِه وعَهْدِ أَبي بكرٍ إليه.
76-ثم عثمانُ - رضي الله عنه - لتقْديم أهلِ الشُّورى له.
77-ثم عليٌّ - رضي الله عنه - لفَضلِه، وإجماعِ أهلِ عصْرِه عليه.
78-وهؤلاءِ الخلفاءُ الرّاشدون المهديّون الذين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم «عَلَيْكُمْ بِسُنّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ الْمَهْدِيّينِ مِنْ بَعْدِي، عَضّوا عَلَيْهَا بِالنّوَاجِذِ»(19/80)
79-وقال - صلى الله عليه وسلم - «الخِلاَفَةُ مِنْ بَعْدِي ثَلاَثُونَ سَنَةً» فكان آخرُها خلافةَ عليٍّ - رضي الله عنه -.
80- ونَشْهَدُ للعشَرةِ بالجنّةِ، كما شَهِدَ لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال«أبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وعُمَرُ فِي الجنَّةِ، وعُثْمَانُ في الجنَّةِ، وعَلِيٌّ في الجنّةِ، وطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وسَعْدٌ فِي الجنَّةِ، وسَعِيدٌ في الجنّةِ، وعبدُ الرّحمنِ بنُ عوِفٍ في الجنّةِ، وأبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ في الجَنَّةِ».
81- وكُلُّ مَنْ شَهِدَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنَّةِ شَهِدْنَا له بها، كقوله«الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ»، وقولِه لثابِتٍ بنِ قيْسٍ«إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».
82- ولا نَجْزِمُ لأحدٍ مِنْ أهلِ القِبْلَةِ بجنَّةٍ ولا نَارٍ إلاَّ مَنْ جَزَمَ لَهُ الرّسول - صلى الله عليه وسلم -، لَكِنَّا نَرجو للمُحْسِنِ ونَخَافُ على المُسيءِ.(19/81)
ذكر في هذه الجمل الكلام على معتقد أهل السنة و الجماعة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم يعتقدون أن خير هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء ذلك في غير ما حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «خير هذه الأمة قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» وهذا عام لكل الصحابة، فكل صحابي يثبت هذا الفضل، فجنس الصحابة أفضل من جنس من بعدهم، والصحابة متفاوتون في الفضل، فأفضل الصحابة وأعلاهم مقاما أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، ويليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ثم علي - رضي الله عنه -، وهؤلاء هم الخلفاء الأربعة الراشدون، فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة؛ ترتيبهم في الفضل عند أهل السنة كترتيبهم في الخلافة، وكان هناك خلاف في القرن الأول هل يقدم علي على عثمان في الفضل أم لا يقدم؟ مع إقرار الجميع أن عثمان أولى بالخلافة من علي، لكن هل علي أفضل أم عثمان؟ فكان من أهل الكوفة من أهل السنة من يقول إن عليا أفضل، وبعضهم وهم الجمهور والعامة يقولون إن عثمان أفضل، وهذا هو الذي استقرت عليه عقائد أهل السنة والجماعة من الأخذ بقول عامة علمائهم، بل الأخذ بقول علي وقول الصحابة؛ من أن ترتيب الصحابة في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فعثمان مقدم على علي - رضي الله عنه -.
وأولئك كانوا يسمّون في الزمن الأول الشيعة؛ فمن فضّل عليّا على عثمان نُسِب إلى التشيّع، وهو غير الرفض الموجود بعد ذلك الذي من علاماته سب الشيخين ولعنهما والتبري من عثمان ومعاوية رضي الله عن جميع الصحابة والذين يقولون إنه لم يصح إيمان إلا نفر من الصحابة فقد ارتد الأكثرون إلا طائفة.(19/82)
الصحابة طبقاتهم في الفضل من حيث الإجمال: أنّ المهاجرين أفضل الصحابة، ويليهم الأنصار، ثم من شهد بيعة الرضوان، ثم من أسلم قبل الفتح – فتح مكة-، ثم من أسلم بعد ذلك، قال جل وعلا { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد:10]، والفتح المراد به هنا صلح الحديبية، فلا يستوي من بايع بيعة الرضوان ممن أسلم بعد ذلك، فهذه طبقاتهم في الفضل إجمالا، ونقول أيضا إن جنس الصحابة أفضل من جنس من جاء بعدهم؛ لكن قد يكون في أفراد من بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة، لكنه من حيث الجنس والعموم فالصحابة أفضل هذه الأمة، لكن قد يكون فيمن بعدهم أفضل من بعض الصحابة في مقامات الإيمان والجهاد والإحسان كما قرر ذلك أهل العلم, فالكلام على الجنس من حيث أن الصحابة هم أفضل.
أفضل المهاجرين وأفضل الصحابة؛ بل وأفضل هذه الأمة العشرة المبشرون بالجنة؛ وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة بن عبد الله، والزبير بن العوام، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وعبد الرحمان بن عوف - رضي الله عنه -، فهؤلاء العشرة هم أفضل المهاجرين، وهم أفضل الصحابة أيضا، وهم أفضل هذه الأمة.
قال (لا نشهد لمعين بجنة ولا نار).
قبل هذا نذكر حكم من سبّ الصحابة؛ سب الصحابة ينقسم إلى أقسام:
? الأول: إن سبّ جميعهم، أو حكم على أكثرهم بالكفر والردة إلا نفر، فإن هذا كفر؛ لأنه ردّ شهادة الله جل وعلا بقوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح:18]، قد ثبت أن الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفا وأربع مائة، وفي بعض الروايات أنه كانوا ألفا وخمس مائة.(19/83)
? القسم الثاني: أن يسبّ بعضا منهم، فهذا فيه تفصيل، إن سبّ بعضا منهم من جهة اعتقاد؛ يعني اعتقد فيهم أنهم أخطئوا، وأنهم فرطوا، وأنهم أصابهم ما أصابهم من جهة اعتقاد، كما يعتقد الخوارج، فإن هذا من كبائر الذنوب، ولا يعد مخرجا من الملة، وإن كان سبّ بعضهم من جهة الغيض تغيضا عليهم، وحقدا عليهم، فإن هذا كفر وخروج من الملة، قال أهل العلم: لأن الله جل وعلا قال في وصف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ } [الفتح:29] فمن كان في قلبه غيض على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيوصف بما وصفه الله جل وعلا به من أنه من الكفار.
وأما أمهات المؤمنين فحكم سبهم حكم سب الصحابة.
وأما قذف أمهات المؤمنين أو واحدة منهن، عائشة وغيرها، يعني أنها لم تكن عفيفة فهو كفر بالله، من قذف امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر؛ لأنه ردّ قول الله جل وعلا، وما حكم به لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يختلف عن حال من قذف في عهده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أولئك نزلت الآيات بعد شأنهم في حادثة الإفك المشهورة، وأما بعد ذلك لمّا نزلت الآيات في التبرئة وبعد نزول قوله تعالى { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [النور:17]، فجعل ذلك شرط الإيمان بعد ذلك، من قذف امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكفر بذلك، كما قرره أهل العلم.
وفي المسألة مباحث أخرى يطلبها المستزيد من مظانه.(19/84)
مما ذكره المؤلف أننا لا نشهد لمعين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأناس غير العشرة المبشرين؛ فشهد للحسن والحسين رضي الله عنهما، وشهد لعكاشة، وشهد لجماعة، فمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهدنا له بالجنة، وأما غيرهم لا ننزل أحدا جنة ولا نارا، لكن قال بعض أهل العلم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، و مثل غيره من المتقدمين يُلحق بذلك من شهدت له الأمة بأجمعها بأنه من أهل الجنة واستفاض عنه أنه من أئمة الإسلام، فشهدت له الأمة، فإنه يلحق بذلك ولا بأس بالشهادة له، وهذا أخذا من قوله عليه الصلاة والسلام لما مُر عليه بجنازة «هذه أثنيتم عليها خيرا وجبت لها الجنة، وهذه أثنيتم عليها شرا فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه».
?????
83- ولاَ نُكفِّرُ أحدًا مِنْ أهلِ القِبلةِ بذَنْبٍ، ولاَ نُخْرِجُهُ عَنِ الإسلامِ بِعَمَلٍ.
84-ونَرَى الحَجَّ والجِهَادَ ماضيًا مع طاعَةِ كلِّ إمامٍ بَرًّا كان أو فَاجِرًا، وصلاةُ الجمعةِ خلفَهم جائزةٌ.
85- قال أنَسٌ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «ثَلاَثٌ مِنْ أصْلِ الإيمَانِ: الكَفّ عن مَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاّ الله وَلاَ تُكَفّرْهُ بِذَنْبٍ وَلاَ تُخْرِجْهُ مِنَ الإسْلاَمِ بِعَمَلٍ, وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَني الله عزّ وجلّ حتّى يُقَاتِلَ آخِرُ أُمّتِي الدّجّالَ([18]) لاَ يُبْطِلُه جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ, وَالإيمَانُ بالأقْدَارِ» رواه أبو داود.(19/85)
مما تميز به أهل السنة أنهم لا يكفِّرون أحدا بذنب ما لم يستحله، والاستحلال اعتقاد، وليس فعل المعصية أو الإقرار عليها استحلال؛ فمن فعل المعصية أو أقرّ من يفعل المعصية من الكبائر أو ما دونها، فإن هذا كبيرة من كبائر الذنوب، ومحرم من المحرمات بحسب حال تلك المعصية، ولا يُعَدُّ استحلالا، فلا يُكفّر أهل السنة والجماعة بذنب ما لم يستحله صاحبه، واستحلاله أن يعتقد أنه حلال، أن يعتقد أن هذا الأمر الذي حرّمه الله جل وعلا في صورته التي حرمها الله جل وعلا أنه حلال؛ لأنه يكون ممن ردّ حكم الله جل وعلا فأحل الحرام، فلا يكفر أهل السنة أحدا بذنب إلا إذا استحله؛ يعني اعتقد بقلبه أنه حلال.
من مميزات أهل السنة والجماعة أنهم يرون الحج والجهاد ماضيين مع أئمة المسلمين بارين كانوا أو فاجرين، فطاعة أئمة المسلمين الذين حصلت إمامتهم، إمّا باختيار من أهل الحل والعقد، أو غلبة بسيف وسنان، كلهم تنعقد لهم الإمامة الشرعية، ويبقون لهم حق الطاعة في المعروف، والجهاد معهم وعدم عصيانهم؛ لأن طاعتهم من طاعة الله ورسوله، فالخروج عليهم، أو عدم اعتقاد وجوب طاعتهم، هذا من اعتقادات الخوارج والمعتزلة.
فإنّ المعتزلة ضمنوا أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا ذلك مضمّن للخروج على الأئمة؛ أئمة المسلمين، إذا رأوا منهم ظلما، أو رأوا منهم كثرة عمل للمعاصي، أو كثرة ممارسة للكبائر والمنكرات.
والخوارج خرجوا بها على هذا الأصل، وكذلك المعتزلة يرون الخروج ويعتقدونه دينا؛ لأجل هذا الأصل.
وكذلك جماعة كبيرة من الأشاعرة يرون الخروج جائز للجَوْرِ ولانتشار الكبائر ونحو ذلك.(19/86)
أما أهل السنة والجماعة فيرون أنه ما دام أنّ اسم الإسلام باق على الإمام فإنه تجب طاعته في المعروف، ولا يجوز الخروج عنه، وهذا مما يميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم؛ بل كان أئمة أهل الحديث، وأئمة أهل السنة يمتحنون الناس في زمن الفتن؛ في أواخر القرن الثالث والرابع يمتحنون الناس بهذا الأمر هل يرون الطاعة أم لا يرونها؟ بل قال الأئمة: علامة أهل السنة الدعاء للأئمة يعني للسلاطين، وعلامة أهل البدعة الوقيعة في السلاطين. وهذا ظاهر لمن تأمل هدي أهل السنة والجماعة، وتأمل أصولهم، وارجعوا في هذا الأمر إلى الإبانة لابن بطة، وارجعوا إلى كتاب البربهاري وهو من أئمة أهل السنة والجماعة فقد فصّل في ذلك تفصيلا بيّنا لأجل ما ظهر في زمنه من كثرة المخالفين في هذا الأصل العظيم.
فأهل السنة يرون أن الوِلاية الشرعية تحصل عن أحد طريقين: إما باختيار من أهل الحل والعقد، وإما بغلبة، فمن غلب ودعا الناس إلى بيعته فتجب بيعته، ومن أُختير من أهل الحل والعقد ودعا أهل الحل والعقد إلى بيعته وجبت بيعته، وقد حصل هذا في الإسلام وهذا، فبيعة الخلفاء الراشدين كانت عن اختيار، وبيعة الولاة وأمراء المؤمنين من بني أمية وبني العباس وما بعدهم إلى زمننا هذا حصلت بالغلبة، لا بالاختيار، وكل من الحالين أمر شرعي، تلزم عنه وتتفرع عنه الأحكام الشرعية من الطاعة وعدم جواز الخروج، ومن المحبة والنصرة فيما أوجب فيه الله جل وعلا النصرة وأمر فيه، وهذا مما يتميز به أهل السنة عن الخوارج والمبتدعة.(19/87)
وفي هذا الزمان كثرت المخالفة في هذا الأصل العظيم، والناجي من نجاه الله جل وعلا، وكثير ممن يعتني بمنهج أهل السنة والجماعة، لا يعتني بمنهجهم في الإمامة، وأهل السنة والجماعة عقائدهم يجب أخذها جميعا دون تفريق بين باب وباب، لأننا إذا فرقنا نكون على شيء من الهوى، فهذه الأبواب تسمى عند أهل العلم أبواب الاعتقاد في الإمامة، لأنهم خالفوا بذلك الخوارج والمعتزلة وطوائف من الأشاعرة.
?????
86- ومِنَ السُّنّةِ تَوَلِّي أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ومحبَّتُهُم، وذِكْرُ محاسنِهم، والتَّرَحُّمُ عليهم، والاستغفارُ لهم، والكَفُّ عن ذِكْرِ مسَاوئِهِم، ومَا شَجَرَ بَيْنَهُم، واعتِقادُ فَضْلِهِم، ومعرِفةُ سابِقَتِهم. قال الله تعالى { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمان وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا } [الحشر:10]، وقال تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح:29].
87- وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «لا تَسبّوا أصحابي, فلو أنّ أحدَكم أنفقَ مثلَ أُحُدٍ ذهَباً ما بَلغَ مُدّ أحدِهم ولا نَصيفَه»
88- ومِنَ السُّنّةِ التَّرَضِّي عَنْ أَزْواجِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أُمَّهاتِ المؤمنينَ المُطهَّراتِ، المُبَرَّآتِ مِنْ كلِّ سوءٍ، أفضلُهنّ خديجةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ وعائشةُ الصّديقةُ بنتُ الصّديقِ التي بَرّأَهَا اللهُ فِي كتابِهِ، زوْجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرةِ، فمَنْ قَذَفَهَا بما بَرَّأَها اللهُ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ باللهِ العظيم .
89- ومعاويةُ خالُ المؤمنينَ، وكاتِبُ وحْيِ اللهِ، أحدُ خلفاءِ المسلمينَ - رضي الله عنهم -.(19/88)
90- ومِنَ السُّنَّةِ السَّمْعُ والطاعَةُ لأئمةِ المسلمينَ وأُمَرَاءِ المؤمنينَ بَرِّهِمْ وفَاجّرِهمْ، ما لم يأمروا بمعصيةِ اللهِ، فإنَّه لا طاعةَ لأحدٍ في معصيةِ اللهِ.
91- ومَنْ وَلِي الخلافةَ، واجتمعَ عليه النّاسُ ورَضُوا بِهِ، أوْ غلبَهُم بسيْفِهِ حتَى صَارَ الخليفة، وسُمِّيَ أميرَ المؤمنينَ، وجبَتْ طاعتُهُ، وحَرُمَتْ مُخَالفَتُهُ والخُروجُ عَلَيهِ وشَقُّ عصَا المسلمينَ.
هذه المسائل من محبة الصحابة وتوليهم وعدم سبّهم، والكلام على أمهات المؤمنين، وحقوق الإمام المسلم مرّ معنا تفصيله، وقد سبقتُ موضعه اللائق به، ويبِّن لك كلامه الأخير ما ذكرته سابقا من معتقدات أهل السنة؛ أنه تحصل الإمامة الشرعية بأحد الأمرين، إما باجتماع الناس عليه، ورضاهم به، أو أن يغلبهم بسيفه، ولو لم يرض الناس، يغلبهم بسيفه، ويدعو الناس لمبايعته، فيصبح خليفة، أو يصبح أميرا للمؤمنين، أو يصبح إماما، أو يصبح حاكما، فتجب طاعته، ويحرم الخروج عليه، وشق عصا المسلمين عنه، فالولايات الشرعية قسمان: ولاية اختيارية، وولاية تغلّبية، وقد بيّن ذلك أتم بيان الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى بما ذكر من اعتقاد أئمة أهل السنة.
?????
92- ومِنَ السُّنّةِ هِجْرانُ أهْلِ البِدعِ ومُبَايَنَتُهُم وتَرْكُ الجِدَالِ والخُصُومَاتِ في الدّينِ، وتَرْكُ النَّظَرِ في كُتُبِ المبتدعةِ، والإصْغاءُ إلى كلامِهِم، وكلُّ مُحْدَثَةٍ في الدِّينِ بِدْعَةٌ.
93- وكلُّ مُتَسَمٍّ بِغَيْرِ الإسلامِ والسُّنّةِ مبتدعٌ، كالرافضةِ والجهميةِ، والخوارِجِ، والقَدَريّةِ والمرجئةِ، والمعتزلةِ، والكَرَّامية، والكُلاّبيّة، ونَظَرَائِهم، فَهَذِهِ فِرَقُ الضَّلالِ وطَوَائفُ البِدَعِ أعاذَنَا اللهُ منْها.(19/89)
قال (من السنة هِجران أهل البدع ومباينتهم) وهذا هو الذي كان أئمة أهل السنة يوصون به من عدم غشيان المبتدعة في مجالسهم ولا مخالطتهم، بل هجرانهم بالكلام، وهجران بالأبدان، حتى تُخمد بدعهم، وحتى لا ينتشر شرهم، فالدخول مع المبتدعة ومساكنتهم، سواء كانت البدع صغيرة أو كبيرة، والسكوت عن ذلك، وعدم هِجرانهم، والاستئناس لهم، وعدم رفع الرأس بحالهم مع بدعهم، هذا من حال أهل الضلال، إذْ أهل السنة تميزوا بأنهم لهم الموقف الأعظم الذي فيه القوة والشدة مع أهل البدع مهما كانت البدع، فيهجرون أهل البدع، هجر المبتدع من أصول الإسلام، بل من أصول أهل السنة، لأن جنس البدع أعظم من الكبائر، فالبدعة أشد وأعظم من الكبائر، وذلك من خمس جهات، نذكر بعضا منها: الأولى أن البدعة من باب الشبهات، والكبائر من باب الشهوات، وباب الشبهات يعسر التوبة منه، بخلاف أبواب الشهوات، ولهذا جاء في الأحاديث من حديث معاوية وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصف أهل البدع «تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقَى منه عرق ولا مفصل إلا دخله»وقد بيّن عليه الصلاة والسلام إن صحّ الحديث وقد صحّحه جمع من العلماء أنه قال « أبى الله أن يقبل توبة صاحب بدعة حتى يدع بدعته» وقد جاء في ذلك أيضا بعض الأحاديث، التي منها ما يصح، ومنها ما لا يصح، ومنها ما رُوي أنه قال «من وقَّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام».(19/90)
ونلاحظ اليوم أنه في هذه المسألة فيه تَرْكٌ لهذا الأصل، فكثير من الناس يُخالط المبتدعة ولا يهجرهم بحجج شتى؛ إمَّا دنيوية، وإما تارة تكون دعوية أو دينية، وهذا مما ينبغي التنبه له والتحذير منه؛ لأن هِجران أهل البدع متعين، فلا يجوز مخالطتهم بدعوى أن ذلك للدعوة، ولا مخالطتهم بدعوى أن ذلك للدنيا، ولا مخالطتهم وعدم الإنكار عليهم بدعوى أن هذا فيه مصلحة كذا وكذا، إلا لمن أراد أن ينقلهم لما هو أفضل لما هم فيه، وأن ينكر عليهم ويغيّر عليهم.(19/91)
الاهتمام بالسنة والرد على المبتدعة هذا كما تعلمون ظاهر في حال أئمة أهل الإسلام، فقد كانت حياتهم في الرد على المبتدعة، ولم يشغلوا أنفسهم بالرد على الكفار الأصليين من اليهود والنصارى، فإذا رأيت كلام الإمام أحمد، وسفيان، وحمّاد بن زيد، أو حمّاد بن سلمة، ونعيم وهم أئمة أهل السنة، والأوزاعي، وإسحاق، وعلي بن المديني، ونحوهم من أهل السنة والإسلام، وجدتَ أن جُلّ كلامهم وجهادهم إنما هو في الرد على المبتدعة وفي نقض أصول المبتدعة، وإن كانوا باقين على أصل الإسلام، ولم يشغلوا أنفسهم بالرد على اليهود والنصارى وسائر ملل أهل الكفر، وذلك لأن شر المبتدع لا يظهر على أهل الإسلام، ولا يؤمَن على أهل الإسلام، أما الكافر الأصلي من اليهود والنصارى فشرُّه وضرره بين وواضح لكل مسلم؛ لأن الله جل وعلا بيّن ذلك في كتابه، وهم ظاهرون، أما أهل البدع فالشر منهم كثير، ولهذا لا يحسن أن يُنسب لأهل السنة والجماعة أنهم مفرّطون في الرد على اليهود والنصارى ومنشغلون بالرد على أهل الإسلام، كما قاله بعض العقلانيين من المعتزلة وغيرهم: إن أهل السنة انشغلوا بالرد على أهل الإسلام، وتركوا الرد على الكفار من اليهود والنصارى، وسائر أهل الملل الزائفة. وهذا سببه هو ما بينته لك أن شر البدع أعظم؛ لأن هؤلاء يدخلون على المسلمين باسم الإسلام، وأما أولئك ففي القلب منهم نفرة من اليهود والنصارى، فهدي أئمة الإسلام كان ظاهرا في الرد على المبتدعة، والرد على أهل الأهواء، ولم يعرف عنهم كبير عمل في الرد على اليهود والنصارى، وليس معنى ذلك أن المؤمنين من أهل السنة لا ينشغلوا بالرد على اليهود والنصارى، لا، ولكن نذكر ما تميز به أئمة أهل السنة وإلا فالرد على كل معادٍ للإسلام من الكفار الأصليين، ومن أهل البدع متعيِّن وفرض، لكن من انشغل بالرد على المبتدعة لا يقال له لما تركت اليهود والنصارى لم ترد عليهم وانشغلت بهؤلاء، نقول هذا هدي الأئمة(19/92)
الأولين، وكلٌّ يرد في مجاله؛ منا من يرد على اليهود والنصارى، ومنا من يرد على المبتدعة، ونحن جميعا نكون حامين لبيضة الإسلام من تلبيسات الملبِّسين، وبدع المبتدعين، وشرك المشركين، وضلالات الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم.
?????
94- وأمَّا بِالنّسْبَةِ إلى إمامٍ في فُروعِ الدِّينِ كالطَّوَائِفِ الأرْبَعِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، فَإنَّ الاخْتِلافَ في الفُروعِ رَحْمةٌ، وَاْلمخْتَلِفونَ فِيهِ مَحْمُودُونَ فِي اخْتلافِهمْ، مُثَابُونَ في اجْتِهَادِهمْ وَاخْتِلاَفُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ، وَاتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قاطِعَةٌَ.
95- نَسْأَلُ الله أَنْ يَعْصِمَنا مِنَ الْبِدَعِ وَالْفِتْنَةِ، وَيُحْيينَا عَلَى الإسْلامِ وَالسُّنةِ، وَيَجْعَلنَا مِمَّنْ يَتَّبِعْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحَياةِ، وَيَحْشُرَنَا في زُمْرَتِهِ بَعْدَ المَمَاتِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ آمِينَ.
وَهَذَا آخِرُ المْعْتَقَدِ.
وَالحَمْدُ لله وَحدهُ، وَصلَّى الله علىَ سَيِّدنَا مُحمدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ وَسَلََّمَ تَسْلِيمًا.
اختلف الأئمة في مسائل الفقه، قال الموفق بن قدامة(واختلافهم رحمة)وهذا صحيح باعتبار، وغير صحيح باعتبار آخر:
½ فاختلافهم رحمة صحيح باعتبار أنهم بذلوا وسعهم لإرشاد الناس، وحصل مع بذل الوسع والاجتهاد الاختلاف، فيقال اختلافهم رحمة؛ يعني سبب الاختلاف من أنه بذل الاجتهاد والجهد في بيان المسائل ونفع الناس رحمة، ولو حصل الاختلاف، فإن كان المقصود هذا المعنى فهذا صحيح.
½ وأما إن كان المقصود أن اختلافهم على هذه الأنحاء، هذه الأقوال المتباينة أنه رحمة رُحمت بها الأمة، فهذا غير صحيح؛ لأن هذه الأقوال المختلفة منها ما هو مخالف للسنة، ومنها ما قد فرّق الأمة، فليست برحمة كما هو ظاهر.(19/93)
فإذن قوله اختلافهم في الدين رحمة، يُمكن أن يُفسر بتفسير صحيح، ويمكن أن يفسر بتفسير خاطئ، فإن أريد به التفسير الصحيح صُحّح، وإن أريد به التفسير الخاطئ خُطِّئ.
هذا الاختلاف ما موقفنا منه؟
الواجب أولا أن يترحّم على جميع العلماء، وأن يُعذروا في اختلافهم، وما أخطئوا فيه من اجتهادهم المخالف للسنة لا يتَّبعون فيه، فإن العالم لا يتبع بزلته، ولا يُتبع على ما أخطأ من قوله أو في فعله، ويُحب الجميع، ونعتقد أن المجتهد منهم مأجور بأجر واحد إن أخطأ، وبأجرين إن أصاب، وأما من تبعهم في أقوالهم، فإن كان ذلك الإتباع عن تعصب بعد معرفة الدليل فهذا مذموم وباطل، وهو الذي أقام السلف الصياحات على من سار على هذا النحو؛ يقدم أقوال الرجال على ما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، وأما إن كان إتباعه لا عن تعصب لكن عن اقتناع باستدلالاتهم وبأصولهم، فإن ذلك لا يلام ولا يعاب على صاحبه.
ثم دعا المؤلف بدعوة عظيمة، ونحن ندعوا بها، ويجب دائما أن نحرص على مثل هذه الدعوات؛ لأن القلب يتقلب، وهذا الزمن زمن أهواء وفتن، لا يدري المرء هل يثبت على دينه، وعلى السنة حتى يتوفاه الله، أم تعصف به الأهواء والفتن، قال: نسأل الله أن يعصمنا من البدع، وأن يمن علينا بلزوم السنة، ونحن نسأله جل وعلا كذلك أن يمن علينا بلزوم السنة، والمحافظة عليها، وبنصرة أهلها، واعتقاد أئمة أهل السنة والجماعة وسلف هذه الأمة، وأن يباعد بيننا وبين الأهواء والفتن والبدع، وبين أصحابها، وأن يجعلنا قائمين بالحق ثابتين عليه، صادعين بالحق، رادّين على الباطل، على كل من جاء بباطل.
ونسأله جل وعلا أن يجعلنا من الهداة المهتدين، السائرين على هدي السلف الصالح، الآخذين بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ».(19/94)
هذا آخر المعتقد، وهذه العقيدة المختصَرة مع ما سمعتم من الشرح المقتضب جدًّا على هذه المسائل، لكن أحسبه أنه شمل أصول الاعتقاد، وينبغي عليكم -وقد سرّني حضوركم بمثل هذا الجمع، في هذا الوقت، مما يدل على رغبة في دراسة الاعتقاد- أن تتموا دراسة العقيدة، وأن تتوسعوا في ذلك، حتى تعرفوا تفاصيل المعتقد، فإنما يشرف المرء منا بأن يكون في دراسته للعقيدة؛ أن يكون مقبلا متوسعا فيها، لأن الناس بحاجة إلى توضيح العقائد، واليوم المعتني بذلك في صفوف الشباب، بل وفي صفوف طلبة العلم قليل، والناس اليوم في العالم كله، وخاصة في العالم الإسلامي، بل وعندنا في كثير من البقاع بحاجة إلى تبيين أصول الاعتقاد والتوحيد وما يضاده، لأن هذا هو أصل الأصول، وإذا استقام الأصل استقام ما بعده.
الأجوبة على الأسئلة([19]):(19/95)
1. ليس فيه زيادة، صحيح، معنى قول (ليس فيه زيادة) بمعنى لم يُزد فيه على كلام الله شيء، فكلُّه كلام الله، ليس فيه ولا حرف زيادة، يعني من عند البشر، بل كله من كلام الله جل وعلا، لكن القرآن نزل بلسان عربي، وعلى وَفْق لغة العرب وسَنَنِها في كلامهم، وهذا يعني أنه تجري فيه القواعد العربية، فكون يكون فيه لفظ زائد -ما نقول زائد- نقول صلة تأدبا مع القرآن، لكن هل الزيادة هنا بمعنى أنه ماله فائدة؟لا، أعظم فائدة هي التأكيد مثل قوله ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ?[آل عمران:159]، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) معناها فبرحمة من الله لنت لهم، فـ(مَا) في قوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) ليست نافية، المعنى المراد فبرحمة من الله لنت لهم، فهنا أتت (مَا) صلة، ما معنى كونها صلة؟ أنها في مقام تكرير الجملة، كأنّ الله جل وعلا قال: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. كذلك قوله?فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ?([20]) وهكذا، وهذا شيء معروف في لغة العرب. نعم.(19/96)
2. التشبيه هنا في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى:11] يورد إشكال على من جعل الكاف بمعنى (مِثْل)، وهو يقول إذا قلنا إن المعنى الكاف بمعنى (مِثْل) فتكون الآية (ليس مِثْلَ مِثْلِهِ شيء)، يقول: يقتضي هذا إثبات المثل؛ لأنه يكون في الآية نفي لمثل المثل، ونفي مثل المثل لا يقتضي نفي المثيل. ونقول: هذا يصحُّ، لكن في غير لسان العرب، أمّا العربي إذا أراد أن يبالغ في نفي المثل، نفى وجود مِثْل المثل، فإذا نُفي وجود مِثْل المثل، فنفي وجود المثيل عِنْده من باب أولى، فالعرب من لغتها إذا أرادت المبالغة الشديدة في نفي المثل، نَفَت مِثْل مِثْل المثل ليش؟ لأنه كأن المثل أصلا لا يُلتفت إليه، فهو ينفي وجود مثيل لذلك، لأن هذا الأول كأنه مفروغ من أنه لا يوجد، ولكنه ذهب إلى الدرجة الثانية، وليس معنى هذا أنه إذا نفينا الأدنى أننا نثبت الأعلى، لا، لكنها في العربية أنّه إذا أراد المبالغة في النفي نفى شَبَه الشبيه؛ نفى مثل المثيل، هذا أشد المبالغة، لكن الوجه الذي يرجحه كثير من المحققين من أهل العلم أن الكاف صلة، وهذا ظاهر ولا نحتاج معه إلى جواب عن هذا الإيراد.(19/97)
3. هذه الحروف في أوائل السور التي تسمى الحروف المقطعة، الراجح في معناها أنها للإشارة إلى أن هذا القرآن مؤلَّف؛ يعني كلماته متألفة – لا نقول مؤلَّف من باب التأليف، لا,- متألفة من جنس هذه الأحرف، وإذا كان كذلك، وهذه الأحرف هي التي يتكلم العرب بها، ويؤلفون بها كلامهم، فإنه يدل ذلك على أن هذا القرآن معجز، يعني أن يقول للناس هذا القرآن مكوَّن من هذه الأحرف التي تتكلمون بها، وتُنشئون بها كلامكم، وليس من أحرف أخر، ومع هذا أنتم لا تستطيعون أن تأتوا ولا بمثل عشر سور، ولا بمثل سورة منه، وهذا يدل على عظم الإعجاز، ويدل على هذا التفسير الاستقراء، والاستقراء أحد أوجه الأدلة التي ينبغي العناية بها، فتجد أن معظم السور التي في أولها الأحرف المقطعة يُعقِبها ذكر القرآن أو الكتاب؛ قال جل وعلا { الم } [البقرة:1] هذه سورة البقرة { الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ } [البقرة:1-2]، { الم } [آل عمران:1] آل عمران { الم(1)اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } [آل عمران:1-3]، { المص } [الأعراف:1] سورة الأعراف { المص(1)كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [الأعراف:1-2]، { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1]، { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } ([21]) وهكذا { الم } [السجدة:1] في سورة السجدة مثلا، { حم(1)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [فصلت:1-2]، { حم(1)عسق(2)كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ } [الشورى:1-3] { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } [ق:1]، إذن أكثر الصور التي ابتدأت بالأحرف المقطعة يُعْقِبُها ذكر الكتاب والقرآن، وهذا يدل على أنه متكونة كلماته من هذه الأحرف، فأتوا يا كفار يا مَنْ لم تصدقوا برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إيتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل(19/98)
عشر سور مثله مفتريات أو بمثل سورة أو بمثل آية إيتوا، فهذا فيه أبلغ الإعجاز، ولا يوجد في السلف؛ في الصحابة من يقول لا نعلم معناها، من يقول الله أعلم بمعناها بمعنى أنها لا يعلم أحدا معناها، لكن ممكن أن تجد من بعض التابعين من يقول لا أعلم معناها أو يقول الله أعلم، أما أن تُجعل لا يعلم معناها، ولهذا فانتبه أنه من الأمور التي يشيع فيها الخطأ أن يُقال الأحرف المقطعة من المتشابه، هذه من كلمات الأشاعرة، يريدون بالمتشابه لا أحد يعلم معناها، بل لابد أن يكون هناك طائفة تعلم معناها؛ لأن العلم محفوظ؛ العلم بمعاني الكتاب والسنة محفوظ بحفظ الكتاب والسنة.
4. الحروف المقطعة لا يجوز أن نقول أنه ليس لها معنى؛ لأن القرآن أنزله الله جل وعلا وأمر بتدبره فقال { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } ([22]) ولم يستثن الله جل وعلا آية من آية، ولا كلمة من كلمة بأمره التدبر، فأمر بتدبره، ويدخل في ذلك الحروف المقطعة، وهذا يبين لك أن القول الظاهر الصحيح الثابت هو أن الأحرف المقطعة لها معنى على نحو ما أوضحت لك.(19/99)
5. هذا الحديث مشهور ثابت في الصحيح وفي غيره، «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»، الرواية المشهورة «لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر أقلب الليل والنهار» معنى ذلك أن الله جل وعلا هو الذي يصرّف الدهر، والدهر هو الأيام والليالي، فسبُّها وهي لا تصنع شيئا يعود لسب من يسيرها، فهي لا تملك لنفسها شيئا، والليل والنهار لا يعمل شيئا لنفسه، لا يأتي باختياره، ولا يذهب باختياره، وإنما بأمر الله جل وعلا وبتدبيره، فنهى عن سب الدهر؛ لأن الله جل وعلا هو الذي يقلبه، كما قال «فإني أنا الدهر أقلب الليل والنهار» يعني إني أنا مالكه، ومصرفه، ومدبره، ومجريه، ومبدل آياته، أوصل الليل بالنهار هذا يطلب هذا بأمري وقدرتي؛ بأمر الله وقدرته، وهذا متعيّن؛ هذا التأويل، لأن من المعلوم أن الليل والنهار الذي هو الدهر، ليس هو الله جل وعلا، ولهذا غلط من جعل من أسماء الله جل وعلا الدهر كابن حزم ومن شابهه.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا جميعا من أهل جنته، وأن يرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا خطأنا وزللنا، وأن يقيمنا على السنة قائمين قاعدين، وأن يتوفانا غير خزايا ولا مفتونين، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قام بتفريغها سالم الجزائري
---
([1])طه8, الحشر24.
([2]) البقرة, آل عمران, العنكبوت, الروم, لقمان, السجدة الآية1.
([3])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول
([4]) الأعراف:73, هود:64, الشمس:13.
([5])القمر:14، الطور:48، المؤمنون:27، هود:37.
([6])الفتح:6، المجادلة:14, الممتحنة:13.
([7])انتهى الشريط الأول.
([8])البقرة, آل عمران, العنكبوت, الروم, لقمان, السجدة:1.
([9])وهي المرتبة الثانية.
([10])الحاقة:40, التكوير:19.
([11]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([12])فاطر:43, محمد:18,(19/100)
([13])قال شيخ الإسلام في رسالة له ضمن مجموع الفتاوي –أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل-ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال: هذا ويقولون ثلاثة أشياء لا حقيقة لها طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري.
([14])هذه الفقرة لم يقرأها قارئ المتن.
([15])اللفظ المذكور في الكتاب هو (العظاما)
([16])انتهى الشريط الثاني.
([17])الأعراف:8, المؤمنون:102.
([18]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([19]) الأسئلة غير مسموعة من الشريط ولذلك دُوّنت إلا الإجابة عليها.
([20])النساء:155، المائدة:13.
([21]) يونس:1، يوسف:1، الحجر:1.
([22]) النساء:72، محمد:24.(19/101)
شرح مسائل الجاهلية
للشيخ المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
[(07) أشرطة مفرّغة]
بسم الله الرحمن الرحيم
إن هذه المسائل الجاهلية التي خالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها -كما [سَ]ترى- هي عزيزة المعاني، وهي مهمة جدا في حياتنا اليوم، بل إنه على الشباب والدعاة إلى الله جل وعلا أن يكون في حلقاتهم وأن يكون في بيان دعوتهم ما يستدلون فيه بكثير من هذه المسائل؛ لأنه إذا بُيِّنت للناس أنّ هذه خصلة من خصال اليهود، خصلة من خصال الجاهلية، بدلائلها وبكلام أهل العلم عليها، ثم بُيِّنت أن هذه دخلت في الأمة، يكون هذا من أنفع أبواب الدعوة، من أنفع طرقها، وهذه هي الطريقة أو هذه من الطرق السلفية المحمودة في الدعوة؛ دعوة الناس، ولهذا الشيخ [محمد بن عبد الوهاب]رحمه الله اعتنى ببيان هذه المسائل؛ لأن الجميع راغب في أن يكون مجانبا لسنن أهل الجاهلية ولطرائقهم ولخصالهم سواءً كانوا يهودا أو نصارى أو مشركين أو مجوس أو... إلى آخره من الملل و النحل.
فعنايتكم بهذه المسائل فهما واستنباطا ثم عنايتكم بشرح كيف كان عليه أهل الجاهلية؛ ببيان أصل المسألة، ثم صور دخول هذه الخصلة في هذه الأمة، وأن هذا مصداقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» هذا من الأمور التي تعين الداعية على الوصول إلى مبتغاه وتبين الحق للناس.
وهي مسائل عظيمة أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا دائما فيما بيَّنه إمام هذه الدعوة من المسائل العظيمة التي نحتاج إليها ولا شك في كل وقت في هذا الزمان، ومذاكرتها والتذكير بها ضروري؛ يعني حبذا لو يكون في المجالس أن تؤخذ مسألة، مسألة، من هذه المسائل ويُقرأ شرحُها للألوسي أو لغيره، وينظر فيها ويتأمل لأنها أشد ما تكون الحاجة إليها كما قال في المقدمة، قال: لا غنى للمسلم عن معرفتها.
فهرس الأشرطة
الشريط الأول
الوجه الأول:
مقدمة
وصف عام للرسالة.(20/1)
ذكر من شرح هذه الرسالة ومنهم الألوسي.
تعريف الجاهليين.
معنى الجاهلية وعلى من تطلق في الكتاب والسنة.
تقسيم الجاهلية:
· الاعتبار الأول: مطلقة ومقيدة.
· الاعتبار الثاني: جاهلية في المكان، في الزمان، في الأشخاص.
[تخطئة من أطلق لفظ جاهلية القرن العشرين]
الأمر الذي جعل الشيخ يجمع هذه المسائل.
أهمية معرفة سنن الجاهلية
المسألة الأولى: كان أهل الجاهلية يتعبدون بإشراك الصالحين.
أصناف الصالحين.
طرق إشراك الصالحين ومنها الشفاعة.
[تعريف الشرك]، [معنى التسوية]
أخذ بهذه المسألة:
· أهل الكلام، [لا إله إلا الله].
· طوائف من المبتدعة كالأشاعرة مثلا، [شرح السنوسي لكلمة التوحيد].
· ممن عاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
عظم هذه المسألة.
الفرق بين ترتب أحكام الكفار وأنه من أهل النار واستباحة الدم والمال.
منهج الشارح في شرح هذه المسائل.
الوجه الثاني من الشريط:
المسألة الثانية: التفرق في الدين والدنيا ويرون أنه هو الصواب.
حال أهل الجاهلية في تفرقهم في دينهم.
الأمر بالاجتماع في الدين، كيف ذلك؟
علاقة الاجتماع في الدين بالاجتماع في الدنيا (اجتماع في الأبدان).
[ظهور الأحزاب من تفرق الأبدان]
المسألة الثالثة: مخالفة وعدم الانقياد لولي الأمر فضيلة.
حال أهل الجاهلية من ناحية معاملة الولاة وكيف انتقل إلى المسلمين ومخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لذلك.
حال الجزيرة قبل الدعوة.
الأسئلة:
1. ما رأيكم فيمن يقول على العالم أن يعلم منهج السلف دون التطرق إلى المناهج الضالة؟
2. هل الآية ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا?[آل عمران:103] في الدين أم الدنيا؟
3. ذكر أن المسألة الأولى من أجلها شرع الجهاد أرجو التوضيح.
4. بالنسبة لتعليقكم على عدم دقة قول (جاهلية القرن العشرين) ألا تحمل على أن أعظم الناس في جاهلية؟
5. يصبر على الضرب وأخذ المال، لكن مس العرض هل يصبر عليه؟(20/2)
6. اختلاف طبعات مسائل الجاهلية.
7. من قاتل تحت راية كفرية؟
8. هل كل المسائل التسي ذكرها المؤلف مخرجة من الملة؟
9. قول من قال أن محمد بن عبد الوهاب خرج عن العثمانيين؟
10. هل نستطيع أن نقول أن الجاهليين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون أنهم على باطل؟
الشريط الثاني
الوجه الأول:
المسألة الثامنة: الاستدلال على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء.
المعنى العام للمسائل التي قبلها.
الضعفاء في نظر أهل الجاهلية.
صوارف اتباع الحق:
· الاستكبار والهوى.
· الغنى.
· الجاه سواء نسب أو رئاسة أو غيرهما.
· العجب بالنفس.
[شرح معنى الأرذلون]
قاعدة الإيمان اللغوي والشرعي في القرآن بتعديته بالباء واللام.
سريان هذه المسألة في قوم نوح.
[تعريف أعقل العقلاء]
سريان هذه المسألة لأصناف من هذه الأمة:
· الصنف الأول: أهل الرئاسة بأنواعها.
· الصنف الثاني: قوم العقلانيين الذين درسوا الفلسفة.
[معنى كلمة الحشوية]
· الصنف الثالث: أهل الأموال.
· الصنف الرابع: العصريون الإسلاميون المهتمون بالفكر.
· الصنف الخامس: طوائف من الدعاة والدعوات.
خلاصة المسألة.
المسألة التاسعة: الإقتداء بفسقة العلماء والعباد.
اقتداء أهل جاهلية العرب بعلماء النصارى.
الوجه الثاني من الشريط:
وكذلك إقتداؤهم بعلماء اليهود.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة.
[طائفة تفتي على المذاهب الأربعة]
الصنف الثاني فسقة العباد.
سريان الإقتداء بفسقة العباد بهذه الأمة.
[في الصوفية]
خلاصة المسألتين.
[نصيحة في إبطال رد المخالف]
الأسئلة:
1. ما سبب اختيار جحر الضب على وجه الخصوص.
2. من يفتي بالشريعة في الفتوى وفي القضاء بالقانون، هل هذا كفر؟
3. ما معنى فقه الواقع؟
الشريط الثالث
الوجه الأول:
المسألة العاشرة: الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وقلة حظهم.
سريان هذه المسألة في قوم نوح.
[تصحيح كلمة حفظهم إلى حظهم](20/3)
أوجه قراءة ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27].
تفسير (بَادِي الرَّأْيِ) أختلف فيه على ثلاثة أقوال.
سريان هذه المسألة في قريش وقبلهم قوم موسى.
سريان الشعبة في هذه الأمة :
· الذين يعتزون بالعلوم الخلفية من أصحاب الكلام.
· طائفة من غلاة الفقهاء.
· من عاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العلماء.
· الذين ادعوا أن باب الاجتهاد قفل.
· من دخلته هذه الشعبة في وقتنا.
المسألة الحادية عشرة: الاستدلال بالقياس الفاسد.
القياس عند الجاهليين.
أنواع القياسات التي استدلوا بها منها:
· إبطال النبوة بأن الرسول بشر ووجه الشبه فيه (كفار قريش من قبلهم).
· إذا أثبت للولي كرامة صار نبي (المعتزلة وغيرهم).
· النبي لا يختصّ بشيء (الصوفية).
· كل من اتصف بالإيمان يتبرك بذاته.
القياس الصحيح ومقتضاه لعدم إبطال النبوة.
مقتضى القياس الصحيح في هذه الأمة.
مقصد الشيخ في إيراد المسألة.
الوجه الثاني من الشريط:
المسألة الثانية عشرة: انكار القياس الصحيح.
وقد ذكرها مع المسألة التي قبلها.
المسألة الثالثة عشرة: الغلو في العلماء والصالحين.
الغلو في العلماء وكان له أنحاء:
· اتباع العلماء في التحليل والتحريم.
· اعتقاد أن للعلماء تغيير ما في الكتب المنزلة كما حصل لليهود والنصارى.
الغلو في الصالحين:
· اعتقاد كل ما فعلوه من الصلاح والعبادة.
· اعتقاد أن لهم منزلة عند الله في حياتهم ومماتهم كمنزلة المقربين من الملوك منهم.
· التبرك بالصالحين عند اليهود والنصارى.
سريان هذا الغلو في هذا الغلو في هذه الأمة:
· الغلو في العلماء.
· قبول أقوال من ينتسب إلى العلم دون حجة.
[أصحاب الكلام]، [أصحاب الفقه]، [مثال على ذلك مسألة الشفاعة]، [كلامه على محمد علوي المالكي].
· الغلو في الصالحين.
المقصود من المسألة.
كتتمة لهذه المسألة التكلم على التعصب والغلو والجفاء.
الأسئلة:(20/4)
1. لفظ أهل السنة والجماعة ودعوة الناس إليه وهل يدخل فيه الأشاعرة والماتريدية؟
2. السائل الذي يخرج من فرْج المرأة ما حكمه؟
3. محاضرة المنهجية في طلب العلم التي ألقيتها الأسبوع الماضي هل سجلت؟
4. سؤال عن زبدة التفسير مختصر فتح القدير لمحمد سليمان الأشقر.
5. هل العبارة لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار صحيحة؟
6. هل يستطيع المسلم فهم العقيدة دون حفظ القرآن ؟
7. الصلاة خلف المبتدع والقبوري ودرجة حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر».
8. ما الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟
9. عقيدة أهل السنة والجماعة في الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهم. وهل له علاقة بتقسيم فرقة ناجية وطائفة منصورة.
الشريط الرابع
الوجه الأول:
المسألة الرابعة عشرة: يتبعون الهوى والظن ويعرضون عما جاءت به الرسل [أرجأ الكلام عليها].
المسألة الخامسة عشرة: اعتذارهم بعدم الفهم فأكذبهم الله.
فهم الحجة نوعان:
· يُفهم معناها (يُقيم الحجة من يُفهمها).
· فهم الحجة الفهم الذي يجعله يتبع الحجة.
تكذيب الله جل وعلا لهم وتبيين سبب عدم الفقه هو الطبع على القلوب.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة في قديم زمان هذه الأمة وفي حديثها.
· من ناحية الاعتقادات الكفرية وغيرها، [دليل حلول الأعراض لجهم بن صفوان وأنه سبب البلاء العام].
· من ناحية العبادات، [من يمكن أن يقال أنه قامت عليه الحجة].
المسألة السادسة عشرة: اعتياضهم عما آتاهم الله بكتب السحر.
أرجح التفاسير في الآية ?اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:102].
أصل هذه المسألة لكل استبدال لما أنزل الله بغيره.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة:
· استبدال الكتاب والسنة بكتب الفلاسفة والمتكلمين.
الوجه الثاني من الشريط:
· أهل السلوك اعتاضوا عن هدي النبي إلى كتب خاصة في الزهد.
[رد على ابن عربي وفصوصه]
· ترك كتب أهل السنة لأجل كتب أهل البدع.(20/5)
كلمة على هذه المسائل وأهميتها اليوم.
الأسئلة:
1. أهل البدع غير المكفرة هل يشهر بهم ويحذّر منهم ومن آرائهم؟
2. لفهم الحجة هل يكفي ذكر أن هذا شرك أو بدعة أو يجب ذكر الأدلة؟
3. هل وسائل الدعوة توقيفية أم لا؟
4. ما معنى قولهم لابد في إقامة الحجة انتفاء الموانع وثبوت الشروط؟
5. ما معنى قولهم قامت الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
6. ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، ?لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، يستدل بها بعض الجماعات على إقامة الحجة.
7. الذين خالفوا أئمة الدعوة في فهم الحجة هل يعلمون قول الأئمة في إقامة الحجة؟
الشريط الخامس
الوجه الأول:
المسألة السابعة عشرة: نسبة باطلهم إلى الأنبياء.
تعريف أهل الجاهلية (تذكير).
انتساب كفار قريش إلى إبراهيم.
نسب السحر إلى سليمان.
انتساب النصارى واليهود إلى إبراهيم.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة.
نسبة الباطل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريقتين:
· بأن الأنبياء فعلوه واعتقدوه.
· بأن هذا من دين الأنبياء وهو ما وقع في هذه الأمة (استنباطا).
سبب تنصيص العلماء على اتباع سلف الأمة.
[تشبه بعض القرآن على بعض العلماء وكذلك السنة].
سبب تسميتهم أهل السنة والجماعة.
سبب تبيين أهل السنة والجماعة لأصولهم.
المسألة الثامنة عشرة: أهل الجاهلية يتناقضون في الانتساب.
حقيقة الانتساب.
التنبيه على أن الشيخ شرح معنى هذه المسألة في شرح كتاب فضل الإسلام.
المسألة التاسعة عشرة: القدح في بعض الصالحين بالقدح فيمن ينتسب إليهم.
سريان هذه المسألة على من عادى احمد في العقيدة والسلوك.
سريانها على بعض أتباع المذاهب الأربعة (انتقاص الأئمة الأربعة من جراء أتباعهم).
تنقص بعض الصالحين كعبد القادر الجيلاني والجنيد.(20/6)
خطأ من: أول ما يقدح في الأولياء، وهذا يؤدي إلى القدح في الدعوة.
القدح في الإسلام بفعل المسلمين.
المسألة العشرون: الاعتقاد في مخاريق السحرة وإنكار الكرامات.
انقسام الخوارق ثلاثة أقسام:
· للأنبياء.
· للأولياء.
· جرت على يد الكفار والفسقة ومن خرج عن منهج الأنبياء.
الوجه الثاني من الشريط:
[تكملة تبيين تقسيم الخوارق]، [تعريف الولي].
جريان هذه المخاريق على هذه الأمة.
الأسئلة:
1. ما الفرق بين من قال (نحن على طريقة أهل السنة والجماعة) و(نحن على طريقة السلف)؟
2. هل يحصل كرامة لفاسق وكيف؟
3. هل المحذر من التقليد مشابهة لأهل الجاهلية؟
4. ما صحة قول القائل: أساس الإسلام أربعة: عقيدة وشريعة ومنهاج وأخلاق؟
5. ما هي الأدلة التي تقوم عليها الجماعات الخاصة؟
6. يقده بعض الطلبة في بعض الجماعات بالنظر لأخطاء أتباعها، هل هذا من الإنصاف؟
7. يوجد من يقسم المخاريق إلى أربع منها الفِراسة.
الشريط السادس
الوجه الأول:
المسألة الرابعة والعشرون: ترك الدخول في الحق إذا سبق إليه الضعفاء.
ذكر سبب نزول الآية ?وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?[الأنعام:52].
سريان هذه المسألة على كفار قريش وكذلك اليهود.
سريانها في هذه الأمة.
[من أسباب الصدود عن الحق اتباع الناس للصّادّ]
ذكر نتيجة مناظرة جرت بينه وبين أحد العلماء.
المسألة الخامسة والعشرون: يستدلون على بطلان الحق بسبق الضعفاء.
علاقة هذه المسألة بالتي قبلها.
المسألة السادسة والعشرون: تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه.
سريان هذه الخصلة في اليهود.
ذكر مذاهب العلماء في تحريف التوراة والإنجيل:
· التحريف من جهة المعنى وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
· التحريف بزيادة ونقص للألفاظ.
· تحريف بالمعنى واللفظ وهو الصحيح فيما يظهر.(20/7)
سريان هذه الخصلة في هذه الأمة من ناحية التأويل ومثاله ما يكثر من تأويل الصفات.
[الكلام على ابن العربي في تفسيره للاستواء في عارضة الأحوذي].
الأسئلة:
1. الفرق بين المسألة (10) و(25) و(8) ؟
2. الجني إذا أسلم هل تقبل شهادته؟
3. أين كلام شيخ الإسلام أن التحريف في الكتب في المعنى دون اللفظ؟
الوجه الثاني من الشريط:
4. بعض طلبة العلم يقول أنا لا أخالط إلا من فيه خير فيترفع على العوام؟
5. شرح الآية ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي?([1]) وقول الإمام استووا للمصلين وغير ذلك؟ وفيه كلام على تعدية استوى بـ: إلى وعلى.
6. الكلام على مناهج التوحيد في جامعات السعودية.
7. معاملة العمال الأجانب لمن له سلطة.
8. هل يجوز إدخال مشرك أو كافر إلى جزيرة العرب؟
9. معاملة الكفار وتحيتهم.
الشريط السادس
الوجه الأول:
المسألة السابعة والعشرون: تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله.
تصنيف الكتب على قسمين:
· الزيادة في الكتب المنزلة.
· جعل كتب كالشرح للكتب المنزلة.
سريان هذه المسألة في اليهود.
سريان هذه المسألة في هذه الأمة.
· في الروافض والدروز والنصيرية.
[سبب كراهة السلف للتصانيف]، [الغاية الحقيقة من التصنيف].
· تصنيف التفاسير عند مختلف الفرق.
سريان هذه المسألة في وقتنا الحاضر في أهل الفكر.
[الكلام على تفسير الفخر الرازي]. [ذكر منع الشيخ ابن باز لتفاسير الصابوني].
الوجه الثاني من الشريط:
المسألة الثامنة والعشرون: لا يقبلون إلا الحق الذي مع طائفتهم.
سريان هذه المسألة في اليهود.
سريان هذه المسألة في النصارى. [وجود إنجيل فيه بشارة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تعترف به النصارى].
سريان هذه المسألة في هذه الأمة ومنها بعض أتباع المذاهب الأربعة.
طريق الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرد على من يخالفه:
· ذكر ما عليه طائفته.
· تبيين أن المقصود من كلام العلماء هو إفهام الأدلة.(20/8)
المسألة التاسعة والعشرون: مع ذلك فهم لا يعلمون ما عليه طائفتهم.
شرح لطريقة الرد السابقة.
المسألة الثلاثون: وهي من العجائب؛ تركوا الاجتماع فعاقبهم الله بفرحهم بما لديهم.
ذكر أسباب التفرق:
· العلم: ?فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ?[المائدة:14].
· البغي: ?وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ?[الشورى:14].
بيان أن فرح كل حزب بما لديه من عقوبة الله له.
انتهت الفهرسة بحمد الله جل وعلا
بسم الله الرحمن الرحيم
[المتن]
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: هذه أمور خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين مما لا غنى للمسلم عن معرفتها:
فالضدُّ يظهر حسنَه الضدُّ ..........................
........................ وبضدها تتبين الأشياء
فأهم ما فيها وأشدها خطرا عدم إيمان القلب بما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه الجاهلية تمت الخسارة، كما قال تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ?[العنكبوت:52]
(المسألة الأولى) أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته يريدون شفاعتهم عند الله، بظنهم أن الله يحب ذلك، وأنّ الصالحين يحبونهم كما قال تعالى ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، وقال تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3].(20/9)
وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله، الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر أنّ من فعل ما استحسنوا فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
وهذه هي المسألة التي تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ?[الأنفال:39].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الكتاب قليل الصفحات، لكنه اشتمل على مسائلَ من أهم المهمّات، بل إنّ هذه الوُريقات في هذه الرسالة هي أصول الدِّين؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بُعث ليخلِّص الناس من جهالة الجاهليين على أنواع مللهم وأصناف نحلهم.
فإذن هي خلاصة لما أَمر به اللهُ جل وعلا، وأمر به رسولُه ( المشركين والكفار أن يتركوه.
وهذه الرسالة هي مسائل؛ المسألة منها قد تكون بضعة أسطر، وقد تَقِلُّ إلى كلمتين أو ثلاث.
وقد تناولها بالشرح؛ بشرح وجيز يكشف عن مراميها ومعانيها علاّمة العراق الشيخ السّلفي محمود شكري الأَلُوسِي، وهو شرح مطبوع متداول، لكنه في كثير من الأنحاء والمواضع لم يكشف الكشف الذي ينبغي.
وهناك من إخواننا من سجَّل رسالة ماجستير في شرح هذه المسائل، ولا شك أنها تحتاج ذلك لعظمها كما سترى، وليس من رأى كمن سمع.
سمّاها الشيخ الإمام رحمه الله تعالى ”مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية“(20/10)
وكما ذكر في المقدمة أنّ الجاهليين الذين يريدهم بقوله ”أهل الجاهلية“ هم الأميون يعني مشركي العرب وأصناف أهل الكتاب، وكذلك غيرهم من الصابئة والمجوس وأنواع أهل الملل.
والجاهلية راجعة إلى الجهل بالله جل وعلا، وبما يستحقه، وبما يحبه من الدين والطاعة، وهذه الجاهلية هي كل ما كان عليه الناس قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما خالفوا فيه الدين المشترك للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أو ما شرعه من الدين الحق على ألسنة رسله. فيشترك في ذلك ما كان عليه أهل الجاهلية من العرب، وأهل الجاهلية من أهل اليهود، وأهل الجاهلية من النصارى، وأهل الجاهلية من المجوس، وأهل الجاهلية من الصابئة، وهكذا إلى جميع أنواع أهل الملل.
الجاهلية غالب إطلاقها في الكتاب والسنة يُعنى بها الحال، وقد تطلق ويُعنى بها صاحب الحال.
¨ فمن الأول؛ وهو أن تطلق ويعنى بها الحال، يعني الصفة التي هي راجعة إلى نفي العلم والإغراق في الجهل بما أنزل الله جل وعلا على رسوله، هذه الجاهلية التي هي الحال والصفة منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين عيّر رجلا أسود وهو بلال –بالراجح- بأمه، قال عليه الصلاة والسلام «أعَيّرتَهُ بأمّهِ؟ إِنّكَ امرُؤٌ فيكَ جاهِليّة»، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «ثنتان من أمتي من أمر الجاهلية»، وكذلك قول عائشة ”كان نكاح الناس في الجاهلية على أربعة أنحاء“ ونحو ذلك من الحاديث التي فيها ذكر الجاهلية، ويدل لذلك قول الله جل وعلا ?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ?[المائدة:50]، فإنه في هذه النصوص يعنى بالجاهلية الحال والصفة.
¨ وقد يراد بها ذو الحال، فيقال فلان جاهلي، كما يقال امرؤ القيس شاعر جاهلي، يريدون بذلك أنه هو الجاهلي لعيشه في تلك الفترة التي هي الجاهليه المطلقة.
والجاهلية تقسم باعتبارات:
@ فتارة تنقسم إلى قسمين:(20/11)
وهي الجاهلية المطلقة.
والجاهلية المقيدة.
@ وتارة تقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:
جاهلية في المكان.
جاهلية في الزمان.
جاهلية في الأشخاص.
فالقسمة الأولى وهي الجاهلية المطلقة والمقيدة:
فنعني بالمطلقة: الكاملة من جميع الوجوه بأحد الاعتبارات الثلاث.
والمقيدة: يعني المقيدة بوجه من الوجوه، إما مقيدة بمكان، أو بزمان، أو بشخص، أو ببعض الصفات.
1- فالجاهلية في المكان تكون مطلقة ومقيدة:
فالمطلقة في بلاد الكفار؛ دار الحرب، بلاد الكفار، هذه يقال لها أمكنة جاهلية، والمكان جاهلي؛ لأجل أنها دار كفار.
وقد يكون المكان فيه جاهلية مقيدة ببعض الأمور كما هو في بلاد المسلمين، فإنه لا يزال فيهم بعض خصال الجاهلية فيكون فيهم بعض الجاهلية، تكون مقيدة ببعض الأشياء، أو مقيدة ببعض الأمكنة دون بعض، تقول البلد الفلاني من بلاد المسلمين فيه جاهلية، أو بلد أصبح جاهليا إذا رجع أهله وارتدوا عن الإسلام إلى الشرك.
2- وجاهلية الزمان أيضا مطلقة ومقيدة:
فالجاهلية في الزمان المطلقة هي ما كان قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت جاهلية مطلقة في الزمان؛ يعني كل ما كان قبل زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - -وَحَدُّهُ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -- يقال لها جاهلية بإطلاق.
والجاهلية المقيدة بالزمان هذه هي التي تكون في بعض ظهور خصال الجاهلية في وقت دون وقت، لكنها جاهلية مقيدة وليست مطلقة؛ يعني مقيدة بوقت ظهرت فيه خصال الجاهلية، فتكون مقيدة بالوقت.... ([2])(20/12)
فلا يصح إطلاق من أطلق (بجاهلية القرن العشرين) أو نحوها من العبارات التي يستعملها من لم يدقق، لأنه بعد بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انقضت الجاهلية المطلقة، ولا يزال في أمته من ينافح عن هذا الدين ويرفع رايته، فليس ثم جاهلية منسوبة إلى زمنٍ كالقرن العشرين، وإنما تكون منسوبة إلى وقت من الأوقات فيما إذا ظهرت بعض الصفات ثم يجاهدها ويظهر عليها أهل الحق بالإنكار فلا تصبح جاهليةً يعني الزمن.
فمثلا تقول القرن العشرين ظهرت فيه أنواع من الجاهليات كثيرة، لكن ما نطلق نقول: جاهلية القرن العشرين. لأن هذا إطلاق للزمن بكامله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِه «عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرّهُمْ من خالفهم ولا مَن خَذَلَهُمْ حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وهم على ذلك» هؤلاء يبينون وينصحون.
3- القسم الثالث جاهلية في الأشخاص وهي أيضا مطلقة ومقيدة:
فالمطلقة في الكافر.
والمقيدة في شخص دون شخص، أو في شخص في بعض حاله دون بعض، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر «إِنّكَ امرُؤٌ فيكَ جاهِليّة»؛ يعني بعض خصال الجاهلية.
هذه التقسيمات التي ذكرها أهل العلم في هذا المقام.
وأهل الجاهلية والذي حدا بالشيخ في هذا الأمر العظيم يعني التصدي لجمع هذه المسائل هو ما رواه البخاري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أبغضُ الرجال إلى الله ثلاثةٌ: مُلحِدٌ في الحرَم, ومُبْتغٍ في الإسلام سنّةَ الجاهلية, ومُطَّلب دم امرئ بغير حقّ ليهريقَ دمَه» فمن طلب وابتغى في الإسلام سنة يعني مسألة من مسائل الجاهلية فهو داخل في قوله( أبغضُ الرجال إلى الله ثلاثةٌ) فمن ابتغى شيئا من أمر الجاهلية وطلبه أو كان فيه ولم يتركه بعد البيان له فهو داخل في هذا الوعيد الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام.(20/13)
والجاهليون الذين خالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذين تذكر هذه المسائل لبيان سننهم وما كانوا عليه، قد يكونون من العرب كما ذكرت أو من أهل الكتاب أو غيرهم كما سيأتي إيضاحه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وذكر أهمية معرفة سنن الجاهلية؛ لأنه كما يذكر عن عمر رضي الله عنه بالخبر لم نعرف إسناده ولم نجد له إسنادا أنه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. فإذا عرف المرء الجاهلية وعرف أنه يجب عليه أن يتباعد عنها كان أحرى له أن يكون على بينة من أمره ولا تدخله سنة من سنن الجاهلية ولا مسألة من مسائل الجاهلية، ولهذا قال الشيخ رحمه الله في هذه الخطبة (لا غنى بالمسلم عن معرفتها) لا غنى بالمسلم عن معرفة هذه الأمور؛ لأنها أمور دخلت على المسلمين وابتغوا سنة الجاهلية عن جهل تارة، وعن علم مع عناد واستكبار تارة أخرى، وكما ذكر من قول الشاعر (وبضدها تتبين الأشياء) وقول الشاعر الآخر قبله (فالضد يظهر حسنَه الضدُّ) وقوله هنا (فالضد يظهر حسنَه الضدُّ) هذا من كلام عجز بيت للمنبجي أحد الشعراء المعروفين يقول في وصف شخص:
فالوجه مثل الصبح مبيضُّ والشعر مثل الليل مسودُّ
صنفان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنَه الضدُّ
وأما قوله (وبضدها تتبين الأشياء) فهذا من الشعر السائر المعروف لأبي الطيب المتنبي قالك
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء
في قصيدة يُثني بها ويمدح بها أبا علي هارون بن عبد العزيز الكاتب أحد المتنسكة الذين مالوا إلى التصوف، وفي بعض الطبعات جُعلت وكأنها بيت واحد فتنبه لذلك.
ذكر المسألة الأولى من هذه المسائل ألا وهي أن أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في عبادتهم، في العبادة والدعاء يرجون شفاعتهم لظنهم أن الصالحين يحبون ذلك وأن الله جل وعلا يحب ذلك.(20/14)
وهذه المسألة هي زبدة الرسالة؛ رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنتها مسألة الإخلاص في الدين، والعبادة فأهل الجاهلية كانوا يتعبدون الله جل وعلا بإشراكهم الصالحين في عبادة الله.
والصالحون جمع الصالح. والصالح يراد به العهد وهو ثلاثة أصناف:
1- الأنبياء والرسل.
2- الصالحون من البشر.
3- الملائكة.
وهؤلاء قد وقع في إشراكهم بالعبادة طوائف من الأميين مشركي العرب وغيرهم، فتارة يعبدون نبيا، وتارة دعون ويعبدون ملَكا، وتارة يعبدون صالحا ليس بملك ولا بنبي. قال جل وعلا ? أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ?[النجم:19-20]، وقال جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116] ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ([3]) لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]الآيات، ذكر جل وعلا هذه الأنواع في عدة آيات في القرآن، وهذه الشبهة أو هذا العمل الذي كانوا يعملونه من إشراك الصالحين جاء في هذه الأمة وورثته هذه الأمة من الجاهليين، والجاهليون حين عبدوا الصالحين يعني أنهم توجهوا إليهم، تارة يستغيثون بهم، تارة يذبحون لهم، تارة ينذرون لهم، تارة يستشفعون بهم، تارة يجعلونهم وسائط ونحو ذلك من أفعالهم، وهذه الأعمال حكم عليهم الله جل وعلا أنهم مشركون، وهذه هي –أعني الأفعال- هي عين ما حصل وحدث في هذه الأمة بعد القرون المفضلة.(20/15)
هل كان أهل الجاهلية يعملون تلك الأعمال عن جهل أم عن علم؟ بل كانوا يفعلونها عن علم، وكانوا يعلمون حججا لذلك، ولهذا جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، قال جل وعلا عنهم ?فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ?[غافر:83]، فأهل الجاهلية عندهم علوم ولكنها مضادة لعلم الأنبياء، مضادة للعلم الذي أنزله الله جل وعلا، قال جل وعلا (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ)، فعندهم علم ولكنه ليس بنافع، ولهذا من حاجّ أهل التوحيد في الأزمان المتأخرة، فإنما يحاجهم بشبه مثل الشبه التي كانت عند أهل الجاهلية وواجهوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أعظمها ما قال الشيخ رحمه الله تعالى في قوله تعالى ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]. من أعظمها مسألة الشفاعة، طلب الزلفى إلى الله جل وعلا بأولئك الصالحين، فتجد أن منهم طائفة يقولون نحن لا نتوجه إلى الأولياء، إلى الصالحين، إلى الأنبياء، لأجل أنهم يستقلون بالنفع أو بدفع الضر، وإنما نتخذهم شفعاء عند الله جل وعلا؛ لأجل ما لهم من المقام الرفيع عند الله جل وعلا وهذا الأصل هو الذي يفعله المتأخرون، المشركون من هذه الأمة حيث إنهم يزعمون أنهم ما اتخذوا أولئك إلا واسطة، ويسمّون تلك الواسطة وذلك العمل يسمونه توسلا، والتوسل شيء واتخاذ الواسطة شيء آخر، عندهم شبه وحجج ولكنها داحضة كما قال الله جل وعلا ?وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ?[غافر:5]، وهم تارة يعبدون عبادة مستقلة؛ يعني بعضهم يتوجه إلى الأولياء، إلى الصالحين، إلى اللات، إلى العزى، يتوجهون لأجل أنهم عُبَّاد لهم منزلة عند الله، فيصرفون بعض العبادات لهم استقلالا، وتارة يتخذونهم واسطة.(20/16)
فإذن هذه المسألة هي أعظم المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية، فإن الله جل وعلا أمره بالإخلاص، وأن يأمر الناس بالإخلاص، فقال جل وعلا آمرا نبيه ?قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ?[الزمر:14-15] وقال جل وعلا ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ?[البينة:5]، وقال جل وعلا ?قُلْ [إِنِّي] ([4]) أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11)وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ?[الزمر:11-12]، وهكذا في آيات كثيرة يأمر الله جل وعلا بإخلاص الدين له، ونبذ الشرك، والتوجه إليه وحده دونما سواه، خالفوا ذلك فأشركوا.
ما معنى الشرك؟ أنهم جعلوا لله جل وعلا ندا في العبادة، وهذا هو الشرك الأكبر، والنِدّ هو الشبيه والنظير كما حسان في هجائه، قال:
أتهجوه ولستَ له بندٍّ فشركما لخيركما الفداء
يعني لست له بمثيل ولا نظير، فمن جعل أحدا مع الله مثيلا ونظيرا لله في العبادة والتوجه فقد سواه بالله جل وعلا، وقد أشرك بذلك الشرك الذي حكم الله جل وعلا به على المشركين بأنهم من أهل النار وأنهم حُرِّمَت عليهم الجنة.(20/17)
قال جل وعلا مخبرا عن احتجاج المشركين وقولهم لآلهتهم في النار، قال جل وعلا في سورة الشعراء ?تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:97-98]، فأخبروا عن أنفسهم أنهم سووا آلهتهم برب العالمين، وهذه التسوية تسوية في محبة العبادة، تسوية في العبادة؛ لأنهم توجهوا إلى الله وتوجهوا إلى غيره، عبدوا الله وعبدوا غيره، صرفوا بعض أنواع العبادة لله وصرفوا بعضا آخرا لغير الله، فهذا معنى التسوية وهو معنى اتخاذ النِّد، أنهم جعلوا لله عبادة وجعلوا لغيره عبادة أيضا، ولهذا استنكف المشركون لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلمة التوحيد لا إله إلا الله، ما ذا قالوا؟ ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
واليوم إذا رأيت فإنه قد دخل هذا الأمر يعني هذا النوع من الشرك في المسلمين بعد مضي نحوٍ من ثلاثة قرون شيئا فشيئا.(20/18)
وأصل البلاء الذي من أجله دخل هذا النوع من الشرك هو أنه فسرت كلمة التوحيد بأنها دالة على الربوبية، كما عليه أهل الكلام ومن تبعهم، لم يجعلوا كلمة التوحيد دالة على إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وإنما جعلوها دالة على إفراد الله جل وعلا بالربوبية، ولهذا تجد في كتب أهل الكلام أنهم قالوا الإله هو القادر على الاختراع، الإله ما عندهم؟ القادر على الاختراع. لا إله إلا الله عند أهل الكلام معناها: لا قادر على الاختراع -يعني على الخلق- إلا الله. وهذا المعنى يقر به أهل الجاهلية ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[الزخرف:87]، كانوا يوقنون بأن الله جل وعلا هو القادر على الاختراع وحده وأنّ غيره لا يخلق شيئا، لهذا احتج عليهم ربنا جل وعلا بقوله ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191] لأنهم يقرون بتلك المقدمة.(20/19)
كذلك أخذ هذا المعنى طوائف من المبتدعة من جنس الأشاعرة فقرروه في كتبهم، قرروه في كتبهم، فيقول أحد من متأخريهم وهو السَّنوسي في رسالته التي يسمونها أم البراهين، يقول فيها في معنى كلمة التوحيد يقول: فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، فمعنى الإله –هذا كلامه- هوالمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه. لما درس الناس مثل هذه صار توحيد العبادة عندهم ليس هو معنى كلمة التوحيد، انحرف الناس شيئا فشيئا حتى اتخذوا آلهة من دون الله، يظنون أن التعلق بأرواح الموتى وسؤال من له جاه عند الله -على حَسَب ظنهم– سؤاله ليس من الشرك، وهذا أصل البلاء الذي دخل في المسلمين، شيئا فشيئا دخل حتى عُظمت القبور وأُشيدت وعُظم أصحابها، حتى أُعتقد أن لهم بعض خصائص الإلهية، حتى وصل الأمر في عهد الشيخ الإمام محمد رحمه الله تعالى إلى أنهم كانوا يعتقدون فيهم أنهم ينفعون ويضرون استقلالا والعياذ بالله، بل كانوا يشركون بهم في الرخاء وفي الشدة.(20/20)
لهذا قال الشيخ في قواعده الأربع: أن مشركي أهل زماننا أعظم شركا من مشركي العرب ذلك لأن أولئك كانوا يشركون في الرخاء وأما في الشدة فكانوا يوحدون الله ويخلصون الدين له كما قال جل وعلا عنهم ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65]. وأما أهل هذا الزمان فإنهم يشركون في السراء وفي الضراء كما قال أحد علماء الدعوة حيث ناقش رجلا في تعلق طائفة من الناس بابن عباس في الطائف، كما كان قبل الدعوة كانوا يتعلقون به ويجعلونه إلها لهم، ويصرفون له حقوق الله جل وعلا، يجعلونه مستغاثا به، مذبوحا له، منذورا له، مدعوا، قال له: إن ابن عباس –يقول هذا أحد علماء الدعوة، يقول للآخر- إنّ أهل الطائف -يعني من كان منهم على هذا الاعتقاد- يتوجهون إلى ابن عباس يعرفون ابن عباس ولا يعرفون الله، فقال الرجل الآخر: معرفتهم بابن عباس تكفي. وهذا أمر قد لا يظهر لكثير من الناشئة في البلاد، لكن من عرف ما عليه الخرافيون في بعض البقاع في هذه البلاد وفي عيرها من بلاد المسلمين، يجد أن هذا الأمر شائع منتشر، بل إنهم يزيدون في أنهم يعتقدون أن بعض الأولياء لهم الضر والنفع الاستقلالي.
هذه المسألة ذكرها الشيخ أول مسألة لعظم شأنها، وهي الزبدة لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخلاص الدين له، وبتوحيده جل وعلا وعدم الإشراك به، ونبذ الشرك الذي كان يفعله أهل الجاهلية.(20/21)
قال رحمه الله: إن من فعل ذلك فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله حرم عليه الجنة ومأواه النار كما قال جل وعلا مخبرا عن قول عيسى بن مريم عليه السلام ?وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ [رَبِّي]([5]) وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].
إذن هذه المسألة هي أعظم المسائل، إذا كانت هي أعظم المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية فكون الدعوة تُجعل مركِّزة عليها معتنية بها أتم العناية يكون ذلك من وِراثة دعوة المصطفي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنْ هذه المسألة من أعظم المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية، فإذا كانت كذلك فغيرها من المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية هي دونها في المرتبة، فعليه يكون ورثة الأنبياء، ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من ورثوا عنه العلم النافع إنما يدعون أول ما يدعون ويهتمون أكثر ما يهتمون به بهذه المسألة العظيمة وهي أن ينقضوا الناس من النار وأن يجعلوهم ممن يرجى له الجنة، وذلك بنهيهم عن الشرك وبتوضيح مسألة التوحيد أتم إيضاح ومعنى الشهادة لله جل وعلا بالوحدانية وما فيها من النفي والإثبات ومعنى الكفر بالطاغوت ونحو ذلك من أصول التوحيد.(20/22)
إذا كان كذلك، فتعلم أن من توجه في دعوته بغير الاهتمام بهذه المسألة العظيمة فإنما اهتم بأمر لم يكن اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به أولا، ولهذا جاء في حديث معاذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له «إنك تأتي أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله» كما في صحيح البخاري في كتاب التوحيد، أو في الرواية المشهورة«إلى أن شعادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» أو«إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله».
فهذه المسألة هي أعظم المسائل، وعليها يجب أن تكون الدعوة مركزة مهتما بها؛ لأنها هي التي بها يتفرق الناس إلى مسلم وكافر، وأما غيرها من المسائل فهو دونها بكثير.
قال الشيخ رحمه الله: من أجل هذه المسألة تفرق الناس إلى مسلم وكافر وهذا يعني أن من أشرك بالله جل وعلا صالحا أو غير صالح فإنه كافر بالله، كافر، لا نتوان عن إطلاق الشرك عليه، ولا إطلاق الكفر عليه؛ لأنه ما دام أنه مشرك بالله جل وعلا، فعل الشرك، فإنه يطلق عليه أنه مشرك كافر، لكن الشرك الذي يُطلق عليه لا تستباح به أمواله ولا يستباح به دمه، بل ذلك موقوف على البيان، موقوف على الدعوة، لابد من البيان والدعوة قبل الاستباحة، لكن الحكم عليه، يُحكم عليه بأنه مشرك وتُرتَّب عليه أحكام الكفار في الدنيا، ولكن لا يشهد عليه بأحكام الكفار في الآخرة؛ يعني بأنه من أهل النار حتى نعلم أنه رد الحجة الرسالية بعد بيانها له بعد أن أقامها عليه أهل العلم، أو أنه قاتل تحت راية الكفر.
هذه هي المسألة الأولى، وطريقتنا في هذا الشرح ذكر إيضاح لهذه المسألة بما يتم معه فهم مرادات المؤلف رحمه الله تعالى، وليست مجال تقرير المسألة بكل ما يتعلق بها من فروع؛ لأن المقام يضيق عن ذلك، وموطن بيان هذه المسائل كتاب التوحيد وغيره من الكتب التي أُلفت في هذا الشأن. ([6])
[المتن](20/23)
(المسألة الثانية) أنهم متفرقون في دينهم كما قال تعالى ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([7]) وكذلك في دنياهم ويرون أنّ ذلك هو الصواب، فأتى بالاجتماع في الدين بقوله ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ?[الأنعام:159]، ونهانا عن مشابهتهم بقوله ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ?[آل عمران:105]، ونهانا عن التفرق في الدنيا بقوله ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103].
[الشرح](20/24)
هذه المسألة الثانية وَصَفَ فيها أهل الجاهلية بأنهم متفرقون في دينهم ودنياهم، عندهم العزة والكرامة في التفرق؛ لأنه يدل على استقلال كل بما عنده، وأنه لا يتبع أحدا، متفرقون في دينهم، كلٌّ له دين، بعضهم يعبد الملائكة، بعضهم يعبد الصالحين، بعضهم ينكر البعث، بعضهم يجحد الرسالة بعضهم يؤله عيسى، بعضهم يؤَلِّه عزيرا، ونحو ذلك، في دينهم لم يجتمعوا، كذلك في دنياهم، فبين الله جل وعلا أنهم شرع لنا من الدين ما نجتمع بيه في الدنيا، قال جل وعلا ? شَرَعَ لَكُمْ مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في شرح هذه الآية في قاعدة الجماعة والفرقة: إن الأصل الأصيل الذي دعا إليه الأنبياء جميعا وهو الدين المشترك والإيمان المشترك هو الاجتماع على دين حق وعدم التفرق في ذلك. وأكد ذلك جل وعلا بقوله ?وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ?،([8]) فذكر جل وعلا ما وصف به أمر المرسلين بقوله (وَصَّيْنَا) وما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، قال (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) فهذه الآية فيها الأمر بالاجتماع، (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وإقامة الدين بالاجتماع على التوحيد؛ يعني على ما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأن لا يكون في البلاد شرك، وأن لا يُقر الشرك وأن لا يكون هناك ما يحرم الأصل الدين، لأنه إذا تفرق الناس في أصل تفرقوا في الدنيا ولا شك، فأهل الشرك لما تفرقوا في الدين تفرقوا في الدنيا، فالتفرق في الدين يورث التفرق في الدنيا، وكذلك التفرق في الدنيا –يعني بعدم(20/25)
الاجتماع كما سنوضحه – يورث التفرق في الدين، فأمر الله جل وعلا بعدم التفرق في الدين وعدم التفرق في الدنيا؛ يعني بالأمر بالاجتماع والائتلاف في الأبدان والاجتماع في الدين، فهما نوعان من الاجتماع؛ اجتماع في الأديان واجتماع في الأبدان وأحدهما ملازم في الآخر، لهذا قال أهل العلم: الجماعة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» ونحو ذلك من النصوص التي فيها ذكر الجماعة هو ما يكون من مجموع الأمرين، اجتماع في الدين واجتماع في الدنيا، اجتماع في الأبدان واجتماع في الدين، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف أهل الجاهلية في أنهم متفرقون في الدين فأتى بدين واحد يخضع له الجميع، كذلك أمره بالاجتماع في الدنيا وأن يقروا لولاتهم وأن لا يخرجوا عليهم كما سيأتي إيضاحه في المسألة الثالثة.
قال جل وعلا ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ?[آل عمران:105] أنزلها الله جل وعلا على صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كون الذين كانوا قبل من اليهود والنصارى افترقوا على أكثر من سبعين فرقة؛ اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فنهانا الله جل وعلا عن التفرق في الدين بقوله (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) يعني أنه جل وعلا أمر بالاجتماع على التوحيد والاعتصام بحبل الله، وأن لا نتفرق في الدين وأن نجتمع على الكلمة العظمى كلمة التوحيد، وأن لا يحدث فيما بيننا حدث مخالف لأصل الإسلام ولا نخالف عما أنزل الله على رسوله.(20/26)
الآية الأخرى في قوله ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103] فهذه الآية في الاجتماع في الدنيا، فإن الناس إذا تفرقوا في الدنيا؛ يعني تفرق بعضهم عن بعض بأن أطاع بعضهم طائفة وأطاع الآخرون طائفة أخرى وحصل هذا التفرق في الأبدان في الدنيا نتج عنه جزما التفرق في الدين ويبدأ صغيرا ثم يكون كبيرا، فكلما تفرق الناس في الدين نتج عنه فرقة في الأبدان، وكلما تفرقوا في الأبدان -يعني بأنْ يكون لكل طائفة مطاع لا يقرون بطاعة كبرائهم من ولاة الأمر- فإنهم ينتج عن ذلك تفرقهم في دينهم فأمر الله جل وعلا بقوله (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، (لَا تَفَرَّقُوا) في أبدانكم، (لَا تَفَرَّقُوا) عن من ولاه جل وعلا أمركم، لهذا جاء في الحديث -الذي سيأتي إن شاء الله تعالى- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنّ اللّهَ يَرْضَىَ لَكُمْ ثَلاَثاً أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً, وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا, وأن تُناصِحوا من ولاه الله أمركم» كان أهل الجاهلية يعتزون بالتفرق، ويعتبرون الطاعة مذلة ومهانة كما سيأتي في المسألة الثالثة، وهاتان المسألتان متصلتان ببعض، فإن أهل الجاهلية لمّا لم يطيعوا ولاتهم مع كونهم مشركين تفرقوا في دنياهم لأن إحدى المسألتين متصلة بالأخرى، فأتى الله جل وعلا بالاجتماع في الأمرين، وإنما تتم الشريعة بالأمرين جميعا، اجتماع في الدين بأن لا نتفرق فيه، واجتماع في الدنيا بأن لا يكون في المسلمين أحزاب ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([9])، ولهذا كلما نشأ في الإسلام ناشئة تُفَرِّقُ عن الجماعة الأولى وعن النهج الأصل، فإن ذلك يعد من التفرق والاختلاف، إذا كان ذلك عن أراء مستقلة وعن دين مستقل في الأصول، وهذا الذي حدث في الأمة فافترقت إلى ثلاث وسبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار(20/27)
وواحدة في الجنة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة»، يعني التي اجتمعت في دينها واجتمعت في دنياها.
[المتن]
(المسألة الثالثة) أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة له ذل ومهانة، فخالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد.
وهذه الثلاث التي فيه جمع بينها فيما ذكر عنه في الصحيحين أنه قال: « إنّ اللّهَ يَرْضَىَ لَكُمْ ثَلاَثاً أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً, وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» ولم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلا بسب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها.
[الشرح](20/28)
رحمه الله الشيخ رحمة واسعة، لم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا بسبب الإخلال في هذه الثلاث أو بعضها، هذه الثالثة أهل الجاهلية كانوا فوضى، لا يقرون بولاية لأحد ولا يرضون ذلك؛ لأنهم يعتقدون أن الطاعة لبشر مثلهم أنها ذل ومهانة، كيف يطيع ويسمع له وهو مثله؟ بما فضل عليه؟ ويعتبرون عدم الطاعة دليل العزة ودليل الكرامة ودليل الرفعة، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف أهل الجاهلية بأن أمر بطاعة ولاة الأمر يعني المسلمين في غير المعصية، أمر بطاعتهم في المعروف، وأن لا يُخرج عليهم وأن لا يُفَرَّق الناس من حولهم، ولهذا كان أول من خالف هذا الأصل الخوارج حيث إنهم خرجوا عن ولاية وخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بآراء اجتهدوا فيها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالطاعة قال «أطع», قال «أسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك», وقال في الحديث الآخر حينما سأله: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا». «إنه يكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ولكن من رضي وتابع». قال: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا.» وفي رواية «ما أقاموا فيكم الصلاة.»، وفي حديث آخر قال «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان.»، فما دام أن الوِلاية يصح عليها اسم الإسلام، ولم تنتقل عنه إلى الكفر ولم يُحكم بردتها، فالطاعة والسمع واجبان، وتجميع الناس حولها ما دام اسم الإسلام باقيا واجب؛ لأنه ما يحصل للناس من الاجتماع ولو كان هناك نقص في بعض أمور الدين فإنه ما يحصل من الاجتماع أضعاف أَضعاف ما يحصل من المصلحة من التفرق، وأنتم إذا نظرتم إلى تاريخ المسلمين، وجدتم أن هذا الأصل حزم في مواضع وكلما ظن الناس أنهم بخروجهم على الوالي المسلم أنه سينتجون خيرا فإنه ترتد عليهم ولا يكون ذلك خير، كما قال عليه الصلاة والسلام «لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» خرجوا على بني أمية ولم يقروا(20/29)
لهم، وقامت دولة بني العباس ومع ذلك لم تكن دولة بني العباس كدولة بني أمية، وهكذا في نزول من الزمان، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة المشركين في ذلك، وقد كان الواحد من المشركين ينصح بالاجتماع وينهى عن التفرق فقال أحد منهم:
لا يصلح الناس فوض لا صَراط لهم ولا صَراط إذا جُهالهم سادوا
كانوا يأمرون بأن يرجعوا إلى كبرائهم، ولكن ما كانوا يطيعون، بل كانت الجزيرة العربية فيها من القيادات والاختلاف قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يحصى ولا تغيبن عنكم الحروب الدائرة في الجاهلية وأسباب ذلك.
إذن فهذا الأصل من الأصول العظيمة، قال رحمه الله: وأبدى فيه –يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -- أبدى فيه وأعاد وغلظ في ذلك، من التغليظ أنه قال «اسمع وأطع ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك» تسمع وتطيع لم؟ لأن أخذ المال وضرب الظهر هذا مفسدته عليك وستلقى ربك أنت وهو ويقتص لك منه، لكنك إذا لم تطع تعدى ذلك إلى الناس فصار الاختلاف وصارت الفرقة ومعها لا يكون الاجتماع في الدين.
في هذه الجزيرة قبل دعوة الشيخ رحمه الله تعالى كان الناس متفرقون كل في جهة، كان في شرق الجزيرة العربية كانوا يدينون للولاية العثمانية، وكان في غربها يدينون [للأشراف] وفي وسط الجزيرة يعني في نجد لم تكن تحت ولاية؛ إنما كان لكل بلد أمير ولكل بلد والي يطيعه أصحابه وكان في ذلك من القتال ما تعلمون حتى إنه في يوم واحد في بعض القرى القريبة من الرياض في يوم واحد قُتل أربعة؛ كان أمير فقتله واحد تولى الإمارة، وقتله ثالث وتولى الإمارة، وقتله رابع وتولى الإمارة في يوم واحد، وهي كلها قرى لا تزيد القرية عن مئات إن كثرت.(20/30)
فأنعم الله جل وعلا على هذه البلاد بدعوة التوحيد، واجتمع الناس في دينهم وفي دنياهم ولا شك أن التفرق في دنيا سيورث التفرق في الدين والتفرق في الدين يورث التفرق في الدنيا وإنما يحصل –كما قال الشيخ- يحصل الفساد في الناس من الإخلال في أحد هذه الثلاث أو بها جميعا؛ إذا أشركوا وقع الشرك، إذا لم يجتمعوا في الدين ولم يجتمعوا في الدنيا، إذا لم يطيعوا ولاة أمورهم ولم يناصحوهم فإنه يقع الافتراق في الدين والدنيا، وهذه الثلاث أصول عظيمة، هذه الثلاث كما ذكر جمعها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله « إنّ اللّهَ يَرْضَىَ لَكُمْ ثَلاَثاً أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً, وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» وهي مسائل عظيمة أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا دائما فيما بيَّنه إمام هذه الدعوة من المسائل العظيمة التي نحتاج إليها ولا شك في كل وقت في هذا الزمان، ومذاكرتها والتذكير بها ضروري يعني حبذا لو يكون في المجالس أن تؤخذ مسألة، مسألة، من هذه المسائل ويُقرأ شرحها للألوسي أو لغيره، وينظر فيها ويتأمل لأنها أشد ما تكون بحاجة إليها كما قال في المقدمة قال: لا غنى للمسلم عن معرفتها.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينور قلوبنا جميعا، وأن يجعلنا متبعين لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعلمنا العلم النافع وأن يرزقنا الدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، وأسأله جل وعلا أن يجعل آخر أيامنا خيرا من أولها وأن يجعل أيامنا في قرب منه وازدياد وزلفى إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الثبات إلى الممات والاستعداد ليوم لقاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[الأسئلة](20/31)
1/ يقول: ما رأيكم فيمن يقول: إن على العالم أن يعلم منهج السلف الصالح دون التطرق إلى الفرق الضالة وأصحاب المناهج الضالة ألا يدخل في مقولة عمر رضي الله عنه تنقض عرى الإسلام عروة عروة؟
والجواب: أن هذا الكلام غير دقيق وليس بصحيح بل هو غلط؛ لأن الرد على المخالف في دين الإسلام، الرد على المخالف من أصول هذا الدين؛ لأن الله جل وعلا هو أول من ردّ، وأعظم من رد على المخالفين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي حاجهم بنفسه جل وعلا، فالرد على المخالفين من أعظم القربات، يقول شيخ الإسلام: وهو من أعظم أنواع الجهاد. وهذا صحيح وقد يفوق جهاد الأعداء الخارجيين؛ يعني أن مجاهدة العدو الداخل أعظم من مجاهدة العدو الخارج؛ لأن العدو الخارج بينةٌ عداوته أما العدو الداخل فهذا قد يخفى، ومن أعظم العداوات أن ينشأ في المسلمين من يدعوهم إلى غير منهج السلف لأن هذا -كالبدع والشركيات والمناهج الضالة من منحرفة كالرافضة والخوارج ونحوها- فإن هذا لا شك أنه الرد على هؤلاء من أعظم القربات، الخرافيين الصوفيين أهل الطرق ونحو ذلك كل هؤلاء الرد عليهم من أفضل القربات وأعظم الطاعات، وهو نوع من الجهاد لا بد منه قال جل وعلا ?فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا?[الفرقان:52] ومجاهدهم بالقرآن وبالعلم من أعظم أنواع الجهاد، أما أن يتركوا ويسكت عنهم، فمتى يعرف الحق؟ إذا سكت العالم على بيان ضلال الضالين، متى يعرف الحق؟ لأننا يجب علينا أن نرعى الدين، الدين علينا أهم من الأشخاص فإذا كان الرد على فلان يحمي حمى الدين –هذا المخالف- ولا مفسدة راجحة في الرد؛ من سفك دماء ونحوه، فهذا يتعين الرد، فالرد على المخالفين من أصول الإسلام ولا شك.
فقوله أنه عليه أن يبين منهج السلف دون التطرق إلى الفرق الضالة كلام غير دقيق وغير صحيح.
أحد الإخوان يطلب أن يفرغ الدرس بعد تسجيله.
هذا يكون إن شاء الله تعالى.(20/32)
2/ يسأل عن آية آل عمران هل هي في الدين أو في الدنيا؟
وهي قوله تعالى ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُو?[آل عمران:103].
لا هي في الدنيا، لم؟ لأنه قال ?وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ?[آل عمران:103] ما كان الرجل من الأوس مع الآخر من الخزرج متآلفان متحابان، ما كان يرضى الرجل الذي في المدينة مثلا من الأوس أو الخزرج أن يأتيه واحد من قريش ويسكن مكانه، ما يرضى, لو يأتي ويفعله ربما فعل به وفعل، كان بينهم عداوات ما بينهم تآلف ولا تحاب، فأمر الله جل وعلا بأن نعتصم بحبل الله جميعا ولا نتفرق؛ يعني في الدنيا.
3/ ذُكر في الكتاب أن هذه المسألة -يعني المسالة الأولى- شرع من اجلها الجهاد فأرجو توضيح ذلك.
لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جاهد لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وليكون الدين كله لله جل وعلا، كما قال?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ?[الأنفال:39] وفي الآية الأخرى ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ?[البقرة:193]، يعني جميعا، وقال جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208]، فالمأمور به العباد أن يخلصوا الدين، إذا ما أخلصوا الدين لله جل وعلا فإنهم يجاهَدون جهاد كفر كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أجل هذه المسألة جُوهد المشركون واُستبيحت دماؤهم وأموالهم، ومن اجلها تفرق الناس بين مسلم وكافر فالدعاء بأي شيء أبيحت؟ لأجل الكفر، دماء المشركين أبيحت لأجل أنهم مشركون لأجل أنهم يشركون مع الله آلهة أخرى، فهذه المسألة هي التي يجاهد من أجلها لأنها أعظم ما يجاهد لأجله.(20/33)
4/ بالنسبة لقولكم في الجاهلية بالنسبة للزمان المطلق، وتعليقكم على عدم دقة قول بجاهلية القرن العشرين. -أنا ما قلت أن القول غير دقيق أنا قلت أنه غلط من أصله- ألا تحمل على أن معظم الناس اليوم في جاهلية؟
هذا أيضا غلط آخر، الشيخ رحمه الله تعالى، الشيخ محمد في وقته الذي الجاهلية فيه أكثر من هذا الزمان، قال: ولا أقول إن أكثر الناس على الشرك، وأنّ الناس ارتدوا إلا طائفة كذا وكذا. وهذا الذي نعتقده، بخلاف ما ينقل عن الدعوة في بعض الأمصار، أنهم يعتقدون أن من هم خلافهم أنهم مشركون، يقول الشيخ رحمه الله تعالى: فإنني لم أكفر إلا بما أجمع عليه، وأكثر الأمة والحمد لله ليس كذلك. فقوله هنا (ألا تحمل على أن معظم الناس اليوم في جاهلية) هذا كلام ليس بصحيح، قد يكون في بعضهم جاهلية لكن معظم الناس في جاهلية هذا غير دقيق؛ لأن قوله (في جاهلية) يعني جاهلية كاملة؛ يعني الكفر، وهذا غلط؛ لأنه لو قال الأخ: على أن معظم الناس عندهم خصال من الجاهلية لكان صحيحا، أما أن يقال في جاهلية اليوم فهذا تعبير لا يستعمله أهل العلم.
5/ يقال عندما يتعدى الإمام بالضرب وأخذ المال يُصبر عليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لو مسّ العِرضَ فهل يُصبر عليه أيضا؟
قوله هنا (لو مسَّ العِرض) هذه مجملة تحتاج إلى تفصيل.
مسُّ العِرض إذا كان بالتعدي على العرض مباشرة فإنه يُقاتِل المرء دون عِرضه؛ يعني أتى والي من الولاة ودخل يريد أن يأخذ زوجتك أو يتعدى عليها تقاتل دون ذلك، فإن قُتلت دون عرضِك فأنت شهيد.(20/34)
أما مسّ العرض بمعنى أن يكون هناك مثل ما يكون في مثل هذا الزمان الإعلام ونحوه الذي يفسد النساء، ويُفسد الأعراض فهذا لاشك أنه لا يدخل ضمن الأول؛ لأنّ هذا ليس متعينا ولا موجها لواحد بعينه، وإنما عليه أن يتحصّن بالدين، وهذا من جنس الفتن ومن جنس أنواع البلاء والمعاصي التي تنتشر في الناس بأمر الولاة ونحوهم، وهذا لا يخرج به المرء عن الإسلام، فكيف إذن لا يُصبر عليه؟
فإذن العبارات المجملة ينتبه أصحابها.
6/ هذه ملاحظة جيدة: نلاحظ بعض الطبعات فيها زيادة وحذف ونقص.
هذا صحيح طبعات الكتاب بعضها يزيد وبعضها ينقص، بعضها فيه اختلاف في بعض الألفاظ بل أن بعض الطبعات في ذكر قريب من مائة مسألة تزيد قليلا، وبعضها فيها مائة وعشرون مسألة أو تزيد، فعليه أن يقبل بين ما نقرأ وما عنده ويضيف.
7/ نرجو توضيح ما إذا كان المصر على كفرٍ من العُبّاد الجاهليين دعاة الصالحين والأولياء، بعد أن بين له الأمر وما هو عليه ثم أقر وأصر على ما هو عليه، أو أنه قاتل تحت راية كفر، هل تنطبق عليه أحكام الكفار في الآخرة أم يبقى كمن لم يبين له؟
الجواب: أن من قاتل تحت راية كفرية معتقدا صحة ما قاتل لأجله ولو لم يصله البيان بمفرده فإنه إذا مات يشهد عليه بالنار، كما فعل الصحابة؛ الصديق ومن معه مع المرتدين لما أسروا من أسروا قال ما تركوهم حتى يشهدوا بأن قتلاهم في النار، وأن قتلى المسلمين في الجنة، فمن قاتل تحت راية كفر غير مكره معتقد صحة ما قاتل له ولو لم يبين له بمفرده فإنه يكون كافرا ظاهرا وباطنا، يُشهد عليه بالنار، أما إذا خرج معهم ولم يقاتل ونحو ذلك فهذا ليس له هذا الحكم.
8/ أيضا هذا سؤال جيد يقول: هل كل المسائل التي ذكرها المؤلف مخرجة من الملة؟(20/35)
الجواب: لا، هذه المسائل اشتملت على ما هو شرك أكبر، وما هو كفر، وما هو شرك أصغر، وما هو بدعة وما هو محرم. اشتملت على هذه الأنواع سيأتينا إن شاء الله تعالى كل هذه الأنواع، بعضها مثل التقليد في المسألة الرابعة قال: إن دينهم مبني على أمور أعظمها التقليد، التقليد على النحو ذاك محرم، قد يكون شركا أكبر، إذا كان تقليدا في التحليل والتحريم ونحوه. إذن هذه المسائل لا تأخذ المسألة تقول أنها شرك لأنه ذكرها الشيخ في مسائل الجاهلية، لا، هذه خصال كان عليها أهل الجاهلية بعضها يكون شرك وبعضها ليس كذلك.
9/ هذا سؤال الحقيقة كثيرا ما يرد ومع كثرة إيضاحه وبيانه ما زال يورد، فلا أدري سبب إثارته دائما، يقول: مارأيك بمن قال –دائما في الأسئلة تحاولوا أنكم تسألون عن القول لكن بمن قال نتركه- ما رأيك عن قول من قال إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله خرج على العثمانيين، وكيف نرد عليهم؟
الجواب من جهتين:
الجهة الأولى: أنه كما ذكرت لكم نَجْد في وقت الشيخ لم تكن تحت ولاية العثمانيين، بل إن نجدا من سنة 260 هـ وهي لم تخضع لوِلاية، لا ولاية العباسيين لا ولايات أخر، كانت مستقلة، تسلط عليها بعض الخوارج من ذلك الوقت وطائفة من أهل اليمن ونحوها، يعني استقلت لم تدخل تحت طاعة من ذلك الوقت، فكانوا في تفرق فلم يُجبر أهلها ولم يخضعوا لبيعة وإنما كانوا مستقلين، لما ظهرت الدولة العثمانية كانت نجد كل بلد لها أميرها، فما خضعوا تحت الخلافة العثمانية في أول ما قامت لأنه أول ما قامت كانت على إسلام صحيح بعد ذلك انحرفت.
هذا لما أتى الشيخ وهم على هذا النحو كل بلد لها أمير، ما يقرون بطاعة لبني عثمان بخلاف الأحساء والمنطقة الشرقية وهؤلاء يقرون للولاية للعثمانيين، والوالي على الأحساء ونحوها تحت ولايته، كذلك [الأشراف] ونحوهم كان عندهم نوع استقلال لكنهم تحت الولاية العامة، أما نجد كانت مستقلة، هذا من جهة.(20/36)
الجهة الثانية: أن في وقت الشيخ رحمه الله تعالى كان العثمانيون يدعون إلى الشرك الأكبر وإلى الطرق الصوفية ويحببون ذلك وينفقون على القبور وعلى عبادتها ينفقون عليها الأموال، فمن هذه الجهة لو كانت نجد داخلة تحت الولاية لما كان لهم طاعة لأنهم دعوا إلى الشرك وأقروه في عهودهم الأخيرة، أما في المائتين سنة الأولى (250 سنة الأولى) كانوا على منهج، يعني كانوا في الجملة جيدين، لكن لما في كان في سنة 1100 تقريبا وما بعدها لما كثر الشرك في المسلمين هم كانوا ممن يؤيدون ذلك تأييدا وينفقون عليه، وقد وجد من أقوال الخلفاء العثمانيين –حسب التسمية الشائعة- ولاة بني عثمان وجد منهم من يكتب أدعية في استغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - أو استغاثة بالأولياء ونحو ذلك.
فالجهة الأولى هي المعتمدة التي ذكرتُ لك، والثانية فرع عنه.
10/ هل أن نقول أن أهل الجاهلية الأولين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون أنهم على باطل؟
هذا [ليس] بصحيح كما يقول إمام الدعوة ليس كفر من كفر منهم عن عناد واستكبار بل بعضهم كفر عن تقليد؛ تقليد الأكابر وبعضهم من أجل عدم العلم، قال جل وعلا ? بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]. فلم يكونوا يعلمون أنهم على باطل، ذلك القلة منهم كانوا يعلمون لكنهم كانوا مستكبرين لكن الأكثرون كانوا لا يعلمون بين لهم البيان العام، أزل القرآن، دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس فمن صد فهو كافر مشرك.
نختم بهذا ونسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ([10])
[المتن](20/37)
(المسألة الثامنة) الاستدلال على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء كقوله ?قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ?[الشعراء:111]، وقوله ?أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا?[الأنعام:53] فرده الله بقوله ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ?[الأنعام:53]
(المسألة التاسعة) الإقتداء بفسقة العلماء فأتى بقوله ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[التوبة:34]، وبقوله ?لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ?[المائدة:77].
(المسألة العاشرة) الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حفظهم كقوله ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأَرِنَا الباطل باطلا ومُنَّ عليما باجتنابه، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، نعوذ بك من شرور أنفسنا، نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
في المعنى العام للمسائل التي قبلها وذلك أن المسائل التي قبلها كانت في ذكر الاستدلال؛ استدلال المشركين وأهل الجاهلية على ما هم عليه من الباطل بأنواع من الأدلة.
فذكر من تلك الأدلة أنهم يستدلون بالأثر على الصواب، وأنّ الشيء يعرف بأنه حق إذا كان أتباعه هم الأكثرين.
وذكر من أدلتهم أنهم يحتجون بالأولين والمتقدمين.(20/38)
وذكر من استدلالاتهم أنهم استدلوا بقوم أعطوا قوى، أعطوا أفهاما، وأعطوا علوما، يستدلون بهم وبأحوالهم على بيان صلاح ما هم عليه وبطلان ما جاءت به المرسلون.
وهذه المسألة هي تلك المسائل، وهي أنهم يستدلون على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، يستدلون على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، وهذا تنوع من الأدلة التي يستدل بها أهل الجاهلية في الماضي، ويستدل بها كل من كان فيه شعبة من شعب أهل الجاهلية في كل زمان ومكان، يستدلون على بطلان أمر من الأمور بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، وذلك أنه في ظاهر أفهامهم أن أهل الشرف والسيادة وأهل الرفعة والريادة وأهل الوجاهة والمال هم أحرى بأن يكونوا أوصل للحق وأعرف للحق وأحسن استدلالا عليه، فكيف يكون الضعفاء الذين هم أضعف عقولا، وأضعف أفهاما عندهم، كيف يصلون إلى الحق دونهم؟ فاستدلوا بذلك على أن أولئك الضعفاء عقولهم ليست صائبة، وأفهامهم ليست مستنيرة، وأنهم هم أهل الأفهام وأهل العقول، وإذا كان كذلك تم لهم الدليل بأن جاءت به المرسلون إنما اقتنع به الذين ليس لهم عقول صائبة، وليس لهم عقول مستنيرة، وليس لهم أفهام جيدة وقرائح قوية، فاستدل ذلك على بطلانه، إذْ لم يقتنع به أهل الفهم، يقنع به أهل العلو، لم يقتنع به أهل الجاه، أهل المال، الرؤساء، الأشراف، الملأ، ونحو ذلك.(20/39)
وهذا الاستدلال في أصله صحيح شرعا، ولكنهم هم استدلوا به، فخلطوا ولم يزنوه بالميزان الشرعي الصحيح، وكيف ذلك؟ صحيح أن كل من كان أوفر عقلا وأجود ذهنا وأصح قريحة أنه يصل إلى الحق، وأنّ من كان دونه في الفهم، ودونه في العقل، ودونه في إتيان اللب والفهم، هذا يكون أبعد من الذي قبله في الوصول إلى الحق، ولهذا ذكر الله جل وعلا المشركين بأنه أعطاهم ألبابا وأعطاهم عقولا، لكن هذا الأصل لما كان صحيحا كان حال المشركين معه منقلبة ومنعكسة؛ لأنه يثبت بذلك أنّ من استجاب للحق وتبِع المرسلين أنهم هم أهل العقول وهم أهل الألباب وهم أهل الفهم، قال جل وعلا ?وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ?[العنكبوت:43]، والمشركون لم يعقلوها فثبت أن من عقلها هم العالمون، وإن كانوا عند أولئك أقل فهما، كذلك قال جل وعلا ?وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?([11]) فالذين يتذكرون ويتبعون الرسل هم أولوا الألباب وهم أولوا العقول.
إذن فهؤلاء المشركون وأولئك المشركون كيف لم يتم لهم هذا الاستدلال، مع أنه في أصله صحيح؟ ذلك أنهم إن ظنوا أنهم هم أهل العقول، وهم أهل الأفهام، وهم أهل الألباب، فذلك قد يكون صحيحا في نفسه لكن العقل يصرفه عن فهم الحجة ويصرفه عن اتباع الحق أنواعا من الصوارف كانت متوافرة في أولئك المشركين، متكاثرة فيهم، ظاهرة بادية في حالهم وشأنهم:
? وأعظم تلك الصوارف الاستكبار والهوى: ذلك أن الهوى يغطي العقل عن الحق وهم كانوا أهل هوى فالهوى كان صارفا لاستعمال عقولهم فيما كان ينفع ?أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا?[الفرقان:43]،? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ?[القصص:50].(20/40)
? من الصوارف أيضا التي جعلت عقولهم ضعيفة وأفهامهم كليلة، وهم يضنون أنهم يحسنون صنعا وأنهم هم أولوا الألباب من الصوارف الغنى، و الله جل وعلا بين أن الإنسان يصرفه المال عن رؤية الحق فقال جل وعلا ?كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى?[العلق:6-7]، فالإنسان إذا رأى نفسه غني، غني وكثر ماله كان ذلك في الأكثرين صارفا لهم عن رؤية الحق وعن اتباع الحق؛ لأن للمال بهرج وله زينة، فيحتاج صاحب المال إلى التجرد العظيم و الإخلاص الأعظم الذي يصرفه عن الركون إلى تلك اللذة وذلك الإغراء حتى يقبل الحق، فكان هذا صارفا لأذهانهم لقبول الحق ومن رؤيتهم الحق حقا، ومن استعمالهم ما أعطاهم الله جل وعلا من الألباب في إبصار الهدى وإتباع المرسلين.
? من الصوارف أيضا ما هم فيه من الجاه فكانوا أهل جاه، إما في نسب كشرف النسب غير كسبي، وإما في رئاسة وترفع وسؤدد بين الناس، ونحو ذلك من أنواع الجاه، الجاه صاحبه يغطَّى عقله إذا لم يكن مبصرا البصر الشرعي، فلهذا ردوا الحق لأنهم كانوا على جاه امتنعت عقولهم من رؤية الصواب لأجل غطاء الجاه وغطاء السؤدد.
?ومن الصوارف أيضا العجب بالنفس واعتقاد رفعتها، فإذا اعتقد المرء في نفسه أنه أرفع من غيره فإنه يصده ذلك عن قبول الحق إذا جاء به غيره، ولهذا فإن المشركون قالوا ما قالوا حيث قال طائفة منهم ?وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ?[الزخرف:31] أرادوا أن تكون الرسالة في العظماء الذي هم أعلى منهم رتبة وشرف حتى لا يكون في صدورهم حرج من أتباعه، ومن لأنواع الصوارف كثيرة.(20/41)
هذه المسألة ذكر فيها إمام الدعوة وحمه الله نوعا من أنواع الصوارف وحجة واستدلالا لهم يستدلون به، ذلك الاستدلال أنهم يستدلون على بطلان الشيء المراد إثبات أنه حق لأنه ما اتبعه إلا الضعفاء، والضعفاء يشمل -يعني هذا الاسم- كل ضعيف مالا وجاها ونسبا وفير ذلك من أنواع الضعف الذي يكون بين الناس.
احتجوا بهذا على أنه لو كان الحق لو كان هذا الذي جاء به الرسول حقا لكنا أحرى به ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11]، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني عن الذين آمنوا ?لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ?[الأحقاف:11] فهذا نوع، كذلك ما قص الله جل وعلا في قصة نوح من الآيات التي استدل بها المصنف رحمه الله تعالى حيث قال الملأ من قوم نوح ?وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27] هذه الآية في سورة هود، أو الآية التي استدل بها المؤلف ?أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ?[الشعراء:111] (الْأَرْذَلُونَ) جمع أرذل، أصلها في اللغة لشيء الدون، ذلك أن هذه المادة رَذَلَ أصلها في اللغة لشيء الدون يعني إذا كان شيئان عال ودون، فالدون هو الأرذل من الأمرين؛ يعني أنهم قسموا الناس إلى فريقين: أشراف وسادة وملأ، وآخرون هم الضعفاء وهم الأراذل، وقال جل وعلا في هذه الآية مخبرا عن قيل قوم نوح (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، (أَنُؤْمِنُ لَكَ) يعني أنصدق بما جئت به(وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، وفي قراءة أخرى (وأَتْبَاعك الْأَرْذَلُونَ) وهي ليست سبعية؛ يعني كيف يكون الصواب مع أولئك مع أنهم الضعفاء وهم الأرذلون، وقد قال المفسرون أن أكثر أتباع نوح كانوا من أهل الصناعات بعضهم أهل حياكة، وبعضهم أهل نجارة،(20/42)
وبعضهم أهل بيع وشراء، ونحو ذلك، فاستدلوا بنوع المتبعين لنوح عليه السلام استدلوا بذلك على بطلان ما جاء به (أَنُؤْمِنُ لَكَ) الإيمان هاهنا لغوي يعني التصديق. وضابط ذلك:
أن الإيمان في القرآن عُدِّي تارة بالباء وعدي تارة باللام.
والغالب فيما عدي بالباء أنه الإيمان الشرعي، المعروف تعريفه.
وما عدي باللام يراد به المعنى اللغوي، قال جل وعلا ?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا?[يوسف:17]، فلما عُدي الإيمان باللام علمنا أنه لغوي، وهو التصديق الجازم الذي لا يخالط صاحبه شك فيما خوطب به، أو في الشيء.
هنا (أَنُؤْمِنُ لَكَ) يعني أنصدق لك تصديقا جازما لا امتراء فيه والذين اتبعوك هم الأرذلون (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، فمنعهم هذا النوع من تصديقه ومن اتباعه.
ولم يكن هذا في قوم نوح فحسب بل كان هذا في العرب وفي قريش بخاصة، فلما اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولئك الصحب الكرام والصفوة المنتخبون، قال المشركون ?أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا?[الأنعام:53] كيف يكون؟ هدى الله يهدي به أولئك الذين هم ضعاف، الذين هم موالي، الذين هم صغار السن ونحو ذلك، فأجابهم الله جل وعلا بقوله ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ?[الأنعام:53]، الله أعلم حيث يجعل هداه وحيث يجعل توفيقه،فهل أنتم تتحكمون في فعل الله جل وعلا.(20/43)
إذن لو استعملوا عقولهم لوصلوا إلى الصواب، لو لم تكن على قلوبهم أنواع من الغشوات لوصلوا إلى الصواب والحق، ولكن عقولهم لم تكن نافعة ?فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون?[الأحقاف:26]، فأولئك لم ينفعهم العقل ولم ينفعهم ما أوتوه من الفهم، فكان حقا أن يكون أولئك الأقوام الضعفاء فيهم هم أهل العقل، وهم أهل الفهم، وهم أهل الإدراك لهذا قال بعض السلف: كم من لبيب ولا لب له، وكم من عاقل ولا عقل له. كم من لبيب أعطاه الله جل وعلا لبا يفهم به الأشياء ولكنه في الواقع لا لب له، لم؟ لأنه انصرف عما ينجيه في الآخرة هل يكون من عقل العاقل أن يقتحم الردى ويضع نقسه على دكادك من نار هل هذا من العقل ؟هل هذا من اللب؟ هل يكون العاقل الذي يجحد الحق الذي سيوصله لو اتبعه إلى الجنة ويرضى بزينة الحياة الدنيا القاصرة الفانية الهالكة عن الجنة؟ يرضى بأن يكون من أهل النار أو بأن يتعرض في الآخرة إلى العذاب وهو في الجنة يتبع عرضا زائلا؟ ليس هذا بعاقل ولهذا اعقل العقلاء أكملهم إيمانا، ولو كان في الناس ضعيف العقل، إذا كان أكمل إيمانا، وكمل إيمانه ولو كان في الناس وضيعا لا مال له، فقيرا ليس بذي سؤدد ليس بذي شرف، وليس بذي جاه لكنه هو لو أقسم على الله لأبره، وهو صاحب العقل، وصاحب اللب، فما أحسن قول القائل: كم من ذي لب ولا لب له، وكم من ذي عقل ولا عقل له.(20/44)
هذه المسألة التي هي من صور أهل الجاهلية ومن شعبهم ومن مسائلهم، ومما اختصوا به، هذه المسألة جاءت إلى المسلمين وكانت فيهم لأنها من سنن أهل الجاهلية والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال «فمن» وفي رواية أخرى قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال «فمن الناس إلا أولئك».
فهذه الأمة جاءت فيها هذه الشبهة وذلك الاستدلال، وذلك في أصناف من هذه الأمة:
الصنف الأول: هم أهل الرئاسة بأنواع من الرئاسات، وأولئك إذا رأوا المتبعين للهدى وللحق تنقصوهم وتنقصوا عقولهم، وقادهم ذلك التنقص إلى أنّ هذا الذي هم عليه ليس هو الصواب، فإذا رأوا من يتمسك بالسنة احتقروه، واستدلوا بأنه من أهل الفقر والمسكنة، من الموالي، من غير أشراف الناس، على أنه إنما اختار هذا الطريق، وهذا النحو لأجل ضعف عقله وهم أهل العقول الكاملة وهم الكَمَلَة الذين هم عند أنفسهم أصحاب فهْم، فيستدلون بفهْمهم ومعرفتهم وعقولهم على أن هذا ليس هو المراد بالشريعة، وهذا كان في كثيرٍ من أصحاب الرياسات، فكانت تلك الرياسات معطلة لعقولهم عن رؤية الصواب.(20/45)
الصنف الثاني قوم من العقلانيين الذين درسوا الفلسفة، وعرفوا المنطق، وكانت لهم عقول وأفهام وذكاء، لكنهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: أُوتوا عقولا ولم يؤتوا فهوما، وأوتوا ذكاء ولم يؤتوا ذكاء. أولئك أهل الفلسفة ينظرون إلى من يسمونهم بالحشوية، ينظرون إليهم وما هم عليه بأنهم هم الأراذل هم الضعفاء، الضعفاء في العقل، الضعفاء في الفهم، فيقودهم ذلك لأن أولئك الذين وسموهم بالضعف والرذالة بأن أولئك لم يعتنوا بعقولهم -يعني عقول أولئك الفلاسفة-، لم يعتنوا بمنطق اليونان، لم يعتنوا بالفلسفة، لم يعتنوا بتلك الدلائل التي يسمونها عقلية ليس لهم سعة في العلوم، إنما مدارهم على النقل، ليس عندهم فهم إنما هم ينقلون قال الله وقال رسوله، لم يدخلوا في الفهم بعقولهم، يستدلون بضعفهم عن المشاركة على بطلان هذا النوع، فيقولون: لو كان ذلك صوابا لكان وصل إليه فلاسفة الأمة طالب الحكمة منهم، هؤلاء هم أهل العقول العالية وهم أهل الفهوم السامية، فلا بد أن يكون هناك تقديم لطريقة أولئك على طريقة أولئك الحشوية. هذه كانت في قرون، ثم وصل بطائفة من الفلاسفة الجمع بين الطريقتين، لم يصدعوا بالحق ولم يروه تماما، حيث إنه من اتبع الكتاب والسنة ولم يدخل في ذلك بعقله يعني العقل المعارض للكتاب والسنة، لم يدخل في ذلك بعقله، حاولوا أن يجمعوا بين الطريقتين، كما جمع بينها ابن رشد ونحوه، فحاول أن يجمع بين طريقة المتكلمين الذين يحتقرون الناس ممن عداهم وبين طريقة أهل الأثر في عدة مصنفات لهم، لهذا سموهم الحشوية ما ذا يعنون بكلمة الحشوية؟ يعني أنهم حَشْوِ الوجود، ليسوا هم النخبة، ليسوا هم المتميزين، إنما هم حشوية لا قيمة لهم، كما قال أولئك: إن أتباع الرسل هم الأراذل وهم الضعفاء. كذلك قال من ورِثهم من هذه الأمة إنّ من اتبع الكتاب والسنة واتبع الحديث والأثر وأثبت ما أثبت فيهما إنما هم حشوية يعني حشو في الوجود، حشو في هذه الأمة(20/46)
ليسوا معتبَرين مهما قالوا ومهما فعلوا.
أيضا دخلت تلك المسألة في أهل الغِنى من هذه الأمة أهل الأموال، فأهل الأموال من هذه الأمة غرهم غناهم، يعني من غره منهم غناه فكان إذا أتاهم بالحق من ليس بأهل غنى تراه لا يسمع، تراه يجد في نفسه صدودا عنه، إذا جالسه من ليس من أهل المال، وليس من أهل الغنى، وليس من أهل الزينة في لباسه وفي مركبه، وفي بيته ونحو ذلك، تراه لا يعير لقوله اهتماما، وذلك أنه يستدل بضعفه على أن ما جاء به وما قاله ليس بحق، كما قال أولئك.
أيضا دخل ذلك في الأمة وهذا يتجلى في هذا العصر بالذات دخل فيمن يسمونهم العصريين من الإسلاميين يعني ممن اهتموا بالفكر، اهتم بالفكر طائفة من أهل هذه الأمة، ورأوا أن عرض الإسلام عن طرق الفكر وعن طريق الجمع بين منتجات الحضارات من الأفكار وما جاء في هذه الشريعة أنه يُخرج للناس ما يقتنعون به، فإذا كان الحق رأواه عند من ليس مفكرا ومن لم يعتنِ بهذه الفكريات احتقروه؛ لأنه عنده ناقص العقل، ناقص الفهم، بليد الذهن، وهذا كثير وتجد أن كثيرين ممن كتبوا الكتابات الإسلامية إذا خاطبهم من يعتني بعلم الكتاب والسنة وبعلم الأثر الذي هو أعلى العلوم وصفوة العلوم وأصوب العلوم، رأيت عندهم في أنفسهم وقد يُظهرون احتقارا له وردا لما جاء به لِمَ؟ لأنه ضعيف عندهم بتلك العلوم الفكرية، ولهذا واجهنا كما واجه ربما كثيرون منكم أنه يعاب على من يكثر النفقة في الكتاب والسنة في هذا العصر، يعاب عليه؛ لأنه ليس عنده علم بهذه الأمور الفكرية الجديدة بأنواع من الفلسفات الفكرية وأنواع من الدراسات الإسلامية الحديثة، يعيبون عليه، وهذا ليس بعيب؛ لأن الله جل وعلا جعل أهل اللب وأهل الفهم إنما هم أهل الإتباع لكتابه ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.(20/47)
أهل التذكر هم أُلُوا الألباب، فكلما كان الرجل أطوع لله وأتبع لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما كان هو ذو اللب، وكلما كان هو ذا اللب كان ذا الفهم؛ لأن هذه الأمور لم يطالب بها الشرع، وهذا داء سرى في طوائف في هذه الأمة، وأخشى أن يتسرب إلى هذه البلاد التي هي خلاصة في دعوتها اتباع الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح.
أيضا دخل في طائفة نختم بها هذه الطوائف دخل في طوائف من الدعاة والدعوات، ذلك أن طوائف من أولئك الذين يعتنون بالدعوة –مشكورين- رأوا أنهم كلما كان عندهم معرفة أعظم بالواقع على اختلاف صنوفه وأحواله من قياسات ومن فكريات، ومن أحوال، ومن تقلبات، ومن دراسات، كلما كانوا أقرب إلى الصواب، ويرون أن من لم يعتني بتلك العلوم من العلماء ومن طلبة العلم أنهم هم أضعف منهم فهما وأقل منهم نظرا وأقل منهم تسديدا وصوابا، وهذا أيضا من آثار أولئك، لأنه فيه اعتناء بفهومهم، واحتقار للآخرين باقتصارهم على النقول على الكتاب والسنة، ليست معرفة تلك الأمور مرذولة ومردودة بل العلم بتلك الأشياء مطلوب شرعا –بحده المطلوب شرعا على ما يقرره أهل العلم-؛ لكن الاستدلال بفهومهم ومعرفتهم لتلك الأمور على أن غيرهم ليس على الصواب لأجل أنه ما فهم تلك الأمور، هذا من جنس احتجاجات الأولين، فيرى أن المفتي إذا لم يكن عالما بالواقع يكون ذاك الذي علم أفهم منه وأرفع، فتكون فتوى العالم مردودة يستدل على بطلانها بقلة فهمه لتلك الأمور، وهذا ليس بأمر مؤصل شرعا، إنما الأمر المؤهل شرعا العمدة هو الدليل، فإذا كان للعالم استدلال وفهم فإنه يكون هو الصواب، إذا كان للعامل اتباع للكتاب والسنة فليس عليه أن يعرف كل ذلك، من علم هذه الأشياء علما صوابا فإنه قد يكون ذلك العلم نافعا وقد يكون ضارا له.(20/48)
المقصود من ذلك أن طائفة في العالم الإسلامي عموما اعتنوا بتلك العلوم، ورأوا أن من لم يعتنِ بها أنه هو الأضعف وهذا من مداخل الشيطان على القلوب؛ لأن هذه الأمة لن يصلحها إلا شيء واحد ألا وهو التربية على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسعي في انجاء الناس في الدار الآخرة، ولا شك أنه بالإجماع أن تلك العلوم ليست منجية لعامة الناس في الدار الآخرة وليست بنافعة في الدار الآخرة؛ لكنها قد تنفع الأمة، فيكون المخاطب بها طائفة قليلة من هذه الأمة، وأما نشرها على العوام فهذا ليس بحد شرعي.
إذا كان كذلك، فإن هذه الحجة من أنه من كان أقل فهما في تلك الأمور فيدل على بطلان ما جاء به وعلى بطلان ما قاله هذا من جنس حجج أهل الجاهلية، ودخل هذا في الأمة بنوع من تلبيسات الشيطان على النفوس.
إذن فنخلص من هذا إلى أن أهل الجاهلية يستدلون على بطلان الشيء لأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، والواجب أن نظر إلى الحق مجردا عن من أتى به، فربما يأتي بالحق شيطان، كما علّم أبى هريرة رضي الله عنه، الشيطان علمه دعاء معروفا لا يزال كل منا يدعو به، وإنما علم أبى هريرة شيطان، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة بعد أن ذكر له ما قال «صدقك وهو كذوب».
فإذن يُنظر إلى الحق وتكون غاية المؤمن طلب الحق، ومن جاء به فهذا لا يهم من جاء به ليس بمقصود، قد يجيء به الصغير، قد يجيء به الضعيف، قد يجيء به المولى، قد يجيء به الرفيع، قد يجيء به من لم يكن عنده جاه، ونحو ذلك.
المقصود أن يكون الحق إذا جاء به جاءٍ أن يكون مقبولا دون نظر في حال من جاء به، يعني من حيث رفعته ووضاعته، لكن تارات تلتبس هذه المسألة بما إذا كان الذي يجيء به من أهل البدع، من أهل الأهواء ونحو ذلك، هذا له مقام آخر.
هذا ملخص لهذه المسألة وهي كما ترى مسألة مهمة.
التاسعة: الإقتداء بفسقة العلماء والعباد.(20/49)
أهل الجاهلية جاهلية العرب سألوا اليهود وسألوا النصارى عمّا هم عليه فاقتدوا بهم لمّا أجابوهم بأنهم على صواب، كما قال جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِن الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا?[النساء:51]، (يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِن الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) يعني أن اليهود لما سألهم المشركون من أهدى نحن أو أتباع محمد؟ أجابوهم بأنهم هم أهدى، وهذا نوع إقتداء؛ بل هو اتباع لأولئك بل سماه الله جل وعلا إيمانا بالجبت والطاغوت، كانوا يقتدون بالفسقة من العلماء الذين يأكلون أموال الناس ظلما، وصفهم الله جل وعلا بقوله ?إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[التوبة: 34] أولئك الفسقة من العلماء لَبَسوا الحق بالباطل وكتموا الحق وهم يعلمون، وهذا جار في كل زمان... ([12])(20/50)
كذلك اقتدوا باليهود مع أن اليهود كانوا أهل أكل للأموال بالباطل، هذا دليل الفسق (إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، الواجب أن يكون الإقتداء بأهل الصلاح والطاعة، أما الذي يشتري هذه الدنيا بالآخرة، فيدفع الآخرة ثمنا لهذه الدنيا، هذا فاسق، يشتري الدنيا ويدفع ثمن الآخرة ويصد عن سبيل الله، هذا دليل الفسق، أولئك المشركون كان من خصائصهم أنهم يذهبون إلى من علموا فسقه، ومن علموا ضعف ديانته، ومن علموا مخالفاته، فيقتدون بهم في الدين، وهذه ظاهرة سواءً في مشركي العرب، أو في أهل اليهودية، أو في النصارى، أو في غيرهم من أصحاب الملل، كلهم كانوا عندهم هذه الخصلة؛ لأنّ المرء يحب من يسهِّل عليه ومن يرضيه بواقعه، الأصل في هذا أنّ المرء يحب من يقول له إنك على صواب، ويأنف ممن يقول له إنك على غير الصواب والهدى، فإذا قال له قائل: إنك على صواب وهدى فرح به. ولو كان يعلم أنه ضال ولو كان يعلم أنه فاسق، لأن تحري الصواب والبراءة من غيره من الضلال، هذا لا يؤتاه إلا طالب الحق، لا يؤتاه إلا من رغب في الحق وسعى إليه، فأولئك يسألون أهل الضلال من اليهود والنصارى فإذا أجابوهم قبلوا ذلك، وهذه كما ترون سَرَتْ في هذه- الإقتداء بفسقة العلماء- في أنواع كثيرة؛ في طوائف كثيرة من الأمة، وهي واضحة ظاهرة.(20/51)
فمن الناس من يقتدي أو يرضى بحكم قاضٍ يعلم أنه جائر فيه، يعلم أن هذا القاضي قبل رِشوة، قبل مالا، ومع ذلك يرضى ويقتدي به في ما قال, يأتي بعض القضاة ويستدل ببعض القضاة الذين يأخذون الرشاوي، وكان هذا في الزمن القديم كثيرا خاصة في القرون ما بين الثالث إلى الحادي عشر، كَثُرَ هذا جدا، وكان الحكام يعني القضاة يأخذون الرشاوي على المال، وكل قاض يستدل ويستشهد بفعل من سبقه، ويقول أنا أحكم بهذا للحاجة، ونحو ذلك، فيقتدي بالفاسق الذي يعلم فسقه، من أنه الرشوة في الحكم كفر وهذا أعظم من مجرد الفسق، كذلك العلماء الذين يعلم من حالهم أنهم فسقة, يعلم من حالهم أنهم لا يصلون كما هو موجود في كثير من الأمصار.
وقد سئل بعض أهل العلم في غير هذه البلاد عن حال علماء مصره وبلده عن أنهم لا يؤدون الصلوات، يفعلون ما يفعلون من المنكرات، كيف يكون علمهم؟ قال: صنعة. يعني اتخذوا العلم مهنة وصنعة من الصنائع، فكانوا فسقة بذلك, الناس اقتدوا بهم؛ فيستفتونهم فيفتون ويرشدونهم ويبينون لهم في وسائل البيان المختلفة، ويقبلون، وهذا نوع من آثار الجاهلية في النفوس، والواجب أن يسعى إلى من يعلم أنه أصلح وأنه أبر وأنه أتقى و يأخذ الدين منه؛ لأنه هو الذي لا يحابي، إذا كان الطالب يطلب الحق فيذهب إلى من يقول له الحق ولو كان مُرا، هذا طالب الحق والهدى، أما الذي يطلب من يصحح له وضعه، فإنه يذهب إلى فسقة أهل العلم الذين يتكسبون بالدين ويتكسبون بالعلم فيجيبون كل واحد بما يناسبه. ومن صنوف أولئك:
طائفة كان في ما مضى من الزمان كانوا يفتون على المذاهب الأربع؛ يأتي ذلك المستفتي إلى ذلك العالم، فيستفتيه المستفتي، فيُفتي العالم بالمذهب الذي عليه ذلك المستفتي، يقول أنا على مذهب فلان فيفتيه، غالب أولئك كما وصفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض رسائله متأكلون بالعلم.
بعض أولئك العلماء لا يفتي إلا بمال، يقول: أنا لا أفتيك إلا أن تعطيني شيء.(20/52)
بعض أولئك العلماء فيما مضى من الزمان يعلمون أنه على فسق في حاله، ولكنهم يقتدون به في أموره الخاصة، يعني يرون حاله في بيعه يرون حاله في شرائه ويقتدون به، يقولون فعله العالم الفلاني، طيب ذلك العالم غير متحر للصواب، وربما كان فاسقا.
بعض أولئك العلماء يفتي الناس بما يناسبهم برخص من رخص أهل العلم إذا استفتاه بعض أهل الوجاهة، بعض أهل المال، لا يريد أن يكدر خاطره، فيذهب يفتي له برخصة من رخص الفقهاء ليست صوابا، يعلم أنها ليست صوابا، أو بقول مهجور من الأقوال في الفقه إرضاء له، وهذا يكثر عند المخالطين للكبراء وللأمراء في كل زمان وكل مكان، فإذا لم يكن المرء على –يعني العالم الذي يسأل فيجيب- إذا لم يكن على تحر في دينه، لا يهمه في تبليغه دينه أن يرضى ذلك السائل أو لا يرضى، فإنه لا يقتدى به، إذا كان هذا المستفتى أو المسؤول يُهِمه رضي ذاك هذا يجب أن لا يقتدى به ولا يؤخذ العلم منه.(20/53)
اليوم ربما خالط طائفة من الناس من أهل العلم الأغنياء أصحاب الأموال الباهرة أصحاب الشركات أو العقارات أو المؤسسات أو نحو ذلك، فيأتيه ويكون ذلك أو يكون له مصلحة منه، فإذا سأله أفتاه بما يريح ذاك، وهذا من أنواع الإقتداء بفسقة العلماء الذين كانوا من قبل، ذلك أن الله جل وعلا وصفهم بقوله ?قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[آل عمران:99]،قل? يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ?[آل عمران:70]، (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، ?لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ?[آل عمران:71]، ?لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ?[آل عمران:99]، هذه في آل عمران كما ذكرت وهنا وصفهم بأنهم يصدون عن سبيل الله، يعلمون أنهم يصدون عن سبيل الله ومع ذلك يقتدون بهم، كانوا يفرحون بأنهم سيجيء نبي يتبعونه، فلما جاء النبي كفروا به وأعرضوا عنه، وهذا نوع من الصد عن سبيل الله، فكانوا بذلك فسقة، كان الناس يعلمون أنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ومع ذلك كانوا يقتدون بهم، وهل أولئك أصحاب إقتداء؟ هل يجوز الإقتداء بهم؟ لا.
الصنف الثاني فسقة العبّاد:(20/54)
والفسق في العبادة يكون بالخروج عن السنة، فكل من تعبد بعبادة بدعية فهو فاسق بها، كأصحاب الطرق الصوفية، وأصحاب الأقوال والأحوال التي لا توافق السنة، فأولئك بأجمعهم أهل فسق إذ كانوا خارجين عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان حالهم كذلك، كان الواجب أن ينكر عليهم وأن لا يقتدى بهم، المشركون اقتدوا بفسقة العبّاد، وهم الذين ابتدعوا بدعا من النصارى وغيرهم، كان في كل مكان ربما اقتدى المقتدي بعابد فاسق، يعني خرج بعبادته عن الشريعة التي أنزلها الله جل وعلا على رسولِ ذلك المتبع فاتبع.(20/55)
وهذه الخصلة من الجاهلية سرت في هذه الأمة في أنواع من الناس، يجمعهم أصحاب الطرق الصوفية الذين اقتدوا بمن يعلمون فسقه؛ بل إن الأمر زاد على ذلك حتى جعل أولئك أولياء لله جل وعلا، صنف بعض كبار الصوفية يعني غلاة الصوفية، صنفوا مصنفات في طبقات الأولياء مثل الشعراني وغيره، وجعلوا من الأولياء -كما رأيت ذلك بنفسي- جعلوا من الأولياء من يأتي الفواحش وقال في ترجمة أذكرها قال: سيدي فلان الفلاني قدس الله روحه، ونوّر ضريحه كان يتلو آيات ليست في القرآن. وهذا أنا اطلعت عليها بنفسي، وقال: وخطب رضي الله عنه سبع جمع في جمعة واحدة. يعني خطب في سبعة بلاد في جمعة واحدة، يخطب هنا وهنا وهنا في وقت واحد، وهذا لا شك أنه إما أن يكون مجنونا، أو يكون تتلبس به الشياطين عن اختيار منه، أو غير ذلك، المهم أن هذا ليس من الأولياء لأن هذا لا شك أنه من الفسقة بل من الكفرة إذا كان يتلو آيات ليست من القرآن ويقول أنها من القرآن فهذا من الكفرة، يقتدي به ويجعل في التراجم ويغنى عليه، فعمّ ذلك في بلاد المسلمين اليوم وطمّ، حتى لا تكاد تدخل بلد إلا وفيه طريقة وفيه زاوية وفيه من يتبع الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، يذكرون من مناقب كل صاحب طريقة وكل شيخ من أولئك، يذكرون من مناقبه أشياء لا يفعلها الأتقياء إنما يفعلها الفسقة، تارة تكون منسوبة إليه لا تصح وتارة تكون صحيحة، وفي الحملة من كان على فسق في العبادة، كيف يقتدى به؟ فهذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية، وجدت في المسلمين والواجب أن تصدى، الواجب أن ينكر على أصحابها؛ لأنها من خلال الجاهلية والنبي - صلى الله عليه وسلم - أتى لرفض كل خصلة من خصال الجاهلية، تلك الخصال الباطلة التي لم يأذن الله جل وعلا بها.(20/56)
ساق المؤلف هنا قوله جل وعلا ?لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ? هذه آية المائدة ?وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ?[المائدة:77]. فجمع في أوساطهم أنهم ضلوا من قبل، وذلك بأنهم فعلوا بعيسى عليه السلام ما فعلوا فلم يؤمنوا به، قتلوا الأنبياء، حرموا الحلال، وحللوا الحرام، وأكلوا الربا، وجعلوا السبت وقتا للصيد، مع أنه نهوا عنه ونحو ذلك، وأضلوا كثيرا بما أفتوه، جعلوا التوراة؛ جعلوا تفسير التوراة إليهم فأحلوا حراما فيها، وحرموا حلالا فيها، كما وصف الله ذلك عنهم، وقال (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) فوصفهم بتلك الصفات التي فيها أمعنوا في الضلال، مع ذلك اقتدى بهم من اقتدى من أهل الجاهلية.
إذن نخلص من هاتين المسألتين إلى أن أهل الجاهلية كان لهم أنواع من الاستدلال، وبقي من أدلتهم مما ذكره المؤلف ثلاثة أدلة ستأتي إن شاء الله تعالى.
هذه الاستدلالات بأنواعها يجمعها أنها استدلالات في نظر العقل الصائب مرفوضة، وسبب استدلال أولئك بها مع أنه قد يكون أعطوا عقولا وأعطوا فهوما وأعطوا معرفة، يكون سبب استدلال أولئك بها أنه غُشِّي على قلوبهم وغُشِّيت أبصارهم ولم يتوصلوا بعقولهم إلى الصواب؛ لأنه كانت عندهم أنواع من الصوارف لما صارت عندهم الصوارف استدلوا على ما هم عليه من أنواع الباطل بأنواع من الأدلة التي يقنعون أنفسهم أنهم على صواب، ويردون بها رسالات المرسلين، منها، من أدلتهم التقليد، ومن أدلتهم الاحتجاج بالأولين، من أدلتهم الاغترار بالكثرة، من أدلتهم الاحتجاج بأهل القوة في الفهم، وأهل العقول، وأهل المال، وأهل القوة في الدنيا، وأهل الرفعة فيها، ويستدلون بأن الحق الذي جاءت به المرسلون ليس بحق؛ لأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، كذلك يقتدون بفسقة العلماء، يقتدون بفسقة العباد.(20/57)
إذا نظرت إلى هذه الأدلة بمجموعها وجدتَ أنها هي عين ما يحتج به المشركون والخرافيون والمخالفون للحق في كل زمان، فإمام الدعوة لما أتى بالدعوة ودعا الناس إليها، وُوجِه بأنواع من الاستدلالات، تمحضت في استدلالات أهل الجاهلية، ووجه بالتقليد، ووجه بأنك وأصحابك قليلون، وسواد الأمة الأعظم ليسوا على ما أنت عليه، ووجه بقول من قال إن أهل نجد هؤلاء الذين ظهر فيهم محمد بن عبد الوهاب -على قولهم- ما عندهم علوم لا بالعربية، ولم يتعلموا علم الكلام ولا المنطق، ويتبين ذلك بسؤال أرسل إلى الشيخ من بعض أهل الأمصار، وجه إليه سؤالا يريد منه أن يعرب سورة والعاديات ضبحا، ويقول بين لي ما فيها من البديع وما فيها من البيان في سؤالات من البلاغة ومن النحو متنوعة، الشيخ رحمه الله تعالى مشغول عن مثل هذا، لا يريد إثبات نفسه في هذه العلوم، فترك الرد عليه، مع أن الجواب عنها معروف في كتب المفسرين، يقولون إن هؤلاء الذين ظهرت فيهم الدعوة هؤلاء، دعوة محمد بن عبد الوهاب ليس عندهم إلا فقه الحنابلة حتى التفسير ليس عندهم مشاركة فيه، حتى الإسناد ليس معهم معرفة به ونحو ذلك، فيستدلون بضعف أفهامهم وعدم مشاركتهم، وعدم عقولهم، ويستدلون بأنهم قليل، وأن من خالفهم كثير، ويستدلون أيضا بأن أهل نجد أهل فقر ومسكنة وليس عندهم شيء، بعضهم أكله حاف، ومساكنهم معروفة أما المدن الكبار التي فيها علماء الأمصار هؤلاء هم أهل الفهم وهم أهل القوة انخدعوا بذلك، واستدلوا بذلك كله، وهذا موجود في المؤلفات التي ترد على دعوة الإمام؛ الدعوة السلفية في آخر هذه الأزمان، كل هذا موجود؛ بل إنه وجد في هذا العصر من صرح بذلك، وهو الذي يقول: إن أهل هذه البلاد وعلماءها طائفة من البدو الجهّال. وهذا لا شك أنها حجة قد احتج من تقدمه من أهل الضلال.
المقصود أنه في كل وقت تظهر هذه الاستدلالات إما أكثرها وإما بعض منها.(20/58)
فإذا تبينت ذلك، تهتم بالحجة والاحتجاج على من خالف الحق، بأن هذه الحجة أوردها واحتج بها واستدل بها وجعلها دليلا المشركون من قبل، وأبطل الله جل وعلا تلك الحجة.
فإذا أتى بشيء من ذلك تبطل أولا نوع الاستدلال، ثم بعد ذلك تنظر في الدليل وهذا مما ينبغي أن يهتم به طلاب العلم الذين يهتمون بالردود على المخالفين وإبطال أقوال الخرافيين والقبوريين والمبتدعة وأنواع الضالين.
تُبطل نوع الاستدلال قبل أن تنظر في الدليل وما فيه، فإذا كان ذلك تماما كان من أوجه الرد على أولئك أنّ تلك من استدلالات أهل الجاهلية.
أسأل الله الكريم لي ولكم الهدى والسداد والثبات والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]:
1/ ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - جحر الضب دليلا على الاتباع الأعمى، ما سبب اختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك على وجه الخصوص؟
من أوجه ما قيل في ذلك أنه لا أحد يرغب في دخول جحر الضب، فضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا لشناعته، ما فيه أحد يختار جحر الضب، فلو دخل المشركون أو دخل اليهود والنصارى جحر ضب، يقول النبي عليه الصلاة والسلام «لدخلتوه»، وهل هذا يعقل؟ هل هذا يكون عند ذي فهم وعند ذي بصر؟ لا، فهو مثل ضُرب لشناعته، ولأجل أنه لا يختاره عاقل معه لبه وعقله.
2/ هل فعل من يفتي بالشريعة في الفتوى، وعند القضاء -يعني إذا قضى- يقضي بالقانون، هل هذا من فعل فسقة العلماء؟ هل فعله هذا يعتبر مما يَكفر به مثله أو يُكَفَّر به مثله؟
ما فيه شك أن هذا أقل أحواله أن يكون فاسقا، يفتي بالشريعة للناس، وإذا قضى بينهم لأجل أن الحكومة تلك تجعل القانون هو الدستور أو هو ما يُقضى به، يقضي بالقانون في مسائل ويفتي بالشريعة أقل أحواله أنه فاسق، وقد يكون كافرا؛ قد يكون كافرا إذا كان يعتقد أن هذا الفعل جائز، إذا كان يعتقد أن فعله هذا جائز ويحسنه للناس، فهذا يكون كافرا بالإجماع.(20/59)
وحكمه بالقانون يعني التزام القانون في كل ما جاء به وعدم خروجه عنه يعده كثير من أهل العلم كفر ولو كان يعتقد عدم الجواز، فحال هذا المسؤول عنه إذا كان من العلماء فإنها لا شك أنها حال فسق على أقل الأحوال، وقد يكون كافرا بذلك.
3/ هذا سؤال ربما ورد كثيرا يبدو أن الحاجة إلى الجواب عنها ملحة يقول ما معنى فقه الواقع؟ ونرجوا أن تعرج على تعريف بعض العلوم التي يستدل بها أصحابها على أهل الدليل من الكتاب والسنة.
نكتفي بالفقرة الأولى وهي قوله (ما معنى فقه الواقع؟)
أولا التركيبة (فقه الواقع) مركبة من كلمتين (فقه) و(الواقع)، وكل كلمة من هاتين الكلمتين كانت مستعملة عند السلف الصالح رضي الله عنهم، فكانوا يستعملون كلمة (فقه)، وكانوا يستعملون كلمة (الواقع)، ومع ذلك فهم لم يجعلوا الواقع عندهم هو الواقع المراد عند هذه الإضافة.
والواقع: هو ما يقع من الأحداث والأمور في الناس.
السلف لم يركبوا هذا التركيب مع وجود الكلمتين عندهم، فلم يضيفوا (الفقه) إلى (الواقع)، فلم يقولوا (فقه واقع)، قالوا: فقه الكتاب، فقه السنة، ونحو ذلك، الفقه الكبر؛ يعني العقيدة، أما فقه الواقع فلم يرد عندهم، فكان بهذا مع عدم تسمية معرفة الواقع بفقه الواقع، مع أن العلماء أعرضوا عنه أربعة عشر قرنا، كان هذا دليلا على أن هذه التسمية محدثة «وكل محدثة بدعة»؛ لأنها متصلة بالشريعة، ولا يخفى على كل واحد منكم أن فقه الواقع عند من يسميه بذلك له مساس بالأحكام الشرعية.(20/60)
فتبين من هذا أن تركيبة الكلمتين لم ترد عند السلف مع وجود كل واحدة من الكلمتين عندهم، ما الذي كان عند السلف والذي كان عند أهل العلم؟ كان عندهم أن المفتي والحاكم لا يفتي ولا يحكم في المسائل الشرعية إلا بعد أن يعرف واقعَ المسألة المسؤول عنها، فإذا سئل عن شيء لا يجوز له أن يفتي أو يحكم بدون أن يتصورها، ولهذا جاء في بعض مسائل كتاب التوحيد أن إمام الدعوة رحمه الله تعالى قال: وفيها فهم الصحابة للواقع. يعني بذلك فهمه لواقع الناس وما يسألون عنه، لا يُسأل عن مسألة وهو لا يعرف ما يريد الناس بها، يستغفل؟ لا، لكن إذا سئل يعرف هذه المسألة تصورا، فإذا كانت المسألة مثلا في الفقه يعرف صورتها الفقهية، هذا معلوم عند أهل العلم، بل قالوا: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
والواقع قسمان:
واقع له أثر في الأحكام الشرعية.
وواقع لا أثر له في الأحكام الشرعية.
فليس كل ما يقع بين الناس، وما يجعله الله جل وعلا في أرضه، ليس كل ذلك مؤثرا في الأحكام الشرعية، أو تبنى عليه الأحكام الشرعية.
القسم الأول: الواقع الذي تبنى عليه الأحكام الشرعية وفهم المسألة وصورتها وما تتنزل عليه.
الثاني: ما يتصل بالمسألة مما ليس له أثر في الحكم الشرعي، هذا واقع لا أثر له.
مثل القاضي يأتيه خصمان يتخاصمان في مسألة، يقول الأول كلاما في ربع ساعة طويل، ويأتي الثاني يقول كلاما في ربع ساعة أيضا طويل، القاضي كل هذا الذي ذكره الخصمان واقع وقع، لكن القاضي لا يقيد منه في سجلِّه يعني سيبني عليه الحكم إلا ثلاث كلمات أو أربع؛ لأنها هي المأثرة في الحكم الشرعي.
كذلك المستفتي تأتي تستفتي أحد العلماء، وتقص عليه قصة طويلة، ويجيبك بمسألتين، ثلاث، تقول لا شيخ كان كذا وكذا، يقول ولو كان هذا ما له أثر، وهو واقع صحيح عندك أنه واقع ربما يكون مؤثرا لكنه عند العالم ليس مؤثرا في الحكم الشرعي.(20/61)
فإذن ليس كل ما وقع في الناس، أو ما يقع في الدنيا مؤثرا في الأحكام الشرعية، وعليه فإنما يجب على العلماء أن يعرفوا الواقع الذي تنبني عليه الأحكام الشرعية.
الآن هذه الكلمة (فقه الواقع) يُعنى بها معرفة أحوال الناس والمسلمين والأعداء، وما يعدون له، وما يخططون ونحو ذلك من علوم كثيرة، وهذا لاشك أنه كعلم –مع اعتراض على التسمية- كعلم مطلوب، أن يعرف في الأمة طائفة هذه الأمور، وهذا من أجناس فروض الكفايات كالعلوم المختلفة: علم السياسة، وعلم الفيزياء، والكيمياء، والجبر، والهندسة، ونحو ذلك، هذا من جنس العلوم تلك، فمعرفتها لا بد أن تكون في الأمة، لكن تلك معرفة وليس بفقه، معرفة لأن الفقه هو فهم الأمور، الفقه هو الفهم ?مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91] يعني ما نفهم كثيرا مما تقول، ولا يدعي من يتابع أحوال العالم من طلبة العلم المعتنين بذلك ونحو ذلك، لا يدعون أنهم يفهمون ما سيجري من الأحداث، ولهذا التسمية بفقه واقعا أيضا ليست بصحيحة؛ لأن حقيقة ما يرومون هو معرفة ما يقال وما يكتب، وهذا أقل من الفقه بكثير.
هنا هذه الأشياء قلنا لابد أن يكون في الأمة من يعرف، فهي من جنس العلوم الكفائية، وقد نبّه على ذلك الشيخ ناصر الدين الألباني حين عرض لهذه المسألة.
إذا تقرر هذا فإنه باتفاق أهل العلم، العلوم الكفائية لا يخاطب بها عامة الناس لأنها ليست مُصلحة لدينهم، بل إنها تشغلهم عما هو أولى له، أرأيت لو أن محاضرا أتى عندنا اليوم ففسحنا له الدرس، وقلنا حدث الإخوة في نظرية أينشتاين النسبية، كونه يوجد في الأمة من يعلم ذلك في تخصص الفيزياء لا باس، لكن هل تحدثون بذلك، هذا لا شك أنه من الكفائيات التي لا تناسبكم، وإذا عرفتموها عرفتم علما، هل يصدق هذا على واقع الناس وعلى مخططات الأعداء أم لا؟ ذكر مخططات الأعداء يفيد الشباب، وذكر أحوال المسلمين يفيد الشباب من جهة، ويضرهم من جهات أخر:(20/62)
يفيدهم من جهة أنه يحيي في نفوسهم الارتباط بالإسلام، ويحيي في نفوسهم بغض الكفرة والمشركين،ويحيي في نفوسهم أخذ الحذر من الأعداء ونحو ذلك، وهذه مصلحة مطلوبة.
ومن جهات أخر يقود الشباب إلى أن يُربوا على غير التربية السلفية التي نبْعها ومصدرها القرآن والسنة، وبالتجربة وجدنا أنّ من انشغل بتلك الأمور انشغل أشهرا بل ربما سنوات، وإذا سألته اليوم ماذا حصلت؟ يقول لم أحصل شيء، وأحد من أثق به ممن يعتنون بهذا الأمر يقول: تتبعت جميع المجلات، وتتبعت جميع الجرائد لأخرج بفهم لما سيجري في المستقبل من أنواع السياسات والمخططات المستقبلية، قال: فوجدت كل ما قرأت لا يعطي صورة عن المستقبل.
وقد سئل بعض الوزراء البريطانيين عن السياسة ما تعريفها؟ قال: أصح تعاريفِها أن السياسة هي الكذب.
وهذا ينبني عليه فهمنا إلى أن الانشغال بهذه الأمور لن تحصّل من ورائها طائلا، بل إنه يصدك عن ما يجب أن تربي نفسك عليه وما تربي أحبابك عليه.
إذا نظرت وتأملت في هذا الكلام، وجدت أنه يمثل الواقع، الناس يعطون -الشباب والمسلمون بعامة- يعطون ما ينفعهم في هذا الأمر، لكنه مع أصوله الشرعية؛ يعني عِداء اليهود والنصارى لنا تقرأ فيه الآيات آيات الولاء والبراء، وما فعله أولئك في أعظم أمر وهو أنهم أشركوا بالله جل وعلا وسبوا الله جل وعلا أعظم مسبة، وهذا كاف في أن يجعل المؤمن الموحد مبغضا لهم كارها لهم.(20/63)
معرفة الأحوال وما يجري بين الناس لا ينقص من جهله، لا ينقص من جهله؛ بمعنى الأحوال الدنيوية، ألم ترَ إلى قصة سليمان عليه السلام حيث كان بجواره دولة ومملكة سبأ، وملكتها بلقيس، وكان عندها من الدنيا ما عندها، وبجوارها ولها من القوة ما لها، ومع ذلك لم يعلم شيئا عنها، ولم يُطلَع من الله جل وعلا على شيء من أخبارها، إذْ أن ذلك ليس له اثر في تبليغ رسالات الله، وإنما بلغه الهدهد بأمر يتعلق بالعقيدة، فقال الهدهد ?أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ?[النمل:22] هذا النبأ الذي إعتنى به الهدهد قال ?وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ?[النمل:22-23] هذا كالمقدمة ?وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ?[النمل:23] ([13])
[المتن]
(المسألة العاشرة) الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حفظهم كقوله ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27].
(المسألة الحادية عشرة) الاستدلال بالقياس الفاسد كقولهم ?إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا?([14]).
(المسألة الثانية عشرة) إنكار القياس الصحيح والجامع لهذا وما قبله عدم فهم الجامع والفارق.
(المسألة الثالثة عشرة) الغلو في العلماء والصالحين كقوله ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ?[النساء:171].
(المسألة الرابعة عشرة) أنّ كل ما تقدم مبني على قاعدةٍ وهي النفي والإثبات فيتبعون الهوى والظن، ويُعرضون عما جاءت به الرسل.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعين.(20/64)
أسأل الله جل وعلا لنا جميعا الهدى والسداد والثبات على الحق حتى الممات، وأسأله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه.
هذه المسألة –المسألة العاشرة والمسألة الحادية عشرة والثانية عشرة- هذه من تتمة مسائل أنواع الاستدلال لدى أهل الجاهلية، فإن الشيخ كما سبق أن عرفتم ذكر مسائل استدلال التي يستدلون بها أنواع الأدلة عندهم متوالية، ومن أدلتهم أنهم يستدلون على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حظهم، كما قال جل وعلا في قصة نوح مخبرا عن قول قوم نوح ?وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ?[هود:27]، وهذا ليس خاصا بجاهلية دون جاهلية من الجاهليات التي سبقت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو كثير فاشٍ، فأهل الجاهلية الماضون لم يزالوا يستدلون بهذا الدليل؛ يستدلون بضَعْف المتبعين للحق في الجاه، وضعفهم في الدنيا على بلادة أذهانهم، ثم يستدلون بهذه المقدمة الفاسدة على أنهم ليسوا بأحقَّ بالهدى منهم، وإنما ذلك دليل بطلانه؛ لأنه لا يصل إلى معرفة الشيء بأنه حق إلا ذووا العقول وذووا الأفهام، فما دام أن أهل الجاه وأهل العقل عندهم لم يتبعوا الرسل، وذلك لأنهم تأملوا، كما يزعمون وأهل الحق الذين اتبعوا الرسل كانت عندهم عجلة، وقلة فهم ولهذا اتبعوا الرسل، هذا كثير، واستشهد عليه الإمام رحمه الله تعالى، بقصة قوم نوح فإن قوم نوح قالوا لنوح عليه السلام (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) فذكروا شيئين، ذكرهما الشيخ رحمه الله تعالى.
الأول: عدم الفهم لديهم بأنهم لم يتدبروا واستعجلوا.
والثانية: أن ليس لهم فضل مال يعني ليس لديهم حظ.(20/65)
والعبارة في أكثر النسخ التي بين أيديكم (وعدم حفظهم) والذي يظهر لي بعد تأمل أن صوابها (وعدم حظهم) لأنها هي التي تناسب تمام الآية في قوله تعالى (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) والفضل في أحد وجهي التفسير هو الجاه والمال، في قوله تعالى هنا فيما استشهد به الإمام رحمه الله تعالى (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) في قوله (بَادِي) قراءتان سبعيتان:
قرأها الجمهور (بَادِيَ) بدون همز في آخره من البدوّ وهو الظهور.
وقرّاؤها أبو عمر البصري المعروف أحد القرّاء السبعة المشهورين، قرأها (بَادِئَ) بالهمز.
وعلى قراءة التسهيل (بَادِيَ) فإنه من البدوّ وهو الظهور، واختلف أهل العلم في التفسير، في تفسير هذا الحرف على ثلاثة أقوال:
1. منهم من قال (بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني في ظاهر الرأي لكل أحد، (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) وهذه الرّذالة فيهم وأنهم اتبعوك، هذا ظاهر لكل أحد يظهر للرائي ويظهر لذي الرأي بوضوح لا خفاء فيه ولا لبس.
2. الثاني: أن قوله (بَادِيَ الرَّأْيِ) من الظهور أيضا، وهو أنهم أظهروا شيئا وأخفوا غيره، فيكون البدوّ هنا بمعنى الظهور راجع إلى الاتباع لا إلى كونهم أراذل، ما نراك إلا اتبعك إلا الذين هو أراذلنا اتباعا في الظاهر في بادئ الرأي، أما في باطن الأمر وفي حقيقته فإنهم ليسوا متبعين لك ولا مقتنعين بما جئتهم به، وهذا استدلوا له بقوله تعالى ? إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ?[الشعراء:113] ونحو ذلك بآية هود وغيرها، يعني أن نوحا عليه السلام أحال حسابهم على الله جل وعلا، فدل على أن مرادهم ظهور شيء منهم وإخفاء شيء آخر منهم، إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، أو إخفاء التكذيب، فأحالهم عليه السلام إلى حساب الله جل وعلا.(20/66)
3. القول الثالث هو أنه في قوله (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني أنهم ظهر لهم الرأي بدون تأمل، فأول رأي ظهر؛ اتبعوه ولم يتأملوه ولم يتدبروه لقلة فهمهم، وهذا القول الثالث هو الذي يتفق مع ما أورده المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم عند قوم نوح استعجلوا ولم يتدبروا، اتبعوه في بادئ الرأي فيما ظهر لهم من رأيهم، ولو تأملوا واستيقنوا الرأي واستخيروه وتحققوا منه وتدبروه وتأملوا العواقب فيه وتأملوا أسراره لم يتبعوا، وذلك تلك العجلة وذلك الأمر الذي حصل منهم وهو عدم التدبر دليل على قلة أفهامهم، وهذا مظنة عدم الوصول إلى الحق، فأبطلوا الدين وأبطلوا صحة ما جاء به نوح عليه السلام بأنهم جعلوا الذين اتبعوه ما اتبعوه إلا لضعف أفهامهم كما قال الشيخ رحمه الله تعالى.
فإذا كان كذلك، كان هذا الدليل مستقيما موافقا لأحد أوجه التفسير المنقولة عن أهل العلم، والقراءة الأخرى التي قرأها أبو عمر (بَادِئَ الرَّاي)، (بَادِئَ) بهمز، من البدء وهو الأولوية يعني أن اتباعهم له كان من عجلة، وإنما اتبعوه في بادئ ذي بدء، أول ما نظروا برأيهم، برايهم اتبعوه، فهذا من البدء وهو الأولوية، وعلى هذا فيكون المعنى على هذا الوجه من التفسير أنهم استعجلوا أيضا، فيتفق مع ما فهمه الإمام المصنف رحمه الله تعالى، يتفق ما جاءت به القراءتان جميعا؛ قراءة الجمهور (بَادِي الرَّأْيِ) في أنّ معنى البدوّ هو الظهور بالمعنى الثالث؛ وهو أنه ظهر لهم ذلك من غير تدبر ولا تأمل، وكذلك على قراءة أبي عمر (بَادِئَ الرَّاي) وذلك من الأولية وعدم التدبر والاستعجال.(20/67)
وهذا الذي ذكره رحمه الله تعالى، أردفه بقوله في استدلالهم بأن أولئك الذين اتبعوا نوحا ليسوا بأهل حظ لقلة فهمه وعدم حظهم، وذلك لأنهم قالوا لنوح ومن معه (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)، ذلك أنهم جعلوا مقياس الفضل هو كثرة الحظ في الدنيا، والفضل هنا فُسِّر بأنه الحظ في الدنيا من جاه أو مال، (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) يعني لستم بأهل جاه فوق جاهنا فتَفضلون علينا، ولستم بأهل مال فوق مالنا فتفضلون علينا، فكان المقياس عندهم كما سيأتي في المسألة التي بعدها هو مقياس الفضل، هو الجاه والمال يعني الحظوظ الدنيوية، وهذا كثير في كل جاهلية، في كل جاهلية كثير هذا، كل رسول يأتي تكون الحجة عند أولئك متنوعة منها أن الذين اتبعوه هم الضِّعاف، وفي قوله تعالى ?وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[يس:20-21] في سورة يس ذلك الرجل المؤمن الذي أتى من أقصى المدينة ليسعى بشرح الإيمان، قال طائفة من أهل العلم بالتفسير إن قوله هنا (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فيه تنبيه على أنه من فقراء الناس ومن عدم أشرافهم، ليس من الأشراف، وإنما هو من الضعفة، وأما الأشراف فالعادتهم أنهم يسكنون وسط المدينة، إذ هي المجتمع، وأما أقصى المدينة، إنما يسكنه الذين ليسوا بذي جِدَة ولا جاه ولا شرف، وهكذا جاء رجل إلى موسى ?وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ?[القصص:20]، فهذا الاحتجاج كثير في أن الذين يتبعون الرسل إنما هم الضعفاء، وهذا فهمه هرقل عظيم الروم حينما سأل أبا سفيان الأسئلة المشهورة التي رواها البخاري وغيره، فقال له من تلك الأسئلة: هل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: وكذلك(20/68)
الأنبياء إنما يتبعهم الضعفاء. وهذا عام في كل رسالة فكل أهل جاهلية يستدلون بهذا الدليل، وقريش أيضا واجهت النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما رغب أن يكون الذين يؤمنون به من أشراف القوم ومن عليتهم ومن سادتهم فانصرف إليهم عن النفر المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، رغبة في إسلام أولئك، لأنه لو أسلم الكبراء لحصل من الخير الشيء الكثير، فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله ?وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا?[الكهف:28]، وكذلك قوله ?عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى?[عبس:1-6] الآيات، وهذا الأمر ظاهر لا يحتاج إلى مزيد إطالة.
كذلك في هذه الأمة، دخلت هذه الشعبة من شعب الجاهلية في هذه الأمة:
فممن دخلت إليه هذه الشبهة الذين يعتزّون بعلومهم الخلْفية من أصحاب الكلام ونحوهم، فإنهم لم يعتنوا بفقه النصوص الشرعية لزعمهم أنها إنما هي ظواهر يفهما كل أحد، وأما البواطن والأسرار فإنما خاصة بذوي العقول النيرة، فجحدوا ما أنزله الله جل وعلا من الآيات البينات وحرفوها وأولوا بعضا منها وردوا طائفة أخرى؛ لأجل أفهامهم، واحتقروا أهل السنة والجماعة لأجل أنهم لا يفهمون فهمهم، فهُم لم يعرفوا علم الكلام ولم يعرفوا الأصول القطعية المستقاة من المنطق؛ منطق اليونان، ونحو ذلك مما يعتزون به.(20/69)
كذلك شغّب على أهل الحديث فيما مضى من الزمان وعلى فقههم في النصوص طائفة من غلاة الفقهاء الذين اتهموا من يتبع ظواهر النصوص ويأخذ بالفقه مستقًا من النصوص ولو لم يكن عنده رسوخ قدم في كل العلوم، رموهم بأوصاف بشعة، حتى إن بعضهم سماهم الحمير، كما قال ابن العربي المالكي في أحد أقواله في وصف الظاهرية، قال: فلما أتى هؤلاء الحمير الذين كذا وكذا. وصفهم بأوصاف يعني بشعة، لأجل أن في الأندلس كان هناك معركة محتدمة بين أتباع ابن حزم الظاهري وبين فقهاء المالكية، والتوسط لو راموا التوسط كان ممكنا، لكنهم ردوا على هؤلاء وتنقصوهم، تنقصوا أفهامهم ووصفوهم ببلادة الفهم وبلادة الذهن ونحو ذلك لأحل هذا الأمر، لأجل اتباعهم للنصوص.
كذلك بعض الذين عاصروا الدعوة من العلماء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فإنهم رموا أتباع الدعوة بأنهم لا يفهمون بأنهم عوام، وبأنهم ليس عندهم مشاركة في العلوم، ليس عندهم معرفة إلا بعض المسائل في العقيدة وبفقه الحنابلة لا غير، فاتهموهم في بعض ما دعوا إليه من المسائل التي دلائلها كالشمس في رابعة النهار، اتهموهم بأنهم لم يفهموا الحق ولم يعرفوا المراد منه.
كذلك -وهذا سيأتي تفصيلها- الذين ادعوا أن باب الاجتهاد قد قفل وأنه لا يسوغ لأحد اليوم أن يجتهد في النصوص لأجل أن النصوص تحتاج إلى فهم وطابع أهل الزمان عدم الفهم، فهم اتهموا بأنهم يجتهدون في فهم النصوص وهم ليسوا من أهل الفهم؛ بل أفهامهم ضعيفة وأذهانهم كليلة، فلا يمكن أن يجتهدوا فباب الاجتهاد قد انقطع.(20/70)
كذلك في هذا الزمان بخصوصه زماننا هذا القريب، ترى أن بعض من أدركته هذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية، ربما تسلط عليه الهوى فرمى من هو بين أن يكون مجتهدا وبين أن يكون مصيبا يعني الحق يعني الصواب، أو يكون مجتهدا مخطئا يرميه ببلادة الذهن وعدم الفهم ونحو ذلك من الأوصاف، والواجب على أهل الإيمان أن لا يعرج على هذه المسألة، بل الواجب عليهم أن يبينوا الحق بدليله، ولا يستهزئوا بالخلق لا يستهزئوا بالناس في علومهم، بل إذا أخطأ المخطئ يقال هذا مخطئ والصواب كذا, يبين الحق بدليله, تبين المسألة بحججها وبراهينها التي توضح المراد منها، دون دخول في هذا الأمر لأنه إذا قال فلان هذا فهمه كذا، فإنه يزيد شيئا فشيئا حتى تسلط عليه هذه الشعبة، فيتدرج في الأمر حتى إذا أتى ذلك الضعيف في الفهم عنده، إذا أتى بحق واضح جعله باطلا؛ لأجل أنه ضعيف الفهم، والواجب على المؤمن أن يأخذ الحق ممن جاء به، ولا يستدل على بطلان الشيء لأن من أتى به ليس بأهل أن يأتي بذلك، وهذا كما ترى ظاهر في فئام في هذا الزمان.
المسألة التي تليها هي أنهم يستدلون بالقياس الفاسد كما قالوا (هل أنتم إلا بشر مثلنا) ([15]) وفي آية أخرى ?إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا?[إبراهيم:10] ونحو ذلك.
القياس ينقسم إلى قسمين: قياس صحيح وقياس فاسد.
والشيخ رحمه الله ذكر مسألتين الحادية عشرة والثانية عشرة، وكل منهما في القياس: الأولى في القياس الفاسد، والثانية في القياس الصحيح.
والقياس يريدون به في العموم -لا في اصطلاح الفقهاء والأصوليين- يريدون به في العموم إلحاق شيء بشيء لوجه شبه بينهما، فيكون سبب القياس جامع يجمع بين شيئين المقيس والمقيس عليه، فيجمعهما شيء فيقاس أحدهما على الآخر، ولا يخفى عليكم أنه عند الفقهاء إلحاق حكم مسكوت عنه بحكم منصوص عليه بعلة جامعة بينهما، هذا أخص.(20/71)
فإذن القياس هو كما ذكرناه ما يجمع شيئين بوجه شبه يسمى قياس، فإذا جمعت بين شيئين، يقال لك قِسْتَ الأمر؛ فقست بين هذا وهذا إذا جمعت بينهما لشبه بينهما، فإذا ألحقتَ شيئا بشيء لأجل الشبه صرت قائسا.
هذا الدليل الذي استدلوا به هم استدلوا بقياس يعني أهل الجاهلية استدلوا بقياس استدلوا بأنواع من القياس؛ يعني بأفراد من القياس، بعض تلك الأقيسة فاسد أو أكثرها فاسد، منها انهم أبطلوا النبوة بكون النبي الرسول بشرا ?وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا?[الفرقان:7]، قال جل وعلا في آية سورة الفرقان ?وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ?[الفرقان:20] يعني أن كل رسول جاء بهذا، بل أمر المشركين أن يسألوا من قبلهم، هل من قبلهم أتتهم ملائكة أم أتاهم بشر فقال جل وعلا ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([16]) اسألوهم، أهل الذكر المراد بهم في هذه الآية أهل الكتاب؛ علماء اليهود والنصارى، اسألوهم هل جاءتهم الرسل من البشر أم جاءتهم الرسل من الملائكة؟ فإذا كانت جاءتهم الرسل من البشر فلما تنكرون أن يكون رسولكم بشرا، وإذا كانت أتتهم الرسل من الملائكة فإنكم لكم وجه حجة في ذلك.
وجه القياس أنهم قالوا إن هذا الرسول يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ?وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ?[المؤمنون:34] فصفاته بشرية؛ ينكح الأزواج، يتكلم كما يتكلمون، ينام كما ينامون، يأكل كما يأكلون، يشرب كما يشربون. بشر، فقالوا ما دام أنه بشر فهو ليس بأهل أن يتنزل عليه الوحي من الله جل وعلا.(20/72)
وهذا القياس فاسد لأنه صحيح هو قياس؛ لأنهم جمعوا بين الأمرين لوجه شبه؛ لكنه قياس فاسد، لأنهم كما ذكر المصنف رحمه الله أنهم لم يفهموا الفارق بين الأمرين، وهو أن وجه الجمع هذا لا يدل على أنه ليس هناك فارق بين الرسل وبين هؤلاء، فهناك فارق. فإذن سبب هذا القياس الفاسد أنهم ما عرفوا الفارق.
وهذا جاء من كفار قريش وممن قبلهم من الكفار.
كذلك جاء في هذه الأمة كما جاء من قبل، الذي جاء ليس هو إنكار النبوة لأجل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر؟ لا، ولكن الاستدلال بقياس فاسد، ما أمثلة هذا القياس الفاسد الذي استدلوا به؟ من لحق الجاهلية في هذه الشعبة؟
من أمثلة ذلك القياس الفاسد أنهم كما هو عند المعتزلة وعند غيرهم قالوا إنّ الولي إذا أثبتت له كرامات الأولياء، إذا أثبت له كرامة صار نبيا. لم؟ لأن النبي هو بشر أُعطي آيات، أُعطي أشياء خارقة للعادة، فلو كان ثَم بشر يمكن أن يُعطي ذلك لصار نبيا؛ يعني لاشتبهت الوَلاية بالنبوة، فهنا أبطلوا هذا الحق وهو الإيمان بكرامات الأولياء لأجل هذا القياس الفاسد.
كذلك طائفة من الصوفية أو غلاة الصوفية، قالوا إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُخصّ بشيء، بل إنما مدار رِفعة شأنه على أنه يتلقى الوحي من الله جل وعلا، فإذا حصل التلقي لبشر صار مثله في المزية؛ لأنّ وجه الشبه بينهما حصل، وهو أن هذا يتلقى وهذا يتلقى، وهذا كان في أوائل القرون يعني في القرن الرابع أو أواخر القرن الثالث، بل زاد حتى زعم غلاتهم كابن عربي ونحوه أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، لم؟ قال:لأنّ خاتم الأولياء يتلقى من الله جل وعلا مباشرة، وأما خاتم الأنبياء فإنما تلقى بواسطة. ولهذا يهتمون بالكشف.(20/73)
من أوجه هذا القياس الفاسد أنهم جعلوا كل من اتصف بالتقوى من أهل الإيمان متبركا به في ذاته، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتقين، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، لما كان يتبرك بشعره، بعرقه، بثيابه، بغير ذلك من أجزاء ذاته، بسؤره يعني ببقية شرابه، ببقية أكله ونحو ذاك، نقلوا ذلك وعَدَّوه على كل من كان وليا، كل من كان تقيا، قالوا لأنه يقاس على النبي، فاستدلوا بالقياس الفاسد هذا وهذا كثير، بل قد دخل فيه طائفة من العلماء؛ يعني من غير تحقيق أجازوا أن يتبرك بالصالحين بشرابهم يعني بشرب بقية الشراب، أن يتمسح بهم، أن تأخذ بعض فضلاتهم يعني فضلات الأكل ونحو ذلك يتبرك بها، لم؟ قالوا لأنه يجمع بينه وبين النبوة الصلاح، فإذن سبب التعدي هو الصلاح، والصحيح أن سبب التعدي هو النبوة، سبب التبرك هو النبوة لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا لتبركون بأبي بكر ولا بعمر ولا بعثمان ولا بعلي، لا بأخذ بقية شرابهم ولا بشعرهم ولا بثيابهم ولا بغيره ذلك، فدل على أن الجامع هنا ليس هو الصلاح والتقوى وإنما الجامع هو إيش؟ إنما الوصف هنا هو النبوة، فليس ثم جامع بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين غيره من أمته. وهكذا في أنواع.(20/74)
أنكروا القياس الصحيح أيضا، والقياس الصحيح هو ما كان الجامع بين الشيئين أو ما كان الجامع بين الشيئين مقبولا معتبرا ليس بفارق؛ يعني جامع صحيح، وليس ثم فارق بين هذا المقيس والمقيس عليه، أنكروا القياس الصحيح، القياس الصحيح كان ينبغي أن يدل أولئك المشركين على أنّ نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيحة، بل نبوة كل نبي صحيحة، لم؟ لأنّ البشرية التي كان عليها الأنبياء تخرج بإتيانهم –البشرية التي تجمع بينهم وبين غيرهم- تخرج إذا كان أُعطي ذلك البشر آيات بينات وبراهين دالات على صدقه ليس في وسع البشر أن يأتوا بمثلها، فالقياس الصحيح يقتضي أن يقال إنّ كل من أتى بآية ومعجزة كما يسميها المتأخرون أو ببرهان مع دعوى النبوة مما لا يستطيعها البشر، وكان ذلك الذي أتى به معروفا بأمانته معروفا بتقواه معروفا بصلاحه في القوم، أن هذا يدل على نبوته، فهذا القياس صحيح، أنهم كانوا يقيسون، أن من أوتي هذه الأمور فإنه لم يؤتها من عند نفسه، وإنما أعطاه الله جل وعلا إياها.
القياس الصحيح يقتضي أن يعلموا أن الذين اتبعوا الرسل زادوا عليهم في المزية من أجل إيمانهم، فهناك جامع بين مستحق الجزاء الحسن وبين الأنبياء ألا وهو الإيمان، ولهذا أتباع كل أمة، أتباع كل نبي من ألأمم يتبعون نبيهم، يعني هناك جامع بينهم، فكان يجب أن يقيسوا صحة ما ذهب إليه أولئك الناس بصحة النبوة، فإذا ثبتت النبوة ثبت أن أولئك اتبعوه على الحق والهدى، وهذا يعني أن لا يستدلوا بالعكس فيستدلوا بأولئك القوم على بطلان النبوة، بل ينبغي أن يثبتوا النبوة يعني يسعوا في معرفتها بدلائلها وبراهينها، فإذا ثبتت فإن أولئك يثنى عليهم لأنهم اتبعوا النبوة، وذلك مقتضى لقياس الصحيح.(20/75)
مقتضى القياس الصحيح أيضا في هذه الأمة أن من اتبع العلم الذي ورَّثه النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة فهو أحق أن يكرم وأحق أن يتبع، كما قال عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء»، فالجامع بين العالم والنبي هو اتباع ما جاء من عند الله جل وعلا، فكل نبي اتبع ما عند الله جل وعلا، وما جاء به الرسول فهو وريث له، وهو قياس صحيح، يعني ألحق أولئك في الإكرام والتبجيل بالأنبياء، ليس في درجة الإكرام والتعظيم وإنما في جنسه؛ في جنس الإكرام والتعظيم لأجل الجامع بينهما وهو اتباع وِراثة النبوة.
أيضا في هذه الأزمان المتأخرة -وهذا هو مقصد الشيخ من إيراد المسألة- هو أنهم أنكروا على أهل العلم من أتباع أهل السنة والجماعة، ومن الذين شهروا بالدعوة أنكروا عليهم ما جاءوا به، مستدلين بأنهم ليسوا بكفء لهذه المسائل التي أتوا بها، فجعلوا هناك وجه شبه بين العلماء في ذلك الوقت وبين الذين ضلوا بعدم الفهم وعدم معرفة الأدلة، فأغلقوا باب التدبر وباب الاجتهاد، فكان هذا منهم -يعني قياس علماء الدعوة بأرباب أهل الفرق الذين استدلوا بالمتشابه والذين راموا الناس على غير الهدى- كان من منهم هذا قياسا فاسدا، وتركوا القياس الصحيح وهو أن من أتى بالحق مع أدلته أنه يُلحق بأئمة الهدى ولو كان متأخرا، فليس بالتأخر يهضم من أتى بالحق، بل قد يأتي بالحق المتأخر، ويكون ذلك رفعة لشأنه ومزية له.
الأقيسة الصحيحة هذه تركوها، الأقيسة الصحيحة أبرزها أن من كان من أهل العلم جاء بما كان عليه الأوائل فإن القياس يقتضي أن يلحق بالأئمة، وهم ألحقوه بأهل الشبه وأهل الفتن، وألحقوه بأهل الضلال وبأهل البدع، لم؟ لأنه عندهم لا يمكن في هذه الأزمان المتأخرة أن يستقل أحد بالفهم.([17])(20/76)
يعني مقصود الشيخ من ذكر القياسين أن ينتبه إلى أن القياس ينبغي مع جامع واضح وفارق واضح، فإذا قاس أحد شيئا على شيء أو أمرا على أمر ينبغي أن يكون بل يجب أم يكون الجامع بينهما والفارق منتفيا، فإذا كان موجود والجامع غير موجود، فإنه يدل على أن القياس فاسد، وإذا كان الجامع موجودا والفارق غير موجود أو ضعيف فإنه يدل على أن القياس صحيح.
ثم انتهى من مسائل الاستدلال وذكر المسألة العظيمة وهي أنه من خصال أهل الجاهلية هي الغلو في الصالحين والعلماء، والغلو في العلماء والصالحين أخبر الله جل وعلا عنه في غير ما موضع من كتابه، منه في قوله تعالى?قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا?[المائدة:77] ومنها في قوله ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ?[التوبة:31] فأهل الجاهلية من قبل كان عندهم غلوّان غلو في العلماء وغلو في الصالحين:
الغلو في العلماء كان على أنحاء:
الأول أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم، فيحللون ما حلله العلماء ولو كان ذلك حراما ويحرمون ما حرمه العلماء ولو كان في كتاب الله حلال،ا فجعلوا العلماء في منزلة فوق منزلة النبوة فجعلوهم أربابا، جعلوهم معبودين كما قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) قال عدي بن حاتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما عبدناهم قال: «ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟» قال: بلى. قال: «ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه؟» قال: بلى. قال: «فتلك عبادتهم».(20/77)
فهذا نوع من أنواع الغلو وهو أن يُعتقد في العلم أنه يستقل بالإتيان بالإحكام، يستقل بالإتيان بالشرع، وهذا نوع شرك، كما قال جل وعلا ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21].
كانوا يعتقدون في العلماء أنه يمكن يحذفوا ويلغوا بعض الكتب المنزلة ويثبتوا بعضا آخر كما حصل من علماء اليهود والنصارى أنهم غيروا في التوراة والإنجيل إما بزادة أو بنقص أو بتغيير للمعاني بتفسيرها تفسيرات باطلة، ومع ذلك اتبعوا.
كذلك الغلو في الصالحين يكون على أنحاء:
من أشهرها وأظهرها أن يعتقد أن كل ما فعلوه من أنواع الصلاح والعبادة أنه صواب، فيقتدى بهم مطلقا، لاعتقاد أنهم مصيبون في كل ما يفعلون، فلا ينظرون في وجه حجة فعل ما فعله الصالح، وإنما ينظرون إلى فعله، فيستدلون بالفعل المجرد عن الحجة، وهذا هو الغلو في الصالحين، الغلو في الصالحين في حياتهم أن يُنظر إلى أفعالهم ويقتدى بهم، مع ظهور أن تلك الأفعال مخالفة للحجة أو مع عدم وضوح الحجة من أفعالهم.(20/78)
من أوجه الغلو في الصالحين أنهم أعتقد فيهم أن لهم منزلة عند الله جل وعلا في حياتهم وبعد مماتهم، كمنزلة الوزراء عند الملوك أو المقربون، كمنزلة المقربين عند الملوك منهم، فكما أن المقربين من الملوك يرفعون حاجاتهم إليهم ويأتون بما يريده الناس إلى الملوك فيكونون شفعاء ووسطاء؛ لأجل شفاعتهم ووساطتهم، يجيب الملك طلبتهم ورغبتهم، جعلوا أولئك الصالحين عند الله جل وعلا كذلك، لهم من المنزلة ولهم من الزلفى ما يمتنع معه أن يرد الله جل وعلا طلبهم، هذا الغلو بهم في الحياة وبعد الممات، جعلهم يستغيثون بهم، جعلهم يصرفون لهم أنواع العبادات، فهذا اللاتّ الذي كان يلتّ السويق كان شركهم به من أجل ذلك؛ لأنه كان رجلا صالحا -كما جاء في الأثر عن ابن عباس وغيره-، يلتّ لهم السويق وغير ذلك، بل إن الأنبياء إنما وقع الشرك بهم لأجل الصلاح الذي فيهم، بعد موت الصالح يظن أنه له عند الله جل وعلا من الزلفى ما يمكن له أن يُتوسل به وأن يستشفع به وأن يطلب رضا ذلك الصالح بعد مماته بالتوجه إليه بأنواع العبادات كما هو مشهور.(20/79)
من أنواع الغلو في الصالحين التبرك بهم، وهذا كان في اليهود وكان في النصارى، فكانوا يتبركون بصالحيهم، وكانوا يتمسحون بهم ونحو ذلك، وهذا لم يكن إلا للأنبياء، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك كلِّه محذرا من هذه الشعبة من شعب الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام « لَعْنَة الله على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وصَالحيهم مَسَاجِدَ» وقوله هنا (صالحيهم) يدخل فيه العلماء ويدخل فيه من كان صلاحه من غير علم، (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وصَالحيهم مَسَاجِدَ)، وهذا نوع من الغلو، بل إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغلو مطلقا، كما جاء، يعني مبينا لما جاء في القرآن حيث نهى الله جل وعلا عن الغلو مطلقا فقال (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)، فقال عليه الصلاة والسلام «إنما أهلك من كان قبلكم الغلو»، وفي حديث عمر رضي الله عنه حينما قطع الشجرة قال لهم ناهيا عن الغلو: إنما هلك من كان قبلكم من مثل هذا، يتتبعون آثار أنبيائهم، فما أدركتم من هذه المواضع فصلوا، وما لا فلا تتعمدوا. أو كما قال عمر رضي الله عنه.(20/80)
المقصود من هذا أنّ النهي عن الغلو كثير في الكتاب وفي السنة، والدلائل عليه من أعمال الصحابة كثيرة، هذا الغلو الذي نهي عنه دخل في الأمة في أنواع شتى كما هو ظاهر لديكم، كان الغلو في العلماء أو ما ينتسب إلى العلم بقبول أقوالهم من دون حجة، سواء في ذلك الذين ينتسبون إلى الكلام، فقُبلت أقوالهم بتحريف الشرع من دون حجة، وأيضا الذين ينتسبون إلى الفقه قبلت أقوال بعضهم من غير حجة، حتى صار قول الفقيه مثلا أو قول العالم الفلاني الذي هو مأجور فيه لأنه مجتهد فيه صار علما على الحق عند من يتعصب لهم، فصار الدليل عندهم قول العالم وهو نوع غلو لأن العالم إنما يستعان به على فهم الأصول، وفهم الأدلة من الكتاب والسنة و لا يتبع استقلالا، إنما فيما كان فيه اجتهاد وخفي على المرء وجه الصواب في ذلك، فإنه يعني على أهل العلم وعلى طلبة العلم، فإنه يتبع في ذلك لأجل اجتهاده، وهذا سبق أن أوضحناه لكم مفصلا في باب أو في مسألة التقليد.
آل الأمر بهذا أن جعل أقوال المتأخرين حجة، وهذا أعظم ما ووجه به أتباع دعوة الإمام رحمه الله تعالى الدعوة السلفية، واليوم يواجه به كل داع إلى السلفية في أي مكان من أعظم ما يواجه به أقوال أهل العلم، وهذا نوع من أنواع الغلو فإذا كان بعض أهل العلم زل في مسألة أو غلط وهو مأجور إن شاء الله على اجتهاده؛ لكنه غلط فيها، فإنه لا يجوز أن يجعل قوله حجة في المسائل المختلف فيها أو التي يراد بحثها، فإذا كان ثم دليل واضح من الكتاب والسنة، فلم يؤخذ بأقوال بعض أهل العلم في المسائل التي أخطؤوا فيها.(20/81)
فمثلا في مسألة الشفاعة؛ الاستشفاع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة أجازته على اعتبار أنّ طائفة من أهل العلم ذكروه في كتبهم في المناسك، هذا صحيح، طائفة من أهل العلم ذكروا ذلك في مناسكهم، ففي آخر الحج يقولون يذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويفعل عنده كيت وكيت، ومن ضمن تلك الأفعال أنه يستشفع به، هذا غلط ممن ذكره من أهل العلم، لاشك فيه، فلا يجوز لأحد أن يغلو في ذلك العالم الذي قال بتلك المقالة ويجعل قوله حجة، مع أننا نعلم أن المسألة قطعا لم تكن معلومة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فإذن هي مسألة مبتدعة على أقل أحوالها كيف والصواب أنها شرك بالله جل وعلا.(20/82)
اليوم يؤلف من يؤلف مؤلفات ضد الدعوة ويجعلون الحجج فيها قول فلان، وفلان، وفلان، قول مثلا العالم الفلاني، وقول العالم الفلاني، بجواز التوسل، بفعل كذا وكذا كما فعل بعض المتأخرين في مكة وهو الدكتور محمد علوي المالكي في كتابه الأخير، حيث جعل عمدة كتابه على أنه ساق أقوال العلماء في كتبهم على جواز التوسل وبعض الأفعال التي نحكم على بعضها بأنه بدعة، وعلى بعضها بأنه شرك أصغر، وعلى بعضها بأنه شرك أكبر، استدل بأقوال ساقها في جميع المذاهب، ومن بينها أقوال بعض الحنابلة، هذا صحيح، يعني تلك الأقوال كثير منها صحيح إلى قائليها، لكن هذا نوع من أنواع الغلو، إذ أنّ الاستدلال بأقوال العلماء وجعل تلك الأقوال حجة والإعراض عن نصوص الكتاب والسنة الظاهرة، هذا هو الغلو الظاهر، فيأتي بقول العالم يعارض بع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شك أنّ هذا من نوع الغلو الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن ابن القيم رحمه الله تعالى بسط القول في هذا النوع من الغلو في كتابه إعلام الموقعين، وقال: إنّ بعض هذه الأمة –يعني مما أبلغ فيه- يعني من أتباع الفقهاء جعلوا العلماء أربابا، كما فعل اليهود والنصارى، وذكر الأمثلة لهم من بعض المتكلمين وبعض المتعصبة المذاهب ونحو ذلك. ومن أحسن ما قيل في هذا قول الذهبي رحمه الله تعالى:
العلم قال الله وقال رسوله قال الصحابة ليس خُلْفٌ فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
أراء الفقهاء العلماء تحترم تقدر وتجل ولا يستهان بأمرهم ولا بشأنهم؛ لكن إذا ظهر الدليل فلا يغلوا الناس فيهم.
أما الغلو في الصالحين فحدث ولا حرج، ظاهر لديكم في إقامة المشاهد لهم والاستغاثة بهم والذبح لهم، وصرف جميع أو أكثر أنواع العبادات لهم، بما لا وجه لبيان كل أفعال من تأثر بتلك الشعبة من شعب الجاهلية.(20/83)
المقصود من هذا أن هذه المسألة وهي الغلو من خصال أهل الجاهلية، والغلو يكون أيضا في الأشخاص الذين يشار إليهم بالبنان من علماء وصالحين ومن غيرهم ممن لم يذكرهم الشيخ؛ يعني ممن ليسوا بعلماء وقد لا يعرف صلاحهم بيقين، كمثل الغلو في رؤساء الدعاة مثلا، والذين يشار إليهم بالبنان في الدعوة في بلد أو في بلاد ونحو ذلك، كيف يغلوا الناس فيهم؟ بأن يجعلوا أقوالهم أو طريقتهم في الدعوة أو منهجهم يجعلونه أصل وتُصرف نصوص العلماء، وتُصرف أدلة الكتاب والسنة إلى ما يوافق هذه الطريقة، فبعض مثلا من يعظم طائفة من أولئك تجد أنه ألف كتبا مدارها على الغلو فيهم بأنهم لا يخطئون، وبأنهم لا يحصل منهم زلل، وأن كل ما فعلوه هو الصواب وأن طريقة الدعوة إنما هي طريقتهم، وأن السبيل إنما هو سبيلهم ونحو ذلك، هذا نوع من الغلو؛ لأن حقيقته أن يقال في ذلك الداعية المشهور أو في ذلك القائد أو في ذلك الرئيس أو في ذلك المعظم ونحو ذلك أن يقال إن كلّ ما جاء به صواب في الدعوة، وهذا يدعى به لأحد، فضلا أن يدعي به لمن ليس من أهل العلم المتحققين به، لهذا من آثار الغلو في الأشخاص التعصب، فإذا غلا في شخص ما تعصّب له، فصار القول الصواب هو ما يقوله فلان الذي غُلِي فيه، والقول الخطأ القول الذي انصرف عنه، هذا نوع من الغلو، والواجب على المؤمنين –هذا كالتتمة لما ذكره الشيخ رحمه الله- أن لا يغلو في أحد فلينظروا في حال الناس مهما كانوا معلما كان أو داعية أو عالما، أن ينظروا في حاله، ينظروا في قوله هذا عليه من الأدلة ما هو واضح، هل طريقته في أمر ما أو في أموره كلها متابعة للشرع؟ هل عليها حجة بينة أم لا؟ فإذا كان عليها حجة بينة واضحة فالحمد لله، يكون اتباعه اتباعا للحجة، وإذا كان ليس عليها بينة فلا يتبع أحد على خطأ أخطأ فيه أو على ضلال ضلّ فيه.(20/84)
إذا تبين ذلك، فإن من مصائب هذا العصر الذي أُبتلي بها الناس التعصب، التعصب لمن يعجبون به، فترى الواحد خاصة في الشباب، ترى الواحد منهم إذا أُعجب بشخص ممن قد يكون له أثر كبير في المسلمين، أو قد لا يكون له أثر ونحو ذلك، تراه يتعصب بحيث لا يسمع فيه ولا يقبل فيه لا كذا ولا كذا، وهذا نوع من أنواع الغلو الذي لا يجوز أن يكون في المؤمنين، بل يُنظر في كلامه هو بَشَر ومن أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينظر ما كان وافق فيه السنة ووافق فيه الهدى فيقبل، وما لم يكن موافقا فيه فيرد عليه، كيف والإمام مالك رحمه الله تعالى ”ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر“ فمن هو دونه فلا غَرْوَ أن يكون رادّ ومردود عليه؛ يعني فلا يكون هناك تعصب عند طائفة مداره الإعجاب بأن كل ما قاله فلان فهو صواب، وكل ما لم يقله فهو خطأ، كذلك لا يكون عندنا ما يقابل التعصب بالجهة الأخرى وهو أن يكون هناك إهدار لكل صواب أصاب فيه عالم من أهل العلم أو طالب من طلبة العلم، بل الواجب أن يقال للمحسن أحسنت للمصيب أصبت وللمخطئ أخطأت، فهذا هو الذي يجب على المؤمنين، لا أن تنغلق عيونهم، تنغلق قلوبهم بحيث يكونون متابعين لكل شيء أتى به من يعجبهم سواء كان صوابا أو خطأ، وهذا يحتاج إلى نوع من التربية ينبغي أن يعتنى بها؛ ألا وهي التربية على أن يكون المقدم في نفس المؤمن هو المنهج الذي لا يخطئ، الدليل الذي لا يلحقه نقص؛ الكتاب، السنة، الإجماع ما أجمع عليه أو ما ذكره أهل السنة والجماعة في عقائدهم، وما عدا ذلك فكل يقرب منه ويبعد بحسب ما عنده من العلم والهدى.(20/85)
وهذه مسألة مهمة فينبغي للشباب أن يوسعوا صدورهم، وأن لا يضيق صدرهم بعرض الآراء على الكتاب والسنة، لا، لأنه ما من أحد إلا وهو راد ومردود عليه، ولا يعتقد المراد أنه كامل، ويعتقد الناس في المردود عليه أنه ساقط بمرة، لا، بل كل أحد يجمع بين صواب وبين خطأ، فيتبع المصيب في صوابه ولا يهضم الصواب فيه، بل يشار إليه به ويثنى عليه به، ويرد على المخطئ بخطئه، ويقال إنك أخطأت في هذا ولا يتبع في خطئه، ولا يؤخذ به فيما أخطأ فيه.
هذا هو المنهج الصواب في هذه الأمور عند من أخطأ في المسائل الاجتهادية، فلا نغلوا ولا نجفوا، فالغلو مذموم والجفاء مذموم بين أهل السنة والجماعة فيما بينهم، فينبغي بل يجب أن يكون هذا كاليقين عندنا، ذم الغلو في الناس، الأشخاص، في العلماء، في الصالحين، هذا أصل من الأصول عند أهل السنة والجماعة، والغلو شعبة من شعب أهل الجاهلية؛ لأنه سببه التعصب والنفس تقبل شيئا ما، وتعجب بشخص ما فيكون القول هو ما قاله، والخطأ هو ما صد عنه.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والهدى والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
1/ يقول: لفظ أهل السنة والجماعة والسير على منهجهم وجمع الناس حول ذلك هل هذا أمر صحيح، وهل يدخل في هذا اللفظ من قريب أو بعيد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل البدع؟
الجواب: أن الواجب على المؤمنين أن يتبعوا الكتاب والسنة وما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، والذين ورثوا المنهاج الذي قال جل وعلا فيه ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، أن المنهاج هذا ورثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته، ورثه عن الصحابة التابعون المقربون إليهم، ثم ورثه أئمة أهل السنة والجماعة ودونوه في كتبهم، فنعلم قطعا أن الصواب هو ذلك المنهج؛ لأنه هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى قبل أن تظهر الفتن ويظهر الاختلاف في هذه الأمة.(20/86)
أهل السنة والجماعة يراد بهم من لزموا طريقة الصحابة رضوان الله عليهم في جميع الأبواب؛ في باب الاتباع والعقيدة والعمل وغير ذلك، ولهذا تجد أنه في عقائد أهل السنة والجماعة يذكرون مسائل الإيمان الست يعني أركان الإيمان الست ثم يذكرون مسائل تميز بها أهل السنة والجماعة منها الأخلاق، منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائل أخر تميّزوا بها عن غيرهم.
إذن فعقيدتهم يعني منهاجهم هذا يشمل الأمور العقدية ويشمل الأمور العملية، تقديم الكتاب والسنة، الأخذ بالحديث والاحتجاج به ذم الرأي ونحو ذلك هذا من أصولهم.
إذا تبين ذلك فالأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة، ليست مخالفة أهل السنة والجماعة للأشاعرة والماتريدية لأهل السنة والجماعة في باب الصفات فقط؟ لا، خالفوا في الصفات، خالفوا في القدر، خالفوا في أصل الاتباع؛ إتباع الكتاب والسنة.
فالقاعدة عندهم أن القواطع العقلية مقدمة على الأدلة الظنية، وأهل السنة والجماعة يجعلون النصوص مقدمة على العقل، فالقاعدة التي بنى عليها الأشاعرة والماتريدية مذهبهم تبعا للمتكلمين أن العقل مقدم على النقل، وهذه القاعدة يرد بها أهل السنة والجماعة من أسها.
كذلك يخالفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأشاعرة والماتريدية وأهل البدع يخالفون في طريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغايته، فيجعلون غايته الخروج تبعا للمعتزلة، وأهل السنة والجماعة يجعلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غايته إصلاح الخلق وانتظام شمل الناس على الدين.(20/87)
وغير ذلك من المسائل، فإذن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة قد يطلق على الأشاعرة في بعض الكتب أنهم من أهل السنة، والسبب في ذلك أنه مقابلة لأهل التشيع، فيقال شيعة ورافضة وأهل سنة فيدخلون في أهل السنة، فيدخلون أهل السنة والجماعة يعني أهل الحديث وأتباع السلف الصالح ويدخلون الأشاعرة ويدخلون الماتريدية ونحوهم ممن ليس هو من الرافضة.
فإذن الإطلاق أهل السنة والجماعة لا يدخلون فيه لكن أهل السنة دون لفظ الجماعة قد يدخلون فيه إذا كان على وجه المقابلة، يعني احتجت أن تقابل تقول الرافضة وأهل السنة فإنه يعنى بأهل السنة من هم ضد الرافضة، والأشاعرة والماتريدية ونحوهم كان لهم ردود على الرافضة ووقفات ضد الرافضة.
2/ هذا يسأل عن مسألة فقهية وهو: السائل الذي يخرج من فرْج المرأة ما حكمه هل يوجب وضوءا أو غسلا؟
الجواب أن السائل في المحل طاهر فإذا انفصل كان نجسا، ويعني ذلك أنه ينقض الطهارة، فإذا كان في المحل يعني في الفرْج فهو طاهر التي هي رطوبات فرج المرأة، أما إذا انفصل وخرج فالعلماء يقولون إنه نجس بخروجه عن المحل، خروجه من البدن من ذلك الموضع فإذا خرجت النجاسة من ذلك الموضع أوجبت وضوءا حدث أصغر، أما حال الجماع إذا جامعها وخرج فمعلوم أنه سواء أنزلت أو لم تنزل فإنه يجب عليها الغسل، لا لأجل خروج السائل هذا وإنما لأجل الجماع، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه قال «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل» يعني للرجل وللمرأة.
3/ محاضرة المنهجية في طلب العلم التي ألقيتها الأسبوع الماضي هل سجلت؟
الجواب لم تسجل.
4/ يسأل عن تفسير زبدة التفسير وهو اختصار فتح القدير مختصره هو الشيخ محمد الأشقر.(20/88)
الجواب أن التفسير رأيت منه مواضع، قرأت فيه في مواضع فألفيته تفسيرا جيدا، قد نظرت بعض الموضع التي زلت فيها قدم الشوكاني رحمه الله تعالى، فتحاشى ذلك الزلل، وعبر بعبارة جيدة مع أنه نختصر له فلم يبق عبارة الشوكاني وفي بعض المواضع ولا معنى ما يريد الشوكاني بل قرر الحق في بعض المسائل، منها -ويمكن أن ترجعوا وتقارنوا ما ذكره- عند قوله تعالى عند أول سورة الأنبياء ? مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ?[الأنبياء:2] فإن الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة لم يفهم ما كان عليه السلف الصالح في مسألة خلق القرآن، فأتى بقول من جنس أقوال أهل البدع، فتحاشاه المختصر الشيخ الأشقر، وهذا يدل على عناية بالأقوال التي زل فيها قلم الشوكاني.
5/ العبارة هل هي صحيحة ”لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار“؟
الجواب: أن هذه العبارة مشهور، وأهل العلم يصححونها، والصغيرة إذا أصر عليها صاحبُها فإنها تتحول إلى كبيرة، ومعنى الإصرار عليها أي يفعلها مرارا وتكرارا دون أن يحدث استغفارا، فإذا فعلها مرة والثانية والثالثة والرابعة ولم يستغفر، فصار الإصرار عليها كبيرة من كبائر الذنوب، لكن إذا فعل الصغيرة ثم استغفر، ثم فعلها مرة أخرى ثم استغفر والثالثة والرابعة ويستغفر بعد كل مرة، فلا يدخل في هذا القول، على أن هذا القول روي على بعض السلف، لكن ليس عليه دليل واضح من الكتاب أوالسنة.
6/ هل يستطيع المسلم فهم العقيدة وشرحها دون حفظ القرآن الكريم وما هو السبيل إلى ذلك؟
يمكن أن يفهم العقيدة سواءً العقيدة الإجمالية يعني مجمل الاعتقاد أو توحيد العبادة بخصوصه، يمكن أن يفهمه بدون أن يحفظ القرآن، لكن إذا حفظ القرآن استقامت عنده الحجة ووضح له البراهين التي يأتي بها أهل السنة في تلك المسائل.(20/89)
7/ الصلاة خلف المبتدع في الدين والقبوري وإذا أقيمت الصلاة وهو إمام ما الحل؟ ثم ما وضع حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر»؟
أولا الصلاة خلف المبتدعة وأهل الكبائر بمعنى أهل الكبائر المظهرين لها، الأصل فيها أنها جائزة، الصحابة رضوان الله عليهم صلوا وراء أمراء الجور الذين يظهرون الكبائر وإزهاق النفوس كما صلى ابن عمر خلف الحجاج ابن يوسف، وأنس صلى خلف الحجاج أيضا، كما روى صلاة ابن عمر خلف الحجاج البخاري وغيره، هذا من جهة أهل الكبائر، و أهل البدع كذلك يصلي خلفهم، وأهل السنة والجماعة نصوا على ذلك في عقائدهم، لكن إذا كان صاحب البدعة هذه يمكن أن يستغنى عنه؛ بمعنى أنه ليس بإمام راتب شخص يتقدم وتعرف أنه صاحب بدعة هنا تنهره عن التقدم ويتقدم صاحب السنة، يعني أنه عند الاختيار لا يجوز أن يأمّ صاحب كبيرة ولا صاحب معصية ظاهرة ولا صاحب بدعة، لكن إذا كان ليس عند الاختيار، وإنما أدركت جماعة وفيهم من هو كذلك فإذا كانت بدعته لا تخرجه إلى الكفر فإنه يصلي خلفه، والإمام أحمد ذكر في مسائل أنها بدعة ومع ذلك أمر بالصلاة وراء من فعلها من مثل القنوت في صلاة الفجر فإنه بدعة ومع ذلك سئل عن الصلاة خلف من يقنت في الفجر قال تصلي خلفه، قال هل أرفع يدي معه؟ قال: لا. قال ما أصنع؟ قال: تسكت. أو كما روي عنه.
أما حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر» فهو حديث في السنن لكنه ليس بصحيح، رواه أبو داود وغيره.
والآن قد أستدرك أن الذي رواه أبو داود قريب بهذا الفظ يعني معناه هذا الحديث لكن ليس بلفظه.
8/ هذا يسأل سؤال يتكرر كثيرا وهو الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.(20/90)
الجواب: أن أهل السنة والجماعة لا يفرقون بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ بل الفرقة الناجية عندهم هي الطائفة المنصورة والطائفة المنصورة عندهم هي الفرقة الناجية، وذلك أن الأحاديث التي جاءت فيها أوصاف الطائفة المنصورة من مثل «لاَ تَزَالُ مِنْ أُمّتِي طَائِفَةٌ عَلَى الْحَقّ لاَ يَضُرّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وهم كذلك» ومن مثل قوله عليه الصلاة والسلام« لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ » وفي الرواية الأخرى «يقاتلونهم» ونحو ذلك، هذه كلها أوصاف للطائفة المنصورة، وهذه الطائفة المنصورة عندهم هي الفرقة الناجية، وحُكي الإجماع على ذلك من أهل السنة والجماعة، والفرقة الناجية لم تأتي في حديث بهذا الاسم بخلاف الطائفة المنصورة، فإن الطائفة المنصورة ذكرت هذه اللفظة أو ما يدل عليها أما الفرقة الناجية فإنما فهمت فهما من حديث الافتراق «وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «الجماعة». فعلى هذا سموا الفرقة هذه التي هي الأولى يعني التي لم تخرج سموها الفرقة الناجية، وبيان ذلك أن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية كلٌّ من اللفظين فيه نعت ليس في الأخرى، الطائفة المنصورة يعني أنها منصورة في الدنيا والفرقة الناجية يعني أنها ناجية في الآخرة، فأحد الوصفين ليس معارضا للآخر، فأحد الطائفتين وصف دنيوي وهو أنها منصورة في الدنيا كما قال تعالى ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173] الطائفة المنصورة في الدنيا، والفرقة الناجية فهي التي تنجو من عذاب الله في الآخرة، تنجو من عذاب النار في الآخرة فالفرقة الناجية في الآخرة هي الجماعة الحق وهي الطائفة المنصورة في الدنيا، هكذا نعلم من فهم أئمة أهل(20/91)
السنة والجماعة في ذلك.
9/ عقيدة أهل السنة والجماعة كما تعلمون في الحرب بين علي ومعاوية أن كلا منهما مجتهد، وأن كلا منهما طالب للصواب وأن عليا هو صاحب الحق وهو صاحب الأجرين في اجتهاده؛ لأنه على الصواب ومعاوية رضي الله عنه كانت فئته ولا نقول هو كانت فئته هي الفئة الباغية، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «ويحك عمار تقتلك الفئة الباغية»، وكان الذين قتلوه هم عسكر معاوية، فمعاوية ومن معه يعني معاوية رضي الله عنه في اجتهاده ومن معه من الصحابة أصحاب أجر واحد؛ لكنهم مخطئون عندنا، إدخال القتال فيما بينهم بالطائفة المنصورة لا يعني أن الطائفة المنصورة التي ذكرت في الأحاديث أنها في كل وقعة تُنصر، إنما يقصد الجنس أنها لا تزال منصورة إما نصرة حجة على من عاداهم، وإما نصرة سنان على من عاداهم، فعلي رضي الله عنه مع حصل له مع معاوية هذه فئة لأنها بين المسلمين فليس فيها طائفة منصورة ولا فرقة ناجية، وإنما الطائفة المنصورة والفرقة الناجية كلاهما لمسمى واحد لا يُعنى به ما حصل من الفتن أو كل حرب دخل فيها رجل فنُصر فيها يكون من الطائفة المنصورة، لا إنما المقصود الجنس؛ أنها لا تزال منصورة كجنس الطائفة، قد يكون من الفرقة الناجية ومن الطائفة المنصورة ولكنه لا ينصر في كل وقعة لا ينصر في كل حرب له مع أعدائه الكفار أو مع المسلمين في الفتن الدائرة، لكن الذي حصل بين علي ومعاوية أن أحدهما صاحب أجرين وهو علي رضي الله عنه، وأن معاوية صاحب أجر واحد رضي الله عنهم أجمعين، وأن الطائفة المنصورة والفرقة المناجية ليس لها دخل في حرب بين علي ومعاوية؛ لأنه نريد بالفرقة الناجية التي تنجو من النار وعلي ومعاوية جميعا ينجون بإذن الله من النار علي رضي الله عنه شهد له بالجنة، ومعاوية رضي الله عنه كذلك هم ناجون من النار، كذلك هم من الطائفة المنصورة كجنس، لما كانوا مع عمر رضي الله عنه، ولما مع عثمان رضي الله عنه كقبل حصول(20/92)
الاختلاف، الجميع من الطائفة المنصورة والجميع من الفرقة الناجية، الحرب التي حصلت فتنة لا يدخل فيها تقسيم طائفة منصورة وفرقة ناجية.
وهذا إيراد فيه شيء من الغرابة يا محمد... ([18])
[المتن]
(المسألة الرابعة عشرة) أن كل ما تقدم مبني على قاعدة وهي النفي والإثبات فيتبعون الهوى والظن ويعرضون عمّا جاءت به الرسل.
(المسألة الخامسة عشرة) اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم الفهم، كقولهم ?قُلُوبُنَا غُلْفٌ?([19])، ?يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91] فأكذبهم الله وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم وأن الطبع بسبب كفرهم.
(المسألة السادسة عشرة) اعتياضهم عما أتاهم من الله بكتب السحر كما ذكر الله ذلك في قوله ?نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:101-102].
(المسألة السابعة عشرة) نسبة باطلهم باطلهم إلى الأنبياء ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ?[البقرة:102] وقوله ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا?[آل عمران:67].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالمسألة الرابعة عشرة من مسائل الجاهلية وهي أن كل ما تقدم من استدلالاتهم الباطلة وردّهم لأدلة الحق مبني على قاعدة النفي والإثبات فيتبعون الظن والهوى ويُعرضون عما يجب اتباعه من الدليل الواضح، هذه القاعدة وهذه المسألة نرجئ الكلام عليها إلى وقت لاحق إن شاء اللهُ تعالى.(20/93)
المسألة الخامسة عشرة (اعتذارهم عن اتباع ما أتاهم الله بعدم الفهم، كقولهم ?قُلُوبُنَا غُلْفٌ?([20])، ?يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91]) ونحو ذلك من الآيات، فبين ذلك جل وعلا بأن ذلك وهو عدم الفقه وعدم الفهم بسبب الطبع على قلوبهم وبسبب جعل الأكنة على القلوب، وأن ذلك أيضا كان عدلا من الله جل وعلا، وذلك لأنه بسبب كفرهم بالله جل وعلا.
وهذه المسألة مسألة عظيمة ألا وهي أن المشركين وأهل الجاهلية على اختلاف ملل الجاهليات ونحلهم يعتذرون عن اتّباع الحق ويكون عذرهم هو أنهم لم يفقهوا ما قيل لهم ولم يعلموه، يريدون بذلك أنهم لم يفقهوا الحجة فقه من يستجيب لها، ولم يعلموا أن تلك الحجج التي جاءت بها الرسل أو جاء بها الأنبياء أنها غالبة وأنها مقدمة على الحجج التي يحتجُّ بها أولئك فعند المشركين حجج وعلم والرسل والأنبياء جاءوا بحجج وعلم فلم يفقه أهل الجاهليات أن حجج الأنبياء والمرسلين أدلَّ على المراد من حجج المشركين.(20/94)
ولبيان ذلك نقول إن الحجة لا بد من إقامتها فالله جل وعلا ما بعث رسول إلا لأجل إقامة الحجة ?[لِئلَّا]([21]) يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وقال سبحانه ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، فمن كمال عدل الله تبارك وتعالى ومن كمال حُكمه وحِكمته أنه جل وعلا ما عذّب أحدا حتى يقيم عليه الحجة، ولذلك بعث الله المرسلين وبعث الأنبياء لكي تنقطع حجج الناس بل إنّ الله جل وعلا أخذ على ابن آدم أو على بني آدم العهد لمّا أخرجهم من ظهور آبائهم ألاّ يكذبوا بتوحيد الله جل وعلا كما قال سبحانه ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ?[الأعراف:172]، إلى أن قال ?وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ?[الأعراف:172-173]، فالله جل جلاله أقام الحجج المتنوعة حجج مسموعة وحججا مرئية، وهم اعتذروا عن الاتباع بعدم فهم الحجة، قال سبحانه مخبرا عن قولهم ?يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ?[هود:91]، وقال سبحانه?وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ?([22]) وقال سبحانه مخبرا عن قول اليهود أنهم قالوا ?قُلُوبُنَا غُلْفٌ?([23])، وتقرير هذا أن فهم الحجة له نوعان:(20/95)
النوع الأول: أن يفهم معناها؛ يعني أن يقيم الحجة من يفهم معنى الحجة، بأن يكون بلسان المخاطب، وأن يفهم المراد من الحجة، وهذا النوع متفق على أنه لابد منه، فإن الله جل جلاله ما بعث رسوله إلا بلسان قومه يبين لهم، كل رسول بعث بلسان قوم ذلك الرسول، يتكلم بلغتهم ويتكلم بلسانهم حتى يبين لهم الحجة، وحتى يفهموا معناها، وهذا متفق على أنه لا بد منه؛ لأنه إذا خوطب أحد بغير اللسان الذي يفهمه لم يكن ثَم إقامة للحجة، فإذن هذا النوع رجع إلى أنه في يعني إقامة الحجة، فإقامة الحجة لا يكون إلا بفهم معناها في هذا النوع.
النوع الثاني: فهم الحجة الفهم الذي يتبعه استجابة للحجة، فإن من فهم الحجة فهما مستقيما كاملا لابد أن ينقاد لها وهذا هو الذي لا يشترط في إقامة الحجة، فلم يكن لأولئك عذر بقولهم (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)، (مَا نَفْقَهُ) يعني ما نعلم ولا نفهم أن هذا الذي تقول أرجح من قولنا، ولا نفهم أن علمك الذي أوتيت به أرجح من علمنا، وهذا النوع هو الذي حرمه المشركون في أنهم لم يفهموا فهم استجابة، لم يفهموا الحجة من جهة كونها أرجح من حجتهم، ولكن الحجة فهموا معناها.
فإذن فهم الحجة معناها.
النوع الأول لابد منه.
وأما النوع الثاني وهو أن تفهم فهم من يستجيب، فإن هذا لا يشترط في إقامة الحجة، فإن الحجة تقوم ولو زعم الزاعمون أنهم لم يفهموا معناها إذا بينت لهم ألفاظها وكانت بلسانهم وبين لهم معناها من أهل العلم والفهم لبيان المعنى.(20/96)
لهذا قال جل وعلا مخبرا عن قول المشركين (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وقال (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) ولم يمنعهم هذا الاحتجاج بأنهم ما فقهوا ولا فهموا بأن تكون الحجة قد أقيمت عليهم، وإذْ أعرضوا حلّ عليهم سخط الرب جل وعلا، وأيضا أخبر سبحانه أن قريش بل والعرب جُعلت على قلوبهم أكنة قال سبحانه (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) جعل الله جل وعلا على قلوب المشركين أكنة تحجب الفقه وتمنع الفهم، حواجز تمنع ذلك أن يفقهوا يعني أن يفهموا، هذا الفهم إنما فهم موقع الاحتجاج؛ فهم رجحان الحجة على ما عندهم من الحجج، وهذا كل طائفة من طوائف الشرك والجاهلية تحتج بهذا بأنه ما فهمت بأنهم ما يريدون أن ينسبوا إلى أنفسهم أنهم ردوا الحجة عنادا واستكبارا.
ولهذا قال أئمتنا إن إقامة الحجة شرط وأما فهم الحجة فلا يشترط. فليس كفر كل من كفر عن عناد وتكذيب؛ لأن أولئك لم يفهموا وجه الحجة الفهم الذي يجعلهم يقدمونها على حجتهم، ولكنهم فهموا تلك الكلمات وفهموا دلائلها وفهموا معناها.(20/97)
قال الشيخ رحمه الله تعالى هاهنا (فأكذبهم الله جل وعلا في ذلك) يعني فيما احتجوا به من أنهم ما فقهوا يعني أكذبهم في أنهم فهموا المعنى، ولكنه جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوه الفقه النافع، وهو سبحانه كثيرا في القرآن ينسب الفعل إلى من ينتفع به، فقول الشيخ رحمه الله (أكذبهم الله) يعني في أنهم ما فقهوا الفقه الذي هو بمعنى فهم المعنى وبين أنهم فهموا المعنى، ولكنه الله جل وعلا بين أنه جعل على قلوبهم أكنة وكثيرا في القرآن ما يأتي نسبة الفعل إلى من ينتفع به، قال سبحانه ?إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ?[فاطر:18]، فأخبر سبحانه في هذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ينذر الذين يخشون ربهم بالغيب مع أنه عليه الصلاة والسلام نذير للعالمين، لكن أضيف إلى أولئك الإنذار لأنهم هم الذين انتفعوا به (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ) لأنهم هم الذين اتفعوا بذلك.
فهنا في قول الشيخ فأكذبهم الله جل وعلا في ذلك، وبيّن سبحانه أن سبب عدم الفقه هو الطبع على القلوب، يعني عدم الفقه الذي هو في ترجيح الحجة، الفهم الذي يترتب عليه ترجيح حجة المرسلين على ما عندهم من الأوهام والحجج، وبيّن سبحانه أن ذلك الطبع بسبب كفرهم، عدلا منه جل وعلا وحكمة، وهذا في كل أهل جاهلية يأتون بمثل هذا.(20/98)
وهذه المسألة موسومة في كتب العلماء بمسألة إقامة الحجة وفهم الحجة، وتبيّن لك أن الصواب تقسيم فهم الحجة إلى قسمين؛ لأن من أهل السنة في هذا القرن من اعترض على أئمتنا على عدم اشتراط فهم الحجة لأنه قال لابد من فهم الحجة، كيف تقام الحجة على من لم يفهمها؟ والعلماء بينوا لكن هؤلاء ما انتبهوا إلى أنّ فهم الحجة بالمعنى الأول الذي ذكرناه وهو فهم المعنى، وعهم مدلولات الكلام وفهم الاستدلال ووجه الاستدلال هذا لا بد منه، أما الفهم الذي هو معرفة رجحان هذه الحجة على غيرها وقطع الشبه جميع الشبه فهذا لا يشترط كما بينه الأئمة.
إذا تبين لك ذلك، فنقول إن هذه الخصلة من خصال الجاهلية نفذت في هذه الأمة في قديم زمانها وفي حديثه:
فأما في قديم زمانها يعني في أوائل الأمر، من جهة أن كثيرا ممن أعرضوا عن الكتاب والسنة وعن لزوم اتباع الكتاب والسنة، والأخذ بما كان عليه سلف هذه الأمة، وأن علومهم كانت أعلم وأسلم وأحكم، وأنهم كانوا اتقى لله جل وعلا من أن يخوضوا فيما غير ما أذن الله جل وعلا أن يخوضوا فيه، إذا بين لهم ذلك، محسنهم يقول ما أفقه هذا الكلام؛ يعني هذه حجة ليست بواضحة، هذا الكلام ليس بواضح الدلالة، فيرد هذا الأصل العظيم مع ما عليه من الدلائل الواضحات لأجل عدم فهمه، وعدم فهمه بموقع الحجة، وأن هذه الحجة أقوى حجته هذا ليس بعذر له، ليس بعذر له ولا يعذر في ذلك.(20/99)
مثال هؤلاء أهل البدع في الاعتقادات، سواء كانت منها الاعتقادات الكفرية أم ما كان دون ذلك، هؤلاء اعتاضوا وتركوا كتاب الله والسنة وما كان عليه السلف إلى آراء أحدثوها واعتقادات وضعوها، حتى إنهم وضعوا أدلة عارضوا بها الأدلة القرآنية والأدلة النبوية، مثل الدليل الذي وضعه طائفة أو الذي وضعه جهم بن صفوان ومن بعده من المعتزلة؛ الدليل الذي يسمى بدليل الأعراض، والذي من أجله وبسببه أُوِّلت الصفات وحُرفت النصوص، ووقع البلاء العام في المسلمين بسبب ذلك الدليل المحدث المبتدع، الذي هو خطأ في نفسه، وجناية على الشرع، تحصيل هذا الدليل أنّه أراد أن يثبت وجود الله جل وعلا بإثبات حدوث الأجسام، وأن الأجسام لا يثبت حدوثها إلا بإثبات حلول الأعراض فيها، الأعراض هي المعاني التي تطرأ أو تزول، فلما أثبت الوحدانية يعني وجود الله جل وعلا بهذا الدليل، صار معه متعين أن ينفي كل ما يعارض ذلك الدليل، فنفى إثبات الصفات لأن الصفات عنده أعراض تطرأ وتزول، وإذا أثبت الصفات كالرحمة والمغفرة والنزول والاستواء والكلام وغير ذلك من الصفات، إذا أثبتها فإنه يعني في فهمه أنه يثبت أعراضا تطرأ وتزول، وهو ما أثبت حدوث الأجسام إلا بهذه الطريقة التي هي طريقة الأعراض، فكان مستمسكا بدليله، وبدليله هذا ظهرت الفرق المعتزلة والكلابية والماتريدية والأشعرية ومن نحى نحوهم، وهو دليل باطل من أصله، لما خوطب أهل الاعتزال من أهل السنة الذين أخذوا بهذا الدليل وعظموه، الذي هو يستدل على وجود الله بدليل حدوث الأعراض في الأجسام، لما اُحتج عليهم بأن هذا الدليل لم يأت في كتاب ولا في سنة وأنه منقوض من أصله، وأن أدلة القرآن هي المتعينة في إثبات حدوث المخلوقات، وأن الله جل وعلا هو موجدها وحدثها وخالقها وربها، قالوا إنّ نقض ذلك الدليل لا نفهمه، وقلوبنا لم تفهم ذلك، وعقولنا لم تدرك ذلك، ونحو هذا، مع أن هذا الدليل واضح في نفسه، لكن جعل في قلوبهم ما(20/100)
يصدهم عن اتباع الأدلة القرآنية فأحدثوا ذلك الحدث الأكبر في الملة، ألا وهو ذلك الدليل الباطل من أصله الذي بسببه حدثت الفرق المختلفة.
كذلك في العبادات طوائف المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة ونحو ذلك، إذا اُحتج عليهم ببطلان بدعهم وبطلان طرائقهم في السلوك، وأنهم لا يجوز أن يسلك طريق إلا أن يكون موافقا للنص في العبادات وفي العقائد ونحو ذلك، بينوا أنهم لا يفهمون تلك الأدلة، وأن ما عليه ما بينه أشياخهم أن هذا أوضح لهم هؤلاء أقيمت عليهم الحجة وبينت لهم ولكنهم ما فقهوها فقه من يتبع السلف الصالح، فلا يعذر أولئك بالجهل، بل أكذبهم الله جل وعلا بما كذب به الأولين الذين اعتذروا بأنهم لم يفقهوا، هم يسمعون كلام الله ويسمعون سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلام أهل العلم في بيانها، وبينت لهم تلك الأمور، وصنفت في ذلك مصنفات ومع ذلك بقوا على طرائقهم المبتدعة، وطرقهم الصوفية المحدثة، يحتجون بأنهم ما يفهمون هذا الفهم يعني فهم كون حجة السلف أرجح من حججهم، طريقة السلف أرجح من طرائقهم، هؤلاء لا يعذرون لأنهم مكذبون بما كذب الله جل وعلا الأولين.
وهكذا كل من أقيمت عليه الحجة من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الحجج التي فَهْمُها لا يختلف فيها اثنان، أو من الحجج التي يمكن أن تفهم أكثر من منحى، لكن أهل العلم بينوا معناها وأوضحوا مرادها واستدلوا عليه بالدلائل، من بين له ذلك فقد أقيمت عليه الحجة، فمن خالف بعد ذلك وولو احتج بعدم الفقه والفهم فهو مكذَّب.(20/101)
قال الشيخ رحمه الله إن الله جل وعلا أكذبهم (فأكذبهم الله) وبين أن سبب ذلك هو الطبع على قلوبهم، وأنّ الطبع بسبب الكفر وهذه السببية مطردة في كل من خالف الكتاب والسنة ونهج سلف هذه الأمة في العلوم والأعمال في الاعتقادات وفي السلوك وفي الفقه، كل من خالف هذا فإنه يعاقب على صنيعه بأنه لا يفهم الحجج، قال جل وعلا ?وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا?[الكهف:101]، مع أنهم سمعوا كلام الله، وسمعوا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يعني أهل الشرك لكنهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) ذلك هو السماع النافع، لا يقدرون عليه، الاستطاعة بمعنى القدرة لأنهم جعلت على قلوبهم الأكنة عقابا لهم على أعراضهم عن الاتباع، فكل من أعرض عن الاتباع يخشى عليه أن يعاقب بعدم فهم الحجج، وهذه هي أعظم العقوبات، أن يعاقب المرء بأن لا يفهم كلام الله جل وعلا ولا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(20/102)
وإذا تأملت اليوم أكثر المخالفين فإنهم إذا بُينت لهم الأدلة والنهج الصحيح، يقولون إن هذا غير واضح، هذا لا يُلزم الناس به ونحو ذلك، وهذا من جنس ما كان عليه أهل الجاهلية؛ من أنهم لم يفقهوا، ولم يفهموا، ولم يتبين لهم أن حجة المرسلين أعظم من حجتهم، ولاشك أن من ورث الكتاب وورث السنة فإن حجته أعظم من حجة غيره، ولو كان عنده من العلم وعنده من العقل الشيء الكثير، كما قال شيخ الإسلام في المتكلمين: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا ذكاء أو أتوا علوما ولم يؤتوا فهوما. يعني الفهم النافع فإنه حُرِم كثيرون الفهم النافع، فكل من جادل بالباطل، وقال أنه لم يفهم الحجج التي عليها سلف هذه الأمة فإن ذلك بسبب إعراضه، فليكن أول ما يكون من أمره في علاجه أن ينسلخ من كل طريقة ليس فيها اتباع السلف، ثم بعد ذلك سيرى من نفسه وُفِّق للفهم، ووفق للسماع النافع، ووفق للفقه فقه الأدلة، ولهذا ترى عند أئمة الإسلام الذين انشرحت صدروهم للعقيدة الصحيحة، وانشرحت صدورهم لاتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاهدوا في ذلك وبينوا، عندهم من فيهم النصوص ما ليس عند غيرهم، فمن اتبع النصوص نطق بالحكمة، مثل ما قال بعض الأئمة: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة. وهذا ظاهر بين، فإن المؤمنين في كل زمان لم يزالوا يحتاجون إلى من ينطق بالحكمة، وليس أولئك إلا أئمة أهل العلم الذين تبعوا السلف الصالح وتفقهوا في الكتاب والسنة.(20/103)
فاليوم كل من أقيمت عليه الحجة وبينت له فإنه لا يجوز أن يُعذر باحتجاجه بعدم الفهم يعني الفهم النافع، إلا في بعض المسائل المشتبهة التي اختلفت فيها أنظار أهل العلم وكان في النصوص ما يعذر معه أولئك، من أنهم يفهمون منها كذا، تفهم من طائفة شيء وتفهم منها الطائفة الأخرى شيئا آخر، فهذا لا بأس به يعني خلاف يعذر به صاحبه؛ لأنه ناتج في أصله عن اتباع أما إذا كان ناتج عن معارضة للنصوص بالأفهام التي لم يتبع فيها أصحابها كلام أهل العلم فأصحابه غير معذورين.
المسألة السادسة عشرة قال الشيخ (اعتياضهم -يعني أهل الجاهليات- عما آتاهم من الله بكتب السحر كما ذكر الله ذلك في قوله ?نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:101-102]) وهذا بيان لفعل اليهود، وأن اليهود تركوا ما جاء به أنبياؤهم وما ساستهم به الأنبياء من العلم النافع إلى غير ذلك من كتب السحر.
وفي قوله تعالى هنا (اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ):
قال بعض أهل العلم إن معنى (اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) يعني في ملك سليمان فـ(عَلَى) بمعنى (في).
وقال آخرون إن معنى (مَا تَتْلُو) ما تكذب، فتكون (تَتْلُو) مضمنة معنى الكذب، وهو المناسب للتعدية بـ(على)؛ لأن كذب يُعدى بـ(على)؛ كذب على فلان، والتضمين معروف في كلغة العرب مطرد كثيرا.
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)، (تَتْلُو) هنا كما ذكرتُ لك مضمنة معنى الكذب والملك في هذه الآية معناه العهد، فيكون معنى الآية: واتبعوا ما تكذب الشياطين على عهد سليمان.(20/104)
وفي تفسير هذه الآية ستة أوجه، كيف كان ذلك الاتباع وكيف كان دخول السحر من جهة الشياطين على عهد سليمان، ستة أقوال ذكرها ابن الجوزي في زاد المسير ورتبها ترتيبا حسنا.
الذي يهمنا منها ما يجمع، ما يجمع تلك الأقوال ويناسب هذه المسألة وهو أن حاصل تلك الأقوال: أن سليمان عليه السلام جعل كتبا من كتبه أو كتبا من كتب الشياطين تحت كرسي له، مخفاة عن الناس، مدفونة لا يعلم بذلك أحد، وكان عهد سليمان لدى الناس يطلعون عليه ويعملون به، فهو نبي من الأنبياء عليه السلام، سليمان عليه السلام منع الناس من النظر فيما كتبته الشياطين من السحر والأقوال التي أخذوها من الكهنة كما في أحد الأقوال، وأيضا دفن عهده وكتابه تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام أَعلمت الشياطين الكهانَ بأن عهد سليمان مكتوب ومجعول تحت كرسيه، فحفروا فوجوده -والذي أذكره الآن هو القدر الذي تجتمع عليه الروايات وأما ما تختلف فيه فليس هذا محل بيانه لأنه دخلها كثير من الإسرائيليات، والروايات كلها عن الصحابة ليس في ذلك شيء مرفوع، لكن الذي يناسب ظاهر المعنى –معنى الآية- هو ما أصفه لك الآن- بيّن الشياطين للكهان أن عهد سليمان تحت كرسيه فحفروا فوجدوه.(20/105)
أما على القول بأن عهده الذي كان عَهِدَ به للناس فإنهم يقولون إن الشياطين كذبت على سليمان بأنهم لما استخرجوه زادوا فيه أقوالا وزادوا فيه إباحة السحر، وزادوا فيه كيف يسحر المسحور أو كيف يسحر الناس ونحو ذلك من الأقوال الشيطانية، ومن قال إنّ الذي دفنه سليمان هو كتب الكهنة وما كتبه الكهنة، فيكون أولئك الشياطين استخرجوا تلك الكتب من الكهنة، وزعموا للناس أنها عهد سليمان، مع أن عهد سليمان كان معروفا فيهم، كان محفوظا في الناس يعرفونه ويعملون به، لكن لما أظهرت الشياطين تلك الكتب وقالوا إنها من عهد سليمان أو إنها عهد سليمان قال اليهود إنّ سليمان ساحر، وهذا ما أخبر الله جل وعلا به في قوله ?وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ?[البقرة:102] ما كفر سليمان عليه السلام بالسحر، وإنما عهد للناس العهد الذي ينفعهم، وعلّمهم ما ينفعهم، وأقام الحجة عليهم وبين لهم ما ينجيهم، وأنفذ فيهم ما أوحى الله جل وعلا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وحاشاه أن يكون كذلك (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يعني بعد موت سليمان بما أخذوه من الكتب زاعمين أن هذا من دين سليمان، زاعمين أن هذا هو عهد سليمان.
وهذا هو أصل هذه المسألة من أن أولئك الذين كانوا من أتباع سليمان اعتاضوا عما آتاهم من الله جل وعلا من عهد سليمان، ومما أنزله الله جل وعلا عليهم وبينهم لهم على لسان سليمان عليه السلام، ذلك القدر المتيقن، ذلك القدر الذي لا شك فيه و لا التباس اعتاضوا عنه بكتب السحر التي جعلتها الشياطين، وهذا الأمر أصل في أنّ أهل الجاهليات نبذوا الرسالات وأخذوا بما هو من جنس السحر أو أخذوا بالسحر أصلا كما في هذه المسألة.(20/106)
فهذه المسألة أصل في كل من خالف الرسل ممن جاء بعدهم إنما خالف الرسل لأنهم اعتاضوا واستبدلوا ما أنزل الله جل وعلا عليهم، وما أمرهم باتباعه، استبدلوه بشيء آخر من الكتب إما كتب سحر، وإما بكتب محرفة، وإما بكتب مفتراة على الله جل وعلا ونحو ذلك.
اليهود طائفة منهم من علمائهم افتروا على الله الكذب؛ بأن جعلوا في التوراة ما ليس منها، وأدخلوا فيها ما ليس منها، حرّموا على الناس الحلال، وأحلوا لهم الحرام، مع أن التوراة الأصلية كانت في أول الأمر موجودة عند الناس ولكنهم تركوها و أخذوا بتلك الأقوال وبتلك الآراء.
وهكذا في أهل الجاهلية العرب كان ذلك عندهم نبذوا المتيقن لديهم من دين إبراهيم عليه السلام، وأخذوا بما أحدثه طائفة من أهل مكة أو طائفة من العرب.
فكانت هذه المسألة واضحة في أن أهل الجاهلية يتركون ما أنزل الله جل وعلا إلى غيره.
وهذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية أيضا هي في هذه الأمة في أوسع صورها، وفي أظهر مظاهرها وأوضح مظاهرها، أعظم مما كان عند اليهود وأعظم مما كان عند غيرهم، ذلك أن كتاب الله جل وعلا محفوظ ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر:9]، والسنة؛ سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظة أيضا بما بينه أهل العلم من صحيحها وسقيمها، فالدين محفوظ ليس بعرضة للتغيير ولا التبديل، دين باق إلى قيام الساعة، كتاب الله باق وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - باقية، وهذا يوجب على الناس أن لا يحيدوا عنها، وأن لا يرغبوا الهدى في غير الكتاب وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما الذي حصل في هذه الأمة؟ تُركت تلك الأصول.
تُرك الكتاب وتركت السنة، واستبدل طائفة من هذه الأمة كتب السنة كتب الفلسفة وكتب الكلام.(20/107)
طائفة أخرى استبدلت بكتب السنة كتب الرأي من كتب بعض الفقهاء المتقدمين الذين لا يذكرون في كتبهم إلا الرأي؛ أرأيت إن كان كذا فكيف يكون، بخلوِّها من الحجج والأدلة وكلها مبنية على قياس ورأي.
ترك طائفة من هذه الأمة سير السلف في العبادات وأخذوا بكتب القوم الذين صنفوا في ذلك من أهل الطرق ونحو ذلك مع أن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة لكنهم اعتاضوا واستبدلوا ما آتاهم من الله جل وعلا بغيره من جنس ترك أولئك لعهد سليمان واتباعهم السحر، بل إن طائفة من هذه الأمة أخذت بالسحر وكتب السحر وتركت الأصل المنزل على هذه الأمة.
الفلاسفة دخلوا في هذه الأمة فطائفة من عقلاء هذه الأمة كما يقولون وكما يسمونهم العقلاء والأذكياء، تركوا الكتاب والسنة وزعموا أن نصوص الكتاب والسنة هذه توهيمية تخيلية إنما تنفع للعوام، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره في السنة، بل وما أنزله الله جل وعلا في الكتاب إنما هو وهم وخيال هؤلاء يسمون أهل الوهم والتخييل؛ يعني قالوا إن هذه النصوص وتلك الظواهر من النصوص ليست مرادة وإنما هي ظواهر وهمية خيالية لإصلاح الناس؛ لأنه لا يصلح الجمهور -على حد قولهم- إلا هذا لا يصلح الناس لأجل بلادة عامتهم وعدم فهمهم كما يقول أولئك، لا يصلحهم إلا هذه الطريقة والحكماء يصلحون الناس بما يناسبهم من الطرائق، يقولون فأتى الكتاب والسنة بالطرائق التي تصلح للجمهور وما فيها من الوهم والتخييل، وأما طرائق أهل العقول والحجى وأهل الفهم والنظر فإنما هي طريقة الفلسفة؛ طريقة طلب الحكمة بالاستدلال بالكونيات ونحو ذلك مما يبحثونه، وبه قُدمت الفلاسفة على صفوة هذه الأمة، ومن أجله قيل إن علم السلف أسلم ولكن علم الخلف أعلم وأحكم، كما قاله ضُلاَّلهم.(20/108)
كذلك اعتاض طائفة من هذه الأمة عما جاء في الكتاب والسنة وما بيّنه علماؤنا؛ يعني علماء سلف هذه الأمة من معانيهما، اعتاضوا عنهما بكتب أحدثها المتكلمون والمتكلمون أخص من الفلاسفة، فكل فيلسوف متكلم وليس كل متكلم فيلسوف، وأخذوا بمنطق اليونان وأخذوا بالقواعد التي يسمونها قوطع عقلية وأدخلوها بهذه الأمة، وجعلوا كتبهم في العقائد مقدمة على العقائد التي جاءت في الكتاب والسنة بل إنه منهم -من أهل الكلام- من زعم أن نصوص الكتاب والسنة تحير ولا تهدي، لأننا لا نعرف المعنى مثل ما قال بعض من ينحى منحى أولئك –سامحه الله وهو من المنتسبين لشرح كتب السنة- حينما ذكر مسألة الاستواء يشرح جامع الترمذي قال: الاستواء يرد في لغة العرب على خمسة عشرة معنى ثم ساقها وكل ذلك غلط؛ لأن الاستواء لا يرد في اللغة إلا بمعنى واحد وهو العلو، ثم ساقها، فلما ساقها قال فالله أعلم أي ذلك المراد، وهؤلاء يزعمون أن نصوص الكتاب والسنة أنها توهم الناس الاعتقاد بالتجسيم والعياذ بالله، فاعتاضوا عن شرحها وبيان ما فيها من العقائد شرح الكتاب والسنة، إلى كتب وضعوها كتب عقائدية وضعوها يعتمدون عليها ويدرسونها...([24])
مبناها على الرأي وليس مبناها على النص.(20/109)
كذلك أهل السلوك أهل السلوك اعتاضوا عن الزهد المشروع الذي كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ما كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو عليه والسلام أزهد الزاهدين وإمام العارفين وقدوة العباد، اعتاضوا عن ذلك إلى كتب خاصة وضعها القوم في زهدهم وعبادتهم، فصنفوا كتبا في ذلك، ومن أوائل من صنف في هذا الحارث المحاسبي وطائفة من طبقته، وكان ذلك شائعا فانتبه إلى ذلك أئمة السنة، فصنفوا في مقابلة ذلك ما يهدي الناس في باب السلوك، صنفوا كتب الزهد أئمة الحديث صنفوا كتب الزهد، في مقابلة أخذ المتصوفة بكتب يضعونها ليست معتمدة على هدي السلف، فصنف الإمام عبد الله ابن المبارك كتاب الزهد، وصنف الإمام أحمد الزهد وهكذا طوائف صنفوا الزهد في مقابلة ترك أولئك زهد السلف إلى زهد مبتدع وتصنيف الكتب فيه، ولهذا حذر السلف من تلك الكتب وتلك التصانيف، زاد الأمر حتى وضع للسلوك أصولا في هذه الأمة، فاعتاضوا عن أصل الكتاب والسنة إلى تلك الأصول المبتدعة والعياذ بالله، حتى جُعلت تلك الأصول في آخر الأمر طريقة من طرائق القوم لها اصطلاحاتها ولها مدلولاتها مما يعارض به الكتاب والسنة، بل زاد الأمر حتى وصل بهم الحال أن جعلوا مقام السائرين من الأولياء أعظم من مقام الأنبياء كما قال قائلهم وهو ابن عربي في فصوصه قال :
مقام النبوة في برزخ فُوَيْقَ الرسول ودون الولي(20/110)
فجعل الولاية أعظم من النبوة والنبوة أعظم من الرسالة ذلك أن الولاية عندهم كسبية تكتسب مما أخذ من المعارف والكتب التي تهدي تبين كيف تكتسب وأما النبوة فإنما هي فضل وما كان بالكسب تكشف له الحجب، وما كان بالاختيار لا تكشف له الحجب ولهذا فضلوا خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء، كما يقولون، سبب ذلك ترك ما أنزل الله جل وعلا إلى غيره، فكانوا حقيقين بما وصف الله جل وعلا اليهود بقوله?نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ?[البقرة:101-102]، وهكذا في جوانب السحر كذلك في الكهانة، في الجبت، في الصرف، ونحو ذلك من الأنواع، كلها فيها كتب، موجودة في الأمة، ولهذا كان أهل العلم يوصفون بأن تحرق وتمنع الكتب التي فيها البدع، بل نصّ الفقهاء على أن كتب البدع التي تشتمل على الضلال أنها تحرق ولا يضمّن من حرقها من كتب أهل الضلال وأهل البدع المشتملة على مناقضة الشرع ومناقضة كتب السنة، مثل كتب السحر والشعوذة والفلسفة والكلام ونحو ذلك، مما حفظ به علماؤنا الأوائل هذه البلاد من شرها، واليوم مع شديد الأسف وقولنا ?إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ?[البقرة:156]، كثرت الكتب المخلفة لمنهج السلف في هذه البلاد،سابقا ما ترى الكتب حتى في التفسير ما ترى الكتب المخالفة لكتب السلف ما ترى مثل تفسير الرازي وأمثاله، ما ترى كتب السحر ما ترى كتب الصوفية الغلاة، ما ترى كتب أهل البدع، ولكن اليوم كثر ذلك في الناس لأجل أن من الناس منا من اعتاض عن تلك الكتب إلى غيرها من الكتب، وهذا لا شك أنه خصلة من خصال أهل الجاهلية، وسبب من أسباب الضلال، أن يكون عندنا كتاب الله جل وعلا نقي كأنما أنزل الساعة، ويكون عندنا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيننا(20/111)
يحدثنا بها ونترك ذلك إلى غيره من الهذيان وإلى غيره من الأفهام و الأفكار، لا شك من جنس فعل أهل الجاهلية، وهكذا في أصناف كثيرة من الأمة يضيق المقام في استقصائها.
نقف عند هذا الحد نجيب على بعض الأسئلة.
ثم إن هذه المسائل الجاهلية التي خالفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها كما ترى هي عزيزة المعاني وهي مهمة جدا في حياتنا اليوم، بل إنه على الشباب والدعاة إلى الله جل وعلا أن يكون في حلقاتهم، وأن يكون في بيان دعوتهم ما يستدلون فيه بكثير من هذه المسائل؛ لأنه إذا بينت للناس أن هذه خصلة من خصال اليهود، خصلة من خصال الجاهلية، بدلائلها وبكلام أهل العلم عليها، ثم بينت أن هذه دخلت في الأمة، يكون هذا من أنفع أبواب الدعوة، ومن أنفع طرقها، وهذه هي الطريقة أو هذه من الطرق السلفية المحمودة في الدعوة؛ دعوة الناس، ولهذا الشيخ رحمه الله اعتنى ببيان هذه المسائل لأن الجميع راغب في أن يكون مجانبا لسنن أهل الجاهلية ولطرائقهم ولخصالهم سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مشركين أو مجوس أو... إلى آخره من الملل و النحل.
فعنايتكم بهذه المسائل فهما واستنباطا، ثم عنايتكم بشرحِ كيف كان عليه أهل الجاهلية ببيان أصل المسألة، ثم صور دخول هذه الخصلة في هذه الأمة، وأنّ هذا مصداقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» هذا من الأمور التي تعين الداعية على الوصول إلى مبتغاه، وتبين الحق للناس.
أسأل الله الكريم أن يزيدني وإياكم من الهدى والاهتداء، وأن يجعلنا ملازمين لما أنزله الله جل وعلا علينا منابذين لكل ما يخالف ذلك الأصل العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
1/ يقول: بالنسبة لأهل البدع غير المكفرة هل يشهر بهم ويحذر منهم ومن آرائهم؟(20/112)
الجواب: أن هدي السلف الصالح أنّ أهل البدع سواءً كانت بدعتهم مكفرة أو كانت بدعتهم ليست بمكفرة أنهم يلزم أن يبيَّن للناس من حالهم؛ لأجل أن لا يتعدى ضررهم إلى الناس، لأنه ما من مبتدع إلا وسيمارس بدعته، إن لم يدع إليها قولا دعا إليها فعلا، وهذا يتعين أن يُحمى الدين من هؤلاء؛ لأن حماية الدين وحراسة الملة أصل من أصول الإسلام وواجب من واجباته العظام على هذه الأمة، فلا بد أن تبقى في هذه الأمة طائفة تحرس هذا الدين من بدع المبتدعين، سواء أكانت بدع مكفرة أو كانت بدعهم غير مكفرة؛ لأن حماية الدين أغلى من حماية ورعاية الأشخاص، ومهما كان مقامهم في العلم، مقامهم في السلوك ونحو ذلك، فالسلف مازالوا ينكرون في وقتهم على من كان معروفا بالصلاح؛ أنكر الإمام أحمد على الحارث المحاسبي، أنكر الإمام أحمد على طائفة، بل أنكر الأئمة الواقفة في خلق القرآن، مع ما حصل في تلك الأزمنة من المحنة العظيمة.
فإذن هدي السلف الإنكار على أهل البدع، لكن هذا متوقف على شيء، وهو أن يثبت وصف البدعة لمن ينكر عليه، فإذا ثبت وصف البدعة على من ينكر عليه، بوصف أهل العلم الراسخين العارفين بالبدع، بوصفهم لذلك، فإنه ينكر عليهم، لا يكون مسألة البدع والابتداع محل اجتهادات فلان من الشباب يرى أن هذه بدعة والآخر لا يرى، إن اختلفنا في هذه المسألة من جنس المسائل الأخرى الرجوع فيها إلى أهل العلم، هل هذه بدعة أو لا؟ فإن من الناس من يكفر بما ليس بمكفر، ومنهم من يبدع من ليس بمبدع، وهكذا، فيجب أن يثبت العرش أولا مثل يقول القائل: أثبت العرش ثم أنقش، يعني أولا يثبت أنها بدعة بإثبات أهل العلم، ثم بعد ذلك ينكر على أصحابها إنكار أهل بدع.
هناك مقولة انتشرت ألا وهي أنه لا ينكر إلا على أهل البدع المكفرة، وهذه المقولة خطأ ومخالفة لمنهج سلف هذه الأمة من أصله.(20/113)
2/ يقول: إذا كان لابد من فهم الحجة هل يعني هذا أنه لابد من ذكر الأدلة ووجه الدلالة ولا يكفي أن يقال إن هذا شرك أو بدعة أو حتى معصية أم لا؟
الجواب: الحكم ليس إقامة الحجة لمن ذكر حكم مسألة لواقع فيها لا يعتبر هذا إقامة للحجة حتى يبين له الحجة الرسالية، كما يعبر عنها أهل العلم يقولون إقامة الحجة هي إقامة الحجة الرسالية، ليس إقامة الحجة في رأي أحد؛ يعني تبيين له آيات من القرآن العظيم، تبين له الأدلة من السنة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يبين له وجه دلالتها، ويبين له ذلك من هو عارف بأوجه الاستدلال فاهم لذلك، فإذا بُيِّن له ذلك من هو عارف بأوجه الاستدلال فأصر ولم يستجب فقد أقيمت عليه الحجة، وإقامة الحجة مختلف فبعض المسائل لا يكفي في إقامة الحجة فيها فعل الواحد من أهل العلم، بل لابد أن تجلى مسائلها وذلك لكونها غامضة، فإقامة الحجة تبع لأصل المسألة.
فإذا كانت المسألة واضحة كانت إقامة الحجة فيها أسهل وأيسر مثل كون الاستغاثة بغر الله جل وعلا من الأصوات شرك هذه ظاهرة واضحة، الأدلة عليها ما تحتاج مزيد بيان ومتابعة في ذلك.
لكن هناك مسألة غلِط فيها طائفة من أهل العلم، وهي طلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - شرك أم لا؟ هذه المسألة إقامة الحجة فيها يجب أن يكون بأبلغ من إقامة الحجة في الأولى؛ لأن تلك واضحة بينة، وأما هذه ملتبسة فيكون إقامتها بإقامة الدلائل وإيضاحها وتوالي ذلك وتصنيف المصنفات ونحو ذلك حتى تقام وتبين؛ لأنها فيها نوع اشتباه عند كثير من الناس، لاشك أنه من قال بها وهم قلة أن قولهم خطأ وقول ضعيف لا يلتفت إليه، بل هي من جنس غيرها طلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن جنس طلب غير الشفاعة من الدعاء وغيره، بل إن الشفاعة معناها أن تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو؛ أن يكلم الطالب من النبي أن يدعو له، وهذا طلب ودعاء ولهذا نحتاج إلى مزيد بيان.(20/114)
فإذن إقامة الحجة له مراتب مختلفة، فكلما كانت المسألة أكثر اشتباها كانت إقامة الحجة فيها لابد أن يكون أكثر وأبلغ، وهذه المسألة نصّ عليها وذكرها أئمتنا منهم الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في فتاويه.
3/ سؤال يتعلق بالدعوة لكن سؤال يكثر، يعني بعض الأسئلة ما أحب أن أجيب عنها لكنه إذا ردد السؤال مرارا يعني كأنه فيه حاجة إلى الجواب، هذا السؤال يقول صاحبه: هل وسائل الدعوة توقيفية أم لا؟ من أتى بوسيلة لم يأتِ بها النبي صلى الله عليه وسلم هل يكون من التقدم بين يدي الله ورسوله، ويكون مبتدعا؟
يهمنا الطرف الأول من السؤال. هل وسائل الدعوة توقيفية؟
إذا قيل إن وسائل الدعوة توقيفية فهذا غلط، وإذا قيل إن وسائل الدعوة اجتهادية فهذا غلط، والصواب التفصيل:
أن من وسائل الدعوة ما هو توقيفي ومن وسائل الدعوة ما هو اجتهادي، وبسط جواب هذا السؤال يحتاج إلى مقام أوسع لبيان أصوله من كلام أهل العلم وقواعدهم، لكن يُضرب مثال لذلك وهو أنّ:
التسجيل مثلا وتصنيف الكتب، هذا لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه وسيلة نافعة، لم؟ لأن الأصل فيها الجواز، وهذا من جنس كثير من الوسائل التي عمل بها أهل العلم لما لم يكن في الزمن الأول، فهذه تكون وسائل اجتهادية.(20/115)
القسم الثاني وسائل لا يجوز فيها الاجتهاد، بل يجب أن يكون فيها توقيف وتلك الوسائل هي ما كان في الشرع ما يغني عنه، ما كان في السنة ما يدل على طريقة من الطرق، التربية مثلا للدعوة، ثم يأتي آت ويخالف تلك الطريقة إلى طريقة أخرى محدثة ويدعو بها، خاصة إذا كانت تلك الطرق مما عمل به بعض المبتدعة، من مثل ما يسمونه في زمن الإمام أحمد والشافعي ((التغبير))، التغبير نوع من الأشعار التي يُزهد بها الناس؛ يزهد فيها الناس بالدنيا ويرغبون فيها بالآخرة، كانت تُلقى على الناس على وجه فيه ألحان، وربما صاحبها طرق الجلود القديمة حتى ينفضّ عنها الغبار فسمّيت تلك الطريقة تغبيرا، أهل السنة أنكروها، وقالوا إنها بدعة، ونحو ذلك من كلامهم، بل أقاموا على أصحابها الحجة بأن هذه مخالفة للسنة ومخالفة للهدي لم؟ لأن المقصود من تلك الوسيلة هي ترقيق قلوب الناس والشرع؛ القرآن والسنة إنما أتى لترقيق قلوب الناس، فإذا أُحدثت طريقة في هذه المسألة وهي الترقيق والترغيب، غير الطريقة الأولى، فإنها ولو كانت نافعة في الدعوة، لكنها وسيلة محدثة وتلك الوسيلة ليس بابها الاجتهاد، والتغبير من جنس ما يكون في هذا الزمان من الأناشيد الصوفية ونحو ذلك ممن تأثر بهم من الأناشيد وغيرها، هذه مشابهة للتغبير الأول الذي نهى عنه أهل العلم.
المقصود إن تفصيل هذه المسألة يحتاج إلى مزيد بيان، لكن أصلها أن مسائل الدعوة منها ما هو توقيفي ومنها ما هو اجتهادي.(20/116)
ومثل هذه المسائل التي هي أصول ينبغي أن يسأل طلاب العلم فيها وأهل الدعوة يسألون فيها أهل العلم؛ لأن ميزة المتبعين لسلف هذه الأمة أنهم لا يقدمون رأيا على حكم الشرع، وإذا كان كذلك فإذا اشتبهت مسألة: هل يسوغ لنا أن نأخذ بها أم لا؟ يسأل أهل العلم، فإذا أفتى أهل العلم بالجواز كانت جائزة، وإذا أفتى أهل العلم بالمنع كانت ممنوعة، فيكون المرء قد خرج عن رأيه في المسألة، واتبع كلام أهل العلم، متبعا في ذلك قول الله سبحانه و?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([25]).
4/ هذه عدة أسئلة أختار منها واحد، يقول: ما معنى قولهم لابد من إقامة الحجة من انتفاء الموانع وثبوت الشروط؟
انتفاء الموانع وثبوت الشروط، لا أعلم –ربما القصور- أنها جعلت تبعا لمسألة إقامة الحجة، وإنما جعلت هذه في مسائل الأحكام والأسماء؛ يعني هل يكفر؟ الكفر متى يطلق؟ البدعة متى تطلق؟ الفسق متى يطلق؟ ونحو ذلك، هذه من الأسماء، وهذه الأوصاف عي التي قال فيها أهل العلم لا بد حين إطلاقها على المعين أن تجتمع الشروط وأن تنتفي الموانع، أما في إقامة الحجة فلا أذكر أحدا في ذلك.
5/ ما معنى قولهم قامت الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟(20/117)
نعم الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قامت على العالمين، على العالمين جميعا ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث للناس أجمعين، قد قال عليه الصلاة والسلام «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار»وسمعتُ من كلام العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أنه قال في شرح هذا الحديث -سمعتُ منه مشافهة- أنه قال: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة) هذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من رآني في المنام فقد رآني»، ذلك أنه يعني في تفسير حديث المنام أنه من رآه على صورته التي خلقه الله جل وعلا عليها، وقوله في الحديث (لا يسمع بي) يعني بي على ما بعثني الله جل وعلا عليه، فإذا كان هناك سماع محرّف، سماع ليس فيه وصف لما جاء به النبي جل وعلا على ما جاء به النبي فهو من جنس رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير صورته، فلا يكفي ذلك في معرفة الحق. وهذا من الشيخ كلام نفيس فيما أحسب؛ لأنه لابد أن يكون في إيضاح الحجة وإقامتها أن يكون الدين واضحا، لا يكفي أن يسمع ببعض الحجة ولا يفهم يعني ولا تقام عليه بدلائلها، لا يكفي أن يسمع شيئا والتشويشات عليه، بل لا بد أن يسمع اليهود والنصارى ونحوهم أن يسمعوا ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما بعث به، فإذا كان منهم من سمع هذا الكلام، من سمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعا، لكن ما عرف دينه ما عرف ما جاء به حقا كما يبلغه أهل العلم، إذا ما عرف القرآن وما أقيمت عليه الحجة من وجه آخر، هذا لا يقال أنه أقيمت عليه الحجة الرسالية، لكن هذا إنما نعني به طائفة من الذين ربما ما سمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو سمعوا به سماعا محرفا هذا قد ينجيهم، ويُبعث لهم يوم القيامة رسول من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، إذا كان لم يسمعوا بالإسلام الذي بعث(20/118)
الله جل وعلا به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، كذلك المشركون في هذه الأمة إذا سمعوا شيئا مثلا في بعض البلاد يسمعون شيئا من أخبار أهل السنة، مثلا جماعة أنصار السنة في البلاد التي فيها شرك، يسمعون شيئا من أخبارها لكن ما أقيمت عليهم الحجة بمعني بينت لهم الدلائل فهل السماع يكفي، هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، وأئمة الدعوة قالوا إن السماع بدعوة محمد بن عبد الوهاب لا يكفي إلا في الجزيرة؛ لأنها ظهرت –يعني في وقتهم- الدعوة ومشت في الفتوح وبينت للناس في ذلك في جميع بلاد الجزيرة، وأما في غيرها فإذا كان لم يُسمع بالدعوة فلا بد من إقامة الحجة، هنا إذا لم تقم الحجة عل يكفر عبدة القبور أم لا؟ الجواب نعم، من قام به الشرك فهو مشرك، الشرك الأكبر من قام به فهو مشرك، وإنما إقامة الحجة شرط في وجوب العداء، كما أن اليهود والنصارى نسميهم كفار، هم كفار ولو لم يسمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أصلا، كذلك أهل الأوثان والقبور ونحو ذلك من قام به الشرك فهو مشرك، وترتَّب عليه أحكام المشركين في الدنيا، أما إذا كان لم تقم عليه الحجة فهو ليس مقطوعا له بالنار إذا مات، وإنما موقوف أمره حتى تقام عليه الحجة بين يدي الله جل وعلا.
فإذن فرق بين شرطنا لإقامة الحجة، وبين الامتناع من الحكم بالشرك، من قام به الشرك الأكبر فهو مشرك ترتب عليه آثار ذلك الدنيوية، أنه لا يستغفر له ولا تؤكل ذبيحته ولا يضحى له ونحو ذلك من الأحكام، وأما الحكم عليه بالكفر الظاهر والباطن فهذا موقوف حتى تقام عليه الحجة، فإن لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله جل وعلا.
هذا تحقيق كلام أهل العلم في هذه المسألة وهي مسألة مشهورة دقيقة موسوعة بمسألة العذر بالجهل.
6/ قول العلماء ما هو معلوم من الدين بالضرورة وما ليس معلوما من الدين بالضرورة؟(20/119)
هذا ليس تقسيما لإقامة الحجة هذا تقسيم لما يكفر به المؤمن، يرتد به المسلم من المسائل التي ينكرها، فأهل العلم يقولون إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة فهذا يكفر، أما إذا لم ينكر معلوما من الدين بالضرورة؛ المسائل التي يخفى دليلها فلا بد من التعريف، من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم، هذا يمنع من التكفير، حتى ولو اعتقد إباحتها مثل مثلا الحنفية رحمهم الله يرون إباحة النبيذ أعني متقدميهم يرون إباحة النبيذ، مع أن الدلائل من السنة على تحريمه ظاهرة، مع ذلك أهل العلم لم يكفروهم؛ لأنهم اعتقدوا ذلك، لأنهم كانت لهم شبهة في هذا، فهُم ما أباحوا الحرام الذي يعلمون أنه حرام، وإنما أباحوا ما اعتقدوا أنه حلال، فلم يكفرهم أهل العلم بذلك، كذلك المسائل التي تجدّ في كل عصر من المسائل المختلف فيها، ولو كان هناك قول شاذ أو ضعيف في المسألة فهذه شبهة تدرأ التكفير.
هناك بعض المسائل يكون أصلها معلوم من الدين بالضرورة وأما أفرادها فتكون مختلفا فيها، مثل الربا أصله في القرآن بلا شك، فمن زعم أن الربا مباح فهو كافر بالله جل وعلا، لكن بعض صور الربا بعض أهل العلم يقول هذا من الربا، وآخرون يقولون هذا ليس من الربا، فإذا اختلف الناس يعني من أهل العم في صورة هل هي من الربا أم لا؟ فهذه شبهة تمنع من التكفير، هذا أصل عند أهل السنة نبّه عليه شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع.
7/ بعض الأسئلة ما أفهم المراد منها تماما فأتركها، قال تعالى ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، وقال تعالى ?لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، يستدل بذلك بعض الجماعات بأن الحجة قامت على الناس بإرسال خاتم النبيين والمرسلين، ويستنبطون من ذلك تكفير كل من ارتكب ما يكفره بدون إقامة حجة عليه، فما رأيكم في هذا القول؟(20/120)
هذا أوضحناه مرارا من أنه لا يكفي في إقامة الحجة ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل مسألة الناس خالفوا فيها الأصل الذي جاء به عليه الصلاة والسلام، بل مثل ما قلت لكم المسائل تقسم ما يعلم من الدين بالضرورة وما لا يعلم من الدين بالضرورة، المسائل تقسَّم إلى أشياء واضحة جلية تكون إقامة الحجة فيها سهلة، وأخرى تحتاج إلى إقامة حجة تلوى حجة، الذين يكفِّرون الناس بهذا الأمر هؤلاء خارجون عن السنة هؤلاء من جنس الخوارج، بل الخوارج كما هو معلوم لا يزالون يخرجون إلى قيام الساعة حتى يقاتل آخرهم مع الدجال والعياذ بالله، فهؤلاء هم الذين يكفرون الناس بالمعصية أو يكفرون الناس بدون إقامة للحجة بما يبيّنه أهل العلم.
إنما عندهم هوى فيكتفون بأصل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إقامة الحجة.
8/ أيضا في مسألة إقامة الحجة يقول: الذين خالفوا أئمة الدعوة رحمهم الله في فهمهم للحجة هل لم يعلموا قول الأئمة في إقامة الحجة؟
لا، الذين أقيمت عليهم الحجة عُلموا وبينت لهم برسائل خاصة، بمصنفات، بمناظرات أقيمت، بينت لهم الأدلة، وجه الاستدلال، هدي سلف هذه الأمة، بينت لهم الأدلة من الكتاب والسنة بين لهم الهدى أوضح لهم ذلك تماما، فإذا كان عرض لهم شيء من أن ما عندهم من الحجج أظهر، فهذا يكون عقوبة لهم، الحجة أقيمت عليهم، فليس كما ذكرت من الشرط أن تفهم الحجة فهم استجابة، بل يكفي أن تقام الحجة ولو قال لم أفهمها، فهذا ليس مانع من أن يكون أقيمت عليه الحجة، فإقامة الحجة معناها إبانة المسألة بدلائلها الواضحة الخالية عن معارضة واضحة ظاهرة، أما جنس المعارضات مثلا بأحاديث ضعيفة، بأحاديث موضوعة، بأوجه من فعل أهل العلم، بإقرار بعض الناس لبعض بتلك الشركيات وتلك المنكرات فهذه ليست بحجة ترد بها الأدلة.
نختم بهذا وأسأل الله لي ولكم لتوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ([26])
[المتن](20/121)
(المسألة السابعة عشرة) نسبة باطلهم باطلهم إلى الأنبياء، كقوله ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ?[البقرة:102]، وقوله ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا?[آل عمران:67].
(المسألة الثامنة عشرة) تناقضهم في الانتساب ينتسبون إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه.
(المسألة التاسعة عشرة) قدحهم في بعض الصالحين بفعل بعض المنتسبين إليهم كقدح اليهود في عيسى وقدح اليهود والنصارى في محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(المسألة العشرون) اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين ونسبته إلى الأنبياء كما نسبوه إلى سليمان عليه السلام.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فالمسألة السابعة عشرة من المسائل التي خالف فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية، وأهل الجاهلية المراد بهم كلّ من كان على غير دين الإسلام، سواء كان من المشركين أو من أهل الأديان المحرّفة أو المنسوخة أو من أهل الأديان المبتدعة، هذا تذيكر بما قاله الشيخ في أول الكتاب.
فمن ما كان عليه المشركين من الجاهلية ومن المشركين ومن اليهود والنصارى أنهم كانوا ينسبون باطلَهم إلى الأونبياء، إذا فعلوا فعلا نسبوه إلى الأنبياء ليكون حجة ولتلقى عنهم التبعة.
المشركون؛ مشركوا العرب كانوا ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام ويعتقدون أن كثيرا من الدين الذي هم عليه كان عليه إبراهيم عليه السلام، ويستدلون بذلك على صحته.
وكذلك كان اليهود وكذلك كان النصارى.
قال الله جل وعلا في الصنف الأول ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:120]، وقال ? وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ?([27]).
وقال جل وعلا في إبطال دعوى أولئك ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا?[آل عمران:67].(20/122)
كذلك كان أولئك الجاهليون ينسبون باطلهم وما هم عليه من الضلال الذي لم تأمر به الرسل مطلقا من مثل السحر ينسبونه إلى بعض الأنبياء كما مرّ معنا في نسبتهم ذلك إلى سليمان عليه السلام، قال جل وعلا ?وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ?[البقرة:102]، ولهذا كان السحرة السابقون لبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ينسبون سحرهم وما تعلموه من السحر إلى سليمان عليه السلام، كما قال هنا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)؛ لأن سليمان عليه السلام لم يأمر بالسحر ولم يرض به، وإنما فعلت الشياطين ما فعلت بأنْ دسَّت كتب السحر تحت كرسيه حتى لما مات أُستخرج ذلك ونُسب لسليمان عليه السلام، قال تعالى (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يعني بما أملوه في الكتب وجعلوه مستورا مركوما ودفن تحت كرسي سليمان ثم استخرج بعد موته.(20/123)
كذلك اليهود والنصارى الجميع يقول إنّ إبراهيم عليه السلام الذي هو إمام الحنفاء ووالد لأنبياء والرسل عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، ينسبون إبراهيم عليه السلام إليهم، فاليهود يقولون إن إبراهيم كان يهوديا، والنصارى يقولون إن إبراهيم كان نصرانيا؛ يعني كان على اعتقاد اليهود المتأخر الذي أُحدث، فاليهود أحدثت اعتقادات، وأحدثوا أنواعا من الباطل، يقولون أن إبراهيم كان على ذلك الاعتقاد الذي وضعه علماؤهم بعد موسى عليه السلام، كذلك النصارى ينسبون إبراهيم الخليل إليهم، وكذلك المشركون، فردّ الله جل وعلا دعوى الجميع بقوله ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[آل عمران:67]، فأبطل دعوى المشركين في نسبة باطلهم إلى إبراهيم، وأبطل دعوى اليهود في نسبة باطلهم إلى إبراهيم، وأبطل دعوى النصارى في نسبة باطلهم إلى إبراهيم عليه السلام.
وهذا الأمر ألا وهو نسبة الباطل إلى الأنبياء لمِا كان عليه أهل الجاهلية هذا كثير في هذه الأمة، ما من دعوى مضِلَّة في هذه الأمة إلا وأصحابها ينسبونها للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من أجمع عليه أنه لا يجوز الإتيان بدين لم يكن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأهل الضلالات والأهواء المختلفة في هذه الأمة كل ينتسب في دينه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -:
الخوارج أول ما خرجت قالت نحن المنتسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام لأنهم لم يقيموا الدين الذي جاء به.
وكذلك الرافضة فعلت ذلك، وهكذا كل نحلة تنسب باطلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون ذلك أقوى لها، وأيضا لأنهم كان عندهم بعض الشبه في ما راموه وما ذهبوا إليه من المسائل.
كذلك المتكلمون والصوفية ونحوهم مما ذكرنا سالفا مرارا في شرح هذه المسائل كل ينتسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.(20/124)
ونسبة الباطل إلى الأنبياء يكون على طريقين:
الطريق الأولى: أن ينسب الباطل إلى الأنبياء بأنهم فعلوه وأنهم اعتقدوه.
والثانية: أن ينسب الباطل إلى الأنبياء يعني إلى أنه من دينهم.
وهذا هو الذي حصل في هذه الأمة فكان بعض هذه الأمة نسب باطله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقادا وفعلا مثل ما فعل طائفة من المتكلمين أكثرهم وأهل البدع في مسائل الاعتقاد نسبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام كان على هذا الاعتقاد، وكذلك أهل التصوف يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام كان على ما يفعلونه، وهذا كان مشهور من بعض أسانيدهم في لبس الخرقة [الشركية] المعروفة بإسناد معروف، فيقولون إن أول من ألبسها هو النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من جنس ذلك الباطل الذي كان عليه أهل الجاهلية في أنهم يبتدعون دينا يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام فعله، وهذا ولا شك مما يروج ذلك الباطل عند الجهلة إذا كان نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - موسوما بالصلاح أو موسوما بالعلم، هذه الجهة الأولى.
والثانية أنهم ينسبونها إلى النبي عليه الصلاة والسلام استنباطا لم يكن فعله، وهذا أكثر في هذه الأمة فإنه في المسائل التي لم يظهر النص فيها تماما، ويكون عند بعض السلف فيها شبهة في بعض مسائل الصفات والإيمان والقدر ونحو ذلك، ومسائل الأسماء؛ أسماء الكفر البدعة الفسوق وما أشبه ذلك، والأحكام والوعد والوعيد ونحو ذلك، هذه ينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - استنباطا، لا يقولون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا نصا أو اعتقد هذا نصا، لكن يقولون هذا يستنبط من فعله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه.
فطائفة من ضلال هذه الأمة ينسبون باطلهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر الأول وطائفة ينسبون إليه عليه الصلاة والسلام بالأمر الثاني.(20/125)
ولهذا كل أحد في هذه الأمة لا يخرج من الفرق الاثنين والسبعين، فقد لا يخرج في انتسابه للكتاب والسنة، فكل يقول إننا على الكتاب والسنة، وسواء في ذلك ما كان من دينهم صوابا أو ما كان خطأ وضلالا، فالكل يقول نحن ننتسب إلى الكتاب والسنة، ولهذا اعتنى أئمة الإسلام من سلف هذه الأمة بالتنصيص على شيء زائد على اتباع الكتاب والسنة، ألا وهو اتباع سلف هذه الأمة لأنّ نسبة الباطل إلى الأنبياء كثر في الأمة جدا، نسبة الباطل إلى النبي عليه الصلاة والسلام كثر في هذه الأمة جدا، حتى إنه لا يُعجز من كان عنده هوى أن يستخرج من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على بدعته وما يؤيد به نحلته، وقد أطنب الشاطبي رحمه الله في الموافقات في ذكر هذه المسألة وكذلك في الاعتصام، وبين أن النصارى احتجوا على المسلمين بخصوص بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، وبين أيضا أن من هذه الأمة من قال إنه لم يرد في القرآن تحريم للخمر وذلك لأن الله جل وعلا قال ?فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[المائدة:90] ولم يحرمها تحريما.
وكذلك ما استدل به الخوارج واستدل به المرجئة في مسائل الوعد والوعيد، فالخوارج غلو في التكفير والمرجئة جفوا في النصوص حتى أدخلوا في الإيمان والإسلام من ليس مسلما ولا مؤمنا وأخرجوا العمل عنه.(20/126)
كلٌّ يأخذ من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على بدعته، وذلك لأن الله جل وعلا ابتلى الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام وبفهم الدين الذي جاء به الذي لا .... ([28])، فنصوص الكتاب والسنة قد يكون بعضها يشتبه على من لم يكن من الراسخين في العلم، بل قد يشتبه على كثير من طلبة العلم، فابتلى الناس جل وعلا باتباع النبي عليه الصلاة والسلام فهو الموضح للشريعة، ولما كان أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام لبيان القرآن ليست مبنية بكاملها، بل قد يكون من يُبيّن منها الآيات وكان في حديثه عليه الصلاة والسلام ما فيه نوع اشتباه، احتجاج الناس إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيان الدين الحق وفي بيان ما يضاده، وهكذا يحتاج الناس إلى أهل العلم، فإن الله جل وعلا قال ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، وتلك المتشابهات تشتبه على بعض الناس دون بعض، فإذا كان هناك في كلام الله ما هو مشتبه لا يفهمه كثير من الناس، وما اشتبه على طائفة يعني الذي اشتبه على طائفة من أهل العلم فكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أولى أن يكون فيه اشتباه، وهذا حصل بالفعل، فالأحاديث قد يكون بينها تعارض، بينها اختلاف، أحاديث فيها رجاء، وأخرى فيها تخويف، أحاديث فيها وعد وأخرى فيها وعيد، وأهل العلم هم الذين يحملون بعض الكلام على بعض، يجعلون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام بعضها يفسر بعضا، من أهل الأهواء نسبوا أباطيلهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام من جرّاء الاستدلال بالمتشابهات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (فاحذروهم) لم؟ لأنهم اختلفوا في الكتاب واستدلوا بالمتشابه منه، وهكذا استدل من استدل بآيات من الكتاب، وأحاديث من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم(20/127)
- تأييدا لباطلهم، فكل من أهل الأهواء في هذه الأمة يستدل على باطله بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بما قاله عليه الصلاة والسلام أو ببعض نصوص الكتاب، ولهذا احتاجت الأمة أعظم حاجة إلى صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكي يبينوا للناس تلك النصوص، فضلَّ الخوارج أول ما ضلوا في آيات الأسماء وآيات الوعد والوعيد وفي أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسماء وفي الوعد والوعيد، فبيّن الصحابة ما يعنى بذلك، فضلوا في بيان مسألة الحكم بغير ما أنزل فكفروا بها، والصحابة رضوان الله عليهم بينوا لهم الصواب في ذلك.
وهكذا لم يزل الناس محتاجون إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيانه، لهذا كان أئمة الإسلام ينتسبون إلى الجماعة، ينتسبون إلى السنة والجماعة، ولا يكتفون بنسبتهم إلى السنة؛ لأن النسبة إلى السنة يدخل فيها كثير من أهل البدع في مقابلة الرافضة، وأما السنة والجماعة فإنها تلخص الطريق الذي يكون أتباعه ويكون معتقدوه على طريقة الصحابة وعلى طريقة الجماعة قبل أن تظهر الأهواء وقبل أن تفسد العقول والقلوب.
كذلك احتاج إلى أسماء يُميّزهم منها الانتساب إلى السلف، إلى الأثر إلى الجماعة، إلى الحديث ونحو ذلك، مما يميز أهل الحق من غيرهم من أهل الأهواء، وتجد في عصور هذه الأمة في كل القرون المتقدمة لا يعزب أحد أن ينسب شيئا من باطله إلى الكتاب والسنة، بل قد يجد من نصوص أهل العلم ما يدل لباطلهم، فيكون نسب باطله إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى بعض أئمة أهل العلم، وأهل السنة يقولون إذا كان في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو مشتبه، فكذلك يكون في كلام أهل العلم ما هو مشتبه، لا يفهمه إلا أهل العلم الراسخون، فإذا كان من الناس من ليس بذي رسوخ في العلم، ربما يجد في نصوص أهل العلم ما لا يتضح المراد منه حتى نصوص أئمة أهل السنة والجماعة.(20/128)
ولهذا يحتاج في فهمه إلى عرضه على أهل العلم، إلى عرضه على كلامه في مواضع أخر من كلام ذلك العالم، إلى عرضه على نصوص الكتاب والسنة، وهذا لا يكون إلا من أهل العلم.
فإذن الكلام المشتبه المشتبه قد يوجد في كلام أهل العلم بمعنى يشتبه معناه، لا يتضح المراد منه، قد يوجد هذا في كلام أهل العلم، بل إنه موجود وكثير.
لهذا اعتنى أئمة الإسلام أئمة أهل السنة والجماعة ببيان الأصول التي من خالفها فقد خالف النبي عليه الصلاة والسلام وخالف صحابته، أصول مجمع عليها وهي التي سمّوها معتقد أهل السنة والجماعة العقيدة السنة يعني العقيدة، الشريعة يعني العقيدة، ونحو ذلك، فصنفوا مصنفات في ذلك، التي تزيل أي باطل نُسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو إلى بعض المتقدمة.
وهكذا تجدون في كل زمان بحاجة؛ بل في أشد الحاجة لأن تكون النسبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وإلى صحابته ونزيد إلى أئمة أهل السنة والجماعة، لم؟ لأن بعض كلمات الصحابة قد لا تكون وافية منقولة إلينا في كل المسائل فنحتاج إلى فهم أئمة أهل السنة والجماعة لفهم كلام الله، كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كلام صحابة النبي عليه الصلاة والسلام.
وبهذا يتضح الطريق النهج الصواب، وتبطل به طرق الضلالات المختلفة.
فإذن ما يُتخلق به من هذه الخصلة من خصال أهل الجاهلية. أن يُلتزم طريق السنة والجماعة وطريق أئمة الإسلام.
فإذن عندنا الكتاب والسنة، واتباع سلف هذه الأمة، ألا وهو صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان، والإقتداء بأئمة أهل السنة والجماعة الذين هم على النهج الذي لا اشتباه معه ولا يخرج عنه إلا صاحب خطأ أو صاحب هوى.(20/129)
المسألة الثامنة عشرة وهي أنّ أهل الجاهلية يتناقضون في الانتساب، فينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام مع مخالفتهم لدينه، وذلك كثير في اليهود والنصارى وفي الجميع، في جميع من تبع الأنبياء هم متناقضون من جهة أنهم ينتسبون نسبة نبي من الأنبياء وإلى رسول، وهم يخالفون ما أمر به وجاء به.
وقد أوضحنا في كتاب فضل الإسلام هذه المسألة بتفصيل، وذلك أنّ إمام الدعوة رحمه الله عقد لها باب في باب ما جاء عن الخروج عن دعوى الإسلام وأن المنتسب إلى الحق والهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام بل إلى الإسلام هذا يلزمه أن يكون انتسابه صحيحا، وإلاّ لكان دعوى؛ لكان تناقضا، مثل ما قال الشيخ هنا.
فإذن إذا كان الانتساب إلى الكتاب والسنة وإلى ما كان عليه سلف هذه الأمة ثم خالف ذلك في غير شبهة وغير تأويل فإنه يكون قد تناقض في ذلك الانتساب، إذا لم يكن هناك شبهة وتأويل في بعض المسائل فإنه يكون تناقض في الانتساب، ينتسب إلى الكتاب والسنة وإلى الصحابة إلى السلف وهو ليس على ذلك النهج يطلب غيره فإن دعوى الانتساب لا تنفعه؛ لأن أهل الجاهلية انتسبوا إلى إبراهيم، وكان ذلك أعظم ما يفخرون به ولم ينفعهم ذلك.
فإذن قول الشيخ هنا (تناقضهم في الانتساب) تنبيه على هذه المسألة المهمة وهي أن المنتسب لا يشرك في مجرد الانتساب، بل يشرك بصحة الانتساب إذا كان انتسابه صحيحا على الدين والهدى الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك شرف له وهو بذلك محق، أما إذا كان ينتسب وهو يخالف فلا تنفعه تلك النسبة مهما علا صوته بها.(20/130)
وهذا فيه إبطال لما دخل في هذه الأمة من جراء هذا الانتساب، وبيان أن ذلك من جنس ما كان عليه أهل الجاهلية، ينتسبون إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهم يخالفونه في أبواب الاعتقاد وفي أبواب العمل والسلوك والأخلاق وغير ذلك، ينتسبون إلى الصحابة وهم يخالفون نهجهم، ينتسبون إلى الكتاب؛ إلى القرآن وهم يخالفون ما جاء في القرآن، وهذا كثير جدا في كل صاحب هوى وبدعة لا يخلو من التناقض؛ لأنه إنما عصم كتابه من التناقض، وعصم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من التناقض، وهكذا، فالأمر المعصوم هو ما دل عليه الكتاب والسنة وما كان عليه صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام أجمعون، هذا هو السالم من التناقض، أما غيره من الطرق فإن صاحبه لابد أن يتناقض، تجده في مسألة يحكم بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف، وأخرى تراه ينقض بعض الشيء ويخرج عنها، وهذا قد تقدم بيانه مرارا فلا مزيد الكلام عليه.
المسألة التاسعة عشرة هي أنهم يقدحون في بعض الصالحين بفعل بعض المنتسبين إليهم، وذلك من مثل ما قدح اليهود في عيسى، ومن مثل ما قدح المنافقون والمشركون في النبي عليه الصلاة والسلام من جرّاء فعل بعض الصحابة ونحو ذلك، وهذا ظاهر بيّن في أنّ صاحب الهوى يتلمّس ما يُبطل به حجة من جاءه بالهدى وما يُضعف به مكانَه، وقد يكون ذلك عن طريق القدح في الأتباع، إذا لم يجد طريقا على صاحب الدعوى؛ على النبي عليه الصلاة والسلام، على أحد من أهل العلم، إذا لم يجد طريقا قدح في الأتباع ليكون قدحه في الأتباع قدحا في المتبوع، وهذا كان في المشركين كما سمعتم، وكان عند اليهود وعند النصارى وعند أصحاب كل النِّحلات؛ لأنّ من أسهل الطرق؛ لأنّ الأتباع ليسوا بمعصومين فلابد أن يحصل منهم غلط، لابد يحصل منهم قصور، فإذا أُبطل الحق بفعل الأتباع صار ذلك نوع هوى، بل هو هوى باطل، وهذا جاء في طوائف في هذه الأمة.(20/131)
من أظهر الأمثلة على ذلك ما فعله بعض الناس من نسبة كثير من الباطل إلى الإمام أحمد رضي الله عنه بفعل بعض الجهلة من أصحابه المتأخرون؛ يعني الذين كانوا بعده بنحو قرن من الزمان، فإن الحنابلة مثلا كانوا بعد زمن الإمام أحمد يعني تلامذة الإمام أحمد كانوا على عقيدته وعلى طريقته في الاعتقاد وفي السلوك، بعد ذلك صار عند طائفة من الحنابلة من عوامهم وبعض طلبة العلم صار عندهم خروج عن طريقة الإمام أحمد في بعض مسائل المعتقد وفي بعض مسائل السلوك يعني معاملة الناس، ومن الأمثلة الظاهرة على ذلك ما فعلوه بالإمام ابن جرير رحمه الله تعالى حيث إنهم سمعوا منه كلمة قالها في مسجده حين الدرس فلحقوه و[غلّقوا] عليه بابه لمخالفته، وهذا لا شك أنه لن يرض عنه أئمة الحنابلة في وقته ولن يرض عنه أهل العلم، لهذا قال ابن كثير رحمه الله حينما ساق هذه الحكاية قال: إنّ هذا من فعل جهال الحنابلة. ومما حصل منهم، من بعض التصرفات منهم، بل بعض الأقوال من التجسيم الذي كان عند بعض الحنابلة وإثبات صفات لم ترد في النصوص الثابتة من مثل القاضي أبي يعلى ونحو ذلك في كتابه ”إبطال تأويلات الصفات“ قدح المعتزلة والأشاعرة والمتكلمون في عقيدة الإمام أحمد لأجل فعل أولئك الأتباع، فلما فعلوا ما فعلوا، قالوا إن عقيدتهم؛ عقيدة الإمام أحمد، بل عقيدة أهل السنة والجماعة أنجبت مثل هذا.(20/132)
لهذا نقول هاهنا إن القاعدة المقررة أنه يُنظر إلى الحق الثابت، ولا ينظر إلى من أخطأ تطبيق ذلك الحق، فإنّ من الناس من يكون يخطئ في تطبيق الحق، فلا ينسب خطؤه إلى ذلك الطريق الحق، مثل بعض المنتسبة إلى طريق السلف أخطأ في بعض المسائل، فلا يجوز أن ينسب ذلك الخطأ إلى طريق السلف إما في الاعتقاد، وإما في السلوك، من جهة، من مثل ما مثلت لك، من تأويل الصفات في إثبات الصفات عن طريق التجسيم حتى نسب لله جل وعلا نحرا وعضدا ومجاري في الحلق ونحو ذلك، مما هو قد اُستدل عليه بعض الأحاديث الموضوعة المكذوبة، وفي السلوك كذلك فإنّ بعض الحنابلة كانت عندهم يعني بعض المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة كان عندهم نوع –كما قال شيخ الإسلام وغيره- استهانة ببعض المسائل لا يُنسب لأهل السنة والجماعة، وإنما ينسب إلى أهل السنة والجماعة ما قرره أوائلهم وبينوه.
أصحاب الهوى يقدحون في الحق؛ في العقيدة بفعل الأتباع، وهذا لا يجوز؛ لأن الحق ينظر إليه من جهة نصوصه لا من جهة أتباعه، لهذا تجد أنّ بعض المغرضين أصحاب الهوى في هذا العصر بل فيما قبله أي من الفوضاويين ومن العقلانيين ومن الفلاسفة يقدحون في صحة نبوة النبي عليه الصلاة والسلام بما حصل من صحابته رضوان الله عليهم بعده من الخلاف، بما حصل منهم من اختلاف، بل إن بعض الناس قدح في إمكان إقامة حكم الله جل وعلا في الأرض عن طريق دولة تقيمه وخلافة، قدح في ذلك؛ لأن هذا لم يكن في الصدر الأول لأن الصحابة اختلفوا وتقاتلوا وتناحروا وهم الصفوة، فكيف يمكن الإقامة مع أن الصفوة لم تستطع عمل ذلك إلا في قريب من عشرين أو ثلاثين عاما، وانتشر بينهم القتل وانتشر بينهم ما هو معروف، فيستدلون بهذا الأمر الذي نعلم أنه كان عن اجتهاد ..... ([29]) على إبطال صحة هذا الدين وإبطال الحق الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا كثر في مؤلفات في هذا العصر تقدح في الالتزام بالإسلام وفي إمكان تطبيقه.(20/133)
كذلك أصحاب المذاهب؛ أتباع الأئمة الأربعة، فإنه قد يكون عند بعض الأتباع ما هو من الخطأ، بل ما هو من الإجحاف، بل ما هو من الضلال، قد يكون ذلك إما في مقال، وإما في رأي، وإما في سلوك، ولا يجوز أن ينسب باطل المقلدين إلى أولئك الأئمة، ويُتنقص من شأن الأئمة من مثل الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى والإمام مالك أو الإمام الشافعي أو الإمام أحمد أو نحوهم من الأئمة، لا يجوز أن تنسب تلك الأخطاء التي كانت عند أولئك إلى الأئمة وننتقص بذلك فقه الأئمة وما كانوا عليه، ولهذا ألف شيخ الإسلام رحمه الله رسالته المعروفة ”رفع الملام عن الأئمة الأعلام“ وهذا شاع في هذا الوقت في بعض المؤلفات التي رأيتها، واستدلوا فيها على بطلان أو على القدح في بعض الأئمة ببعض أقوال المتأخرين منهم أصحابهم، ولاشك أنّ هذا من جنس فِعل أهل الجاهلية لأنهم يقدحون في بعض الصالحين بما ظهر في الأتباع.
كذلك بعض أئمة السلوك من ينسب إليهم المتصوفة مثل عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى ونحوه من الصالحين المعروفين بملازمة السنة كالجنيد وأضرابهم، هؤلاء أتباعهم أنشؤوا طرقا وضلالات ونسبوها إلى أولئك الأئمة أو إلى أولئك الصالحين، لا يجوز لأحد أن يتنقص أحد من أولئك الذين عُلم صلاحهم وعُلم متابعتهم من جرّاء فعل هؤلاء المتأخرين، ولهذا يشارك من فعل مثل هذا الفعل يشارك أهل الجاهلية.(20/134)
بعض الوهابيين -كما يقال- في بعض الأمصار اليوم عندهم طريقة في الدعوة ليست الطريقة التي كان عليها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى من أنهم أول ما يبدؤون في دعوتهم يتنقصون أولئك الذين يقال لهم أولياء فمثلا إذا وجدوا أن الصوفية متعلقين بفلان من الناس، جاء أولئك الذين هم ينتسبون إلى نصرة السنة المحمدية، وإلى نصرة العقيدة الصحيحة، لكن يخطؤون في الطريق وفي الأسلوب؛ لأنهم يقدحون أول ما يقدحون في ديانة ذلك الميت وفي عقيدته، وهذا لاشك أنه يُحدث عدم قناعة بما يقوله أولئك، يتجاوز هؤلاء حدهم حتى ربما نسب البعض منها إلى الكفر وإلى الضلال وإلى أنهم طواغيت ونحو ذلك وهي مبنية منذ مئات السنين، مرة في هذا المسجد أحد المشايخ من السودان وتذاكرنا في بعض مسائل التوحيد والالتزام بالسنة وإنكار السلف الصوفية والشركيات والبدع ونحو ذلك، فقال في آخر ما قال: إن الطريقة التي يفعلها بعض الناس هناك ليست هي الطريقة تفعلها هاهنا من جهة أنهم أول ما يبدؤوننا به القدح في الأولياء الذين نعظمهم. وهذا لا شك الكلام الذي قاله سمعته من بعضهم، يعني من بعض من ينسب إليهم، وهو صحيح النسبة إليهم وهو خطأ، هؤلاء الصوفية والخرافيين استغلوا ذلك، فنسبوا ذلك الباطل تلك الطريقة الفجّة، تلك الطريقة التي ليست هي الطريقة الشرعية إلى الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وهذا من جنس ما كان عليه أهل الجاهلية في أنهم يتنقصون الأنبياء بفعل بعض المنتسبين إليهم، يتنقص من شابههم في هذه الأمة العلماء بفعل من انتسب إليهم، ولا يجوز أن يفعل ذلك بل يجب على طالب الحق والهدى أن ينظر في كلام ذلك العالم، ولا يقدح فيه بفعل الأتباع، لأننا نجد كثيرا أن من العلماء من يحضر عنده دروس ويستفيد منه وجها من الزمن بعض الناس، وتجد أنه -يعني بعض طلبة العلم- يخالفون المنهج الذي هو عليه من لزوم السنة، فلا يجوز أن يقدح في أحد من أهل العلم(20/135)
بفعل بعض المنتسبين إليه، بل أعظم من ذلك أنه قد قدح في الإسلام بفعل المسلمين، ولا بد هنا أن يكون تباين بين الإسلام والمسلمين؛ لأن المسلمين بفعلهم لا يدلون على الإسلام، فمن أراد أن يعرف الإسلام ولأن يتعلم الإسلام يأخذه من معينه الصافي، ولا ينظر في أفعال أهله لأنه ربما كان في أفعال ما يصد عن الالتزام بالإسلام واعتقاد صحته وأنه ممكن التصديق وأن الالتزام به سهل ميسور، وهكذا،
فهذه المسألة مهمة في أنه لا يتنقص من أحد بفعل بعض الأتباع يعني هذه من خصال أهل الجاهلية، بل يجب أن ينظر إلى ذلك المتبوع ويعرف أحواله، نعرف أحواله، فإن كانت على الحق والهدى أثنينا عليه خيرا وخطّأنا أتباعه فيما راموا إليه، وكما تعلمون أن شيخ الإسلام ابن تيمية شرح كثيرا من كلمات القوم من جنس شرحه لكلمات فتوح الغيب لعبد القادر الجيلاني، ومن جنس ثنائه على عدي الذي تتبعه الطائفة العدوية ونحو ذلك، فنثني على الطالحين إذا ثبت صلاحهم وسلامة اعتقادهم وأما الأتباع فيذمون، وذم المتبوع بفعل التابع هذا نوع وخصلة من خصال أهل الجاهلية.
المسألة الأخيرة من مسائل الجاهلية التي نعرضها هذه الليلة هي أنهم يعتقدون في مخاريق السحرة وينكرون كرامات الأولياء، واعتقاد أن تلك المخاريق أنها من كرامات الصالحين، يقول (العشرون اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهما من كرامات الصالحين ونسبته إلى الأنبياء كما نسبوه إلى سليمان عليه السلام)
سليمان عليه السلام سُخِّرت له الجن والطير وسخرت له الريح، وسخرت له أشياء كثيرة، السحرة فعلوا بعض الأشياء، فأهل الجاهلية ظنوا أن مخاريق السحرة من جنس كرامات الأولياء، فنُسب فعل السحرة إلى سليمان عليه السلام، نُسب فعل أهل الخوارق والشعوذة إلى الأنبياء، بل جعلوها من الكرامات؛ يعني جعلوا أولئك السحرة وأولئك المشعوذين وأشباههم جعلوهم من الصالحين؛ من الأولياء الذين تعطى لهم الكرامة:(20/136)
ولنبين هذا نقول إن المخاريق والخوارق على ثلاثة أقسام:
1. خوارق أعطاها الله جل وعلا للأنبياء.
2. وخوارق أعطاها الله جل وعلا للأولياء.
3. وخوارق جرت على يد الفسقة والكفار ومن خرج عن طريق الأنبياء.
فالأولى ألا وهي المخاريق التي جرت على يد الأنبياء هذه هي التي تسمى آيات وبراهين وبينات ومعجزات للأنبياء.
والثانية هي التي تسمى كرامات الأولياء.
والثالثة هي التي تسمى أحوال شيطانية وشعوذة ودجل وسحر.
ولهذا أهل السنة والجماعة يؤمنون بكرامات الأولياء، كما قالوا في عقائدهم: ونؤمن بكرامات الأولياء. فأولئك ينسبون مخاريق السحرة...([30])
والكرامة هي: أمر خارق العادة في علم أو تأثير طرأ على يدي ولي.
أمر خارق للعادة –هذا أولا-، في علم أو تأثير هذا بيان النوع، جرى على يدي ولي.
والولي عند أهل السنة والجماعة في الاصطلاح هو كل مؤمن تقي ليس بنبي.
فإذن ما يجري من الخوارق على الذي ليس بمؤمن تقي ظاهرا لمتابعته للسنة والتزامه؛ تحليله الحلال وتحريمه الحرام والمحافظة على الواجبات والانتهاء على المحرمات، ما جرى على أيدي هؤلاء يعني من كان مؤمنا تقيا سميناه كرامة، وأما من لم يكن على هذا الوصف، قد يكون في حقه كرامة وقد يكون حالا شيطانية، وأما إذا كان على ضد ذلك ممن كان من أهل المعاصي والبدع والفسوق والشركيات ونحو ذلك فهذا لاشك أن ما يحصل له أنه من قبيل المخاريق و الأحوال الشيطانية؛ لأن الكرامة نعمة يعطيها الله جل وعلا أولياءه؛ يعني المؤمنين المتقين، وأما السحرة والمشعوذين أشباههم فإنّ ما يجري على أيديهم من الخوارق إنما هو من الشياطين.(20/137)
هذه الأمة من أجل مشابهتها لمن سلف جرى عل يدي كثير من المنتسبين من هذه الأمة بعض المخاريق الكثيرة؛ من مثل المشي على الماء، دخول النار، من مثل الطيران في الهواء، من مثل سماع الأصوات البعيدة، من مثل إحياء بعض الميتين من الحيوانات ونحوها، ونحو ذلك، فيجري على يدي أولئك المشعوذون أو أولئك الفسقة يجري على أيديهم بعض المخاريق، فانغر بهم الجهال فجعلوا مخاريق السحرة كرامات، وجعلوا أولئك السحرة وأولئك المشعوذين جعلوهم أولياء، وهذه الشعبة من جنس ما كان عند أهل الجاهلية، حيث جعلت طائفة فيهم السحرة والمردة من الشياطين من أتباع سليمان عليه السلام؛ لأنهم فعلوا السحر وكان السحر عندهم من جنس ما يفعله سليمان عليه السلام.
لهذا اشتد نكير السلف على من ظهر منه ذلك.
فقال من قال منهم: إذا رأيت الرجل يسير على الماء أو يطير في الهواء فلا يغرنك حتى تزنه بالكتاب والسنة.
لأن ذلك قد يكون من فعل الشياطين، الشياطين قد تحمل الرجل المشعوذ -ساحر أو نحوه- وتجعله يمشي على الماء أو تجعله يطير في الهواء، ونحو ذلك. كما يجري بطائفة ممن نقلت الأخبار عنهم.
كذلك قد يجعلون الرجل يدخل في النار ولا يضره ذلك.
وقد يجعلون الرجل أو المرأة تمشي على الجمر ولا يضرها ذلك.
قد يجعلونه يدخل في حلقه آلة حادة أو سكين أو نحو ذلك ولا يضره ذلك.
هذا لا يغرنّ من رآه، لم؟ لأنه نجزم بأن تلك المخاريق قد تكون أحوالا شيطانية، وقد تكون من الله جل وعلا يعني كرامة، والضابط يعني الفرق بين هذا وهذا الفرق كما قال حتى تزنه بالكتاب والسنة، فإذا كان الرجل متبع وليس بمبتدع مستقيم صاحب تحليل الحلال وأداء الواجبات وتحريم المحرمات ونحو ذلك، فهذا ما جرى على يديه من كرامات الأولياء، سواء أكان من جهة الكشف والعلم أو من جهة القدرة والتأثير، وأما إذا كان الرجل ليس على ذلك فاسق، فاجر، مشعوذ، مشرك، مبتدع، ونحو ذلك، فهذا ما يجري على يديه نعلم جزما أنه من الخوارق.(20/138)
طائفة اليوم من أصحاب الطرق يجعلون من علامات الكرامات وصحة الطريقة التي ينتسبون إليها، الدخول في النار كما يفعله الرفاعية من المتصوفة، من دلائل صحة طريقة أحمد الرفاعي عندهم أن أتباعه يدخلون في النار ويمشون فيها ولا تحرق شيئا منه ولا تضره، منهم من يكون صالحا فيكون ذلك كرامة له، ومنهم وهم الأكثرن من يكون ذلك من جهة الشياطين؛ يعني تكون النار من فعل الشيطان ليس نار على الحقيقة ويدخل هذا ويعبر بسرعة ولا يضره ذلك بمساعدة الشيطان له في ذلك.
والذين يعرفون أحوال الصوفية والغلاة يعرفون هذه المسألة بوضوح، وأن من هذه الأمة من جعلوا من هو مشعوذ، فاسق، فاجر، مبتدع، مشرك، من جعلوه في مقام الأولياء، يجعل في مصاف عباد الله الصالحين، الدليل هو جريان تلك المخاريق على أيديهم، وتلك المخارق ليست بدليل؛ لأنها قد تكون أحوالا شيطانية، إذا كانت، بل هي أحوال شيطانية إذا كانت لأصحاب البدع، والفسوق، والفجور.
نكتفي بهذا القدر من بيان هذه المسائل، وننبه إلى أنه الأسبوع القادم إن شاء الله نستسمحكم في الدرس الأسبوع القادم مثل هذه الليلة ليس عندنا درس إن شاء الله تعالى، وفيما بعد نكمل إن شاء الله، هذا ونختم بالصلاة والسلام على من هدى إلى الخير وعلم وأرشد.
[الأسئلة]
1/ قول من قال إن طريقة أهل السنة والجماعة ومعتقدهم، ما الفرق بينه وبين من يقول نحن على طريقة السلف، حيث إنه في هذا الزمان كلٌّ يقول نحن على مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يقولون على طريقة السلف، ما حكم القولين؛ الأول والثاني؟(20/139)
أهل السنة والجماعة لفظ من الألفاظ الشرعية التي هي من جنس لفظ الإسلام، والأصل أنه لا يجوز الخروج عن دعوى الإسلام والتسمية بغيره؛ لأن الله جل وعلا قال ?هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78]، وفي هذا تسمية متبعي النبي عليه الصلاة والسلام التي سماهم الله جل وعلا بها أنهم المسلمون، مما سمى الله جل وعلا به أهل الإيمان أنهم مؤمنون، كذلك جاءت تسميتهم في بعض نصوص السنة أنهم أهل الجماعة «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعلكم بسنتي» فمن كان على ذلك فهو من أهل السنة، كذلك جاء في حديث الافتراق المشهور قوله عليه الصلاة والسلام «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «الجماعة»، فسمي أهل الفرقة الناجية أهل سنة وجماعة وهم السلف الصالح، هم السلف الصالح، التسمية بأهل السنة والجماعة تسمية شرعية، كذلك التسمية بالسلف وأتباع السلف كذلك تسمية شرعية لأنها هي معنى السنة والجماعة.
توسّع الناس في الانتساب إلى أهل السنة والجماعة أكثر، بل توسعوا دون الانتساب إلى السلف، فصار كثير من الطوائف ينتسبون إلى السنة والجماعة، فالأشاعرة يقولون نحن أهل السنة والجماعة، والماتريدية يقولون نحن أهل السنة والجماعة، وهذا غلط منهم؛ لأن الجماعة هي ما كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام فسّر الفرقة الناجية بأنها الجماعة، وفي رواية أخرى قال «هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»، وهذه أحاديث مشهورة وإن كانت في بعض أسانيدها ضعف.(20/140)
إذن هذا غلط منهم في الانتساب كون يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة هذا غلط؛ لأنهم ليسوا من أهل الجماعة هم من أهل الفرقة؛ لأنهم فارقوا طريق الجماعة الأولى في مسائل الصفات، بل في أعظم من ذلك، ألا وهو تفسير التوحيد في تفسير شهادة أن لا إله إلا الله خالفوا فيها تفسير الصحابة وفي مسائل الصفات في القدر وفي الإيمان وفي مسائل كثيرة إذن فانتسابهم خطأ، لهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة كثيرا ما ينتسبون إلى الأثر وإلى الحديث إلى السلف لأنهم يخرجون بذلك عن الدائرة الأوسع التي أدخل بعض أهل البدع أنفسهم فيها.
فإذن راية أهل السنة والجماعة بالأصل رفْعها راية صحيحة لأن الجماعة حق لكن الماتريدية والأشاعرة يرضون براية أهل السنة والجماعة، لكنهم إذا قلت لهم على طريقة السلف خالفوا، لهذا نقول في الأصل أن أهل السنة والجماعة هم أهل السلف، لكن إذا كان ثَم التباس في الانتساب نقول الانتساب إلى السلف أخص من الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، فإنه قد يكون الرجل ينتسب إلى السنة والجماعة وإذا أردته أن ينتسب إلى السلف لم ينتسب.
لهذا كان الانتساب إلى السلف أدق لأجل إخراجه لبعض المنتسبين خطأ إلى السنة والجماعة، فمن أطلق لفظ أهل السنة والجماعة يريد بها المعنى الصحيح وهو أنهم المتبعون للسلف كان إطلاقه صحيحا وكلامه صوابا، أما إذا أطلقها ويريد بذلك أنه ليس المطلوب أن يكون على منهج السلف وإنما على منهج أهل السنة والجماعة الذي يشمل الطوائف التي تنتسب إلى ذلك، قلنا إن ذلك خطأ.
فهذا هو تفصيل المقام في هذين اللفظين، وبعض الناس يخطِّئ من ينتسب إلى السلف ويقول أن السلف هم أهل السنة والجماعة مطلقا، وبعضهم يخطّئ من يقول إنّ السلف وأهل السنة والجماعة كلها واحد، والصواب هو التفصيل فإنها بمعنى واحد في الأصل، ولكنها من جهة التفصيل اختلفت، والله أعلم.
2/ هل يحصل للفاسق كرامة، وكيف؟(20/141)
قد يحصل له كرامة بقدر ما عنده من الإيمان، لكن لا يجزم بأنها كرامة، لا يجزم بأنها كرامة، والكرامات لا يعتقد فيها عند أهل السنة والجماعة، وإنما هي نعمة لمن حصلت له يجب عليه أن يشكر الله جل وعلا عليها، لا يعتقد فيمن حصلت له لأنه قد تحصل من بعض ممن ليس بمسدد الإيمان، تحصل له كرامة على قد إيمانه، ولهذا يقول أهل السنة إن كرامات الأولياء لا تبلغ مبلغ معجزات الأنبياء، مع أنها من جنسها في كونها خارق للعادة، لكن معجزات الأنبياء أعظم؛ لأن إيمانهم أعظم؛ ولأن الحاجة لمعجزاتهم أعظم. أما كرامات الأولياء الصالحون المسددون فهي أقل مرتبة، كذلك لمن حصلت له لمن ليس بمؤمن مسدد فاسق يعمل بعض المعاصي، قد تحصل له لكن لا يجزم بأنها كرامة لكن هو إذا علم ذلك من نفسه فإنه يشكر الله جل وعلا عليها ويستقيم على الطريق.
نقول الإيمان والتقوى تتفاضل، لهذا كل من عنده بعض الإيمان وبعض التقوى فإن عنده بعض الوَلاية، الولي ليس هو المؤمن الكامل المتقي الكامل، بل كل مؤمن تقي له نصيب من الوَلاية من ولاية الله له بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى.
3/ يقول: هل من يحذّر من التقليد والتمذهب لما آل إليه الأمر من التعصب، هل المحذر يقع في مشابهة أهل الجاهلية؟
الله أعلم هل يقع في المتبعة أم لا، لكن الذي يحذر منه أهل العلم يحذر من التعصب، ومن التقليد الذي فيه ظهور الحجة ومخالفة ذلك، أما جنس التقليد والتمذهب فلا ينكر، وأما التعصب لذلك بمعنى تقديم قول إمام على ما ظهر من نصوص الكتاب والسنة هذا الذي يذم وهو الذي جاء كلام أهل العلم كثيرا في إبطاله.
4/ يقول: ما صحة قول القائل أساس الإسلام: أربعة عقيدة وشريعة ومنهاج وأخلاق، وهو قول منتشر جدا ويستدل له بقوله تعالى ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]؟(20/142)
التقاسيم التي تقسم فيها الأشياء هذه ينظر فيها المقسم إلى جهات، فينبغي للمنتخب لقوله أن ينظر إلى الجهة التي لأجلها قسّم، لأن التقسيمات باعتبارات, تارة يقسم من جهة ما واعية شيئا ما, ويقسم الآخر من جهة أخرى, ولهذا أصحاب التقاسيم ينبغي لمن ينظر في تقاسيمهم أن ينظر إليها من جهة ما هو الاعتبار الذي رعاه في ذلك التقسيم، فإن نقسم مثلا الشرك إلى أكبر وأصغر باعتبار, ونقسم الشرك باعتبار آخر إلى ظاهر جلي, ونقسم الشرك باعتبار ثالث إلى أكبر وأصغر وخفي، وكل من هذه التقسيمات قال به طائفة من أهل العلم، فكل التقسيمات صحيحة، لكن ما الذي رعاه صاحب التقسيم الأول؟ ما الذي رعاه صاحب التقسيم الثاني؟ ما الذي رعاه صاحب التقسيم الثالث؟ هذا الذي يجب على الناظر أن يرعاه؛ لأنه إذا فهم ذلك فهم وجه التقسيم.
لهذا نقول إن من قسم هذا التقسيم عقيدة وشريعة ومنهاج وأخلاق، هذا ينظر في الأمر الذي رعاه.
فإن كان التقسيم فنيّ يعني من جهة أنه جعل العقيدة بمعنى ما يعتقد. والمنهاج ما ينهج؛ ما يصار عليه مسائل السلوك مسائل الأمر والنهي، الدعوة ونحو ذلك. الشريعة بمعنى الأحكام. الأخلاق بمعنى السلوك، فهذا تقسيم صحيح.(20/143)
وإن أراد بالتقسيم أن المنهاج لا يمكن أن يدخل في العقيدة، أو العقيدة لا تدخل في المنهاج، أو الأخلاق لا تدخل في الشريعة، والأخلاق لا تدخل في العقيدة فهذا غلط؛ لأن العقيدة، عقيدة أهل السنة والجماعة تشمل المنهاج، تشمل الاعتقاد، تشمل المنهاج يعني أبواب الأمر والنهي والطاعة والإمامة والاعتقاد في الخلافات ونحو ذلك، وتشمل الأخلاق، والعقيدة شيخ الإسلام في الواسطية ذكر فيها هذه الثلاثة أشياء، ذكر فيها أولا الاعتقاد وذكر المنهاج بعده، وذكر الأخلاق، مثل ما قال: وأهل السنة والجماعة يأمرون بمكارم الأخلاق ومعاليها وينهون عن قبيح الأخلاق وسفسافها، إذا كان كذلك فهذا القول بهذا الاعتبار الثاني يكون خطأ إذا أراد إخراج الأخلاق من العقيدة والمنهاج من العقيدة هذا غلط.
كذلك تقسيم الشريعة والعقيدة أهل السنة سموا كتب الاعتقاد سموها شريعة مثل ما فعل الآجري، سمى كتابه في الاعتقاد الشريعة، فإذن هذه الألفاظ هي مترادفة من جهة ما، بعضها يدل على بعض، لكن قد يفصل إذا كان التقسيم يريد الإيضاح، أما إذا كان يريد أن كل لفظ يخالف الآخر فهذا لاشك أنه خطأ.
5/ هذا يقول: ما هي الأدلة التي تقوم عليها تكوين الجماعات الخاصة، ثم إذا قامت جماعة تركز على تقسيم معين في الأمة فهل ينطبق عليها اسم الجماعة الخاصة ؟ وهل يصح أن نقول إن الجماعات يكمل بعضها بعضا؟
أولا في الدولة الإسلامية لا يجوز أن تقوم جماعة سرية، كأصل عند أهل السنة، لا يجوز أن تقوم جماعة سرية لها أهداف خاصة سرية؛ لأن هذا فيه افتئات على الإمام.
من جهة أخرى فإن أهل السنة والجماعة يُقرون بالجماعة بمعنى التجمع؛ التجمع للدعوة، للخير، للأمر والنهي، وللهدى والصلاح، تجمعا مشروعا يكون فيه تطاوع وليس فيه طاعة، ويكون فيه ائتلاف ولا يكون فيه أمر ونهي، يكون فيه نظام وليس فيه تنظيم، وهذه هي أصول دعوة كل من تجمّع من أهل السنة والجماعة في قديم الزمان وفي الحديث.(20/144)
شيخ الإسلام ابن تيمية يتكلم عن الجماعة في كثير من المواضع ويعني بها التجمع المشروع، ألا وهو ما كان أصحابه بينهم يتطاوعون، وهذا هو الذي جاء في النص لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل معاذا وصاحبه إلى اليمن فقال له «تطاوعا ولا تختلفا» فكان هذا أصلا لكل من اجتمعوا على الدعوة أن يكون بينهم تطاوع، أما الطاعة بمعنى أن يكون التابع مطيعا لمن فوقع طاعة المأمور للأمير فهذا لا يجوز في دولة الإسلام، لأن هذه طاعة خاصة لم تأتِ النصوص بها، وإنما جاء في النصوص بالطاعة في السفر لأجل الحاجة إلى ذلك، أما في الحضر والإقامة فإذا كان ولي الأمر الشرعي قائم موجود مسلم والبيعة له منعقدة فلا يجوز أن تكون طاعة مستقلة في الحضر دون طاعته، لكن يكون هناك تطاوع كذلك من جهة التنظيم يعني بعض الجماعات تتجمع على تنظيم، وهؤلاء كما رأيت في بعض مؤلفاتهم يستدلون بمقالات شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، هم لم يفهموا فإن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر نظاما وما يعنى به النظام ولم يذكر التنظيم لأن التنظيم هذا حادث، التنظيم بمعنى تكوين رأس للحزب يطاع ومن تحته تبلغ لهم الأشياء كما يحصل من طاعة الإمام هذا لا شك أنه لا يجوز ولا يدل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ولا على غيره.
إذن تحقيق القول في هذه المسألة وهي تكوين الجماعة الخاصة أنه يجوز أن تكوّن الجماعة بمعنى التجمع على الخير والهدى اثنين، ثلاثة، أربعة، عشرة، نتواصى ونتآخى، نقرأ، ننصح، نذهب إلى فلان ندعوا ونحو ذلك، لكن بيننا تطاوع وليس بيننا طاعة، بيننا نظام وليس عندنا تنظيم، وهذه هي أصول الدعوة الناجحة، وما عداها فهي دعوات تشابه دعوات الخارجين عن مسمى الإسلام.
[هنا سئل على الدول غير الإسلامية سؤال صوته غير واضح فأجاب](20/145)
محل اجتهاد إذا كانت غير إسلامية يجوز أن يكون ذلك لكن ليس على شكل حزبي، يجوز أن يقوم تجمع فيه أمر ونهي ونحو ذلك فيما بينهم، ولكن ليس على شكل حزبي كالمعروف عند الأحزاب الشيوعية ونحوها.
على كل حال في دولة غير دولة الإسلام محل اجتهاد لأنه يختلف على حسب الدولة والوضع فيها، فهي محل اجتهاد لا يطلق القول فيها.
6/ يقول: يقدح بعض طلبة العلم ببعض الجماعات للنظر إلى أخطاء أتباعها لا بالنظر إلى مناهجها فهل هذا من الإنصاف ؟
الجواب: أن هذا من جنس فعل أهل الجاهلية إذا كان يقدح في جماعة ما أو بفئة ما بفعل بعض الأتباع دون النظر في المنهج، دون النظر فيما هم عليه، هذا من جنس فعل أهل الجاهلية لكن شك أن هذا مذموم والواجب النظر في الأصل المنهاج، في المناهج فإذا كان صوابا كان من اتبع تلك المناهج وخالف فيها يكون هو المخطئ وإن كانت تلك خطأ كان التابع والمتبوع على غير هدى.
7/ هذا آخر سؤال، يقول: هناك من يقول المخاريق أربعة أقسام :
المعجزة للأنبياء.
والكرامة للأولياء.
والأحوال الشيطانية للسحرة والمشعوذين.
والرابعة الفراسة للأذكياء؟
الجواب: أما الفِراسة عند أهل السنة والجماعة من جنس الكرامات، كرامات الأولياء فهي داخلة تحتها، لهذا يذكرون أبواب الفِراسة الإيمانية وأنواع الفراسة الثلاثة يذكرونها تحت أبواب كرامات الأولياء، فهي عندهم ليست قسما رابعا وإنما هي من أقسام الكرامات.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع والهدى والسداد، وصلى الله على سيدنا محمد([31])
[المتن]
(المسألة الرابعة والعشرون) ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء تكبرا وأنفة فأنزل الله تعالى ?وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ?[الأنعام:52] الآيات.
(المسألة الخامسة والعشرون) الاستدلال له على بطلانه بسبق الضعفاء كقوله ?لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11].(20/146)
(المسألة السادسة والعشرون) تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
(المسألة السابعة والعشرون) تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله كقوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[البقرة:79]الآية.
(المسألة الثامنة والعشرون) أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم كقوله ?قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا?[البقرة:91]
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا وعينا دامعة.
اللهم اهدنا فيما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك نهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم اجعلنا ممن آمن حق الإيمان واتقى حق التقوى وصدق حق التصديق.
اللهم اجعلنا من الذين يتعلمون العلم ابتغاء وجهك ويطلبون به ما عند إنك ولي ذلك وإنك مسؤول.
اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين فيما تقلبنا وأينما توجهنا.
أما بعد:
فهذه المسائل من مسائل الجاهلية؛ يعني الخصال التي كان عليها أهل الجاهلية من المسائل المهمة لكثرة الواقعين في ذلك في هذا الزمان ومن قبله، فذكر المسألة الرابعة والعشرين قال (المسألة الرابعة والعشرون -يعني من خصال أهل الجاهلية ومن مسائلهم- ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء تكبرا وأنفة فأنزل الله جل وعلا قوله ?وَلَا تَطْرُد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?[الأنعام:52]) وهذه الخصلة من خصال أهل الجاهلية كانت قائمة في الكبار فيهم من ذوي الجاه, وذي المال، وذي الشرف، وذوي الرئاسة، من كبار جاهلي العرب, ومن كبار الجاهلية في الأمم الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم.(20/147)
فإن المرء إذا كان مقدما مرفوعا إما لأجل جاهه، أو لأجل علمه، أو لأجل عقله في فئته فإنه يدخل إليه الشيطان من هذه الجهة وينفخ فيه حتى يجعله متكبرا على الحق -والعياذ بالله-.
وذكر قول الله جل وعلا (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، وهذه الآية ذكر المفسرون في سبب نزولها عدة روايات مجملها أن المشركين قالوا لرسول الله :- صلى الله عليه وسلم - اجعل لنا مجلسا تخصُّنا به، لا نجلس مع هؤلاء الأعبد. يعنون: خبابا وبلالا وصهيبا, وذُكر في بعض الروايات وسلمان، ولكن هذا ليس بجيد لأن هذه الآية مكية, مجلسا تخصنا به, اجعل لنا مجلسا تخصنا به, فمالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقلبه وهمّ بذلك، فأنزل الله جل وعلا (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، وقوله هنا (وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ) يعني ما همَّ به عليه الصلاة والسلام، وإلاّ فهو لم يقع منه طردٌ لهم، وإنما همّ بأن يخص أولئك من بين المؤمنين الذين هم ليسوا كأولئك في الشرف والجاه والرفعة، وكان ذلك من رسول الله عليه الصلاة والسلام طمعا في إسلام أولئك، وأنّ أولئك كبار القدْر، كبار الجاه، ذوو نفوذ وذوو أمر مطاع، فطمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدايتهم، فقبل شرطهم بأن يخصهم ويستنكف ويطرد أولئك النفر المؤمنين الذين ليسوا كأولئك في الجاه والرفعة والرئاسة ونحو ذلك، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية.(20/148)
وهذا الذي ذُكر في سبب النزول، ظاهر منه استدلال الشيخ رحمه الله تعالى، من أنّ أولئك المشركين كانوا يرغبون في استماع الحق وكن منعهم من الحضور إلى مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التكبر عن أن يَشركوا أولئك النفر المؤمنين الذين كانوا إما فقراء وإما موالي، عبيد، أو نحو ذلك، فكرهوا أن يشاركوهم في مجالسهم، وكرهوا أن يحضروا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكون فيه أولئك حتى إنه ذُكر أن بعضهم قال: اجعل لنا مجلسا تعرف به العرب مفضلنا. تعرف به العرب مفضلنا، هذا يدل على ما في داخل صدورهم من التكبر والأنفة, والحق إنما يكون مع الذين يميلون له, لا يكون مع المتكبرين, ولهذا أولئك لا ينفع فيهم مثل هذا، قال جل وعلا?[وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا]([32]) لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنفال:23] يعني أهل الكتاب، لو شاء الله جل وعلا لأسمعهم ولو أسمعهم الحق والهدى كما يَسمعه من ينتفع به، (لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لأنهم يعلمون الحق، ولكنهم ينسلخون عنه تكبرا وأنفة، وهذا الذي منع كثيرا من الجاهليين من كبار قريش من الدخول في الإسلام، تعرفون كلمة أبي جهل المشهورة في ذلك، حيث قال: حتى تنازعنا نحن وبني هاشم الشرف، فقالوا فتصدقوا وتصدقنا، ونحروا ونحرنا، وبذلوا وبذلنا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا منا رسول يأتيه الوحي من السماء وليس منكم أحد، لا والله لا نؤمن به أبدا. هذا يدل على أن أولئك تركوا قبول الحق، ومنعهم الدخول في الحق سبق الضعفاء، منعهم من ذلك أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على أولئك النفر تكبرا منهم وأنفة.
كذلك اليهود، اليهود كان فيهم ذلك وكانوا يخفون الحق، ويقولون كيف نتّبع هذا النبي الأمي فنخسر مالنا ونخسر جاهنا ونخسر ما يبذله لنا ذووا الأموال، وهذا سيأتي إن شاء الله تعالى في بيان سبب تبديلهم الكتب وتبديلهم المنزَّل عليهم.(20/149)
هذه الخصلة كما رأيتم، هذه سببها ما يقع في النفوس من التكبر، وهذا دخل ووجد في هذه الأمة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، وُجد في هذه الأمة المنتسبين إلى الإسلام قبل المتمسكين إلى الإسلام، فكثيرا منهم منعه من قبول الحق التكبر والأنفة أنْ كل أولئك الذين سبقوا إليه هم الذين سبقوا وهم الذين تقدموا في الحق ويكون ذلك الكبار تابعين، يكون أولئك الكبار لاحقين، والكبار وذوو الجاه وذوو السمعة وذوو الرئاسة دائما يحبون أن يكونوا هم الذين يتقدمون الناس، هم الذين يسبقون ولو كان سبقهم في غير الحق وفي غير الهدى، فإنّ همتهم لما جعل الله جل وعلا في قلوبهم من الضلال ومن ترك الهدى لو كان ذلك في غير الصواب سلكوه، وهذا ظاهر في كثير من أئمة البدع في الإسلام، فإنهم لم يرذخوا للحق لأنهم يعتقدون أنهم ذووا شرف ذووا رفعة، لما أوتوه من عقول، لما أوتوه من فهم، فكيف يميلون للحق مع أن الذين اتبعوه هم الذين يسمونهم أهل الظاهر ويسمونهم حشوية، ويسمونهم بأسماء متنوعة تؤول جميعا وتجتمع جميعا في أنهم ليسوا بذوي نباهة ولا بذوي عقول.(20/150)
فإذن أولئك الذين كانوا من الكبار في الإسلام من أهل البدع كان كثيرا منهم يعلم الحق ولكنه يصعب عليه أن يتركَه من أجل ما لَه من المنزلة والرفعة، يصعب عليه أن يتركه لذوي عقول ضعيفة عنده، وهذا يجر إلى أنه لا يُقدّم، ولا يكون مرفوعا، ولا يكون مبجلا، ولا يكون متبوعا، ولا تراه في كثير ممن أبتلي بإتباع الناس لهم إذ لم يكن معهم إنصاف، ولم يكن معهم تقوى وخير من الله جل وعلا، فإنه يصدهم الأتباع، يصدهم كثرة من يعظمهم، يصدهم كثرة من يتبعهم على أن يقبلوا الحق، فإن النفس إذا وجدت من يتبعها، إذا وجدت من يعظمها، ثم كان السبيل في قبول الحق والرضوخ له أن يُترك تعظيمه أن يُترك رفعه فإنه يصعب جدا من النفوس أن تقبل ذلك، وهذا كَثُر في الذين ركبوا هواهم في هذه الأمة في أصناف شتى كثيرة، أينما توجهت وجدت ذلك.
فإذن كل من لم يقبل الحق لأجل التكبر والأنفة فإنه لهم نصيب في مشابهة الجاهليين في ذلك، وهذا يدل على أن ترك قبول الحق لأجل سبق الضعفاء أو لأجل تقدمهم أو لأجل أنهم أخص لصاحب الدعوة فإن هذا –والعياذ بالله- من الكبائر، بل قد يكون مخرجا من الملة إذا كان فيه عدم قبول أصل الدين، مثل ما يحصل من كبار علماء المشركين في هذه الأزمان المتأخرة.
ومن الأمثلة في ذلك التي ذكرها بعض من لهم صدارة ولهم رفعة من الذين يسمّون بعلماء هذا الوقت يكونون معظمين من وُجد، ممن هم معظمين للشركيات معظمين للأضرحة والموتى ونحو ذلك، حيث جرى بيني وبينه حديث ومناقشة حول أهل الإسلام والتوحيد والشرك، وهو من كبار علماء بلده، فكان مما قال في بيان حقيقة الأمر، أنه قال هذا سبيل من سبل الرّزق فلا تقطعه عمن يأتي إليه، ثم قال نصه –هو توفي الآن- نعم الذي تقول حق، ولكن التكفير صعب، كون مبتدعة نعم، ولكن كما قال أترك الناس تعيش.(20/151)
وهذا لأنه معظم في طائفته، صعب أن يترك ويسحب منه كل ما اكتسبه في حياته الطويلة، هذا صعب على النفوس خاصة في أنفس كبار السن، يعني من دخل في الكهولة ونحو ذلك، فيصعب عليه نفسيا هذا.
إذا تبين لك ذلك، فإذن نستفيد من هذا أن هذه الخصلة من خصال أهل الجاهلية كثيرة تأملها تجدها في هذه الأمة، في الأغنياء، في ذوي الترف، في الرؤساء، في الملوك، في الأمراء، في نحو ذلك، هذه موجودة فيهم إلا ما شاء الله جل وعلا، فإنهم تراهم يتنقّصون الحق لأجل من اتبعهم ويرفضون الدخول فيه لأجل حال من دخل فيه.(20/152)
أيضا ننبه إلى أن على أهل الدعوة، على الدعاة، على أهل العلم أن يعتنوا بالصفوة الذين أقبلوا على الله جل وعلا، وأن يتركوا الالتفات إلى ذوي الشرف وذوي الرفعة إلا إذا كان أولئك يقطنون مع غيرهم ويقبلون مع غيرهم، أما أن يقبل على أولئك ويترك الذين يريدون وجه الله جل وعلا، فإنّ هذا من الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام قال جل وعلا في سورة الأنعام ?وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?[الأنعام:52]، نبّه أنهم أهل الإخلاص أهل طمع فيما عند الله جل وعلا لا يريدون إلا وجه الله جل وعلا، وهذا فيه تنبيه إلى أن أولئك الذين همّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد هؤلاء من أجلهم أنهم لا يريدون وجه الله جل وعلا، أنه لهم مقاصد أخر في ذلك، قال جل وعلا ?مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ?[الأنعام:52]، وهذا فيه النهي الشديد عن ذلك، وكذلك قال جل وعلا في سورة الكهف ?وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا?[الكهف:28]، قال المفسرون في قوله (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني تريد التزيّن فدخول أولئك ولمجالسة أولئك.(20/153)
وهذه خصلة نفسية تدخل في قلوب كثيرين، فعلى الدعاة أن يكون همهم إيصال الحق، وإذا كان هناك في إيصال الحق فيه شيء من ترك ما أمرنا الله جل وعلا به رعايةً لخواطر بعض ذوي الشرف وذوي الجاه ونحو ذلك، فلا يقبل الداعية، لا يقبل طالب العلم، لا يقبل العالم بذلك، إلا إذا كان ثَم مصلحة راجحة، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل في المدينة مع رؤساء الوفود، هذا له حال آخر، أما أن يُشترط على صاحب الدعوة أو العالم أن لا يجلس مع أولئك، مع هؤلاء، وأن يكون لهم مجلس مع الخاصة من ذوي الشرف، فهذا هو الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.
المسألة التي تليها أنهم يستدلون على بطلان ما جاء به النبي يعني على بطلان الحق، يستدلون على بطلانه سبق الضعفاء كقوله ?لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11]، هذه المسألة مسألة استدلال والمسألة الأولى مسألة طلب، ففي الأولى طلب ذلك وفي الثانية يستدلون على بطلان الحق.
الأولى يريدون سماع الحق ولكنهم طلبوا أن لا يكون معهم أولئك الضعفاء، أولئك الأعبد، أولئك الذين ليسوا من ذوي الجاه ومن ذوي الشرف ومن ذوي الرفعة؛ لأنهم يلحقهم نقص، ويلحقهم شيء من التعيير إذا جلسوا في مجلس فيه أولئك الأعبد والجميع على حد سواء.(20/154)
قال رحمه الله تعالى في هذه المسألة -أعني المسألة الخامسة والعشرون- استدلال على بطلانه يعني على بطلان الحق بسبق الضعفاء، يستدلون على بطلانه بسبق الضعفاء كما قال جل وعلا في سورة الأحقاف ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ?[الأحقاف:11]، قوله هنا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني عن الذين آمنوا (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) اللام هنا بمعنى (عن) يعني وقال الذين كفروا عن الذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه، قال جل وعلا ?وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ?[الأحقاف:11]، فهم استدلوا على بطلان ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام بسبق الضعفاء.
وهذه المسألة غير المسألة التي مرت معنا أنهم يستدلون على بطلانه؛ لأنه إنما أخذه الذين ليس لهم عقول، وليس لهم حظ لما سبق من المسائل، حيث استدل على ذلك بقوله تعالى في سورة هود ?بَادِي الرَّأْيِ?[هود:27]، وأولئك دخلوا من غير تدبر ومن غير فهم، هنا يستدلون على البطلان بسبق هؤلاء، فهؤلاء كونهم سبقوا وهم أراذلنا وهم من ليسوا بذوي فهم، كونهم سبقوا، هذا دليل على أنه ليس بحق، لأنه لو كان حقا لأخذه ذووا العقول وأخذه ذووا الشرف وأخذه ذووا الفهم من الملأ من الكبار.
هذه المسألة واضحة المعنى، وهي شبيهة بالمسألة التي سلفت من قبل لكن هذه في الاستدلال على البطلان بالسّبق وتلك ليست استدلالا بالسبق وإنما استدلال بحال الضعفاء.
قال (السادسة والعشرون تحرف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)(20/155)
هذه الخصلة التي هي تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه هي في اليهود في بني إسرائيل، وهذا التحريف للكتاب عي أنهم وجدوا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، صفة واضحة جلية فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفوا أنه هو المدعو، وأنه هو نبي الأميين، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، ?فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ?[البقرة:89]، وكان من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ربعة أكحل العينين جعد الشعر، فسأل اليهودَ المشركون في مكة ما تجدون في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، النبي الأمي الذي يخرج؟ قالوا: نجد صفته في كتابنا أنه طويل أزرق العينين سائل الشعر. أو نحو ذلك، فوصفوه بغير الوصف الذي جاء في التوراة، فحرفوا وهذا معنى قوله أنهم حرفوا كتاب الله من بعد ما عقلوه([33])، يعني من بعد ما عرفوه، من بعد ما فهموه، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى في سورة البقرة ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ [فَرِيقًا]([34]) مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[البقرة:146]، يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعرفون أن ما أنزل إليه حق كما يعرفون أبناءهم لا يلتبس عليهم ذلك، ولكنهم كتموا الحق (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، وهذا ظاهر في معنى تحريفهم لكتاب الله.
هذه الخصلة في اليهود تبعها أنواع من التحاريف وسبقها أنواع من التحريف، أما من يبق فإنهم حرّفوا كتاب الله جل وعلا؛ يعني الذي أنزل عليهم، حرفوا تارة بحذف بعض ما جاء فيه، فإن تحريف التوراة والإنجيل لأهل العلم فيها مذاهب:(20/156)
?منهم من يرى أن التحريف في المعنى دون اللفظ، وأنهم ما حرّفوا التوراة بمعنى أزالوا الألفاظ وتركوا بعضا ومحوا بعضا، وإنما حرفوها من جهة المعنى والتفسير، وإلى هذا المعنى [يرمي] شيخ الإسلام ابن تيمية في سلف له من أهل العلم، يقول إن التحريف إنما هو تحريف المعنى، أما التوراة فإنهم لم يغيروا ألفاظها كما يستدل على ذلك بقصة اليهود بين الذين زنيا، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام «كتاب الله الرجم» وراموا أن يغير حتى أتى عبد الله بن سلام فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها في التوراة، فأتوا بالتوراة فوضعوا أصابعهم على هذا الموضع، فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: مُرْهُ فليرفع يده فإن الآية تحته. فرفع يده فوجدها كما أخبر به عبد الله بن سلام.
هذا نوع من التحريف ليس تحريفا في اللفظ، ولكنه كتم للحق تحريف في المنى وهذا من فعل الأحبار، لهذا كان شيخ الإسلام يرى أن التحريف كان في المعنى.
?وقال آخرون من أهل العلم إن التحريف كان في الألفاظ بزيادة ونقصان وزادوا أشياء وتركوا أشياء وحذفوا أشياء.
?وقال آخرون -وهو القول الصحيح فيما يظهر- أن التحريف الذي حصل في التوراة يجمع الأمرين، منه ما هو تحريف للألفاظ ومنه ما تحريف للمعنى، زادوا في التوراة أشياء من أقوال أهل العلم فيه من أقوال أحبارهم، وزادوا فيها أشياء هي من قبيل التأصيل حتى جعلت من كلام الله، جعلوا فيها قصصا طوالا، جعلوا فيه أخبار هي ليست من أصل التوراة ولكن زادوها؛ زادها علماؤهم حتى جعلت من التوراة، ومنه ما هو تحريف بالمعنى الذي حصل من كتب المتقدمة نوع تحريف، تحريف بالمعنى، تحريف في المعنى بأن يفسر الكلام الذي جاء على غير ما يعلمون تفسيره كما قال ?وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[البقرة:136]، ومنه ما هو تحريف في اللفظ يُزيدون وينقصون، يحذفون، يضعون أشياء زائدة.(20/157)
وهذا يجمع القولين السابقين وهو الظاهر وهو الصواب؛ لأن التحريف بمعنى الحذف واضح موجود، ففي التوراة أشياء وفي الإنجيل أشياء لا يمكن أن تُنسب على أنها منزلة من عند الله جل وعلا، فيها أشياء شركية فيها أشياء فيها الخنى والزنى والعياذ بالله، فيها أشياء لا يصح ولا يجوز أن تنسب لله جل وعلا، كذلك فيها أشياء من كلام علمائهم واضحة، حيث فيها مثلا في التوراة قال موسى وقال فلان، بل فيها نسبة أقوال لمن بعد موسى عليه السلام، وكذلك في الإنجيل، وهذا ظاهر لأنه زِيد فيها ونقص، كذلك تحريف المعنى لأنهم فسروها بغير تفسيرها.
هذا الذي حصل لأولئك من جهة تحريف المعنى وتحريف اللفظ لم يحصل لهذه الأمة في الجهتين وذلك لأن القرآن محفوظ قال جل وعلا ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر:9]، الذكر هو القرآن حفظه الله جل وعلا أن يزاد فيه أو ينقص، حفظه الله جل وعلا من التحريف والتبديل لأنه لا دين بعد دين الإسلام، ولا رسول بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولما كان القرآن محفوظا لم يتطرق إليه تحريف في لفظه، وإنما كان التحريف في تأويله، التحريف في معناه، وهذا هو الذي شابه فيه هذه الأمة اليهود، فإنهم يعلمون أنه من الحق كذا وكذا مما جاء في القرآن وجاءت به السنة، ولكنهم يحرفون ذلك ويصرفونه عن عانيه اللائقة به، وعما دل عليه إلى أقوال أخرى تنصر مذاهبهم، وهذا هو الكثير في هذه الأمة، وكل أهل الأهواء وأهل البدع وأهل الخرافة وأهل الشعوذة يجدون في القرآن ما يستدلون به محرِّفين لمعناه متبعين لما تشابه منه، هذا القدْر شابهوا به اليهود ومن شابههم من أهل الملل.
مثال ذلك ما يكثر عند مؤولة الصفات من نفي ظواهر الآيات التي اشتملت على صفات الله جل وعلا، ويحرفون المعنى إلى معنى آخر مخترع من عند أنفسهم.(20/158)
مثاله عند أول آية في القرآن ?بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ?([35]) تجد أنّ القوم يفسرون (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بما يخرج اشتمالهما على الرحمة، ويقولون إن الرحمة هنا ليست في حق الله جل وعلا حقيقة، وإنما يراد بالرحمة هنا مجاز عن الإلهام, مجاز عن الإحسان, وهذا من أنواع التحريف؛ تحريف المعنى, كذلك يأتون إلى مثل قوله جل وعلا ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?([36]) في آيات، ويقولون إن استوى بمعنى استولى فيزيدون فيه.
ولهذا قال بعض أهل العلم ما أشبه (لام) الجهمي بـ (نون) اليهودي، فإن اليهود قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة أو قالوا حبة في شعرة، والجهمي قيل له قولوا استوى فقال استولى.
ويشابههم من قال بقولهم من أهل العلم من حاول أن يضلل عن معنى الظاهر الذي جاء به نصوص الصفات في القرآن ويصرف ذلك إلى معان أخر، من مثل ما جاء في تفسير الاستواء عند ابن العربي المالكي في كتابه ”عارضة الأحوذي“ حيث قال: إن الاستواء يأتي عند العرب على خمسة عشرة معنى. فساقها، وقال: فنقول للمثبت أي هذه المعاني المراد؟ وهذا غلط, وهو من التحريف؛ تحريف المعنى – والعياذ بالله-؛ لأن استوى في لغة العرب لا تكون إلا بمعنى واحد وهو بمعنى علا وارتفع ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني علوتم عليه وارتفعتم عليه.
وهذا كثير أيضا في أبواب القدر وأبواب الإيمان ونحو ذلك. فالمعتزلة مثلا استدلوا بقول الله جل وعلا ?وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ?[النساء:79]، على أن العبد هو الذي يفعل المعصية و أن الله جل وعلا لا يخلق فعله هذا ويعرضون عن قوله جل وعلا ?[قُلْ]([37]) كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[النساء:78]، ونحو ذلك.(20/159)
كذلك في أبواب الإيمان بالغيب حرفوا النصوص، ففي القرآن إثبات الميزان، وفي القرآن إثبات الصراط، وفي القرآن إثبات الصحف؛ أن هناك صحف تتطاير ومنهم من يأخذ صحيفته بيمينه ومنهم من يأخذ بشماله، القوم الذين لا يؤمنون بالغيبيات من العقلانيين من المعتزلة ومن شابههم لا يؤمنون بذلك ويحرفونه عن معناه.
كذلك المشركون الذين يؤيدون الشرك والخرافة، فإنهم يأتون إلى دلائل التوحيد التي في القرآن ويحرفونها عن معناها, ويأتون مثلا إلى الآيات التي فيها أنّ المشركين يدعون غير الله جل وعلا ويجعلونها دعوة الأصنام لا غير، ويخصون شرك المشركين لأنهم متبركون في العبادة الأصنام، ويخرجون من ذلك عبادة الأوثان أو عبادة الصالحين، ونحو ذلك مما جاء موضحا في القرآن.
وهذا طفحت به كتبهم واستدلوا من ذلك بدلائل من القرآن ونحو ذلك، يحرفون المعاني، ولهذا يقول أهل السنة: أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم، وأما أهل البدعة فإنما يكتبون ما لهم. يأتون بآية فيكتبونها, يحرفون معناها ويجعلونها لهم، فأما أهل السنة إذا كانت الآية لهم، الحديث لهم استدلوا به وإذا كانت عليهم يعني أنها تُشْكل على ما يستدلون له، فإنهم يكتبونها ويذهبون إلى طلب دفع ذلك الإشكال، إلى طلب رفع تلك الشبهة التي ضربت بتلك الآيات فإن الله جل وعلا جعل كتابه فيه اشتباه إلا على الراسخين من أهل العلم، حتى يتميز أولئك الصفوة الذين هم الراسخون في العلم، فيكتبون مالهم ويكتبون ما عليهم ما يستدل الخصم به عليهم إنصافا منهم، فلا يدخلون في الأدلة التي عليهم يدخلون فيها بتحريف وصرف لها عن معانيها لكي يوافق ما عندهم، بل يأخذون بما دلت عليه ويجيبون عن ذلك بأنهم إنما يرومون الحق، فكل من صرف الدلائل عن ظاهرها وحملها على شيء لا تعرفه العرب من لغاتها فإن ذلك يدخل في مشابهة اليهود الذين حرّفوا الكتاب من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.(20/160)
نقف عند هذا، المسألة السابعة والعشرون تحتاج إلى شيء من التفصيل تصنيف الكتب الباطلة.
وبهذا القدْر كفاية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
1/ (العاشرة) الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهلهم وعدم حفظهم كقولهم بادي الرأي، وهذه المسألة الخامسة والعشرون سببها قد يشتبه، لماذا يستدلون على البطلان بسبق الضعفاء ؟
لأن الضعفاء عندهم قليل فهمهم، قليل حظهم، فتلك المسألة وهي العاشرة أن سبب عدم قناعتهم بأن الضعفاء آمنوا به لأن الضعفاء عندهم قليلي الفهم، قليلوا الحجة، وعديموا الحظ، المسألة الثامنة هي في أنّ الضعفاء اتبعوا، المسألة الثامنة هي في مجرد الاتباع، المسألة العاشرة في عقول الضعفاء، المسألة هذه الخامسة والعشرون بالسبق ثلاث صفات؛ تلك في الاتباع وهذه في فهمهم وعقولهم وهذه في سبقهم وكل واحدة فيها فكل واحدة فيها صفة من الصفات، وليتأمل الشيخ رحمه الله المصنف ما كتب هذه المسائل من قبيل التصور النظري، هو كتبها من الواجهة، أو كما يقال من الميدان؛ لأنه واجه هؤلاء جميعا، فكان يكتب المسألة بعد أن يرى مشابهة هذه الأمة بأهل الجاهلية فيهم، فيراها أمامه فيكتبها، ولهذا ترى أن هذه المسائل بعضها -يعني لو كان هناك مثلا نظر على طريقة المحدَثين بأن المسائل متشابهة تكون بعضها تلو بعض- لكانت هذه المسائل الثامنة والعاشرة والخامسة والعشرون متقاربة واحدة وراء الأخرى، لكن الشيخ رحمه الله تعالى في هذه الرسالة الظاهر من حَالَه من ترتيب الكتاب، أنه يكتبها من واقع المواجهة إذا وجد حالة كتبها من واقع المواجهة وهذت ظاهر إذا تأملته وجدته ظاهرا في حال ترك الشيخ.....
2/ إذا دخل جني في شخص ثم أسلم وتاب وشهد على أن الذي أدخله هو الساحر فلان، هل تقبل شهادته من القاضي؟(20/161)
الجواب: لا، لأن الجن شهادتهم ضعيفة عند أهل العلم لا تقبل، هذا معروف في كتب المصطلح فيه يعقدون له فصلا بأن روايتهم ضعيفة؛ لأنه عند أهل العلم أسانيد فيها جن، وأشهرهم من يقال له شمهروش الجني، فهذا حدث بأحاديث فيها أنه سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذها منه من أخذها من أهل العلم فيكون في بعضها بين العالم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي عاش في القرن الثاني بينه وبينه ثلاثة يكون مثلا اثنين والجني يقول سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعلم أن الجن أعمارهم غير أعمار بني آدم، فرواية الجن عند أهل العلم ضعيفة كذلك.
شهادتهم ضعيفة لا تقبل، لم؟
لأن الشهادة والرواية تحتاج إلى إثبات العدالة، وعدالة الجني لا يمكن أن يثبتها إنسي.
3/ أين ذكر شيخ الإسلام أنّ التحريف في الكتب وقع في المعنى دون اللفظ؟
هذا في كتابه المشهور ”الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح“ من أراد هذه الأقوال بشيء من التفصيل فهي موجودة في إغاثة اللهفان لابن القيم، فقد ذكر فصلا طويلا في التحريف وما وقع والأقوال في ذلك للبخاري أو شيخ الإسلام وقول عدد من أهل العلم. ([38])
4/ فيه بعض طلبة العلم يترفع عن مخالطة العوام، ويقول لا أخالط إلا من فيه خير، هل هذا من التكبر والأنفة؟
يخالط العوام الذين فيهم خير، أما العوام الذين ليس فيهم خير لا يخالطهم، العامي قد يكون في عقيدته وفي استسلامه لله أحسن من بعض المنتسبين, وهذا ظاهر قد يكون عليه بعض مظاهر التقصير أو مظاهر المخالفات لكنه في حقيقة الأمر هي أقوى يقينا وإيمانا –يعني في مسائل إيمان القلوب- من غيره فخالطه العوام لأجل دعوتهم التأثير فيهم ونحو ذلك مطلوبة، لكن مثل ما قال «لا تصاحب إلا مؤمن ولا يأكل طعامك إلا تقي», يحرص المرء على أنه إنما يخالط من ينفعه أو يؤثر عليه.(20/162)
5/ قال: إذا كان معنى كلمة استوى غير معداة بأي حرف معناها علا فكيف يفهم قوله تعالى ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي?([39]) الآية وقول الإمام للمصلين استووا وغير ذلك. نرجوا البيان حفظكم الله؟
الجواب: أن مادة استوى غير مادة سوّى, سوّى هذه مادة واستوى مادة أخرى, فسواه بمعنى أصلحه وعدله، يقول الإمام استووا يعني أصلحوا صفوفكم وعدلوها، بأن لا يكون أحد باديا صدره متقدم, متأخر, ونحو ذلك كذلك قال(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) جعلته مستوى لخلقه, بخلاف قوله تعالى في سورة القصص?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى?[القصص:14]، هذا (اسْتَوَى) بمعنى كمل خلقه واشتد يعني علا خلقه وارتفع على جنس الخلق (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) فإذا كان جنس خلقه يعني خلق موسى على حال فبلغ أرفع الحال وأعلا الحال.
أما ما ذكر في التسوية في قوله تعالى?فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ?[البقرة:29 ], (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) هذه مادة أخرى بمعنى الإصلاح والتهيئة.
هنا تعرف استوى أصل معناها علا وارتفع, فإذا كانت معداة تقول استوى فلان يعني علا وارتفع، بدون على كذا وإلى كذا، فإذا كان عديت استوى بحرف الجر إلى فيكون استوى ضمن معنى قصد كما في قوله جل وعلا ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ?[البقرة:29]، نعرف أن استوى بمعنى علا وارتفع لا تتعدى بحرف (إلى). فإذا تعدت بحرف (إلى) يكون فعل استوى ضُمِّن معنى قصد وعمد؛ لأنك تقول قصد إلى الشيء وعمد إلى الشيء.(20/163)
والتضمن باب مهم في فهم اللغة وذلك أن التضمن فيه إثبات للمعنى الأول وزيادة المعنى المضمن فقوله تعالى هنا ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ?[البقرة:29]، (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يعني علا وارتفع وعمد وقصد إلى السماء فسواهن، فيكون معنى الاستواء بالتعدية بـ(إلى) فيه المعنى الأصلي وهو العلو والارتفاع، وفيه المعنى الذي أفادته تعدية الفعل بحرف (إلى) وهو معنى القصد والعمد.
وهذا إذ ذهبت إلى بعض المفسرين ممن يفسرون بتفسير السلف لقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يقول عمد وقصد، لا يعني هنا أنه أول إنما هو فسره بما تضمنه؛ لأجل ظهور المعنى الأصلي، وهذا ما يفسره بعض أهل العلم بأنه تفسير –يسميه بعضهم –تفسير باللازم أو بالتضمن، وهذا باب شريف لفهم اللغة والقرآن.
إذا عديت بـ(على) صار مع معنى ارتفع وعلا معنى زائد وهو استقر؛ يعني تقول: استقر على الشيء. فيكون قوله تعالى ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني ارتفعت وعلوت واستقررت، فصار فيه هنا زيادة معنى أفاده تعدية الفعل بحرف (على)، وهذا هو الذي ذُكر في قوله تعالى ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?([40]) قال بعضهم علا وارتفع، قال بعض السلف واستقر أيضا لأن هذا هو بادر اللغة.
6/ ما رأيكم وما تنصحون به فيما حدث من تغيير في مناهج التوحيد لمناهج التعليم الابتدائية، مثل نواقض الإسلام والشرك الأصغر وما يتعلق باليهود والنصارى وبعض الفرق الضالة الشيعة والصوفية وغيرها؟(20/164)
هذا التغير في المناهج فيما يتعلق بالتوحيد هذا جاء فيما أفهم من نحو عشرين سنة تقريبا بدأ هذا التغيير، وسببه أن بعض المنتسبين إلى الدعوة والراغبين في دعوة الشاب أو التأثير على النشء أنهم قالوا أن هذه الكتب أي كتب التوحيد مثل العقيدة العامة، ومثل نواقض الإسلام، ومثل ثلاثة الأصول، وكتاب التوحيد ونحوها، أما هذه لا تصلح لهذا الجيل الجديد لأنه حدثت أشياء وتغيرت أمور، ونحاول أن ندخل عليها تجديدا في تغيير بعض المناهج فأول ما نزعوا الواسطية نحن درسنا في المتوسط والثانوي العقيدة الواسطية بشرحها، كذلك كتاب التوحيد بشرحه كان موجودا فغُير بكتاب التوحيد لمحمد قطب وبعض المؤلفات للمعاصرين، وهذه كانت فكرة من بعض الإسلاميين هذا في أصلها، هم الذين فتحوا هذا الباب في المسائل ممن تأثروا ببعض المدارس الدعوية في البلاد.(20/165)
وهذا لا شك أنه سبب فجوة كبيرة وجعل مدخلا لتغيير مناهج العقيدة والتوحيد والدين، مثل ما مرّ من أربع سنوات تقريبا، بلّغنا أحد الإخوان بأنه قد عُمِّم على بعض المدارس المتوسطة أنه لا يُفصَّل في موضوع الربا وإنما يدرس تعريفه وأما تفصيل أنواعه وما يتعلق به فإن هذا لا يفصل للطلاب، لا شك أن هذه المسألة منكرة، لأنّ فهم هذا جزء من الدين موجود في المنهج فما الذي وراء مثل هذا، فمن باب الذكر والخبر، اتصلت ببعض المسؤولين في وزارة المعارف على هذا الأمر فكان جوابهم أن هذا اجتهاد خاص من لجنة تطوير المناهج، اجتهاد خاص منهم، قال لأنّ الطلاب في المتوسط بالتجربة في السنين التي مضت قبل ذلك القرار قال لا يفهمون هذا المعنى، ما يتصورون ربا الفضل وربا النسيئة وكل قرض جر نفعا، صعب تصورهم له بالتجربة في السنين الماضية وقدم بعض الاعتراضات من بعض الأساتذة الطلاب ما فهموا مثل هذا، فيقررون في المناهج أن هذا صعب عليهم، يقول فأصدرنا هذا التوجيه العام بعدم تدريس هذا فظنينا أو ل ما ظنيننا أن المسألة أرفع منكم، فإذا كان أهل العلم يرون أن هذا يُلغى يُلغى، وفعلا في ذلك الحين ألغي ذلك القرار.
المقصود من هذا بعض التغييرات الموجودة في المناهج لها تاريخ، ومنه ما سببه بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية كما يقال وهذا ظاهر -كما ترون الآن- بدأ تصحيح في بعض المناهج التعليمية، ومنه ما سببه لجنة تطوير المناهج في وزارة المناهج، ومنه ما سببه جهات أخرى، فبعض الذين يحملون هذه الأمور يجعلون السبب واحدا وهذا غير واقع.
وإنما بالتأمل وبالمعرفة القريبة اتّضح لي أنها أسباب ثلاث هي التي ذكرت:
منها ما هو سببه الأول وهو بعض الإسلاميين.
ومنه ما هو سببه لجنة تطوير المناهج تأتي باقتراحات وبإنشاءات تأتي بهذا وتحذف هذا.
ومنه ما له أسباب أخر.
توحيد السبب ليس من قبيل معرفة الواقع تماما.(20/166)
7/ إذا كان لي سلطة في بعض معاملة العمال الأجانب أفلا أتسبب في تشهيرهم؟ ما فهمت لكن نذكر جملا في هذا.
وهو أنّ الكفار الموجودين في دار إسلام على قسمين:
منهم من يظهر العداوة للمسلمين، إما بكلمة وإما بفعل أو نحو ذلك، فهذا يجب أن يسعى في تشهيره وذلك أنه ناقض أصلا من أصول، ناقض أصلا وشرطا من شرائط السماح له بالدخول وأيضا لأنه وهو قبل كل شيء لأنه نابذ الإسلام وأظهر العداوة، فهذا يجب أن نظهر له العداوة وأن نسعى في إبعاده عن ديار المسلمين، حتى لا يوقع الشر وحتى لا يظهر في بلاد المسلمين غير رفعة كلمة الله جل وعلا.(20/167)
الصنف الآخر هم الذين لا يقاتلون في الدين لا يظهرون العداوة وإنما هم همهم مصلحتهم، فهؤلاء يعاملون بالعدل، الأصل في هؤلاء أن يعاملوا بالعدل والقسط، كما قال جل وعلا ?يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [إِنَّ]([41]) اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الممتحنة:8]، فمن لم يعادينا في الدين ولم يُظهر لنا هذه العداوة ويتبين منه ذلك، فهؤلاء يعاملون بالعدل وهو الأصل فيهم كما قال ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ?[النحل:90]، ومنهم من يعامل بالبر كما في هذه الآية (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) يحسن إليهم يساعدون، لهذا أجاز الفقهاء الصدقة للكافر، الصدقة المطلقة تجوز للكافر؛ يعني الذين لم يبارز في العداوة، والزكاة تجوز للمؤلَّف للكافر الذي يتألف في الإسلام ونحو ذلك، فمعاملتهم، معاملة هؤلاء الذين لم يظهروا العداوة لا يجوز أن يعتدى عليهم ولا أن يبغوا عليهم، ولا أن يظلموا، ولا أن يؤخذ شيئا من حقوقهم، ولا أن يسعى المسلم ضدهم في أمر لا يستحقونه وإنما يعاملهم بالعدل فبالعدل قامت الأرض والسموات، الله جل وعلا أمر بالعدل مع الأعداء قال ?وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:8]، فلو كان كافرا إذ لم يكن يظهر لنا عيبا في الدين لم يظهر عداوة، لم يستهزئ، لم يظهر شيئا مما يكون به معاديا للحق وأهله، للإسلام، للنبي - صلى الله عليه وسلم -، للقرآن ونحو ذلك فإنه يعامل بالعدل، وقد يعامل بالحسن والبر فإذا كان في ذلك مصلحة شرعية، كما أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة اليهودي وأكل من طعامه وأكل من طعامه وكما كان يحسن إلى بعض جيرانه ونحو ذلك مما في ذلك فيه مصلحة للدعوة.(20/168)
فبهذا يتحرر الأمر، فبعض الناس يغلو في هذا الأصل في الولاء والبراء، وبعضهم يجفو ويقصر عنه الذي يغلو يحمل كل الكفار على محمل واحد ممن هم في دار الإسلام، وهذا ليس من حكم الله جل وعلا في شيء، وبعضهم يجفو ويقصر حتى يقع في مودّتهم وفي دعوتهم وفي إقرانهم وفي الاستئناس لهم وفي تقريبهم ونحو ذلك، وكلا الطرفين ذميم، ذاك غالا وهذا جافي مقصر، والصواب هو ما دل عليه كتاب الله وسنة ونبيه عليه الصلاة والسلام.
8/ لا يجوز إدخال مشرك ولا كافر إلى جزيرة العرب يحرم على أي مؤمن أن يدخله أو يتسبب في إدخاله يعني ليكون مقيما بها، أما إذا كان مارا غير مقيم يعني ثلاثة أيام يمر لحاجة لغرض، هذا أذن به عمر به عمر رضي الله عنه أذن لتجار أهل الذمة في كل مكان ثلاثة أيام، يأتوا إلى المدينة فيقيموا بها ثلاثة أيام ويذهبوا إلى مكان آخر ثلاثة أيام، فلا يقيمون بالجزيرة أما الإقامة في الجزيرة واستدعاؤهم ليعملوا ونحو ذلك فهذا محرم لظهور الدلائل في ذلك.
..... [سؤال غير مسموع](20/169)
هذا من الجفاء ما فيه شك، هذا من الموالاة المحرمة قال جل وعلا ?وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ?[هود:113]، أدخل فيها بعض أهل العلم يعني من السلف أدخلوا فيها بري القلم له تقريب الدواة يعني الحبر له ونحو ذلك، لأنه ظالم متعدي منابذ، إذا نابذ الدين وأظهر العداوة فلا يجوز مساعدته، بل يجب إظهار العداوة له كما أظهر لنا العداوة، لكن الشيء إذا لم يكن كذلك إذا كان مسالم في حالة، فكيف تعامله تظلمه تتعدى عليه؟ مثل ما ذكرت لك أن من الناس من يجفو ويوادهم والعياذ بالله ويواليهم مثل ما ذكرت يقربهم ويسكنهم في أفضل المساكن، إذا أتى المسلم ما أكرمه وإذا أتى هذا أكرمه لأجل نظره إليه وليس لأجل مصلحة دنيوية، لكن أجل هذا مثلا أمريكي أو هذا بريطاني وهذا كذا ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه ضال، مثل ما ذكرت هذه من أنواع الموالاة والموالاة هذه محرمة، الموالاة محرمة، فلا يجوز للمسلم أن يلقي المودة للكفار قال جل وعلا ?وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ?[الممتحنة:1].
.......... [سؤال غير مسموع ]
لا، العبيد تختلف أحكامهم.
....... [سؤال غير مسموع، والآية المقصودة هي الآية الأولى من سورة الممتحنة]
لا الصواب أنها غير منسوخة هذا الذي عليه فتوى أهل العلم ممن نعرف وأدركنا والآن المشايخ كالشيخ عبد العزيز بن باز سمعته مرارا يذكر هذا الذي أنا نقلته عنه وهو تلخيص لكلامه ن هذا هو المعروف عند العلماء أن الآية هذه ليست بمنسوخة لأننا في حالة غير الحالات تلك ن وتعرف أن هذه الآية نزولها متأخر، يعني نزول السورة في أي سنة؟ قبل الفتح؛ فتح مكة، يعني نزولها متأخر؛ لأن حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه أسر للمشركين بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصل منه ما حصل ونزلت تلك الايات العظيمة ، والله المستعان.
......... [سؤال غير مسموع](20/170)
هؤلاء الهندوس فيهم بلاء آخر وهو أنهم يظهرون شعار الكفر في ديار المسلمين التي هي لبس العمامة هذه شعار من شعار الكفر، لبسها على هذا النحو كلبس الصليب؛ لأنها شعار من شعار الكفر، وكما أن النصراني لا يجب يعني يأتي واحد راهب لجزيرة العرب أوغيرها يظهر لباس النصارى الخاص بهم مثل لباس الرهبان ونحو ذلك، ما فيه شك أن هذا من المحرمات، وكذلك هؤلاء إذا ذهبت الآن تجدهم والعياذ بالله وهذا من البلاء العام، نسأل الله جل وعلا أن يبسّر التخلص من هؤلاء جميعا.
............ [سؤال غير مسموع]
نحن ذكرنا أنهم يعاملون بالعدل، هذا أصل؛ معاملتهم بالعدل، إذا مرّ المؤمن في الطريق يعني على رجليه ليس في السيارة، هذا له وسط الطريق؛ لأن الدار دراه، والإسلام يعلو ويعلى عليه والكفار لهم جنبات في الطريق، «إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» يعني لا تفسحوا لهم يعني يمشي المسلم في صدر الطريق ويترك لأولئك جنبات الطريق، مثل الآن واحد ذهب إلى المستشفى فيه مثلا طريق طويل في المستشفى، يأتي مسلم مثلا يمشي في جنب الجدار، هذا لا سيوغ، هذا الذي جاء فيه مثل هذا الحديث أنك تمشي في الوسط وإذا أتى مشرك أو كافر نصراني أو نحوه وتحققت أن هذا مشرك أو نصراني فإنك تضطره إلى أضيقه، بمعنى أنك لا تفسح له تمشي وتتركه هو الذي يذهب إلى أضيق الطريق «تضطره إلى أضيقه» يعني أنك تمشي في وسط الطريق وهو يختار الطريق الضيق، لا تفسح له تعامله كالمسلم، لا يجوز ذلك، وهذا ليس مما ينافي العدل، بل هذا من مقتضى العدل لأن الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه؛ ولأن المسلم أحق بداره؛ ولأنه في دار الإسلام لا يكرم كافر على مسلم، فإذا جعلت له وسط الطريق وأخذت بنيات الطريق فهذا من نوع إكرام له وهذا ينافي العدل لكن إذا أنا أخذت وسط الطريق كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلت أضيق الطريق لذلك المشرك ولذلك الكافر قد امتثلت وأخذت بالعدل.(20/171)
وإذا قال المشرك السلام عليكم كافر يهودي نصراني وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فقولوا وعليك» هذا الحديث أهل العلم له فيه نظران:
النظر الأول: أن يأخذوا بأصل العدل، ويقول أنّ العدل أصل أمر الله جل وعلا به عامة وفي رد التحية خاصة، فقال جل وعلا ?وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا?[النساء:86]، (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) في المسلم أو الكافر أو لأحدهما إذا كان المسلم فأنت بالخيار تحيي بأحسن منها أو تردها أما إذا كان كافر فيقول. أما إذا كان كافر فيقول طائفة من أهل العلم عليك أن تردها كما هي ولهذا يذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فقد فصل في هذه المسألة في كتاب ”أحكام أهل الذمة“ فقال: والكافر إذا قال السلام عليكم فيجب على المسلم أن يرد عليه بالعدل، فيقول وعليكم السلام، يقول إن الحديث الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام إذا قال لكم اليهود السلام عليكم فقولوا وعليكم، قال له سبب لأن اليهود يقولون السام عليكم، فما منع بقوله وعليكم السلام إلا أنّ المؤمن إذا قال وعليكم السلام لم يعامل بالعدل، وإنما عامل بالأحسن لأن ذلك يقول السام يعني الموت وأنت تقول عليكم السلام، فأنت أكرمته ما عاملته بالعدل، إذا قلت وعليكم عاملته بالعدل، وهذا هو ما أمر الله به، قال: فإذا تحققت من كافر أنه قال السلام -واضحة- عليكم، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى تبعا لشيخه شيخ الإسلام، يقول: تقول مجيبا بمثله وعليكم السلام، لأن هذا معاملة بالعدل.
والقول الآخر: لأكثر أهل العلم ويقولون أكثر أهل العلم ويقولون أن ظاهر الحديث وإن كانت العلة ظاهرة في السبب لكنه خرج مخرج الأمر العام؛ فيقولوا وعليكم. تكون العلة وردت لا يكون اقتصار الحكم على هذه العلة.
وهذا هو الصواب، بأنك إذا قابلك النصراني فتقول وعليكم سواء قال السلام أو قال السام.(20/172)
ومشايخنا هنا حفظهم الله تعالى ونفعنا بعلومهم:
منهم من يفتي بظاهر الحديث، وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله يقول تقولوا وعليكم.
ومنهم من يفتي بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهي فتوى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله.
إذن هذه المسألة لا تشكل على أصل المسألة. ومن رام إلى زيادة تفصيل فليرجع إلى كتاب ”أحكام أهل الذمة“ لابن القيم وقد أطنب فيها.
نختم بهذا أسأل الله أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد([42])
[المتن]
(المسألة السابعة والعشرون) تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله كقوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[البقرة:79]الآية.
(المسألة الثامنة والعشرون) أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم كقوله ?قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا?[البقرة:91].
(المسألة التاسعة والعشرون) أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله طائفتهم، كما نبه الله تعالى عليه بقوله ?قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[البقرة:91].
(الثلاثون) وهي من عجائب آيات الله أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق، صار كل حزب بما لديهم فرحين.
[الشرح]
المسألة الثلاثون (فرحين) خبر صار الآية ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([43]) ، هنا فرحين خبر صار، منصوب.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
سننبه أن هذا الدرس هو آخر هذه الدروس لأجل قرب الاختبارات وحاجة الأخوة الطلاب للمراجعة ونحو ذلك، فيستأنف إن شاء الله بعد الإعلان عن ذلك، فيكون بعد الاختبارات أو بعد العطلة الله أعلم لكن نعلن إن شاء الله الاستئناف.(20/173)
هذه المسائل أولها أنّ من ما فعله أهل الجاهلية أنهم صنفوا الكتب الباطلة ونسبوها إلى الله جل وعلا، وذلك التصنيف للكتب الباطلة كان منهم على قسمين:
الأول: أنهم صنفوا في المكتب المنزلة على الله جل وعلا أشياء وزادوها فيها؛ يعني جعلوا الكتب التي أنزل الله جل وعلا, التوراة, والإنجيل جعلوها مزيدة فصنفوا فيها أشياء زادوها ونسبوها إلى ذلك الكتاب المنزل, هذه الأشياء قالوا هي من التوراة ومن الإنجيل، فيصير هذا النوع داخل تحت تحريف الكتب المنزلة من عند الله جل وعلا تحريفا لفظيا, يعني بالزيادة.
القسم الثاني: أنهم صنفوا كتب ليست من الكتب المنزلة ولم يضيفوها إلى الكتب المنزلة، ولكنهم جعلوها من الله جل وعلا لأنها كالشرح لها أو كالبيان أو أضافها المصنفون إلى ما أنزل الله جل وعلا وما أخبر به رسوله، وهذا حصل في اليهود والنصارى.
أما اليهود فكما أخبر الله جل وعلا في قوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ?[البقرة:79]، فاليهود من علمائهم وأحبارهم من أضاف في التوراة أشياء, فالتوراة الموجودة اليوم ليست كلها كلام الله جل وعلا، بل فيها مما هو من كلامه مما أوحاه إلى موسى، ومنها وهو الكثير ما هو من ما أضافه علمائهم وأحبارهم، فنسبوا ذلك إلى الله, هذا نوع وقع فيه اليهود.(20/174)
وكذلك وقعوا في النوع الثاني أنهم صنفوا شرحا لنصوص التوراة أو لما جاء به موسى وجعلوا فيه أشياء حللوا فيها حراما وحرموا فيها حلالا وافتروا فيها على الله جل وعلا ونسبوا تلك الكتب إلى الله، وهذه موجودة اليوم عندهم بما يسمونه بالمشنة والزمارة وهي قسما التلمود، وهذا منسوب إلى الله جل وعلا عندهم؛ لأنه من صنيع علماءهم يقدسون ذلك تقديسهم للتوراة، وهذا لعله المراد بقوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا?[البقرة:79]، فهم افتروا على الله جل وعلا حيث أنهم زادوا في التوارة ما ليس منها وافتروا على الله جل وعلا حيث إنهم جعلوا اجتهاداتهم التي ليس لها أصل في شريعتهم ولا في دينهم ولا في عقيدتهم، جعلوها منسوبة إلى الله جل وعلا، وهذه الخصلة عند اليهود والنصارى، لم تكن عند العرب عند مشركي العرب ذلك؛ لأن مشركي العرب أميون ليسوا ممن اعتنوا بالكتابة والقراءة وإنما يسمعون الأخبار، فهذه من الخصال التي وقعوا فيها جاهلي اليهود والنصارى.
وهذه جاءت ودخلت في هذه الأمة بأوسع المداخل، فالكتب التي صنفت في هذه الأمة، وصنفها أناس من هذه الأمة كثير منها كان من القسم الثاني؛ يعني مما حرف فيه الشرع وحرفت فيه العقيدة ونسب ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه دينه وأنه عقيدته وأنه ما يجب أن يلتزمه المسلم.(20/175)
أما القسم الأول وهو تحريف القرآن فهذا لاشك أنه لم يقع؛ لأن الله جل وعلا حفظ هذا القرآن من الزيادة والنقصان، حفظه من أن ينسب إليه شيء وتقرّ ذلك الأمة ويكون هذا بينهم، هذا حفظ القرآن عن أن ينقص منه أو أن يزاد فيه، معلوم أن عند الروافض وبعض الفرق الضالة نسخ من مصاحف لهم يجعلونها مضاهية للقرآن، إما بنسبتها للقرآن كما يسمي الروافض مصحف فاطمة بذلك، ويقولون إن المصحف الموجود اليوم هو ثلث المصحف، وتقول طائفة منهم ثلث ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وآخرون من هذه الأمة أيضا جعلوا لهم كتابا يضاهون به القرآن كما عند الدروز وعند النصيرية فلهم كتب يضاهون بها القرآن وقد وقفت على شيء من تلك الكتب فيها مضاهات للقرآن وتقسيمات وآيات على حد تعبيرهم مسجوعة ونحو ذلك. لكن هذا إنما هو عند بعض تلك الطوائف ليس شائعا وهو يصدق عليه أنهم شابهوا فيه اليهود لأنهم فعلوا مثل ما فعل أولئك، لكن هذا ليس البلاد في الأمة كبيرا به.(20/176)
وإنما البلاء في الأمة كان كبيرا بالقسم الثاني وهو تصنيف الكتب الباطلة كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى ونسبة تلك الكتب على الله جل وعلا، فإذا تأملت وجدتَ أنه لما [ظهر] زمن الابتداع وعلا مناره وقويت شوكته فصنفوا كتبا كثيرة، كان السلف الصالح يأنفون من التصنيف ويبتعدون عن التصنيف قدر الإمكان رغبة في أن يبقى العلم في الصدور، حتى ابتدؤوا في التصنيف بما نقل عن السلف؛ بما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بما نقل عن الصحابة، بما نقل عن التابعين، وكانوا يقتصرون على ذلك رغبة في إبقاء صلة الأمة بما كان عليه سلفها في كلامهم وفي هديهم وفي دلّهم وسمتهم ونحو ذلك، فكان علماء الأمة يصنفون التصانيف بالأسانيد التي تنقل الأخبار والآثار عن الصحابة أو عن التابعين أو عن تبع التابعين، وكان منهم طائفة يعني من سلف هذه الأمة من كان يكره التصنيف كالإمام أحمد ونحوه، بل إن منهم من دفن كتبه رغبة في بقاء الصلة لما كان عليه الصحابة أقوالهم وهديهم واجتهاداتهم ونحو ذلك.(20/177)
احتاج الناس إلى التصانيف، احتاج الناس إلى الكتب، فبدأ أهل العلم بالتصنيف بحسب الحاجة لذلك، ومن أوائل من صنف كتبا مبتدءة الشافعي رحمه الله تعالى لما صنف كتاب الرسالة فيه حجج وفيه دلائل لأصول السلف وأصول أهل السنة يعني في الاستدلال، كذلك صنف الشافعي كتاب الأم لما ذهب إلى مصر, صنف كتاب الأم في الفقه، ويذكر في كل مسألة استنباطه منها، إما –يعني استنباطه فيها كيف استنبط ذلك- إما من قرآن أو من سنة أو من قول صاحب ونحو ذلك، هذه من جهة أهل السنة مقرر لأنهم يصنفون تلك الكتب تفسيرا وشرحا وبيانا لكتاب الله جل وعلا وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه سلف الأمة من أقوال، ما نقل عنهم، وما من أقوال وما نقل عنهم من أفعال وهدي ونحو ذلك، ولهذا يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله في كتابه تيسير العزيز الحميد: وإنما كتب أهل العلم يُحتاج إليها في بيان معاني الكتاب والسنة وفي الوصول إلى فهم الكتاب والسنة، وإذا كانت لا توصل إلى ذلك فهي مذمومة. فأهل العلم حينما صنفوا الكتب التي هي ليس فيها يعني أسانيد وآثار إنما يرومون بها فقه الكتاب والسنة وفهم نصوص الكتاب والسنة، وصنف الفقهاء كتبهم وأهل العقائد عقائدهم المختصرة وأخلوها من الأدلة لأن تلك مستنبطة من الكتاب والسنة بحسب في الفقه اجتهاد المصنف الذي صنف وفي العقيدة بحسب ما نقل لهم من عقيدة السلف الصالح.
هذا الذي فعله أهل السنة وتتابعوا فيه بتصنيف الكتب هذا محمود ومرغوب فيه لأنه به يُسرت سبل الاستفادة من العلم، وقرب العلم في كل عصر لأهله.(20/178)
ما الذي فعل أهل الضلال؟ صنفوا الكتب الباطلة، صنفوا الكتب التي يذكرون فيها رأيهم، لا يذكرون فيها الأدلة الشرعية، ولا يذكرون ذلك الرأي مستندة على أدلة شرعية، فأول ما صنف أولئك سموا بأهل الرأي، ومنها كتب الآن موجودة مثال ”كتاب الوقف“ لهلال بن مسلم الرأي، مطبوع موجود، فإذا تأملته وجدت أنه أسئلة: أرأيت إن كان كذا فالجواب كذا، مسائل في الوقف كلها من باب طرح المسائل بقوله أرأيت ثم الجواب عليها، وهذا مما اشتد فيه السلف الصالح يعني الأئمة في إنكار تصنيف الكتب على هذا النحو؛ يعني كتب الرأي التي ذُمَّت ما كان على هذا النحو، مثل كتاب هذا الذي ذكرتُ لكم ونحوه من الكتب.
أما كتب الفقه الأخرى فهي إذا كان استنباطها له أصوله وله أدلته فإنها لا تدخل في ذلك الذي نهوا عنه.(20/179)
أما كتب أهل البدع التي صنفوها فإنها كما ذكرت ثم رجعت للكلام على الفقه كما ذكرتُ أنها صنفت ونسبت إلى القرآن، نسبت إلى السنة، فمنهم من صنف تفاسير جعل فيها التجسيم، يجعل عقيدة التجسيم كتفسير مُقَاتِل، تفسيرا للقرآن ففسر القرآن ففي كل آيات الصفات جعلها دالة على التمثيل؛ لأنه يعتقد التجسيم وينسب هذا إلى أنه تفسير للقرآن، هذا من جنس ما شاركت به هذه الأمة شابهت به اليهود، كذلك أهل الاعتزال أهل البدع والضلالات المختلفة من الفرق، المرجئة، القدرية، الجبرية إلى آخره صنفوا كتبا، هذه الكتب كل ينسبها إلى الله جل وعلا؛ يعني إلى دين الإسلام، يقول هذا هو الذي أمر الله جل وعلا باعتقاده هذا هو الذي أمر الله جل وعلا بالإيمان به، فنسبوها إلى الله جل وعلا بالنسبة الثانية؛ أنهم صنفوا وقالوا إن هذا هو الدين والعقيدة والشرع، وهذا لاشك أنه باطل، لِم؟ لأنه لم يذكروا من الدلائل عليه من كلام الله جل وعلا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة ما به يُعلم أن فهم ذلك الذي صنف صحيح، فإنهم ذكروا أشياء مخالفة لما كان عليه سلف هذه الأمة، فيكونون إذن قد خالفوا الأوائل ولما خالفوا صنفوا تلك الكتب ونسبوها إلى الشرع نسبوها إلى الإسلام، فكانوا بذلك مصنفين للكتب الباطلة ومشابهين لليهود ناسبين ذلك إلى الله جل وعلا؛ يعني إلى دينه، كل من كان من أهل البدع ومن أهل الضلال كذلك.(20/180)
حتى وصل الأمر إلى وقت الشيخ الإمام رحمه الله تعالى، فصنفت الكتب التي فيها إبطال للدين الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، صنفت الكتب في بيان أن الاستغاثة بالأموات والالتجاء إليهم أن هذا أمر مطلوب، ونُسب ذلك إلى سلف هذه الأمة، نسب ذلك إلى الأدلة، نسب ذلك إلى الإسلام وقالوا إن هذا هو الحق الذي عليه اعتقاد الفرقة الناجية كما يزعمون، صنفت الكتب الباطلة في البدع وجعلت تلك المصنفات منسوبة إلى ما كان علبه السلف، منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمثلا يصنف بعضهم في تحسين بعض البدع ويستدل عليها بقول النبي عليه الصلاة والسلام «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، فيجعل تلك البدع التي أحدثها أو التي أمر بالالتزام بها منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها داخلة في عموم كلامه، وهذا قد شابهوا فيه اليهود لأنهم استدلوا بالمتشابه أو كان هواهم قائما فجعلوا الدليل منزلا على هواهم. وأهل السنة السلف الصالح يجعلون الدليل أولا ثم يستنبطون منه، الدليل أولا ثم يستنبط منه، أما أن يقدّم الهوى ثم يبحث عن ما يساعده أو ما يدل عليه هذا طريقة أهل الأهواء الذين صنفوا تلك الكتب الباطلة.
في مسائل التوسل في بيان أن شك أهل الجاهلية إنما كان بعبادة الأصنام دون غيرها؛ يعني من الصالحين، من الموتى، من أهل القبور ونحو ذلك، صنفت مصنفات في ذلك في وقت الشيخ وعارضوا بها الدعوة، ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، نسبوها إلى دين الإسلام، كما سيأتي في المسائل التي بعدها بيان لبعض فروع ما عملوا.(20/181)
في هذا الزمن أيضا في هذا القرن كذلك يأتي جمع من أهل التفكير وأهل الفكر، وينقدح في أذهانهم أفكار وآراء وتوهمات، وينسبونها إلى الله جل وعلا، وينسبونها إلى الدين، ما الحجة فيما قلت؟ ما البرهان على ما ذكرت؟ لا حجة ولا برهان وينسبون ذلك إلى الإسلام، يقولون هذا هو الإسلام، لابد للعالم أو للمصنف أنه إذا ذكر رأيا أو فكرا أن يذكر دليله، أن يذكر ما اعتمد عليه خاصة إذا كانت أفكار جديدة ونحو ذلك، أما أن يكون رأيا مجردا وتنسبه إلى الإسلام، فهذا ولاشك أنه نوع من تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله جل وعلا.
مثل المصنفات في هذا العصر التي بعضها يتكلم مثلا عن الله، يقول الله جل جلاله، بعضهم يتكلم على الحلال والحرام يقول هذا حلال وهذا حرام، بعضها فيه تعالي أيضا هذا هو الإسلام ونحو ذلك، هذه كلها إذا لم تكن مدللة بالأدلة الشرعية من القرآن أو السنة الصحيحة فإنها تكون من جملة تصنيف الكتب الباطلة التي شابهت فيها هذه الأمة اليهود والنصارى.
إذن هذه المسألة التي ذكرها الشيخ رحمه الله فيها النهي عن الإقدام على تصنيف الكتب بدون مستند مما كان عليه أئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بدون مستند من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح؛ لأن التصنيف إنما هو للحاجة، وإذا كان كذلك فكل من صنف على ذلك النحو فقد صنف كتبا باطلة.(20/182)
ولهذا كان أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى يحفظون دين الناس بأن لا يدخلوا الكتب التي فيها فساد عقدي أو فساد فقهي أو نحو ذلك، أما الآن فقد توسع الناس حتى صارت الكتب التي كانت من قبل لا ترى صارت الآن موجودة الناس يقتنونها، ممن مثل تفسير الفخر الرازي الذي قيل فيه: فيه كل شيء إلا التفسير. وقيل فيه: لم يدع لا شاذة وفاذة إلا أوردها. هذا التفسير كان ينهر عنه بهذه البلاد لأنه ينسب إلى الله جل وعلا؛ لأنه تفسير لله جل وعلا، وهو كله في عقائد المتكلمين، بل إن بعضه فيه تنجيم وعناية بأحوال النجوم ونحو ذلك لأنّ الرازي كان يعتني بذلك، كتب المبتدعة على اختلاف أنواعها كان يحمى الناس من ذلك من أن يقتنوها وأن تكون بين أيديهم مثل مثلا كتاب الفتوحات المكية، وإلى اليوم ممنوع ولكن أحيانا يوجد في بعض المكتبات، وذلك لحماية الناس من مثل هذه المبتدعة.
من أواخر ما صنع في ذلك ما صدر من سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله من منع تداول كتب الصابوني في التفسير أيضا، لم؟ لأنها من جنس ما ذكره الشيخ رحمه الله في هذه المسألة لأن تصنيف التفسير ونسبة ذلك إلى كتاب الله جل وعلا هذا شعبة من شعب أهل الجاهلية، تصنيف التفسير هو نسبة تلك التفاسير الباطلة إلى كتاب الله جل وعلا هو شعبة من شعب أهل الجاهلية، فلا يكون في التفسير الذي يسوغ تناقله بين الناس ويسوغ قراءته إلا ما فيه حق إلا ما فيه بعد من طرق أهل البدع والضلال، أما ما كان فيه ذلك يجب أن يبعد الناس عنه ولا يمكنوا منه لأنه قد يحدث الضلال في أصل الاعتقاد من جرّاء ذلك؛ لأن المتكلم يفسر القرآن فيكون القارئ ظانا أن هذا التفسير هو موضحا لكلام الله جل وعلا، فيعتقد أنه مستدل به يعني في ذلك التفسير مستدل([44]) بالقرآن فيه، مستدل بالنسبة فيه فيقع الخلط والبلاء وقع ذلك كثيرا.(20/183)
المسألة التي تليها وهي (أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم كقوله ?قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا?[البقرة:91].) هذه قالها اليهود.
(لا يقبلون) الصحيح (لا يقبلون) هي مكتوبة هنا (لا يعقلون) لكن الصحيح(لا يقبلون)، (أنهم لا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم)، قال تعالى (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا) يعني اليهود قالوا ?نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ?[البقرة:91]، اليهود قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا، كانت هذه حجتهم، وكان ذلك برهانا، (نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا) أما ما وراءه فلا نؤمن به، فلما كان أمرهم كذلك، كان مما يحتج به عليهم أنه قد جاء في التوراة وصف النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو الذي أنزل عليهم، لذلك سيأتي في المسألة التي تليها أنهم كانوا لا يعلمون ما تقوله طائفتهم؛ يعني أكثرهم لا يعلم ما في كتبهم، يقولون لا نؤمن إلا بما أنزل على طائفتنا ومع ذلك لا يعلمون ما عندهم, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصف وصفا تاما في التوراة وفي الإنجيل، فحرفوا ذلك الوصف وقالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا, صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودة، فآمنوا بما أنزل عليكم، فلم يؤمنوا بذلك.(20/184)
كذلك النصارى بشروا, بشرهم عيسى عليه السلام بالنبي عليه الصلاة والسلام، بشرهم بنبي يأتي اسمه أحمد وهو منصوص على ذلك في انجيل بَرنابا الموجود المطبوع الآن وهي نسخة نفيسة من الإنجيل والنصارى لا يقرون بنسبة ذلك الإنجيل إليهم، ويقولون أناجيلهم أربعة أما إنجيل برنابا فينفون لنسبته إلي النصرانية ويقولون هذا فيه ما فيه إما مختلف وإما غير مقر, إلى آخره وكان قد وجده الشيخ محمد رشيد رضا في أحد المكاتب في إيطاليا نسخة بلغة أخرى لاتينية، فترجمه إلى العربية وطبعه فيه البشارة بالنبي عليه الصلاة والسلام، لم يؤمنوا بذلك مع أنهم يقولون (نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا).
هؤلاء شاركهم طوائف من هذه الأمة كثيرة، فتجد أنّ عوام أهل المذاهب الفقهية مثلا يقولون لا نؤمن إلا بما جاء في مذهبنا، وهذا كثر في هذه الأمة خاصة في العصور المتأخرة, فتجد أن السائل إذا سأل مفتيا يقول أفتني على مذهب الشافعي, أفتني على مذهب الإمام أحمد, أفتني على مذهب الإمام أبي حنيفة، لم؟ قال: لأني على هذا المذهب. وهذا تجدونه كثيرا في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يأتيه من يسأله، فيقول أفتنا على مذهب الشافعي, أفتنا على مذهب كذا.(20/185)
ولأجل أن هذا كثر في الناس كان في وقت الشيخ رحمه الله بعض المفتين يحفظون كتبا في المذاهب الأربعة فيأتيهم السائل فيقول: أفتنا على المذهب الشافعي. فيفتيهم، يأتي آخر فيقول أفتني على مذهب أبي حنيفة فيفتيه, وهكذا، فكان بعض المفتين في وقت الشيخ وقبله يفتون على المذاهب الأربعة ويعدون أن هذا مفخرة, لم؟ لأن كل طائفة لا تؤمن إلا بنا عندها أما عند الآخرين يقولون لا نؤمن به, وهذا لاشك أنه باطل؛ لأن الواجب على المفتي أن يكون في فتواه مفتيا بما يعتقد أنه الحق, بما يعتقد أنه ينجيه بين يدي الله جل وعلا، مثل ما ذكر منصور البهوتي؛ الشيخ منصور رحمه الله تعالى المصنف للروض المربع وشرح المنتهى ولكشاف القناع ولكتب كثيرة فإنه اُستفتى في مسألة فأفتى فيها بفتوى فقيل له إن هذه الفتوى مخالفة لما ذكرته في كتابك كشاف القناع، فقال: ذاك ذكرنا فيه المذهب، وأما ما أفتيت به فهذا ما أعتقده. وهذا هو الواجب، التصنيف تبين المسائل بأدلتها على مذهب معين للتعليم لتصوير المسائل، هذا هو الطريقة العلمية الصحيحة، أما المفتي فإنه يفتي بما يعلم أنه الحق، لا يؤمن بما أنزل إليه فقط ويترك -يعني بما عنده، بما عليه طائفته- ويترك البقية بل ينظر ويجتهد في الحق.
أهل البدع كذلك تجد أن الخارجي مثلا؛ الاباضي مثلا إذا سألته، يقول لك أنا لا أومن إلا بما عليه مشايخنا، طيب أولو كانوا على باطل؟ أهل البدع والخرافات لا بد أن أسأل علماءنا، طيب إذا سألت علماءك شوف الدليل معهم هل معهم حجة أقوى من حجة الآخر أم لا؟ لابد أن تتحرى الحق.
فأصبحت هذه الظاهرة موجودة في المسلمين في أوسع الأبواب، أن كل أهل مذهب إما مذهب فقهي أو عقدي يقولون نؤمن بما عند طائفتنا ولا يتحرون الحق لا يبحثون عنه، فكانوا من جنس أولئك الذين لم يتحروا الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قنعوا بما عندهم.(20/186)
في وقت إمام الدعوة رحمه الله لما قام بالدعوة -يعني سبب ذكر هذه المسألة- واجهه هؤلاء، واجهه هؤلاء، واجهه فقهاء الشافعية مثلا رحمهم الله تعالى بأن قالوا إن متأخري الشافعية قالوا كذا وكذا -مثلا من جواز بعض المسائل التي كان ينهى عنها والتسمح في بعض البدع التي كان ينهى عنها ونحو ذلك- بعض المسائل يقول هو إنها حرام يقولون نص علماؤنا على الكراهة ونحو ذلك، فعارضه كل ذي مذهب بما عليه مذهب أصحابه فكان رحمه الله تعالى يناقش كلاًّ بأمرين:
الأول: أنه يذكر ما عليه طائفته -كما سيأتي- أن من كلام الشافعية مثلا من كلام الحنفية، من كلام المالكية، ما هو فيه بيان الحق للمسألة، لكنهم لا يعلمون بما كانت عليه طائفتهم، لا يعلمون بما يقوله أهل مذهبهم.
الثاني: أن يبين المقصود من كلام العلماء إنما هو إفهام الأدلة، فإذا عارض كلام أهل العلم الأدلة فإنه لا يسوغ أن نأخذ بكلامهم ونترك الأدلة الواضحة.(20/187)
ولهذا ذكر الشيخ في المسألة التي بعدها قال (التاسعة والعشرون أنهم مع ذلك –يعني أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما كان عليه طائفتهم- لا يعلمون بما تقوله الطائفة)، هذا الذي حصل فرد عليه طوائف ممن العلماء وهم لا يعلمون ما عليه أقوال أهل مذهبهم، ولهذا اعتنى علماء الدعوة رحمهم الله تعالى في كتبهم بنقل مذاهب العلماء في مسائل التوحيد، بنقل كلام أهل العلم في مسائل التوحيد لأن المتأخرين مثلا من الفقهاء الأئمة الشافعية أو الحنفية أو المالكية أو نحوهم كانوا يقبلون كلام علماء عصرهم، علماء المتأخرين منهم، لكن العلماء الأولون من أهل المذهب، لما لا يقبلون كلامهم؟ فكان أئمة الدعوة رحمهم الله والمشايخ ينقلون لهم كلام المتقدمين مثل كلام ابن حجر الهيثمي، ومثل كلام ابن حجر العسقلاني، ومثل كلام النووي، مثل كلام الذهبي، وهؤلاء كلهم شافعية، مثلا ينقلون كلام الإمام مالك في المدونة، وكلام أصحابه مثل الطرطوشي ونحوهم، والقرطبي وأمثالهم في بعض مسائل التوحيد ليبين أن مذهب المالكية هو كذا، ولهذا تجد أن كتب علماء هذه الدعوة مشحونة بالنقل عن كتب أولئك، لم؟ لبيان أن أولئك قالوا بمثل ما قاله الشيخ رحمه الله لكن هؤلاء لم يطالعوا أو خفي عليهم، وإنما عقلوا وقبلوا ما عليه متأخروهم، وهذا من المسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها؛ لأنه قد يأتي بعضهم وينقل نقولا عن بعض أئمة أهل المذهب، مثلا يأتي بعضهم يضاد مسائل العقيدة الصحيحة والتوحيد والنهي عن البدع بكلام بعض الشافعية، بكلام بعض المالكية، بكلام بعض الحنفية، بكلام بعض الحنابلة، طالب العلم أول ما يسمع بهذا الاحتجاج يذهب ويبحث في كتب القوم في كتب الحنابلة في كتب الشافعية في كتب المالكية إلى آخره، المتقدمة، حتى يثبت لهذا الذي احتج بكلام أهل طائفته أن من أهل طائفته من لم يقل بهذا القول وإذا كان أهل الطائفة المخصوصة هذه قد وقعوا في الاختلاف فإذن الحجة فيمن؟(20/188)
الحجة في كلام السلف، هذا برهان ضروري يُحتج به أينما ذهبت كن منه على ذكر وبينة.
إذا نقل لك ناقل مثل ما صنف مثلا محمد علوي المالكي في كتابه الأخير الذي سماه ”شفاء الفؤاذ بزيارة خير العباد“ نقل نقول عن بعض أهل العلم في تجويز بعض الأشياء التي هي من قبيل البدع، إذا بحث الباحث وجد أنه كتم نقولا كثيرة في النهي عن هذه الأمور فهو نقل عن بعض أهل العلم في تحسين هذه البدع، وكتم نقولا كثيرة، فيها بيان الصواب والحق في هذه المسألة، الشافعية نقل عنهم عندهم قول ثاني بينه محققوهم بينه كبار علمائهم، الحنابلة كذلك، المالكية كذلك، الحنفية كذلك.
فإذن إذا أورد عليك مورد وقال أنا لا أقبل إلا بكلام أهل مذهبي، فقل أولا قبولٌ، أولا قبول بهذا الكلام وستجد من كلام أئمة أهل مذهبه المعين ما يرد به عليهم؛ لأن الحق واضح، وكل مذهب وكل أتباع إمام عندهم من أهل العلم كثير ممن يقولون في المسائل بما تدل عليه الدلائل من الكتاب والسنة وكلام الأئمة أئمة السلف هذا أولا.
الثاني تناقشه هل الواجب أن لا تقبل إلا ما قالته طائفتك، أم الواجب أن تبحث فيما دل عليه الكتاب والسنة، الجواب: الواجب أن نبحث فيما تُعُبِّدْنَا به وهو الكتاب والسنة، ونفهم الكتاب والسنة بإفهام العلماء لنا؛ لأن العلماء إنما هم واسطة لفهم الكتاب والسنة؛ لأنهم تخصصوا وبذلوا أعمارهم ليلهم ونهارهم وجهدهم في فهم الأدلة من الكتاب والسنة، فوظيفة أهل العلم ليست استقلالية، إنما هي تبعية بإفهام الأدلة من الكتاب والسنة، وهذا الذي فعله الشيخ رحمه الله تعالى مع مخالفيه وأثمر ثمرات يانعة.
إذن هذه المسألة التاسعة والعشرون هي أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله الطائفة كما نبه الله عليه بقوله ?فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[البقرة:91]. متصلة بما قبلها لأن اليهود كانوا يحتجون بشيء وهو لا يعلمون بما عندهم.(20/189)
كذلك من ورثهم في هذه الأمة وشابههم يحتجون بما عليه الطائفة وهم يجهلون أن من أهل مذهبهم من بخلاف تلك الأقوال.
المسألة الأخيرة التي نختم بها الكلام هي المسألة العجيبة (الثلاثون) قال الشيخ رحمه الله (وهي من عجائب آيات الله أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق صار كل حزب بما لديهم فرحين.)
الجماعة جماعة أي رسولٍ كانت واحدة، ثم يبدأ التفرق بعد ذلك، أمر الله جل وعلا كل أتباع رسول بأن يجتمعوا على رسولهم، أما في اليهود فظاهر والنصارى فظاهر كما قال جل وعلا ?وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ?[البينة:4]، قال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ?[الشورى:14]، وقال جل وعلا ?وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ?[البقرة:176] وقال جل وعلا ?وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ?[البقرة:213]، وقال جل وعلا ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[آل عمران:105]، وغير ذلك من الآيات والله جل وعلا أمر العباد بالاجتماع، والاجتماع يكون على أساس العلم فكل من أخذ بالعلم الذي ورِثه من الرسول الذي أرسل إليه فإنه يهديه ذلك العلم إلى الاجتماع وترك الاختلاف والتفرق.
هذه المسألة مهمة للغاية لأن الجماعة والاجتماع دائما ترحم به الأمة، كما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنّ نتيجة الجماعة والاجتماع هو رضا الله جل وعلا ونصره وتأييده ومغفرته وتوفيقه للمجتمعين، ونتيجة الفرقة والاختلاف غضب الله ومقته وضرب قلوب بعضهم ببعض ولعنته وسخطه، هذا نتيجة الجماعة ونتيجة الفرقة.(20/190)
كل رسول كانت جماعته الأولى مجتمعة ثم بدأ التفرق وهذا ظاهر في الأمم من قبل، قال جل وعلا في بيان حال الأمم السابقة ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?([45])، لم؟ لأنهم تركوا الاجتماع الذي أمروا به وأخذوا بالتفرق والاختلاف، ما سبب ذلك التفرق و الاختلاف الذي حدث بعد الجماعة الأولى؟ هو ما أخبر الله جل وعلا به قال ?فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ?[المائدة:14]، وقال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ?[الشورى:14].
قال شيخ الإسلام رحمه الله وغيره إن سبب الفرقة اثنان:
الأول: هو ترك العلم وترك حظ ما أمر العباد به.
الثاني: هو البغي.
إذا ترك طائفة العلم الذي أمرت به ونسيت، يعني تركت حظا مما ذكرت به حصل التفرق والبعد عن الجماعة الأولى.
الثاني أن يكون هناك بغي وعدوان من طائفة من هذه الطائفة المفترقة المخالفة عن الجماعة الأولى المجتمعة على الحق والهدى.
بعد ذلك إذا حصل هذان الأمران وهذان السببان وهو ترك العلم ونسيان حظ ما ذُكِّر به العباد والثاني هو البغي بين العباد يحصل التفرق والاختلاف، وإذا حصل التفرق والاختلاف كان كما أخبر الله جل وعلا بقوله (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) نتيجة التفرق والاختلاف العداوة والبغضاء، وهذا كما قال الشيخ رحمه الله: وهي من عجائب آيات الله أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق، صار كل حزب بما لديهم فرحين.
فإذن فرح كل حزب بما لديه نعمة أو عذاب هو عذاب لأنهم لم يجعلهم الله جل وعلا فرحين بما هم عليه إلا لما خالفوا وصية الله جل وعلا بالاجتماع وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق.(20/191)
فهذه عقوبة، إذا وجدت الفرق والطوائف كل فرقة فرحة بما عندها ممن خالفوا وتركوا الجماعة الأولى تعلم أن هذا من العذاب الذي عذبوا به لأنهم تركوا وصية الله بالاجتماع وأخذوا بالتفرق والاختلاف.
هذا حاصل في هذه الأمة من أول ما ظهرت الخوارج وهم لما خالفوا وصية الله بالاجتماع، وأخذوا بالتفرق والاختلاف ونسول حظا مما ذكروا به وتركوا العلم الذي أنزل عليهم، صاروا فرحين بما عندهم حتى إن الخارجي يكون أشجع الناس؛ يعني أشجع الناس في وقته وأقواهم مدافعة عما هو عليه من الباطل، لم؟ لأنه فرح به أشد الفرح، خالفوا الصحابة وقاتلوا الصحابة، وذلك لأنهم فرحون بما هم عليه وأصل ضلالهم كما هو معلوم مسألة تحكيم القرآن يعني الأخذ بظاهر قوله تعالى ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ?[المائدة44] فكفروا الصحابة وتركوا العلم الذي كان عند الصحابة واعتزوا بآرائهم فصاروا فرحين بما عندهم.
كذلك المرجئة أول ما ظهرت كان لها رأي ثم بعد ذلك صارت فرحة بما عندها لأنها تركت ما أمر الله به من الاجتماع، وأخذت بالقول الذي ليس عليه الجماعة الأولى.
ولهذا من أراد النجاة فإنما السبيل بالأخذ بوصية الله بالاجتماع، وهذه ذكرها الشيخ رحمه الله في أول الكلام في المسألة الثانية والثالثة، وهنا يريد أن عقوبة الافتراق أن يكون المرء فرحا بما هو عليه من الباطل، هذا من عقوبة الافتراق، فأول ما يخالف يكون عنده تردد ويكون عنده نوع من عدم الثبات ما هو عليه، حتى يستمرئ المخالفة ويستمرئ التفرق، فيعاقبه الله جل وعلا بفرحه بما عليه حتى يكون من أهل التفرق والاختلاف والعياذ بالله.
على العموم هذه المسألة كما ذكر الشيخ رحمه الله أنها من عجائب آيات الله؛ لأنها عقوبة لا يشعر بها إلا المتيقنون.
اسأل الله جل وعلا أن يبصرني بالحق والهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---(20/192)
([1])الحجر:29، ص:72.
([2])أظن يوجد حذف في هذا الموضع من الشريط.
([3]) الشيخ حفظه الله قال (نحشرهم, نقول).
([4])الشيخ حفظه الله قال: إنما.
([5])لم يذكرها الشيخ.
([6]) انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([7])المؤمنون:53، الروم:32.
([8]) فاطر:31، الشورى:13.
([9])المؤمنون:53، الروم:32.
([10])انتهى الشريط الأول.
([11])البقرة:269، آل عمران:7.
([12])انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([13]) انتهى الشريط الثاني.
([14]) إبراهيم:10، يس:15.
([15]) لعلها قوله تعالى?قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا?[يس:15].
([16]) النحل:43، الأنبياء:7.
([17])انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([18])انتهى الشريط الثالث.
([19])البقرة:88، النساء:155.
([20]) البقرة:88، النساء:155.
([21]) الشيخ قال: لكي لا.
([22]) الأعراف:25، الإسراء:46.
([23]) البقرة:88، النساء:155.
([24])انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.
([25]) النحل:43، الأنبياء:7.
([26]) انتهى الشريط الرابع.
([27]) البقرة:135، آل عمران:67،95، الأنعام:171، النحل:123.
([28]) كلمة غير مفهومة.
([29])كلام غير واضح.
([30])انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
([31]) انتهى الشريط الخامس.
([32]) الشيخ حفظه الله قال: لو شاء الله جل وعلا.
([33]) الآية هي ?يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[البقرة:75].
([34])الشيخ حفظه الله قال: كثيرا.
([35])الفاتحة:1، النمل:30.
([36]) الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
([37]) الشيخ قال: بل.
([38])انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([39])الحجر:29، ص:72.
([40]) الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
([41])الشيخ قال: وَ.
([42]) انتهى الشريط السادس.
([43])المؤمنون :53، الروم:32.(20/193)
([44])انتهى الوجه الأول من الشريط السابع.
([45])المؤمنون :53، الروم:32.(20/194)
مقدمة شرح كتاب التوحيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه : هذا شرح لكتاب التوحيد ، شرحته في مجالس متصلة في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بحي سلطانة في مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية ، وقد فرغ من الأشرطة المسجلة وأصلحت بعض الألفاظ بما يناسب المكتوب ، فلم أقصد إلى تأليف شرح ، ولذلك فإني أرغب من المحققين في مقاصد التأليف أن يغضوا الطرف عما قد يرد في الشرح من عدم استيعاب أو علو عبارة ، والله أسأل أن يجزي مؤلف الأصل الجد الإمام محمد بن عبد الوهاب خير الجزاء عن أهل السنة لقاء ما قرب لهم من علوم الكتاب والسنة ، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليما .
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده ، وأقام بهم الحجة على عبيده ، فاتفقوا أولهم وآخرهم على توحيده وتفريده ، ونبذ الشرك وتنديده ، وأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون من سواه ، وعبادة غيره - كائنا من كان - باطلة ؛ فإنه ما عُبد غير الله إلا بالبغي ، والظلم ، والعدوان .(21/1)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، تأكيدا بعد تأكيد ؛ لبيان مقام التوحيد ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد : -
فهذا الكتاب - كتاب التوحيد - من مؤلفات الإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين ، محمد بن عبد الوهاب ، وهو- رحمه الله- غني عن التعريف ؛ لما جعل الله - جل وعلا - لدعوته من أثر ظاهر النفع في جميع أنحاء الأرض : شرقا وغربا ، جنوبا وشمالا ، ولا غرو في ذلك فإن دعوته- رحمه الله- إحياء لدعوة محمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة والسلام- .(21/2)
وكتاب التوحيد- الذي نحن بصدد شرحه - كتاب عظيم جدا ، أجمع علماء التوحيد ، على أنه لم يصنف في الإسلام في موضوعه مثله ، فهو كتاب وحيد وفريد في بابه ، لم ينسج على منواله مثله ؛ لأن المؤلف - رحمه الله - طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة ، وما يضاد ذلك التوحيد ، من أصله ، أو يضاد كماله ، فامتاز الكتاب بسياق أبواب توحيد العبادة مفصلة ، مُدَلَّلَةً ، وعلى هذا النحو ، بتفصيل ، وترتيب ، وتبويب لمسائل التوحيد ، لم يوجد من سبق الشيخ إلى ذلك ، فحاجة طلاب العلم إليه ، وإلى معرفة معانيه ماسة ؛ لما اشتمل عليه من الآيات ، والأحاديث ، والفوائد .
وقد شبه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري - رحمه الله - وهذا ظاهر ، ذلك أن الشيخ - رحمه الله - نَسَج كتابه هذا نَسْج الإمام البخاري صحيحه من جهة أن التراجم التي يعقدها ، تحتوي على آية وحديث - غالبا - والحديث والآية على الترجمة ، وما بعدها مفسِّرٌ لها ، وكذلك ما يسوقه - رحمه الله - من كلام أهل العلم من الصحابة ، أو التابعين ، أو أئمة الإسلام ، هو نسق طريقة الإمام أبي عبد الله البخاري -رحمه الله - فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني .(21/3)
وهذا الكتاب صنفه إمام الدعوة ابتداء في البصرة لمَّا رحل إليها ، وكان الداعي إلى تأليف ما رأى من شيوع الشرك بالله - جل جلاله - ومن ضياع مفهوم التوحيد الحق عند بعض المسلمين ، وما رآه عندهم من مظاهر الشرك : الأكبر ، والأصغر ، والخفي ، فابتدأ في البصرة جمع هذا الكتاب ، وتحرير الدلائل لمسائله ، ذكر ذلك تلميذه ، وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله- في "المقامات" ، ثم إن الشيخ لمَّا قدم نجدا حرر الكتاب ، وأكمله ، فصار كتابه هذا - بحق- كتاب دعوة إلى التوحيد الحق ؛ لأن الشيخ - رحمه الله- بين فيه أصول دلائل التوحيد ، وبين فيه معناه وفصله ، كما بين فيه ما يضاده ، والخوف مما يضاده ، وبين - أيضا- أفراد توحيد العبادة ، وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالا ، واعتنى ببيان الأكبر والأصغر وصورهما ، والذرائع المؤدية إليهما ، وبيَّن ما يُحْمى به التوحيد ، والوسائل إلى ذلك ، وبين أيضا شيئا من أفراد توحيد الربوبية . فـ "كتاب التوحيد" كتاب عظيم النفع جدا ، جدير بأن يعنى به عناية حفظ ، ودرس ، وتأمل ؛ فالعبد محتاج إليه للعمل به ، ولتبليغ ما فيه من العلم لمن وراءه من الناس ، سواءً أكانوا في المسجد(21/4)
، أم في البيت ، أم في مقر عمله ، أم في أي جهة أخرى . والمقصود : أن مَن فهم هذا الكتاب فقد فهم أكثر مسائل توحيد العبادة ، بل يكون قد فهم جل مسائله وأغلبها .
وقد كنت نظرت في الكيفية التي ينبغي أن يشرح بها هذا الكتاب ، وطريقة ذلك ؛ لأن الكتاب - كما يُعلم - طويل لا يمكن استيعاب شرحه شرحا متوسطا أو مبسوطا في نحو ثمانية عشر مجلسا ، فتأملت منهج العلماء الذين شرحوه ، فوجدت شروحهم : ما بين بسيط ، ووجيز ، ووسيط ، فرأيت أن يقتصر الشرح على ذكر الفوائد التي يكثر التباسها على طلبة العلم ، مع بيان مناسبة الآي والأحاديث للترجمة ، وإبراز وجه الاستدلال من الآية أو من الحديث على المقصود ، وذكر شيء من تقرير الحجاج مع الخصوم في هذه المسائل ، ربما لا يطالعه كثير من طلبة العلم في الشروح . وهذه الطريقة التي سنسلكها : طريقة مختصرة ، سوف نأتي بها- إن شاء الله-على الكتاب كله ، مع عدم الإخلال بإفهامه ، وعدم الإقلال من معانيه ، ونسأل الله تعالى المدد ، والإعانة ، والتوفيق .(21/5)
" باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب "
وقول الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } الآية [الأنعام : 82] عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح ومنه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » أخرجاه (1) .
ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرَّم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » . (2)
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال موسى : يا رب ، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به ، قال : قل - يا موسى - : لا إله إلا الله ، قال : يا رب ، كل عبادك يقولون هذا؟ قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري ، والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة ، مالت بهن لا إله إلا الله » رواه ابن حبان والحاكم وصححه . (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 3435 ) ومسلم ( 28 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 425 ) و ( 667 ) و ( 6423 ) و ( 6938 ) ومسلم ( 33 ) .
(3) أخرجه ابن حبان ( 2324 - موارد ) والحاكم 1 / 528 وصححه ووافقه الذهبي .(21/6)
وللترمذي - وحسنه - عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » . (1)
فيه مسائل :
الأولى : سعة فضل الله .
الثانية : كثرة ثواب التوحيد عند الله .
الثالثة : تكفيره مع ذلك للذنوب .
الرابعة : تفسير الآية ( 82 ) التي في سورة الأنعام .
الخامسة : تأمل الخمس اللواتي في حديث عُبادة .
السادسة : أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده ؛ تبين لك معنى قول : « لا إله إلا الله » وتبين لكم خطأ المغرورين .
السابعة : التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان .
الثامنة : كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله .
التاسعة : التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات ، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه .
العاشرة : النص على أن الأرضين سبع كالسماوات .
الحادية عشرة : أن لهن عمارًا .
الثانية عشرة : إثبات الصفات خلافًا للأشعرية .
الثالثة عشرة : أنك إذا عرفت حديث أنس : عرفت أن قوله في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ؛ يبتغي بذلك وجه الله » أن ترك الشرك ليس قولها باللسان .
_________
(1) أخرجه أحمد 5 / 154 و172 والترمذي ( 3534 ) وقال : حديث حسن غريب . وله شاهد من حديث أبي ذر عند مسلم ( 2687 ) .(21/7)
الرابعة عشرة : تأمُّلُ الجمع بين كون عيسى ومحمد عَبْدَيِ الله ورسولَيْه .
الخامسة عشرة : معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله .
السادسة عشرة : معرفة كونه روحا منه .
السابعة عشرة : معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار .
الثامنة عشرة : معرفة قوله : « على ما كان من العمل » .
التاسعة عشرة : معرفة أن الميزان له كفتان .
العشرون : معرفة ذكر الوجه .
الشرح :
هذا الباب " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وما يكفر من الذنوب " يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة ؛ فالتوحيد بأنواعه الثلاثة ، له فضل عظيم على أهله . ومن أعظم فضله أنه به تُكَفَّر الذنوب ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في التبويب : " باب فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب . فـ (ما) هنا موصول اسمي بدلالة وجود " من " البيانية مما يحول دون جعلها موصولا حرفيا ، فيكون المعنى : باب فضل التوحيد وبيان الذنوب التي يكفرها . فالتوحيد يكفر الذنوب جميعا ، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض ؛ لأن التوحيد حسنة عظيمة ، لا تقابلها معصية إلا وأحرق نور تلك الحسنة أثر المعصية إذا كمل ذلك النور .(21/8)
فهذا هو المقصود بقوله : " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب " ؛ فمن كمل التوحيد بأنواعه الثلاثة - أعني : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وتوحيد الأسماء والصفات - : فإنه تكفر عنه ذنوبه ، كما سيأتي بيانه في الباب بعده : أنه من حقق التوحيد : دخل الجنة بغير حساب .
فكلما زاد التوحيد محي من الذنوب بمقدار عظمه ، وكلما زاد التوحيد أمن العبد في الدنيا وفي الآخرة بمقدار عظمه ، وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كان متعرضا لدخول الجنة على ما كان عليه من العمل ؛ فلهذا ساق الإمام - رحمه الله - آية الأنعام ، فقال : ( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ، وقول الله تعالى ) ثم ذكر الآيات .
ومن العلماء من قال : إن ( ما ) في قوله : ( وما يكفر من الذنوب ) موصول حرفي .(21/9)
وقول الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام : 82] . الظلم هنا : هو الشرك ، كما جاء في تفسير ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية ، وقالوا : يا رسول الله ، أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ! فقال : ليس الذين تذهبون إليه ، الظلم : الشرك ، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }» [لقمان : 13] (1) فالظلم هنا - في مراد الشارع - : هو الشرك ، فيكون مقصود الشيخ من إيراد هذه الآية تحت هذا الباب : بيان فضل من آمن ووحّد ، ولم يلبس إيمانه وتوحيده بشرك ، وأن له الأمن التام ، والاهتداء التام ؛ فهذا هو وجه مناسبة الآية للباب . ومعنى الآية : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون .
_________
(1) رواه البخاري ( 32 ) ، ( 336 ) ، ( 3428 ) ، ومسلم ( 124 ) .(21/10)
وجاء الظلم في الآية مُنَكَّرًا ، في سياق النفي ، وهو قوله تعالى { وَلَمْ يَلْبِسُوا } ، وهذا يدل على عموم أنواع الظلم ، لكن هل المراد بالعموم هنا العموم المخصوص ، أو العموم الذي يراد به الخصوص ؟ الجواب : أن المراد بالعموم هنا : هو العموم الذي يراد به الخصوص ؛ لأن العموم عند الأصوليين تارة يكون باقيا على عمومه ، وتارة يكون عموما مخصوصا يعني دخله التخصيص ، وتارة يكون عموما مرادا به الخصوص يعني أن لفظه عام ، ولكن يراد به الخصوص فهذه أوجه ثلاثة ، والوجه الأخير هو الذي أراد الشيخ - رحمه الله - الاستدلال به من الآية . صحيح أن ( الظلم ) هنا جاء نكرة في سياق النفي ( لم ) : فيدل على العموم ، لكنه عموم مراد به الخصوص ؛ وهو خصوص أحد أنواع الظلم كلها ؛ لأن من أنواع الظلم : ظلم العبد نفسه بالمعاصي ، أو ظلم العبد غيره بأنواع التعديات ، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله - جل وعلا - بالشرك به ، فهذا هو المراد بهذا العموم ، فيكون عاما في أنواع الشرك ، وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية ، فيكون معنى الآية : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ } يعني لم يلبسوا توحيدهم بنوع من أنواع الشرك .(21/11)
{ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } فـ ( الأمن ) هنا : هو الأمن التام في الدنيا ، والمراد به أمن القلب وعدم حزنه على غير الله - جل وعلا - والاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة ، وكلما وجد نقص في التوحيد بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك ، إما الشرك الأصغر ، أو الشرك الخفي ، وسائر أنواع الشرك ، ونحو ذلك ، ذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك . هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك .
فإذا فَسَّرْتَ الظلم بأنه جميع أنوع الظلم - كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - فإنه يكون - على هذا التفسير - مقابلة بين الأمن والاهتداء ، وبين حصول الظلم ، فكلما انتفى الظلم : وُجد الأمن والاهتداء ، وكلما كمل التوحيد وانتفت المعصية : عظم الأمن والاهتداء ، وإذا زاد الظلم : قَلَّ الأمنُ واهتداء بحسب ذلك .
قال : ( وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » أخرجاه ) (1)
_________
(1) تقدم .(21/12)
مناسبة هذا الحديث للباب قوله : « على ما كان من العمل » ومعنى قوله : « على ما كان » يعني على الذي كان عليه من العمل ولو كان مقصرا في العمل وعنده ذنوب وعصيان ، فإن لتوحيده لله ، وشهادته له بالوحدانية ، ولنبيه بالرسالة ، ولعيسى بأنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، ولإقراره بالغيب ، وبالبعث : إن لذلك فضلا عظيما ، وهو : أن يدخله الله الجنة ولو كان مقصرا في العمل . فهذا الحديث فيه بيان فضل التوحيد على أهله .
قال : ولهما في حديث عتبان : « فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » . (1)
قوله : « من قال : لا إله إلا الله » المراد بالقول هنا : القول الذي معه تمام الشروط ؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الحج عرفة » (2) يعني إذا أتى ببقية الأركان والواجبات ، فيكون معنى قوله هنا : « من قال : لا إله إلا الله » يعني باجتماع شروطها ، وبالإتيان بلازمها .
وخرج بقوله : « يبتغي بذلك وجه الله » المنافقون ؛ لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله .
_________
(1) تقدم .
(2) رواه أبو داود برقم ( 1949 ) والترمذي ( 889 ) والنسائي ( 5 / 256 ) وابن ماجه ( 2015 ) .(21/13)
وقوله : « حرم على النار » تحريم النار في نصوص الكتاب والسنة يأتي على درجتين : الأولى : تحريم مطلق ، والثانية : تحريم بعد أمد ، فالتحريم المطلق يقتضي أن من حرم الله عليه النار تحريما مطلقا : فإنه لن يدخلها ، إما بأن يغفر الله له ، وإما بأن يكون من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ، الحديث يحتمل الأول ، ويحتمل الثاني .
« فإن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله » : يعني أن الذي أتى بالتوحيد ، وانتهى عن ضده ، وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي ، ومات من غير توبة ، فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عذبه ثم حرم عليه النار ، وإن شاء الله غفر له وحرم عليه النار ابتداء .
فوجه الشاهد - إذًا - من الحديث للباب : أن هذه الكلمة ، وهي كلمة التوحيد وسيأتي بيان معناها مفصلا ، إن شاء الله تعالى لما ابتغى بها صاحبها وجه الله ، وأتى بشروطها وبلوازمها تفضل الله عليه ، وأعطاه ما يستحقه من أنه حرم عليه النار . وهذا فضل عظيم ، نسأل الله - جل وعلا - أن يجعلنا من أهله .(21/14)
وفي حديث أبي سعيد الخدري - الوارد بعد حديث عتبان - وفيه قول وموسى - عليه السلام - : « يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به . قال : قل - يا موسى - : لا إله إلا الله ، قال : يا رب كل عبادك يقولون هذا » (1) : فهذا الحديث فيه دلالة على أن أهل الفضل ، والرفعة في الدين ، والإخلاص والتوحيد ، قد ينبهون على شيء من مسائل بالتوحيد ؛ فهذا موسى - عليه السلام - وهو أحد أولي العزم من الرسل ، وهو كليم الله - جل وعلا - أراد شيئا يختص به غير ما عند الناس ، وأعظم ما يختص به أولياء الله ، وأنبياؤه ورسله ، وأولو العزم منهم هو كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) فأراد شيئا أخص من ذلك ، فأعلم أنه لا أخص من كلمته التوحيد ، فهي أفضل شيء ، وهي التي دُلّ عليها أولو العزم من الرسل ومن دونهم من الناس .
قال : « يا رب ، كل عبادك يقولون هذا ؟ قال : يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري » : يعني ومن في السماوات السبع من الملائكة ومن عباد الله - جل وعلا - .
_________
(1) تقدم.(21/15)
« والأرضين السبع في كفة » : يعني لو تمثلت السماوات والأرضون أجساما ، ووضع الجميع في ميزان له كفتان ، وجاءت ( لا إله إلا الله ) في الكفة الأخرى لمالت بهن ( لا إله إلا الله ) . فـ ( لا إله إلا الله ) كلمة توحيد فيها ثقل لميزان من قالها ، وعظم في الفضل لمن اعتقدها وما دلت عليه فلهذا قال : « مالت بهن لا إله إلا الله » .(21/16)
ووجه الدلالة : أنه لو تصور أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع ، وثقل ما فيها من العباد والملائكة وثقل الأرض لكانت ( لا إله إلا الله ) مائلة بذلك الثقل من الذنوب ، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جُعِل على أحد العصاة سجلات عظيمة ، فقيل له : هل لك من عمل ؟ فقال : لا ، فقيل له : بلى ، ثم أخرجت له بطاقة فيها ( لا إله إلا الله ) ، فوضعت في الكفة الأخرى ، فطاشت سجلات الذنوب ، وثقلت البطاقة ، (1) وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد ، إنما هو لمن قويت في قلبه ، ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية ؛ لأنه مخلص فيها مصدق ، لا ريب عنده فيما دلت عليه ، معتقد ما فيها ، محب لما دلت عليه ، فيقوى أثرها ونورها في القلب فإذا كانت كذلك : فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب ، وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها ، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب ، فيكون هذا الحديث وحديث البطاقة يدلَّان على أن ( لا إله إلا الله ) لا يقابلها ذنب ، ولا تقابلها خطيئة ، لكن هذا في حق من كملها وحققها ، بحيث لم يخالط قلبه - في معناها - ريب ، ولا تردد ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن ، وعلى الأسماء والصفات باللزوم ، وعلى الإلهية
_________
(1) أخرجه أحمد ( 2 / 213 ) والترمذي ( 639 ) وقال : حديث حسن .(21/17)
بالمطابقة ، فيكون من ينتفع بهذه الكلمة على وجه الكمال - ولو بلغت ذنوبه ما بلغت ، وكانت سجلاته كثقل السماوات والأرضين السبع - هو الذي كمل ما دلت عليه من التوحيد وهذا معنى هذا الحديث ، وحديث البطاقة ، وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخر الوارد في الباب نفسه عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » (1) وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب .
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أنه من أتى بذنوب عظيمة ، ولو كانت كقراب الأرض خطايا يعني كعظم وقدر الأرض خطايا ، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئا : لأتى الله ذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة ، وهذا لأجل فضل التوحيد ، وعظم فضل الله - جل وعلا - على عباده بأن هداهم إليه ، ثم أثابهم عليه .
_________
(1) تقدم .(21/18)
" باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب "(21/19)
وقول الله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] وقال { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 59] عن حصين بن عبد الرحمن ، قال : كنت عند سعيد بن جبير ، فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة ؟ فقلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت : قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي ، قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : " لا رقية إلا من عين أو حمة " ، قال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي ، فقيل لي : هذا موسى وقومه ، فنظرت ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : فلعلهم(21/20)
الذين ولدوا في الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء . فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال : " هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " أنت منهم " ثم قام رجل ، فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال " سبقك بها عكاشة » (1)
فيه مسائل :
الأولى معرفة مراتب الناس في التوحيد .
الثانية : ما معنى تحقيقه .
الثالثة : ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين .
الرابعة : ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك .
الخامسة : كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد .
السادسة : كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل .
السابعة : عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل .
الثامنة : حرصهم على الخير .
التاسعة : فضيلة هذه الأمة بالكَمية والكيفية .
العاشرة : فضيلة أصحاب موسى .
الحادية عشرة : عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام - .
الثانية عشرة : أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها .
الثالثة عشرة : قلة من استجاب للأنبياء .
الرابعة عشرة : أن من لم يجبه أحد يأتي وحده .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 3410 ) ، ( 5705 ) ، ( 5752 ) ، ( 6472 ) ، ( 6541 ) ومسلم ( 220 ) .(21/21)
الخامسة عشرة : ثمرة هذا العلم ، وهو عدم الاغترار بالكثرة وعدم الزهد في القلة .
السادسة عشرة : الرخصة في الرقية من العين والحُمَة .
السابعة عشرة : عمق علم السلف لقوله " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن كذا وكذا " . فعُلِم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني .
الثامنة عشرة : بُعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه .
التاسعة عشرة : قوله « أنت منهم » عَلَمٌ من أعلام النبوة .
العشرون : فضيلة عُكَّاشة .
الحادية والعشرون : استعمال المعاريض .
الثانية والعشرون : حُسْنُ خُلُقِه - صلى الله عليه وسلم - .
الشرح :(21/22)
هذا الباب هو : " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " وقد ذكر في الباب قبله فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب ، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله ، وأهل التوحيد هم أهل الإسلام ، ولا شك أن لكل مسلم نصيبا من التوحيد ، فيكون له - تبعا لذلك - نصيب من فضل التوحيد ، وتكفير الذنوب ، أما خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد ؛ ولهذا عطف هذا الباب على الذي قبله ؛ لأنه أخص . وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب ، وتحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ومعنى تحقيق الشهادتين : تصفية الدين من شوائب الشرك والبدع والمعاصي ، فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء :
الأول : ترك الشرك بأنواعه : الأكبر ، والأصغر ، والخفي .
والثاني : ترك البدع بأنواعها .
الثالث : ترك المعاصي بأنواعها .(21/23)
فيكون تحقيق التوحيد على هذا على درجتين : درجة واجبة ودرجة مستحبة ، وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا ، فالدرجة الواجبة : أن يترك ما يجب تركه من الأشياء الثلاثة التي ذكرت ، فيترك الشرك خفيه وجليه ، صغيره وكبيره ، ويترك البدع ، ويترك المعاصي ، هذه درجة واجبة .
والدرجة المستحبة في تحقيق التوحيد - وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل - هي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله - جل وعلا - يعني : أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته ، ليس فيه التفت إلى غير الله ، فيكون نطقه لله ، وفعله وعمله لله ، بل وحركة قلبه لله - جل جلاله - ، وقد عبر عنها بعض أهل العلم - أعني هذه الدرجة المستحبة - بقوله : أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، يعني : في مجال أعمال القلوب ، وأعمال اللسان ، وأعمال الجوارح .(21/24)
فإذًا رجع تحقيق التوحيد الذي هذا فضله - وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ، ولا عذاب - رجع إلى تينك المرتبتين ، وتحقيقه تحقيق الشهادتين : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ؛ لأن في قوله ، ( لا إله إلا الله ) الإتيان بالتوحيد ، والبعد عن الشرك بأنواعه ، ولأن في قوله : ( أشهد أن محمدا رسول الله ) البعد عن المعصية ، والبعد عن البدع ؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمدا رسول الله : أن يُطاع فيما أمر ، وأن يصدَّق فيما أخبر ، وأن يُجتَنَبَ ما عنه نَهَى وزَجَرَ ، وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فمن أتى شيئا من المعاصي والذنوب ، أو البدع ثم لم يتب منها أو لم تكفر له فإنه لم يحقق التوحيد الواجب وإذا لم يأت شيئا من البدع ، ولكن حسَّنها بقلبه ، أو قال : لا شيء فيها ؛ فإن حركة قلب من ذا شأنه لما كانت في غير تحقيق التوحيد وفي غير تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله : فإنه لا يكون من أهل تحقيق التوحيد ، وكذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد . وأما مرتبة الخاصة التي ذُكِرَتْ ففيها يتنافس المتنافسون وما ثمَّ إلا عفو الله ، ومغفرته ، ورضوانه .(21/25)
واستدل الشيخ في " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " بآيتين وبحديث ، أما الآية الأولى فهي قول الله تعالى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] وهذه الآية فيها الدلالة على أن إبراهيم - عليه السلام - كان محققا للتوحيد .
وجه الدلالة : أن الله - جل وعلا - وصفه بصفات :
الأولى : أنه كان ( أمة ) ، والأمة : هو الإمام الذي جمع جميع صفات الكمال البشري وصفات الخير ، وهذا يعني أنه لم ينقص من صفات الخير شيئا وهذا معنى تحقيق التوحيد . والأمة تطلق في القرآن إطلاقات ، فمن تلك الإطلاقات : أن يكون معنى الأمة الإمام المقتدَى به في الخير ، وسُمِّي أمة ؛ لأنه يقوم مقام أمة في الاقتداء ؛ ولأن من سار على سيره يكون غير مستوحش ولا متردد ؛ لأنه ليس مع واحد فقط ، وإنما هو مع أمة .(21/26)
الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد : أنه قال : { قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } وهاتان الصفتان : - القانت ، والحنيف - متلازمتان لأن القنوت لله معناه : دوام الطاعة لله - جل وعلا - وملازمتها فهو ملازم لطاعة الله - جل وعلا - . ولأن " الحنيف " - كما يقول العلماء - : هو ذو الحنف وهو الميل عن طريق المشركين ، فالحنيف هو المائل عن طريق المشركين المائل عن هدي وسبيل المشركين فصارت عنده ديمومة وقنوت وملازمة للطاعة وبُعْد عن سبيل المشركين ، ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار إبراهيم عليه السلام حنيفا ، أي مائلا بعيدا عنه : معلوم أنه يشتمل على الشرك ، والبدعة ، والمعصية فهذه الثلاث هي أخلاق المشركين : الشرك ، والبدعة ، والمعصية من غير إنابة ولا استغفار .
قال { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } :(21/27)
وقوله : { وَلَمْ يَكُ } كانت في الأصل : يكن ، ويجوز في حالة الجزم - بشروط - حذف نون ( يكن ) ؛ كما في الآية السابقة . وكما في قوله تعالى في سورة النحل : { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل : 127] ويجوز إثباتها كما في قوله تعالى : { وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } في سورة النمل [النمل : 70] .
فإثبات النون وحذفها وجهان جائزان في اللغة - بشروطه المعروفة - .
وقوله تعالى : { مِنَ الْمُشْرِكِينَ } : المشركين : جمع تصحيح لـ ( المشرك ) ، والمشرك اسم فاعل الشرك ، و ( أل ) - كما هو معلوم في العربية - إذا دخلت على اسم الفاعل أو اسم المفعول فإنها تكون موصولة ، كما قال ابن مالك في الألفية :
وصفة صريحة صلة أل ... وكونها بمعرب الأفعال قل
والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم ، فيكون معنى قوله - إذًا - : { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أنه لم يك فاعلا للشرك بأنواعه ، ولم يك منهم .(21/28)
ودلَّ قوله - أيضا - { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } على أنه ابتعد عنهم ، لأن ( مِنْ ) تحتمل أن تكون تبعيضية ، فتكون المباعدة بالأجسام ، ويحتمل أن تكون بيانية ، فتكون المباعدة بمعنى الشرك . فالمقصود : أن الشيخ - رحمه الله - استحضر هذه المعاني من الآية فدلته على أنها في تحقيق التوحيد .
قال - جل وعلا - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ذلك لأن من جَمَع تلك الصفات فقد حقق التوحيد ، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب .(21/29)
وقد فسر إمام الدعوة - المصنف - الشيخ : محمد بن عبد الوهاب ، هذه الآية من أواخر سورة النحل ، فقال - رحمه الله - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } ، لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين ، { قَانِتًا لِلَّهِ } لا للملوك ، ولا للتجار المترفين ، { حَنِيفًا } لا يميل يمينا ، ولا شمالا ، كحال العلماء المفتونين { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } خلافا لمن كثر سوادهم ، وزعم أنه من المسلمين . وهو من التفاسير الرائقة البعيدة المعاني { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
ثم قال بعد ذلك : ( وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 59] ) : وهذه الآيات في سورة المؤمنون ، وهي في مدح خاصة المؤمنين .(21/30)
ووجه الاستدلال من الآية على الباب : أن الله قال : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } فقوله : { لَا يُشْرِكُونَ } نفي للشرك ، وقد ذكرنا من قبل أن النفي إذا تسلط على الفعل المضارع ، فإنه يفيد عموم المصدر الذي يدل عليه الفعل ، فكأنه - جل وعلا - قال : والذين هم بربهم لا يفعلون شركا ، أو لا يشركون لا بشرك أكبر ، ولا أصغر ، ولا خفي .
والذين لا يشرك هو الموحد ، فصار عندنا لازم ، وهو أن من لم يشرك بالله أيَّ نوع من الشرك ، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده ، قال العلماء : قدم هنا قوله : { بِرَبِّهِمْ } في قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ } ، لأن الربوبية تستلزم العبودية ، فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة ، وعدم الإشراك في العبودية وهذا وصف الذين حققوا التوحيد ؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك : ألا يُشرِك هواه ؛ لأن المرء إذا أشرك هواه : أتى بالبدع ، أو أتى بالمعصية ، فصار نفي الشرك نفيا للشرك بأنواعه ونفيا للبدعة ، ونفيا للمعصية ، وهذا هو تحقيق التوحيد لله - جل وعلا - .(21/31)
فالآية - إذًا - دالة على ما ترجم له الإمام - رحمه الله - بقوله : " باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " .
أما الحديث فطويل ، وموضع الشاهد منه قوله - عليه الصلاة والسلام - : « فنظرت ، فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ، فلم يشركوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه . فقال : " هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكْتَوُون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون » . هذا الحديث في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وهذه صفة من صفاتهم ، وتلك الصفة خاصة بهم ، لا يلتبس أمرهم بغيرهم ؛ لأن هذه الصفة كالشامة يعرفون بها . فَمَنْ هم الذين حققوا التوحيد؟ الجواب في قوله : « هم الذين لا يَسْتَرْقُون ، ولا يكْتَوُون ، ولا يتطيرون » ، فذكر أربع صفات :(21/32)
أنهم « لا يَسْتَرْقُون » : ومعنى يَسْتَرْقُون : يعني لا يطلبون الرقية ؛ لأن الطالب للرقية يكون في قلبه ميل للراقي ، حتى يرفع ما به من جهة السبب . وهذا النفي الوارد في قوله : « لا يسترقون » ؛ لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم بها جدا أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه ، فالعرب في الجاهلية - وهكذا هو حال أكثر الناس - لهم تعلق بالرقية ، فالقلب يتعلق بالراقي ، ويتعلق بالرقية ؛ وهذا ينافي كمال التوكل على الله - جل جلاله - وأما ما جاء في بعض الروايات أنهم « الذين لا يرقون » فهذا غلط ؛ وهو لفظ شاذ ، لأن الراقي محسن إلى غيره ، والصواب ما جاء في هذه الرواية من أنهم « الذين لا يسترقون » يعني : الذين لا يطلبون الرقية ؛ وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه وإلى الرقية ، ونوع توكل ، أو نوع استرواح لهذا الذي يرقي أو للرقية .(21/33)
ثم قال : « ولا يكتوون » : والكي مكروه في أصله ؛ لأن فيه تعذيبا بالنار ، مع أنه مأذون به شرعا ، لكن فيه كراهة . والعرب تعتقد أن الكي يحدث المقصود دائما ؛ فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي . فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنه سبب يؤثر دائما ، ومعلوم أن الكي يؤثر - بإذن الله جل وعلا - : إذا اجتمعت الأسباب ، وانتفت الموانع . فالنفي لأجل أن في الكي بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله .
ثم قال : « ولا يتطيرون » : والطيرة شيء يعرض على القلب من جراء شيء يحدث أمامه ؛ فيجعله يقدم على أمر ، أو يحجم عنه ، وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيما .(21/34)
ثم قال بعدها : « وعلى ربهم يتوكلون » : وهي جامعة للصفات السابقة . وهذه الصفات ليس المقصود منها أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب ، كما فهمه بعضهم ، وأن الكمال ألا يباشر سببا البتة ، أو ألا يتداوى البتة ! وهذا غلط ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رُقي : (1) ولأنه - عليه الصلاة والسلام - تداوى وأمر بالتداوي (2) وأمر أيضا بعض الصحابة بأن يكتوي (3) ونحو ذلك فليس في الحديث أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقا ، أو لا يباشرون أسباب الدواء ، وإنما فيه ذكر لهذه الثلاث بخصوصها ، لأنه يكثر تعلق القلب والتفاته إلى الراقي ، أو إلى الكي ، أو الكاوي ، أو إلى التطير ، ففيها إنقاص من مقام التوكل . أما التداوي : فهو مشروع ، وهو : إما واجب ، أو مستحب ، وقد يكون في بعض الأحوال مباحا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام » (4) فالمقصود من هذا : أن التداوي ليس خارما لتحقيق التوحيد ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا يسترقون بخصوص الرقية ، ولا يكتوون بخصوص الكي ، ولا يتطيرون ، وأما ما عدا ذلك مما أذن به ، فلا يدخل فيما يختص به أهل تحقيق التوحيد .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 2186 ) والترمذي ( 972 ) .
(2) أخرجه أحمد ( 4 / 278 ) والترمذي ( 2039 ) .
(3) أخرجه البخاري ( 5680 ) ، ( 5681 ) .
(4) أخرجه أبو داود ( 3874 ) والترمذي ( 2045 ) .(21/35)
والأظهر عندي أن قوله في هذا الحديث « لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون » أنه مخصوص بهذه الثلاثة .(21/36)
قال : « فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " أنت منهم " ثم قام رجل آخر ، فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : " سبقك بها عكاشة » : هذا فيه دليل على أن أهل تحقيق التوحيد قليل وليسوا بكثير ، ولهذا جاء عددهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفا ، وقد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد وعند غيره بأن الله - جل وعلا - أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ألف من السبعين سبعين ألفا (1) فيكون العدد قرابة خمسة ملايين من هذه الأمة ، فإن كان ذلك الحديث صحيحا - وقد صحح إسناده بعض أهل العلم - فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم ، أو كان ذلك قبل سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أن يُزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد . فإن قيل : ما معنى أن يُزاد في عددهم ؟ فالجواب : أن المعنى أن الله - جل وعلا - يَمُنُّ على أناس من هذه الأمة - غير السبعين ألفا - ممن سيأتون بَعْدُ ، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد ؛ فالله - جل وعلا - هو الذي يوفق ، وهو الذي يهدي ، ثم هو الذي يجازي . فما أعظمه من محسن ، بَرٍّ ، كريم ، رحيم .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند ( 2 / 359 ) والبيهقي في الشعب ( 416 ) .(21/37)
" باب الخوف من الشرك "
وقول الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48 و 116] وقال الخليل - عليه السلام - : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم : 35] وفي الحديث : « " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " فسئل عنه قال : " الرياء » (1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا ، دخل النار » (2) رواه البخاري ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار » . (3)
فيه مسائل :
الأولى : الخوف من الشرك .
الثانية : أن الرياء من الشرك .
الثالثة : أنه من الشرك الأصغر .
الرابعة : أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين .
الخامسة : قُرْب الجنة والنار .
السادسة : الجمع بين قربهما في حديث واحد .
السابعة : أنه مَنْ لقيه لا يشرك به شيئا ؛ دخل الجنة . ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ، ولو كان من أعبد الناس .
_________
(1) أخرجه أحمد 5 / 428 ، 429 والطبراني في « الكبير » ( 4301 ) وحسنه الحافظ في « بلوغ المرام » ( 302 ) .
(2) أخرجه البخاري ( 4497 ) ، ( 6683 ) .
(3) أخرجه مسلم ( 93 ) .(21/38)
الثامنة : المسألة العظيمة : سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عباد الأصنام .
التاسعة : اعتبار بحال الأكثر لقوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } .
العاشرة : فيه تفسير " لا إله إلا الله " ، كما ذكره البخاري .
الحادية عشرة : فضيلة من سَلِمَ من الشرك .
الشرح :
كل من حقق التوحيد فلا بد أن يخاف من الشرك ؛ ولهذا كان سيد المحققين للتوحيد محمد - عليه الصلاة والسلام - يُكثر من الدعاء بأن يبعد عنه الشرك ، وكذلك كان إبراهيم - عليه السلام - يكثر من الدعاء ؛ لئلا يدركه الشرك ، أو عبادة الأصنام .
فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة ، وهي أن تحقيق التوحيد عند أهله لا بد أن يقترن معه الخوف من الشرك ، وقَلَّ من يكون مخاطرا بتوحيده أو غير خائف من الشرك ، ويكون مع هذا على مراتب الكمال ، بل لا يوجد . فكل محقق للتوحيد ، وكل راغب فيه حريص عليه : يخاف من الشرك ، وإذا خاف من الشرك فإن الخوف الذي هو فزع القلب وهلعه ، يجعل العبد حريصا كل الحرص على البعد عن الشرك والهروب منه والخوف من الشرك يثمر ثمرات منها :
- أن يكون متعلما للشرك بأنواعه ، حتى لا يقع فيه .(21/39)
- ومنها أن يكون متعلما للتوحيد بأنواعه ، حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك ويعظم ، ويستمر على ذلك .
- ومنها أن الخائف من الشرك يكون قلبه دائم الاستقامة على طاعة الله مبتغيا مرضاة الله فإن عصى ، أو غفل كان استغفاره استغفار من يعلم عظم شأن الاستغفار وعظم حاجته للاستغفار ؛ لأن الناس في الاستغفار أنواع ، لكن من علم منهم حق الله - جل وعلا - وسعى في تحقيق التوحيد وتعلم ذلك ، وسعى في الهرب من الشرك : فإنه إذا غفل وجد أنه أشد ما يكون حاجة إلى الاستغفار ، ولأجل صلاح هذا بوب الشيخ - رحمه الله - هذا الباب الذي عنوانه ( باب الخوف من الشرك ) ، فكأنه يقول لك : إذا كنت تخاف من الشرك كما خاف منه إبراهيم - عليه السلام - وعرفتَ ما توعد الله به أهل الشرك من أنه لا يغفر لهم شركهم ، فينبغي لك أن تعلم وأن تتعلم ما سيأتي في هذا الكتاب ، فإن هذا الكتاب موضوع لتحقيق التوحيد ، وللخوف من الشرك والبعد عنه ، فما بعد هذين البابين : ( باب من حقق التوحيد ) و ( باب الخوف من الشرك ) تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين اللتين هما : تحقيق التوحيد ، والخوف من الشرك ؛ بيان معناه وبيان أنواعه .(21/40)
وقد ذكرنا فيما سبق أن الشرك هو : إشراك غير الله معه في أي نوع من أنواع العبادة ، وقد يكون أكبر ، وقد يكون أصغر ، وقد يكون خفيا .
قال الشيخ رحمه الله : ( وقول الله - عز وجل - : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48 و 116])
والمغفرة هي : الستر لما يخاف وقوع أثره ويقال في اللغة : غفر : إذا ستر ، ومنه سُمِّي ما يوضع على الرأس مغفرا ؛ لأنه يستر الرأس ، ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه ، فمادة ( المغفرة ) راجعة إلى ستر الأثر الذي يخاف منه ، والشرك والمعصية لهما أثرهما إما في الدنيا وإما في الآخرة أو فيهما جميعا . وأعظم ما يُمَنُّ به على العبد أن يغفر ذنبه ، وذلك بأن يستر عليه ، ويُمحي عنه أثره ، فلا يؤاخذ به في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة ، فلولا المغفرة لهلك الناس .(21/41)
ومعنى قوله - جل وعلا - في هذه الآية لَا يَغْفِرُ أي : أبدا ، فقوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } هذا وعيد بأنه - تعالى - لم يجعل مغفرته لمن أشرك به ، وقد قال العلماء في قوله : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } إن في هذه الآية دليلا على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركا أكبر ، أو أشرك شركا أصغر ، فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة ، بل يكون بالموازنة ، فهو لا يغفر إلا بالتوبة ، فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك ، وقد يغفر الله - تعالى - غير الشرك كما قال { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فجعلوا الآية دليلا على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة .(21/42)
وجه الاستدلال من الآية : أن ( أن ) في قوله - تعالى - : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } موصول حرفي ، فتؤول مع الفعل الذي بعدها وهو يشرك بمصدر - كما هو معلوم - ، والمصدر نكرة وقع في سياق النفي ، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمت ، قالوا : فهذا يدل على أن الشرك الذي نفي هنا يعم الأكبر والأصغر ، والخفي ، فكل أنواع الشرك لا يغفرها الله - جل وعلا - وذلك لعظم خطيئة الشرك لأن الله - جل وعلا - هو الذي خلق ، ورزق ، وأعطى ، وهو الذي تفضل ، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره ؟! لا شك أن هذا ظلم في حق الله - جل وعلا - ولذلك لم يغفر . وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأكثر علماء الدعوة .(21/43)
وقال آخرون من أهل العلم : إن قوله هنا : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } دال على العموم ، لكنه عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر ، فالمقصود بالشرك في قوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } هو : الشرك الأكبر فقط دون غيره ، وأما ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلا تحت المشيئة ، فيكون بالعموم في الآية مرادا به الخصوص ، لأنه غالبا ما يرد في القرآن هذا اللفظ : { أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } ونحو ذلك ويراد به الشرك الأكبر دون الأصغر ، وهذا في الغالب - كما سبق - فالشرك غالبا ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر ، ومن شواهد ذلك ، قوله - جل وعلا - : { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } ، فقوله في الآية : يُشْرَكَ هو - أيضا - : فعل داخل في سياق الشرط ، فيكون عاما ، لكن هل يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي ؟؟ الجواب : أنه لا يدخل بالإجماع ؛ لأنه تحريم الجنة ، وإدخال النار ، والتخليد فيها ، إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر ،(21/44)
فدلنا ذلك على أن المراد بقوله : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة : 72] أهل الإشراك بالله الشرك الأكبر ، فلم يدخل فيه الأصغر ، ولم يدخل ما دونه من أنواع الأصغر .
فيكون المفهوم - إذًا - من آيتي سورة النساء كالمفهوم من آية سورة المائدة ، ونحوها وهذا كقوله في سورة الحج { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج : 31] فهذا ونحوه وارد في الشرك الأكبر .(21/45)
فيكون - على هذا القول - المراد بما نُفي هنا في قوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ } الشرك الأكبر . ولما كان اختيار إمام الدعوة ، كما هو اختيار عدد من المحققين : كشيخ الإسلام : ابن تيمية ، وابن القيم وغيرهما أن العموم هنا شامل لأنواع الشرك : الأكبر ، والأصغر ، والخفي ، كان الاستدلال بهذه الآية صحيحا ؛ لأن الشرك : أنواع ، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يغفر ، فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف ، فإذا كان الشرك الأصغر : كالحلف بغير الله ، وتعليق التميمة ، والحلقة ، والخيط ، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر ، كقولك : ما شاء الله وشئت ، ونسبة النعم إلى غير الله ، إذا كان ذلك لا يغفر فإنه يوجب أعظم الخوف كالشرك الأكبر .(21/46)
وإذا كان كذلك ، فيقع في الخوف من الشرك مَنْ هم على غير التوحيد ، كمَنْ يعبدون غير الله ، ويستغيثون بغير الله ، ويتوجهون إلى غيره ، ويذبحون وينذرون لغيره ، ويحبون غير الله محبة العبادة ، ويرجون غير الله رجاء العبادة ، ويخافون خوف السر من غير الله ، إلى غير ذلك من ألوان الشرك ، فيكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك ؛ لأنهم وقعوا فيما اتُّفِقَ عليه : أنه لا يغفر . كما يقع في الخوف من الشرك أهل الإسلام الذين قد يقعون في بعض أنواع الشرك الخفي ، أو الشرك الأصغر بأنواعه ، وهم لا يشعرون أو وهم لا يحذرون .(21/47)
فإذا علم العبد المسلم أن الشرك بأنواعه لا يغفر ، وأنه مؤاخذ به ، وأن الصلاة إلى الصلاة ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان : لا تكفر ذنب الوقوع في الشرك الأصغر ، فيجب أن يعظم في قلبه الخوف منه . فإن قيل : فبماذا يغفر إذا ؟ فالجواب أنه لا يغفر إلا بالتوبة فقط ، فإن لم يتب فثمة الموازنة بين الحسنات والسيئات ، ولكن ما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسنات ؟ فمن ينجو من ذلك ؟!! لا ريب أنه ينجو إلا من عظمت حسناته ، فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك . ولا شك أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك بعامة ؛ لأن المرء يكون على خطر عظيم إذ وُزنت حسناته وسيئاته ، ثم كان في سيئاته نوع من أنواع الشرك ، لأن من المعلوم وأن الشرك بأنواعه من حيث الجنس أعظم من كبائر الأعمال المعروفة .(21/48)
فوجه الاستدلال من آية النساء وهي قوله - جل وعلا - : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } أن فيها عموما يشمل أنواع الشرك جميعا ، وأنها كلها لا تغفر ، فيكون ذلك موجبا للخوف من الشرك ، وإذا وقع أو حصل الخوف والوجل من الشرك في القلب ، فإن العبد سيحرص على معرفة أنواعه حتى لا يقع فيه ، ويطلب معرفة أصنافه وأفراده ، حتى لا يقع فيها ، وحتى يحذِّر أحبابه ومن حوله منها ؛ لذلك كان أحب الخلق ، أو أحب الناس ، وخير الناس للناس : من يحذرهم من هذا الأمر ، ولو لم يشعروا به ولو لم يعقلوه قال - جل وعلا - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران : 110] لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم ، فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذرهم من الشرك بأنواعه ، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه ؛ لأن هذا أعظمُ ما يُدعي إليه ؛ ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد وشك ورجوع عن مناصرة الدعوة ، وفَهْمِ ما جاء به الشيخ - رحمه الله - وكتبوا للشيخ وغلَّظوا له القول ، وقالوا : إن ما جئت به ليس بصحيح ، وإنك تريد كذا وكذا لمّا حصل منهم ذلك ، أجابهم بكتاب قال في آخره بعد أن شرح التوحيد وضدَّه ،(21/49)
ورغَّب ورهَّب : ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم ، ولكنكم قوم لا تعقلون . انتهى كلامه - رحمه الله - . وهو كلام صحيح ، ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله - جل وعلا - فرحمة الله على هذا الإمام ، وأجزل له المثوبة ، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء ، ورفع درجته في المهديين ، والنبيين ، والصالحين .
ثم ساق الشيخ - رحمه الله - بعد هذه الآية قول الله - جل وعلا - :(21/50)
{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم : 35] وصاحب هذه الدعوة هو إبراهيم - عليه السلام - ، ومر بنا في الباب قبله : أن إبراهيم قد حقق التوحيد ، وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا ، وبأنه لم يك من المشركين ، فهل يطمئن من كان على هذه الحال إلى أنه لن يعبد غير الله ، ولن يعبد الأصنام ، أو يظل مقيما على خوفه ؟؟!! وهل حال الكمَّل الذين حققوا التوحيد أنهم يطمئنون أم يخافون ؟؟! هذا إبراهيم - عليه السلام - كما في هذه الآية خاف الشرك ، وخاف عبادة الأصنام ، فدعا الله بقوله : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } [إبراهيم : 35 - 36] فكيف بمن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفا ، وهم عامة هذه الأمة ؟؟!! والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك ، فمن الذي يخافه إذًا؟ الذي يخافه هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد .(21/51)
قال إبراهيم التيمي - رحمه الله - وهو من سادات التابعين لما تلا هذه الآية قال : ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟!! (1) إذا كان إبراهيم - عليه السلام - وهو الذي حقق التوحيد ، وهو الذي وُصِفَ بما وُصِفَ به ، وهو الذي كسَّر الأصنام بيده يخاف من الفتنة بها فمن يأمن البلاء بعده ؟!
إذًا فما ثمَّ إلا غرور أهل الغرور ، والمقصود : أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك ؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - مع كونه سيد المحققين للتوحيد في زمانه ، بل وبعد زمانه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ما أعطي الضمان والأمان من الوقوع في الشرك ، وألا يزيغ الحال مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله هنا : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } الأصنام : جمع صنم والصنم هو : ما جُعِلَ على صورة مما يُعبد من دون الله ، كشكل وجه رجل ، أو شكل جسم حيوان ، أو رأس حيوان ، أو صورة كوكب ، أو نجم أو شكل الشمس أو القمر ونحو ذلك كله وما أشبهه يطلق عليه أنه صنم .
والوثن هو : ما عُبد من دون الله ، مما ليس على هيئة صورة ، فالقبر وثن ، وليس بصنم ، وكذلك : المشهد ، أعني : مشاهد القبور عند عُبَّادها ، فهذه أوثان ، وليست بأصنام .
_________
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور ( 5 / 46 ) .(21/52)
وقد يطلق على الصنم اسم الوثن ، كما قال - جل وعلا - في قصة إبراهيم في سورة العنكبوت : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [العنكبوت : 17] ولكن هذا يطلق على قلة .
وقال بعض أهل العلم : هم عبدوا الأصنام ، وعبدوا الأوثان جميعا ، فصار ذكر الأصنام في بعض الآيات لعبادتهم الأصنام ، وذكر الأوثان في بعض الآيات لعبادتهم الأوثان ، والأول أظهر في أنه قد يطلق على الصنم أنه وثن . ويدل على أن الوثن ما ليس على هيئة صورة قول النبي : صلى الله عليه وسلم « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » (1) فدعا الله أن لا يجعل قبره وثنا فدل ذلك على أن الوثن ما يعبد من دون الله مما ليس على هيئة صورة .
قال - رحمه الله - : ( وفي الحديث : « " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " ، فسئل عنه فقال : " الرياء » (2) والرياء قسمان : رياء المسلم ، ورياء المنافق .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 246 .
(2) تقدم .(21/53)
فرياء المنافق : رياء في أصل الدين ، يعني : أنه راءى بإظهار الإسلام ، وأبطن الكفر ، قال تعالى : { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء : 142] ورياء المسلم الموحِّد : مثل أن يُحسِّن صلاته ؛ من أجل نظر الرجل ، أو : أن يُحَسِّن تلاوته ؛ لأجل التسميع ؛ ليُمدَح ويُسمع ، لا لأجل التأثير .
فالرياء : مشتق من الرؤية ، ومن صوره : أن يحسن العبادة لأجل أن يرى من المتعبدين كأن يطيل في صلاته ، أو يطيل في ركوعه ، أو في سجوده ، أو يقرأ في صلاته أكثر من العادة ، لأجل أن يرى ذلك منه ، أو يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه : إنه يقوم الليل . فهذا كله شرك أصغر .
والشرك الأصغر - الذي هو الرياء - : قد يكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به ، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها فيه .
فيكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به : وإذا ابتدأ النية بالرياء ، كمن يصلي الراتبة لأجل أن يرى أنه يصليها ، وليست عنده رغبة في أن يصليها ، لكن لما رأى أنه يُرَى صلاها ؛ ولأجل أن يمدح ؛ لما يرى من نظر الناس إليه ، فصلاته هذه حابطة ليس له فيها ثواب .(21/54)
لكن إذا عرض الرياء له في أثناء العبادة ، فيكون ما زاده لأجل الرؤية باطلا ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - : « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » (1) .
فالشاهد من حديث الباب : قوله - عليه الصلاة والسلام - : « أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » فهو أخوف الذنوب التي خافها النبي - عليه الصلاة والسلام - على أهل التوحيد ؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر ، فيكون أشد ما يُخاف عليهم هو الشرك الأصغر . والشرك الأصغر تارة يكون في النيات ، وتارة يكون في الأقوال ، وتارة يكون في الأعمال ، يعني أنه يكون في القلب ، وفي المقال ، وفي الفعال ، وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف كل واحد من هذه الثلاثة .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 2985 ) .(21/55)
فيدل قوله - عليه الصلاة والسلام - : « أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » أنه أخوف الذنوب على هذه الأمة . لكن لماذا خافه النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعظم الذنوب خوفا ؟ الجواب : أنه كان كذلك لأجل أثره ، وهو أنه لا يغفر ، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه . والشيطان حريص على إيقاع أهل التوحيد في الشرك الأصغر ، ووصمهم بالرياء في الأقوال ، والأعمال ، والنيات . وفرحه بذلك أعظم من فرحه بغيره من الذنوب .
ثم بعد ذلك ساق حديث ابن مسعود فقال : ( وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار » (1) .
وجه الاستدلال منه : أنه قال : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا » ودعوة الند من دون الله من الشرك الأكبر ؛ لأن الدعاء عبادة ، وهو من أعظم العبادات ؛ فقد جاء في الحديث الصحيح : « الدعاء هو العبادة » ، (2) وفي معناه حديث أنس الذي في السنن ، ولفظه « الدعاء مُخُّ العبادة » (3) . فهو أعظم أنواع العبادة ، فمن مات وهو يصرف هذه العبادة أو شيئا منها لند من الأنداد ، فقد استوجب النار .
_________
(1) تقدم .
(2) أخرجه الترمذي ( 5 / 426 ) وأبو داود ( 1479 ) وابن ماجه ( 3828 ) .
(3) أخرجه الترمذي ( 5 / 425 ).(21/56)
وقوله : « دخل النار » : يعني كحال الكفار ، فيكون خالدا فيها ؛ لأن المسلم إذا وقع في الشرك الأكبر : فإنه يحبط عمله بذلك ، ولو كان أصلح الصالحين ، وقد قال - جل وعلا - لنبيه : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }{ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [الزمر : 65 - 66] فالله عظيم ، والله أكبر ، وخلقه كلهم محتاجون إليه ، وعبيد له - سبحانه - ، بمن فيهم أفضلهم : وهم الأنبياء والمرسلون ، فلو فرض أنْ أشرك نبينا صلى الله عليه وسلم لحبط عمله ، ولكان في الآخرة من الخاسرين ، أفلا يوجب هذا أن يخاف من هو دونه ممن يدعي الصلاح والعلم من الشرك ؟!! بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك ويحض عليه ويُكَرِّه ويُبَغِّض في التوحيد وحال هؤلاء ، كما قال الله - جل وعلا - عن أسلافهم : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر : 45] .(21/57)
فوجه الاستدلال ظاهر - إذًا - في قوله صلى الله عليه وسلم : « من مات ، وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار » ، وأنه يوجب الخوف ، لأن قصد المسلم ، بل قصد العاقل : أن يكون ناجيا من النار ، ومتعرضا لثواب الله في الجنة .
ولفظ « من دون الله » يكثر وروده في القرآن والسنة ، ويراد به عند علماء التفسير ، وعلماء التحقيق شيئان :
1 - أن تأتي بمعنى ( مع ) ، فيكون معنى : « من دون الله » أي مع الله ، وعبَّر عن المعية بلفظ « من دون الله » ؛ لأن كل من دُعي مع الله ، فهو دون الله - جل وعلا - ، فهم دونه والله - جل وعلا - هو الأكبر ، وهو الأعظم ، وفي هذا دليل على بشاعة عملهم .
2 - أن تأتي بمعنى ( غير ) فيكون معي : « من دون الله » أي : يدعو إلها غير الله ، يعني أنه لم يعبد الله ، وأشرك معه غيره ، بل دعا غيره استقلالا ، فشملت « من دون الله » الحالين : من دعا الله ودعا غيره ، ومن دعا غير الله وتوجه إليه استقلالا .(21/58)
قال : ( رواه البخاري . ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار » ) (1) : تقدم قريبا أن قوله : « لا يشرك به شيئا » فيه نوعان من العموم : عموم في أنواع الشرك ويدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي ؛ لأن لفظة : " يشرك " نكرة ، وعموم - أيضا - في المتوجه إليهم وهو المُشْرَك بهم كما يدل عليه قوله (شيئا) لأنه - أيضا - نكرة في سياق النفي .
فمعنى قوله : « من لقي الله لا يشرك » : نفي لجميع أنواع الشرك .
فمعنى قوله : " به شيئا " أي : لم يتوجه بالعبادة لأي أحد ، لا لملك ، ولا لنبي ، ولا لصالح ، ولا لجني ، ولا لطالح ، ولا لحجر ، ولا لشجر ، ولا غير ذلك .
قوله : « دخل الجنة » : يعني أن الله - جل وعلا - وعده بدخول الجنة برحمته سبحانه وتفضله ، وبوعده الصادق الذي لا يُخلَف .
_________
(1) تقدم .(21/59)
قوله : « ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار » : أي : أن كل مشرك متوعَّدٌ بالنار ، ووجه الدلالة مستقيم مع استدلال الشيخ بالآية ؛ لأن من لقي الله وهو على شيء من الشرك الأكبر ، أو الأصغر ، أو الخفي : فإنه سينال العقوبة والعذاب في النار والعياذ بالله .
قوله : « ومن لقيه يشرك به شيئا » : فيه عموم أيضا كما ذكرنا ؛ لأن ( من ) هنا شرطية ، و ( يشرك ) نكرة ، فتكون عامة لأنواع الشرك ، و ( شيئا ) عامة في المتوجَّه إليهم .
فإن قيل : علام يدل قوله : « من لقيه يشرك به شيئا دخل النار » ؟ هل يدل على أنه دخول أبدي ، أو أمدي ؟ فالجواب : أن ذلك بحسب نوع الشرك ، فإن كان الشرك أكبر ومات عليه فإنه يدخل النار دخولا أبديا ، وإن كان الشرك أصغر ، أو خفيا فإنه يكون متوعدا بالنار أي : سيدخل النار ويخرج منها ؛ لأنه من أهل التوحيد .(21/60)
وهل يدخل الشرك الأصغر في الموازنة أو لا ؟ تقدم الجواب أن الشرك الأصغر يدخل في موازنة الحسنات والسيئات ، وأنه إذا رجحت حسناته فإنه لا يعذب على الشرك الأصغر لكن هذا ليس في حق كل أحد من الخلق ، فإن منهم من يعذب على الشرك الأصغر ؛ لأن الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست شاملة لكل الخلق ، وليست شاملة أيضا لكل الذنوب ، بل قد يكون من الذنوب ما يستوجب النار ، ولو رجحت الحسنات على السيئات فإنه يستوجب الجنة . ولكن لا بد من أن يطهر في النار وهذا دليل على وجوب الخوف من الشرك ؛ لأن قوله : « من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار » يشمل الشرك الأكبر والأصغر والخفي ، فعلى المرء أن يطلب الهرب من الشرك بجميع أنواعه ، ويسعى إلى ذلك جهده .(21/61)
وعلى المرء - أيضا - أن يستعيذ بالله - جل وعلا - من الشرك الأصغر والخفي ، بقوله : " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه ، وأستغفرك مما لا أعلم " (1) . لأنه إذا علم فأشرك ، فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه ، وهو : عدم المغفرة ، ففي هذا الدعاء ، الذي علمناه رسولنا - عليه الصلاة والسلام - التفريق بين الشرك الأصغر مع العلم ، والشرك الأصغر مع الجهل ؛ ولذا قال : « أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه » ؛ لأن أمر الشرك الأصغر مع العلم عظيم فيجب أن يستعيذ المرء بالله من أن يشرك به شركا أصغر فما هو أعلى منه من باب أولى ، وهو يعلم .
ثم قال : « وأستغفرك مما لا أعلم » ؛ قد يقع في الشرك الأصغر أو الخفي ، وهو لا يعلم ، ويظهر شيء من ذلك على فلتات لسانه ، وهو لا يقصد ، ولمثل ذلك شرع هذا الدعاء .
_________
(1) أخرجه أحمد ( 19606 ) وابن أبي شيبة 10 / 337 - 338 بنحوه من حديث أبي موسى ، وقال الهيثمي في « المجمع » 10 / 223 : ( رواه أحمد والطبراني في « الكبير » و« الأوسط » ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي ، ووثقه ابن حبان ) .(21/62)
فهذا يدل على أن الشرك أمره عظيم ، فلا يتهاونن أحد بهذا الأمر ؛ لأن من تهاون بالشرك وبالتوحيد ، فإنه يكون ، فإنه يكون متهاونا بأصل دين الإسلام ، بل يكون متهاونا بالذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة سنين عددا ، بل يكون متهاونا بدعوة الأنبياء والمرسلين ؛ فإنهم اجتمعوا على شيء واحد ، وهو العقيدة ، وتوحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات ، وأما الشرائع فشتى .
لهذا وجب عليك الحذر كل الحذر من الشرك بأنواعه ، وأن تتعلم ضده ، وأن تتعلم أيضا أفراد الشرك ، وأفراد التوحيد ، وبذلك يتم العلم ، ويستقيم العمل . وأما تعلم ذلك على وجه الإجمال ، فهذا كما يقال : نحن على الفطرة ، لكن إذا أتت الأفراد فربما رأيت بعض الناس يخوضون في بعض الأقوال أو الأعمال التي هي من جنس الشرك ، وهم لا يشعرون ؛ وذلك لعدم خوفهم وهربهم من الشرك ، نسأل الله جل وعلا العفو والعافية .(21/63)
فاحرص - إذًا - على تعلم هذا الكتاب ومدارسته ، وعلى كثرة مذاكرته ، وفهم ما فيه من الحجج والبينات ؛ لأنه أفضل ما تودعه صدرك ، بعد كتاب الله - جل وعلا - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلعله أن يكون - إن شاء الله - سببا عظيما من أسباب النجاة والفلاح .(21/64)
" باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله "
وقول الله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } [يوسف : 108] الآية .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال : « إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله » وفي رواية : « إلى أن يوحدوا الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوك لذلك ، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب » أخرجاه . (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه.(21/65)
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه " فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : " أين علي بن أبي طالب ؟ " ، فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه ، فأُتِيَ به فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، وقال : " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم » . (1) . ( يدوكون : أي يخوضون ) .
فيه مسائل :
الأولى : أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثانية : التنبيه على الإخلاص ، لأن كثيرا من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه .
الثالثة : أن البصيرة من الفرائض .
الرابعة : من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيها لله تعالى عن المسبَّة .
الخامسة : أن من قُبح الشرك كونه مسبَّة لله .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 3701 ) ومسلم ( 2406 ).(21/66)
السادسة : - وهي من أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين ؛ لئلا يصير منهم ، ولو لم يشرك .
السابعة : كون التوحيد أول واجب .
الثامنة : أن يُبدأ به قبل كل شيء ، حتى الصلاة .
التاسعة : أن معنى " أن يوحدوا الله " : معنى شهادة أن لا إله إلا الله .
العاشرة : أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها ، أو يعرفها ولا يعمل بها .
الحادية عشرة : التنبيه على التعليم بالتدريج .
الثانية عشرة : البُداءة بالأهم فالأهم .
الثالثة عشرة : مصرف الزكاة .
الرابعة عشرة : كشف العالم الشبهةَ عن المتعلم .
الخامسة عشرة : النهي عن كرائم الأموال .
السادسة عشرة : اتقاء دعوة المظلوم .
السابعة عشرة : الإخبار بأنها لا تُحجب .
الثامنة عشرة : من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء .
التاسعة عشرة قوله : " لأعطين الراية . . . " علَمٌ من أعلام النبوة .
العشرون : تَفْلُه في عينيه عَلَمٌ من أعلامها أيضا .
الحادية والعشرون : فضيلة علي رضي الله عنه .
الثانية والعشرون : فضل الصحابة في دَوْكِهِم تلك الليلة وشُغلهم عن بشارة الفتح .(21/67)
الثالثة والعشرون : الإيمان بالقدر ، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى .
الرابعة والعشرون : الأدب في قوله « على رسْلك » .
الخامسة والعشرون : الدعوة إلى الإسلام قبل القتال .
السادسة والعشرون : أنه مشروع لمن دُعوا قبل ذلك وقوتلوا .
السابعة والعشرون : الدعوة بالحكمة لقوله : « أخبرهم بما يجب عليهم » .
الثامنة والعشرون : المعرفة بحق الله في الإسلام .
التاسعة والعشرون : ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد .
الثلاثون : الحلف على الفتيا .
الشرح :(21/68)
هذا الباب هو " باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله " ، أي : باب الدعوة إلى التوحيد . وقد ذكر في الباب قبله الخوف من الشرك ، وقبله ذَكَرَ فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ، و" باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب " . ولما ذكر بعده الخوف من الشرك : اجتمعت معالم حقيقة التوحيد في نفس الموحد ، فهل من اجتمعت حقيقة التوحيد في قلبه : بأن عرف فضله ، وعرف معناه ، وخاف من الشرك ، واستقام على التوحيد ، وهرب من ضده ، هل يبقى مقتصرا بذلك على نفسه ، ويضنّ به على غيره ، وهل تتم حقيقة التوحيد في قلبه إلا بأن يدعو إلى حق الله الأعظم ، ألا وهو إفراده - جل وعلا - بالعبادة وبما يستحقه - سبحانه وتعالى - من نعوت الجلال ، وأوصاف الجمال ؟؟! .(21/69)
بوب الشيخ - رحمه الله - بهذا الباب ؛ ليدل على أن من تمام الخوف من الشرك ، ومن تمام التوحيد : أن يدعو المرءُ غيره إلى التوحيد ؛ فإنه لا يتم في القلب حتى تدعو إليه ، وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله ؛ لأن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله عُلِمَت حيث شهد العبد المسلم لله بالوحدانية بقوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، وشهادته معناها : اعتقاده ونطقه وإخباره غيره بما دلت عليه ، فلا بد - إذًا تحقيقًا للشهادة ، وإتمامًا لها - أن يكون المكلَّف الموحِّد داعيا إلى التوحيد ؛ لهذا ناسب أن يذكر هذا الباب بعد الأبواب قبله ، ثم إن له مناسبة أخرى لطيفة ، وهي : أن ما بعد هذا الباب هو تفسير للتوحيد وبيان لأفراده ، وتفسير للشرك وبيان لأفراده ، فتكون الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإلى التوحيد دعوة إلى تفاصيل ذلك . وهذا من المهمات ، لأن كثيرين من المنتسبين للعلم - من أهل الأمصار - يسلمون بالدعوة إلى التوحيد إجمالا ، ولكن إذا أتى التفصيل في بيان مسائل التوحيد ، أو جاء التفصيل في بيان أفراد الشرك ، فإنهم يخالفون في ذلك ، وتغلبهم نفوسهم في مواجهة الناس بحقائق أفراد التوحيد ، وأفراد الشرك .(21/70)
فالذي تميزت به دعوة الإمام المصلح رحمه الله أن الدعوة فيها إلى شهادة أن لا إله إلا الله دعوة تفصيلية ، ليست إجمالية ، أما الإجمال فيدعو إليه كثيرون ممن يقولون : نهتم بالتوحيد ونبرأ من الشرك ، لكن لا يذكرون تفاصيل ذلك . والذي ذكره الإمام - رحمه الله - في بعض رسائله أنه لما عرض هذا الأمر - يعني الدعوة إلى التوحيد - على علماء الأمصار قال : وافقوني على ما قلت ، وخالفوني في مسألتين : في مسألة التكفير ، وفي مسألة القتال . وهاتان المسألتان سبب مخالفة أولئك العلماء للشيخ ، لأنهما فرعان ومتفرعتان عن البيان والدعوة إلى أفراد التوحيد ، والنهي عن أفراد الشرك .
فالدعاء - إذًا - إلى شهادة لا إله إلا الله هو الدعاء إلى ما دلت عليه من التوحيد ، والدعاء إلى ما دلت عليه من نفي الشريك في العبادة ، وفي الربوبية ، وفي الأسماء والصفات عن الله - جل وعلا - وهذه الدعوة دعوة تفصيلية لا إجمالية ؛ ولهذا فصل الإمام - رحمه الله - في هذا الكتاب أنواع التوحيد ، وأفراد توحيد العبادة ، وفصَّل الشرك الأكبر والأصغر ، فبين أفرادا من ذا وذاك .(21/71)
وسيأتي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله في الباب الذي بعده ؛ لأنه " باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " .
قال - رحمه الله - : ( وقول الله تعالى { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف : 108] ) :
هذه الآية من آخر سورة يوسف هي في الدعوة إلى الله ، وسورة يوسف - كما هو معلوم - لِمَنْ تَأَمَّلَها هي في الدعوة إلى الله ؛ من أولها إلى آخرها ، فموضوعها - إذا - الدعوة ؛ ولهذا جاء في آخرها قواعد مهمة في بيان حال الدعاة إلى الله ، وحال الرسل الذين دعوا إلى الله ، وما خالف به الأكثرون الرسل ، واستيئاس الرسل من نصرهم ونحو ذلك من أحوال الدعاة إلى الله . وفي آخر تلك السورة قال الله - جل وعلا - لنبيه : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } أي سبيلي ومنهجي : أنني أدعو إلى الله ، فمهمة الرسل هي : الدعوة إلى الله - جل وعلا - .(21/72)
فأحسن الأقوال : قول من دعا إلى الله ، وأحسن الأعمال : عمل من دعا إلى الله - جل وعلا - ؛ ولهذا قال سبحانه : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت : 33] قال الحسن البصري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ما معناه : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله من خلقه ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، هذا حبيب الله . (1) .
وهذا أمر عظيم ؛ فالداعي إلى الله هو أحسن أهل الأقوال قولا كما دلت عليه الآية السابقة .
وموطن الشاهد من قوله : { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } هو قوله : { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } ، فإنه دعاء إلى الله - جل وعلا - لا إلى غيره ، وفي هذا فائدتان :
الأولى : أن الدعوة إلى الله دعوة إلى توحيده ، ودعوة إلى دينه ، كما سيأتي تفسير هذه الكلمة في الحديثين بعدها : حديث ابن عباس في إرسال معاذ إلى اليمن ، وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في إعطاء علي الراية .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير 2 / 187.(21/73)
فدل قوله - جل وعلا - : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } على الفائدة الأولى - كما تقدم - وهي أن الدعوة إلى الله فيها دعوة إلى التوحيد .
الثانية : التنبيه على الإخلاص ، وهذا يحتاجه من أراد الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، والدعاء إلى الإسلام ، يعني أن الداعي إلى الإسلام يحتاج أن يكون مخلصا في ذلك ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - في مسائل هذا الباب : في قوله : إِلَى اللَّهِ التنبيه على الإخلاص ؛ لأن كثيرين وإن دعوا إلى الحق فإنما يدعون إلى أنفسهم ، أو نحو ذلك .
وقوله في الآية : عَلَى بَصِيرَةٍ البصيرية : هي العلم ، وهي للقلب كالبصر للعين يبصر بها المعلومات والحقائق ، فكما أنك بالعين تبصر الأجرام والذوات ، فإنك ببصيرة القلب والعقل تدرك المعلومات ، والمعنى : أنه دعا على علم ، وعلى يقين ، وعلى معرفة ، لم يدعُ إلى الله على جهالة .
وقوله تعالى : أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يعني : أدعو أنا إلى الله وكذلك من اتبعني ممن أجاب دعوتي ، فإنهم يدعون إلى الله أيضا على بصيرة ، وهذا أيضا من مناسبة إيراد الآية تحت هذا الباب ؛ لأن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يدعون إلى الله .(21/74)
فالمتبعون للرسل - عليهم الصلاة والسلام - والموحدون لله : لا بد لهم من الدعوة إلى الله ، بل هذه صفته صلى الله عليه وسلم وصفتهم التي أمر الله نبيه أن يخبر عنها ، فقال ( قل ) يعني : يا محمد : { هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فهذه إذًا خصلة أتباع الأنبياء الذين لم يخافوا من الشرك فحسب ، ولم يعلموا التوحيد ويعملوا به فحسب ، بل دعوا إلى ذلك ، وهذا أمر حتمي ولازم ؛ لأن من عرف عِظَم حق الله - جل وعلا - فإنه يغار على حق الرب سبحانه وتعالى ، وكيف لا يغار على مولاه ، وعلى حق من أحبه فوق كل محبوب من أن يكون توجه الخلق إلى غيره بنوع من أنواع التوجهات ؟! . فلا بد أن يدعو إلى أصل الدين وأصل الملة الذي اجتمعت عليه الأنبياء والمرسلون ، ألا وهو توحيده - جل وعلا - في عبادته ، وفي ربوبيته ، وفي أسمائه وصفاته - جل وعلا وعز سبحانه - .(21/75)
ثم ساق الإمام - رحمه الله - حديث ابن عباس أنه قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال : « إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله » وفي رواية : « إلى أن يوحدوا الله » : هذا موطن الشاهد ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يكون أول ما يدعو إليه هو : شهادة أن لا إله إلا الله ، وفسَّرتها الرواية الأخرى للبخاري في كتاب التوحيد من صحيحه ، وهي بلفظ : « إلى أن يوحدوا الله » . (1)
فالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله مأمور بها ، وهي : الدعوة إلى التوحيد . فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر معاذا أن يدعو أهل اليمن ، وكانوا من أهل الكتاب ، يعني : من أهل الكتاب المُتَعبدين بالتوراة والإنجيل ، فبعضهم كان من اليهود ، وبعضهم من النصارى ، أما المشركون فيهم فهم قليل ، وأكثرهم كان على إحدى الملتين .
_________
(1) تقدم.(21/76)
قال العلماء : قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : « إنك تأتي قوما أهل الكتاب » فيه توطين وتوطئة للنفس بأن يهيئ نفسه لمناظرتهم ، وقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه من العلماء بدين الإسلام ، ومن علماء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقال له عليه الصلاة والسلام ذلك ليهيئ نفسه لمناظرتهم ولدعوتهم ، ثم أمره أن يكون أول ما يدعوهم إليه أن يوحدوا الله - جل وعلا - .
وفي إعراب قوله : « فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله » وجهان :
الأول برفع قوله : ( أولُ ) على أنه اسم لـ ( يكن ) ، ونصب قوله ( شهادة ) على أنه الخبر . فيكون المعنى على هذا الوجه : أنه أخبره عن الأولية ، فابتدأ بالأولية ثم أخبره بذلك الأول .(21/77)
الثاني : بنصب قوله : ( أولَ ) على أنه خبر لـ ( يكن ) مقدم ، ورفع قوله ( شهادة ) على أنه اسمها مؤخر ، فيكون المعنى على هذا الوجه : الإخبار عن الشهادة بأنها أول ما يُدعى إليه . وهذان الوجهان جائزان . والمشهور هو الوجه الثاني يعني : بجعل ( أول ) منصوبة ؛ وذلك لأن مقام ذكر الشهادة والابتداء بها هو الأعظم ، وهو المقصود ؛ ليلتفت السامع والمتلقي - وهو معاذ - إلى ما يُراد منه أن يُخْبَر به من جهة الشهادة .
فموطن الشاهد من هذا الحديث ، ومناسبة إيراده في الباب : هو ذكر أن التوحيد هو أول ما يدعى إليه ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله .
ثم ساق في الباب أيضا حديث سهل بن سعد الذي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : « لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، فبات الناس يدوكون ليلتهم » . . .
قوله : ( بات ) البيتوتة هي : المكث في الليل سواء أكان نوم أو لم يكن .
ومعنى قوله : " يدوكون ليلتهم " أي : يخوضون في تلك الليلة ، و ( باتوا ) يعني ظلوا ليلا يتحدثون من دون نوم ، لِعِظَمِ هذا الفضل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام .(21/78)
قال : . . . « فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال : أين علي بن أبي طالب؟ فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه ، فأُتي به فبصق في عينيه ، ثم دعا له ، فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام » . . . : فقوله : « انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام » (1) . هذا هو موطن الشاهد والمناسبة من إيراد هذا الحديث في الباب .
قال : « ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه » ، فالدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى التوحيد ؛ لأن أعظم أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وضم إليها عليه الصلاة والسلام أيضا أن يدعوهم إلى حق الله فيه ، يعني : إلى ما يجب عليهم من حق الله فيه .
_________
(1) تقدم.(21/79)
فقوله : « وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه » . . . يعني في الإسلام ، من جهة التوحيد ، ومن جهة الفرائض ، واجتناب المحرمات ؛ ولهذا يجب أن تبدأ بالدعوة أولا إلى أصل الإسلام ، وهو : التوحيد ، وبيان معنى الشهادتين ثم بيان المحرمات ، والواجبات ؛ لأن أصل الأصول هو أولى الواجبات بالتقديم .
ومما يلاحظ - هنا - أن آية سورة يوسف فيها بيان أن كل الصحابة كانوا دعاة إلى الله - جل وعلا - وإلى التوحيد ، وحديث معاذ يبين أن معاذا كان من الدعاة إلى الله ، وقد فصل فيه نوع تلك الدعوة إلى الله - جل وعلا - وكذلك حديث سهل بن سعد الذي فيه قصة علي فيه أيضا الدعوة إلى الإسلام ، فيكون هذان الحديثان كالتفصيل لقوله في الآية : { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فالدعوة على بصيرة هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وهي الدعوة إلى توحيده وإلى الإسلام ، وما يجب على العباد من حق الله فيه .(21/80)
" باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله "
وقول الله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } الآية [الإسراء : 57] ، وقوله { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف : 26 - 27] الآية ، وقوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } الآية [التوبة : 31] وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } الآية [البقرة : 165] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يُعبَد من دون الله ، حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله - عز وجل » - (1) . وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب .
فيه مسائل :
فيه أكبر المسائل وأهمها : وهي تفسير الشهادة ، وبيَّنها بأمور واضحة . منها : آية الإسراء بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين ؛ ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 23 ).(21/81)
ومنها : آية براءة ، بيَّن فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا ، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه : طاعة العلماء والعباد في المعصية ، لا دعاؤهم إياهم .
ومنها : قول الخليل عليه السلام للكفار : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } . { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } (الزخرف : 26 - 27) فاستثنى من المعبودين ربه ، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة : هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الزخرف : 28) .
ومنها : آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم : { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } (البقرة : 167) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ؛ ولم يُدخلهم في الإسلام . فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله ؟(21/82)
ومنها : قوله صلى الله عليه وسلم : « من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله » وهذا من أعظم ما يُبَيِّن معنى " لا إله إلا الله " فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يُضِيفَ إلى ذلك الكفر بما يُعْبَد من دون الله . فإن شك ؛ أو توقف ؛ لم يحرم ماله ودمه .
فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها ! ويا له من بيان ما أوضحه ! وحجة ما أقطعها للمنازع! .
الشرح :
" باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " سبق بيان أن التوحيد هو : شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ولهذا قال العلماء : إن العطف في قوله : " التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " من عطف المترادفات . ولكن هذا فيه نظر من جهة أن الترادف غير موجود ، أعني : الترادف الكامل ، لكن الترادف الناقص موجود فيكون هذا - إذًا - من قبيل عطف المترادفات التي يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى .(21/83)
وقوله هنا : " باب تفسير التوحيد " يعني : الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد ، وقد تقدم أن التوحيد هو : اعتقاد أن الله - جل وعلا - واحد في ربوبيته لا شريك له ، واحد في إلهيته لا ند له ، واحد في أسمائه وصفاته لا مِثْل له ، سبحانه وتعالى ، قال - جل وعلا - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى : 11] وذلك يشمل أنواع التوحيد جميعا ، فالتوحيد - إذًا - : هو اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء .
قوله : " . . . وشهادة أن لا إله إلا الله " يعني : تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ، فهذه الشهادة هي أعظم كلمة قالها مكلَّف ، ولا شيء أعظم منها ؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات ، وما تعبَّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها .(21/84)
والشهادة تارة تكون شهادة عن حضور وبصر ، وتارة تكون شهادة عن علم ، بمعنى أنه : إما أن يشهد على شيء حضره ورآه ، أو يشهد على شيء علمه ، فهذان معنيان للشهادة . فإذا قال قائل : أشهد ، فيحتمل أنها بمعنى : المشاهدة والرؤية ويحتمل أنها بمعنى العلم . ومعنى الشهادة في قولنا : أشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة علمية ؛ ولهذا تضمن قوله : أشهدُ ، العلمَ .
والشهادة في اللغة ، والشرع ، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ ( شهد ) كقوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران : 18] وكقوله { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } تتضمن أشياء :
الأول : الاعتقاد بما سينطق به ، والاعتقاد بما شهده فكونه يشهد أن لا إله إلا الله يستلزم أنه اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة من علم ويقين ؛ لأن الشهادة فيها الاعتقاد ، والاعتقاد لا يسمى اعتقادا إلا إذا كان ثمَّ علم ويقين .
الثاني : التكلم بها ، فالشهادة كما أنها تقتضي اعتقادا ؛ فإنها تقتضي - أيضا - إعلاما ونطقا .(21/85)
والثالث : الإخبار بذلك ، والإعلام به ، فينطق بلسانه ، وهذا من جهة الواجب وأيضا لا يسمى شاهدا حتى يُخبر غيره بما شهد ، وهذا من جهة ( الشهادة ) .
فيكون معنى : أشهد أن لا إله إلا الله : أعتقد وأتكلم ، وأعلم ، وأخبر : بأن لا إله إلا الله . فافترقتْ بذلك عن حال الاعتقاد ، وافترقتْ كذلك عن حال القول ، كما افترقت - أيضا - عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد ، فلا بد لتحققها من حصول الثلاثة مجتمعة ؛ ولهذا نقول في الإيمان إنه : اعتقاد بالجنان ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح والأركان .
فـ ( لا إله إلا الله ) هي : كلمة التوحيد ، وهي مشتملة - من حيث الألفاظ - على أربعة ألفاظ :
1 - ( لا )
2 - ( إله ) .
3 - ( إلا ) .
4 - لفظ الجلالة ( الله ) .
أما ( لا ) هنا فهي : النافية للجنس ، تنفي الألوهية الحقة عن أحد إلا الله - جل وعلا - يعني في هذا السياق . وإذا أتى بعد النفي ( إلا ) - وهي أداة الاستثناء - أفادت معنًى زائدا ، وهو : الحصر ، والقصر ، فيكون المعنى : الإلهية الحقة ، أو الإله الحق هو الله ، بالحصر والقصر ، ليس ثمَّ إله حق إلا هو ، دون ما سواه .(21/86)
وكلمة ( إله ) على وزن ( فعال ) ، وتأتي أحيانا بمعنى ( فاعل ) ، وتأتي أحيانا بمعنى ( مفعول ) ، وهي - لغة - مشتقة من ( ألَه ) بمعنى : عَبَدَ ، وقال بعض اللغويين : إنها من : ألَه يأْلَه إذا تحير ، فـ ( أَلَه ) فلان يأْلَه أو تَأَلَّه : إذا تحير ، وسمي الإله عندهم إلها ؛ لأن الألباب تحيَّرت في كُنه وصفه ، وكُنه حقيقته ، وهذا القول ليس بجيد ، بل الصواب أن كلمة ( إله ) ( فعال ) بمعنى ( مفعول ) وهو المعبود ، ويدل على ذلك : ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف : أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ [الأعراف : 127] . كان ابن عباس يقرأها : وَيَذَرَكَ وَإلَاهَتَكَ قال : لأن فرعون كان يُعبَد ولم يكن يَعْبُد ، فصوب القراءة بـ وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ يعني : وعبادتك ، وقراءتنا - وهي قراءة السبعة - { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } يعني : المتقدمين ، فهذا معناه : أن ابن عباس فهم من الإلَهَة ، معنى العبادة ، وقد قال الراجز :
لله در الغانيات المدَّهِ ... سبَّحن واسترجعن من تألهِ(21/87)
يعني : من عبادتي ، فيكون - إِذًا - الإله هو : المعبود ، بمعنى ( لا إله ) : لا معبود إلا الله .
فـ ( لا ) في قوله ( لا معبود ) هي : النافية للجنس وهي - كما تعلمون - تحتاج إلى اسم وخبر ؛ لأنها تعمل عمل ( إن ) كما قال ابن مالك في الألفية :
عمل (إن) اجعل لـ ( لا ) في نكرة ... . . . . . . . . . . . . .(21/88)
فإن قيل : فأين خبر ( لا ) النافية للجنس ؟ فالجواب أنَّ كثيرا من المنتسبين للعلم قدروا الخبر : بـ ( لا إله موجود إلا الله ) ، ووَجْه هذا التقدير ، وسببه : يحتاج إلى مقدمة قبله وهي : أن المتكلمين والأشاعرة والمعتزلة ومن ورثوا علوم اليونان قالوا : إن كلمة ( إله ) هي بمعنى : فاعل ؛ لأن ( فعال ) تأتي بمعنى ( مفعول ) ، أو ( فاعل ) فقالوا : هي بمعنى آلِه ، والآلِه هو : القادر ، ففسروا ( الإله ) بأنه : القادر على الاختراع ؛ وهذا تجده مسطورا في عقائد الأشاعرة ، كما في شرح العقيدة السنوسية ، التي تسمى عندهم بـ ( أم البراهين ) . إذ قال فيها ما نصُّه : ( الإله ) هو المستغني عما سواه ، المفتقر إليه كُلُّ ما عداه ، قال : فمعنى لا إله إلا الله : لا مستغنيا عما سواه ، ولا مفتقرا إليه كلُّ ما عداه إلا الله . ففسروا الألوهية بالربوبية ، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع ، أو بالمستغني عما سواه ، المفتقر إليه كل ما عداه ، ولذلك يقدِّرون الخبر : موجود ، فـ ( لا إله ) خَبَرُهَا : موجود ، يعني : لا قادر على الاختراعِ والخلقِ موجودٌ إلا الله ، ولا مستغنيا عما سواه ، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه موجودٌ إلا(21/89)
الله ؛ لأن الخلق جميعا محتاجون إلى غيرهم . وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك على المسلمين ؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو : إفراد الله بالربوبية ، فإذا اعتقد المرء أن القادر على الاختراع هو الله وحده : صار موحدا ، وإذا اعتقد أن المستغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه هو الله وحده صار عندهم موحدا وهذا من أبطل الباطل ؛ لأن مشركي قريش كانوا على الإقرار بالربوبية ، كما دَلَّ القرآن على ذلك ، كقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [العنكبوت : 61] وفي آية أخرى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } [الزخرف : 9] ونحو ذلك من الآيات ، وهي كثيرة ، كقوله : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }{ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ(21/90)
الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [يونس : 31 - 32] الآيات من سورة يونس . فَعُلم بذلك أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية . فصارت هذه الكلمة - إذًا - دالة على غير ما أراد أولئك المتكلمون وهو ما ذكرناه آنفا من أن معنى : لا إله ، هو : لا معبود ، وأن تقدير الخبر : ( موجود ) فيكون المعنى : لا معبود موجود إلا الله ، وهذا باطل ؛ لأننا نرى أن المعبودات كثيرة وقد قال - جل وعلا - مخبرا عن قول الكفار : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } [ص : 5] فدل ذلك : أن المعبودات كثيرة . والمعبودات موجودة . فتقدير الخبر بـ ( موجود ) غلط . ومن المعلوم أن المتقرر في علم العربية أن خبر ( لا ) النافية للجنس يكثر حذفه في لغة العرب ، وفي نصوص الكتاب والسنة ؛ ذلك أن خبر ( لا ) النافية للجنس يحذف إذا كان المقام يدل عليه ، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك ، وقد قال ابن مالك في آخر باب ( لا ) النافية للجنس لما ساق هذه المسألة :
وشاع في ذا الباب (1) . إسقاط الخبر ... إذا المراد مع سقوطه ظهر
_________
(1) يعني باب ( لا ) النافية للجنس.(21/91)
فإذا ظهر المراد مع حذف الخبر ، فإنك تحذف الخبر ؛ لأن الأنسب أن يكون الكلام مختصرا كما في قوله عليه الصلاة والسلام : « لا عدوى ولا طيَرةَ ولا هامةَ ولا صفرَ ولا نوءَ ولا غولَ » (1) . فأين الخبر فيما تقدم ؟ الجواب : أنه في كل ذلك محذوف ؛ لكونه معلوما لدى السامع إذًا : فخبر ( لا إله ) معلوم ، ولا يصح تقديره : بـ ( موجود ) ؛ لأن الآلهة التي عبدت مع الله موجودة ، فالصحيح تقدير الخبر بقولك بِحَقٍّ أو : حَقٌّ يعني : لا إله بحق أو لا معبود بحق أو لا معبود حق إلا الله ، وإن قدرت الظرف فلا بأس ، أو قدرت كلمة مفردة فلا بأس ، فلا معبود حق إلا الله : هذا معنى كلمة التوحيد فيكون كل معبود غير الله - جل وعلا - قد عبد ولكن هل عبد بالحق ، أو عبد بالباطل ، والظلم ، والطغيان ، والتعدي ؟؟! الجواب : أنه قد عبد بالباطل ، والظلم ، الطغيان ، والتعدي ، وهذا يفهمه العربي بمجرد سماعه لكلمة لا إله إلا الله ؛ ولهذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - : بئس قوم أبو جهل أعلم منهم بـ ( لا إله إلا الله ) .
_________
(1) أخرجه مسلم ( 106 ) ، ( 2220 ).(21/92)
فأبو جهل كان يفهم هذه الكلمة ، وأبى أن يقولها . ولو كان معناها : لا إله موجود ، كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله : لقالوها بسهولة ، ولم يدروا ما تحتها من المعاني . لكنهم كانوا يعلمون أن معناها : لا معبود حق إلا الله ، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم ، فهل يقرون على أنفسهم بالظلم ، والبغي ، والعدوان ؟! وحقيقة معنى ( لا إله إلا الله ) ، هي ما شرحناه ، وبيناه ، وفيها الجمع بين النفي والإثبات ، كما سيأتي بيان ذلك في آية سورة الزخرف ، في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف : 27] .(21/93)
قال الإمام - رحمه الله - : ( وقول الله تعالى { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [الإسراء : 57] ) : هذه الآية تفسير للتوحيد ؛ وذلك أننا عرفننا التوحيد بأنه إفراد الله بالعبادة - وهو توحيد الإلهية - وهذه الآية اشتملت على الثناء على خاصة عباد الله ، بأنهم وحدوا الله في الإلهية . وهذه مناسبة الآية للباب ، فقد وصفهم الله - جل وعلا - بقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } ومعنى : يَدْعُونَ : يعبدون ؛ لأن الدعاء هو العبادة ، والدعاء نوعان كما سيأتي تفصيله : دعاء مسألة ، ودعاء عبادة ، فقوله هنا { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } يعني : يعبدون ، والوسيلة في قوله : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } هي : القصد والحاجة ، والتقرب بالأعمال الصالحة يعني : أن حاجاتهم يبتغونها إلى ربهم ذي الربوبية الذي يملك الإجابة ، وفي مسائل نافع بن الأزرق ، المعروفة لابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأله عن قوله تعالى في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا(21/94)
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة : 35] ما معنى الوسيلة؟ فقال : الوسيلة الحاجة ، فقال له : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، ألم تسمع قول الشاعر ، وهو عنترة يخاطب امرأة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
فقول عنترة : ( لهم إليك وسيلة ) يعني : لهم إليك حاجة ، ووجه الاستدلال من آية المائدة : أنه قال : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } فقدم الجار والمجرور على لفظ ( الوسيلة ) ، وتقديم الجار والمجرور - وحقه التأخير - يفيد الحصر والقصر ، وعند عدد من علماء المعاني : يفيد الاختصاص ، وسواء أكان هذا أم ذاك ، فوجه الاستدلال ظاهر : في أن قوله تعالى في آية الإسراء : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } معناه : أن حاجاتهم إنما يبتغونها عند الله ، وقد اختص الله - جل وعلا - بذلك ، فلا يتوجهون إلى غيره ، وقد حصروا وقصروا التوجه في الله - جل وعلا - .(21/95)
وقد جاء بلفظ الربوبية دون لفظ الألوهية قوله تعالى { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } ولم يقل : يبتغون إلى الله الوسيلة ؛ لأن إجابة الدعاء ، والإثابة ، هي : من مفردات الربوبية ؛ لأن ربوبية الله على خلقه تقتضي أن يجيب دعاءهم وأن يعطيهم سؤلهم .(21/96)
فظهروا من قوله : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } أن فيها تفسير التوحيد ، وهو أن كل حاجة من الحاجات إنما تنزلها بالله - جل وعلا - وكذلك قوله : يَدْعُونَ فيه تفسير التوحيد - أيضا - لأن معنى يَدْعُونَ يعبدون ؛ فهم إنما يطلبون حاجتهم من الله - جل وعلا - فلا يعبدون غير الله بنوع من العبادات ، ولا يتوجهون بها لغير الله ، فإذا نحروا فإنما ينحرون يبتغون إلى ربهم الحاجة ، وإذا صلوا فإنما يصلون يبتغون إلى ربهم القربة ، وإذا استغاثوا فإنما يستغيثون بالله يبتغون إليه رفيع الدرجات دونما سواه ، إلى آخر مفردات توحيد العبادة . فهذه الآية دالة - بظهور - على أن قوله : { يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } أنه هو التوحيد . وقد استشكل بعض أهل العلم إيراد هذه الآية في الباب وقال : ما مناسبة هذه الآية لهذا الباب؟ وبما ذكرت لك تتضح المناسبة جليا .(21/97)
وقوله - جل وعلا - : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } [الإسراء : 57] فيه بيان لحال خاصة عباد الله الذين جمعوا بين العبادة ، والخوف ، والرجاء ، فيرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، فهم إنما توجهوا إليه وحده دون ما سواه فأنزلوا الخوف ، والمحبة ، والدعاء ، والرغب ، والرجاء في الله - جل وعلا - وحده دون ما سواه ، وهذا هو تفسير التوحيد .
قال - رحمه الله - : وقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف : 27]
والدليل في هذه الآية هو قوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } ، ووجه الاستدلال أن هذه الجملة فيها البراءة ، وفيها الإثبات ، فالبراءة : مما يعبدون ، قال بعض أهل العلم : تبرأ من العبادة ومن المعبودين قبل أن يتبرأ من العابدين ؛ لأنه إذا تبرأ من أولئك : فقد بلغ به الحنق ، والكراهة ، والبغضاء ، والكفر بتلك العبادة مبلغها الأعظم ، وقد جاء تفصيل ذلك في آية الممتحنة كما هو معلوم .(21/98)
فمناسبة هذه الآية للباب : أن قوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } اشتملت على نفي وإثبات ، فهي مساوية لكلمة التوحيد بل هي التوحيد ، ففي هذه الآية تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ولهذا قال - جل وعلا - بعدها : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } فما هذه الكلمة ؟ هي قول : لا إله إلا الله ، كما عليه تفاسير السلف ، فقوله - جلا وعلا - : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } فيه النفي الذي نعلمه من قوله ( لا إله ) ، وقوله { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } فيه الإثبات الذي نفهمه من قولنا ( إلا الله ) فتفسير شهادة أن لا إله إلا الله هو في هذه الآية ؛ لأن : ( لا إله ) معناها : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } و ( إلا الله ) معناها { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } ، ففي آية سورة الزخرف هذه : أن إبراهيم عليه السلام شرح لهم معنى كلمة التوحيد بقوله : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } والبراءة هي : الكفر ، والبغضاء ، والمعاداة . وتبرَّأ من عبادة غير الله ، فهذه البراءة لا بد منها ، ولا يصح إسلام أحد حتى تقوم هذه(21/99)
البراءة في قلبه ؛ لأنه إن لم تقم هذه البراءة في قلبه ، فلا يكون موحدا ، والبراءة هي : أن يكون مبغضا لعبادة غير الله ، كافرا بعبادة غير الله ، معاديا لعبادة غير الله ، كما قال في الآية هنا : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } . أما البراءة من العابدين فإنها من لوازم التوحيد ، وليست من أصل كلمة التوحيد ، بمعنى أنه قد يعادي ، وقد لا يعادي . وهذه لها مقامات منها ما هو مكفر ، ومنها ما هو نوع موالاة ، ولا يصل بصاحبه إلى الكفر .
فتحصل لك - إذًا - : أن البراءة بالتي هي مضمنة في النفي في قول : ( لا إله ) تقتضي البغض لعبادة الله ، والكفر بعبادة غير الله والعداوة لعبادة غير الله ، وهذا القدر لا بد منه ، بل لا يستقيم إسلام أحد حتى يكون في قلبه ذلك .
ثم قال : { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } وهذا الاستثناء هو كالاستثناء الذي في كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) ، قال بعض أهل العلم في قوله : { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } ذكر الفطر دون غيره ؛ لأن في ذلك تذكيرا بأنه إنما يستحق العبادة مَن فَطَر ، أما مَن لم يفطِرْ ، ولم يخلق شيئا ، فإنه لا يستحق شيئا من العبادة .(21/100)
فمناسبة هذه الآية للباب ظاهرة ، وكذا : وجه الاستدلال منها .
قال : وقوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة : 31] الأرباب : جمع رب ، والربوبية هنا هي : العبادة ، يعني : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم معبودين مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني : مع الله ؛ وذلك أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، والطاعة من التوحيد ، وفردٌ من أفراد العبادة ، فإذا أطاع غير الله في التحليل وفي التحريم : فإنه يكون قد عبد ذلك الغير ، فهذه الآية فيها : ذِكْرُ أحد أفراد التوحيد ، وأحد أفراد العبادة ، وهو الطاعة ، وسيأتي إيرادها في باب مستقل - إن شاء الله تعالى - مع بيان ما تشتمل عليه من المعاني .
قال : وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة : 165] .
أخبر الله - جل وعلا - أن المشركين اتخذوا من دون الله أندادا - يعني : مع الله ، أو غيره - دونه وجعلوهم يستحقون شيئا من العبادات ، ووصفهم بأنهم { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } . وقوله هنا { كَحُبِّ اللَّهِ } للمفسرين من السلف فمن بعدهم هنا قولان :(21/101)
1 - منهم من يقول : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } هي كلها في الذين اتخذوا أندادا يعني : يحبون أندادهم كحبهم لله .
2 - وقال آخرون : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } يعني : يحبونهم كحب المؤمنين لله فـ ( الكاف ) هنا بمعنى : مثل ، كقوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فالكاف هنا اسم بمعنى : مثل ؛ لأنه عطف عليها اسما آخر وهو قوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } .(21/102)
فيكون معنى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أي : أنهم سوَّوا تلك الآلهة بالله تعالى في المحبة ، فهم يحبون الله حبا عظيما ، ولكنهم يحبون تلك الآلهة أيضا حبا عظيما ، وهذه التسوية هي : الشرك ، وهي التي جعلتهم من أهل النار ، كما قال - جل وعلا - في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار ، { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 97 - 98] ومعلوم أنهم ما سووا تلك الآلهة برب العالمين في الخلق ، والرزق ، ومفردات الربوبية ، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والعبادة فيكون معنى قوله - جل وعلا - { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } أنهم : يحبونهم محبة مثل محبتهم لله ، وهذا الوجه أرجح من الوجه الآخر الذي تقديره : كحب المؤمنين لله ، والذين آمنوا أشد حبا لله .(21/103)
ووجه الاستدلال من الآية ، ومناسبتها للباب ظاهرة : في أن التشريك في المحبة مناف لكلمة التوحيد ، ومناف للتوحيد من أصله ، بل حَكَمَ اللهُ عليهم بأنهم اتخذوا أندادا من دون الله ، يحبونهم كحب الله ، ووصفهم بذلك ، ولا شك أن المحبة نوع من أنواع العبادة ، والمحبة مُحَرِّكَة ، وهي التي تبعث على التصرفات . فوجه ذكره المحبة هنا : أن المحبة نوع من أنواع العبادة ، فلما لم يفردوا الله بهذه العبادة : صاروا متخذين أندادا من دون الله ، وهذا معنى التوحيد ، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله .(21/104)
ثم قال - رحمه الله - : ( في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يُعبَد من دون الله ، حَرُم ماله ودمه ، وحسابه على الله - عز وجل » - " ) : في هذا الحديث : بيان التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ؛ ذلك أن ثمة فرقا بين قول : لا إله إلا الله ، وبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ، فالتوحيد والشهادة أرفع درجة ، ويختلفان عن مجرد القول ، وهذا الحديث فيه قيد زائد عن مجرد القول ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : « من قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله » فتكون ( الواو ) هنا عاطفة ، ويكون ما بعدها غير ما قبلها ؛ لأن الأصل في العطف المغايرة ، فتضمن قوله : " كفر بما يعبد من دون الله " أمرا زائدا على مجرد القول ، فيكون المعنى : أنه قال : لا إله إلا الله ، ومع قوله كفر بما يعبد من دون الله ، يعني : تبرأ مما يعبد من دون الله . هذا قولٌ .(21/105)
والقول الثاني : أن ( الواو ) هنا وإن كانت عاطفة ، فليست لتمام المغايرة ، وإنما هي من باب عطف التفسير ، فيكون ما بعدها بعض ما قبلها ، كقوله - جل وعلا - : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة : 98] فجبريل وميكال بعض الملائكة ، فعطفهم ، وخصهم بالذكر ، وأظهر اسم جبريل وميكال : لبيان أهمية هذين الاسمين ، وأهمية هذين الملكين ؛ لأن أولئك اليهود لهم كلام بالقدح في جبريل وميكال .
فالمقصود : أن العطف - هنا - : عطف خاص بعد عام ، أو عطف تفسير ؛ لأن ما بعدها داخل في ما قبلها ، وهذا تفسير لقوله : لا إله إلا الله ، فتكون : ( لا إله إلا الله ) على هذا القول الثاني : متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله ، وهذا سبق ذكره في تفسير معنى البراءة المذكورة في آية سورة الزخرف ، وهي قوله تعالى : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ }{ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف : 27] إذ قلنا : إن البراءة تتضمن البغض ، والكفر ، والمعاداة ، والكفر يكون بما يعبد من دون الله ، وهذا تفسير ظاهر لكلمة التوحيد .(21/106)
والوجه الثاني هو الأظهر لسياق الشيخ - رحمه الله تعالى - بل هو الذي يتوافق مع ما قبله من الأدلة .
وقوله : " حرم دمه وماله وحسابه على الله - عز وجل - " ، ذلك لأنه صار مسلما ، فمن قال : لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله ، صار مسلما ، والمسلم لا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث ، وكذلك : لا يحل ماله إلا بحق ؛ ولهذا قال هنا : " حرم ماله ودمه " .
فظهر من هذه الترجمة ، وما فيها من الآيات والحديث : أن تفسير التوحيد وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله : يستوجب من المسلم مزيد عناية ، ونظر ، وتأمل ، وتأنٍّ حتى يفهمه بحجته ، وببيان وجه الحجة في ذلك .
بعد ذلك قال الشيخ - رحمه الله - : " ( وتفسير هذه الترجمة ما بعدها من أبواب ) :
فالكتاب كله هو تفسير للتوحيد ، وتفسير لكلمة لا إله إلا الله ، وبيان ما يضاد ذلك ، وبيان ما ينافي أصل التوحيد ، وما ينافي كماله ، وبيان الشرك الأكبر ، والشرك الأصغر ، والشرك الخفي ، وشرك الألفاظ ، وبيان بعض مستلزمات التوحيد - توحيد العبادة - من الإقرار لله بالأسماء والصفات ، وبيان ما يتضمنه توحيد العبادة من الإقرار لله - جل وعلا - بالربوبية .(21/107)
" باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه "
وقول الله تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الآية [الزمر : 38]
عن عمران بن الحصين رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال : " ما هذه ؟ " قال : من الواهنة ، فقال : " انزعها ، فإنها لا تزيدك إلا وهنا ، فإنك لو مت ، وهي عليك ، ما أفلحت أبدا » رواه أحمد بسند لا بأس به . (1) وله عن عقبة بن عامر مرفوعا : « من تعلق تميمة فلا أتَمَّ الله له ، ومن تعلق ودعة فلا وَدَعَ الله له » (2) وفي رواية : « من تعلق تميمة فقد أشرك » (3) ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } (4)
فيه مسائل :
الأولى : التغليظ في لُبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك .
الثانية : أن الصحابي لو مات وهي عليه ؛ ما أفلح . فيه شاهد لكلام الصحابة : أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر .
الثالثة : أنه لم يعذر بالجهالة .
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 445 وابن حبان 7 / 628 والحاكم 4 / 216 .
(2) أخرجه أحمد 4 / 154 وأبو يعلى ( 1759 ) والحاكم 4 / 417 .
(3) أخرجه أحمد 4 / 156 والحاكم 4 / 417 .
(4) ذكره ابن كثير في التفسير 4 / 342 .(21/108)
الرابعة : أنها لا تنفع في العاجلة ؛ بل وتضر لقوله « لا تزيدك إلا وهنا » .
الخامسة الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك .
السادسة : التصريح بأن من تعلق شيئا وُكِل إليه .
السابعة : التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك .
الثامنة : أن تعليق الخيط من الحُمَّى من ذلك .
التاسعة : تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر ، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة .
العاشرة : أن تعليق الوَدَع عن العين من ذلك .
الحادية عشرة : الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يُتِمُّ له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له ؛ أي : ترك الله له .
الشرح :
هذا بابٌ شرع به الشيخ - رحمه الله - في تفصيل ما سبق ، وهو بيان التوحيد ببيان ضده . ومن المعلوم أن الشيء يعرف ويتميز بشيئين : بحقيقته ، وبمعرفة ضده .
والتوحيد يتميز بمعرفته في نفسه أي : بمعرفة معناه وأفراده ، وبمعرفة ضده أيضا وقد قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . .
وبضدها تتميز الأشياء ...
وهذا صحيح : فإن التوحيد يُعرف حسْنُه بمعرفة قبح الشرك . وقد بدأ الإمام - رحمه الله - في ذكر ما هو مضاد للتوحيد .(21/109)
وما يضاد التوحيد منه : ما يضاد أصله ، وهو الشرك الأكبر الذي إذا أتى به المكلف فإنه ينقض توحيده ، ويكون مشركا شركا أكبر مخرجا من الملة ، فمثل هذا يقال فيه : أنه قد أتى بما ينافي التوحيد ، أو ينافي أصل التوحيد .
والثاني : ما ينافي كمال التوحيد الواجب ، وهو : ما كان حاصلا من جهة الشرك الأصغر ، فإنه ينافي كماله الواجب ، فإذا أتى بشيء منه ، فقد نافى بذلك كمال التوحيد ؛ لأن كمال التوحيد إنما يكون بالتخلص من أنواع الشرك جميعا ، وكذلك الرياء فإنه من أفراد الشرك الأصغر أعني : يسير الرياء ، وهو ينافي كمال التوحيد . ومنها أشياء يقول العلماء عنها : إنها نوع شرك ، فيعبرون عن بعض المسائل من الشركيات بأنها نوع شرك أو نوع تشريك فصارت ألفاظهم - عندنا - في هذا الباب أربعة :
الأول : الشرك الأكبر .
الثاني : الشرك الأصغر .
الثالث : الشرك الخفي .(21/110)
الرابع : قولهم في بعض المسائل : فيها نوع شرك ، أو نوع تشريك ، وذلك مثل ما سيأتي في قوله - جل وعلا - : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [النحل : 83] ، وفي نحو قوله { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف : 191] وهذا يدخل في باب الطاعة ، كما سيأتي بيانه مفصلا - إن شاء الله - .(21/111)
ابتدأ الشيخ - رحمه الله - في هذا الباب : بتفصيل وبيان صور من الشرك الأصغر ، التي يكثر وقوعها ، وقدّم الأصغر على الأكبر : انتقالا من الأدنى إلى الأعلى ؛ لأن الشبهة في الأدنى ضعيفة بخلاف الشبهة في الأعلى ، فإنها أقوى ، لأن شبهة المتعلّق بالخيط ، وبالتمائم أضعف من شبهة المتعلّق بالأولياء والصالحين ، فإذا علم المتعلّق بالخيط ، والتمائم ، ونحوها خطأه وبطلان تعلّقه ، سَهُلَ - بعد ذلك - إقناعه ببطلان التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين ، وبأنه أقبح من الأول - كما هو الحال في الشرك الأكبر - ، أما إذا جاء إلى من هو متلبس بالشرك الأكبر ، كالذي يتعلّق بالأولياء ، ويدعوهم ، ويسألهم ، ويذبح لهم ، فلا يَحْسُنُ فيمن هذه حاله أن يُنْتَقل في إقناعه ببطلان ما هو عليه من الأعلى إلى الأدنى ؛ لقوة الشبهة عنده تجاه من أشرك بهم ، وهي - بزعمه - أن أولئك لهم مقامات عند الله - جل وعلا - فهذه حقيقة حال الذين يتوجهون إلى أولئك المدعوين ، ويشركون بهم الشرك الأكبر المخرج من الملة - والعياذ بالله - فإنهم يقولون : إنما أردنا الوسيلة ، وهؤلاء الذين ندعوهم لهم مقامات عند الله ، وإنما أردنا الوسيلة . فحال هؤلاء كحال(21/112)
المشركين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال الله - جل وعلا - فيهم : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] والمقصود : أن الشيخ - رحمه الله - بدأ أولا بتفصيل الشرك الأصغر انتقالا من الأدنى إلى الأعلى حتى يكون ذلك أقوى في الحجة ، وأمكن في النفوس ، من جهة : ضرورة التعلّق بالله ، وإبطال التعلق بغيره .
قوله - رحمه الله - : (بابٌ من الشرك) : (مِن) هنا تبعيضية ؛ يعني : أن هذه الصورة التي في الباب هي بعض الشرك ، لكن هل هي بعض أفراده أو بعض أنواعه ؟ الجواب : أنها شاملة للأمرين ؛ لأن ما ذُكر - وهو لبس الحلقة أو الخيط - هو أحد أنواع الشرك، وهو : الشرك الأصغر ، وهو أيضا أحد أفراد الشرك بعمومه ؛ لأنها صورة من صور الإشراك .(21/113)
قوله : ( باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما ) : المقصود بقوله : (ونحوهما) ما يكون نحو الحلقة والخيط مثل : الخرز ، والتمائم ، والحديد ، ونحو ذلك مما قد يُلبس ، ومثله أيضا ما يعلّق في البيوت ، أو في السيارات ، أو يعلّق على الصغار ، ونحو ذلك ، مما فيه لبس ، أو تعليق ، فكل ذلك يدخل في هذا الباب ، وأنه من الشرك .
والحلقة : إما أن تكون من صُفر يعني : من نحاس ، وإما أن تكون من حديد ، أو تكون من أي معدن . والخيط : معروف ، والمراد عَقْدُهُ في اليد على وجه الاعتقاد ، وليس المراد خيطا بعينه .(21/114)
وكان للعرب اعتقاد في الحلقة والخيط ، ونحوهما : كالتمائم ، وغيرها ، إذ كانوا يعتقدون أن من تعلّق شيئا من ذلك : أثر فيه ونفع ، إما من جهة دفع البلاء قبل وقوعه ، وإما من جهة رفع البلاء أو المرض بعد وقوعه ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - : (لرفع البلاء أو دفعه) ؛ لأن الحالتين موجودتان ، فمنهم من يعلّق الحلق، والخيوط ، ونحوهما قبل وقوع البلاء لدفعه، ولا شك أن هذا أعظم إثما وذنبا من الذي يعلّق هذه الأشياء لرفع البلاء بعد حصوله ؛ لأنه يعتقد أن هذه الأشياء الخسيسة الوضعية تدفع قدر الله - جل وعلا - ، فالصنف الأول ، هم من ذكرنا ، والصنف الثاني : هم الذين يلبسون تلك الأشياء ، ويعلّقونها لرفع البلاء بعد حصوله ، كمن مرض فلبس خيطا ، ليرفع ذلك المرض ، أو أصابته عين فلبس الخيط ليرفع تلك العين ، وهكذا : في أصناف شتى ، من أحوال الناس في ذلك .(21/115)
ثمّ لِمَ كان لُبس الحلقة أو الخيط من الشرك الأصغر ؟ الجواب : لأنه تعلق قلبه بها ، وجعلها سببا لرفع البلاء ، أو سببا لدفعه ، والقاعدة في هذا الباب : أن إثبات الأسباب المؤثرة وكون الشيء سببا : لا يجوز إلا من جهة الشرع فلا يجوز إثبات سبب إلا أن يكون سببا شرعيا ، أو أن يكون سببا قد ثبت بالتجربة الواقعة أنه يؤثر أثرا ظاهرا لا خفيا فمن لبس حلقة أو خيطا أو نحوهما لرفع البلاء أو دفعه فإنه يكون بذلك قد اتخذ سببا ليس مأذونا به شرعا ، وكذلك من جهة التجربة : لا يحصل له ذلك على وجه الظهور وإنما هو مجرد اعتقاد من الملابس لذلك الشيء فيه ، فقد يوافق القدر ، فيُشفى مِن حِين لُبس أو بعد لبسه ، أو يدفع عنه أشياء يعتقد أنها ستأتيه فيبقى قلبه معلقا بذلك الملبوس ، ويظن بل يعتقد أنه سبب من الأسباب ، وهذا باطل .(21/116)
أما وجه كون لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه شركا أصغر : فإن من لبسها فقد تعلق قلبه بها ، وجعلها تدفع وتنفع ، أو جعلها تؤثر في رفع الضرر عنه ، أو في جلب المنافع له . وهذا إنما يستقل به الله - جل وعلا - وحده ؛ إذ هو وحده النافع الضار ، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يفيض بالرحمة ، ويفيض بالخير أو يمسك ذلك . وأما الأسباب التي تكون سببا لمسبباتها فهذه لا بد أن يكون مأذونا بها في الشرع ؛ ولهذا يعبر بعض العلماء عما ذكرت بقوله : من أثبت سببا - يعني : ادّعى أنه يُحدِث المسبَّب ، أو يُحْدِث النتيجة - لم يجعله الله سببا ، لا شرعا ، ولا قدرا : فقد أشرك ، يعني الشرك الأصغر .(21/117)
هذه القاعدة صحيحة - في الجملة - لكن قد يُشْكِل دخول بعض الأمثلة فيها ، لكن المقصود من هذا الباب : إثبات أن الأسباب لا بد أن تكون إما من جهة الشرع، وإما من جهة التجربة الظاهرة ، مثل : دواء الطبيب بالنار ، ومثل : الانتفاع ببعض الأسباب التي فيها الانتفاع ظاهر ، كأن تتدفأ بالنار أو تتبرد بالماء أو نحو ذلك ، فهذه أسباب ظاهرة بَيِّنَةُ الأثر ، فتحصَّل من هذا : أن تعلّق القلب بشيء لرفع البلاء ، أو دفعه لم يجعله الشارع سببا ، ولم يأذن به ، يكون نوع شرك ، وهذا مراد الشيخ بهذا الباب ؛ فإن لبس الخيط والحلقة من الشرك الأصغر .(21/118)
وهنا تنبيه : وهو أن كل أصناف الشرك الأصغر قد تكون شركا أكبر بحسب حال من فعلها : فالأصل : أن لبس الحلقة أو الخيط . وتعليق التمائم ، والحلف بغير الله ، وقول : ما شاء الله وشئت ، ونحو ذلك من الأعمال ، أو الاعتقادات ، أو الأقوال الأصل فيها : أنها من الشرك الأصغر ، لكن قد تكون شركا أكبر بحسب حال صاحبها ، يعني : إن اعتقد في الحلقة والخيط مثلا أنها تؤثر بنفسها : فهذا شرك أكبر ، وإذا اعتقد أنها ليست سببا لكن تؤثر بنفسها وتدفع الضرر بنفسها ، فتدفع المرض بنفسها ، وتدفع العين بنفسها ، أو ترفع المرض بنفسها ، أو ترفع العين بنفسها . فإذا اعتقد أنها ليست أسبابا بل هي مؤثرة بنفسها : فقد وقع في الشرك الأكبر ؛ لأنه جعل التصرف في هذا الكون لأشياء مع الله - جل وعلا - ، ومعلوم أن هذا من أفراد الربوبية ، فيكون ذلك شركا في الربوبية فعماد هذا الباب على تعلّق القلب بهذه الأشياء : كالحلقة ، والخيط ، ونحوهما ؛ لدفع ما يسوؤه ، أو لرفع ما حل به من مصائب .(21/119)
ثم ساق الشيخ - رحمه الله - بعد ذلك قول الله - جل وعلا - : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } [ الزمر : 38 ] . قوله - جل وعلا - في هذه الآية من سورة الزمر : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال بعض أهل العلم : إن (الفاء) إذا جاءت بعد همزة الاستفهام ، فإنها تكون عاطفة على جملة محذوفة يدل عليها السياق ، وهذه الآية أولها { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ } يعني : قل : أتقرون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده ، ومع ذلك تدعون غيره ؛ وتتوجهون لغيره ؟! أتقرون بذلك ، وتفعلون هذه الأشياء؟ أو يكون التقدير : أتقرون بأن الله هو الواحد في ربوبيته ، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وحده؟؟ إذا أقررتم هذه الأشياء التي تتوجهون لها من دون الله ، هل هي قادرة على دفع المضار عنكم؟ أو هل تجلب لكم رحمة من دون الله ؟؟!! فعلى هذا : تكون (الفاء) هنا ترتيبية ؛ رتبت ما بعدها على ما قبلها ، وهذا هو المقصود هنا من هذا الاحتجاج ؛ لأن(21/120)
طريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية ، وهم أقروا بالربوبية ، فرتب على إقرارهم بهذا : أنه يلزمهم أن يبطلوا عبادة غير الله - جل وعلا - ومعنى قوله : تَدْعُونَ أي : تعبدون ، وقد تكون العبادة بدعاء المسألة ، وقد تكون بأنواع العبادة الأخرى ، وقوله : تَدْعُونَ يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ؛ لأنهما حالتان من أحوال أهل الإشراك بالله .
و(ما) في قوله : مَا تَدْعُونَ عامة ؛ لأنها اسم موصول بمعنى الذي ؛ أي : أفرأيتم الذي تدعونه من دون الله . والذي يدعونه من دون الله - الذي شملته هذه الآية - أنواع ، كل ما دعي من دون الله مما جاء بيانه في القرآن ، وقد جاء في القرآن بيان الأصناف التي أُشرِك بها من دون الله - جل وعلا - وتُوُجِّهَ لها بالعبادة ، وهي أنواع :(21/121)
الأول : بعض الأنبياء والرسل والصالحين ، كما قال - جل وعلا - في آخر سورة المائدة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] الآيات ، فهذا فيه بيان هذا النوع من المعبودين .
الثاني : الملائكة ، كما جاء بيان ذلك في آخر سورة سبأ في قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ }{ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41 ] . ونوع آخر من المشركين : يتوجهون للكواكب بالعبادة ، مثل من يعبد الشمس والقمر ، وغيرهما من الكواكب .
ونوع آخر كانوا يتوجهون للأشجار ، والأحجار .
ونوع كانوا يتوجهون للأصنام والأوثان ، فقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يدخل فيه كل من توجه إليه بشيء من أنواع العبادة ، وذلك يفيدنا في معرفة وجه الاستدلال من هذه الآية ، كما سيأتي .(21/122)
قوله : { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } فيه إبطال أن يكون لتلك الآلهة - بأنواعها - إضرار أو نفع ، ومعنى قوله : { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } أي : لا يستطيعون ذلك ، كما أنه إن أرادني الله - جل وعلا - برحمة ، فهل تستطيع هذه الآلهة أن تدفع رحمة الله ؟! الجواب : أنها لا تستطيع أيضا . فَبَطَلَ إذًا أن يكون ثَمَّ تعلّق بتلك الآلهة العظيمة التي يظن أن لها مقامات عند الله - جل وعلا - موجبة لشفاعتها .
إذا تبين ذلك فقد قال بعض أهل العلم : إن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر ، فَلِمَ جعلها الشيخ - رحمه الله - في سرد بيان أصناف من الشرك الأصغر؟؟ والجواب عن ذلك من وجهين :(21/123)
الوجه الأول : أن الآيات الواردة في الشرك الأكبر ، دلت من جهة المعنى على وجوب التعلق بالله ، وبطلان التعلق بغيره ، وهذا المعنى متحقق في الشرك الأصغر - أيضا - ، ولذا فإن من السلف من نزّل الآيات الواردة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر بجامع أن في كلا الشركين تعلّقا بغير الله - جل وعلا - فإذا بطل التعلق في الأعظم بطل التعلق فيما هو دونه من باب أولى .(21/124)
الوجه الثاني : أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر ، ولكن المعنى الذي دارت عليه هو تقرير أن كل من يدعى من دون الله لا يستطيع من الأمر شيئا ، فلا يقدر أن يرفع ضرا ولا بلاء ، ولا أن يمنع رحمة وفضلا عمن أراده الله بذلك وهذا المعنى الذي هو التعلق بما يعتقد أنه يضر أو ينفع هو المعنى الذي من أجله تعلّق المشرك -الشرك الأصغر- بالحلقة وبالخيط ؛ لأنه ما علق الخيط ، ولا علق الحلقة ، وغيرهما إلا لأنه يعتقد أن لهما تأثيرا من جهة رفع البلاء أو دفع الضر ، وأنهما يجلبان النفع أو يدفعان الضر ، مع أن هذه الأشياء مهينة وأمور وضيعة ، فإذا نُفِيَ عن الأشياء العظيمة : كالأنبياء ، والمرسلين ، والملائكة ، والصالحين ، أو الأوثان التي لها روحانيات كما يقولون فإن انتفاء النفع والضر عما سواها - مما هو أدنى - لا شك أنه أظهر في البرهان ، وأبين .
وقوله : بِضُرٍّ الوارد في سياق قوله تعالى : { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ } : نكرة في سياق الشرط ، فهو يعمّ جميع أنواع الضرر ، يعني : أن غير الله - جل وعلا - لا يستطيع أن يرفع ضرا - أيّ ضرّ - أنزله الله - جل وعلا - إلا بإذنه سبحانه .(21/125)
ثم ساق - رحمه الله - في الباب عدة أحاديث ؛ فقال : عن عمران بن حصين رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقه من صفر ، فقال : " ما هذه ؟ " قال : من الواهنة ، فقال : انزعها ، فإنها لا تزيدك إلا وهنا ، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » (1) .
مناسبة الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا في يده حلقة من صفر وكان أهل الجاهلية يعلقونها رجاء النفع أو دفع الضر فقال عليه الصلاة والسلام : " ما هذه؟ " ، فإن قيل : فما نوع الاستفهام في هذا الحديث ؟ الجواب أن من أهل العلم من قال : إنه استفهام إنكار . ولكن المسؤول لم يفهم أنه إنكار ، بل فهم أنه استفصال ، فلذلك أجاب ؛ فقال : من الواهنة .
_________
(1) تقدم .(21/126)
وقال آخرون من أهل العلم : إنه يحتمل أن يكون استفهام استفصال ، أو استفهام إنكار ؛ ولهذا أجاب المسؤول بقوله : من الواهنة . والأظهر : الأول ، يعني : أنه يفيد الإنكار الشديد ، وإنما كان هو الأظهر من حيث دلالة السياق عليه ؛ وليس في السياق ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقصد بسؤاله الاستفصال عن السبب الذي من أجله لبس الرجل حلقه الصفر ، كأن يكون قد لبسها للتحلي ، أو لأي أمر آخر .
والمقصود أن الاستفهام في قوله : « ما هذه؟ » لا يحتمل أن يكون استفصالا عن وجه اللبس ، هل هو : للاعتقاد ، أو يكون قد لبس لغير ذلك ، بل هو استفهام للإنكار . وإذا احتمل أن يكون الاستفهام للاستفصال ، فإن في قول المسؤول : « من الواهنة » ما يعين سبب اللبس ، فعلى كلا القولين : يكون قد لبسها لأجل تعلقه بها ، لرفع المرض ، أو لدفعه . والواهنة : نوع مرض من الأمراض يهن الجسم ، ويطرحه ، ويضعف قواه .(21/127)
وقوله عليه الصلاة والسلام : « انزعها » : هذا أمر ، وفيه : أن تغيير المنكر يكون باللسان ، إذا كان المأمور يطيع الآمر ؛ ويكتفى بذلك عن تغييره باليد ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام له حق الولاية ، وبإمكانه تغيير هذا المنكر بيده ، لكن لما علم من حال ذلك المأمور أنه يمتثل الأمر قال له : « انزعها » . فلا تعارض بين هذا وبين ما سيأتي من أن حذيفة رضي الله عنه قطع خيطا من يد رجل ؛ فإن ذلك مبني على حال أخرى .
قوله : « فإنها لا تزيدك إلا وهنا » : يعني : أن ضررها أقرب من نفعها ، وهذا شامل لجميع أنواع الشرك ، فإن ما أشرك به ضرره أعظم من نفعه ، لو فُرض أن فيه نفعا ، وقد قال العلماء في قوله هنا : « " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا » يعني : لو كان فيها أثر فإن أثرها الإضرار بدنيا ، وروحيا ، ونفسيا ؛ لأنها تضعف الروح والنفس عن مقابلة الوهن والمرض ، فيكون تعلّقه بذلك الحلقة أو الخيط سببا في حصول الضعف .
قوله : « فإنها لا تزيدك إلا وهنا » : وهذا حال كل من أشرك فإن شركه يجره من ضرر إلى ضرر أكثر منه ، وإن ظن أنه في انتفاع .(21/128)
قوله صلى الله عليه وسلم : « فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا » : لأن حال المعلِّق يختلف ، فقد يكون علقها لاعتقاده أنها تؤثر استقلالا ، وقد يكون علّقها من جهة التسبب ، فإذا كان الذي رُئِيَتْ في يده صحابيا ، تعين أن تعليقه لها من جهة التسبب ، لا من جهة اعتقاده تأثيرها استقلالا ، ولكن الفائدة من قوله : « ما أفلحت أبدا » حصول العبرة له ، ولغيره ، وبيان عاقبة ذلك .(21/129)
والفلاح المنفي - في هذا الحديث - يختلف معناه ، باختلاف حال المعلِّق ؛ فيكون المراد : إما نفي الفلاح المطلق ، بمعنى : الحرمان من دخول الجنة ، والخلود في النار . وهذا في حق من اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط ينفع استقلالا ، فهذا : شرك أكبر ، وإما نفي مطلق الفلاح ، أو نفي نوع منه ، أو درجة من درجاته ، فيكون واقعا في الشرك الأصغر ، وهذا : إن اعتقد أن تعليق الحلقة أو الخيط سبب لحصول النفع ، فهذا : قد اتخذ من الأسباب ما لم يجعله الله - عز وجل - سببا ، لا شرعا ، ولا قدرا ، ومطلق الشيء ، والشيء المطلق : مصطلحان يكثر وردوهما في كتب أهل العلم ، وفي كتاب التوحيد خاصة ، فتجدهم يقولون - مثلا - : التوحيد المطلق ومطلق التوحيد ، والإسلام المطلق ومطلق اللإسلام والإيمان المطلق ومطلق الإيمان ، والشرك المطلق ومطلق الشرك ، والفلاح المطلق ومطلق الفلاح ، والدخول المطلق ومطلق الدخول ، والتحريم المطلق - يعني تحريم دخول الجنة أو تحريم دخول النار - ومطلق التحريم .(21/130)
ومن المهم أن تعلم أن الشيء المطلق هو : الكامل ، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل ، والإسلام المطلق هو الإسلام الكامل ، والتوحيد المطلق هو التوحيد الكامل ، والفلاح المطلق هو الفلاح الكامل .
وأما مطلق الشيء فهو : أقل درجاته ، أو درجة من درجاته ، فمطلق الإيمان هو أقل درجاته ؛ فنقول مثلا : هذا ينافي الإيمان المطلق ، يعني : ينافي الإيمان ، أو نقول : هذا ينافي مطلق الإيمان ، يعني ينافي أقل درجات الإيمان .
وإذا تقرر هذا : فإنا نقول : الفلاح المنفي يحتمل أن يكون : الفلاح المطلق ، وقد تقدم أن هذا يُعتَبَر بحسب حال المعلِّق ، فإن كان معتقدا فيها ، أنها تنفع استقلالا فهو من أهل النار ، وإن كان يعتقد أنها سبب ، فهو من أهل النار ، لكنه لا يُخلّد فيها ، كعصاة الموحدين .(21/131)
قال - رحمه الله - : ( وله عن عقبة بن عامر مرفوعا : « من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » ) (1) المقصود من هذا الحديث ذكر لفظ (التعلق) . وتعلّق يعني : أنه علّق وتعلق قلبه بما علق ، ولفظ (تعلق) يشمل التعليق ، وتعلق قلبه بما علق ، فهو نوع لبس . والمعنى : أنه تعلق قلبه بما لبس ، سواء كان المعلق في صدره ، أو يده ، أو في أي موضع آخر ، فالمقصود : أن يكون قلبه معلقا بما تعلقه .
والتميمة لها معنى سيأتي شرحه لاحقا - إن شاء الله تعالى - لكن هي : نوع خرزات ، وأشياء توضع على صدور الصغار غالبا ، وقد يضعها الكبار ؛ لأجل دفع العين ، أو دفع الضرر ، أو الحسد ، أو أثر الشياطين ، ونحو ذلك . وقوله : « فلا أتم الله له » : دعاء منه صلى الله عليه وسلم على معلّقها بألا يتم الله له مراده ؛ لأن التميمة أخذت من تمام الأمر ، وسميت تميمة لاعتقاده فيها أنه بها يتم له الأمر الذي أراد فدعا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام بأن لا يتم الله - جل وعلا - له ما أراد .
_________
(1) تقدم .(21/132)
قوله : « ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له » : الودعة : نوع من الصدف ، أو الخرز يوضع على صدور الناس ، أو يعلق على العضد ، ونحو ذلك ؛ لأجل دفع أو رفع العين ونحوها من الآفات .
ومعنى قوله : « فلا ودع الله له » دعاء عليه أيضا ومعناه : فلا تركه ذلك ، ولا جعله في دعة ، وسكون وراحة ، وإنما دعا عليه الصلاة والسلام عليه بذلك ، لأن ذاك المعلِّق أشرك بالله - جل وعلا - .
قال : وفي رواية : « من تعلق تميمة فقد أشرك » لأن تعليق التمائم والتعلق بها شرك أصغر ، وقد يكون أكبر بحسب حال المعلق ، كما سيأتي تفصيل الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
قال : " ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] (1) : مناسبة هذا الأثر للباب ظاهرة ، وهي أن حذيفة الصحابي رضي الله عنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه ، واستدل بالآية على أن ذلك من الشرك . و(مِنْ) هنا تعليلية ، يعني : أنه علق الخيط لأجل رفع الحمى ، أو لرفعها .
_________
(1) تقدم .(21/133)
و(مِنْ) لها معان كثيرة ، فتكون تبعيضية وتعليلية ، وغير ذلك ، وقد جمعها ابن أم قاسم في نظمه لبعض حروف المعاني بقوله :
أتتنا (مِنْ) لتبيين وبعـ ... وتعليل وبدء وانتهـ
وزائدة وإبدال وفصـ ... ومعنى على وعن وفي وبـ
فـ (مِنْ) في هذا الأثر : تفيد التعليل ، ومعنى قوله : « من الحمى » أي لأجل دفع الحمى ، أو لرفعها ، فـ (من) تعليل لوضع الخيط في اليد .
قوله : . . . « فقطعه » : يدل على أن هذا منكر عظيم ، يجب إنكاره ، ويجب قطعه .(21/134)
قوله : . . وتلا قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] : قال السلف في معنى هذه الآية { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ } أي : أنهم مع إقرارهم بأن الله هو الرب ، وهو الرزاق ، وهو المحيي ، وهو المميت ، وتوحيدهم إياه في الربوبية { إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } به - جل وعلا - في العبادة . فليس توحيد الربوبية بِمُنْجٍ ، بل لا بد من أن يضم إليه توحيد العبادة ومع أن هذه الآية واردة في الشرك الأكبر إلا أنه يصح الاستدلال به على الشرك الأصغر ، وإلى هذا أشار المصنف - رحمه الله - بقوله : فيه أن الصحابة يستدلون بما نزل في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر .(21/135)
" باب ما جاء في الرقى والتمائم "
وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري : رضي الله عنه « أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قُطِعَتْ » . (1) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الرقى ، والتمائم ، والتولة شرك » رواه أحمد وأبو داود . (2) (التمائم) : شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين ، لكن إذا كان المعلّق من القرآن فقد رخص فيه بعض السلف ، وبعضهم لم يرخص فيه ، وجعله من المنهي عنه ، منهم ابن مسعود رضي الله عنه . و(الرقى) هي التي تسمى العزائم ، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك ، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحُمَة . و (التولة) شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها ، والرجل إلى امرأته .
_________
(1) أخرجه البخاري (3005 ) . ومسلم (2115) .
(2) أخرجه أحمد 1 / 381 وأبو داود (3883) وابن ماجه (3576) وابن حبان 7 / 630 والحاكم 4 / 217 ، 418 .(21/136)
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا : « إن من تعلق شيئا وكل إليه » رواه أحمد والترمذي . (1) وروى أحمد عن رويفع قال : قال لي رسول الله : صلى الله عليه وسلم « يا رويفع ، لعل الحياة تطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته ، أو تقلد وترا ، أو استنجى برجيع دابة ، أو عظم ، فإن محمدا بريء منه » . (2) وعن سعيد بن جبير قال : " من قطع تميمة من إنسان كان كَعِدْل رقبة " (3) رواه وكيع . وله عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ، ومن غير القرآن (4) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الرقى والتمائم .
الثانية : تفسير التولة .
الثالثة : أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء .
الرابعة : أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك .
الخامسة : أن التميمة إذا كانت من القرآن ؛ فقد اختلف العلماء : هل هي من ذلك أو لا ؟
السادسة : أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك .
السابعة : الوعيد الشديد على من تعلق وترا .
الثامنة : فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان .
التاسعة : أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف ، لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 310 و311 والترمذي (2073) والحاكم 4 / 216 .
(2) أخرجه أحمد 4 / 108 و109 .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » (3524) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » (3518) .(21/137)
في الباب السابق قال الإمام - رحمه الله - : " باب من الشرك لبس الحلقة والخيط " وقال هنا : " باب ما جاء في الرقى والتمائم " ولم يقل : باب من الشرك الرقى والتمائم ، وذلك لأن الرقى منها ما هو جائز مشروع ، ومنها ما هو شرك ممنوع ، والتمائم منها ما هو متفق عليه أنه شرك ، ومنها ما قد اختلف الصحابة فيه هل هو من الشرك أو لا ؟ لهذا عبر - رحمه الله - بقوله : " باب ما جاء في الرقى والتمائم " وهذا من أدب التصنيف العالي .
والرقى : جمع رقية ، وهي معروفة ، وقد كانت العرب تستعملها ، وحقيقتها : أنها أدعية وألفاظ تقال أو تتلى ، ثم ينفث فيها ، ومنها ما له أثر عضوي في البدن ، ومنها ما له أثر في الأرواح ، ومنها ما هو جائز مشروع ، ومنها ما هو شرك ممنوع .(21/138)
وثبت أنه عليه الصلاة والسلام رقى نفسه ، ورقى غيره ، بل ثبت أنه رُقِيَ أيضا رقاه جبريل ، (1) ورقته عائشة ، (2) فهذا الباب - باب ما جاء في الرقى والتمائم - معقود لبيان حكم الرقى ، وقد رخّص الشارع في الرقى ما لم تكن شركا ، وهي الرقى التي خلت من الشرك . وقد سأل بعض الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن حكم الرقى فقال : « اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك » (3) وقد قال العلماء : الرقية تجوز بثلاثة شروط مجمع عليها :
الأول : أن تكون بالقرآن ، أو بأسماء الله ، أو بصفاته .
الثاني : أن تكون بالكلام العربي ، أي : بلسان عربي ، معلوم المعنى .
الثالث : أن لا يعتقد أنها تنفع بنفسها ، بل بتقدير الله - عز وجل - ، قال بعض العلماء : يدخل في الشرط الأول أيضا أن تكون بما ثبت في السنة ، وعلى هذا : فيكون الشرط الأول : أن تكون من القرآن ، أو السنة ، أو بأسماء الله وبصفاته ، فلا تكون الرقى جائزة إلا باجتماع هذه الشروط الثلاثة .
_________
(1) أخرجه مسلم (2186) والترمذي (97292) .
(2) أخرجه البخاري (5735) .
(3) أخرجه مسلم (2200).(21/139)
فإذا تخلف الشرط الأول أو الثاني : ففي جواز الرقية خلاف بين أهل العلم ، والشرط الثالث : متفق عليه بينهم ، وأما اشتراط كونها بأسماء الله وصفاته أو بالكتاب والسنة ، أو أن تكون بلسان عربي مفهوم ، فإن هذا مختلف فيه كما تقدم ، وقال بعضهم : يسوغ أن تكون الرقية بما يعلم معناه ، ويصح المعنى بلغة أخرى ، ولا يشترط أن تكون بالعربية ، ولا يشترط أن تكون من القرآن أو السنة ، وهذه مسائل فيها خلاف وبحث ، وأما من جهة تأثير غير القرآن على المرقي وما سبق من الخلاف : ففيه مسائل نرجئ تفصيل الكلام فيها إلى موضع آخر إن شاء الله .
فالمقصود : أن الرقى الجائزة بالإجماع هي ما اجتمعت فيها الشروط الثلاثة ، وأما الرقى الشركية المحرمة فهي : التي فيها استعاذة ، أو استغاثة بغير الله ،أو كان فيها شيء من أسماء الشياطين أو اعتقد المرقي فيها أنها تؤثر بنفسها وهي التي قال عليه الصلاة والسلام فيها : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » (1) كما سيأتي بيانه .
_________
(1) تقدم .(21/140)
والتمائم : جمع تميمة - وقد ذكر تفسيرها مختصرا من قبل - وهي تجمع أنواعا كثيرة فالتمائم تجمع كل ما يعلّق ، أو يتخذ مما يراد منه تتميم أمر الخير للعبد ، أو دفع الضرر عنه ويعتقد فيه أنه سبب . ولم يجعل الله - جل وعلا - ذلك الشيء سببا لا شرعا ، ولا قدرا .
فالتميمة - إذًا - شيء يتخذ من جلد ، أو ورق ، ويكون فيه أذكار وأدعية وتعوذات تعلّق على الصدر ، أو في التعضد ، وقد تتخذ التميمة من خرزات وحبال ونحو ذلك ، يعلق على الصدر ، وقد تكون التميمة باتخاذ شيء يجعل على باب البيت ، أو في السيارة، أو أي مكان ما ، فالحاصل : أن التمائم يجمعها أنها : شيء يراد منه تتميم أمر الخير ، وتتيم أمر دفع الضر وذلك الشيء لم يؤذن به لا شرعا ، ولا قدرا .
فالتميمة - إذًا - ليست خاصة بصورة معينة ، بل تشمل أمورا كثيرة وتعم أصنافا عديدة ، مثل ما نراه على كثير من أهل زماننا ، من تعليقهم أشياء على صدورهم : مثل جلود صغيرة يجعلونها على رقابهم ، أو تكون على العضد ، أو يربطونها على بطونهم لرفع الأمراض الباطنية : كالإسهال ، والقيء ، ونحوهما .(21/141)
ومنهم من يجعل في سيارته رأس دب ، أو أرنب ، أو غيرها من الأشكال ، كحدوة الفرس ، أو يعلق خرزات ، ومسابح خشبية ، ونحو ذلك على المرايا الأمامية للسيارة . ومنهم من يلبس سلسلة فيها شكل عين صغيرة ، وبعضهم قد يعلّق على مدخل الباب رأس ذئب ، أو غزال ، أو يضع على مطرق الباب حدوة فرس ، اعتقادا من أصحابها أنها تدفع العين ، أو تجلب لهم النفع .
فكل هذه أنواع ، وأصناف ، وصور للتمائم ، أحدثها الناس على اختلاف الأزمان .
لكن من الناس من يقول : إنما أعلق هذه الأشياء للزينة ، ولا أستحضر هذه المعاني المحظورة ، فهذا يقوله طائفة قليلة من الناس .
فنقول : إن علق التمائم لدفع الضر ، واعتقد أنها سبب لذلك : فيكون قد أشرك الشرك الأصغر ، وإن علقها للزينة فهو محرم ؛ لأجل مشابهته من يشرك الشرك الأصغر ، فدار الأمر - إذًا - على النهي عن التمائم كلها ، سواء اعتقد فيها أو لم يعتقد ؛ لأن حاله إن اعتقد أنها سبب : فهو شرك أصغر ، وإن لم يعتقد فيكون قد شابه أولئك المشركين ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : « من تشبه بقوم فهو منهم » (1) .
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5114) وابن أبي شيبة في مصنفه (19437) وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (6 / 98) .(21/142)
قوله - رحمه الله - : ( في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه : « أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت » (1) .
وجه الاستدلال بهذا الحديث : أن تعليق القلادة من الوتر على البعير مأمور بقطعه . والأمر بقطعه ؛ لأجل أن العرب تعتقد أنها تدفع العين عن الأبعرة ، والنَّعَم ، فيعلّقون عليها الأوتار على شكل قلائد ، وربما ناطوا بالأوتار أشياء من خرز ، أو من شعر ، أو نحو ذلك لدفع العين ، فهذا نوع من أنواع التمائم . فمناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة ، وهي : أن قوله : « لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت » ظاهر في النهي عن التمائم ، وأن هذا النوع يجب قطعه ، وإنما يجب قطعه؟ لأن في تعليقه اعتقاد أنه يدفع الضر أو أنه يجلب النفع ، وهذا الاعتقاد اعتقاد شركي .
قوله : ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » ) ، فهذا الحديث تضمن تأكيدا ؛ لأن دخول (إن) على الجملة الخبرية بعدها يفيد تأكيد ما تضمنته .
_________
(1) تقدم.(21/143)
وقوله هنا : (الرقى) لما دخلت عليها (الألف واللام) أفادت العموم ، فهذا الحديث أفاد بعمومه أن كل الرقى من الشرك ، وأن كل التمائم من الشرك ، وأن كل التولة من الشرك ، فتكون هذه الأنواع كلها من الشرك .
وهذا العموم خص الدليل منه الرقى وحدها ، وهو قوله : « لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا » (1) وبأن النبي صلى الله عليه وسلم رقى ورقي - عليه الصلاة والسلام - ، فدل الدليل - إذًا - على أن العموم هاهنا مخصوص ، فليس كل أنواع الرقية شرك ، بل بعض أنواع الرقية ، وهي : التي اشتملت على شرك ، فالعموم هنا مخصوص ، وقد خرج منه ما لم يكن فيه شرك وقد جاء الحديث بلفظ : « لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا » (2) وفي لفظ آخر قال : « لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك » (3) أما التمائم فلم يخص الدليل بالجواز منها نوعا دون نوع ، فتكون التمائم بكل أنواعها شركا لعدم ورود ما يخصص بعضها ؛ إذ لم يستثن الشارع منها شيئا ، والأصل بقاء العام على عمومه ، والتخصيص يكون بالشرع ، ولم يرد هنا ، فيبقى على الأصل .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .
(3) تقدم .(21/144)
قوله : " والتولة " : التولة كما فسرها الشيخ - رحمه الله - : شيء يصنعونه ، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها ، والرجل إلى زوجه ، وهو نوع من السحر ، ويسمى عند العامة الصرف والعطف ، فهو نوع من السحر يصنع فيجلب شيئا ، ويدفع شيئا - بحسب اعتقادهم - وهي في الحقيقة نوع من أنواع التمائم لأنها تصنع ويكون الساحر هو الذي يرقي فيها الرقية الشركية ، فيجعل المرأة تحب زوجها ، أو يجعل الرجل يحب زوجته ، وهذا نوع من أنواع السحر ، والسحر شرك بالله - جل وعلا - وكفر عام في كل أنواع التولة، فهي شرك كلها .(21/145)
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا : « من تعلق شيئا وُكِلَ إليه » (1) : (شيئا) - هنا - نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الأشياء فكل من علّق شيئا وُكِلَ إليه فمن أخرج صورة من صور التعليق عن هذا العموم كانت الحجة عليه ؛ لأن هذا الدليل عام ، ويفيد أن من تعلق أي شيء من الأشياء فإنه يُوكل إليه ، والعبد إنما يكون عزه ، ويكون فلاحه ، ونجاحه ، وحسن قصده ، وحسن عمله في تعلقه بالله وحده ، فيتعلق بالله وحده في أعماله ، وفي أقواله ، وفي مستقبله ، وفي دفع المضار عنه ، فيكون أنس قلبه بالله ، وسروره بالله ، وتعلقه بالله ، وتفويض أمره إلى الله ، وتوكله على الله جل وعلا فمن كان كذلك وتوكل على الله ، وطرد الخلق من قلبه : فإنه لو كادته السماوات والأرض لجعل الله - جل وعلا - له من بينها مخرجا ؛ لأنه توكل وفوض أمره على العظيم - جل جلاله وتقدست أسماؤه - ، فقال هنا : « من تعلّق شيئا وُكِلَ إليه » فإذا تعلق العبد تميمة وكل إليها ، فما ظنك بمن وكل إلى خرقه ، أو إلى خرز ، أو إلى حدوة حصان ، أو إلى شكل حيوان ، ونحو ذلك ، لا شك أن خسارته أعظم الخسارة .
_________
(1) تقدم .(21/146)
ووجه الاستدلال هنا في قوله : « من تعلق شيئا » أنه ذكر نتيجة التعلق وهو أنه يوكل إلى ذلك الشيء الذي تعلقه ، فمن تعلق شيئا وكل إليه ، وإذا وكل إليه فمعنى ذلك أنه خسر في ذلك الخسران المبين .
والشيخ - رحمه الله - لم يصدِّر الباب بحكم ، فيكون الاستدلال على حكمها مستفاد من هذه الأحاديث .
قوله : ( التمائم شيء يعلّق على الأولاد يتقون به العين ) : (شيء) هنا شاملة لأي شيء يعلّق دون صفة معينة ، وخص بعض العلماء التمائم بما كان متخذا من الخرز ، وبعضهم خصة بما كان مصنوعا من الجلد ونحوه ، وهذا ليس بجيد ، بل التمائم اسم يعم كل ما يعلق لدفع العين واتقاء الضرر ، أو لجلب خير نفسي .(21/147)
ثم قال : ( لكن إذا كان المعلّق من القرآن فرخص فيه بعض السلف ) يعني : إذا كان المعلّق من القرآن بمعنى أنه جعل في منزله مصحفا ؛ ليدفع العين ، أو علّق على صدره شيئا كسورة الإخلاص ، أو آية الكرسي ، ليدفع العين ، أو ليدفع الضرر عنه ، فهذا من حيث التعليق يسمى تميمة ، فهل هذه التميمة جائزة أو غير جائزة ؟ قال الشيخ - رحمه الله - : إن التمائم إذا كانت من القرآن فقد اختلف فيها السلف ، فجوزها ، ورخّص فيها بعض السلف ، ويعني ببعض السلف : بعض كبار الصحابة ، ومال إلى هذا القول بعض أهل العلم الكبار ، وبعضهم لم يرخّص فيها كابن مسعود رضي الله عنه ، وكأصحاب ابن مسعود الكبار ، منهم : إبراهيم النخعي ، وعلقمة ، وعبيدة ، والربيع بن خثيم ، والأسود ، وأصحاب ابن مسعود جميعا ، فالحاصل : أن السلف اختلفوا في ذلك ، ومن المعلوم أن القاعدة : أن السلف إذا اختلفوا في مسألة وجب الرجوع فيها إلى الدليل ، والدليل قد دل على أن كل أنواع التمائم منهي عنها ، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : « من تعلّق شيئا وُكِلَ إليه » ، وقوله : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » فمن تعلّق القرآن أو شيئا منه كان داخلا في النهي ، لكن إذا(21/148)
كان المعلَّق من القرآن فلا يكون مشركا ؛ لأنه علق شيئا من صفات الله - جل وعلا - وهو كلام الله - جل وعلا - فلا يكون قد أشرك مخلوقا ؛ لأن الشرك معناه : أن تشرك مخلوقا مع الله - جل وعلا - والقرآن ليس بمخلوق ؛ بل هو كلام الله الباري - جل وعلا - منه بدأ ، وإليه يعود ، فإذا أخرجت التميمة المتخذة من القرآن عن كونها شركا من عموم قوله : « إن التمائم شرك » فلأجل كون القرآن كلام الله ، ليس بمخلوق . لكن هل هي منهي عنها ، أو غير منهي عنها ؟؟ الجواب : أن قوله عليه الصلاة والسلام : « من تعلق شيئا وكل إليه » ، ونهيه عن التمائم بأنواعها ، دليل على أن تخصيص القرآن بالإذن من بين التمائم ، ومن بين ما يعلق : يحتاج إلى دليل خاص ؛ لأن إبقاء العموم على عمومه هو إبقاء لدلالة ما أراد الشارع الدلالة عليه بالألفاظ اللغوية ، والتخصيص نوع من أنواع التشريع ، فلا بد فيه من دليل واضح ؛ لهذا صارت الحجة مع من يجعل التمائم التي من القرآن مما لا يُرخّص فيه كابن مسعود ، وكغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ، وكذلك هو قول عامة أهل العلم ، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المحققون من أصحابه ، وعليها المذهب عند المتأخرين .(21/149)
بقي أن نقول : إن تجويز اتخاذ التمائم من القرآن يترتب عليه مفاسد منها : 1- أنه يفضي إلى الاشتباه فقد نرى من عليه التميمة ، فيشتبه علينا الأمر ، هل هذه تميمة شركية ، أو من القرآن ؟ وإذا ورد هذا الاحتمال فإن المنكر على الشركيات يضعف عن الإنكار ؛ لأنه سيقول : يحتمل أن تكون من القرآن ، فإجازة تعليق التمائم من القرآن فيه إبقاء للتمائم الشركية ؛ لأن التمائم تكون مخفية غالبا ، وإما في جلد ، أو في نوع من القماش ونحو ذلك ، فإذا رأينا من علق تميمة : وقلنا يحتمل أن تكون من القرآن ، أو غيره ، فإذا استفصلت منه ، وقلت له : هل هذه تميمة شركية أو من القرآن؟ فمعلوم أن صاحب المنكر سيجيب : بأنها من القرآن حتى ينجو من الإنكار ؛ لأنه يريد أن يسلم له تعليقها ، فمن المفاسد العظيمة أن في : إقرار التمائم من القرآن إبقاء للتمائم الشركية ، وفي النهي عنها سد لذريعة الإشراك بالتمائم الشركية ، ولو لم يكن إلا هذا لكان كافيا .(21/150)
2 - أن الجهلة من الناس إذا علقوا التمائم من القرآن تعلقت قلوبهم بها ، فلا تكون عندهم مجرد أسباب ، بل يعتقدون أن فيها خاصية بنفسها بجلب النفع ، أو دفع الضر ، ولا شك أن هذا فتحا لباب الاعتقادات الفاسدة على الناس يجب وصده ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع .
3 - ومن المفاسد المتحققة أيضا أنه إذا علق شيئا من القرآن ، فإنه يعرضه للامتهان ، فقد ينام عليه ، أو يدخل به مواضع قذرة ، أو يكون معه في حالات لا يليق أن يكون معه فيها شيء من القرآن فهذا مما ينبغي اجتنابه وتركه .
فتحصل - بالدليل وبالتعليل - : أن تعليق التمائم بكل أنواعها : لا يجوز ، فما كان منها من القرآن فنقول يحرم على الصحيح ولا يجوز ، ويجب إنكاره ، وما كان منها من غير القرآن ، فهذا نقول فيه : إنه من الشرك بالله ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الرقى والتمائم والتولة شرك » (1) والتخصيص نوع من العلم فيجب أن يكون فيه دليل خاص .
_________
(1) تقدم .(21/151)
بقي في تتمة الباب : ما رواه أحمد عن رويفع قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا رويفع ، لعل الحياة تطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته ، أو تقلد وترا ، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه » (1) : هذا الحديث وارد في " باب ما جاء في الرقى والتمائم " وفيه ذكر تقلّد الوتر وأن محمدا عليه الصلاة والسلام بريء ممن تقلد وترا ، وقد تقدم في أول الباب حديث أبي بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسولا : « أن لا يبقين في عنق بعير قلادة من وتر ، أو قال قلادة إلا قطعت » ، وهذا الحديث في معناه .
وقوله : في هذا الحديث : « تقلد وترا » فيه تقييد بالوتر ، وهذا له مفهوم ، وهو أن النهي ليس راجعا إلى القلادة من حيث هي بل إلى القلادة التي يُعتقد فيها أنها تدفع العين ، وخص الوتر منها هنا ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقلدون الأوتار ، وينوطون بها بعض الخرق ، أو بعض الشعر ، أو بعض العظام ، لكي تدفع العين عن الأبعرة ، وأما مجرد التقليد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر هديه وأيضا فتلت له القلائد ، وعلق القلائد لبيان أن ما أرسله إلى مكة هدي .
_________
(1) تقدم .(21/152)
فالتقليد هنا خُص بالوتر ؛ فيقال : القلادة التي تجعل على الحيوان أو على غيره إذا كانت مما يُعتقد فيها ، أو يختص بها أهل الاعتقادات : فإنه يُنهى عنها ولهذا قيدها في حديث أبي بشير الأول بقوله : « لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر » (1) و(مِن) ها هنا بيانية ، وكذلك هنا قال : « أو تقلد وترا » وهذا واضح المعنى في أنه جعل الوتر الذي قُلد تميمة .
_________
(1) تقدم .(21/153)
وقوله في هذا الحديث : « فإن محمدا بريء منه » : هذا من الألفاظ التي تدل على أن هذا الفعل من الكبائر ؛ لأن مما يستدل به على كون الفعل ، أو القول ، من الكبائر : أن يقال عن مرتكبه : الله ورسوله منه بريئان ، أو يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه ؛ لأن ذلك يدل على عظم المعصية ، وأن الشرك الأصغر من الكبائر كما أن الشرك الأكبر من الكبائر ، والكبائر العملية - التي ليس معها اعتقاد - كالزنا والسرقة ، وشرب الخمر : هي من حيث جنس المحرم والكبيرة أقل مرتبة من الشرك الأصغر فضلا عن الشرك الأكبر ؛ ولهذا نقول : إن جنس الشرك الأصغر كاتخاذ التمائم ، أو نحو ذلك هذا جنسه أعظم من حيث الذنب والكبيرة من جنس الكبائر العملية التي لا يصحب فاعلها حين فِعلها اعتقاد ، كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وما أشبه ذلك . قوله : ( وعن سعيد بن جبير قال : من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " ) (1) : يعني كان كتحرير رقبة ، وهذا فيه فضيلة قطع التمائم وذلك لأنها شرك بالله - جل وعلا - ، والشرك الأصغر مدخل للنار، وفاعله متوعد بالنار ؛ كما في قوله - جل وعلا - { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ، 116 ] ونحو
_________
(1) تقدم .(21/154)
قوله صلى الله عليه وسلم : « من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار » وفي نحو قوله أيضا : « من مات وهو يشرك بالله شيئا دخل النار » فمن قطع تميمة من عنق من علقها : فهو في مقام إعتاق رقبة ذاك الذي قطعت منه التميمة من النار ؛ لأنه استوجب بذلك الفعل الوعيد بالنار ، فإذا قطع التميمة كان جزاؤه من جنس فعله ، فكما أنه أعتق رقبة هذا المسلم من النار أثيب بأن له مثل إعتاق رقبة أي : في الأجر .
وهذا القول من سعيد بن جبير محمول على أنه مما سمعه من الصحابة رضوان الله عليهم ؛ لأن هذا مما لا يقال بالرأي ، وإذا كان كذلك فله حكم المرسل ؛ لأن فيه فضيلة خاصة جعلها سعيد بن جبير لمن قطع تميمة من رقبة إنسان ، فيكون ذلك من قبيل المرسل ، يعني : من قبيل المرفوع ، وسعيد بن جبير تابعي من أصحاب ابن عباس فيكون مرسلا .
وفي حجية المرسل كلام : فالإمام أحمد ، ومالك ، يحتجون بالمرسل ، وكذلك الإمام أبو حنيفة يحتج بالمرسل ، ومنهم من يجعل له شروطا كالشافعي ، ومنهم من يحتج بالمرسل إذا كان المعنى معروفا في الباب كما هاهنا .(21/155)
وقال بعض أهل العلم : قول التابعي في الأشياء التي لا تدرك الاجتهاد ، ولا يناط بها الرأي يكون محمولا على أنه قول صحابي ، يعني : أنه سمعه من الصحابي ، فيكون اجتهاد صحابي ، وهذا ليس بقوي ؛ لأنه إذا كان محمولا على أنه سمعه من الصحابي ، فنقول أيضا : الصحابي لا يقوله من جهة الرأي ، فلا بد أن يكون - إذًا - سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن مثل هذا لا مدخل فيه للاجتهاد ، والقول الأول هو المعروف ، وهو أن هذه الصيغة من قبيل المرسل .
قوله : " وله " : يعني لوكيع .
" عن إبراهيم " : وهو النخعي ، تلميذ ابن مسعود وإبراهيم النخعي عالم أهل الكوفة بعد ابن مسعود .
قوله : " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن " : قوله : (كانوا) يعني : أصحاب ابن مسعود ، كالأسود ، وعلقمة ، وكالربيع بن خثيم وكعبيدة السلماني ، ونحو هؤلاء .(21/156)
" باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما "
وقول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى }{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى }{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى }{ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى }{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [ النجم : 19 - 23 ] عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها ، وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها : ذات أنواط ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر !! إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال : إنكم قوم تجهلون ، لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه . (1)
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النجم .
الثانية : معرفة صورة الأمر الذي طلبوا .
الثالثة : كونهم لم يفعلوا .
_________
(1) أخرجه الترمذي (2181) وقال : حديث حسن صحيح .(21/157)
الرابعة : كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك ، لظنهم أنه يحبه .
الخامسة : أنهم جهلوا هذا ؛ فغيرهم أولى بالجهل .
السادسة : أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم .
السابعة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم ؛ بل رد عليهم بقوله : « الله أكبر ، إنها السنن لتتبعن سَنَن من كان قبلكم » فغلّظ الأمر بهذه الثلاث .
الثامنة : الأمر الكبير - وهو المقصود - : أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا } .
التاسعة : أن نفي هذا من معنى " لا إله إلا الله " مع دقته وخفائه على أولئك .
العاشرة : أنه حلف على الفتيا ، وهو لا يحلف إلا لمصلحة .
الحادية عشرة : أن الشرك فيه أكبر وأصغر ، لأنهم لم يرتدوا بهذا .
الثانية عشرة : قولهم « ونحن حدثاء عهد بكفر » فيه : أن غيرهم لا يجهل ذلك .
الثالثة عشرة : التكبير عند التعجب ، خلافا لمن كرهه .
الرابعة عشرة : سد الذرائع .
الخامسة عشرة : النهي عن التشبه بأهل الجاهلية .
السادسة عشرة : الغضب عند التعليم .
السابعة عشرة : القاعدة الكلية لقوله : « إنها السنن » .
الثامنة عشرة : أن هذا عَلَم من أعلام النبوة ، لكونه وقع كما أخبر .(21/158)
التاسعة عشرة : أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا .
العشرون : أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيه التنبيه على مسائل القبر ؛ أما من ربك ؟ فواضح ، وأما من نبيك؟ " فمن إخباره بأنباء الغيب ، وأما " ما دينك؟ " فمن قولهم (اجعل لنا) إلى آخره .
الحادية والعشرون : أن سنة أهل الكتاب مذمومة ، كسنة المشركين .
الثانية والعشرون : أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه ، لا يُؤْمَن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة ، لقولهم : ونحن حدثاء عهد بكفر .
الشرح :
" باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما " يعني : ما حكم هذا الفعل؟
الجواب : هو مشرك يعني : باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما فهو مشرك . وقوله : " من تبرك " : التبرك تفعُّل من البركة ، وهو طلب البركة .
والبركة مأخوذة من حيث الاشتقاق من مادة (بروك) ، أو من كلمة (بركة) ، أما اشتقاقها من البروك : فبروك البعير يدل على ملازمته وثبوته في ذلك المكان ، وأما اشتقاقها من البركة : فالبركة هي : مجتمع الماء ، وهي تدل على كثرة الماء في هذا الموضع ، وعلى لزومه له ، وعلى ثبوته فيه .(21/159)
فيكون معنى البركة - إذًا - : كثرة الشيء الذي فيه الخير ، وثباته ، ولزومه ، فالتبرك هو : طلب الخير الكثير ، وطلب ثباته ، وطلب لزومه ، فتبرّك ، يعني : طلب البركة .
والنصوص في القرآن والسنة دلت على أن البركة من الله - جل وعلا - وأن الله - جل وعلا - هو الذي يبارك ، وأنه لا أحد من الخلق يبارك أحدا ، قال سبحانه { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] يعني : عَظُمَ خير من نزّل الفرقان على عبده ، وكثر ، ودام ، وثبت . وقال : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ الملك : 1 ] .
وقال سبحانه : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } [ الصافات : 113 ] وقال : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا } [ مريم : 31 ] فالذي يبارك هو الله - جل وعلا - ، فلا يجوز للمخلوق أن يقول : باركت على الشيء ، أو أبارك فعلكم ؛ لأن البركة وكثرة الخير ولزومه ، وثباته ، إنما ذلك من الذي بيده الأمر ، وهو الله - عز وجل - .
وقد دلت النصوص في الكتاب والسنة على أن الأشياء التي أحل الله - جل وعلا - البركة فيها قد تكون أمكنة أو أزمنة ؛ وقد تكون مخلوقات آدمية ، فهذان قسمان :(21/160)
القسم الأول : أن الله - تعالى - بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام ، وحول بيت المقدس ، كما قال سبحانه : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] ومعنى كون الأرض مباركة : أن يكون فيها الخير الكثير اللازم يعني - أبدا - أن يُتَمَسَّح بأرضها ، أو أن يُتَمَسَّح بحيطانها ، لأن بركتها لازمة لا تنتقل بالذات ، يعني : أنك إذا لامست الأرض ، أو دفنت فيها ، أو تبركت بها ، فإن بركتها لا تنتقل إليك بالذات ، وإنما بركتها من جهة المعنى فقط .(21/161)
كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته ، يعني : ليس كما يعتقد البعض أن من تمسح به انتقلت إليه البركة وإنما هو مبارك من جهة المعنى ، يعني : اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية ، من جهة : تعلق القلوب بها ، وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها ، وأتاها ، وطاف بها ، وتعبد عندها ، وكذلك الحجر الأسود هو حجر مبارك ، ولكن بركته لأجل العبادة ، يعني أن من استلمه تعبدا مطيعا للنبي صلى الله عليه وسلم في استلامه له ، وفي تقبيله ، فإنه يناله به بركة الاتباع . وقد قال عمر رضي الله عنه لما قبّل الحجر : " إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر " (1) فقوله : لا تنفع ولا تضر ، يعني لا يجلب لمن قبله شيئا من النفع ، ولا يدفع عن أحد شيئا من الضر ، وإنما الحامل على التقبيل مجرد الاتِّساء ، تعبدا لله ، ولذلك قال : " . . ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " فهذا معنى البركة التي جعلت في الأمكنة .
وأما معنى كون الزمان مباركا - مثل شهر رمضان ، أو بعض أيام الله الفاضلة - فيعني : أن من تعبد فيها ، ورام الخير فيها ، فإنه ينال من كثرة الثواب ما لا يناله في غيرها من الأزمنة .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 1597 ) و(1605) و( 1610 ) ومسلم (1270) .(21/162)
والقسم الثاني : البركة المنوطة ببني آدم ، وهي البركة التي جعلها الله - جل وعلا - في المؤمنين من الناس ، وعلى رأسهم : سادة المؤمنين : من الأنبياء والرسل فهؤلاء بركتهم بركة ذاتية ، يعني : أن أجسامهم مباركة ، فالله - جل وعلا - هو الذي جعل جسد آدم مباركا وجعل جسد إبراهيم عليه السلام مباركا ، وجعل جسد نوح مباركا ، وهكذا جسد عيسى ، وموسى ، عليهم جميعا الصلاة والسلام جعل أجسادهم جميعا مباركة ، بمعنى : أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم ، إما بالتمسح بها ، أو بأخذ عرقها ، أو التبرك ببعض أشعارهم ، فهذا جائز ؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية ، وهكذا نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جسده أيضا جسد مبارك ؛ ولهذا ورد في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه ، ويتبركون بشعره ، (1) وإذا توضأ اقتتلوا على وضوئه ، (2) إلى آخر ما ورد في ذلك ؛ ذلك أن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية ينتقل أثرها إلى غيرهم ، وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل ، أما غيرهم فلم يرد دليل على أن من أصحاب الأنبياء والرسل مَن بركتهم بركة ذاتية ، حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر ، فقد جاء بالتواتر القطعي : أن الصحابة والتابعين
_________
(1) أخرجه مسلم ( 1305 ) والبخاري (170) و(171) .
(2) أخرجه البخاري ( 2731 ) و( 2732 ) .(21/163)
والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، كما كانوا يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بوضوئه ، أو بنخامته ، أو بعرقه أو بملابسه ، ونحو ذلك ، فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل ، ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم » (1) فدل هذا : على أن في كل مسلم بركة ، وفي البخاري أيضا قول أسيد بن حضير : « ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر » . (2) فهذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر ، هي : بركة عمل ، هذه البركة راجعة إلى الإيمان ، وإلى العلم ، والدعوة ، والعمل .
_________
(1) أخرجه البخاري رقم (5444) .
(2) أخرجه البخاري (334) و(336) و(3672) و(3773) و(4583) و(4607) و(4608) و(5164) و(5250) و(5882) و(6844) و(6845) وقوله : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر . إنما هو قول أسيد بن حضير وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم .(21/164)
فكل مسلم فيه بركة ، وهذه البركة ليست بركة ذات ، وإنما هي بركة عمل ، وبركة ما معه من الإسلام والإيمان ، وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله - جل وعلا - والإجلال له ، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذه البركة التي في العلم ، أو العمل ، أو الصلاح : لا تنتقل من شخص إلى آخر وعليه فيكون معنى التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم ، والتبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة منه وهكذا ، ولا يجوز أن يُتبرك بهم بمعنى أن يُتمسح بهم ، أو يُتبرك بريقهم ؛ لأن أفضل الخلق من هذه الأمة وهم الصحابة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وهذا أمر مقطوع به .(21/165)
فمعنى تبرك المشركين : أنهم كانوا يرجون كثرة الخير ، ودوام الخير ، ولزوم الخير وثبات الخير ، بالتوجه إلى الآلهة ، وهذه الآلهة يكون منها : الصنم الذي من الحجارة ، والقبر من التراب ، ويكون منها الوثن والشجر ، ويكون منها البقاع المختلفة ، كالغار أو عين ماء ، أو نحو ذلك ، فهذه التبركات المختلفة جميعها تبركات شركية ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - : " باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما " والشجر : جمع شجرة ، والحجر معروف ، ذلك أن المشركين كانوا يتبركون بالأشجار والأحجار ، حتى في أول الدعوة في هذه البلاد كانت الأشجار والأحجار التي يتبرك بها كثيرة .
قوله : " ونحوهما " : يعني : نحو الشجر والحجر ، مثل : البقاع المختلفة ، أو غار معين ، أو قبر ، أو عين ماء ، أو نحو ذلك من الأشياء التي يعتقد فيها أهل الجهالة .
فما حكم فاعل ذلك ؟ الجواب : أنه مشرك ، كما صرح به الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه " فتح المجيد " لباب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما حيث قال الله : ( أي : فهو مشرك ) .(21/166)
لم يفصح الشرَّاح في هذا الموضع عن نوع شرك المتبرك بالشجر والحجر هل هو شرك أكبر ، أو شرك أصغر؟ وإنما أدار الشيخ سليمان - رحمه الله - المعنى في " التيسير " بعد أن ساق تفسير آية النجم : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [ النجم : 19 ] على الاحتمالين ، فقال في آخره : مناسبة الآية للترجمة : أنه إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر ، وإن كان شركا أصغر : فالسلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر .
وتحقيق المقام : أن التبرك بالشجر ، أو بالحجر أو بالقبر ، أو ببقاع مختلفة ، قد يكون شركا أكبر ، وقد يكون شركا أصغر .(21/167)
فيكون شركا أكبر : إذا طلب بركتها ، معتقدا أنه بتمسحه بهذا الشجر ، أو الحجر أو القبر ، أو تمرغه عليه ، أو التصاقه به : يتوسط له عند الله . فإذا اعتقد فيه أنه وسيلة إلى الله فهذا : اتخاذ إله مع الله - جل وعلا - وشرك أكبر ، وهذا هو الذي كان يعتقده أهل الجاهلية في الأشجار والأحجار التي يعبدونها ، وفي القبور التي يتبركون بها ؛ يعتقدون أنهم إذا عكفوا عندها ، وتمسحوا بها ، أو نثروا ترابها على رؤوسهم ، فإن هذه البقعة ، أو صاحب هذه البقعة ، أو الروحانية وهي : الروح التي تخدم هذه البقعة : أنه يتوسط له عند الله - جل وعلا - فهذا الفعل - إذًا - راجع إلى اتخاذ أنداد مع الله - جل وعلا - ، وقد قال سبحانه : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر 3 ] .(21/168)
ويكون التبرك شركا أصغر : إذا كان يتخذ هذا التبرك بنثر التراب عليه ، أو إلصاق الجسم به ، أو التبرك بعين ونحوها ، أسبابا لحصول البركة بدون اعتقاد أنها توصل وتقرب إلى الله ، يعني : أنه جعلها أسبابا فقط ، كما يفعل لابس التميمة ، أو الحلقة ، أو الخيط ؛ فكذلك هذا المتبرك ، يجعل تلك الأشياء أسبابا فإذا أخذ - من هذه حاله - تراب القبر ، ونثره عليه لاعتقاده أن هذا التراب مبارك ، وإذا لامس جسمه فإن جسمه يتبارك به أي : من جهة السببية : فهذا شرك أصغر ؛ لأنه لا يكون عبادة لغير الله - جل وعلا - وإنما اعتقد ما ليس سببا مأذونا به شرعا : سببا .
وأما إذا تمسح بها كما هي الحال الأولى وتمرغ والتصق بها ، لتوصله إلى الله - جل وعلا - ، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة ؛ ولهذا قال الشيخ سليمان كما تقدم : إن كان التبرك شركا أكبر : فظاهر في الاستدلال بالآية وإن كان شركا أصغر : فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على ما يريدون من الاستدلال ، في مسائل الشرك الأصغر .(21/169)
قوله : وقول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى }{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } [ النجم : 19 - 20 ] سبق بيان أن همزة الاستفهام ، إذا أتى بعدها فاء : فإنه يكون بينها وبين الفاء جملة دل عليها السياق ، فمن أول سورة النجم إلى هذا الموضع يدل على المحذوف .
قوله : ( اللات ) : هي صخرة بيضاء منقوشة عليها ، بيت بالطائف ، وما هدمت إلا بعد أن أسلمت ثقيف ، أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة ، فهدمها ، وكسرها ، وحرقها بالنار ، وكان عليها بيت ولها سدنة وخدم ، (1) فالمقصود : أن اللات صخرة وصفت بأنها بيضاء .
وفي قراءة ابن عباس وغيره من السلف : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ ) بتشديد التاء . فعلى هذه القراءة : يكون (اللاتّ) هذا رجلا كان يلت السويق للحاج ، وفي رواية : على صخرة فعظموا تلك الصخرة ، وفي رواية أخرى عن السلف : أنه كان يلت لهم السويق فلما مات عكفوا على قبره ، (2) فتحصل من هذا : أن اللات صخرة ، فإذا قرأت : (اللاتّ) بتشديد التاء : فيكون قبرا ، أو صخرة ، كان يتعبد عندها ، ويتصدق ذاك الذي كان يلت السويق .
_________
(1) السيرة لابن هشام 4 / 138 .
(2) أخرجه البخاري (4859) .(21/170)
والعزى : شجرة كانت بين مكة والطائف ، وهي في الأصل شجرة ثم بني بناء على ثلاث سمرات ، وكانت امرأة كاهنة هي التي تخدم ذلك الموضع ، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إليها خالد بن الوليد ، فقطع الشجرات الثلاث - السمرات الثلاث - وقتل من قتل فلما رجع وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له : « ارجع فإنك لم تصنع شيئا » ، فرجع فرآه السدنة ، ففروا إلى الجبل ، ثم رأى امرأة ناشرة شعرها عريانة ، وهي الكاهنة التي كانت تخدم ذلك الموضع الشركي ، وتحضر الجن لإضلال الناس بذلك ، فعلاها خالد بالسيف حتى قتلها ، فرجع للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « تلك العزى » . (1) المقصود : أن العزى اسم لشجرة كانت في ذلك الموضع ، وكان تعلق الناس في الحقيقة بتلك الشجرة ، وبالمرأة التي كانت تخدم ذلك الشرك ، فلو قطعت الأشجار وبقيت المرأة ، فإن المرأة ستغري الناس مرة أخرى بما ستذكره لهم ، أو ما تحكيه لهم ، أو ما تجيب به مطالبهم عن طريق الجن ، فلا يكون الشرك قد انقطع ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « تلك العزى » يعني : أن حقيقة العزى هي تلك المرأة التي تغري الناس بذلك الشرك ، وإلا فهي شجرة .
_________
(1) سيرة ابن هشام 4 / 1099 .(21/171)
وقوله ، { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } والأخرى : يعني : الوضيعة الحقيرة ، وكانت مناة هذه أيضا صخرة ، وسميت مناة ؛ لكثرة ما يمنى عليها من الدماء تعظيما لها . (1) ووجه مناسبة الآية للترجمة : أن ما كان يفعله المشركون عند هذه الثلاث ، هو عين ما يفعله المشركون في الأزمنة المتأخرة عند الأحجار ، والأشجار ، والغيران ، والقبور ومن قرأ شيئا مما يصنعه المشركون علم غربة الإسلام في هذه البلاد قبل هذه الدعوة ، وأن الناس كانوا على شرك عظيم . وإذا تأملت أحوال ما حولك من البلاد التي ينتشر فيها الشرك وجدت من اتخاذ الأشجار والأحجار آلهة والتبرك بها الشيء الكثير ، وأعظم من ذلك اتخاذ القبور آلهة يتوجه إليها ، ويتعبد عندها .
ثم ساق - رحمه الله - في الباب حديث أبي واقد الليثي ، وهذا الحديث حديث صحيح ، عظيم وفيه : أن المشركين كانت لهم سدرة لهم فيها اعتقاد .
واعتقادهم فيها كان يشمل ثلاثة أشياء :
الأول : أنهم يعظمونها .
الثاني : أنهم يعكفون عندها .
الثالث : أنهم كانوا ينوطون بها الأسلحة رجاء انتقال البركة من الشجرة إلى السلاح ، حتى يكون أمضى ، وحتى يكون خيره لحامله أكثر .
_________
(1) أخرجه البخاري (8 / 613) وانظر تفسير ابن كثير (7 / 432) والبداية والنهاية (2 / 192) ، (4 / 37) .(21/172)
وفعلهم هذا شرك أكبر ؛ لأنهم عظموها وعكفوا عندها ، والعكوف عبادة ؛ وهو : ملازمة الشيء على وجه التعظيم والقربة ؛ ولأنهم طلبوا منها البركة ، فصار شركهم شركا أكبر لأجل هذه الثلاث مجتمعة .
وبعض الصحابة رضوان الله عليهم ممن كانوا حديثي عهد بكفر وهم الذين قالوا : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، ظنوا أن هذا لا يدخل في الشرك ، وأن كلمة التوحيد لا تهدم بهذا الفعل ؛ لهذا قال العلماء : قد يغيب عن بعض الفضلاء بعض مسائل الشرك ؛ لأن الصحابة وهم أعرف الناس باللغة كهؤلاء الذين كان إسلامهم بعد الفتح : خفيت عليهم بعض أفراد توحيد العبادة .(21/173)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله أكبر !! إنها السنن ، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة » : فشبَّه عليه الصلاة والسلام هذه المقالة بتلك المقالة ، ومعلوم أن أولئك - وهم المذكورون في الآية - عبدوا غير الله ، أي : عبدوا الأصنام ، وأما أولئك فإنما طلبوا بالقول فقط ، فشبّه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك القول بقول قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، لكن أولئك الصحابة لم يفعلوا ما طلبوا ، ولما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم انتهوا ، ولو فعلوا ما طلبوا لكان شركا أكبر ، لكن لما قالوا وطلبوا دون فعل : صار قولهم شركا أصغر ؛ لأنه كان فيه نوع تعلق بغير الله - جل وعلا - .(21/174)
وهم لا يعلمون أن هذا الذي طلبوه غير جائز ، وإلا فلا يُظن بهم أنهم يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويرغبون في معصيته . وأما شركهم فكان في مقالهم ، وأما الفعل : فلم يفعلوا شيئا من الشرك ، وهذا الذي قالوه ، قال العلماء : وهو شرك أصغر ، وليس بشرك أكبر ؛ ولهذا لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامهم ، ويدل على ذلك قوله : « قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى » فشبّه المقالة بالمقالة ، وقد قرر الشيخ - رحمه الله - أنهم لم يكفروا ، وقال في المسائل : ( إن الشرك فيه أكبر وأصغر ؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا ) .
فالظاهر من هذا الحديث : أن الشرك الأكبر الذي كان وقع فيه المشركون لم يكن راجعا إلى التبرك بذات الأنواط فقط ، بتعظيمها ، والعكوف عندها ، والتبرك بتعليق الأشياء عليها ، وقد قلت لك : إن التبرك بالشجر ، والحجر ، ونحو ذلك ، إذا كان فيه اعتقاد أن هذا الشيء يقرب إلى الله ، وأنه يرفع الحاجة إليه ، أو أن تكون حاجاتهم أرجى إجابة وأمورهم أحسن ، إذا تبركوا بهذا الموضع ، فهذا : شرك أكبر ، وهذا هو الذي كان يصنعه أهل الجاهلية ؛ ولهذا ، فإن فعلهم يشمل ثلاثة أشياء - كما سبق - :(21/175)
1 - التعظيم ، أي تعظيم العبادة ، وهذا لا يجوز إلا لله ، فتعظيمهم بهذه الصورة ، واعتقاد أنهم يتوسطون لهم : هو نوع من عبادتهم ، وشرك جلي .
2 - أنهم عكفوا عندها ولازموها ، والعكوف والملازمة نوع عبادة ، فإذا عكف ولازم تقربا ، ورجاء ، ورغبة ، ورهبة ، ومحبة ، فهذا نوع من العبادة .
3 - التبرك .(21/176)
وإذًا فيكون الشرك الأكبر : ما ضم هذه الثلاثة . وإذا تأملت ما يصنعه عباد القبور والخرافيون في الأزمنة المتأخرة وفي زماننا هذا : وجدت أنهم يصنعون مثل ما كان المشركون الأولون يصنعون عند اللات ، وعند العزى ، وعند ذات أنواط ، ويعتقدون في القبر ، بل يعتقدون في الحديد الذي يُسيَّج به القبر ، فترى الناس في البلاد التي يفشو فيها الشرك يعتقدون في الحائط الذي على القبر ، أو في الشباك الحديدي الذي يحيط بالقبر ، فإذا تمسحوا به فكأنهم تمسحوا بالمقبور ، واتصلت روحهم به ، واعتقدوا أنه سيتوسط لهم ؛ لأنهم عظموه ، فهذا شرك أكبر بالله - جل وعلا - ؛ لأن فعلهم هذا : راجع إلى تعلق القلب في جلب النفع ، وفي دفع الضر بغير الله - جل وعلا - وجعْله وسيلة إلى الله - جل وعلا - كفعل الأولين الذين قال الله فيهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } .(21/177)
وأما الحال الأخرى التي نبهتك في أول المقام عليها ، فكمن يجعل بعض التمسحات أسبابا : مثل ما ترى من بعض الجهلة ممن يأتي إلى الحرم ، ويتمسح بأبواب الحرم الخارجية ، أو ببعض الجدران ، أو ببعض الأعمدة ، فهذا إن ظن أن ثَمَّ روحا في هذا العمود ، أو أن هناك أحدا مدفونا بالقرب منه ، أو ثَمَّ من يخدم هذا العمود من الأرواح الطيبة كما يقولون : فتمسح لأجل أن يصل إلى الله - جل وعلا - بذلك الفعل : فهذا شرك أكبر .
وأما إذا تمسح واعتقد أن هذا مكان مبارك ، وأن هذا سبب قد يشفيه فنقول إذا : إذا كان يتمسح بجعله سببا فهذا يكون شركه شركا أصغر ، وإذا كان تعلق قلبه بهذا المتمسح به أو المتبرك به ، وعظمه ، ولازمه ، واعتقد أن ثمت روحا هنا ، أو أنه يتوسل به إلى الله فإن هذا شرك أكبر .(21/178)
" باب ما جاء في الذبح لغير الله من الوعيد وأنه شرك بالله - جل وعلا - "
وقول الله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } وقال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وعن علي رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا ، لعن الله من غير منار الأرض » رواه مسلم (1) . وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب " قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا ، فقالوا لأحدهما قرّب ، قال : ليس عندي شيء أقرّب ، قالوا له : قرّب ولو ذبابا ، فقرّب ذبابا ، فخلوا سبيله فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرّب ، فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله - عز وجل - فضربوا عنقه فدخل الجنة » رواه أحمد (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } .
_________
(1) أخرجه مسلم (1978) .
(2) أخرجه أحمد في الزهد (22) وأبو نعيم في « الحلية » 1 / 203 موقوفا على سليمان الفارسي .(21/179)
الثانية : تفسير { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } .
الثالثة : البداءة بلعنة من ذبح لغير الله .
الرابعة : لعن من لعن والديه ، ومنه أن تعلن والدي الرجل فيلعن والديك .
الخامسة : لعن من آوى محدثا ، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله ، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك .
السادسة : لعن من غير منار الأرض وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك ، فتغيرها بتقديم أو تأخير .
السابعة : الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم .
الثامنة : هذه القصة العظيمة ، وهي قصة الذباب .
التاسعة : كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصا من شرهم .
العاشرة : معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ؛ كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر !
الحادية عشرة : أن الذي دخل النار مسلم ، لأنه لو كان كافرا لم يقل : " دخل النار في ذباب " .
الثانية عشرة : فيه شاهد للحديث الصحيح : « الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك » .
الثالثة عشرة : معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم ، حتى عند عبدة الأوثان .
الشرح :(21/180)
قول الشيخ - رحمه الله - " باب ما جاء في الذبح لغير الله " . الذبح معروف ، وهو : إراقة الدم .
وقوله : " لغير الله " يعني : متقربا به إلى غير الله ، أي : ذبح لأجل غير الله ، والذبح فيه شيئان مهمان ، وهما نكتة هذا الباب ، وعقدته :
الأول : الذبح باسم الله ، أو الذبح بالإهلال باسم ما .
الثاني : أن يذبح متقربا لما يريد أن يتقرب إليه ، فإذًا : ثَمَّ التسمية ، وثَمَّ القصد ، وهما شيئان ، أما التسمية ، فظاهر : أن ما ذُكر عليه اسم الله فإنه جائز كما قال تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 118 ] وأن ما لم يذكر اسم الله عليه ، فهذا مما أهل لغير الله به كما في قوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [ البقرة : 173] وقوله : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [ المائدة : 3 ] .(21/181)
فالتسمية على الذبيحة من جهة المعنى : استعانة ، فإذا سمى الله : فإنه استعان في هذا الذبح بالله - جل وعلا - ؛ لأن الباء في قولك : باسم الله ، يعني أذبح متبركا ، ومستعينا بكل اسم لله - جل وعلا - ، أو بالله - جل وعلا - الذي له الأسماء الحسنى ، فجهة التسمية إذًا جهة استعانة .
وأما القصد : فهذه جهة عبودية ومقاصد ، فمن ذبح باسم الله لله كانت الاستعانة بالله والقصد من الذبح أنه لوجه الله تقربا لله - جل وعلا - ، فصارت الأحوال عندنا أربعة :
1 - أن يذبح باسم الله لله ، فهذا هو التوحيد .
2 - أن يذبح باسم الله لغير الله ، وهذا شرك في العبادة .
3 - أن يذبح باسم غير الله لغير الله ، وهذا شرك في الاستعانة ، وشرك في العبادة أيضا .
4 - أن يذبح بغير اسم الله ويجعل الذبيحة لله ، فهذا شرك في الربوبية .
فإذًا الأحوال عندنا أربعة :(21/182)
إما أن يكون هناك تسمية بالله مع القصد لله - جل وعلا - وحده ، وهذا هو التوحيد ، وهو العبادة ، فالواجب أن يذبح لله : قصدا تقربا ، وأن يسمي الله - جل وعلا - على الذبيحة ، فإن لم يسم الله - جل وعلا - وترك التسمية عمدا فإن الذبيحة لا تحل ، وإن لم يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله - جل وعلا - ولا التقرب لغيره ، وإنما ذبحها لأجل أضياف عنده أو لأجل أن يأكلها ، يعني : ذبحها لقصد اللحم ، ولم يقصد بها التقرب : فهذا جائز ، وهو من المأذون فيه ؛ لأن الذبح لا يُشترط فيه أن ينوي الذابح التقرب بالذبيحة إلى الله - جل وعلا - .
فالحاصل من الحالة الأولى : أن ذكر اسم الله على الذبيحة واجب ، وأن يكون قصد الذابح بها : التقرب إلى الله - إن كان قد نوى بها تقربا - وهذا مثل ما يذبح من الأضاحي ، أو يذبح من الهدي ذلك مما يذبحه المرء تعظيما لله - جل وعلا - مما أمر به شرعا ، فهذا الذي تذبحه لله : تقصد التقرب به إليه - سبحانه - ، فهذا من العبادات العظيمة التي يحبها الله - جل وعلا - وهي عبادة النحر والذبح .(21/183)
لكن قد يذبح المرء باسم الله ، ولكن يقول : أريدها للأضياف ، أو أريدها للحم ويعني للأكل ، ولم أتقرب بها لغير الله ، وأيضا لم أتقرب بها لله ، فنقول : هذه الحالة جائزة ؛ لأنه سمى وقال باسم الله ، ولم يذبح لغير الله ، فليس داخلا في الوعيد ، ولا في النهي ، بل ذلك من المأذون فيه .(21/184)
الحالة الثانية : أن يذبح باسم الله ، ويقصد بذلك التقرب لغير الله ، فيقول مثلا : باسم الله ، وينحر الدم ، وهو ينوي بإزهاق النفس ، وبإراقة الدم التقرب لهذا العظيم المدفون ، أو لهذا النبي ، أو لهذا الصالح ، فهذا وإن ذكر اسم الله فإن الشرك حاصل من جهة أنه أراق الدم تعظيما للمدفون ، وتعظيما لغير الله ، ويدخل في ذلك أيضا : أن يذكر اسم الله على الذبيحة ، أو على المنحور ، ويكون قصده بالذبح أن يتقرب به للسلطان ، أو للملك ، أو لأمير ما ، كما يحدث عند بعض البادية ، وكذلك بعض الحضر إذا أرادوا أن يعظموا ملكا قادما ، أو أميرا ، أو سلطانا ، أو شيخ قبيلة ، فإنهم يستقبلونه بالجمال ، أو بالبقر ، أو بالشياه ، ويذبحونها في وجهه ، فيسيل الدم عند إقباله ، فهذا الذبح وإن سمى الله عليه ، فإن الذبيحة قصد بها غير الله - جل وعلا - ولذا أفتى العلماء بتحريمها ؛ لأن إراقة دم لغير الله - جل وعلا - فلا يجوز أكلها ومن باب أولى قبل ذلك لا يجوز تعظيم أولئك بمثل هذا التعظيم ؛ لأن إراقة الدم إنما يعظم به الله - جل وعلا - وحده ؛ لأنه سبحانه هو الذي يستحق العبادة والتعظيم بهذه الأشياء وحده ، فهو الذي أجرى الدماء في العروق(21/185)
سبحانه وتعالى .
الحالة الثالثة : أن يذكر غير اسم الله على الذبيحة ، وأن يقصد بها غير الله - جل وعلا - فيقول مثلا : باسم المسيح ، ويحرك يده ، ويقصد بها التقرب للمسيح ، فهذا الذبح جمع شركا في الاستعانة ، وشركا في العبادة ، ومثله : الذين يذبحون باسم البدوي ، أو باسم الحسين ، أو باسم السيدة زينب ، أو باسم العيدروس ، أو باسم الميرغياني ، أو غيرهم من الذين توجه إليهم بعض الخلق بالعبادة ، فيذبح باسمهم ويقصد بذبحه هذا المخلوق ؛ وينوي حين ذبح أن يريق الدم تقربا لهذا المخلوق . فهذا الشرك جاء من جهتين :
الجهة الأولى : جهة الاستعانة .
والجهة الثانية : جهة العبودية والتعظيم ، وإراقة الدم لغير الله - جل وعلا - .
والحالة الرابعة : أن يذبح باسم غير الله ويجعل ذلك لله - جل وعلا - وهذا نادر الوقوع وربما يحصل ، كمن يذبحون لمعظميهم : كالبدوي ، أو العيدروس ، أو الشيخ عبد القادر ، أو غيرهم . فينوون بذلك الذبح التقرب إلى الله - جل وعلا - ، وهذا في الحقيقة راجع إلى الشرك في الاستعانة ، والشرك في العبادة .(21/186)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مَعرِض كلام له في هذه المسائل قال : " ومعلوم أن الشرك بالله - جل وعلا - والصورة المتقدمة في الحالة الثانية وهي : أن يذبح لسلطان ونحوه ، فبعض العلماء لم يطلق القول عليها : بأنها شرك وإنما قال : تحرم ؛ لأجل أنه قد لا يقصد بذلك تعظيم المذبوح له كتعظيم الله - جل وعلا - ، فالمقصود : أن قصد غير الله بالذبح شرك في العبودية ، وذكر غير اسم الله على الذبيحة شرك في الاستعانة ؛ ولهذا قال - جل وعلا - { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] يعني : إن أطعتموهم في الشرك فإنكم مشركون ، كما أنهم مشركون .(21/187)
وأنبه هنا على مسألة مهمة : وهي أن الكلام في مسائل التوحيد تقريرا واستدلالا ، وبيان وجه الاستدلال : من الأمور الدقيقة ، والتعبير عنها يحتاج إلى دقة من جهة المعبر ، وأيضا من جهة المتلقي ، أقول هذا ؛ لأن بعض الناس قد استشكلوا بعض العبارات ومدار الاستشكال : أنهم لم يدققوا ، ولم يقيدوا ما يقال ، فهم إما أن يحذفوا قيدا ، أو يحذفوا كلمة ، أو يأخذوا المعنى الذي دل عليه الكلام ، ويعبروا عنه بطريقتهم ، وهذا غير مناسب ، لهذا ينبغي أن يكون المتلقي لهذا العلم دقيقا فيما يسمع ؛ لأن كل مسألة لها ضوابطها ، ولها قيودها ، وأيضا : فإن بعض المسائل يكون الكلام عليها تارة مجملا، ويكون المتلقي قد سمع أحد أحوال المسألة، وهي تحتمل تفصيلا ، لكن كان الكلام في مقام الإجمال : غير الكلام في مقام التفصيل .(21/188)
قال الإمام : محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - : وقول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لَا شَرِيكَ لَهُ } [ الأنعام : 162 - 163 ] هذه الآية تدل على أن عبادة الصلاة ، وعبادة النسك - وهو الذبح - هما لله - جل وعلا - وحده . وقوله تعالى : قُلْ إِنَّ و( إِنَّ ) من المؤكدات ، ومجيء التأكيد في الجمل الخبرية يفيد : أن من خوطب بذلك مُنكِر لهذا الأمر ، أو مُنَزَّل مَنْزِلَةَ المُنكِر له ، ولهذا يكون الاستدلال بهذه الآية على التوحيد من جهة أنها خوطب بها من ينكر أن الصلاة لله وحده استحقاقا ، وأن الذبح لله وحده استحقاقا - هم المشركون - فدل على أن هذه الآية في التوحيد وأن الذبح يجب أن يكون لله - جل وعلا - وأن الذبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب - جل وعلا - .(21/189)
والنسك في قوله : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } هو : الذبح أو النحر ، يعني : التقرب بالدم ، والتقرب بالدم لله - جل وعلا - : عبادة عظيمة ؛ لأن الذبائح ، أو المنحورات من الإبل أو البقر ، أو الغنم ، أو الضأن ، مما تعظم في نفوس أهلها ، ونحرها تقربا إلى الله - جل وعلا - والصدقة بها عبادة عظيمة ، فيها إراقة الدم لله ، وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله - جل وعلا - ، وفيها حسن الظن بالله تبارك وتعالى ، وفيها التخلص من الشح ، والرغب فيما عند الله سبحانه ، بإزهاق نفس عزيزة عند أهلها ؛ ولهذا كان النحر ، والذبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله - جل وعلا - .
وقد دلت هذه الآية على أن النحر والصلاة عبادتان ؛ لأنه جعل النسيكة لله ، والله - جل وعلا - له من أعمال خلقه العبادات فدل قوله ( وَنُسُكِي ) على أن النسك عبادة من العبادات ، وأنه مُستحَق لله - جل وعلا - .(21/190)
واللام - هنا - في قوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } متعلّقة بمحذوف خبر (إن) في قوله { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } وهي تفيد الاستحقاق ، واللام في اللغة تأتي لمعان ، واستعمالات ؛ فتأتي للملك ، كما في قوله تعالى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } يعني : يملكونها . وتأتي للاختصاص - وهو شبه الملك - وتأتي للاستحقاق ، كما في قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني : أن جميع أنواع المحامد مستحقة لله - جل وعلا - .(21/191)
واللام في قوله سبحانه { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } مع أنها واحدة ، لكن يكون معناها برجوعها للأول غير معناها برجوعها للمحيا والممات ، فإن الله - جل وعلا - قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } والمحيا والممات يعني : الإحياء والإماتة ، وهذه بيد الله - جل وعلا - وملك له ، فهو الذي يملكها سبحانه ؛ لأنها من أفراد ربوبيته - جل وعلا - على خلقه ، فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية ، وعلى توحيد الربوبية فقوله : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } يدل على توحيد العبادة ، وقوله { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } يدل على توحيد الربوبية ، واللام في قوله : لِلَّهِ إذا أرجعتها للأوليين وهما : الصلاة ، والنسك ، كان معناها : الاستحقاق ، وإذا أرجعتها للأخير كان معناها الملك ولهذا يقول أهل التفسير هنا : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } لله استحقاقا ، { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } لله ملكا ، وتدبيرا ، وتصرفا .(21/192)
وقوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ لا شَرِيكَ لَهُ } فيه وجه استدلال ثالث على التوحيد ، حيث قال : { لَا شَرِيكَ لَهُ } يعني : فيما مر ، أي لا شريك له في الصلاة ، والنسك ؛ فلا يتوجه بالصلاة والنسك إلى أحد مع الله - جل وعلا - أو من دونه ، وكذلك لا شريك له في ملكه للمحيا والممات ، بل هو المتفرد سبحانه بأنواع الجلال ، وأنواع الكمال ، وهو المستحق للعبادة ، وهو ذو الملكوت الأعظم .
قال : وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] فأمر بالصلاة ، وأمر بالنحر ، وإذا أمر به فهو داخل في حد العبادة ؛ لأن العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة . فأمره - جل وعلا - بالصلاة دليل على أنها محبوبة لديه ، وأمره سبحانه بالنحر دليل على أنه محبوب له ، ومرضي ، فتكون الصلاة والنحر إذًا عبادة لله - جل وعلا - .
وعلى التعريف الآخر : إن العبادة : هي كل ما يتقرب به العبد إلى الله - جل وعلا - ممتثلا به الأمر والنهي . ويكون النحر عبادة أيضا ؛ لأنه يُعمل تقربا إلى الله - جل وعلا - بامتثال الأمر الوارد فيه .(21/193)
قال سبحانه { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [ الكوثر : 1 ] والكوثر هو : الخير العظيم ، ومنه النهر الذي في الجنة . والفاء في قوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] هي فاء السببية ، والمعنى : أنه بسبب ذلك : اشكر الله - جل وعلا - بتوحيده ، بأن صَلِّ لربك الذي أعطاك الخير الكثير ، وتقرب إليه بالنحر ، وبنَسْك النسائك له سبحانه ؛ لأن الخير الذي حصل لك إنما أسداه - جل وعلا - وحده .
إذن : فوجه الدلالة من هذه الآية على الباب : أن النحر عبادة ، وقد قال - جل وعلا - { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] يعني : وانحر لربك ، فأصبح النحر والذبح لغير الله خارجا عما أمر الله فمن نحر أو ذبح لغير الله : فقد صرف العبادة لغيره - جل وعلا - .
قال - رحمه الله - : وعن علي رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غيّر منار الأرض » رواه مسلم .(21/194)
الشاهد من هذا قوله : « لعن الله من ذبح لغير الله » ، وهذا وعيد يدل على أن الذابح لغير الله ملعون ، واللعن هو : الطرد والإبعاد من رحمة الله - جل وعلا - فإذا كان الله هو الذي لعن فيكون قد طرد وأبعد هذا الملعون من رحمته الخاصة . وأما رحمته العامة فهي تشمل المسلم والكافر ، وجميع أصناف الخلق . وإن كان قوله : « لعن الله من ذبح لغير الله » دعاء عليه باللعن ؛ فكأن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك ؛ داعيا على من ذبح لغير الله - جل وعلا - باللعن وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله - جل وعلا - ، وهذا يدل على أن الذبح لغير الله من الكبائر ومن المعلوم أن اقتران ذنب من الذنوب باللعن يدل على أنه من كبائر الذنوب ، وهذا ظاهر من جهة : أن الذبح لغير الله شرك بالله - جل وعلا - يستحق صاحبه اللعنة والطرد والإبعاد من رحمته - جل وعلا - .
واللام في قوله : « لعن الله من ذبح لغير الله » معناها : أن من فعل ذلك من أجل غير الله تقربا إليه وتعظيما ، فذبح لغير الله تقربا إلى ذلك الغير ، وتعظيما له فهو مستحق للعن ، وهذا وجه مناسبة هذا الحديث لـ " باب ما جاء في الذبح لغير الله " يعني : من الوعيد وأنه شرك وصاحبه ملعون .(21/195)
الحديث الآخر وجه الدلالة منه : أن التقريب للصنم بالذبح كان سببا لدخول النار وذلك أن ظاهر المعنى يدل أن من فعله كان مسلما ، وأنه دخل النار بسبب ما فعل ، وهذا يدل على أن الذبح لغير الله شرك أكبر ؛ لأن ظاهر قوله : « دخل النار » يعني : استوجبها مع من يخلد فيها .
وفيه وجه آخر للدلالة : وهو أنه إذا كان تقريب هذا الذي لا قيمة له - وهو الذباب - سببا في دخول النار ، فإنه يدل على أن من قرب ما هو أبلغ ، وأعظم منفعة عند أهله وأغلى ، أنه سبب أعظم لدخول النار .(21/196)
وقولهم هنا : " قرِّب " : يعني اذبح تقربا ، والملاحَظ هنا في هذا الحديث ، أنه لم يدل على أنهم أكرهوه على هذا الفعل ؛ لأنه قال « مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا » . . فظاهر قوله : « لا يجوزه أحد » يعني أنهم لا يأذنون لأحد بمجاوزته عن ذلك الطريق حتى يقرب ، وهذا ليس إكراها ؛ إذ يمكن أن يقول : سأرجع من حيث أتيت ولا يجوز ذلك الموضع ويتخلص من أذاهم ، فهذا يدل على أن الإكراه بالفعل لم يحصل من أولئك فلا يدخل هذا في قوله : { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } [ النحل : 106 ] لأنه ليس في الحديث دلالة - كما هو ظاهر - على حصول الإكراه ، وإنما قال : « مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا » . . فما صفة عدم السماح بعدم المجاوزة ، هل هي أنه لا يجوزه حتى يقتل أو يقرب؟ أو يجوزه حتى يقرب أو يرجع؟ استظهر بعض العلماء من قتلهم لأحد الرجلين أن المعنى لا يجوزه حتى يقرب ، أو يقتل ، وأن هذا عُلم بالسياق فصار ذلك نوع إكراه ؛ فلهذا استشكلوا كون هذا الحديث دالا على أن من فعل هذا الفعل يدخل النار مع أنه مكره .(21/197)
والجواب عن هذا الإشكال : أن هذا الحديث على هذا القول وما فيه من عدم إعذار المكرَه ولو بالقتل كان في شرع مَن قبلنا . وأما رفع الإكراه ، أو جواز قول كلمة الكفر ، أو عمل الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان فهذا خاص بهذه الأمة ، هذا ما أجاب به بعض أهل العلم .
وعلى القول الأول الذي قدمناه وهو أن السياق ليس فيه ما يُعين أنهم هددوه بالقتل فيكون الحديث مجملا ، فكيف يُحمل الحديث على شيء مجمل لم يعين .
وقوله : « فضربوا عنقه » ليس فيه إشكال ، ولا يَرِدُ على ما قلناه ؛ لأنهم ربما قتلوا الذي لم يقرب شيئا ، لأنه أهان صنمهم بقوله : « ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله - عز وجل - » لهذا استشكل هذا الحديث طائفة من أهل العلم كما سبق وهو بحمد الله ليس بمشكل ؛ لأنه إما أن يحمل على أنه فيمن كان قبلنا فلا وجه إذًا لدخول الإكراه ، أو يحمل على أنهم لم يكرهوه حين أراد المجاوزة ولكن قتلوه لأجل قوله : « لم أكن لأقرب لأحد شيئا دون الله - عز وجل - » .(21/198)
إذن فهذا الباب وهو قوله : " باب ما جاء في الذبح لغير الله " ظاهر في الدلالة على أن التقرب لغير الله - جل وعلا - بالذبح شرك به - سبحانه - في العبادة ؛ فمن ذبح لغير الله ؛ تقربا وتعظيما ؛ فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة .(21/199)
" باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله "
وقوله تعالى : { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } . وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : « نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا : لا ، قال " فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا ، قال : " أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم » رواه أبو داود (1) وإسناده على شرطهما .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير قوله { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } .
الثانية : أن المعصية قد تؤثر في الأرض ، وكذلك الطاعة .
الثالثة : رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ؛ ليزول الإشكال .
الرابعة : استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك .
الخامسة : أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به ؛ إذا خلا من الموانع .
السادسة : المنع منه ؛ إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله .
_________
(1) أخرجه أبو داود (3313) قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (1 / 436) : إسناده على شرط الصحيحين .(21/200)
السابعة : المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله .
الثامنة : أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة ؛ لأنه نذر معصية .
التاسعة : الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده .
العاشرة : لا نذر في معصية .
الحادية عشرة : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك .
الشرح :
قال الإمام - رحمه الله - : " باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله " . قوله : " لا يذبح لله " هذا على جهة النفي المشتمل على النهي ؛ لأن من أساليب اللغة العربية أنه يُعْدَل عن التصريح بالنهي إلى التصريح بالنفي ؛ ليدل دلالة أبلغ على أن النفي والنهي معا مقصودان ، فكأنه لا يصلح أن يقع أصلا ؛ ولهذا أتى بصيغة النفي فقال : " باب لا يذبح لله " .
وقال بعض أهل العلم : يحتمل أن تكون (لا) للنهي ، فيكون الفعل المضارع بعدها مجزوما ، أي : " باب : لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله " .
وقوله : " لله " يعني : أن تكون النسيكة ، أو أن تكون الذبيحة مرادا بها وجه الله - جل جلاله - .(21/201)
" بمكان يذبح فيه لغير الله " : و(الباء) هنا لها معنى زائد على كلمة (في) ، وهذا المعنى الزائد أنها أفهمت معنى الظرفية ومعنى المجاورة جميعا ؛ لأن (الباء) تكون للمجاورة أيضا كما تقول : مررت بزيد ، يعني ، بمكان قريب من مكان زيد ، أو بمكان مجاور لمكان زيد ، والظرفية بـ (في) نفيد أنه في المكان نفسه ، فاستعمال حرف (الباء) يفيد أنه مجاور لذلك المكان . وهذان المعنيان معا : مقصودان ، وهو أنه : لا يذبح لله بمجاورة المكان الذي يذبح فيه لغير الله ، ولا في نفس المكان الذي يذبح فيه لغير الله ؛ لأنهما بهذا يشتركان مع الذين يذبحون لغير الله - جل وعلا - .(21/202)
وصورة المسألة : أن يوجد مكان يُذبح فيه لغير الله ، كمكان عند قبر ، أو عند مشهد ، أو عند مكان معظم ، واعتاد المشركون التقرب بالذبائح لأصنامهم وأوثانهم في هذا المكان ، فإذا كانوا يتقربون في هذا المكان للقبر أو نحوه ويذبحون لصاحبه يعني : من أجله فإنه لا يحل أن يذبح المسلم الموحد في هذا المكان ولو ذبحه خالصا لله - عز وجل - ؛ لأنه يكون قد شابه أولئك المشركين في تعظيم الأمكنة التي يتعبدون فيها بأنواع العبادات التي يصرفونها لغير الله - جل وعلا - ، فالذبح لله وحده - وإن كان خالصا له - إن كان في المكان الذي يتقرب فيه لغير الله فإنه لا يحل ولا يجوز ، ووسيلة من وسائل الشرك .(21/203)
قال الشيخ - رحمه الله - ورفع درجاته في الجنة : وقول الله تعالى : { لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } . . . هذا النهي هو عن القيام في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ، وقد أقاموه إرصادا ، ومحادة لله ورسوله ، وتفريقا بين المؤمنين ، فهو مكان أقيم على الخيانة وعلى مضادة الإسلام وأهله ؛ فلهذا لما كانت هذه هي غاية مَن أقامه فإن مشاركتهم فيه بالصلاة لا تجوز ؛ لأنه إقرار لهم أو تكثير لسوادهم ، وإغراء للناس للصلاة فيه ، فنهى الله - جل وعلا - نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن أن يصلوا فيه .
ومناسبة الآية للباب ظاهرة : وهي أن الله - جل وعلا - نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار ، ومعلوم أن صلاته عليه الصلاة والسلام ، وصلاة المؤمنين معه هي خالصة لله - جل وعلا - دون من سواه ، ومع هذا فقد نهوا عن الصلاة فيه ، مع أنهم مخلصون ؛ ليس عندهم نية الإضرار ولا التفريق ولا الإرصاد ، لكن نهاهم عن الصلاة فيه ؛ لأجل هذه المشاركة والمشابهة التي قد تغري بإتيان ذلك المكان .(21/204)
الصورة متحققة وموجودة فيمن ذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ، فإنه وإن كان مخلصا ، لكنه قد يدعو إلى تعظيم ذلك المكان بفعله ، وإن لم يقصد التعظيم . لكن هنا إيراد : وهو أنه جاء الإذن عن الصحابة بالصلاة في الكنيسة ، وقد صلى عمر رضي الله عنه في كنيسة بيت المقدس (1) ومن الصحابة رضوان الله عليهم من صلى في كنائس بعض البلاد فصلاتهم في الكنائس لله - جل وعلا - أليست مشابهة للصلاة في مسجد الضرار أو للذبح في مكان يذبح فيه لغير الله ؟
_________
(1) انظر صحيح البخاري باب الصلاة في البيعة وفيه أثر عمر وابن عباس وانظر الإنصاف ج1 / 496 والفتاوى 22 / 162 وأحكام أهل الذمة 6 / 123 .(21/205)
الجواب : أن هذا الإيراد ليس بوجيه ؛ ذلك لأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار ، وعن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله إنما هو : لأن صورة العبادة واحدة ؛ فصورة الذبح من الموحد ، ومن المشرك واحدة ، وهي إمرار السكين وهي : آلة الذبح على الموضع من البهيمة المراد ذبحها ، وإهراق دمها في ذلك المكان ، والصورة الحاصلة من الموحد ومن المشرك واحدة ، ولهذا فإنه لا تمييز بين الصورتين - من حيث الظاهر - وإن اختلفت مقاصدهما فكذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في مسجد الضرار فيها مشابهة من حيث الصورة لصلاة المنافقين ، فرجع الاختلاف إلى اختلاف ما في القلب ؛ والنيات ، ومقاصد القلوب مما تخفى على الناس ، ولهذا تقع المفسدة من حيث اشتباه الصورة الظاهرة ، ولا يحصل بذلك الفعل ولو مع خلوص النية مصلحة .
وأما الصلاة في الكنيسة ، فإن صورة الفعل مختلفة ؛ لأن صلاة النصارى ليست على هيئة وصورة المسلمين ، فيعلم من رأى المسلم يصلي أنه لا يصلي صلاة النصارى فليس في فعله إغراء بصلاة النصارى ، ومشاركتهم فيها ، فهذا هو الفرق بين المسألتين ، وهو واضح بأدنى تأمل .(21/206)
قال : وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : « نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد " ؟ قالوا : لا ، قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ ، قالوا : لا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوفِ بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم » . رواه أبو داود .(21/207)
وإسناده على شرطهما : هذا الحديث فيه : أن رجلا نذر أن ينحر إبلا ببوانة ، و (بوانة) : اسم موضع ، فلما نذر أن ينحر في هذا الموضع : استفصله النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المقام يقتضي الاستفصال ، إذ يتبادر إلى الذهن سؤال عن تخصيص هذا الرجل بوانة بأن ينحر فيها الإبل ، فقد تكون لأن فيها عيدا من أعيادهم ، أو لأن فيها وثنا من أوثان الجاهلية كان يعبد في ذلك الموضع فهذا هو المتبادر من التخصيص ؛ لأنه في الغالب يكون لغرض العبادة ؛ ولهذا استفصله النبي عليه الصلاة والسلام فقال : « هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا » : فهذا السؤال يدل على أنه لو وجد هذا الوصف وهو أنه كان ثَمَّ وثن من أوثان الجاهلية يعبد لم يجز النحر في ذلك الموضع ، وهو المراد من إيراد هذا الحديث في الباب ، وهو وجه الاستدلال .(21/208)
قوله : « فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ » : العيد هو : المكان أو الزمان الذي يعود ، أو يُعاد إليه ، فالعيد قد يكون مكانيا ؛ لأنه اسم للمكان الذي يعتاد المجيء إليه في وقت معتاد ؛ ومثال ما يراد له المكاني قوله عليه الصلاة والسلام : « لا تجعلوا قبري عيدا » (1) يعني : لا تجعلوا هذا المكان مكانا تعتادون المجيء إليه .
وكذلك الأزمنة تكون أعيادا ؛ لأنها تعود في وقت معين .
فقوله : « هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ » يعني : عيدا مكانيا ؛ لأنه قال : « هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ » ويحتمل أيضا أن يكون عيدا زمانيا .
ومن المعلوم : أن أعياد المشركين الزمانية والمكانية مرتبطة بأديانهم الشركية ، فيكون المعنى إذًا : أنهم يتعبدون في تلك الأعياد بعباداتهم الشركية ، ومن أعظم ما يفعلونه في هذه الأعياد ، التقرب إلى معبوداتهم بالذبح ، وإراقة الدماء .
فدل ذلك على أن مشاركة المشركين في المكان الذي يتقربون فيه لغير الله بصورة مشابهة لفعلهم ولو ظاهرا : لا يجوز ؛ لأنه مشاركة لهم في الفعل الظاهر ولو كان الفاعل مخلصا لا يذبح إلا لله ، أو لا يصلي إلا لله - جل وعلا - .
_________
(1) أخرجه أبو داود (2024) .(21/209)
قال العلماء : قوله صلى الله عليه وسلم : « أوفِ بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله » فيه : ترتيب ما بعد (الفاء) على ما قبلها بالفاء وهذا يدل على أن سبب الإذن بالوفاء بالنذر : أن ما قبله ليس بمعصية ، ويدل الاستفصال ، على أن الذبح لله في مكان فيه وثن يعبد ، أو فيه عيد من أعياد المشركين : معصية لله - عز وجل - ، وبهذا يستقيم ما أراده الشيخ - رحمه الله - من الاستدلال والاستشهاد بهذا الحديث تحت ذلك الباب .(21/210)
" باب من الشرك النذر لغير الله تعالى "
وقول الله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [ الإنسان : 7 ] وقوله : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ البقرة : 270 ] .
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : وجوب الوفاء بالنذر .
الثانية : إذا ثبت كونه عبادة لله ، فصرفه إلى غيره شرك .
الثالثة : أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به .
الشرح :
قوله : " باب من الشرك النذر لغير الله تعالى " (مِن) هاهنا تبعيضية . قوله : " من الشرك النذر " : مبتدأ مؤخر ، والخبر قبله ، وأصل الجملة : النذر لغير الله كائن من الشرك . والشرك هنا : المقصود : به الشرك الأكبر .
ولا شك أن النذر لغير الله شرك أكبر بالله - جل وعلا - ، ووجه كونه شركا بالله - جل وعلا - : أن النذر هو : إلزام المكلف نفسه بعبادة لله - جل وعلا - إما مطلقا ، وإما بقيد ، فهذه حقيقة النذر .
_________
(1) أخرجه البخاري ( 6696 ) و( 6700 ) .(21/211)
ومما يدل أيضا على أن النذر عبادة : أن الله - جل وعلا - مدح الذين يوفون بالنذر فقال : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } [ الإنسان : 7 ] ومدحه لهم يدل على أن الوفاء بالنذر أمر محبوب لله - عز وجل - ، ولا يكون محبوبا إلا وهو مشروع ، وذلك يقتضي أنه عبادة من العبادات ، بل إن الوفاء بالنذر واجب ؛ لأنه إلزام بطاعة ، وقد قال : صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » .
ومما يدل أيضا على كون النذر عبادة قوله : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 270 ] ووجه الدلالة : محبة الله - جل وعلا - لذلك الذي حصل منهم تعظيما له - سبحانه وتعالى - بالنذر .
وإذا كان كذلك : فإنه عبادة من العبادات ، فمن صرفه لغير الله - جل وعلا - كان مشركا بالله - جل وعلا - .
وها هنا سؤال معروف قد يَرِدُ في هذا المقام ، وهو أن النذر مكروه قد كرهه النبي صلى الله عليه وسلم ، وسئل عنه فقال : « إنه لا يأتي بخير » (1) فكيف يكون عبادة وقد كرهه عليه الصلاة والسلام ؟؟!
_________
(1) أخرجه البخاري (6693) ومسلم (1639) (4) .(21/212)
والجواب : أن النذر قسمان : نذر مطلق ، ونذر مقيد ، والنذر المطلق هو : أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله - جل وعلا - ، هكذا بلا قيد ، كأن يقول مثلا : لله علي نذر أن أصلي ركعتين ، وليس هذا النذر في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل ، أو شيء حدث له ، فيلزم نفسه بعبادة : كصلاة ، أو صيام ، أو نحو ذلك ، فهذا هو النذر المطلق وهو : إلزام العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - أو بعبادة وليس هذا النذر هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام ، بل النذر المكروه هو القسم الثاني : وهو النذر المقيد ، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : « إنما يُستخرج به من البخيل » (1) . وحقيقته : أن يلزم العبد نفسه بطاعة لله - جل وعلا - مقابل شيء يحدثه الله - جل وعلا - له ، ويقدره ، ويقضيه له ، كأن يقول مثلا : إن شفى الله مريضي فلله علي نذر : أن أتصدق بكذا وكذا ، أو إن نجحت فسأصلي ليلة ، أو إن عُيِّنت في هذه الوظيفة فسأصوم أسبوعا ، ونحو ذلك ، فهذا كأنه يشترط بهذا النذر على الله - جل وعلا - فيقول : يا رب إن أعطيتني كذا وكذا : صمتُ لك ، وإن أنجحتني صليتُ ، أو تصدقتُ ، وإن شفيتَ مريضي فعلتُ كذا وكذا ، يعني : مقابلةً للفعل بالفعل .
_________
(1) أخرجه مسلم (1639) (2) .(21/213)
وهذا هو الذي وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : « إنما يُستخرج به من البخيل » لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها ، فصار بما أعطاه الله من النعمة أو بما دفع عنه من النقمة كأنه في حِس ذلك الناذر قد أعطي الأجر ، وأعطى ثمن تلك العبادة .
وهذا المعنى الخاطئ يستحضره كثير من العوام الذين يستعملون النذور ، فإنهم يظنون أن حاجتهم لا تحصل إلا بالنذر ، وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وغيره من أهل العلم : إن من ظن أنه لا تحصل حاجاته إلا بالنذر ، فإن اعتقاده هذا مُحرَّم ؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل ، وهذا سوء ظن بالله - جل وعلا - وسوء اعتقاد فيه - سبحانه وتعالى - ، بل هو المتفضل المنعم على خلقه .
فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن النذر المطلق لا يدخل في الكراهة ، لكن إذا أطلقنا القول بأن : النذر عبادة ، فهل يدخل في هذا الإطلاق النذر المقيد؟ والجواب : أن النذر المقيد له جهتان : الأولى : وفاؤه بالنذر الذي ألزم نفسه به فإنه يكون بذلك قد تعبد الله عبادة من هذه الجهة فيما يظهر .(21/214)
الجهة الثانية : جهة الكراهة المتعلقة بهذا النذر المقيد ، وهي إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة ، فإنه في النذر المقيد إذا قال : إن كان كذا وكذا فلله علي نذر كذا وكذا ، كانت الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد ، لا إلى أصل النذر ، دل على ذلك : التعليل ؛ حيث قال : " فإنما يُستخرج به من البخيل " .
فلا إشكال إذًا . فالنذر عبادة من العبادات العظيمة .
وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن الاستدلال نوعان :
النوع الأول : استدلال عام ، يعني : أن كل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة : يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله ، فيكون الاستدلال بهذا النوع من الأدلة ، على تحريم النذر لغير الله ، وأنه شرك كالآتي : دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده ، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله - جل وعلا - وأن من صرفها لغير الله - جل وعلا - فقد أشرك ، والنذر عبادة من العبادات ، فمن نذر لغير الله : فقد أشرك .(21/215)
والنوع الثاني من الاستدلال : هو أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها ، كأن تستدل على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك ، وكأن تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك ، وكذا في الاستعاذة ونحو ذلك .
فالدليل على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا ، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر ، يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال : استدلال عام بكل آية أو حديث فيهما الأمر بإفراد الله بالعبادة ، والنهي عن الشرك فتدخل هذه الصورة فيها ؛ لأنها عبادة ، بجامع تعريف العبادة .(21/216)
والثاني : أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة ؛ ولهذا قال الشيخ - رحمه الله - هنا : " باب من الشرك النذر لغير الله " واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر . وأما الآيات التي قدمها في أول الكتاب ، كقوله - جل وعلا : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] وكقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وكقوله : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ الأنعام : 151 ] وكقوله : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } فهذه أدلة تصلح لأن يستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك ؛ فتقول : النذر لغير الله عبادة ، والله - جل وعلا - نهى أن تصرف العبادة لغيره ، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك ، فتقول : النذر عبادة ؛ لأنه داخل في حد العبادة ؛ لأن الله - جل وعلا - يرضاه ، ومدح الموفين به .(21/217)
فالدليل الخاص إذًا هو : أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر ؛ ولهذا أورد الشيخ هنا الدليل التفصيلي ، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة ، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف . ومن الفقه في الأدلة الشرعية : أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يراعي التنويع ؛ لأن تنويع الاستدلال ، وإيراد الأدلة من عدة وجوه من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله وللشرك به - جل وعلا - ، فإذا أوردت على الخصم مرة دليلا خاصا ، وتارة دليلا عاما ، ونوعت في ذلك ، فإن هذا مما يضيق به المخاصم ، ويقطع حجته ، أما إذ لم تورد إلا دليلا واحدا فربما أوله لك ، أو ناقشك فيه ، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة ، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم ، وحفظ الأدلة : فإنه يقوى على مجادلة الخصوم ، والله - جل وعلا - وعد عباده بالنصر وكما في قوله : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ الزمر : 51 ] وقد قال الشيخ - رحمه الله - في " كشف الشبهات " : والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين ،(21/218)
وهذا صحيح ؛ فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد ، وأخذوها عن أهلها ، عندهم من الحجج ، ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين .
وقول الله تعالى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [ الإنسان : 7 ] وجه الاستدلال به على كون النذر عبادة ظاهر : وهو أن الله - جل وعلا - مدح الموفين بالنذر ، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوب له - جل وعلا - ، وأنه مشروع ، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات ، فيكون صرفه لغير الله - جل وعلا - شركا أكبر .
وكذلك قوله { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 270 ] فإن الله عظم النذر بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } وعظم أهله ، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله - جل وعلا - .(21/219)
قوله : وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » : وجه الدلالة من هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوفاء بالنذر فقال : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » وهذا فيه إيجاب الوفاء بالنذر المطلق الذي يكون طاعة ، كأن يقول : لله على أن أصلي كذا وكذا ، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره ، وكذا إن كان النذر مقيدا ، كأن يقول : إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بمائة ريال ، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله - جل وعلا - ، وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة ؛ لأن الواجب من أنواع العبادات ، وأن ما كان وسيلة إليه فإنه أيضا عبادة ؛ لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هي النذر ، فلولا النذر لم يأت الوفاء ، فأُوجب الوفاء ؛ لأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة .(21/220)
وأما المنع من الوفاء بنذر المعصية ، الذي دل عليه قوله : . . « ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » ؛ فلأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله - جل وعلا - فيه معارضة لنهي الله - جل وعلا - عن العصيان ، وإذا نذر العبد العصيان ، فإن النذر - كما هو معلوم في الفقه - قد انعقد ، ويجب عليه ألا يفي بفعل تلك المعصية ، لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين ، ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه .
فالمقصود من هذا : أن استدلال الشيخ - رحمه الله - بالشق الأول ، وهو قوله : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » ظاهر في الدلالة على أن النذر عبادة ، وكذلك في قوله : « ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » حيث أوجب عليه كفارة يمين ، فهذا يدل على أن أصله منعقد ، انعقد لكونه عبادة ، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر به - جل وعلا - .
فالنذر لله - جل وعلا - عبادة عظيمة - كما ذكرنا - والنذر لغير الله - جل وعلا - أيضا عبادة ، فإذا توجه الناذر لغير الله بالنذر فقد عبده ، وإذا توجه الناذر لله - جل وعلا - بالنذر فقد عبد الله - جل وعلا - .(21/221)
فالنذر - على أية حال كان - لله ، أو لغير الله ، هو عبادة ، ثم إن كان لله فهو عبادة لله - جل وعلا - وإن كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير ، والله أعلم .(21/222)
" باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى "
وقول الله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] .
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك » رواه مسلم (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الجن .
الثانية : كونه من الشرك .
الثالثة الاستدلال على ذلك بالحديث ؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة ؛ قالوا : لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك .
الرابعة : فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره .
الخامسة : أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية ؛ من كف شر ؛ أو جلب نفع ؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2708) .(21/223)
هذا الباب عنونه الإمام - رحمه الله - بقوله " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى " وهذا الباب مع الذي قبله والأبواب التي سلفت أيضا : كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب ، وبيان الغرض من تأليفه ، وأن التوحيد إنما يُعرف بضده ، فمن طلب التوحيد فليطلب ضده لأنه - أعني التوحيد - يجمع بين الإثبات والنفي ، فيجمع بين الإيمان بالله ، وبين الكفر بالطاغوت ، فمن جمع بين هذين الأمرين فإنه يكون قد عرف التوحيد ؛ ولهذا فصل الشيخ - رحمه الله - أفراد توحيد العبادة ، وفصل أفراد الشرك ؛ فبين أصناف الشرك الأصغر : القولي والعملي ، وبين أصناف الشرك الأكبر : العملي والاعتقادي ، فذكر الذبح لغير الله ، وذكر النذر لغير الله ، والذبح والنذر : عبادتان عظيمتان .(21/224)
فعبادة الذبح فعلية عملية ، وعبادة النذر عبادة قولية إنشاءً ، وعملية وفاءً ، فالشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل ، أنواع ، وقد ذكر منها - على سبيل التمثيل - الذبح لغير الله ، كما أنه ذكر النذر لغير الله ، مثالا على أنواع الشرك الأكبر الحاصل من جهة القول ، وكل من الذبح والنذر يصاحبهما اعتقاد تعظيم المخلوق ، كتعظيم الله - عز وجل - وهذا شرك ، قال تعالى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] وقال : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97 - 98 ] ثم عطف على ذلك : " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله " لأن الاستعانة بغير الله تكون بالقول الذي معه اعتقاد ؛ ولذلك ناسبت أن تكون بعد " باب من الشرك النذر لغير الله " .(21/225)
وقوله - رحمه الله - : " من الشرك " : (من) هاهنا تبعيضية كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب ، والشرك المقصود هنا هو : الشرك الأكبر ، أي من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله ؛ لأن (الألف واللام) أو (اللام وحدها) الداخلة على قوله : " الشرك " هي : للعهد ؛ فتكون عائدة إلى الشرك المعهود ، وهو الأكبر ، يعني : باب من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله .
والاستعاذة : طلب العياذ ، يقال استعاذ : إذا طلب العياذ ، والعياذ : ما يؤمِّن من الشر ، كالفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمِّن منه ، أو إلى من يؤمِّن منه ، ويقابلها اللياذ ، وهو : الفرار إلى طلب الخير ، والتوجه إليه ، والاعتصام به ، والإقبال عليه ، لطلب الخير .(21/226)
والاستعاذة : استفعال ، ومادة (استفعل) موضوعة في الغالب للطلب ، فغالب مجيء (الألف والسين والتاء) للطلب ؛ فمعنى : استعاذ ، واستعان ، واستغاث ، واستسقى : طلب تلك الأمور ، وتأتي أحيانا للدلالة على كثرة الوصف في الفعل ، كما في قوله - جل وعلا - : { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } [ التغابن : 6 ] ؛ فـ (استغنى) ليس معناها طلب الغنى ، وإنما جاء بالسين والتاء هنا : للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل ، وهو : الغني . فـ (استعاذ) و(استغاث) و(استعان) ، وأشباه ذلك فيها طلب ، والطلب من أنواع التوجه والدعاء ، لأن الطلب يدل على أن هناك من يُطلب منه والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب : كان الفعل المتوجه إليه يسمى دعاء ؛ ولهذا فإن حقيقة الاستعاذة لغة ، ودلالتها شرعا هي : طلب العوذ ، أو طلب العياذ ؛ وهو الدعاء المشتمل على ذلك ، والاستغاثة هي : طلب الغوث وهو دعاء مشتمل على ذلك ، وهكذا في كل ما فيه طلب نقول : إنه دعاء ، وإذا كان دعاء فإنه يكون عبادة ، والعبادة حق لله وحده دون من سواه ، كما قام الإجماع على هذا ، ودلت النصوص عليه ، كقوله سبحانه : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا(21/227)
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] وكقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] كقوله : أيضا : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ النساء : 36 ] إذًا : فكل فعل من الأفعال ، أو قول من الأقوال فيه طلب : يكون عبادة ؛ لأنه دعاء ؛ وكل طلب : فهو دعاء . والطلب يختلف نوعه ومسماه باختلاف المطلوب منه : فإذا كان الطلب من مقارن : فيسمى التماسا ، وإذا كان ممن هو دونك : فيسمى أمرا ، وإذا كان ممن هو أعلى منك : فيسمى دعاء . والمستعيذ والمستغيث ، لا شك أنه طالب ممن هو أعلى منه ؛ لحاجته إليه ؛ فلهذا يصح أن يكون كل دليل فيه ذكر إفراد الله - جل وعلا - بالدعاء أو بالعبادة ، دليلا على خصوص هذه المسألة ، وهي : أن الاستعاذة من العبادات العظيمة ، وإذ كانت كذلك ، فإن إفراد الله بها واجب .(21/228)
وقوله هنا : " من الشرك الاستعاذة بغير الله " : هذا الغير شامل لكل من يتوجه إليهم بالعبادة ، ويشركونهم مع الله ، ويدخل في ذلك - بالأولية - ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليهم بالعبادة : من الجن ، والملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، والصالحين ، والأشجار ، والأحجار ، وغير ذلك من معبوداتهم .
لكن هل مقصوده بقوله : " باب من الشرك الاستعاذة بغير الله " شمول هذا الحكم على فاعله بالشرك ، لكل أنواع الاستعاذة ، ولو كان فيما يقدر عليه المخلوق ؟ والجواب : أن هذا فيه تفصيل ، فمن العلماء من يقول : الاستعاذة توجه القلب ، واعتصامه ، والتجاؤه ، ورغبه ، وهذه المعاني جميعا لا تصلح إلا لله - جل وعلا - .
وقال آخرون : قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر عليه ؛ لأن حقيقة الاستعاذة : طلب انكفاف الشر ، وطلب العياذ ، وهو : أن يستعيذ من شر أحدق به ، وإذا كان كذلك : فقد يملك المخلوق شيئا من ذلك ، وعلى هذا فتكون الاستعاذة بغير الله شركا أكبر ، إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ ، أو طلبت منه الإعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله .(21/229)
والذي يظهر أن المقام كما سبق فيه تفصيل ، وهو : أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر ، وفيها عمل باطن ، فالعمل الظاهر : أن يطلب العوذ ، وأن يطلب العياذ ، وهو أن يُعصم من هذا الشر ، أو أن ينجو من هذا الشر ، وفيها أيضا عمل باطن وهو : توجه القلب وسكينته ، واضطراره ، وحاجته إلى هذا المستعاذ به ، واعتصامه بهذا المستعاذ به ، وتفويض أمر نجاته إليه .
فإذا كانت الاستعاذة تجمع هذين النوعين فيصح أن يقال : إن الاستعاذة لا تصلح إلا بالله ، لأن منها ما هو عمل قلبي كما تقدم وهو بالإجماع لا يصلح التوجه به إلا لله . وإذا قصد بالاستعاذة العمل الظاهر فقط وهو طلب العياذ والملجأ ، فيجوز أن يتوجه بها إلى المخلوق ، وعلى هذا يحمل الدليل الوارد في جوازها .(21/230)
فحقيقة الاستعاذة إذًا تجمع بين الطلب الظاهر ، والمعنى الباطن ؛ ولهذا اختلف أهل العلم في جواز طلبها من المخلوق ، فالذي ينبغي أن يكون منك دائما على ذكر : أن توجُّه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء ، أو الجن ، أو الصالحين ، أو غيرهم ، أنهم جمعوا بين القول باللسان ، وأعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله - جل وعلا - ، وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من : أن الاستعاذة بهم إنما هي فيما يقدرون عليه ، وأن الله أقدرهم على ذلك ؛ فيكون إبطال مقالهم راجعا إلى جهتين :
الجهة الأولى : أن يُبطل قولهم بأن يقال : إن هذا المَيْت ، أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر الذي طلب منه ، فإذا لم يقتطع بذلك ، أو حصل عنده اشتباه ما ، انتقل الجني إلى الجهة الثانية من الإبطال : وهو إثبات أن الاستعاذة فيها توجه بالقلب إلى المستعاذ به واضطرار إليه ، واعتصام به ، وافتقار إليه ؛ وهذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي قد قامت هذه المعاني بقلبه ، ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك إلا لله وحده - عز وجل - .(21/231)
فنقول إذًا : الاستعاذة بغير الله شرك أكبر ؛ لأنها صرف عبادة لغير الله - جل جلاله - . لكن إن كان الاستعاذة في الظاهر فقط مع طمأنينة القلب بالله وتوجهه إلى الله ، وحسن ظنه بالله ، وأن هذا العبد إنما هو سبب ، وأن القلب مطمئن لما عند الله فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر ، وأما القلب : فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة . وإذا كان كذلك : كان هذا جائزا .
قال - رحمه الله - : ( وقول الله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] .(21/232)
قوله : ( وَأَنَّهُ ) هذه معطوفة على أول السورة ، وهو ما أوحى الله - جل وعلا - إلى نبيه بقوله : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [ الجن : 1 ] ثم قال بعد آيات : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] ومعنى { رَهَقًا } أي : خوفا ، واضطرابا في القلب ؛ أوجب لهم الإرهاق ، والرهق : في الأبدان وفي الأرواح ، فلما كان كذلك تعاظمت الجن ، وزاد شرها ، وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنيا أو سيدا من الجن يخدم ذلك المكان ، هو له ويسيطر عليه ، فكانوا إذا نزلوا واديا ، أو مكانا قالوا : نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يعنون الجن ، فعاذوا بالجني لأجل أن يكف عنهم الشر مدة مقامهم ؛ لهذا قال جل وعلا : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } يعني : زاد الجن الإنس خوفا ، واضطرابا ، وتعبا في الأنفس ، وفي الأرواح ، وإذا كان كذلك : كان هذا عقوبة لهم . والعقوبة إنما تكون على ذنب ، فدلت الآية على ذم أولئك ، وإنما ذموا ؛ لأنهم صرفوا تلك(21/233)
العبادة لغير الله - جل وعلا - والله سبحانه أمر أن يستعاذ به دون ما سواه فقال سبحانه { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [ الفلق : 1 ] وقال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } [ الناس : 1 ] وقال { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ }{ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ المؤمنون : 97 ] والآيات في ذلك كثيرة ، كقوله : { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [ الأعراف : 200 ] ، فَعُلِمَ من التنصيص على المستعاذ به وهو الله - جل وعلا - أن الاستعاذة حصلت بالله ، وبغيره وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه . وقد ذكرت لكم أصل الدليل في ذلك ، وأن الاستعاذة عبادة ، وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه الآيات من إفراد العبادة بالله وحده .
وقال قتادة وبعض السلف : إن معنى قوله : { رَهَقًا } إثما ، (1) أي : فزادوهم إثما ، وهذا أيضا ظاهر من جهة الاستدلال ، لأن الاستعاذة إذا كانت موجبة للإثم ، فهي إذًا عبادة شركية إذا صرفت لغير الله ، وعبادة مطلوبة إذا صرفت لله - جل جلاله - وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك .
_________
(1) تفسير ابن كثير (8 / 226) .(21/234)
قوله : ( وعن خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك » رواه مسلم .
وجه الدلالة من هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل الاستعاذة بكلمات الله فقال : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق » وجعل المستعاذ منه : المخلوقات الشريرة والمستعاذ به هو : كلمات الله وقد استدل أهل العلم لما ناظروا المعتزلة ، وردوا عليهم بهذا الحديث ، على أن كلمات الله ليست بمخلوقة ، قالوا : لأن المخلوق لا يستعاذ به ، والاستعاذة به شرك ، كما قاله الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة . فوجه الدلالة من الحديث : إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك ، وأنه ما أمر بالاستعاذة بكلمات الله إلا لأن كلمات الله - جل وعلا - ليست بمخلوقة .(21/235)
قال : « من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق » : المقصود بـ " كلمات الله التامات " هنا الكلمات الكونية التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وهي المقصودة بقوله جل وعلا : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } [الكهف : 109 ] وبقوله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ لقمان : 27 ] وقوله { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [ الأنعام : 115 ] وفي القراءة الأخرى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [ الأنعام : 115 ] فهذه الآية في الكلمات الشرعية ، وكذلك في الكلمات الكونية .
إذًا : فقوله : « أعوذ بكلمات الله التامات » يعني : الكلمات الكونية .(21/236)
قوله : " مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " : يعني : من شر الذي خلقه الله - جل وعلا - ، وهذا العموم المقصود منه : من شر المخلوقات التي فيها شر ، إذ ليست كل المخلوقات فيها شر ، بل ثَمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر : كالجنة ، والملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، والأولياء ، وهناك مخلوقات خلقت وفيها شر ، فاستُعيذ بكلمات الله - جل وعلا - من شر الأنفس الشريرة ، والمخلوقات التي فيها شر .(21/237)
" باب من الشرك أن يستغيث بغير الله ، أو يدعو غيره "
وقول الله تعالى : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 106 ، 107 ] وقول الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] .
وقول الله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ }{ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 - 6 ] .(21/238)
وقول الله تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } [ النمل : 62 ] .
وروى الطبراني بإسناده : أنه « كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لا يُستغاث بي إنما يُستغاث بالله » . (1) .
فيه مسائل :
الأولى : أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص .
الثانية : تفسير قوله : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } .
الثالثة : أن هذا هو الشرك الأكبر .
الرابعة : أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره ؛ صار من الظالمين .
الخامسة : تفسير الآية التي بعدها .
السادسة : كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا .
السابعة : تفسير الآية الثالثة .
الثامنة : أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه .
التاسعة : تفسير الآية الرابعة .
العاشرة : أنه لا أضل ممن دعا غير الله .
الحادية عشرة : أنه غافل عن دعاء الداعي ، لا يدري عنه .
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وقال الهيثمي في « مجمع الزوائد » 10 / 159 : ورجاله رجال الصحيح ، غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث «.(21/239)
الثانية عشرة : أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له .
الثالثة عشرة : تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو .
الرابعة عشرة : كفر المدعو بتلك العبادة .
الخامسة عشرة : هي سبب كونه أضل الناس .
السادسة عشرة : تفسير الآية الخامسة .
السابعة عشرة : الأمر العجيب ، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله ، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين .
الثامنة عشرة : حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حِمَى التوحيد ، والتأدب مع الله .
الشرح :
قوله : " باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره " الشرك : المراد به كما ذكرنا فيما سبق : الشرك الأكبر .(21/240)
قوله : " أن يستغيث " : يعني الاستغاثة ؛ لأن (أن) مع الفعل تؤول بمصدر ، يعني : ( باب من الشرك الاستغاثة بغير الله ) ، أو ( استغاثة بغير الله ) ، وكذلك قوله : " يدعو " يؤول بمصدر ، يعني : من الشرك ، ( دعوة غيره ) ، أو ( دعاء غيره ) . والاستغاثة - كما ذكرنا - : طلب ؛ والطلب نوع من أنواع الدعاء ؛ ولهذا قال العلماء : إن في قوله : " أو يدعو غيره " بعد قوله : " أن يستغيث بغير الله " عطفا للعام على الخاص ، ومن المعلوم : أن الخاص قد يعطف على العام ، وأن العام قد يعطف على الخاص .
وقوله : " أن يستغيث بغير الله " : هذا أحد أفراد الدعاء - كما ذكرنا - لأن الاستغاثة طلب ، والطلب دعاء .
وقوله : " أو يدعو غيره " : هذا لفظ عام يشمل الاستغاثة ، والاستعاذة ، ويشمل أصنافا من أنواع الدعاء .(21/241)
قوله : " أن يستغيث " : الاستغاثة : هي طلب الغوث ، والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرة الشديدة ، أو الهلاك ؛ فيقال : أغاثه : إذا فزع إليه ، وأعانه على كشف ما به ، وخلصه منه ؛ كما قال - جل وعلا - في قصة موسى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [ القصص : 15 ] فقوله : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ } [ القصص : 15 ] يعني : أن مَن كان مِن شيعة موسى طلب الغوث من موسى على من كان عدوا لهما جميعا ، فأغاثه موسى عليه السلام .
فالاستغاثة : طلب الغوث ؛ وطلب الغوث لا يصلح إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله - ؛ لأن الاستغاثة يمكن أن تُطلب من المخلوق فيما يقدر عليه .
لكن متى تكون الاستغاثة بغير الله شركا أكبر ؟ ضبطه بعض أهل العلم بقولهم : تكون شركا أكبر ، إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق .(21/242)
وقال آخرون : تكون شركا أكبر ، إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وهاتان العبارتان مختلفتان . والأصح منهما الأخيرة ؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ؛ وهو يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله : فهذا شرك أكبر بالله - جل وعلا - لأن حقيقة الأمر : أنه لا يقدر عليه إلا الله .(21/243)
أما قول من قال من أهل العلم : إن الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ، فإن هذا يَرِد عليه : أن ثمت أشياء قد يكون المخلوق في ظاهر الأمر قادرا عليها ، ولكنه في الحقيقة لا يقدر عليها ، لكن هذا الضابط غير منضبط ؛ لأن من وقع في شدة - كغرق مثلا - وتوجه لرجل يراه بأن يغيثه فقال مخاطبا إياه : أستغيث بك ، أستغيث بك ، أستغيث بك وذاك لا يحسن السباحة ولا يحسن الإنجاء من الغرق ، فهذا يكون قد استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق ، فهل يكون شركا أكبر ؟ لا يكون منه ؟ لأن الإغاثة من الغرق ونحوه ، يصلح - في الغالب - أن يكون المخلوق قادرا عليها فيكون الضابط الثاني هو الصحيح ، وهو أن يقال : الاستغاثة بغير الله شرك أكبر إذا كان قد استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، أما إذا استغاث به فيما يقدر عليه غير الله من المخلوقين ، لكن هذا المخلوق المعين لم يقدر على هذا الشيء المعيّن : فإنه لا يكون شركا ؛ لأنه ما اعتقد في المخلوق شيئا لا يصلح إلا لله - جل جلاله - .(21/244)
فالاستغاثة بغير الله إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهي : شرك أكبر ، وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق ، فهي جائزة ؛ كما حصل من صاحب موسى ، إذ استغاث بموسى عليه السلام .
قوله : (أو يدعو غيره) : الدعاء - كما ذكرت لك - هو العبادة ، والدعاء نوعان :
دعاء مسألة ، ودعاء عبادة ، ونعني بدعاء المسألة : ما كان فيه طلب وسؤال ؛ كأن يرفع يديه لله - جل وعلا - ويدعوه ، فهذا يسمى دعاء مسألة .
وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء ، فإذا قيل : دعا فلان ؛ يعني سأل ربه - جل وعلا - .
والنوع الثاني : دعاء العبادة كما قال جل وعلا : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] يعني : لا تعبدوا مع الله أحدا ، أو لا تسألوا مع الله أحدا ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الدعاء هو العبادة » . ودعاء المسألة ، غير دعاء العبادة ، فدعاء العبادة يتناول كل صنف من أصناف العبادة ؛ فمن صلى ، أو زكى ، أو صام ، ونحو ذلك فيقال : إنه دعا ، لكن دعاء عبادة .(21/245)
قال العلماء : دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، يعني : أن من سأل الله - جل وعلا - شيئا : فهو داع دعاء مسألة ، وهذا متضمن لعبادة الله ؛ لأن الدعاء أعني : دعاء المسألة : أحد أنواع العبادة ، فدعاء المسألة متضمن للعبادة ؛ لأن الله - جل وعلا - يحب من عباده أن يسألوه .
وقولنا : إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ، يعني : أن من صلى ، فيلزم من إنشائه الصلاة أن يسأل الله القبول ، ويسأل الله الثواب . فيكون دعاء المسألة متضمنا لدعاء العبادة ، ودعاء العبادة مستلزما لدعاء المسألة .
إذا تقرر ذلك : فاعلم أن هذا التفصيل أو هذا التقسيم : مهم جدا في فهم حجج القرآن ، وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم ؛ لأنه قد حصل من الخرافيين والداعين إلى الشرك : أنهم يؤولون الآية التي فيها دعاء العبادة ، بدعاء المسألة ، أو الآية التي في دعاء المسألة ، بدعاء العبادة ، وإذا تبين ذلك عُلم أنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ، ودعاء العبادة ، فهذا هو ذاك : إما بالتضمن أو باللزوم . ومعلوم أن دلالات التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن ، وجاءت في السنة .(21/246)
ثم ساق الشيخ - رحمه الله - بعض الأدلة على أن الدعاء والاستغاثة إنما يتوجه بهما إلى الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله .
قال : ( وقول الله تعالى : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ }{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 106 - 107 ] .(21/247)
قال في أول الآية : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } فقوله : { وَلَا تَدْعُ } هذا نهي ، والنهي هنا قد توجه إلى الفعل ( تدع ) وإذا كان كذلك : فإنه يعم أنواع الدعاء ، وسبق القول بأن الدعاء منه : دعاء مسألة ، ومنه دعاء عبادة ؛ والقاعدة : أن النكرة إذا جاءت في سياق النهي ، أو في سياق النفي ، أو في سياق الشرط : فإنها تعم ؛ و( تدع ) نكرة ؛ لأنه فعل مشتمل على مصدر ؛ والمصدر حَدَثٌ نكرة ؛ فهو يعم نوعي الدعاء . وهذا مراد الشيخ - أو أحد مراداته - من الاستدلال بهذه الآية ، فقد نهى الله - جل وعلا - أن يُتوجه لغير الله بدعاء المسألة ، أو بدعاء العبادة ، أو بأي نوع من أنواع العبادات ؛ فلا يصلح طلب ما يقدر عليه إلا الله : إلا منه جل وعلا ، ويدخل في ذلك الاستعاذة ، والاستغاثة التي هي : طلب الغوث ، وكذلك دعاء العبادة بأنواعه : كالصلاة ، والزكاة ، والتسبيح ، والتهليل ، والسجود ، وتلاوة القرآن ، والذبح ، والنذر ، وكذلك : أعمال القلوب ، كالتوكل ، والمحبة التي هي عبادة والرجاء الذي هو عبادة وخوف السر . فهذه العبادات كلها لا تصلح إلا لله . وهي من أنواع دعاء العبادة .(21/248)
فهذه الآية دلت على النهي عن أن يتوجه أحد إلى غير الله - جل وعلا - بدعاء مسألة ، أو بدعاء عبادة وقد نُهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أعظم النهي ، ووجه إليه الخطاب بذلك ، مع أنه إمام المتقين ، وإمام الموحدين .
وقوله : { مِنْ دُونِ اللَّهِ } يعني : مع الله ، أو : من دون الله استقلالا .
وقوله : { مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } يعني : الذي لا ينفعك ولا يضرك ، و(ما) تشمل العقلاء ، فالعقلاء : كالملائكة ، والأنبياء ، والرسل ، والصالحين . وغير العقلاء : كالأصنام ، والأحجار ، والأشجار ، هذا من جهة الدلالة اللغوية لـ (ما) .
وقوله تعالى لنبيه : { فَإِنْ فَعَلْتَ } يعني : إن دعوت من دون الله أحدا ؛ وذلك الأحد موصوف بأنه : لا ينفعك ، ولا يضرك { فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } ، وهذا إذا كان في حق النبي عليه الصلاة والسلام الذي كمل الله له التوحيد أنه إذا حصل منه الشرك : فإنه يصبح ظالما ، ويصبح مشركا وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك : فهو تخويف عظيم لمن هو دونه ممن لم يُعصم ، ولم يُعط العصمة من ذلك ، من باب أولى .(21/249)
فقوله : { فَإِنْ فَعَلْتَ } يعني : إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك : { فَإِنَّكَ إِذًا } يعني : بسبب الدعوة { مِنَ الظَّالِمِينَ } . والظالمون جمع تصحيح للظالم ، والظالم : اسم فاعل الظلم ، والظلم : المراد به هنا : الشرك كما قال جل وعلا : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
ثم قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } اعلم أن غرض من يلجأ إلى غير الله ، أو يستغيث ، أو يستعيذ بغيره : إنما هو طلب كشف الضر . وقد أبطل الله تعالى هذا التعلق الشرعي بقاعدة عامة تقطع عروق الشرك من القلب ؛ حيث قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } يعني : إذا مسك الله بضر فمن يكشف الضر؟؟ الجواب : يكشفه من قدره ، ومن قضاه عليك ، وهكذا كل أنواع التوجه لغير الله - جل وعلا - ، أيا كانت . ولكن ما دام أنه أذن بالتوجه إلى المخلوق فيما يقدر عليه ، كالتوجه إليه بطلب الغوث ، أو نحو ذلك : فإنه يكون مما رخص فيه ، والحمد لله .(21/250)
وقوله في هذه الآية : { بِضُرٍّ } : نكرة جاءت في سياق الشرط فتعم جميع أنواع الضر : سواء أكان ضرا في الدين ، أم كان ضرا في الدنيا ، يعني : كان ضرا في الدنيا من جهة الأبدان ، أو من جهة الأموال ، أو من جهة الأولاد ، أو من جهة الأعراض ، ونحو ذلك إذًا : فمعنى قوله : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } أي بأي نوع من أنواع الضر : { فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } أي : الذي يكشف الضر في الحقيقة : هو الله - جل وعلا - ، لا يكشف البلوى إلا هو سبحانه وتعالى ، وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف : فإنما هو من جهة أنه سبب ، فالله هو الذي جعله سببا يقدر على أن يكشف بإذن الله - جل وعلا - ، وإلا فالكاشف حقيقة هو الله - جل وعلا - ، والمخلوق ولو كان يقدر فإنما قدر بإقدار الله له ؛ إذ هو سبب من الأسباب ، فالحاصل : أن الكاشف على الحقيقة هو الله وحده ، وإذا تبين ذلك : ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية ومناسبة الآية للترجمة ، من عدة جهات كما ذكرنا .
ثم أورد الشيخ - رحمه الله - قوله تعالى : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت : 17 ] .(21/251)
ليبين أن الاستغاثة والدعاء هما من أعظم أسباب الحياة ؛ فمن لم يكن عنده رزق فإنه يوشك على الهلاك ؛ ولهذا ذكر الإمام هذه الآية التي فيها النص على توحيد جهة طلب الرزق ؛ لأن معظم حال المستغيثين إنما هي لطلب الرزق .
والرزق اسم عام يشمل كل ما يصلح أن يُرزق ، يعني : أن يُمنح ويُعطى ؛ فيدخل في ذلك الصحة ، والعافية ، والمال ، والطعام ، والمنزل ، والدواب ، وكل ما يحتاجه المرء .
وقوله في الآية : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } : أصل تركيب الكلام فيها : فابتغوا الرزق عند الله ، و( ابْتَغُوا ) فعل أمر ، و( الرزق ) مفعول ، و( عند الله ) الأصل أن يتأخر على المفعول ، أي فابتغوا الرزق عند الله . قال علماء المعاني - من علوم البلاغة - : إن تقديم ما حقه التأخير : يفيد الاختصاص ، والأصل : فابتغوا عند الله الرزق واجعلوا ذلك الابتغاء مختصا بالله - جل وعلا - ، هكذا يفهم العربي معنى الآية ، أي : فليكن ابتغاؤكم الرزق من عند الله وحده ، فلا تستغيثوا بغيره في طلب رزق ، ولا تستنجدوا بغيره في طلب رزق ، وإنما ذلك لله - جل وعلا - .(21/252)
ثم قال : { وَاعْبُدُوهُ } ؛ ليجمع أصناف السؤال بما يشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة .
ثم قال : ( وقوله { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف : 5 ] ) :
دلالة الآية ظاهرة في أنها واردة في سياق الدعاء ؛ لأن الله تعالى قال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ } فهي ظاهرة في أن ثَمَّ داعيا ، وثم مدعوا ، وذاك المدعو : غير الله - جل وعلا - .
ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى وصف كل من يدعو من دون الله بأنه في غاية الضلال ، ومنتهى الغواية ، وأنه لا أحد أضل منه ، والدليل على أنه أراد الأموات ولم يرد الأصنام والأحجار والأشجار أنه قال { مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فجعل غاية المنع من الإجابة إلى يوم القيامة ، وهذه في الأموات ؛ لأن الميت إذا كان يوم القيامة : نشر وصار يسمع وربما أجاب طلب من طلبه لأنه يكون في ذلك المقام حيا وربما كان قادرا .(21/253)
وأما المَيْت - الذي هو في البرزخ - فهو الذي يصْدُق عليه وصف الله - جل وعلا - بقوله : { مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } والأصل في اللغة : أن لفظ ( مَنْ ) تُستعمل للعقلاء - كما يقول النحاة - والأصح : أن يقال : لفظ (مَنْ) الأصل فيها لغة : أنها تطلق على من يعلم ، لورود بعض الآيات في القرآن أطلق فيها هذا اللفظ في حق الله - عز وجل - هذا الأحسن من حيث استعمال هذا اللفظ ، وإن كان الذي جرى عليه القول عند علماء النحو : استعمال (مَنْ) للعاقل ، و (ما) لغير العاقل . فتلخص مما سبق : أن الأصح في استعمال (مَن) أنها : لمن يعلم ، وهؤلاء المذكورون في الآية : كانوا بشرا يخاطِبون ويخاطَبون ، ويعلمون ويُعلَم منهم .
وقوله : { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } : هذا الوصف ليس مقصودا به الأصنام ، وإنما هو في الأموات .(21/254)
ثم قال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ولذلك قال جل وعلا في سورة النحل { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ النحل : 21 - 22 ] .
قال : ( وقوله : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [ النمل : 62 ] ) هذه الآية من سورة ( النمل ) فيها : أن دعاء المضطر إنما هي لله - جل وعلا - وحده ، فقوله : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } هذا في دعاء المسألة ، وكشف السوء في قوله . { وَيَكْشِفُ السُّوءَ } تارة يكون بالاستغاثة ، وتارة بغير ذلك ؛ ولهذا يكون هذا القدر من الآية صالحا لما ترجم به المؤلف - رحمه الله - من اللفظين : لفظ ( الاستغاثة ) ، ولفظ ( الدعاء ) .(21/255)
ثم قال بعدها : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [ النمل : 62 ] ، وهذا الاستفهام إنكاري ، ينكر عليهم أن يتخذوا إلها مع الله ، وينكر عليهم أن يدعوا غير الله ، أو يتوجهوا في كشف السوء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهذا معنى الإنكار في قوله : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } .
قال : ( وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم . . . . . . ) المراد بالبعض هنا : أبو بكر الصديق ، كما جاء في بعض الروايات .
ثم قال في الحديث : . . . . . « قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه لا يستغاث بي ، وإنما يستغاث بالله » واستغاثة الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت جائزة ؛ لأنهم طلبوا الإغاثة من النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا في هذا المقام على إغاثتهم ، إما بالأمر بقتل المنافق ، أو الأمر بسجنه ، أو بتهديده ، أو معاقبته بتعزير ، أو بغيره ؛ لأنه كان يؤذي المؤمنين .(21/256)
فاستغاثتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم : " قوموا بنا نستغيث برسول الله " استغاثة به يقدر عليه ، لكن النبي - عليه الصلاة والسلام - علمهم الأدب في ذلك ، وعلمهم الأكمل في ذلك ؛ حيث قال : « إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله » .
وحقيقة الاستغاثة على وجه الكمال ، إنما هي بالله جل وعلا لا بنبيه صلى الله عليه وسلم ، فكأنه حصل منهم نوع التفات للنبي عليه الصلاة والسلام فيما يقدر عليه ، فبين لهم : أن الواجب عليهم أن يستغيثوا بالله - جل وعلا - أولا ؛ فقال : " إنه لا يستغاث بي " ، وهذا نفي فيه معنى النهي ، يعني : لا تستغيثوا بي ، بل استغيثوا بالله في هذا الأمر ، وإذا أغاثهم الله جل وعلا كف شر ذلك المنافق عنهم .(21/257)
وقد أعل بعض العلماء هذا الحديث بأن في إسناده ابن لهيعة ، وحاله معروف . لكن إيراد أئمة الحديث للأحاديث التي قد يكون في إسنادها بعض مقال في مثل هذا المقام : لا بأس به ، بل فعلهم هذا صواب إذا كان ما في الحديث من المعنى قد عضدته الأدلة من القرآن ومن السنة ، كما في هذا الحديث ؛ فإن قوله عليه الصلاة والسلام : « إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله » قد دلت عليه الآيات التي سلفت ، وهذا الذي درج عليه صنيع الراسخين في العلم من أهل الحديث ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له في ( الفتاوى ) ؛ قال : أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول ، بل إما في تأييده يعني : في تأييد ذلك الأصل أو في فرع من الفروع .
وهذا هو صنيع الشيخ - رحمه الله - أيضا في هذا الكتاب ؛ فإنه يستدل بأحاديث هي من جهة المعنى الذي اشتملت عليه صحيحة - كما سبق إيضاحه - وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث مستدلا به في رده على البكري المعروف بـ ( الاستغاثة ) أعني : كتاب ( الاستغاثة الكبرى ) ، أو (الرد على البكري ) ، وقال إن هذا الحديث هو معنى ما جاء في النصوص .(21/258)
فقوله عليه الصلاة والسلام : " إنه لا يستغاث بي " يعني : لا تستغيثوا بي ، وإنما استغيثوا بالله ؛ لأن لفظ (يستغاث) تقدمه نفي ، والمراد منه : النهي .
وهذا الباب ظاهر المناسبة لما قبله ولما بعده أيضا في أن الاستغاثة بغير الله نوع من أنواع الدعاء ، وأن الدعاء عبادة ، وأن الاستغاثة عبادة ، وصرف العبادة لغير الله جل وعلا : كفر وشرك .(21/259)
ومما يدل على أن الدعاء عبادة قول الله جل وعلا : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } [ البقرة : 186 ] ، وقوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } يدل على أن إجابة الدعوة تكون برفع المكروه ، أو بمنع وقوعه ، وتكون أيضا بالعطاء ، والإثابة فيما إذا عبد ، فيجيب الدعوة بإعطاء السائل سؤله ، ويجيب أيضا الدعاء بإثابة الداعي العابد على عبادته ؛ ولهذا يفسر السلف الآيات التي فيها إجابة الدعاء ونحو ذلك : بأن فيها إعطاء سؤل السائل ، وإثابة العابد ؛ لأن الصحابة والسلف : يعلمون أن الدعاء يشمل هذا وهذا . وقوله : { إِذَا دَعَانِ } يعني : إذا سألني ، أو عبدني ، مع أنها في السؤال ظاهرة ، وفي الدعاء بينة .(21/260)
والآيات في مثل ذلك كقوله - جل وعلا - في سورة إبراهيم ، فيما ذكره عن نبيه عليه السلام { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } قال الله - جل وعلا - بعدها { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ مريم 48 - 49 ] ، فإبراهيم عليه السلام قال : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } ، وقال الله : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ } : فدل على أن الدعاء هو العبادة ، والعبادة هي الدعاء . والدعاء يفسر تارة بدعاء المسألة ، وتارة بدعاء العبادة ، وهذا حاصل من أولئك ولأصنامهم وأوثانهم .(21/261)
باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } ، وقول الله تعالى : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }{ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 13 - 14 ] .(21/262)
وفي الصحيح (1) عن أنس - رضي الله عنه - قال : « شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته ، فقال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }» [ آل عمران : 128 ] ، وفيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه « سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : " اللهم العن فلانا وفلانا " بعدما يقول : " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " فأنزل الله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }» (2) . وفي رواية " يدعو على صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، فنزلت { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (3) " ، وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } فقال : " يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، ويا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا » . (4)
فيه مسائل :
_________
(1) علقه البخاري ، ووصله أحمد في «المسند» 3 / 99 و 178 و 206 والترمذي (2005) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(2) أخرجه البخاري (4009) و (4070) و (4559) و (7346).
(3) أخرجه البخاري (4070) معلقا ، ووصله الترمذي (3007) وأحمد 2 / 93 وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .
(4) أخرجه البخاري (2753) و (3527) و (4771) .(21/263)
الأولى : تفسير الآيتين .
الثانية : قصة أحد .
الثالثة : قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء ، يؤمنون في الصلاة .
الرابعة : المدعو عليهم كفار .
الخامسة : أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار ؛ منها : شجهم نبيهم وحرصهم على قتله . ومنها : التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم .
السادسة : أنزل الله عليه في ذلك { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } .
السابعة : قوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } فتاب عليهم فآمنوا .
الثامنة : القنوت في النوازل .
التاسعة : تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم .
العاشرة : لعن المعين في القنوت .
الحادية عشرة : قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } .
الثانية عشرة : جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون ، وكذلك لو يفعله مسلم الآن .(21/264)
الثالثة عشرة : قوله للأبعد والأقرب : « لا أغني عنكم من الله شيئا » ، حتى قال : « يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا » ؛ فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين ، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم ، تبين له التوحيد وغربة الدين .
الشرح :
هذا الباب هو باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }{ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } . . . . . . . . [ 191 - 192 ] . وَإِيرَادُ هَذَا الْبَابِ بعد الأبواب المتقدمة هو من أحسن الإيراد ، ومن أعظمها فقها ورسوخا في العلم ؛ ذلك أن برهان وجوب توحيد الله - جل وعلا - في إلهيته هو : ما ركز في الفطر من أنه - جل وعلا - واحد في ربوبيته ، وقد أقر بهذا ، وسلم به المشركون ، بل كل أحد على الإقرار بهذا ، والاعتراف به ؛ فهي البرهان على أن المستحق للعبادة هو : من توحد في الربوبية ، فهذا الباب ، والباب الذي بعده أيضا : برهان لاستحقاق الله العبادة وحده دون ما سواه بدليل فطري ، ودليل واقعي ، ودليل عقلي .(21/265)
ومن المعلوم أن الأدلة العقلية عندنا - أهل السنة والجماعة - تؤخذ من الكتاب والسنة ؛ لأن في الكتاب والسنة من الأدلة العقلية ما يغني عن تكلف أدلة عقلية أخرى كما هو ظاهر لمن تأمل نصوص الوحيين .
فهذا الباب فيه بيان أن الذي يخلق هو الله وحده ، والذي يرزق هو الله وحده ، والذي يملك هو الله وحده ، وأن غير الله - جل وعلا - ليس له نصيب من الخلق ، وليس له نصيب من الرزق ، وليس له نصيب من الإحياء ، وليس له نصيب من الإماتة ، وليس له نصيب من الأمر ، وليس له ملك حقيقي في أمر من الأمور حتى أعلى الخلق مقاما ، وهو النبي - عليه الصلاة والسلام - قال له الله جل وعلا : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] يعني : لست مالكا لشيء من الأمر ، وليس من الأمر شيء تملكه ، فـ ( اللام ) هنا لام الملك . فمن الذي يملك إذا ؟ ! الذي يملك هو : الله جل وعلا . فإذا كان النبي - عليه الصلاة والسلام - ينفى عنه ذلك الأمر فإنه منفي عمن هو دونه من باب أولى .(21/266)
والمتوجهون إلى أصحاب القبور أو إلى الصالحين والأولياء والأنبياء يعتقدون بأن هؤلاء المتوجه إليهم يملكون شيئا من الرزق ، أو التوسط أو الشفاعة بدون إذن الله - جل وعلا - ومشيئته . فهذا الباب - إذا - هو أحد الأبواب التي فيها البرهان على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه .(21/267)
والقرآن فيه كثير من الأدلة والبراهين على أن المستحق للعبادة هو الله - جل وعلا - وحده دون ما سواه ؛ فمن تلك الأدلة والبراهين : ما في القرآن من أدلة فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية ، فكل ذلك النوع من الأدلة : فيه دليل على أن المستحق للعبادة هو من أقررتم له بالربوبية . ومن الأدلة والبراهين على ذلك - أيضا - ما جاء في القرآن : من نصر الله - عز وجل - رسله وأولياءه على أعدائهم ، من طوائف الشرك ، وكيف أنهم ذلوا وخضعوا وغلبوا أمام طوائف أهل الإيمان وجند الله - جل وعلا - من الرسل والأنبياء وأتباعهم ، فهذا نوع آخر من الأدلة ، وهو أنه ما من طائفة موحدة بعث الله - جل وعلا - إمامها ورسولها بقتال المشركين إلا نصرها ، وأظفرها ، حتى صارت العاقبة لهم . وأدلة هذا في القرآن كثيرة ، نقرؤها في : قصص الأنبياء ، وقصص القرى ، وما جاء في بيان عاقبة الأمم والقرى المخالفين لرسلهم ، فهذا دليل على أن التوحيد هو الحق وأن الشرك باطل . ومن الأدلة والبراهين على تقرير استحقاق الله تعالى للعبادة دون من سواه : ما تضمنه القرآن من بيان ضعف المخلوق ، الذي يعلم هذا ، ويلمسه بنفسه ؛ وكيف أنه جاء إلى الحياة بغير اختياره ،(21/268)
بل الله - جل وعلا - الذي أتى به إلى هذه الحياة وسيخرجه منها بغير اختياره أيضا . مما يدل على أنه مقهور ، وهو يعلم - قطعا - أن الذي قهره وأذله وجعله على هذه الحالة ليست هي تلك الآلهة ، وإنما هو الله - جل وعلا - وحده هو الذي يحيي ويميت ، وهذا إقرار عام ، يعلمه كل أحد من فطرته .
ومن الأدلة والبراهين أيضا : أن الله - جل وعلا - له الأسماء الحسنى ، وله الصفات العلى ، وأنه ذو النعوت الكاملة ، وذو النعوت الجليلة ، فنعوت الجلال ، والجمال والكمال له سبحانه ، وهو سبحانه له الكمال المطلق في كل اسم له ، وفي كل نعت ووصف له ، فله الكمال المطلق ، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه .(21/269)
فهذا الباب ذكر فيه الشيخ - رحمه الله - أحد أنواع أدلة الربوبية ، أو براهين التوحيد ، وأنه - جل وعلا - هو الواحد في ربوبيته ، والباب الذي يلي هو باب قول الله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] ، وفيه دليل على عظمة الله - جل وعلا - في صفاته ، ففي هذا الكتاب تنويع براهين توحيد العبادة بأدلة متنوعة من القرآن - كما سيأتي - إن شاء الله تعالى .
باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ }{ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } [ الأعراف : 191- 192 ] .
وقوله : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } . [ فاطر : 13 ] .(21/270)
ذكرنا أن هذا الباب مع الباب الذي يليه من كتاب التوحيد هما برهان للتوحيد ، وبرهان لاستحقاق الله - جل وعلا - العبادة وحده ، وحجة دامغة على بطلان عبادة ما سواه ، وهذا البرهان هو : تقرير أن الله - جل وعلا - واحد في ربوبيته ، ودليل ذلك : الفطرة ، والعقل ، والنص من الكتاب والسنة ، فلا أحد ينكر أن الله - جل وعلا - هو مالك الملك ، وهو الذي بيده تصريف الأمر كما يشاء إلا شرذمة قليلة من الناس - كما قال الشهرستاني وغيره : لا يصح أن تنسب لهم مقالة .
فالناس مفطورون على الإقرار بالرب ، وعلى الإقرار بأنهم مخلوقون ، وإذا كان كذلك : فإن الحجة عليهم قائمة بوجوب إقرارهم بتوحيد الإلهية ؛ لما جعل الله في فطرهم من الإقرار بتوحيد الله في ربوبيته ؛ ولهذا : لم يكن المشركون ينكرون توحيد الربوبية ، بل كانوا يعترفون أنه تعالى : الرزاق وحده ، وأنه الخلاق وحده ، وأنه - جل وعلا - هو الذي يحيي ويميت ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ، وهو الذي ينبت النبات ، وهو الذي ينزل الماء ، إلى آخر إفراد تدبيره - جل وعلا - للأمر ، وإفراد توحيد الربوبية .(21/271)
فالبرهان على أن الله هو المستحق للعبادة وحده : أنه - جل وعلا - هو مالك الملك وحده ، وهو المتفرد بتدبير هذا الملكوت ، وهو الذي خلق العباد ، والعباد صائرون إليه ، أما الآلهة التي توجه إليها العباد بالعبادة من الأنبياء ، أو الأولياء ، أو الملائكة ، فإنما هم : مخلوقون مربوبون ، لا يخلقون شيئا ، وهم يخلقون ، وأيضا : لا يستطيعون نصرا لمن سألهم ، وإنما ذلك كله لله - جل وعلا - فإذا كان أولئك المدعوون ليس لهم من الأمر شيء ، وليس لهم من الملك شيء ، وليس لهم من الخلق شيء ، وليس لهم من تدبير الأمر شيء ، وإنما تدبير أمر السماوات ، وتدبير أمر الأرض بيد الله وحده دون ما سواه ، فإن الذي يستحق العبادة وحده ، هو الذي يفعل تلك الأفعال ، وهو الذي يتصف بتلك الصفات ، وهو الذي وحده العباد في ربوبيته ؛ فإذا كان كذلك : فيجب أن يوحدوه بأفعالهم ؛ وألا يتوجهوا بالعبادة إلا إليه وحده .(21/272)
وهذا النوع من الحجاج والاستدلال كثير في القرآن جدا ؛ فإنك تجد في القرآن أن أعظم الأدلة والبراهين على المشركين في تقريره إبطال عبادتهم لغير الله ، وفي إحقاق عبادة الله وحده دون ما سواه : أنهم يقرون بتوحيد الربوبية ، والإقرار بتوحيد الربوبية : برهان توحيد الإلهية . فالله - جل وعلا - احتج في القرآن على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية ، على ما أنكروه من توحيد الإلهية ؛ ولهذا قال جل وعلا : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [ يونس : 31 ] يعني : أتقرون بذلك ، فلا تتقون الشرك ؟ وقد ذكرت أن ( الفاء ) إذا أتت بعد الهمزة فهي تعطف ما بعدها على جملة محذوفة قبلها دل عليها السياق ، فقوله : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } يعني : أتقرون بأن الله واحد في ربوبيته ، فلا تتقون الشرك به ؟ !! { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } باعترافكم وبإيقانكم { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا(21/273)
الضَّلَالُ } [ يونس : 32 ] ، فهذا النوع من الاحتجاج وهو الاحتجاج عليهم بما أقروا به - وهو توحيد الربوبية - على ما أنكروه - وهو توحيد الإلهية - في القرآن كثير ، كالآيات العظيمة في سورة النمل في قوله تعالى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ }{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ }{ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 59- 60 ] ، فقوله تعالى : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } هنا : إنكار عليهم ، بسبب أنهم فيما سبق يقرون له بخلق السماوات والأرض ، وغيرها من الأمور الوارد ذكرها في الآيات ، فإذا كانوا يقرون بأن الذي خلقها هو الله ، فكيف - إذا - يتخذون إلها مع الله ؟ ! فهذا سبب الإنكار عليهم ؛ لأن الذي أنزل لهم من السماء ماء فأنبت لهم به حدائق ذات بهجة هو الله ، فكيف يتخذون إلها معه ؟ ولهذا قال جل وعلا : { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } فهذا إنكار عليهم . وقوله { بَلْ هُمْ قَوْمٌ(21/274)
يَعْدِلُونَ } ، يعني : يعدلون بالله غيره ، أو يعدلون غير الله - جل وعلا - به ، يعني : يساوون هذا بهذا ، أو يعدلون ، يعني : يصرفون عن الحق ، وينصرفون عنه إلى غيره ، فكيف يعدلون عن الحق إلى غيره ؟ أو كيف يعدلون بالله غيره من الآلهة ؟ !! وهكذا الآية التي بعدها وهي قوله : { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } وجواب المشركين على هذا السؤال في قوله : { أَمَّنْ } هو : الله ؛ فقد كانوا مقرين بأنه المتفرد بهذه الأمور ، قال جل وعلا { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ثم قال جل وعلا { أَمَّنْ }{ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } وهذا رجوع من الآيات التي في الآفاق ، وفيما حولهم إلى الشيء الذي يعلمونه علم اليقين وهو أن فاعل تلك الأشياء المتقدم ذكرها في الآيات ، وما سيأتي - أيضا : هو الله تعالى ، ثم قال سبحانه : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } ثم قال جل وعلا : {(21/275)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }{ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ النمل : 63 - 64 ] ، وفي الحقيقة : أنه لا برهان لهم ؛ قال - جل وعلا - في سورة المؤمنون : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } ، ومعنى قوله : { لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } أي : أن كل إله متخذ من دون الله فإنه لا حجة قائمة على أنه إله ، وإنما اتخذه البشر بالطغيان وبالظلم ؛ ولهذا قال متوعدا إياهم ، ومبينا فداحة خسارتهم : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون : 117 ] ، فهذا الباب قائم على هذه الحجة ؛ ولهذا فإن من أعظم الحجة على المشركين الذين توجهوا إلى الأموات ، والمقبورين بطلب تفريج الكربات ، وطلب إغاثة اللهفان ، وطلب إنجاح الحاجات ،(21/276)
وسؤال ما يحتاجه الناس ، إن من أعظم الحجة عليهم أن تحتج عليهم بتوحيد الربوبية على ما ينكرونه من توحيد الإلهية ، وقد زاد شرك المشركين في هذه الأزمنة ، على شرك مشركي الجاهلية - كما قال الشيخ - رحمه الله - في القواعد الأربعة فنسبوا إليهم شيئا من الربوبية ، فهم لم يجعلوا توحيد الربوبية - أيضا - خالصا .
وهذا نوع من البراهين عظيم ، ينبغي أن تتوسع في دلائله ، وأن تعلم حجته من القرآن ؛ لأن القرآن كثيرا ما يحتج بهذا البرهان - وهو توحيد الربوبية - على ما ينكره المشركون من توحيد الإلهية .
ومن ذلك ما ساقه الشيخ - رحمه الله - في هذا الباب وهو قوله : " باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } فهذا إنكار وتوبيخ لهم ، كيف يشركون الذي لا يخلق شيئا وهم يخلقون ؟ مع أن خالقهم هو الله - عز وجل ، بل هو الذي خلق من عبد ، وهو الذي خلق العابد أيضا ، فالذي يستحق العبادة وحده دون وما سواه إنما هو الله ذو الجلال والإكرام .(21/277)
ثم بين حقيقة هذه الآلهة وعجزها فقال : { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } [ الأعراف : 191 - 192 ] : لأن النصر في الحقيقة ، إنما هو من عند الله - جل وعلا ، ولو أراد الله أن يمنع نصر الناصر لمنعه .
وقوله : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }{ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } [ فاطر : 13 - 14 ] الآيات ، وموطن الشاهد من هذه الآيات قوله : { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } فحتى هذا القطمير وهو غلاف النواة أو الحبل الواصل من أعلى النواة إلى ظاهر الثمرة لا يملكونه .(21/278)
فغيره مما هو أعلى منه من باب أولى وأولى ، وإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء الحقير ، وهو مما لا يحتاجه الناس ، ولا يطلبونه ، فكيف إذا يطلبون منهم أشياء لا يملكونها وقوله - جل وعلا - هنا : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } ( الذين ) هذا اسم موصول ، يعم كل من دعي من دون الله من الملائكة ، أو الأنبياء والرسل ، أو الصالحين من الأموات أو الطالحين ، أو الجن أو الأصنام ، أو الأشجار ، أو الأحجار ، فكل من دعي وما دعي فإنه لا يملك ولو قطميرا ، فإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء مع حقارته ، فلم يسألون ؟ ! فالواجب أن يتوجه بالسؤال لمن يملك ذلك .
ثم ذكر الشيخ - رحمه الله - بعد ذلك عدة أحاديث في هذا الباب ، وهذه الأحاديث مدارها على بيان قول الله - جل وعلا : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ، وإيراد هذه الآية هنا : أن النفي توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم .(21/279)
فقوله : { لَيْسَ لَكَ } أي : يا محمد { مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } . واللام في قوله : ( لك) هي لام الاستحقاق ، أو لام الملك ، يعني : لا تستحق شيئا ، أو لا تملك شيئا ، يعني : لا تستحقه بذاتك ، وإنما بما أمر الله - جل وعلا - وبما أذن به ، فتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته فرع عن محبة الله ، وتعظيمه جل وعلا ، فليس له صلى الله عليه وسلم وراء ذلك شيء إلا ما أذن به ؛ كما قال تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } ، ولو كان له عليه الصلاة والسلام من الأمر شيء لنصر نفسه وأصحابه يوم أحد ، ولكن حصل في يوم أحد ما حصل ، فأنزل الله قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .
وكذلك الحديث الآخر : لما لعن النبي صلى الله عليه وسلم في قُنُوتُ الْفَجْرِ فُلَانا وَفُلَانًا مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ آذُوا الْمُؤمنين أنزل الله قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } (1) ، يعني : لست تملك شيئا من الأمر . وهكذا الحديث الذي بعده .
_________
(1) تقدم .(21/280)
وهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئا من ملكوت الله . وهو عليه الصلاة والسلام قد بلغ ذلك وبينه ، فمن هم دونه عليه الصلاة والسلام منفي عنه هذا الأمر من باب أولى ، فالملائكة ، والأنبياء والصالحون من أتباع الرسل وأتباعه عليه الصلاة والسلام : أولى بأن ينفى عنهم ذلك ، فإذا كان كذلك بطلت كل التوجهات إلى غير الله - جل وعلا - ووجب أن يتوجه بالعبادات ، وأنواع التوجهات من : دعاء ، واستغاثة ، واستعاذة ، وذبح ، ونذر ، وغير ذلك : إلى الحق -جل وعلا - وحده دون ما سواه .(21/281)
ثم ذكر الحديث الأخير في الباب ، وهو : أنه لما نزلت { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا » ، وهذا ظاهر في أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن ينفع أحدا من أقربائه إلا بما جعله الله له من الرسالة ، وأداء الأمانة ، وأما أنه يغني عنهم من الله شيئا ، ويدفع عنهم العذاب ؛ أو النكال ، أو العقوبة : فالله - جل وعلا - لم يجعل لأحد من خلقه من ملكوته شيئا ، وإنما هو سبحانه المتفرد بالملكوت والجبروت ، والمتفرد بالكمال والجمال والجلال .(21/282)
" باب قول الله تعالى { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] .
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع . ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض . وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه . فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن ؛ فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؛ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء » .(21/283)
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي ؛ أخذت السماوات منه رجفة . أو قال رعدة . شديدة خوفا من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجدا . فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل . فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل » .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآية .
الثانية : ما فيها من الحجة على إبطال الشرك ، خصوصا ما تعلق على الصالحين ، وهي الآية التي قيل : إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب .
الثالثة : تفسير قوله { قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .
الرابعة : سبب سؤالهم عن ذلك .
الخامسة : أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله : " قال كذا وكذا " .
السادسة : ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل .
السابعة : أنه يقول لأهل السماوات كلهم ، لأنهم يسألونه .
الثامنة : أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم .(21/284)
التاسعة : ارتجاف السماوات بكلام الله .
العاشرة : أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله .
الحادية عشرة : ذكر استراق الشياطين .
الثانية عشرة : صفة ركوب بعضهم بعضا .
الثالثة عشرة : إرسال الشهاب .
الرابعة عشرة : أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه .
الخامسة عشرة : كون الكاهن يصدق بعض الأحيان .
السادسة عشرة : كونه يكذب معها مائة كذبة .
السابعة عشرة : أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء .
الثامنة عشرة : قبول النفوس للباطل ، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة ؟
التاسعة عشرة : كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ، ويحفظونها ويستدلون بها .
العشرون : إثبات الصفات ، خلافا للأشعرية المعطلة .
الحادية والعشرون : أن تلك الرجفة والغشي خوف من الله عز وجل .
الثانية : والعشرون : أنهم يخرون لله سجدا .
الشرح :
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد - كما ذكرنا سابقا - : أن فيه برهانا على أن المستحق للعبادة هو الله جل جلاله ؛ لأنه هو المتصف بصفات الكمال والجلال .(21/285)
وهذا الباب فيه ذكر لصفات الجلال لله - جل وعلا ؛ إذ كل من في السماوات والأرض خائف منه ، ووجل ؛ لأنه - سبحانه - الجليل ؛ ولذلك كان أعرف عمار السماء به هم الملائكة الذين قال الله تعالى في وصفهم : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وقال - جل وعلا - في وصفهم أيضا { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } ، فصفات الجلال ، والكمال ، والجمال : له سبحانه ، وهذه كلها دلائل على أنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه لأنه المتصف بالعظمة الكاملة ، وهو الذي ينبغي أن يهاب وأن يخاف منه على الحقيقة ، فكل ما في السماوات والأرض جار على وفق أمره سبحانه وتعالى .(21/286)
فهو سبحانه وتعالى : ذو الأسماء الحسنى ، وذو الصفات العلى ؛ ولهذا قال - جل وعلا - في آية سبأ : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، و ( فزع ) : يعني أزيل الفزع عن قلوب الملائكة ؛ فالملائكة مع أنهم مقربون إلا أنهم شديدوا المعرفة بالله جل وعلا ، وشديدوا العلم به ، فعلمهم بربهم سبحانه عظيم ، ومما يعلمونه عن الله - جل وعلا - أنه هو الجبار ، وأنه هو الجليل سبحانه ، وأنه ذو الملكوت ، فلهذا اشتد فزعهم منه سبحانه ؛ لأنه لا غنى بهم عنه - جل وعلا - طرفة عين .
والصفات التي اشتملت على هذا النوع من البرهان ، على استحقاقه تعالى للعبادة : هي صفات الجلال لله - جل وعلا - وهي : الصفات التي تورث الخوف في القلب ؛ لأن الصفات تنقسم إلى أقسام متنوعة باعتبارات ، ومن ذلك : أنها تنقسم إلى صفات جلال ، وصفات جمال .
فالصفات التي تحدث في القلب الخوف ، والهلع ، والرهبة من الرب جل وعلا ، تسمى صفات الجلال ، والذي يتصف بصفات الجلال على الحقيقة هو الله جل وعلا ؛ لأنه هو الكامل في صفاته سبحانه .(21/287)
فإذا كان كذلك : فإن الكامل في صفاته هو المستحق للعبادة ، وأما البشر المخلوقون فإنهم ناقصون في صفاتهم ، ويعلمون أن حياتهم ليست حياة كاملة ، فحيث عرض لها عرض من موت ، أو مرض ، أو غيرهما ، فإنها تضعف بذلك ، وتعجز عن أن تعمل شيئا ، وربما تهلك ، فحقيقة الأمر : أن البشر ضعاف فقراء ، محتاجون ، ليست لهم صفات الكمال ، وهذا دليل عجزهم ، ونقصهم ، وأنهم مربوبون ، مقهورون .
ولهذا يجب على العباد أن يتوجهوا بالعبادة إلى من له صفات الكمال ، ونعوت الجمال ، والجلال : وهو الله جل وعلا وحده سبحانه وتعالى . فهذا المراد بهذا الباب وهو ظاهر بحمد الله تعالى .(21/288)
" باب الشفاعة "
وقول الله تعالى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 51 ] .
وقوله : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 44 ] ، وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] .
وقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] .
وقوله : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }{ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22 -23 ] .(21/289)
قال أبو العباس - رحمه الله : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونا لله ، ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] ، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ، « وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له : ارفع رأسك وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع » . (1) ، « وقال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك قال صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه » (2) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله تعالى ولا تكون لمن أشرك بالله ، وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود .
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص . انتهى كلامه .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآيات .
_________
(1) أخرجه البخاري (3340) ومسلم (194) .
(2) أخرجه البخاري (6570) .(21/290)
الثانية : صفة الشفاعة المنفية .
الثالثة : صفة الشفاعة المثبتة .
الرابعة : ذكر الشفاعة الكبرى ، وهي المقام المحمود .
الخامسة : صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة ، بل يسجد ، فإذا أذن له شفع .
السادسة : من أسعد الناس بها ؟
السابعة : أنها لا تكون لمن أشرك بالله .
الثامنة بيان حقيقتها .
الشرح :
هذا الباب هو باب الشفاعة ، وإيراد هذا الباب بعد البابين قبله مناسب جدا ؛ ذلك أن الذين يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ويستغيثون به ويطلبون منه ، أو يسألون غيره من الأولياء أو الأنبياء إذا أقيمت عليهم الحجة بما ذكر من توحيد الربوبية ، قالوا : نحن نعتقد ذلك ، ولكن هؤلاء الشفعاء مقربون عند الله معظمون ، قد رفعهم الله - جل وعلا - عنده ، ولهم الجاه عند الرب جل وعلا ، وإذا كانوا كذلك فهم يشفعون عند الله ، فمن توجه إليهم أرضوه بالشفاعة ؛ لأنهم ممن رفعهم الله ، ولهذا يقبل شفاعاتهم .
فكأن الشيخ - رحمه الله - رأى حال المشركين والخرافيين واستحضر حججهم . وهو كذلك ؛ إذ هو أخبر أهل هذه العصور المتأخرة بحجج المشركين .(21/291)
فلما استحضر ذلك عقد باب الشفاعة ليحاججهم ، فهذا باب الشفاعة . والشفاعة في الأصل : مأخوذة من ( الشفع ) ، والشفع هو : الزوج ؛ لأن الشافع طالب ؛ فصار مع صاحب الطلب الأصلي شفعا ، فإذا أراد أحد من آخر شيئا ، فجاءه ليشفع له : فقد صار - بذلك - شفعا له : فسميت شفاعة ؛ لأن صاحب الطلب أصبح شفعا ، بعد أن كان فردا .(21/292)
والشفاعة هي : الدعاء . وطلب الشفاعة هو : طلب الدعاء ، فإذا قال قائل : أستشفع برسول الله ، فكأنه قال : أطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لي عند الله . فالشفاعة طلب ؛ فمن استشفع فقد طلب الشفاعة ، والخلاصة : أن الشفاعة دعاء ، وهي : طلب الدعاء أيضا ، وقد سبق أن قررنا أن كل دليل ورد في الشرع على إبطال أن يدعي مع الله - جل وعلا - إله آخر ، فإنه يصلح أن يكون دليلا على إبطال الاستشفاع بالموتى الذين غابوا عن دار التكليف ؛ لأن حقيقة الشافع - كما تقدم آنفا - أنه طالب ولأن حقيقة المستشفع أنه طالب أيضا ، فالشافع في ظن المستشفع يدعو ، والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة ، يعني : إذا أتى آت إلى قبر نبي ، أو قبر ولي أو نحو ذلك ، فقال : أستشفع بك ، أو أسأل الشفاعة ، فمعناه أنه طالب منه ، ودعا أن يدعو له ؛ فلهذا كان صرفها ، أو التوجه بها إلى غير الله - جل وعلا - شركا أكبر ؛ لأنها في الحقيقة دعوة لغير الله ، وسؤال من هذا الميت ، وتوجه بالطلب والدعاء منه . فإذا عرفت معنى الشفاعة ، وحكم طلبها من الأموات ، وأن ذلك شرك أكبر : فاعلم أن الأحياء الذين هم في دار التكليف يجوز طلب الشفاعة منهم ؛ بمعنى : أن(21/293)
يطلب منهم الدعاء ، لكن قد يجاب دعاؤهم ، وقد لا يجاب ، وهذا كما حاصل في شفاعة الناس بعضهم لبعض ، بالشفاعة الحسنة ، أو بالشفاعة السيئة ، كما قال تعالى : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } [ النساء : 85 ] ، وقال : { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً } [ النساء : 85 ] ، فهذا يحصل لكن من الأحياء ؛ لأنهم في دار تكليف ويقدرون على الإجابة ، وقد أذن الله في طلب الشفاعة منهم ؛ ولهذا كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ربما أتى بعضهم النبي عليه الصلاة والسلام وطلب أن يشفع له ، يعني : أن يدعو له .(21/294)
فمسألة الشفاعة من المسائل التي تخفي على كثيرين بما في ذلك بعض أهل العلم ؛ ولذا وقع بعضهم في أغلاط ، في مسألة طلب الشفاعة من النبي - عليه الصلاة والسلام - كما فعل النووي وابن قدامة في المغني وغيرهما . وهذا لا يعد خلافا في المسألة ؛ لأن هذا الخلاف راجع إلى عدم فهم حقيقة هذا الأمر ، ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء ؛ ولهذا يقول بعض أهل العلم من أئمة الدعوة رحمهم الله : إقامة الحجة في مسائل التوحيد تختلف بحسب قوة الشبهة ، فأقل الشبهات ورودا ، وأيسر الحجج قدوما على المخالف هو فيما يتعلق بأصل دعوة غير الله معه ، وبالاستغاثة بغير الله ، والذبح لغيره ، ونحو ذلك . ومن أكثرها اشتباها - إلا على المحقق من أهل العلم - مسألة الشفاعة ؛ ولهذا فإن الشيخ - رحمه الله - أتى بهذا الباب ، وقال : " باب الشفاعة " وبين لك - بما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة - أن الشفاعة التي تنفع لا تصح إلا بشروط ، وكذلك فإن هناك شفاعة منفية ، فليست كل الشفاعة مقبولة ، بل منها ما يقبل ، ومنها مالا يقبل ؛ فالمقبول منها : له شروط وضوابط ، والمردود منها : فلقيام أوصاف توجب ردها .(21/295)
فالحاصل : أن الشفاعة الواردة في القرآن والسنة : قسمان : شفاعة منفية ، وشفاعة مثبتة . فالشفاعة المنفية : هي التي نفاها الله - جل وعلا - عن أهل الإشراك ، وأول الأدلة التي ساقها الشيخ - رحمه الله - في بيان هذه المسألة :
قوله عز وجل : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] والشفاعة الواردة هنا هي : الشفاعة المنفية ، وقد نفاها الله عن جميع الخلق ، بما في ذلك الذين يخافون وهم أهل التوحيد ، كما نفاها عن غيرهم . أما عن أهل التوحيد فهي منفية عنهم إلا بشروط ، وهي : إذن الله للشافع أن يشفع ، ورضاه - جل وعلا - عن الشافع وعن المشفوع له .(21/296)
فقوله هنا : { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } يعني : أن الشفيع في الحقيقة هو الله - جل جلاله - دون ما سواه ؛ ولهذا عقبها بالآية الأخرى ، فقال : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 44 ] فالشفاعة جميعا ملك لله ، وأهل الإيمان وغيرهم - في الحقيقة - ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع ، فليس من أحد يشفع لهم من دون الله - جل وعلا - بل لا بد أن تكون الشفاعة بالله ؛ يعني : بإذنه وبرضاه .
فإذا تقرر ذلك وأن الشفاعة منفية عن أحد سوى الله - تعالى - لأنه هو الذي يملك الشفاعة وحده ، بطل تعلق قلوب المشركين الذين يسألون الموتى الشفاعة ، بمسألة الشفاعة ؛ لأن الشفاعة ملك لله ، وهذا المدعو لا يملكها .(21/297)
لكن هل تنفع الشفاعة مطلقا أم لا بد لها أيضا من قيود ؟ ! نعم : الشفاعة تنفع لكن لا بد لها من شروط ؛ ولهذا أورد الآيتين بعدها وهما قوله جل وعلا : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] ، ووجه الاستدلال من الآية الأولى : أنه قيد الإذن فيها ؛ فليس لأحد أن يشفع إلا بشرط أن يأذن الله له ، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه ، فلا الملائكة ، ولا الأنبياء ، ولا المقربون ، يملكون شيئا من الشفاعات ، وإنما الله - جل وعلا - هو الذي يملك الشفاعة . فإذا كان كذلك وأنه لا بد من إذنه - جل وعلا - فمن الذين يأذن الله - جل وعلا - لهم ؟ ليعلم أولا : أن لا أحد يبتدئ بالشفاعة دون أن يأذن الله له بها ، فإذا كان ذلك كذلك رجع الأمر إلى أن الله هو الذي يوفق للشفاعة ، وهو الذي يأذن بها فلا أحد يبتدئ بها .(21/298)
وكذلك قال في الآية الأخرى : { إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ } يعني : من الشافعين { وَيَرْضَى } أي : يرضى قول الشافع ، ويرضى - أيضا - عن المشفوع له .
ففائدة هذه الشروط وهي الفائدة المراد تقريرها في هذا الباب : أن لا يتعلق أحد بمن يظن أو يعتقد أن له عند الله مقاما وأنه يشفع له عند الله ، كما يعتقد ذلك أهل الشرك في آلهتهم ، حيث يزعمون أن من توجهوا إليهم بالشفاعة يملكون ذلك ، جزما ، فمتى توجه إليهم الطالب ، وتذلل لهم ، وتقرب إليهم بالعبادات ثم طلب منهم الشفاعة عند الله فإنهم يشفعون جزما ، وأن الله - عز وجل - لا يرد شفاعتهم .(21/299)
فهذه الآيات فيها : إبطال لدعوى أولئك المشركين ، واعتقادهم أن أحدا يملك الشفاعة بدون إذن الله ، وبدون رضاه عن المشفوع وإذا ثبت أنه لا أحد يملكها ، وأن من يشفع إنما يشفع بإكرام الله له ، وبإذنه - جل وعلا - له فكيف يتعلق المتعلق بهذا المخلوق ، بل الواجب أن يتعلق بالذي يملك الشفاعة ؛ وإذا كان من المتقرر شرعا أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم حاصلة يوم القيامة ، فهل يصح طلبها منه ؟ الجواب : أن طلبها إنما هو من الله - تعالى - فتقول في ذلك : اللهم شفع فينا نبيك ؛ لأنه - تعالى - هو الذي يفتح ، ويلهم النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يشفع في فلان وفي فلان ، فيمن سألوا الله أن يشفع لهم النبي عليه الصلاة والسلام ؛ ولهذا أعقبها الشيخ - رحمه الله - بآية سبأ فقال : وقوله : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } [ سبأ : 22 ] ، فهذه الآية اشتملت على أربع حالات :(21/300)
الحالة الأولى : أن يدعوا الذين زعموهم من دون الله ، وأن ينظروا هل يملكون مثقال ذرة في السماوات أو في الأرض ؟ ! والجواب : كما قال جل وعلا : { لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } فانتفى عنهم الملك الاستقلالي ، وهذه هي الحالة الأولى .(21/301)
والثانية : في قوله : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } إذ نفى - هنا - أيضا : أن يكونوا شركاء لله في الملك ، وفي تدبير السماوات والأرض ، أو في ملك شيء منهما ، فنفى أولا أن يملكوا استقلالا ، ونفى ثانيا أن يملكوا شركة ، ثم قال - عز وجل - بعدها : { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } والظهير : هو المعاون والمؤازر ، والوزير ، وقوله تعالى : { وَمَا لَهُ } أي : الله تعالى ، و : { مِنْهُمْ } يعني : من تلك الآلهة ، ما له من وزير ولا معاون ؛ لأنه قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن ثمت من يعين الله على تدبير الأمور وتصريف الشؤون ، كالملائكة أو الأنبياء ؛ فيظن أنه إذا توجه إلى أولئك بالدعاء وبالطلب ، كان قد توجه إلى من يعين الله ، فيعتقد أنه إذا طلب من الله فإن الله لن يرده ؛ لأنه ممن يعين الله ! وقد بنوا هذا الاعتقاد الفاسد على تشبيه الخالق - تعالى - بما يحصل من المخلوقين بعضهم لبعض ؛ فإن الملك في هذه الدنيا ، أو الحاكم ، أو الأمير إذا كان له من يعينه ، ومن يظاهره ، وشفع هذا المعين لأحد فإنه لا يرد شفاعته ؛ لأنه يحتاجه ؛ فلأجل هذه الحاجة لا يرد الأمير ، أو الملك ، شفاعة من كان له ظهيرا ، فلما ظن(21/302)
هؤلاء المشركون أن بعض تلك الآلهة معاونة لله - جل وعلا - نفى الله هذا الاعتقاد الجاهلي ، وهذه هي الحالة الثالثة . ثم نفى أخيرا آخر اعتقاد ، وهو : أن تلك الآلهة تملك الشفاعة ، فقال جل وعلا : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] فنفى - آخر ما نفى - الشفاعة ، وأثبتها بشرط فقال : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ، وهذه هي الحالة الرابعة .
إذن : فالآيات التي سبقت من أول الباب إلى هنا رتبها الإمام - رحمه الله - ترتيبا موضوعيا ؛ ووجه الاستدلال في الآية الأولى والثانية : أن الشفاعة ملك لله ، وليس لأحد شيء من الشفاعة . فإذا كان لا يملك فمن يشفع إذا ؟ وكيف يشفع ؟ الجواب : يشفع بأن يعطى الشفاعة ، ويؤذن له بها ، ويكرم بها .
وسؤال آخر وهو : هل يشفع الشافع استقلالا ؟ وجوابه : أن الله تعالى نفى شفاعة الاستقلال ، وأثبت الشفاعة بشرط ، وهو شرط الإذن والرضا .(21/303)
إذا كان كذلك فمن الذي يؤذن له ؟ ومن الذي يرضى له أن يشفع ؟ ومن الذي يرضى عنه أن يشفع فيه ، هذه ثلاثة أسئلة جوابها في كلام شيخ الإسلام حيث قال المصنف - رحمه الله :
قال أبو العباس : " نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونا لله ، ولم يبق إلا الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] ، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفها القرآن . . . . . " ومعنى قول أبي العباس : " منتفية يوم القيامة " : يعني عن جميع الخلق ، إلا لمن أثبت الله - جل وعلا - له الاستحقاق ، أو أن يكون نائلا تلك الشفاعة ، يعني : الأصل أن لا شفاعة إلا لمن رضي الله قوله أو أذن له جل وعلا .(21/304)
ثم قال أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله : " كما نفاها القرآن ، « وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ، ويحمده » : قول الشيخ - رحمه الله - ، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة ، كما نفاها القرآن " يعني : منتفية بدون شروط ؛ لأن المشركين يعتقدون أنها تحصل بدون إذن من الله ولا رضا ؛ لأن الشافع عندهم يملك الشفاعة ، ولكن حقيقتها : أنها لا تحصل إلا بالشرط المذكور في الكتاب والسنة .
ثم قال أبو العباس - رحمه الله : " . . . . . . يأتي فيسجد لربه ويحمده - لا يبدأ بالشفاعة أولا - ثم يقال له : ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع " .(21/305)
« وقال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : " من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه » (1) ، فالدليل الأول وهو من السنة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم - لا يشفع حتى يؤذن له كما في قوله : « يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع » (2) ، فهذا في دليل الإذن . لكن من الذي يؤذن له ؟ الجواب : يؤذن للنبي عليه الصلاة والسلام ، ويؤذن للرسل فلا يبتدئون بالشفاعة من أنفسهم ، وإنما يستأذنون في الشفاعة فيؤذن لهم ؛ لأنهم لا يملكونها ، وإنما الذي يملكها إنما هو الله سبحانه وتعالى .
فإذا قيل : فمن الذي يؤذن في الشفاعة فيه ؟ ومن الذي يرضى عنه في الشفاعة ؟ فالجواب جاء في الحديث الآخر ؛ حيث « قال أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : " من قال : لا إله إلا الله ، خالصا من قلبه » (3) فهذا الذي يرضى عنه ، فيشفع فيه ، بعد إذن الله - جل وعلا - فالمخصوصون بنيل الشفاعة هم : أصحاب الإخلاص من أهل التوحيد ، فتبين أن تلك الشفاعة منتفية عن أهل الشرك .
_________
(1) أخرجه مسلم (194) مطولا .
(2) أخرجه البخاري (99) .
(3) تقدم .(21/306)
ثم قال أبو العباس ابن تيمية : " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله " : ومعنى هذا : أن من توجه إلى الموتى ، أيا كانوا : رسلا ، أم أنبياء ، أو صالحين أو كالصالحين لطلب الشفاعة منهم فإنه مشرك ؛ لأنه توجه بالدعاء لغير الله ، وأولئك لا يملكون الشفاعة ، وإنما يشفعون بعد الإذن والرضا ، والرضا يكون عن أهل التوحيد ، وأهل التوحيد هم الذين لا يسألون الشفاعة أحدا من الموتى .
فكل من سأل ميتا الشفاعة : فقد حرم نفسه الشفاعة ؛ لأنه أشرك بالله - جل وعلا - والشفاعة المثبتة ، إنما هي لأهل الإخلاص ، ليس لأهل الشرك فيها نصيب .
" وحقيقته " : يعني حقيقة الشفاعة .(21/307)
ثم قال ابن تيمية - رحمه الله - موضحا حقيقة الشفاعة : " وحقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه ، وينال المقام المحمود " ، فهذا الكلام في مقام بيان حقيقة الشفاعة ، فإننا قد ذكرنا أن الله نفى أن يملك أحد الشفاعة ، وأنها خاصة به - عز وجل - كما قال سبحانه : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 44 ] ، واللام في قوله : { لِلَّهِ } لام الملك ، يعني : الذي يملك الشفاعة هو الله جل وعلا ، وقال { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ }{ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] فإن الشفاعة إنما هي لله تبارك وتعالى ، وجاءت الأدلة بنفي الشفاعة عن المشركين ، وأن الشفاعة النافعة : إنما هي لأهل الإخلاص ، بشرطين : الإذن ، والرضا .(21/308)
إذا تقرر ذلك : فما حقيقة الشفاعة ؟ يعني : ما حقيقة حصولها ، وكيف تحصل ؟ الجواب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله : " حقيقته : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص " يعني أن الذين شفع لهم ، إنما ذلك بتفضل الله - جل وعلا - عليهم ، وهم أهل الإخلاص ؛ حيث جاء في حديث أبي هريرة قوله عليه الصلاة والسلام : « أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه » أو قال : « خالصا من قلبه ونفسه » ، فأهل الإخلاص هم الذين يكرمهم الله بالشفاعة ، فالمتفضل بالشفاعة هو الله جل وعلا ، فإذا ثبت ذلك : انقطع القلب من التعلق بغير الله في طلب الشفاعة ؛ لأن الذين توجهوا إلى المعبودات المختلفة كالأولياء ، والصالحين ، والملائكة ، وغيرهم : إنما توجهوا إليهم رجاء الشفاعة ، كما قال - جل وعلا - عنهم : { وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، فإذ بطل أن تكون لهم الشفاعة وثبت أن المتفضل بالشفاعة هو الله جل وعلا ، فإن الله - جل جلاله - إنما يتفضل بها على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم أي : بواسطة من دعا ، بواسطة دعاء الذي أذن له أن يشفع .(21/309)
وهاهنا سؤال : لم لم يتفضل الله عليهم بأن يغفر لهم بدون واسطة الشفاعة ؟ والجواب عن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله : " ليكرمه " ، أي : إظهارا لفضل الشافع ، وإكرام الله - تعالى - له في ذلك المقام ، فإن من المعلوم : أن الشافع - الذي قبلت شفاعته - ليس في المقام مثل المشفوع له ؛ فالله - جل وعلا - يظهر إكرامه لمن أذن له أن يشفع ، ويظهر رحمته بالشافع ؛ فقد تكون للشافع قرابة ، أو أحباب يريد أن يشفع لهم ، ولذلك : فإن الشفاعة يوم القيامة لأهل الكبائر : ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، بل يشفع - أيضا - الأنبياء ، والملائكة ، والصالحون . فهذه شفاعات مختلفة في أهل الكبائر جعلها الله إكراما للشافع ، ورحمة به ، وأيضا : رحمة بالمشفوع له ، وإظهارا لفضل الله - جل وعلا - على الشافع ، والمشفوع له .(21/310)
فالحاصل : أن حقيقة الشفاعة تكون بتفضيل الله - تعالى - على المأذون له بالشفاعة ليشفع وإكرامه بذلك ، ثم تفضله على المشفوع له ورحمته بقبول الشفاعة فيه . وهذا كله دال - لمن كان له قلب - على عظم الله - جل وعلا - وتفرده بالملك ، وتفرده بتدبير الأمر وأنه - سبحانه - الذي يجير ولا يجار عليه ، وهو الذي له الشفاعة كلها ، وهو الذي له ملك الأمر كله ؛ ليس لأحد منه شيء ، وإنما يظهر - سبحانه - فضله ، وإحسانه ، ورحمته ، وكرمه ؛ لتتعلق به القلوب ، فبطل - إذا - أن يكون ثم تعلق للقلب بغير الله - جل وعلا - لأجل الشفاعة ، وبطل - أيضا - صنيع الذي تعلقوا بالأولياء ، أو تعلقوا بالصالحين ، أو بالأنبياء ، أو بالملائكة لأجل الشفاعة ، فإذا تبين حد الشفاعة ، وحقيقتها ، وأنها محض فضل من الله سبحانه وتعالى وإكرام ، أوجب ذلك تعلق القلوب به سبحانه في طلب الشفاعة ، ورجائها ؛ فالله تعالى هو المتفضل بها على الحقيقة ، والعباد مكرمون بها ، لا يبتدئون بالقول ، ولا يسبقون بالقول ، وإنما يجلون ، ويخافون ، ويثنون على الله ، ويحمدون ، حتى يؤذن لهم بالشفاعة .(21/311)
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك " أي : مثل ما في قوله جل وعلا : { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] فهذه شفاعة منفية ، وهي الشفاعة التي فيها شرك ، وكذلك : فإن المشركين لا يشفعون ؛ فالشفاعة في حقهم منفية ؛ لأنهم لم يرض عنهم . فالشفاعة التي فيها شرك من جهة الطلب ، أو من جهة من سئلت له ، بأن كان مشركا ، فإنها منفية عن هؤلاء ، بل لا تنفعهم . فثبت بذلك أن المستحقين للشفاعة هم الذين أنعم الله عليهم بالإخلاص ، ووفقهم لتعظيمه ، وتعلقت قلوبهم به وحده دون ما سواه ؛ بخلاف الذين حرموها من المشركين بالله الشرك الأكبر ، فلا نصيب لهم منها ؛ لأن الشفاعة فضل من الله لأهل الإخلاص .(21/312)
وأما الشفاعة المثبتة فهي التي أثبتت بشرط الإذن ، والرضا . قال شيخ الإسلام بعد ذلك : " ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع " . وهذه هي الشفاعة المثبتة " أثبتها بإذنه في مواضع " : أي بشرط الإذن ، والإذن : إما إذن كوني ، وإما إذن شرعي ؛ فالمأذون له بالشفاعة لا يمكن أن تحصل منه الشفاعة ، إلا أن يأذن الله له كونا بأن يشفع ، فإذا منعه الله كونا أن يشفع لم تحصل منه الشفاعة ولا تحركت بها لسانه .
ومعنى الإذن في باب الشفاعة : بأن تكون خالصة وخالية من الشرك ، وأن يكون المشفوع له ليس من أهل الشرك . ويخص من ذلك أبو طالب ، حيث يشفع له النبي عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه ، فهي شفاعة ليست في الانتفاع بالإخراج من النار ، إنما هي في تخفيف العذاب ، خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام بما أوحى الله - جل وعلا - إليه ، وأذن له بذلك .(21/313)
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في آخر كلامه : " وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص " ، وهذه هي الشفاعة المثبتة بشرط الرضا . فتبين بهذا الباب أن الشفاعة التي تعلقت بها قلوب أولئك الخرافيين المشركين باطلة ؛ وأن قولهم : { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] قول باطل ؛ إذ الشفاعة التي تنفع إنما هي لأهل الإخلاص ثم إن طلبها وسؤالها من غير الله تعالى مؤذن بحرمانهم إياها ، ما داموا طلبوها من غير الله ، ووقعوا في الشرك الصريح .
وخلاصة الباب : أن تعلق أولئك بالشفاعة عاد عليهم بعكس ما أرادوا ، فإنهم لما تعلقوا بالشفاعة حرموها ؛ لأنهم تعلقوا بشيء لم يأذن الله - جل وعلا - به شرعا ؛ حيث استخدموا الشفاعات الشركية ، وتوجهوا إلى غير الله ، وتعلقت قلوبهم بهذا الغير .(21/314)
" باب قول الله تعالى :
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ]
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عم ، قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا ، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك " ، فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] . وأنزل الله - تبارك وتعالى - في أبي طالب : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }» [ القصص : 56 ] (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .
_________
(1) أخرجه البخاري (1360) و (3884) و (4675) و (4772) و (6681 ) ، ومسلم (24) .(21/315)
الثانية تفسير قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } .
الثالثة : وهي المسألة الكبرى تفسير قوله : « قل لا إله إلا الله » ، بخلاف ما عليه من يدعي العلم .
الرابعة : أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل : « قل لا إله إلا الله » ؛ فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام .
الخامسة : جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه .
السادسة : الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه .
السابعة : كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له ، بل نهي عن ذلك .
الثامنة : مضرة أصحاب السوء على الإنسان .
التاسعة : مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر .
العاشرة : استدلال الجاهلية بذلك .
الحادية عشرة : الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم ؛ لأنه لو قالها لنفعته .
الثانية عشرة : التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين ؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها ؛ مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره . فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها .(21/316)
الشرح :
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد :(21/317)
أن الهداية من أعز المطالب ، وأعظم ما تعلق به المتعلقون بغير الله ؛ أن يحصل لهم النفع الدنيوي والأخروي من الذين توجهوا إليهم ، واستشفعوا بهم . ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق ، وسيد ولد آدم قد نفى الله عنه أن يملك الهداية - وهي نوع من أنواع المنافع - دل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام ، ليس له من الأمر شيء ، كما جاء فيما سبق في باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ الأنعام : 191 ] في سبب نزول قول الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، فإذا كان النبي - عليه الصلاة والسلام - ليس له من الأمر شيء ، ولا يستطيع أن ينفع قرابته ، كما جاء في قوله : " يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت ، لا أغني عنك من الله شيئا " (1) أقول : إذا كان هذا في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يغني من الله - جل وعلا - عن أحبابه شيئا ، وعن أقاربه شيئا ولا يملك شيئا من الأمر ، وليست بيده هداية التوفيق ، فإنه أن ينتفي ذلك ، وما دونه ، عن غير النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى .
_________
(1) أخرجه البخاري (4770) ومسلم (208) .(21/318)
فبطل - إذا - كل تعلق للمشركين - من هذه الأمة - بغير الله جل وعلا ؛ لأن كل من تعلقوا به هو دون النبي عليه الصلاة والسلام بالإجماع ، فإذا كانت هذه حال النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد نفى الله عنه ملك هذه الأمور ، فإن نفي ذلك عن غيره من باب أولى .
قال هنا : " باب قول الله تعالى { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } : (لا) هنا نافية ، وقوله " تهدي " الهداية المنفية هنا : هي هداية التوفيق ، والإلهام الخاص ، والإعانة الخاصة ، وهي التي يسميها العلماء : هداية التوفيق والإلهام ، ومعناها : أن الله - جل وعلا - يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قبول الهدى ، ما لا يجعله لغيره . فالتوفيق إعانة خاصة لمن أراد الله توفيقه ؛ بحيث يقبل الهدى ويسعى فيه . فجعل هذا في القلوب ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، حتى إن أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع - عليه الصلاة والسلام - أن يجعله مسلما مهتديا ، وقد كان أبو طالب من أنفع قرابة النبي صلى الله عليه وسلم له ، ومع ذلك لم يستطع أن يهديه هداية توفيق . فالمنفي هنا في قوله : [ تهدي ] هي هداية التوفيق .(21/319)
والنوع الثاني من الهداية المتعلقة بالمكلف هي : هداية الدلالة والإرشاد ، وهذه ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه ، ولكل داع إلى الله ، ولكل نبي ورسول ، قال جل وعلا : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، وقال - جل وعلا - في نبيه عليه الصلاة والسلام : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }{ صِرَاطِ اللَّهِ } [ الشورى : 52 - 53 ] ، ومعنى [ لتهدي ] أي : لتدل وترشد إلى صراط مستقيم بأبلغ أنواع الدلالة ، وأبلغ أنواع الإرشاد ، المؤيدين بالمعجزات والبراهين الدالة على صدق ذلك الهادي ، وصدق ذلك المرشد .
فالهداية المنتفية - إذا - هي : هداية التوفيق ، وهذا يعني : أن النفع ، وطلب النفع في هذه المطالب المهمة يجب أن يكون من الله جل وعلا ، ومحمد - عليه الصلاة والسلام - مع عظم شأنه عند ربه ، وعظم مقامه عند ربه ، وأنه سيد ولد آدم ، وأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام ، وأشرف الأنبياء والمرسلين : إلا أنه لا يملك من الأمر شيئا عليه الصلاة والسلام .(21/320)
فبطل - إذا - تعلق القلوب في المطالب المهمة - كالهداية ، والمغفرة ، وطلب الرضوان ، وطلب دفع الشرور ، وفي جلب الخيرات - إلا بالله - جل وعلا - فإنه هو الذي يجب أن تتعلق القلوب به - جل وعلا - خضوعا ، وإنابة ، ورغبا ، ورهبا ، وإقبالا عليه ، وإعراضا عما سواه سبحانه وتعالى .
قوله : " في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : « لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله " ، فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا ، فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله » .(21/321)
في هذا القدر من الحديث فائدة ، وهي : أن هذه الكلمة ( لا إله إلا الله ) ليست كلمة مجردة عن المعنى ، تنفع من قالها ، ولو لم يقر بمعناها . والعرب كانوا لصلابتهم ، وعزتهم ، ورجولتهم ، ومعرفتهم بما يقولون إذا تكلموا ، أو خوطبوا بكلام ، يعون كل حرف ، وكل كلمة خوطبوا بها ، أو نطقوا بها ؛ ولذلك لما قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله مع أنها كلمة يسيرة أبوا ؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة معناها : إبطال إلهية من سوى الله - جل وعلا - ولهذا قال جل وعلا : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ }{ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ }{ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } الآيات [ الصافات : 35 - 37 ] ، وكذلك قول الله - جل وعلا - مخبرا عن قولهم في أول سورة ( ص ) : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } [ ص : 5 ] استنكروا قول : ( لا إله إلا الله ) . وهذا هو الذي حصل مع أبي طالب لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله » . فلو كانت كلمة مجردة من المعنى عندهم ، أو يمكن أن(21/322)
يقولها المرء دون اعتقاد ما فيها ، ورضى بما فيها ويقين وانتفاء الريب : لقالها ، ولكن ليس هذا هو المقصود من قول (لا إله إلا الله ) ، بل المقصود هو قولها مع تمام اليقين بها ، وانتفاء الريب ، والعلم ، والمحبة ، إلى آخر الشروط المعروفة .
وقوله في الحديث : فقالا له : " أترغب عن ملة عبد المطلب " : هذا فيه - والعياذ بالله - ضرر جليس السوء على المجالس له .
وقوله : « فكان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك » : وهذا موطن الشاهد من هذا الحديث . ومناسبة هذا الحديث ، لهذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لأستغفرن لك » واللام في قوله : " لأستغفرن " هي التي تقع في جواب القسم ؛ فثم قسم مقدر ، تقديره : والله لأستغفرن لك . فالاستغفار حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لعمه ، ولكن : هل نفع استغفار النبي صلى الله عليه وسلم له ؟ ؟ لم ينفعه ذلك .(21/323)
وطلب الشفاعة والاستشفاع هو : من جنس طلب المغفرة ، فالاستغفار طلب المغفرة ، والشفاعة قد يكون منها طلب المغفرة ، ولكن لم يقبل الله تعالى من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته لعمه ؛ لأن المطلوب له كان مشركا ، والاستغفار والشفاعة لا تنفعان أهل الشرك ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك أن ينفع مشركا بالشفاعة له بمغفرة ذنوبه ، أو أن ينفع أحدا ممن توجه إليه بدعوة ؛ أو استغاثة ، أو استعانة لإزالة ما به من كربات . أو جلب الخيرات له ؛ لهذا قال : « لأستغفرن لك ما لم أنه عنك » فأنزل الله عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [ التوبة : 113 ] ، وهذا ظاهر في المقام : أن الله - جل وعلا - نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمشركين .
فائدة : كلمة ( ما كان ) في الكتاب والسنة تأتي على استعمالين :
الاستعمال الأول : النهي .
والاستعمال الثاني : النفي .(21/324)
فالنهي : مثل هذه الآية ، وهي قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة 122 ] ، فهذا نهي عن الاستغفار لهم ، وكذلك قوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } ، والنفي كقوله : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
فإذا عرفنا أن كلمة ( ما كان ) تأتي في القرآن على هذين المعنيين ، فالمراد بها - هنا - النهي ، أي : النهي عن الاستغفار لأحد من المشركين . فإذا كان الله عز وجل نهى الرسل ، والأنبياء ، والأولياء ، وغيرهم من أهل الصلاح - في حال حياتهم - عن الاستغفار لهؤلاء المشركين ، فهذا يدل : أنه لو فرض أنهم يقدرون على الاستغفار في حال حياتهم البرزخية : فإنهم لن يستغفروا للمشركين ، ولن يسألوا الله لمن توجه إليهم - حال موتهم - لطلب الاستشفاع ، أو لطلب الإغاثة ، أو غيرها من العبادات ، وأنواع التوجهات . والله أعلم .
قال : وأنزل الله في أبي طالب : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [ القصص : 56 ] .(21/325)
" باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين "
وقول الله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } [ النساء 171 ] .
وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : في قول الله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] .
قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت . (1) .
وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد ، فعبدوهم . (2) .
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » أخرجاه . (3)
_________
(1) أخرجه البخاري (4920) .
(2) إغاثة اللهفان . ط دار ابن زيدون 552 - 223 .
(3) أخرجه البخاري (3445) (6830) ومسلم (1691) .(21/326)
وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو » (1) ، ولمسلم : عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هلك المتنطعون " . قالها ثلاثا » . (2) .
فيه مسائل :
الأولى : أن من فهم هذا الباب وبابين بعده ؛ تبين له غربة الإسلام ، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب .
الثانية : معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين .
الثالثة : أول شيء غير به دين الأنبياء ، وما سبب ذلك ، مع معرفة أن الله أرسلهم .
الرابعة : قبول البدع ، مع كون الشرائع والفطر تردها .
الخامسة : أن سبب ذلك كله : مزج الحق بالباطل ، فالأول محبة الصالحين . والثاني : فعل أناس من أهل العلم شيئا ، أرادوا به خيرا ، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره .
السادسة : تفسير الآية التي في سورة نوح .
السابعة : جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد .
الثامنة : فيه شاهد لما نقل عن السلف ، أن البدع سبب الكفر .
التاسعة : معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ، ولو حسن قصد الفاعل .
العاشرة : معرفة القاعدة الكلية ، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه .
_________
(1) أخرجه أحمد 1 / 215 ، 347 وابن ماجه (3064) .
(2) أخرجه مسلم (2670) .(21/327)
الحادية عشرة : مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح .
الثانية عشرة : معرفة النهي عن التماثيل ، والحكمة في إزالتها .
الثالثة عشرة : معرفة شأن هذه القصة ، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها .
الرابعة عشرة : وهي أعجب وأعجب : قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ، ومعرفتهم بمعنى الكلام ، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم ، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات ؛ فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه ، فهو الكفر المبيح للدم والمال .
الخامسة عشرة : التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة .
السادسة عشرة : ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور ، أرادوا ذلك .
السابعة عشرة : البيان العظيم في قوله : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم » فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين .
الثامنة عشرة : نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين .
التاسعة عشرة : التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم ؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده ، ومضرة فقده .
العشرون : أن سبب فقد العلم : موت العلماء .
الشرح :(21/328)
بين الشيخ - رحمه الله - فيما سبق من الأبواب أصولا عظيمة ، وأقام البراهين على التوحيد ، وبين ما يتعلق به المشركون ، وأبطل أصول اعتقادهم بالشريك ، أو الظهير ، أو الشفيع ، ونحو ذلك .(21/329)
فإذا كان التوحيد ظاهرا ، والأدلة عليه من النصوص بينة ، فكيف - إذا - دخل الشرك ؟ وكيف وقع الناس فيه ؛ والأدلة على انتفائه ، وبطلانه ، وعدم جوازه ظاهرة ؟ مع أن الرسل جميعا بعثوا ، ليعبد الله وحده دون ما سواه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } [ النحل : 36 ] ، فما سبب الغواية ؟ وما سبب الشرك ؟ فإذا كانت قضية التوحيد من أوضح الواضحات ، والأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على وجوب إحقاق عبادة الله وحده ، وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله - جل جلاله وتقدست أسماؤه - فما سبب وقوع الشرك إذا ؟ وكيف وقعت فيه الأمم ؟ وللأجوبة على هذه الأسئلة أورد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب وما بعده ؛ ليبين أن سبب الشرك ، وسبب الكفر هو : الغلو الذي نهى الله - جل وعلا - عنه ، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ، سواء في هذه الأمة أو في الأمم السابقة ، فأحد أسباب وقوع الكفر والشرك هو : الغلو في الصالحين ، بل هو سببهما الأعظم .(21/330)
قال هنا : " باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين " هذا ذكر للأسباب ، بعد ذكر الأصول والعقائد .
" هو الغلو في الصالحين " : الغلو : مأخوذ من غلا الشيء : يغلو ، غلوا : إذا جاوز به حده ، وقد جاء في الحديث « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرات بحصيات ، قال : " بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو » (1) يعني : لا تجاوزوا الحد حتى في حجم تلك الحصاة ، ومقدارها ؛ ولذلك أرشدهم إلى الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه بقوله : « بمثل هذه فارموا » فإذا جاوز في المثلية ، بأن رمى بكبيرة : فإنه قد غلا ، يعني : جاوز الحد الذي حد له في ذلك ، فالغلو - إذا - هو : مجاوزة الحد .
والمقصود بـ " الغلو في الصالحين " الذي هو سبب كفر بني آدم ، وتركهم ، دينهم الذي أمروا به : أنهم تجاوزوا الحد الواجب في تعظيمهم حتى آل بهم الأمر إلى الشرك .
وقوله : " الصالحون " : يشمل كل من قام به هذا الوصف ، من الأنبياء ، والرسل ، والأولياء ، من أي أمة كانوا .
_________
(1) رواه أحمد في المسند (1 / 215 - 347) والنسائي (5 / 268) ابن ماجه (3064) وصححه الذهبي والنووي وابن تيمية في الاقتضاء ص106 .(21/331)
وأصل كلمة ( الصالحين ) أنها جمع ( الصالح ) . والصالح : هو اسم من قام به الصلاح ، والصلاح في الكتاب والسنة تارة يكون بمعنى نفي الفساد أي : ما يقابل الفساد ، وتارة يكون بمعنى ما يقابل السيئات ، فيقال صالح بمعنى ليس بذي فساد ، ويقال أيضا صالح بمعنى : ليس بسيئ .
والصالحون هنا المراد بهم . : أهل الصلاح يعني : أهل الطاعة والإخلاص لله - جل وعلا - الذين اجتنبوا الفساد واجتنبوا السيئات ، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات وترك المحرمات ، أو كانوا من السابقين بالخيرات ، فاسم الصالح يقع شرعا على المقتصد ، وعلى السابق بالخيرات ؛ فالمقتصد صالح ، والسابق بالخيرات ، صالح وكل درجات عند اله جل وعلا .(21/332)
" والغلو في الصالحين " يعني : مجاوزة الحد فيهم ، لكن ما الحد الذي أذن به الشرع في حق الصالحين ، حتى نعلم متى يكون تعظيمهم مجاوزة للحد المعلوم ؟ الجواب : أنهم إذا كانوا من الرسل : فبالأخذ بشرائعهم ، واتباعهم ، والاقتداء بهم ، مع المحبة ، والاحترام ، والموالاة ، والنصرة ، وغير ذلك من المعاني الداخلة في الحد المأذون به في حقهم . أما الغلو فيهم مجاوزة ذلك الحد ، وهو بحر لا ساحل له ، فمما حصل من الغلو فيهم أنهم جعلت فيهم خصائص الإلهية كما ادعاه في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يعلم سر اللوح والقلم ، وأنه من جوده الدنيا وضرتها كما قاله البوصيري في قصيدته المشهورة ، المسماة بـ (البردة) :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
ومن المعلوم : أن هذا لا يليق إلا بالله ، فهذا من الغلو المنهي عنه ، وكذلك قوله في النبي عليه الصلاة والسلام ، غاليا فيه أعظم الغلو :
لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم(21/333)
يقول : إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعط آية تناسب قدره ، قال الشراح : حتى القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله . يقولون : والقرآن المتلو بخلاف غير المتلو عند الأشاعرة ؛ لأنهم يفرقون بين هذا وهذا .
فهذا البوصيري يغلو ويقول : لو ناسبت قدره - يعني النبي عليه الصلاة والسلام - آياته عظما - يعني في العظمة - أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم ، فالذي يناسب قدره ، عند البوصيري أنه إذا ذكر اسمه على ميت قد درس ، وذهب رميمه في الأرض ، وذهبت عظامه أن تتجمع هذه العظام وتحيى ، لأجل ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله - جل وعلا - ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل ، ويجعلون في حقهم من خصائص الألوهية ما لا إذن لهم به ، بل هو من الشرك الأكبر بالله جل وعلا ، ومن سوء الظن بالله ، ومن تشبيه المخلوق بالخالق ، وهذا كفر والعياذ بالله .(21/334)
فالحد المأذون به شرعا في حقهم مطلوب ، وهذه هي الحالة الأولى . والغلو مذموم شرعا ، ومنهي عنه ، وهذه هي الحالة الثانية ، ويقابلها : الجفاء ، في حقهم وهي الحالة الثالثة . وهذا الجفاء له صور منها : عدم موالاتهم ، وبخسهم حقهم ، وترك محبتهم ، فالحاصل : أن كل تقصير في حقهم يعد جفاء ، وكل زيادة فيه يعد غلو .
قوله : " وقول الله عز وجل : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } . . . . . . مناسبته للباب ظاهرة ، وهي : أنه تعالى نهى أهل الكتاب عن الغلو ، فقال : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } . . . . . . . . . [ النساء : 171 ] ، ووجه الاستدلال من الآية أنه قال : { لَا تَغْلُوا } . و ( تغلو) فعل جاء في سياق النهي فهو يعم جميع أنواع الغو في الدين ، أي : لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين ، أي لا تغلو بأي نوع من أنواع الغلو في الدين ؛ فنهوا عن أي نوع من أنواع الغلو . فيدخل في هذا عموم الغلو في الصالحين وغيرهم .(21/335)
والمتأمل لحال أهل الكتاب ، ولما قص الله - جل وعلا - من أخبارهم : يجد أنهم قد غلوا في صالحيهم ، كغلو النصارى - مثلا - في عيسى - عليه السلام - وفي أمه وفي حوارييه ، وكغلو اليهود - أيضا - في عزير ، وفي أصحاب موسى ، وفي أحبارهم ، وفي رهبانهم وهكذا . فحصل الغلو في أهل الكتاب بأن جعلوا للرسل والأنبياء خصائص الألوهية من جهة التوجه لهم ، وقد قال الله جل وعلا : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } [ المائدة : 72 - 73 ] ، وفي آخر سورة المائدة أيضا قال الله جل وعلا : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } يعني : تنزيها وتعظيما لك أن أقول لهم ذلك ؛ لأن ذلك من الشرك ، فكيف(21/336)
أقول لهم ذلك ؟ ! { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ }{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [ المائدة : 116 - 117 ] ، وهذا كله في التوحيد . فالحاصل : أن الغلو وقع من أتباع الرسل ، وأتباع الأنبياء في الأنبياء والرسل ، وغلوا - أيضا - في الصالحين من أتباعهم ، وجعلوا لهم بعض خصائص الإلهية ، وجعلوا لهم الشفاعة ، وزعموا أن لهم نصيبا من الملك ، أو أنهم يدبرون الأمور ، أو أنهم يصرفون شيئا من الملكوت ، وهذا كما يعتقده بعض الصوفية : أن للكون أقطابا أربعة يدبرون أمر هذا العالم ، وربما قالوا : الربع الفلاني ، المسؤول عنه : القطب الفلاني ، والربع الفلاني ، المسؤول عنه : القطب الفلاني ، وهكذا . فجعل هؤلاء المتصوفة لأقطابهم المزعومين نصيبا من الملك والربوبية ،وجعلوا لهم - أيضا - نصيبا من الإلهية ؛ فتقربوا إليهم بأنواع القربات : من الذبح ، والاستغاثة ، والتذلل ، والخضوع ، والمحبة ،(21/337)
والتوكل ، والرغب ، والرهب ، وخوف السر ، وغيرها من أنواع العبادات القلبية والعملية .
قوله : " وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قول الله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }{ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } [ نوح 23 - 24 ] .
قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم . . . . " : هذه القصة ، أو هذا الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - محمول على الرفع ؛ لأن هذا خبر غيبي لا يستقى إلا من مشكاة النبوة . و ( ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا ) هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح .
ونوح - عليه السلام - هو أول رسول بعثه الله بعبادة الله وحده دون من سواه ، وبالدعوة إلى التوحيد ، لما وقع في قومه . لكن كيف دخل الشرك في قوم نوح ؟ الجواب : أن القرآن ذكر أصلين في الحالين ، من أصول الشرك وذكر غيرهما أيضا : الأصل الأول : شرك قوم نوح ، والأصل الثاني : شرك قوم إبراهيم .(21/338)
وأما شرك قوم نوح فكان بالغلو في الصالحين ، وأرواحهم ؛ فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح ، وأثر تلك الروح ، وأن من تعلق به فإنه يشفع له ، ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى أن صوروا لهم صورا ، ونصبوا لهم أنصابا ، وأوثانا ، وأصناما حتى إذا طال عليهم الأمد عبدوهم .
الأصل الثاني : شرك قوم إبراهيم ، وذلك شرك في التأثير ، يعني : من جهة النظر في الكواكب ومن يؤثر ويحرك ، فهذا شرك في الربوبية ، وما تبعه من الشرك في الألوهية ؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناما ، وجعلوا لها صورا ، وجعلوها أوثانا ، فعبدوها من دون الله - جل وعلا - وتوجهوا إليها . فسبب وقوع الشرك في قوم نوح هو الغلو في الصالحين ، كما قال ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا الشرك : " فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ، ونسي العلم عبدت .(21/339)
وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف : " لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " : الشاهد من هذا : أن أولئك توجهوا إلى الصور - صور الصالحين - وكانوا أهل علم يعلمون أنهم إذا اتخذوا هذه الصور فإنهم لن يعبدوها . لكن كانت تلك الصور للصالحين والمعظمين وسيلة وطريقا وسببا لأن عبدت في المستقبل ، لما نسي العلم . ومن حرص الشيطان المريد على إضلال العبيد : أنه ربما أتى إلى الصورة المتعلق بها ، فأوهم الناظر إليها ، أو المخاطب لها . أنها تتحدث وتتكلم ، أو يسمع منها كلاما ، أو نحو ذلك من الأشياء ، وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الروحانيات كما يقال ، أو تلك الأرواح فيغري أولئك بهم ، وهذا هو الحاصل عند عباد القبور ، والعاكفين عليها ؛ يأتي أحدهم ، ويقول : ذهبت إلى القبر الفلاني ، فكلمني أبي ، ويكون ذلك شيطانا نطق على لسان أبيه ، وربما تصور بصورة أبيه فخرج له في ظلام ونحوه ، فيحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه ، أو يحدثه العالم ، أو الوالي بصوته الذي يعرفه منه ، فتقع الفتنة ، وهذا من قبيل الشيطان ؛ ولهذا قال ابن عباس هنا كلمة تبين السبب في ذلك ؛ فقال : " أوحى(21/340)
الشيطان إلى قومهم " والوحي : إلقاء في خفاء ، والشيطان لا يتحدث علنا ، ولكن يوحي ، يعني : يلقي في خفاء ، فالوحي هو إلقاء الخبر في خفاء ، فألقى الشيطان في روعهم وأنفسهم ذلك الأمر : فكان سببا للشرك بالله - جل وعلا - ولم يكونوا في أول الأمر يعبدونها ، لكنهم لما صوروا صور أولئك الصالحين ، ونصبوا لهم الأنصاب : كان ذلك سببا ووسيلة إلى عبادتهم ، لكن أولئك الذين جعلوها وسائل ، كان عندهم من العلم ما حجزهم عن عبادة الصالحين ، لكن لما نسي العلم عبدت .
وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان هو من الغلو في أولئك الصالحين . وهذا وجه الشاهد ، وهو أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، أو صوروا صورهم ، أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم ليتذكروهم ، وليكون ذلك أنشط لهم في العبادة أو العلم ، ولكن هذه الأفعال التي فعلوها ، كانت سببا من أسباب عبادة أولئك الصالحين ، الذين غلوا في حبهم . وهذا هو مراد الشيخ - رحمه الله - من إيراد هذا الأثر .(21/341)
" وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله » (1) : هذا الحديث فيه : النهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام ، والإطراء هو : مجاوزة الحد - أيضا - في المدح ، أما الغلو فهو يعم أمور كثيرة ؛ فقد يكون في المدح ، وقد يكون في الذم ، وقد يكون في الفهم ، وقد يكون في العلم ، وقد يكون في العمل ، أما الإطراء فهو : الغلو في المدح ، والثناء والوصف . والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إطرائه كإطراء النصارى ابن مريم ، فقال : « إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » .
وقد ظن بعض الناس أن ( الكاف ) في قوله « كما أطرت النصارى ابن مريم » أنها كاف المثلية ؛ يعني : لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم ، ويقول هذا الظان : إن النصارى أطرت ابن مريم في شيء وحد ، وهو أن قالوا : هو ابن الله جل وعلا ، فيكون النهي عن أن تجعل له صلى الله عليه وسلم رتبة النبوة فقط ، فإذا كان كذلك فما عداه جائز . وهذا هو فهم الخرافيين لهذا النهي ؛ كما قال قائلهم البوصيري في هذا المقام :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت فيه واحتكم
_________
(1) أخرجه البخاري (3445) والدارمي (2787)وأحمد (3029) وتقدم الحديث .(21/342)
أو كما قال ، يعني : لا تقل : إنه ولد لله ، أو إنه ابن لله ، فهذا هو القدر المنهي عنه فقط ، ولك أن تقول فيه بعد ذلك ما شئت غير ملوم وغير مثرب عليك .
الوجه الثاني وهو الفهم الصحيح ، وهو الذي يدل عليه السياق : أن ( الكاف ) هنا هي كاف القياس ، والمعنى : لا تطروني إطراء ، كما أطرت النصارى ابن مريم .
وكاف القياس هي كاف التمثيل الناقص ، وحقيقتها : أن يكون هناك شبه بين ما بعدها وما قبلها في أصل الفعل ، فنهى صلى الله عليه وسلم في قوله : « لا تطروني كما أطرت » عن أن يطري عليه الصلاة والسلام كما حصل أن النصارى أطرت ابن مريم فهو تمثيل للحدث بالحدث ، لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء ، فمعنى قوله : « لا تطروني كما أطرت » هو نهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام ؛ لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم ، فقادهم ذلك إلى الكفر ، والشرك بالله ، وادعاء أنه ولد لله جل وعلا ولهذا قال : « إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » .(21/343)
فالكاف هنا ليست كاف التمثيل الكامل ؛ بأن يكون ما بعدها مماثلا لما قبلها من كل وجه ، وإنما هي كاف التمثيل الذي يكون ما بعده مشتركا مع ما قبله في المعنى ، وهي القياسية التي تجمعها العلة ؛ ولهذا قال العلماء كما هو معلوم : هذا كهذا ، فيقولون مثلا : نبيذ غير التمر والعنب ، كنبيذ التمر والعنب ، مساواة بين هذا وهذا ، لوجود أصل المعنى بينهما ، وهنا نهي عن الإطراء ، لأجل وجود أصل الإطراء ، في الاشتراك بين إطراء النصارى وما سببه من الشرك ، وإطراء ما لو أطري النبي صلى الله عليه وسلم وما سيسببه من الشرك .
وكثير من طوائف هذه الأمة خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إطرائه حتى جاوزوا الحد في ذلك ، فزعم زاعمهم أن له من الملك نصيبا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . مع أنه صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بقوله : « إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله » وهذا هو الكمال في حقه عليه الصلاة والسلام : أن يكون عبدا رسولا ، فهذا أشرف مقاماته عليه الصلاة والسلام .(21/344)
قوله : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو » : هذا نهي عن الغلو بأنواعه ، وأن من قبلنا إنما أهلكهم الغلو ؛ أهلكهم من جهة الدين ، وأهلكهم - أيضا - من جهة الدنيا ، فالغلو سبب لكل شر ، والاقتصاد سبب في كل فلاح وخير ، والغلو منهي عنه بجميع صوره ، في الأقوال والأعمال يعني : في جميع أقوال القلب وأعماله ، وكذلك أقوال اللسان وأعمال الجوارح ، فالغلو سبب لهلاك العبد في دينه ودنياه .(21/345)
قوله : " ولمسلم : عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هلك المتنطعون » يعني : هلك الذين تنطعوا فيما يأتون به في أفعالهم ، أو أقوالهم ، وهم الذين جاوزوا الحد في ذلك ، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا ، لم يأذن به الله ؛ فزادوا عما أذن لهم ، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئا ، لم يأذن به الله ؛ فزادوا عما أذن لهم ، فأتوا بأشياء ، لم يؤذن لهم فيها . والتنطع ، والإطراء ، والغلو ، متقاربة المعنى يجمعها مجاوزة الحد المشروع ، والغلو يشمل الإطراء ، ويشمل التنطع ؛ فكل تنطع ، وكل إطراء : غلو ، والغلو اسم جامع لهذه جميعا ، فالشيخ - رحمه الله - - في هذا الباب - بين أن سبب كفر بني آدم ، وسبب تركهم دينهم : هو الغلو في الصالحين ، بأن جاوزوا الحد فيهم ، كما جاوز قوم نوح الحد في صالحيهم ، فعكفوا على قبورهم ، وألهوها ، فصارت آلهة ، والنصارى غلت في رسولهم عيسى عليه السلام ، وفي الحواريين ، وفي البطارقة ، حتى جعلوهم آلهة مع الله - جل وعلا - يستغيثون بهم ، ويؤلهونهم ، ويسألونهم ويعبدونهم ، وكذلك وقع الغلو في هذه الأمة من الذين جعلوا للنبي عليه الصلاة والسلام نصيبا من خصائص الألوهية ، وهذا هو(21/346)
عين ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : « لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » .(21/347)
" باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ، فكيف إذا عبده ؟ "
وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - « أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور ، فقال : " أولئك شرار الخلق عند الله ، أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله » (1) .
فهؤلاء جمعوا بين فتنتين : فتنة القبور ، وفتنة التماثيل .
ولهما عنها قالت : « لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها ، فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا » أخرجاه (2) .
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : « إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك » (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري (427) و (434) و ( 1341 ) و(3878) ، ومسلم (528) .
(2) أخرجه البخاري (435) و (1330) و (1390) و (3453) و (4443) و (5815) ومسلم (531) .
(3) أخرجه مسلم (532) .(21/348)
فقد نهى عنه في آخر حياته ، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله .
والصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد ، وهو في معنى قولها : خشي أن يتخذ مسجدا ، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا ، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » (1) ، ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا : « إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد » . رواه أبو حاتم في صحيحه (2) .
فيه مسائل :
الأولى : ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح ، ولو صحت نية الفاعل .
الثانية النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك .
الثالثة : العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك كيف بين لهم هذا أولا ، ثم قبل موته بخمس ، قال ما قال ؛ ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم .
الرابعة : نهيه عن فعله عند قبره أن يوجد القبر .
الخامسة : أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم .
السادسة : لعنه إياهم على ذلك .
السابعة : أن مراده تحذيره إيانا عن قبره .
الثامنة : العلة في عدم إبراز قبره .
_________
(1) أخرجه البخاري (335) و (438) و (3122) ومسلم (521) .
(2) أخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879).(21/349)
التاسعة : في معنى اتخاذها مسجدا .
العاشرة : أنه قرن بين من اتخذها ، وبين من تقوم عليه الساعة ، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته .
الحادية عشرة : ذكره في خطبته قبل موته بخمس : الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع ، بل أخرجهم بعض أهل العلم الاثنتين والسبعين فرقة ، وهم : الرافضة والجهمية . وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور ، وهم أول من بنى عليها المساجد .
الثانية عشرة : ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع .
الثالثة عشرة : ما أكرم به من الخلة .
الرابعة عشرة : التصريح بأنها أعلى من المحبة .
الخامسة عشرة : التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة .
السادسة عشرة : الإشارة إلى خلافته .
الشرح :
في هذا الباب مع الأبواب بعده بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هذه الأمة ، وأنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ، ومن تمام حرصه على الأمة أن حذرهم كل وسيلة تصل بهم إلى الشرك ، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى ذلك ، وغلظ في ذلك ، وشدد فيه ، وأبدى وأعاد ، حتى إنه بين ذلك ؛ خشية أن يفوت تأكيده ، وهو يعاني سكرات الموت عليه الصلاة والسلام .(21/350)
فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر ، وما ينبغي سده ومنعه من الذرائع الموصلة إليه ؛ رعاية وحماية للتوحيد ؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - غلظ على من يفعلون شيئا من تلك الوسائل ، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك .
وهذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك ، والذرائع التي يجب منعها .
قوله - رحمه الله : " باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح " . صورة ذلك : أن يأتي آت إلى قبر رجل صالح ، يعلم صلاحه - كأن يكون من الأنبياء والمرسلين ، أو أن يكون من صالحي هذه الأمة ، أو صالحي أمة غير هذه الأمة - فيتحرى ذلك المكان ؛ كي يعبد الله وحده دون ما سواه ؛ رجاء بركة هذه البقعة .(21/351)
وقد راج هذا الأمر عند الكثيرين من الناس ، والدهماء ، حيث اعتقدوا أن ما حول قبور الأنبياء والصالحين من الأمكنة والبقاع مبارك ، وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها . والنبي عليه الصلاة والسلام غلظ في ذلك ونهى عنه ، مع أن المغلظ عليه لم يعبد إلا الله جل وعلا ، ولم يعبد صاحب القبر ، لكنه اتخذ ذلك المكان رجاء بركته ، ورجاء تنزل الرحمات - كما يقولون - ورجاء تنزل النسمات ، والفضل من الله عليه ، فاختاره لأجل بركته ، ولكنه لم يعبد إلا الله - جل وعلا - ومع ذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد .
قوله : " فيمن عبد الله " يعني : أنه لم يشرك بالله ، بل عبد الله وحده ؛ بأن صلى لله مخلصا ، أو دعا لله مخلصا ، أو تضرع واستغاث واستعاذ بالله - جل وعلا - مخلصا .
لكنه تحرى إيقاع هذه العبادات عند قبر رجل صالح لأجل البركة .(21/352)
والرجل الصالح - كما سبق أن ذكرنا - هو المقتصد : الذي أتى بالواجبات ، وابتعد عن المحرمات . ، أو السابق بالخيرات ؛ وهو أعلى درجة ، فالصالحون من الرجال والنساء : مقامات : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ } [ آل عمران : 163 ] وَبَعْض أهل العلم يعبر في تعريف الرجل الصالح بقوله : الصالح من عباد الله ، هو : القائم بحقوق الله ؛ القائم بحقوق عباده ، وهذا تعبير صحيح ؛ ولأن المقتصد قائم بحقوق الله ، قائم بحقوق عباده ، أتى بالواجبات ، وانتهى عن المحرمات ، وأعظم منه درجة : السابق بالخيرات . فأهل السبق بالخيرات من العباد ، لا يجوز أن تعظم قبورهم ، وأن يغلي فيها بظن أن البقعة التي حول قبورهم بقعة مباركة ، فإن هذا الفعل قد جاء فيه الوعيد الذي سيأتي في هذا الباب ، وغلظ - عليه الصلاة والسلام - فيه على فاعله .(21/353)
وقوله : " فكيف إذا عبده ؟ " : يعني إذا كان هذا التغليظ واللعن قد جاء في حق من اتخذ قبور الأنبياء مساجد ، ومن أسرج على القبور ، أو عظمها ، وعظم من فيها ، وعبد الله وحده عندها : إذا كان هذا قد جاءت النصوص بلعن فاعله ، وأنه من شرار الخلق عند الله : فكيف إذا توجه ذلك العابد إلى صاحب القبر يدعوه ، ويرجوه ، أو يخافه ، أو يأمل منه ، أو يستغيث به ، أو يصلي له ، أو يذبح له ، أو يستشفع به ؟ !! لا شك أن هذا أعظم وأعظم في التغليظ من عبادة الله وحده عند قبر رجل صالح ؛ كما قال الشيخ - رحمه الله : " فكيف إذا عبده ؟ " يعني أن التغليظ يكون أشد وأشد ، إذا عبد صاحب ذلك القبر ، وهذا مقتضى كلام الشيخ في هذه التبويب . وهذا واضح ؛ لأن تحري العبادة والدعاء أو تعظيم ذلك المكان ، وسيلة وذريعة إلى الشرك ، المقبورين ، فإذا كان من فعل وسائل الشرك الأكبر ملعونا ، وموصوفا بأنه ومن شرار الخلق عند الله ، فكيف بمن فعل الشرك الأكبر بعينه وتوجه إلى قبور الصالحين ، واتخذها أوثانا مع الله جل وعلا ؟ !! لا شك أن هذا أبلغ وأبلغ في التغليظ ، وذلك لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام ، إذا فعله مسلم .(21/354)
ومعنى قوله : " فكيف إذا عبده " أي : عبد القبر ، أو عبد الرجل الصالح صاحب القبر ؛ لأن عبادة القبوريين تارة تكون بالتوجه إلى القبر ، وتارة بالتوجه إلى صاحب القبر ، بل وتارة التوجه إلى ما حول القبر ، كالأبنية المحاطة بالقبور ، وصارت مشاهد ، فمنها ما يكون مسورا بالحديد ، فترى من هؤلاء من يعمد إلى تلك الستور والجدران والأبنية ، فيتمسح بها رجاء بركتها ، ويتخذها وسيلة إلى الله ، فتراهم - أيضا - يعكفون عند قبور معظميهم ، ويتخذون مشاهدهم أوثانا يعبدونها ، ويرجونها ، ويخافونها ، وإذا ضم أحدهم إلى صدره تلك المشاهد ، أو الحديد ، أو الستور ، ونحو ذلك ، فكأنه صار مقربا عند الله ، وقبلت وسيلته تلك . ولا شك أن هذا نوع من أنواع اتخاذ المشاهد أوثانا ، ومن اتخاذ القبور أوثانا ، أو اتخاذ الرجل الصالح - الذي هو متبرئ من أولئك ومن عبادتهم له - إلها مع الله ، وقد علمنا أن العبادة معناها واسع ، وأنها قد تكون بالصلاة له ، أو بدعوته ، أو بسؤاله كشف المدلهمات ، أو جلب الخيرات ، أو الذبح لصاحب القبر ، أو وضع النذور له ، ونحو ذلك من أنواع العبادات ، كما هو الواقع من أولئك الذين يعبدون الأوثان ، وقبور الصالحين .(21/355)
قوله : في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - « أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور ، فقال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله » . في هذا الحديث : أن أم سلمة - رضي الله عنها - لما كانت في الحبشة رأت كنيسة ، ورأت في تلك الكنيسة صور الصالحين ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح » فقد يكون الرجل الصالح نبيا من أنبيائهم ، أو عبدا من عباد الله الصالحين فيهم ، فماذا كانوا يفعلون معه ؟ جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : « بنوا على قبره مسجدا » ، أي : يجعلون قبره مسجدا ، والمسجد في اللغة ؛ هو : مكان العبادة ، فيدخل في هذا المعنى : الكنائس . والمسجد أيضا : مكان السجود . والسجود هو الخضوع والتذلل لله جل وعلا . فالمسجد يطلق على : كل مكان يتخذ لعبادة الله - جل وعلا - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » ، فمكان العبادة يقال له : مسجد . ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في شأن الكنيسة(21/356)
: « بنوا على قبره مسجدا » ، يعني : مكانا للعبادة فالكنائس - إذا - بنيت على قبور أولئك الصالحين ، وصوروا فيها الصور ، أي : جعلوا صور الصالحين على قبورهم ، أو على حوائط القبور ؛ لكي يدلوا الناس على عبادة الله بتعظيم ذلك الرجل الصالح ، وتعظيم قبره ، فاتخذوا البناء على القبور ، الذي هو وسيلة من وسائل الشرك الأكبر ، ومن البدع التي يحدثها الخلوف بعد الأنبياء ، اتخاذ الصور فوق القبور ، والتعبد بها ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم : « أولئك شرار الخلق عند الله جل وعلا » .(21/357)
وقوله : « أولئك » : الخطاب فيه لأم سلمة رضي الله عنها ، والخطاب إذا توجه إلى مؤنث تكسر فيه كاف الخطاب . وقوله : « أولئك شرار الخلق عند الله » أي : المعظمون الصالحين ببناء المساجد على قبورهم . وليس في هذا الحديث أنهم توجهوا إليهم بالعبادة ، بل عظموا قبورهم ، وجعلوا لهم صورا ، فجمعوا بين فتنتين : فتنة القبور ، وفتنة الصور ، وفتنة الصور وسيلة من وسائل حدوث الشرك الأكبر ، وكذلك فتنة القبور : بالبناء عليها ، وبتعظيمها ، وبإرشاد الناس إليها ، وسيلة إلى أن يعتقد في صاحب القبر أن له شيئا من خصائص الإلهية ، أو أنه يتوسط عند الله - جل وعلا - في قضاء الحاجات ، كما حصل ذلك منهم فعلا .
والمفهوم من وصفه صلى الله عليه وسلم لأولئك الأقوام بأنهم شرار الخلق عند الله : تحذير هذه الأمة أن يبنوا على قبر أحد مسجدا ؛ لأن من فعل ذلك ودل الخلق على تعظيم ذلك القبر ، فهو من شرار الخلق عند الله ؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام : « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع » .(21/358)
فوجه الدلال من هذا الحديث : قوله : « أولئك شرار الخلق عند الله » وما فيه من التغليظ فيمن عبد الله في الكنيسة ، التي فيها القبور والصور ، لأن القبور والصور من وسائل الشرك بالله جل وعلا .
وقوله : ولهما عنها - يعني عن عائشة - قالت : « لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم يعني نزل به الموت - طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها ، فقال ، وهو كذلك : " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » : هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي فيها بالتغليظ والنهي عن وسائل الشرك ، وبناء المساجد على القبور ، واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد .
ووجه ذلك : أنه عليه الصلاة والسلام مع أنه في ذلك الغم ، وتلك الشدة ، ونزول سكرات الموت به لم يغفل - وهو في تلك الحال - تحذير الأمة من وسيلة من وسائل الشرك ، وتوجيه اللعن والدعاء على اليهود والنصارى بلعنة الله ؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .(21/359)
وسبب ذلك : أنه عليه الصلاة والسلام وهو في تلك الحال خشي أن يتخذ قبره مسجدا ، كما اتخذ شرار الخلق عند الله من اليهود والنصارى قبور أنبيائهم مساجد ، فلعنهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : « لعنة الله على اليهود والنصارى » واللعنة هي : الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وذلك يدل على أنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب ، لأن البناء على القبور ، واتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، هو من وسائل الشرك ، وكبيرة من الكبائر .
وقوله : « اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » فيه بيان السبب الذي لأجله استحقوا اللعن ، وهو : أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد . وفي تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد ، ولعن فاعله وهو في السياق : ما يقوم مقام آخر وصية أوصى بها . ومع ذلك : خالف كثير من هذه الأمة وصيته عليه الصلاة والسلام . واتخاذ القبور مساجد يكون على إحدى صور ثلاث :(21/360)
الصورة الأولى : أن يسجد على القبر ، يعني : أن يجعل القبر مكان سجوده ، فقوله : « اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يعني : جعلوا القبر مكان السجود . وهذه الصورة في الواقع لم تحصل بانتشار ؛ لأن قبور الأنبياء لم تكن مباشرة للناس ، بحيث يمكنهم الصلاة عليها ، أو السجود عليها بل كانوا يعظمون قبور أنبيائهم فلا يصلون عليها مباشرة . لكن أبلغ صور الاتخاذ المفهوم من قوله : « اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » هو : أن يتخذ القبر نفسه مسجدا ، يعني : يصلي عليه مباشرة ، وهذه أفظع تلك الأنواع وأشدها ، وأعظمها ، وسيلة إلى الشرك والغلو بالقبر .(21/361)
الصورة الثانية : أن يصلي إلى القبر ، ومعنى اتخذه مسجدا في هذه الحالة : أن يكون أمامه القبر ، يصلي إليه بحيث يجعله قبلة ، فإنه يكون بذلك قد اتخذ القبر وما حوله له حكمه : مكانا للتذلل والخضوع . والمسجد لا يعني به مكان السجود ، الذي هو وضع الجبهة على الأرض فقط ، وإنما يعني به مكان التذلل والخضوع ، فاتخاذ قبورهم مساجد ، يعني : جعلوها قبلة لهم ؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي إلى القبر ؛ لأجل أن الصلاة إليه وسيلة من وسائل التعظيم ، وهذا يوافق قول الشيخ - رحمه الله - في الباب " باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح " ، فالمفهوم من قوله : " عند قبر رجل صالح " هذه الصورة المتقدمة ، وهي : أن يكون القبر أمامه ، فيجعل القبر بينه وبين القبلة تعظيما للقبر .
الصورة الثالثة : أن يتخذ القبر مسجدا ، بأن يجعل القبر في داخل بناء ، وذلك البناء هو المسجد ، فإذا دفن النبي قام أولئك بالبناء عليه ، فجعلوا حول قبره مسجدا واتخذوا ذلك المكان للتعبد وللصلاة فيه ، هذه هي الصورة الثالثة ، وهي أيضا موافقة لقول الشيخ - رحمه الله - " عند قبر رجل صالح " .(21/362)
وهذا يبين لك بعض المناسبة في إيراد هذا الحديث في هذا الباب .
وقول عائشة رضي الله عنها " يحذر ما صنعوا " فيه إشارة إلى السبب الذي لأجله لعن النبي - عليه الصلاة والسلام - اليهود والنصارى ، وهو يعالج ويعاني سكرات الموت ؛ وهو أنه أراد تحذير الصحابة من أن يحذوا في ذلك الأمر حذو أهل الكتاب . وقد قبل الصحابة رضوان الله عليهم تحذيره ، وعملوا بوصيته . ومعنى قولها - رضي الله عنها : " ولولا ذلك أبرز قبره " . يعني : لأظهر ، وجعل قبره مع سائر القبور في البقيع أو غير ذلك ، ولكن كان من العلل التي جعلتهم لا ينقلونه عليه الصلاة والسلام من مكانه الذي توفي فيه إلى المقبرة : قوله عليه الصلاة والسلام : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » قالت : يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره ، فهذه إحدى العلتين .
والعلة الثانية : قول أبي بكر - رضي الله عنه - إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الأنبياء يقبرون حيث يقبضون » (1) .
وقولها : " غير أنه خشي " بفتح الخاء ، أو خشي بضمها ، وهما وجهان جائزان .
_________
(1) سيرة ابن هشام « 4 / 1303.(21/363)
فإذا كان بفتح الخاء فالمقصود به : النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان بضم الخاء فالمقصود : هم الصحابة - رضي الله عنهم - وهذا تنبيه على إحدى العلتين .
وقد قبل الصحابة - رضوان الله عليهم - وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعملوا بها ، فدفنوه في مكانه الذي قبض فيه ، في حجرة عائشة ، وكانت - رضي الله عنها - قد أقامت جدارا بينها وبين القبور ، فكانت غرفة عائشة فيها قسمان قسم فيه القبر ، وقسم هي فيه .
وكذلك لما توفي أبو بكر رضي الله عنه ، ودفن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الشمال ، كانت أيضا في ذلك الجزء من الحجرة ، ولما دفن عمر - رضي الله عنه - تركت الحجرة رضي الله عنها ، ثم أغلقت الحجرة ، فلم يكن ثم باب فيها يدخل منه إليها ، وإنما كانت فيها نافذة صغيرة ، ولم تكن الغرفة كما هو معلوم مبنية من حجر ، ولا من بناء مجصص ، وإنما كانت من البناء الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام ؛ من خشب ونحو ذلك .(21/364)
ولما زيد في بناء المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك ، وكان أمير المدينة يوم ذاك ، عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - وأخذوا بعضا من حجر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام : بقيت حجرة النبي عليه الصلاة والسلام كذلك ، فأخذوا من الروضة جزءا ، وبنوا عليه جدارا آخر غير الجدار الأول ، بنوه من ثلاث جهات ، وجعلوا جهة الشمال مسنمة أي : مثلثة ، فصار عندنا الآن جداران : الجدار الأول : مغلق تماما ، وهو جدار حجرة عائشة ، والجدار الثاني : الذي عمل في إمرة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - زمن الوليد بن عبد الملك وقد جعلوا من جهة الشمال - وهي عكس القبلة - مسنما ؛ لأنه في تلك الجهة جاءت التوسعة ، فخشوا أن يكون ذلك الجدار مربعا ، يعني : مسامتا للمستقبل ، فيكون إذا استقبله أحد فقد استقبل القبر ، فجعلوه مثلثا ، يبعد كثيرا عن الجدار الأول ، وهو : جدار حجرة عائشة ؛ لأجل أن لا يمكن لأحد أن يستقبل القبر ؛ لبعد المسافة ؛ ولأجل أن الجدر صار مثلثا .(21/365)
ثم بعد ذلك بأزمان جاء جدار ثالث أيضا وبني حول ذينك الجدارين ، وهو الذي قال فيه ابن القيم - رحمه الله - في النونية في وصف دعاء النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » (1) قال :
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاءه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
_________
(1) أخرجه مالك في « الموطأ كتاب الصلاة (261) .(21/366)
فأصبح قبر النبي عليه الصلاة والسلام محاطا بثلاثة جدران ، وكل جدار ليس فيه باب ، فلا يمكن لأحد أن يدخل ويقف على القبر بنفسه ؛ لأنه صار ثم جداران ، وكل جدار ليس له باب ، ثم بعد ذلك وضع الجدار الثالث ، وهذا الجدار أيضا ليس له باب ، وهو كبير مرتفع ، وهو الذي وضعت عليه القبة فيما بعد ، فلا يستطيع أحد الآن أن يدخل إلى القبر ، أو أن يتمسح به ، أو أن يرى مجرد القبر ، ثم بعد ذلك : وضع السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث نحو متر ونصف في بعض المناطق ، ونحو متر في بعضها ، وفي بعضها نحو متر وثمانين إلى مترين ، يضيق ويزداد ، لكن من مشى : فإنه يمشي بين ذلك الجدار الحديدي وبين الجدار الثالث . فالحاصل : أن المسلمين عملوا بوصيته عليه الصلاة والسلام ، وأبعد قبره ، بحيث لا يمكن لأحد أن يصل إليه ؛ ولهذا لما جاء الخرافيون في عهد الدولة العثمانية فتحوا في التوسعة التي هي من جهة الشرق ممرا ؛ لكي يمكن من يريد أن يطوف بالقبر ، أو أن يصلي في تلك الجهة ، أن يطوف ، أو يصلي !! وذلك الممر الشرقي - الذي هو قدر مترين أو يزيد قليلا - قد منعت الصلاة فيه في عهد الدولة السعودية الأولى ، وما بعدها ، فكأنه أخرج من كونه(21/367)
مسجدا ؛ لأنه إذا كان من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام : فلا يجوز أن يمنعوا أحدا من الصلاة فيه ، فلما منعوا الصلاة فيه جعلوا له حكم المقبرة ، ولم يجعلوا له حكم المسجد ، فلا يمكن لأحد أن يصلي فيه ، بل يغلقونه وقت الصلاة ، أما وقت السلام أو وقت الزيارة فإنهم يفتحونه للمرور .(21/368)
فتبين بذلك أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام لم يتخذ مسجدا ، وإنما أدخلت الغرف بالتوسعة في عهد التابعين في المسجد ، ولكن جهته الشرقية خارجة عن المسجد ، فصارت كالشيء الذي دخل في المسجد ، ولكن الحيطان المتعددة - وهي الجدران الأربعة التي تفصل بين القبر والمسجد - تمنع أن يكون القبر في داخل المسجد ، يعني مكان الدفن . ومما يدل على أخذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم بوصية النبي عليه الصلاة والسلام هذه ، وسد الطرق الموصلة إلى الشرك به عليه الصلاة والسلام ، وعدم اتخاذ قبره مسجدا ، أنهم أخذوا من الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » (1) قدر ثلاثة أمتار ، لكي يبنوا الجدار الثاني ، ثم الجدار الثالث وأخذوا أكثر من ثلاثة أمتار لإقامة السور الحديدي ، فهذا من أعظم التطبيق والعمل بوصيته عليه الصلاة والسلام ؛ حيث إنهم أخذوا من الروضة ، وأجازوا أن يأخذوا من المسجد ؛ لأجل أن يحمى قبر النبي - عليه الصلاة والسلام - من أن يتخذ مسجدا ، وهذا - ولا شك - يدل على عظيم فقه من قاموا بذلك العمل ، ففصل القبر عن المسجد بهذه الكيفية التي وصفت ، هو
_________
(1) أخرجه البخاري (1196) و (1188) و (6588) و (7335) .(21/369)
من رحمة الله - جل وعلا - بهذه الأمة ، ومن إجابة دعوة النبي - عليه الصلاة والسلام - لما دعا بقوله فيما سيأتي بعد هذا الباب : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » .
إذن فقوله عليه الصلاة والسلام : « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا » ، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتخذ قبره مسجدا .
والموجود اليوم في المسجد النبوي قد تكون صورته عند من لم يحسن التأمل ، وعند غير الفقيه صورة قبر في داخل مسجد ، وليست الحقيقة كذلك ؛ لوجود الجدارين المختلفة التي تفصل بين المسجد وبين القبر ؛ ولأن الجهة الشرقية منه ليست من المسجد ؛ ولهذا لما جاءت التوسعة الأخيرة ، كان مبتدؤها من جهة الشمال بعد نهاية الحجرة بكثير ، حتى لا تكون الحجرة في وسط المسجد ؛ فيكون ذلك من اتخاذ قبره مسجدا عليه الصلاة والسلام .
فالمقصود من هذا البيان : أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام ما اتخذ مسجدا ، وأن وصيته عليه الصلاة والسلام في التحذير قد أخذ بها في مسجده وفي قبره ، ولكن خالفتها بعض الأمة في قبور بعض الصالحين من هذه الأمة ، فاتخذوا قبور بعض آل البيت مساجد وعظموها ، كما تعظم الأوثان .(21/370)
" ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : « سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا » : سبب ذلك : أن الخلة هي أعظم درجات المحبة ، وهي التي تتخلل الروح ، وتتخلل القلب ، وشغاف الصدر ، بحيث لا يكون ثم مكان لغير ذلك الخليل ؛ ولهذا فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - ليس له من أصحابه خليل ؛ ولهذا قال : « ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا » .
ووجه الشاهد من هذا الحديث قوله بعد ذلك : « ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك » : وجاء في رواية أخرى أيضا : « كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » ، وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة ، ولا شك أنه وسيلة من وسائل الشرك .(21/371)
ومناسبة الحديث للباب ظاهرة وهي : أنه حرم اتخاذ قبور والأنبياء والصالحين مساجد ، مع أنه قد يكون العابد لا يعبد إلا الله ؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك الأكبر ، والوسائل تفضي إلى ما بعدها ، وقد تقرر في القواعد الشرعية ، وأجمع عليه المحققون : أن سد الذرائع الموصلة إلى الشرك ، وإلى المحرمات ، أمر واجب ، لأن الشريعة جاءت بسد أصول المحرمات ، وسد الذرائع إليها ، فيجب أن يغلق كل باب من أبواب الشرك بالله ، ومن ذلك : اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ؛ ولهذا لا تصح الصلاة في مسجد بني على قبر ؛ لأن ذلك مناف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم ، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى ، وهؤلاء فعلوا ، والنهي توجه إلى بقعة الصلاة فبطلت الصلاة ؛ فالذي يصلي في مسجد أقيم على قبر فصلاته باطلة لا تصح ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : « ألا فلا تتخذوا القبور مساجد » يعني : بالبناء عليها وبالصلاة حولها : « فإني أنهاكم عن ذلك » .(21/372)
قوله : " فقد نهى عنه في آخر حياته ، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله ، والصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد ، وهو معنى قولها : " خشي أن يتخذ مسجدا " : يعني أن الصلاة عند القبور لا تجوز سواء صلى إليها ، أو صلى عندها رجاء بركة ذلك المكان ، أو لم يرج بركة ذلك المكان ، وإنما صلى صلاة نافلة - غير صلاة الجنازة عندها - كل هذا لا يجوز ؛ سواء كان ثم بناء على القبر : كمسجد ، أو كان قبر ، أو قبران في غير بناء عليهما ، فإن الصلاة لا تجوز ؛ ولهذا جاء في الصحيح أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : « اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا » (1) ، وفي البخاري أيضا معلقا من كلام عمر - رضي الله عنه - أنه رأى أنسا يصلي عند قبر ، فقال له : " القبر ، القبر " (2) يعني : احذر القبر ، وهذا يدل على أن الصلاة عند القبور لا تجوز ؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك ، وأعظم من ذلك أن يكون ثم بنيان ، واتخاذ لما حول القبر من الأبنية مسجدا للصلاة ، والدعاء ، والقراءة ، ونحو ذلك .
_________
(1) أخرجه البخاري (432) و (1187) .
(2) أخرجه البخاري معلقا إثر حديث (426) .(21/373)
وهو معنى قولها : " خشي أن يتخذ مسجدا " ، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا ، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » : وهذا ظاهر .
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود -رضي الله عنه - مرفوعا « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد » ورواه أبو حاتم (1) في صحيحه .
ووجه الشاهد من هذا الحديث : أنه قال : « والذين يتخذون القبور مساجد » يعني : أنهم من شرار الناس ، فالذين يتخذون القبور مساجد هم من شرار الناس ؛ وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد - كما ذكرنا - وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا .
وقوله : « والذين يتخذون القبور مساجد » هذا يعم كل اتخاذ للقبر مسجدا ، سواء اتخذه بالصلاة عليه ، أو بالصلاة إليه أو بالصلاة عنده ، فذلك القصد للصلاة عند القبر يجعل القاصد من شرار الناس كما وصفهم النبي - عليه الصلاة والسلام - بذلك .
_________
(1) يعني ابن حبان . وأخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879) والطبراني في « الكبير » كما في « مجمع الزوائد » 2 / 27 وقال : إسناده حسن .(21/374)
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة فإنه ذكر أن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد ، والقصد من اتخاذ القبر مسجدا : أن يعبد الله عند قبر ذلك الرجل الصالح ، فكيف حال الذي توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام بالعبادة ؟ ؟ !! والحال أن القبر لا يخلص إليه ، ولكن الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وتأليهه قد يقعان بحسب الاعتقادات ، وبحسب المناداة ، كما حصل من الجاهليين مناداة الملائكة ، واتخاذ الملائكة آلهة مع الله جل جلاله . وكذلك المتخذون الأولياء معبودين ، هم من أشر الناس الذين وصفهم النبي - عليه الصلاة والسلام - بقوله « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد » ، فإن الذي اتخذ القبر مسجدا ملعون بلعنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وإن كان لم يعبد إلا الله جل وعلا ، فكيف حال الذي عبد صاحب ذلك القبر ؟ !! نسأل الله العافية والسلامة من كل وسائل الشرك .(21/375)
وتأمل هذا مع ما فشا في بلاد المسلمين من بناء القباب والمشاهد على القبور ، وتعظيم هذا الفعل المنكر ، وتحسينه ، وتوجيه الناس إليه ، وإلى التعلق بالمقبورين ، وذكر الحكايات الطويلة في مناقب أولئك الأولياء ، وفي إجابتهم للدعوات ، وإغاثتهم للهفات ، ونحو ذلك يتبين لك غربة الإسلام أشد غربة في هذه الأزمنة وما قبلها ، فكيف إذا قالوا : إن ذلك جائز ، وذلك توحيد ؟ ! بل كيف إذا اتهموا من نهاهم عن ذلك بعدم المعرفة ، وعدم الفهم ، وهو يدعوهم إلى الله - جل وعلا - وهم يدعونه إلى النار . ؟ نسأل الله السلامة والعافية .(21/376)
" باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله تبارك وتعالى "
روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (1) ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [ النجم : 19 ] قال : كان يلت لهم السويق فمات ، فعكفوا على قبره (2) . وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان يلت السويق للحاج (3) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسراج » . رواه أهل السنن . (4)
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الأوثان .
الثانية تفسير العبادة .
الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه .
الرابعة : قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد .
الخامسة : ذكر شدة الغضب من الله .
السادسة : وهي من أهمها - صفة معرفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان .
السابعة : معرفة أنه قبر رجل صالح .
الثامنة : أنه اسم صاحب القبر ، وذكر معنى التسمية .
التاسعة : لعنه زوارات القبور .
العاشرة : لعنه من أسرجها .
_________
(1) أخرجه مالك في « الموطأ » (261) .
(2) ابن جرير في « التفسير » 27 / 58.
(3) ابن جرير في « التفسير » .
(4) أبو داود (3236) والترمذي و(320) ، وقال : حديث حسن .(21/377)
الشرح :
" باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله " . الغلو في قبور الصالحين : وسيلة من وسائل الشرك ، بل قد يصل الغلو إلى أن يكون شركا بالله - جل وعلا - وأن يصير ذلك القبر وثنا يعبد ؛ فالغلو درجات ، وقد تقدم في الأبواب قبله ذكر بعض صور هذا الغلو في القبور ، وهنا بين أن الغلو يصل إلى أن تصير تلك القبور أوثانا تعبد من دون الله . وإذا قلنا : إن الغلو هو : مجاوزة الحد . فمعناه هنا في هذا الباب : هو مجاوزة الحد في الصفة التي ينبغي أن يكون عليها القبر ؛ إذ صفتها في الشرع واحدة ، ولم يأت عن الشارع دليل في تمييز قبور الصالحين عن غيرهم ، بل الوارد وجوب أن تتساوى من حيث الصفة ، فلا يفرق بين قبر صالح أو طالح ؛ فالقبر إما أن يكون في ظاهر مسنما ، وإما أن يكون مربعا ، وهذه الصورة من حيث الظاهر واحدة .
فنهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن الكتابة على القبر ، أو تجصيصه ، أو رفعه في أنواع من السنن التي جاءت في أحكام القبور ، إنما لأجل سد الطرق التي توصل إلى الغلو في قبور الصالحين .(21/378)
فمجاوزة الحد في قبور الصالحين هي مجاوزة لما أمر الشارع أن تكون عليه القبور ؛ لأن قبور الصالحين لا تختلف عن قبور غير الصالحين . فالغلو فيها يكون بالكتابة عليها ، أو برفعها ، أو بالبناء عليها ، أو باتخاذها مساجد ، وكل هذا من الوسائل المؤدية إلى الشرك الأكبر . ومن صور الغلو في قبور الصالحين ، أن تجعل وسيلة من الوسائل التي تقرب إلى الله جل وعلا ، أو أن يتخذ القبر أو من في القبر شفيعا لهم عند الله جل وعلا ، أو ينذر للقبر ، أو يذبح له ، أو يستشفع بترابه ؛ اعتقادا أنه وسيلة عند الله جل وعلا ، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله تبارك وتعالى .
فالغلو في قبور الصالحين يكون بمجاوزة ما أذن فيها ، ومن المجاوزة ما هو من وسائل الشرك ، ومنها ما هو شرك صريح كاتخاذ القبور أوثانا تعبد من دون الله جل وعلا ؛ ولهذا قال - رحمه الله - : " باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا " ، وقوله : " يصيرها " يعني : يجعلها ؛ فقد يكون جعل الوسائل للغايات ، يعني : أن الغلو صار وسيلة لاتخاذها أوثانا ، وقد يكون الغلو جعلها وثنا يعبد من دون الله جل وعلا .(21/379)
وهذا هو الواقع والمشاهد في كثير من بلاد الإسلام : في أن القبور صارت أوثانا تعبد من دون الله ، لما أقيمت عليها المشاهد والقباب ، ودعي الناس إليها ، وذبح لها ، وقبلت النذور لها ، وصار يطاف حولها ، ويعكف عندها ، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله .
قوله : " روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » .(21/380)
قوله « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » هذا دعاء ، ورغب منه صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى ألا يقع ذلك بقبره . ولو كان ذلك لا يقع أصلا ، ولا يمكن أن يقع ، لما دعا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الدعاء العظيم ، وهو أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ، كما جعلت قبور غيره من الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - فإن عددا من قبور الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام - اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ، وفي قوله : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » دليل على أن القبر يمكن أن يكون وثنا يعبد . فالغاية أن يكون القبر وثنا يعبد ؛ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد » دعاء منه بأن لا تتحقق هذه الغاية التي من وسائلها ما جاء في قوله بعد ذلك : « اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . وهذا هو غلو الوسائل ، فاتخاذ قبور الأنبياء مساجد غلو من غلو الوسائل ، يصير تلك القبور أوثانا . فالنبي عليه الصلاة والسلام جمع في هذا الحديث بين ذكر الوسيلة ، والتنفير منها ، وبيان اشتداد غضب الله على من فعلها ، وذكر نهاية ما تصل إليه تلك الوسيلة بأصحابها ، وهي : أن تكون القبور(21/381)
أوثانا تعبد من دون الله جل وعلا .(21/382)
فهذا الحديث صريح في أن القبر يمكن أن يكون وثنا ، والخرافيون يقولون : إن القبور لا يمكن أن تكون أوثانا ، والأوثان هي أوثان الجاهلية وأصنام الجاهلية فقط . فنقول في الرد عليهم : إن الجاهليين إذا كانوا قد تعلقوا بأصنام ، وبأحجار ، وبأشجار ، وبغير ذلك من الأشياء ، واعتقدوا فيها ، ووصل بهم ذلك الاعتقاد إلى حد الشرك الأكبر ؛ مع أن المسوغ العقلي والنفسي لعبادتها غير قوي ، ولا ظاهر فيها : فإن اتخاذ قبور الصالحين ، والأنبياء ، والمرسلين أوثانا ، أو أن يتوجه إلى أصحابها بالعبادة وارد من باب أولى ؛ لأن تعلق القلوب بالصالحين أولى من تعلقها بالأحجار ، وتعلقها بالأنبياء والمرسلين أولى من تعلقها بالجن ، أو بالأشجار ، أو بالأحجار ، أو نحو ذلك ، فوسائل الشرك بالقبور ، أظهر منها في الأصنام ونحوها ، وأوضح ؛ وهما يشتركان في أن كلا منهما يعتقد تأثير الصنم أو الوثن في حصول ما يرجوه من الشفاعة عند الله ؛ فأولئك المشركون يقولون في آلهتهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] ، ويقولون : { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، وأهل العصور التي فشا(21/383)
فيها الشرك ، إذا سألتهم يقولون : هذا توسل ، وهذا استشفاع ، والحال واحدة ، والسبيل الذي جعل تلك القبور أوثانا هو اتخاذها مساجد ، والبناء عليها ، والحث على مجيئها ، والتبرك بها ، وذكر الكرامات التي تحصل عندها من إجابة الدعوات ، وتفريج الكربات !! ، إلى غير ذلك مما يفعله المشركون بقبور معظميهم .
" ولابن جرير بسنده عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال في قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [ النجم : 19 ] . قال : كان يلت لهم السويق ، فمات ، فعكفوا على قبره ، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان يلت السويق للحاج " . الشاهد قول مجاهد : " مات فعكفوا على قبره " ، فهذا العكوف ؛ لأجل أنه رجل كان ينفعهم ، يلت السويق لهم ، وهذا على قراءة { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } .
ووجه المناسبة ظاهر : من أن صلاح ذلك الرجل جعلهم يغلون في قبره كما قال : " فعكفوا على قبره " . والعكوف على القبور يصيرها أوثانا ، والعكوف معناه : لزوم القبر بتعظيمه ، واعتقاد البركة ، والثواب ، والنفع ، ودفع الضر ، في لزومه ، فهذا معنى العكوف .(21/384)
" وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج » . رواه أهل السنن " : وجه الدلالة من الحديث ظاهرة : وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتخذين على القبور المساجد والسرج . أما اتخاذ المساجد على القبور فقد سبق الكلام عليه ، وأما لعن المتخذين السراج على القبور : فلأنها وسيلة لتعظيم تلك القبور ، ونوع من أنواع الغلو فيها ، وقد كانت القبور المعظمة تسرج قديما ، وتجعل عليها القناديل ، أما في هذه الأعصار ، فيجعلون عليها الأنوار العظيمة التي تبين أن هذا المكان مقصود ، وأنه مطلوب الراغبين ، ويجعلون لها من وسائل الإضاءة العصرية الحديثة ما يسطع الأبصار ، ويغري الناس بتعظيمها وعبادتها . ولا شك أن هؤلاء ملعونون بلعنة رسول الله . فلا يجوز أن تتخذ السرج على القبور ؛ لأن اتخاذ السرج على القبور من أنواع الغلو فيها ؛ ولأنه يدعو إلى تعظيمها ، وقد يؤول الأمر بعد ذلك إلى أن تتخذ آلهة وأوثانا تعبد مع الله جل وعلا .(21/385)
" باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد ، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك "
وقول الله عز وجل : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [ التوبة : 128 - 129 ] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، ولا تجعلوا قبري عيدا ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » . رواه أبو داود بإسناد حسن ، ورواته ثقات . (1) .
« وعن علي بن الحسين رضي الله عنه : أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه ، وقال : ألا أحدثك حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم » رواه في المختارة (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية براءة .
الثانية : إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد .
_________
(1) أخرجه أبو داود ( 2042 ) .
(2) أخرجه الضياء المقدسي في « المختارة » (428) .(21/386)
الثالثة : ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته .
الرابعة : نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص ، مع أن زيارته من أفضل الأعمال .
الخامسة : نهيه عن الإكثار من الزيارة .
السادسة : حثه على النافلة في البيت .
السابعة : أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة .
الثامنة : تعليله ذلك : بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد ، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب .
التاسعة : كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه .
الشرح :
هذا الباب من جنس الأبواب قبله الواردة في حماية النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد ، وفي سده كل طريق يوصل إلى الشرك . وأتى الشيخ - رحمه الله - هنا بآية براءة ، وهي قول الله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] فقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } يعني : عزيز عليه عنتكم ؛ يعني : أن تكونوا في عنت ومشقة ، فهذا عزيز عليه ولا يرغب فيه عليه الصلاة والسلام .(21/387)
قوله : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } لأنه عليه الصلاة والسلام عزيز عليه عنت أمته ، فهو لهذا يأمرهم بكل خير ، وينهاهم عن كل شر ، ويحمي حمى ما أمرهم به ، وما نهاهم عنه ؛ لأن الناس إذا أقدموا على ما نهوا عنه : فإنهم أقدموا على مهلكتهم ، وأقدموا على ما فيه عنتهم في الدنيا وفي الأخرى ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - عزيز عليه عنت أمته أي : أن يقعوا في ما يعود عليهم بالوبال وبالمشقة ؛ لهذا قال بعدها : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } ، لأن عزة مشقتهم عليه ، وحرصه عليهم متلازمان ، فمن حرصه علينا عليه الصلاة والسلام ، ومن كونه يعز عليه عنتنا ، أن حمى حمى التوحيد ، وحمى جناب التوحيد ، وسد كل طريق قد نصل بها إلى الشرك ، عليه الصلاة والسلام ، وهذا وجه الاستدلال من الآية على الباب .(21/388)
وأما حديث أبي هريرة فوجه الشاهد منه قوله : « ولا تجعلوا قبري عيدا » ، والعيد يكون عيدا مكانيا كما جاء هنا ، ويكون عيدا زمانيا ، فقوله : « لا تجعلوا قبري عيدا » يعني : لا تصيروا قبري مكانا تعودون إليه ؛ أو : تعتادون المجيء إليه في أوقات معلومة ؛ فإن هذا قد يوصل إلى أن يعظم النبي - عليه الصلاة والسلام - كتعظيم الله جل وعلا . فاتخاذ القبور عيدا من وسائل الشرك ؛ ولهذا قال : « وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » .
وكذلك حديث علي بن الحسين هو بمعنى الحديث السابق . ولفظ حديث علي بن الحسين أنه قال : « ألا أحدثك حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : " لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا » قاله للرجل الذي كان يعتاد المجيء إلى فرجة كانت عند القبر ؛ لأن اعتياده الدعاء عند القبر نوع من الغلو ، ووسيلة إلى تعظيم القبر ، واتخاذه عيدا . وهذا من وسائل الشرك .(21/389)
فحمى النبي عليه الصلاة والسلام حمى التوحيد وحرس جنابة ، وسد كل طريق توصل إلى الشرك ، حتى في قبره عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان قد نهى عن اتخاذ قبره مسجدا ، أو عيدا ، فمن باب أولى قبور غيره من الأنبياء والمرسلين ، والصالحين ، فإنهم أولى بذلك ؛ لأنه أفضل خلق الله عليه الصلاة والسلام . فالحاصل : أن بعض هذه الأمة خالف ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به من حماية جناب التوحيد ، فاتخذوا القبور مساجد ، وأعيادا ، وبنوا عليها المشاهد ، وأسرجوها ، وقدموا لها الذبائح والنذور ، وطافوا حولها ، وجعلوها كالكعبة ، وجعلوا الأمكنة حولها مقدسة أعظم من تقديس بقاع الله المباركة ، بل إن عباد القبور تجد عندهم من الذل ، والخضوع ، والإنابة ، والرغب ، والرهب - حين يأتون إلى قبر النبي أو قبر الرجل الصالح أو قبر الولي - ما ليس في قلوبهم إذا كانوا في خلوة مع الله - جل جلاله - وهذا عين المحادة لله - جل وعلا - ولرسوله صلى الله عليه وسلم .(21/390)
" باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان "
وقول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } [ النساء : 51 ] .
وقوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [ المائدة : 60 ] .
وقوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الكهف : 21 ] .(21/391)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن ؟ » أخرجاه (1) . ولمسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر ، والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة ، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا » (2) رواه البرقاني في صحيحه وزاد : « وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ، ولا نبي
_________
(1) أخرجه البخاري (3456) ، ومسلم (2669) بنحوه .
(2) أخرجه مسلم (2889) .(21/392)
بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم وحتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى » .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النساء .
الثانية : تفسير آية المائدة .
الثالثة : تفسير آية الكهف .
الرابعة : وهي أهمها ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت ؟ وهل هو اعتقاد قلب ؟ أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها ؟
الخامسة : قولهم : إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين .
السادسة : - وهي المقصود بالترجمة - أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة ، كما تقرر في حديث أبي سعيد .
السابعة : التصريح بوقوعها ، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة .
الثامنة : - العجب العجاب - خروج من يدعي النبوة ، مثل المختار ، مع تكلمه بالشهادتين ، وتصريحه بأنه من هذه الأمة . وأن الرسول حق وأن القرآن حق . وفيه أن محمدا خاتم النبيين ، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح . وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة .
التاسعة : البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية ، كما زال فيما مضى ، بل لا تزال عليه طائفة .
العاشرة : الآية العظمى : أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم .(21/393)
الحادية عشرة : أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة .
الثانية عشرة : ما فيهن من الآيات العظيمة .
منها : إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب ، وأخبر بمعنى ذلك ، فوقع كما أخبر ، بخلاف الجنوب والشمال .
وإخباره بأنه أعطي الكنزين .
وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين .
وإخباره بأنه منع الثالثة .
وإخباره بوقوع السيف وأنه لا يرفع إذا وقع .
وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة .
وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة .
وكل هذا وقع كما أخبر ، مع أن كل واحدة منها من أبعد ما يكون في العقول .
الثالثة عشرة : حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين .
الرابعة عشرة : التنبيه على معنى عبادة الأوثان .
الشرح :(21/394)
هذا " باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " ، وكتاب التوحيد من أوله إلى هذا الموضع ، ذكر فيه الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - مسائل كثيرة من التوحيد ، كبيان وجوب معرفة التوحيد ، والعلم به ، والخوف من الشرك ، وبيان بعض أفراد التوحيد ، وبعض أفراد الشرك ، الأكبر والأصغر ، ثم بين شيئا مما يتعلق بوسائل ذلك ، وما يتعلق بالصور المختلفة التي وقعت من هذا الشرك في الأمم قبلنا وعند الجاهليين ، يعني : في الأميين وفي أهل الكتاب ، وكذلك مما وقع في هذه الأمة . ثم ذكر الوسائل والطرق الموصلة إلى الشرك ، يعني : وسائل الشرك التي توصل إليه ، وطرق الشرك الموصلة إليه .
وقد يحتج بعض المشركين والخرافيين بأن هذه الأمة حماها الله - جل وعلا - من أن تعود إلى عبادة الأوثان ، وعصمت من الوقوع في الشرك الأكبر بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم » (1) ، فلما قال عليه الصلاة والسلام : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب » (2) علمنا أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة ، وأن الشرك الأكبر لا يكون ، هكذا يدعي القبوريون .
_________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .(21/395)
والجواب : أن هذا الاحتجاج في غير موضعه ، وفهم ذلك الدليل ، وذلك الحديث ، ليس على ذلك النحو ، وجواب ما قالوا من أن قوله عليه الصلاة والسلام : « إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب » هو أن نقول : إن الشيطان لا يعلم الغيب ، وهو حريص على إغواء بني آدم ، كما قال تعالى : { لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا } [ الإسراء : 62 ] هو أيس ولكن لم يأيسه الله - جل وعلا - فالشيطان أيس بنفسه لما رأى عز الإسلام ، ولما رأى ظهور التوحيد على الكفر في جزيرة العرب ، فأيس لما رأى ذلك ولكنه لم يأيسه الله - جل وعلا - من أن يعبد في جزيرة العرب .
ثم إن في قوله : " أيس أن يعبده المصلون " إشارة إلى أن أهل الصلاة ، هم الذين لا تتأتى منهم عبادة الشيطان ، لأن المصلين لا شك أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر ؛ لأن المصلي هو الذي أقام الصلاة ، ومن أقام الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأعظم المنكر الذي سينكره المصلي ، هو : الشرك بالله -جل وعلا- فيكون الشيطان بذلك قد يأس أن يعبده من أقام الصلاة على حقيقتها كما أراد الله -جل وعلا- .(21/396)
فليس في هذا الحديث - إذًا - أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة ، بل فيه : أن الشيطان أيس لما رأى عز الإسلام ولكنه لم يُأيَّس ؛ ولهذا فإن طائفة من العرب ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل ، ولا شك أن ذلك الارتداد كان من عبادة الشيطان ؛ لأن عبادة الشيطان تكون - أيضا - بطاعته ؛ كما قال - جل وعلا - : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } [ يس : 60 ] وعبادة الشيطان كما في تفسير الآية : بطاعته في الأمر والنهي ، وطاعته في الشرك ، وطاعته في ترك الإيمان وترك لوازمه .(21/397)
وقد كان إمام الدعوة -رحمه الله- مستحضرا لهذا الدليل الذي يحتج به المشركون من هذه الأمة ، من أهل عصره وغيرهم على نفي عبادة هذه الأمة للأوثان ، وعدم وقوع الشرك منهم ، فأراد -رحمه الله- التنبيه على بطلان الاستدلال بذلك الدليل على ما ادعوه ، بل هو لا يدل على قولهم ، إذ قد عرفنا معناه وتفسيره فيما تقدم . والأدلة جاءت مصرحة أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ، وهذا مما يصحح معنى ما أشرنا إليه من كون الشيطان قد يأس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب .
وقول الإمام -رحمه الله- : " باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " معناه : أن عبادة الأوثان واقعة في هذه الأمة بنص قول النبي صلى الله عليه وسلم ، كما وقعت في الأمم السالفة ، فهذه الأمة فيها عبادة غير الله سبحانه وتعالى -أيضا- .
وقوله : " باب ما جاء" يعني : من النصوص في الكتاب وفي السنة .(21/398)
وقوله : " أن بعض هذه الأمة" نص على وقوع ذلك من بعضهم ، لا من كلهم ؛ لأن عبادة الأوثان لم تكن من الأمة كلها ، وإنما كانت من بعض هذه الأمة ، وإلا فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق كما قال -عليه الصلاة والسلام- . « ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى قيام الساعة » .
والمقصود ب " بعض هذه الأمة" : ذلك البعض المرذول ، فنفهم من هذا أن هناك من الأمة من يقوم بالاستمساك بالأمر الأول الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته ، في أمر التوحيد ، وأمر العبادة والسنن .
لكن هل المقصود بقوله . " هذه الأمة" . أمة الدعوة أو أمة الإجابة؟
إذا قلنا : أمة الدعوة . فلا شك أن هناك من أمة الدعوة- وهم جميع الجن والإنس- من عبد الأوثان ، واستمر على عبادتها ، بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرض ببعثته ، ولم يقبل ذلك .(21/399)
وإذا قلنا : إن المراد بالأمة أمة الإجابة ، يعني : أن من أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ، تتقادم بهم العهود ، حتى يرتدوا على أدبارهم ، ويتركوا دينهم ، كما جاء في بابٍ سلف في أن سبب كفر بني آدم ، وتركهم دينهم الغلو في الصالحين ، لكن الظاهر هنا أن قوله : " بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " يعني به أمة الإجابة في أنهم يتركون دينهم ، ويتوجهون إلى الأوثان ويعبدونها .
و " الأوثان " : جمع وثن ، والوثن هو : كل شيء توجه إليه الناس بالعبادة ، إما بأن يدعوه مع الله- جل وعلا- أو أن يستغيثوا به ، أو أن يعتقدوا فيه أنه ينفع ويضر بدون إذن الله- جل وعلا- أو أنه يرجى رجاء العبادة ، ويخاف منه كخوف الله- جل وعلا- أي : خوف السر ، ونحو ذلك من التوجهات ، والعبادات ، فمن اعتقد فيه شيء من ذلك فهو وثن من الأوثان ، وقد يكون راضيا بتلك العبادة ، وقد لا يكون راضيا .(21/400)
والوثن ليس هو المصور على شكل صورة ، بل الصنم هو ما كان على شكل صورة- كما سبق أن ذكرنا- فالفرق بين الأوثان والأصنام . أن الأصنام هي : الآلهة التي صورت على شكل صور ، كأن يجعل لنبي من الأنبياء صورة ويعبدها ، أو يجعل لرجل من الرجال- كبوذا ونحوه- صورة ويسجد لها ، ويعبدها ، فهذه تسمى أصناما . أما الأوثان فهي الأشياء المعبودة أيا كانت ؛ فقد تكون جدارا ، أو قبرا ، أو رجلا ميتا ، أو صفة من الصفات يتخذها معبودة من دون الله . فكل ما توجه إليه العباد بنوع من أنواع العبادة : فهو وثن من الأوثان .
قوله : " وقول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [ النساء : 51] الجبت : اسم عام لكل ما فيه مخالفة لأمر الله- جل وعلا- وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد ، فقد يكون الجبت سحرا- وهذا هو الذي فسر به كثير من السلف الجبت ، وقد يكون الجبت الكاهن ، وقد يكون الجبت الشيء المرذول الذي يضر صاحبه .
ومعنى قوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } يعني : يؤمنون بالسحر ، ويؤمنون بالباطل ، وبعبادة غير الله- جل وعلا- .(21/401)
ويؤمنون ب (الطاغوت) والطاغوت : مشتق من الطغيان ، وهو : مجاوزة الحد ، فالطاغية هو الذي تجاوز الحد في أمر الدين ، بأن جعل ما لله له ؛ ولهذا يعرف ابن القيم -رحمه الله- الطاغوت بأنه : " كل ما تجاوز به العبد حده من معبود ، أو متبوع ، أو مطاع " .
ومعنى مجاوزة العبد به حده : أنه تعدى حد ذلك الشيء الذي توجه إليه ، وهو الحد الذي لم يأذن به الشرع مجاوزته له ، فتوجهه إليه بالعبادة ، أو اعتقاده فيه بعض خصائص الإلهية من أنه : يغيثه كيف ما شاء ، ومن أنه يملك غوثه ، ويملك الشفاعة له ، أو أن يغفر له ، وأن يعطيه ، ويملك أن يقربه إلى الله- جل وعلا- ، ونحو ذلك مما لا يملكه المعبودون ، فإن كل ذلك مجاوزته بذلك المتخذ عن الحد الذي جعل له في الشرع .(21/402)
فهذا معنى مجاوزة الحد في المعبودين ، والمقصود بقوله : " أو متبوع " مثل العلماء ، والقادة في أمر الدين ، ومعنى مجاوزة الحد فيهم : أنهم صاروا يتبعونهم في كل ما قالوا ، وإن أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال ، أو جعلوا لهم السنة بدعة ، والبدعة سنة ، وهم يعلمون أصل الدين ، ولكنهم خالفوا لأجل ما قال فلان ، فإن هذا قد تُجُوِّز به حده ، فإن حد المتبوع في الدين : أن يكون آمرا بما أمر به الشرع ، ناهيا عما نهى عنه الشرع . فإذا أحل الحرام ، أو حرم الحلال فإنه يعتبر طاغوتا ، ومن اتبعه فإنه يكون قد تجاوز به حده ، وقد أقر بأنه طاغوت ، واتخذه كذلك .
وقوله : " أو مطاع " يشمل الأمراء ، والملوك ، والحكام ، والرؤساء ، الذين يأمرون بالحرام فيطاعون ، ويأمرون بتحريم الحلال فيطاعون في ذلك مع علم المطيع بما أمر الله- جل وعلا- به فهؤلاء اتخذوهم طواغيت ؛ لأنهم جاوزوا بهم حدهم . فهذا الشرح لمعنى ما ذكره الإمام ابن القيم -رحمه الله- من تعريف الطاغوت .
وقوله في الآية المتقدمة . ( الطاغوت ) يدخل فيه كل هذه الأنواع ، أي الذين عبدوا ، والذين اتبعوا ، والذي أطيعوا .(21/403)
ووجه مناسبة هذه الآية للباب ، أن الإيمان بالجبت والطاغوت ، حصل ووقع من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، من اليهود والنصارى ، وإذا كان قد وقع منهم ، فسيقع في هذه الأمة ؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن ما وقع في الأمم قبلنا سيقع في هذه الأمة ، كما قال في حديث أبي سعيد الآتي : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » فمثل بشيء صغير ، وهو دخول جحر الضب- الذي لا يمكن أن يفعل- تنبيها على أن ما هو أعلى من ذلك سيقع من هذه الأمة ، كما وقع من الأمم قبلنا . وقد حصل- كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإن من هذه الأمة من آمن بالسحر ، ومنهم من آمن بعبادة غير الله ، ومنهم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، فكانوا بذلك متبعين سنن من كان قبلهم ، وحصل منهم إيمان بالجبت والطاغوت كما حصل من الأمم قبلهم .(21/404)
" وقوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } [ المائدة : 60 ] على هذه القراءة (عبد الطاغوت) يكون الطاغوت مفعول (عبد) ، و (عبد) فعلا معطوفا على قوله : (لعن) ، كأنه قال بتقديم وتأخير : من لعنه الله ومن عبد الطاغوت . ووجه الاستشهاد من الآية أن عبادة الطاغوت وقعت في أولئك الملعونين ، وبما أن ما وقع في الأمم السالفة بخبر النبي صلى الله عليه وسلم سيقع في هذه الأمة ، فإننا نعلم أن في هذه الأمة من سيعبد الطاغوت كما عبدها أولئك ، وعبادة الطاغوت عامة- كما ذكرنا- يدخل فيها عبادة الأوثان من عبادة القبور ، وتأليه أصحابها ، والتوسل بهم إلى الله- جل وعلا- ، والاستشفاع بهم إلى الله- جل وعلا- ، أو طلب الشفاعة منهم ، ونحو ذلك من الوسائل الشركية ، أو ما هو من الشرك الأكبر ، فحصلت عبادة الأوثان من القبور ، ومن المشاهد ، ومن الأشجار ومن الأحجار ، ونحو ذلك مما اعتقد فيه الجهلة الذين تركوا دين محمد -عليه الصلاة والسلام- . " وقوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ(21/405)
غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الكهف : 21] : قصة أصحاب الكهف معروفة ، وهذه الجملة بعض آية من قصة أصحاب الكهف ، جعلهم الله- جل وعلا- آية ، كما قال تعالى : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } [ الكهف : 21] واطلع الناس على أنهم مكثوا أحياء هذه المدة الطويلة ، فاعتقدوا فيهم ، ولما ماتوا تنازعوا في أمرهم .
فمنهم من قال : { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } .
ومنهم من قال : اجعلوا لهم فناء ودارا ، وعظموا مكانهم ، واختلف الناس فيهم في ذلك الزمان ، قال الله- جل وعلا- : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الكهف : 21] . فمن الذين غلبوا على الأمر؟ اختلف المفسرون في ذلك :(21/406)
فقال قائلون : هم المسلمون- مسلمو ذلك الزمان- حصل منهم تعظيم لأصحاب الكهف ، فقالوا : { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } [ الكهف : 21 ] وقالوا : { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } تعظيما لهم ودلالة للناس عليهم ، فإذا كان هذا القول راجحا فإنه من وسائل الشرك بالله ويؤدي إلى عبادة تلك القبور والاعتقاد في أصحاب الكهف ، وهذا القدر حصل في هذه الأمة .(21/407)
والقول الثاني : أن الذين غلبوا على أمرهم هم المشركون ، يعني : أتباع ذلك الدين لاعتقادهم الجاهلي ، ولما في قلوبهم من الشرك والبدع التي خالفوا بها أنبياءهم ، قالوا { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } . والقول الثالث : - وهو الذي رجحه ابن كثير -رحمه الله- ورجحه عدد أيضا من أهل العلم- أن الذين غلبوا على أمرهم هم الكبراء ، والأمراء ، وأصحاب النفوذ فيهم ، لأن الذي له الغلبة في الأمر هو من يملك الأمر والنهي في المنكر وهم الكبراء ، وأصحاب النفوذ ، وملوك ذلك الزمان ، وأمراؤه ، عظموا هؤلاء الصالحين وقالوا { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } ، وقد حصل هذا في تلك الأمة ، وما دام أنه حصل فإنه سيحصل في هذه الأمة ؛ لأنه ما من خصلة من الشرك حصلت في الأمم قبلنا إلا وحصلت في هذه الأمة حتى ادعى بعض هذه الأمة أنه الله- جل وعلا- وأن الله يحل فيه ونحو ذلك ، بل قد ادعوا أن روح الإله تتناسخ في أناس معنيين كما هو اعتقاد طوائف من الباطنيين ونحو ذلك ، وهذا كما قال -عليه الصلاة والسلام- : « لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة » .(21/408)
قوله : (سنن) يروى بضم السين وفتح النون ، وهو : جمع سنة ، وهي . الطريقة ، يعني كأنه قال : لتتبعن طرائق من كان قبلكم يعني في الدين . ويروى بفتح السين والنون معا ، وهو على هذه الرواية مفرد ، ومعناه : السبيل والطريق ، يعني : لتتبعن سبيل من كان قبلكم .
واللام في قوله : " لتتبعن " هي الواقعة في جواب القسم ، فيفهم من ذلك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أقسم على ذلك ، فقال مؤكدا : والله لتتبعن سنن من كان قبلكم .(21/409)
وإنما أقسم -عليه الصلاة والسلام- ليؤكد هذا الأمر تأكيدا عظيما ، وأن هذه الأمة ستتبع- لا محالة- طريق وسبيل من كان قبلها من الأمم ، وهذا تحذير لأن الأمم السالفة إما أن يكونوا من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، وهؤلاء قد وصفهم الله- جل وعلا- بأنهم مغضوب عليهم وضالون ، فإذا اتبعت هذه الأمة سبيلهم ، فمعنى ذلك أنها تعرضت للغضب واللعنة ، وقد وجد في هذه الأمة من سلك سبيل اليهود ، ومن سلك سبيل النصارى ؛ ولهذا قال بعض السلف : من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى ؛ لأن اليهود خالفوا على علم ، والنصارى خالفت على ضلالة وقد قال- جل وعلا- : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 7 ] والمغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم "(21/410)
قوله : " حذو القذة بالقذة " أي : مثلا بمثل ، وهو مثل للشيئين يستويان ، ولا يتفاوتان ، مأخوذ من قذة السهم ، وهي أذنه ؛ لأن كل قذة تقر على صاحبتها ، ثم تقطع على قياسها ، فلا يكون بينها تفاوت . وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فحصل في هذه الأمة مثل ما حصل في الأمم قبلنا في أبواب الربوبية ، وفي أبواب الإلهية ، وفي الأسماء والصفات ، وكذلك في العمل ، وفي السلوك ، وكذلك القول في أفعال الله- جل وعلا- فكل شيء كان فيمن قبلنا جاء ووقع في هذه الأمة ، نسأل الله- جل وعلا- السلامة والعافية .(21/411)
قوله : « حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال : " فمن؟ » أخرجاه (1) " : وجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة ، بل عماد هذا الباب على هذا الحديث من أن كل كفر وشرك وقع في الأمم السالفة فسيقع في هذه الأمة ، فإن الأمم السالفة عبدت الأوثان وكفرت بالله- جل وعلا- وسيقع في هذه الأمة من يعبد الأوثان ومن يكفر بالله- جل وعلا- في الربوبية وفي الإلهية وفي الأسماء والصفات وفي أفعال الله- جل وعلا- وفي الحكم والتحاكم ، وهكذا في أنواع كثيرة مما حصل فيمن قبلنا حتى في أمور السلوك والبدع ، بل حتى في أمور الأخلاق والعادات التي تتصل بالدين فإنه سلكت هذه الأمة مسلك الأمم قبلها مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم .
ووجه الاستشهاد من حديث ثوبان -وهو حديث طويل- قوله -عليه الصلاة والسلام- : « وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين » والأئمة المضلون هم الذين اتخذهم الناس أئمة ، إما من جهة الدين ، وإما من جهة ولاية الحكم .
_________
(1) يعني البخاري ومسلم .(21/412)
والأئمة المضلون يملكون زمام الناس ، فيضلون الناس بالبدع وبالشركيات ، ويحسنونها لهم حتى تغدو في أعينهم حقا ، وكذلك أصحاب النفوذ وأصحاب الحكم فإنهم إذا كانوا مضلين فإن بيدهم الأمر الذي يجعلهم يفرضون على الناس أمورا ويلزمونهم بأشياء مضادة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم من أمور العقيدة والتوحيد ، ومن أمور السلوك والعمل ، ومن أمور الحكم والتحاكم ، وهكذا وقع في هذه الأمة ما خاف منه -عليه الصلاة والسلام- ، فكثر الأئمة المضلون في الأمة : الأئمة المضلون من جهة الاتباع ، والأئمة المضلون من جهة الطاعة .
قوله : « وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان » : هذا نص صحيح من رواية البرقاني في صحيحه . فهل المراد من قوله : « حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين » أن هذا الحي يترك بلاد المسلمين ، ويذهب إلى أرض المشركين؟ أو أنه يلحق بالمشركين في الصفات والخصال؟ يحتمل هذا وهذا .(21/413)
قوله : « وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان » الفئام ، هي الجماعات الكبيرة ، وهذا ظاهر المناسبة لقول الشيخ -رحمه الله- في الباب " باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان " .
قوله -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث . « ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى » هذه الطائفة المنصورة هي التي قال فيها -عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر .
« ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق » ، وهي التي قال فيها -عليه الصلاة والسلام- : « وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة » فالطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية وهي الجماعة بجمع أحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- . وسميت منصورة ؛ لأن الله- جل وعلا- نصرها على من ناوأها بالحجة والبيان ، ونصرها الذي وعدت به ليس نصرا بالسنان ، ولكنه نصر بالحجة والبيان ، فهم وإن هزموا في بعض المعارك أو أديلت دولتهم في بعض الأحيان فهم الظاهرون على من سواهم بالحجة والبيان ، وهم المنصورون بما أعطاهم الله- جل وعلا- من الحجة والنصوص والصواب والحق على من سواهم . فهم على الحق وسواهم على الباطل .(21/414)
وهذان اللفظان- فرقة ناجية ، وطائفة منصورة- اسمان لشيء واحد ، وإنما هو من باب تنوع الصفات فقال عنها الطائفة المنصورة هنا « لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة » ؛ لأنها موعودة بالنصر كما قال- جل وعلا- : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر 51 ] وكما قال أيضا : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ }{ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ }{ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات : 171-173 ] ، فقولهم هو المنصور وهو الظاهر وحجتهم هي الظاهرة ، وقد يكون أيضا لهم من النصر والتمكين في أرض الله ما أعطاهم الله- جل وعلا- من ذلك .
وهم أيضا الفرقة الناجية التي جاءت في حديث الافتراق ، لأنها موعودة بالنجاة من النار ، فهم موصوفون بالنصر ، وموصوفون بالنجاة من النار ، وموصوفون بالنصر على عدوهم بالحجة والبيان ، وقد يكون مع ذلك نصر بالسيف والسنان ونحو ذلك .(21/415)
"باب ما جاء في السحر"
وقول الله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة : 102] وقوله { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء : 51] .
قال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . وقال جابر : الطواغيت : كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات " ، قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » (1) .
وعن جندب مرفوعا : « حد الساحر ضربه بالسيف » رواه الترمذي (2) وقال : الصحيح أنه موقوف . وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال : كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال : فقتلنا ثلاث سواحر (3) .
وصح عن حفصة -رضي الله عنها- أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت (4) ، وكذلك صح عن جندب ، قال أحمد : عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فيه مسائل : الأولى : تفسير آية البقرة .
_________
(1) أخرجه البخاري (2766) و (5764) و (6857) ومسلم (89) .
(2) أخرجه الترمذي (1460) .
(3) أخرجه البخاري (3156) .
(4) أخرجه مالك في « الموطأ » (46) بلاغا ، ووصله عبد الرزاق 15 / 180 .(21/416)
الثانية : تفسير آية النساء .
الثالثة : تفسير الجبت والطاغوت ، والفرق بينهما .
الرابعة : أن الطاغوت قد يكون من الجن ، وقد يكون من الإنس .
الخامسة : معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي .
السادسة : أن الساحر يكفر .
السابعة : أنه يقتل ولا يستتاب .
الثامنة : وجود هذا في المسلمين على عهد عمر فكيف بعده !
الشرح :
هذا " باب ما جاء في السحر " ومناسبة ذكر السحر لكتاب التوحيد . أن السحر نوع من الشرك ، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- : « من سحر فقد أشرك » ، فالسحر أحد أنواع الشرك الأكبر بالله- جل وعلا- فمناسبته ظاهرة ، لأنه مضاد لأصل التوحيد .
والسحر في اللغة هو : عبارة عما خفي ولطف سببه ، ومعنى خفي : صار سبب ذلك الشيء خفيا لا يقع بظهور ، وإنما يقع على وجه الخفاء ؛ ولهذا سمي آخر الليل سحرا لذلك ، وكذلك قيل في أكلة آخر الليل سحور وذلك لأنها تقع على وجه الخفاء وعدم الاشتهار والظهور من الناس .(21/417)
فهذه اللفظة (سحر) وما اشتقت منه تدل على خفاء في الشيء ؛ ولهذا فإنه في اللغة يطلق السحر على أشياء كثيرة ، منها ما يكون من جهة المقال ، ومنها ما يكون من جهة الفعل ، ومنها ما يكون من جهة الاعتقاد ، وسيأتي في هذا الباب وفي الباب الذي بعده " باب بيان شيء من أنواع السحر" ما يتصل بذلك .
وأما السحر الذي هو كفر وشرك أكبر بالله - جل وعلا - فهو استخدام الشياطين والاستعانة بها لحصول أمر بواسطة التقرب لذلك الشيطان بشيء من أنواع العبادة .
والسحر عرفه الفقهاء بقولهم : رقى وعزائم وعقد ينفث فيها فيكون سحرا يضر حقيقة ، ويمرض حقيقة ، ويقتل حقيقة . فحقيقة السحر إذا : أنه استخدام للشياطين في التأثير ، ولا يمكن للساحر أن يصل إلى إنفاذ سحره حتى يكون متقربا إلى الشياطين ، فإذا تقرب إليها خدمته شياطين الجن بأن أثرت في بدن المسحور ، فلكل ساحر خادم من الشياطين يخدمه ، ولكل ساحر مستعان به من الشياطين ، فلا يمكن للساحر أن يكون ساحرا على الحقيقة إلا إذا تقرب إلى الشياطين ؛ ولهذا فإن السحر شرك بالله- جل وعلا- .(21/418)
وهناك شيء قد يكون في الظاهر أنه سحر ، ولكنه في الباطن ليس بسحر ، وهذا ليس الكلام فيه ، وإنما الكلام فيما كان من السحر بالاستعانة بالشياطين ، وباستخدام الرقى والتعويذات والعقد والنفث فيها ، وقد قال - جل وعلا- : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } [الفلق : 4] والنفاثات : هن السواحر اللاتي يعقدن العقد وينفثن فيها ، خصت الإناث بالاستعاذة منهن ؛ لأن الغالب في السحر أن الذي يستخدمه النساء ، فجرى ذلك لمجرى الغالب ، والنفاثات : جمع نفاثة ، صيغة مبالغة من النفث ؛ لأنها تكثر النفث في العقدة برقى وتعازيم وتعويذات ، تستخدم فيها الجن لتخدم هذه العقدة التي فيها شيء من بدن المسحور ، أو فيها شيء يتعلق بالمسحور حتى يكون ذلك مؤثرا فيه . وقد سحر يهودي النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة ، يعني : في أشياء من شعره -عليه الصلاة والسلام- حتى يخيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الشيء ولا يفعله من جهة نسائه -عليه الصلاة والسلام- ، فقد كان سحر ذلك اليهودي مؤثرا في بدنه -عليه الصلاة والسلام- ، لكنه لم يكن مؤثرا في علمه ، ولا في عقله ، ولا في روحه -عليه الصلاة والسلام- ، وإنما في بدنه يخيل إليه(21/419)
أنه قد واقع نساءه وهو لم يواقع ونحو ذلك .
وهذا السحر الذي فيه استخدام الشياطين شرك وكفر بالله- جل وعلا- ، كما قال سبحانه : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [البقرة : 102] والذي تلته الشياطين على ملك سليمان هو ما قرؤوه في كتاب السحر وما يتصل بذلك من عمل السحر ، قال- جل وعلا- . { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [البقرة : 102] فعلل كفر الشياطين بقوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [البقرة : 102] قال- سبحانه- : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } .(21/420)
وتعلم السحر وفهم كيف يكون ، وكيف يعمل السحر ، كل هذا لا يمكن أن يكون إلا بالكفر والشرك ، لكن هناك مراتب : إحداها : أن يتعلم ذلك نظريا ولا يعمله ، والثانية : أن يتعلمه ويعمله ولو مرة ، وهناك مرتبة الساحر الذي يتعلم ويعمل به دائما فما حكم هذه المراتب؟ قال- جل وعلا- : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } [البقرة : 102] ، فدل على أن تعلمه بمجرده كفر ، ولهذا نقول : الصحيح أن تعلم السحر- ولو بدون عمل- شرك وكفر بالله- جل وعلا- بنص الآية ، لأنه لا يمكن أن يتعلم السحر إلا بتعلم الشرك بالله- جل وعلا- وكيف يشرك ، وإذا تعلم الشرك فهو مشرك بالله- جل وعلا- .
وبعض العلماء يقول : السحر قسمان : - كقول الشافعي وغيره- منه ما يكون بالاستعانة بالشياطين فهذا كفر وشرك أكبر ، ومنه ما يكون بالأدوية والتدخينات فهذا فسق ومحرم ولا يكفر فاعله إلا إذا استحله .(21/421)
وهذا التقسيم من الشافعي ومن تبعه ، هو من جهة الواقع ، يعني : نظروا في الذين يمارسون ذلك ، فمنهم من يقول إنه ساحر وليس كذلك من حيث النظر الشرعي يعني : أنه ليس السحر الذي وصف في الشرع ، فيقول : هو ساحر ، وهو يستخدم أدوية وتعويذات ، وفي الحقيقة هو مشعوذ ، ولا يصدق عليه اسم الساحر ، وهذا فيما يفعل يؤثر عن طريق الأدوية .
وأما الصرف والعطف ، يعني : جلب محبة امرأه لزوجها ، أو صرف محبة المرأة لزوجها ، أو العكس ، فهذا من القسم الأول ؛ لأنه من نواقض الإسلام ، فالسحر من نواقض الإسلام ؛ لأنه شرك بالله ومنه الصرف والعطف ؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى روح وقلب من يراد صرفه أو العطف إليه إلا بالشرك ؛ لأن الشيطان هو الذي يؤثر على النفس ولن يخدم الشيطان الإنسي الساحر إلا بعد أن يشرك بالله- جل وعلا- .(21/422)
فتحصل أن السحر بجميع أنواعه فيه استخدام للشياطين واستعانة بها ، والشياطين لا تخدم إلا من تقرب إليها بالذبح ، أو بالاستغاثة ، أو بالاستعاذة ، ونحو ذلك . يعني أن يصرف إليها شيئا من أنواع العبادة ، بل قد نظرت في بعض كتب السحر ، فوجدت أن الساحر- بحسب ما وصف ذلك الكاتب- لا يصل إلى حقيقة السحر ، وتخدمه الجن كما ينبغي ، حتى يهين القرآن ، ويهين المصحف ، وحتى يكفر به ، ويسب الله- جل وعلا- ونبيه صلى الله عليه وسلم ، وهذا قد ذكره بعض من اطلع على حقيقة الحال .
فالسحر إذًا شرك بالله تعالى ، وكل ساحر مشرك . وقتل الساحر- فيما سيأتي- على الصحيح أنه قتل ردة ، لا قتل تعزير ، فالشيخ -رحمه الله- عقد هذا الباب " باب ما جاء في السحر" لبيان تلك المسألة .(21/423)
" وقول الله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } [البقرة : 102] " . وجه الاستدلال بهذه الآية قوله : { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } يعني : ما له في الآخرة من نصيب ، والخلاق هو : النصيب . وقوله : { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني : اشترى السحر ، والاشتراء : أن يأخذ شيئا ويدفع عوضه ، فحقيقة الشراء أن تشتري سلعة مثلا وتدفع ثمنها ، فتأخذ مثمنا وتدفع ثمنه . والساحر ومن تعلم السحر اشترى السحر . أي : أخذ السحر ، وبذل توحيده عوضا ، فالثمن هو التوحيد ، والإيمان بالله وحده ، والمثمن هو السحر ؛ ولهذا قال- جل وعلا- هنا : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ } يعني : من دفع دينه عوضا عن ذلك الشيء الذي أخذه وهو السحر { مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } يعني : من نصيب ، وهكذا المشرك ليس له في الآخرة من نصيب ، فوجه الاستدلال ظاهر في أن الساحر قد جعل دينه عوضا عن ذلك الذي اشتراه وتعلمه وعمل به .(21/424)
" وقوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } [النساء : 51] قال عمر : الجبت السحر " وهذا في ذم أهل الكتاب ، فإن أهل الكتاب لما آمنوا بالسحر ذمهم الله- جل وعلا- ولعنهم وغضب عليهم ، لأنه يكثر السحر واستعماله فيهم ؛ فذمهم الله- جل وعلا- بسبب ذلك ، وإذا كان الله ذمهم ولعنهم وغضب عليهم لأجل ذلك ، فهذا يفيد أنه من المحرمات ومن الكبائر ، وإذا كان فيه إشراك بالله- جل وعلا- فظاهر أنه شرك بالله- جل وعلا- .
قوله : " والطاغوت : الشيطان " يعني : أن الجبت اسم عام يشمل أشياء كثيرة- كما تقدم- ومن أبرزها وأظهرها عند اليهود السحر ، فيؤمنون بالجبت يعني بالسحر ؛ لأنه هو أظهر الأشياء عندهم ، ويؤمنون بالطاغوت يعني بالشيطان ، وهو كل ما توجهوا إليه بالطاعة ، وبعد عن الحق ، وعن الصواب .
" قال : جابر (1) : الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد " : وهذا يأتي بيانه في " باب ما جاء في الكهان " .
_________
(1) يعني ابن عبد الله.(21/425)
" وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات" ، قالوا : يا رسول الله وما هن؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر » وجه الاستدلال من ذلك : أن السحر من الموبقات ، والموبقات : هي التي توبق صاحبها ، وتجعله في هلاك وخسار في الدنيا وفي الآخرة ، وهذه السبع أكبر الكبائر ، وعطف السحر على الشرك بالله ليس عطفا بين متغايرين في الحقيقة ، وإنما هو عطف بين خاص وعام ، فالشرك بالله يكون بالسحر ويكون بغيره ، فعطف السحر على الشرك للتنصيص عليه ، والسحر- كما ذكرنا- أحد أفراد الشرك بالله- جل وعلا- وعطف الخاص على العام أمثلته كثيرة منها قوله- جل وعلا- : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } فعطف جبريل وميكال على الملائكة ، وهما منهم ، من باب عطف الخاص على العام .(21/426)
قوله : " وعن جندب مرفوعا : « حد الساحر ضربه بالسيف » رواه الترمذي ، وقال : الصحيح أنه موقوف " روي هكذا" ضربه " وهو الأصح ، وروي " ضربة" فحد الساحر قتله بالسيف ، وعلى رواية" ضربة" لا يكون لها مفهوم ، يعني : إن مات بضربة أو يضرب ضربتين أو ثلاثا حتى يموت لأن العدد لا مفهوم له .(21/427)
قوله . " حد الساحر" هنا لم يفرق بين ساحر وساحر ، ولم يأت في أدلة الكتاب والسنة التفصيل في اسم الساحر الذي يحد ، أو الذي وصف بالكفر بين نوع ونوع من التأثير ، فالأنواع التي يستخدمها السحرة مما يصدق عليها أنها سحر في التأثير ، وفي الإمراض ، وفي التفريق ، وفي التأثير على العقول وعلى القلوب ، ونحو ذلك من أنواع التأثير الخفي الذي يكون باستخدام الشياطين أو بأمور خفية ، فهذا كله لا يفرق فيه بين فاعل وفاعل ، والأدلة ما فرقت ؛ فلهذا قال العلماء : الصحيح أن الساحر من أي نوع حده أن يقتل ، وهل حده حد كفر وردة ، أو حد لأجل أنه قتل ، فيكون حد لأجل القتل ، أو حد تعزير؟ اختلف العلماء في ذلك . والصحيح من هذه أنه في الجميع حد ردة ؛ لأن حقيقة السحر أنه لا بد أن يكون فيه إشراك بالله- جل وعلا- فمن أشرك بالله- جل وعلا- فقد ارتد وحل دمه وماله .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل يقول فيه ما مقتضاه : إن الساحر قد لا تدرك حقيقة سحره فيترك أمره في قتله إلى الإمام ، إذا رأى المصلحة في قتله قتله ، وإن لم ير المصلحة في قتله لم يقتله ، ويعني بالمصلحة المصلحة الشرعية ، فتحصل من ذلك أن الأقوال في حد الساحر هي :(21/428)
الأول : أنه يقتل مطلقا ردة ؛ لأنه لا يكون السحر إلا بشرك .
والقول الثاني : أنه يقتل ردة إذا كان سحره بشرك ، ويقتل حدا إذا كان سحره أدى إلى قتل غيره بغير ما فيه إشراك ، من مثل الأدوية ، والتعويذات ، ونحو ذلك مما ذكرنا .
والثالث : القول الذي عزي إلى شيخ الإسلام : من أنه كالزنديق يترك أمره إلى الإمام بحسب ما يراه ، إن رأى المصلحة الشرعية في قتله قتله ، وإلا عاقبه بما دون القتل .
قوله : " وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبده قال : كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال : فقتلنا ثلاث سواحر" هذا ظاهر في الأمر بقتل الساحر والساحرة بدون تفصيل ؛ ولأن حقيقة السحر لا تكون إلا بشرك بالله- جل وعلا- وذلك ردة .
قوله : "وصح عن حفصة -رضي الله عنها - أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ، فقتلت ، وكذلك صح عن جندب ، قال أحمد : عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " .(21/429)
يعني أن الساحر يجب أن يقتل وهذا حده سواء قلنا : إنه يقتل لحد الردة ، أو يقتل لحد القتل ، أو يقتل تعزيرا ، فالصحابة -رضوان الله عليهم- أفتوا بقتله ، وأمروا بقتله ، وذلك بدون تفريق ، وهذا هو الواجب ألا يفرق بين نوع ونوع ، والواجب على المسلمين أن يحذروا السحر بأنواعه ، وأن يتعاونوا في الإبلاغ عن كل من يعلمون عنده شعوذة ، أو استخداما لشيء من الخرافات ، أو السحر ، ونحو ذلك ، إبراء للذمة ، وإنكارا للمنكر ؛ لأنه كما قال الأئمة : ما دخل السحرة إلى بلد إلا فشا فيها الفساد ، والظلم ، والاعتداء ، والطغيان ؛ ذلك لأنهم يستخدمون الشياطين ، فتطيع الشياطين السحرة ، أعاذنا الله منهم ، ومن أقوالهم ، وأعمالهم وتأثيراتهم .(21/430)
" باب بيان شيء من أنواع السحر "
قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عوف بن مالك قال : حدثنا قطن بن قبيصة ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن العيافة ، والطرق ، والطيرة من الجبت » .
قال عوف : العيافة زجر الطير . والطرق : الخط يخط بالأرض ، والجبت : قال الحسن : رنة الشيطان . إسناده جيد . (1) ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه (2) وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » . رواه أبو داود ، وإسناده صحيح (3) .
وللنسائي من حديث أبي هريرة : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه " (4) وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا هل أنبئكم ما العَضْه؟ هي النميمة القالة بين الناس » رواه مسلم (5) .
ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن من البيان لسحرا » (6) .
فيه مسائل : الأولى : أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت .
الثانية : تفسير العيافة والطرق .
الثالثة : أن علم النجوم نوع من السحر .
_________
(1) أخرجه أحمد 3 / 477 و 5 / 60 .
(2) أخرجه أبو داود (3907) وابن حبان 7 / 646 وحسنه النووي .
(3) أخرجه أبو داود (3905) .
(4) أخرجه النسائي 7 / 112 .
(5) أخرجه مسلم (2606) .
(6) أخرجه البخاري (5146) و (5767) وأحمد 2 / 16 و 59 و 63 و 94 .(21/431)
الرابعة : العقد مع النفث من ذلك .
الخامسة : أن النميمة من ذلك .
السادسة : أن من ذلك بعض الفصاحة .
الشرح :
هذا " باب بيان شيء من أنواع السحر " . لما ذكر الإمام -رحمه الله تعالى- ما جاء في السحر ، وما اتصل بذلك من حكمه وتفصيل الكلام فيه ، ذكر أن السحر قد يأتي في النصوص ، ولا يراد منه السحر الذي يكون بالشرك بالله- جل وعلا- ، فإن اسم السحر عام في اللغة ، يدخل فيه ذلك الاسم الخاص الذي فيه استعانة بالشياطين والتقرب إليها وعبادتها لتخدم الساحر ، ويدخل فيها أمور أخرى يطلق عليها الشارع أنها سحر ، وليست كالسحر الأول في الحقيقة ولا في الحكم ، وهو درجات .
فمما يسمى سحرا : البيان ، كما جاء في آخر الباب " إن من البيان لسحرا" والبيان ليس سحرا فيه استعانة بالشياطين ، ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية ؛ لأن له تأثيرا خفيا على القلوب ، فإن الرجل البليغ البيان ، وذا الإيضاح ، وذا اللسان الفصيح يؤثر في القلوب حتى يسبيها ، وربما قلب الحق باطلا والباطل حقا ببيانه ، فسمي سحرا لخفاء وصوله إلى القلوب وقلب الرأي وفهم المخاطب من شيء إلى آخر .(21/432)
وكذلك ما ذكر من أن الطيرة من السحر ، فالطيرة نوع اعتقاد ، وكذلك العيافة وهي شبيهة بها أو بعض أنواعها ، كذلك الخط في الرمل ، ونحو ذلك ، من الأشياء التي ربما أطلق عليها أنها سحر وهي ليست كالسحر الأول في الحد والحقيقة ولا في الحكم .
ولهذا عقد الإمام -رحمه الله- هذا الباب ، لبيان شيء من أنواع السحر ؛ لأن من أنواع السحر ما هو شرك أكبر بالله- جل وعلا- ، وهو المراد إذا أطلق السحر ، وهذه هي الحقيقة العرفية ، ومنه ما ليس شركا أكبر .
وفي ألفاظ الشرع أمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة اللغوية ، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة العرفية ، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية . ومن ذلك هذا الباب ، فإن فيه ما يطلق عليه- لغة- أنه سحر ، وفيه ما يطلق عليه- عرفا- أنه سحر ، وما يطلق عليه شرعا- أنه سحر .
والتفريق بين هذه الأنواع مهم ؛ ولهذا ذكر الإمام هذا الباب حتى تفرق بين نوع وآخر ، فالحد الذي فيه " حد الساحر ضربه بالسيف " لا ينطبق على كل هذه الأنواع التي ستذكر ؛ لأنها سحر لغة وليست بسحر شرعا .
قوله في الحديث الأول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن العيافة ، والطرق ، والطيرة من الجبت » .(21/433)
العيافة : مأخوذة من عياف الشيء ، وهو تركه ، عاف الشيء يعافه ، إذا تركه ، فلم تبغه نفسه ، وهي كما فسرها عوف : زجر الطير- وهذا أحد تفسيرات العيافة- وزجر الطير : أن يحرك طيرا حتى ينظر إلى أين تتحرك ، ثم يفهم من ذلك الزجر أن هذا الأمر الذي سيقدم عليه أمر محمود أو أمر مذموم ، أو يطلع بحقيقة زجر الطير على مستقبل الحال ، فهذا نوع من الجبت ، وهو السحر ؛ لأن من معاني (الجبت)- كما تقدم- الشيء المرذول المطرح الذي يصرف الواحد عن الحق . والسحر : شيء خفي يؤثر في النفوس ، والعيافة من التأثر بالطير وبزجرها وبانتقالها من هنا إلى هنا أو بحركتها شيء خفي دخل في النفس فأثر فيها من جهة الإقدام أو الكف ، فكانت نوعا من السحر لأجل ذلك ، وهي- أيضا- جبت ؛ لأنها شيء مرذول أدى إلى الإقبال أو الامتناع . والطيرة أعم من العيافة ؛ لأن العيافة- على تفسير عوف وهو أحد تفسيراتها- متعلقة بالطير وحده ، وأما الطيرة فهي : اسم عام لما فيه تشاؤم أو تفاؤل بشيء من الأشياء ، وسيأتي باب مستقل لذكر أحكام الطيرة ، وصورتها ، وما يقي منها ، - إن شاء الله تعالى- .(21/434)
وحقيقة الطيرة : أنه يرى شيئا من الطير ، تحرك يمينا أو يسارا ، فإن رآه تحرك يمينا ، تفاءل به ، واعتقد أنه سينجح في هذا العمل أو في هذا السفر ، وإن رآه تحرك شمالا قال : هذا معناه أني سأتضرر في هذا السفر ، أو سيصيبني مكروه فرجع . وقد قال -عليه الصلاة والسلام- . " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " (1) .
وقد يتشاءم بحركة شيء ، أو بكلمة يسمعها ، أو بشيء في الجو ، أو بتصادم سيارة أمامه ، أو بسواد في الجو حصل أمامه أو في ذلك اليوم الذي سينتقل فيه ، أو يتشاءم بشيء حصل له في أول زواجه ، ونحو ذلك من أنواع التشاؤم ، كالتشاؤم بالأشهر ، أو بالأيام ، هذا كله من أنواع الطيرة .
ولا يكون طيرة إلا إذا رده عن حاجته ، أو جعله يقبل إلى حاجته ، فإذا تشاءم ، وحمله ذلك التشاؤم على أن يقدم أو يحجم فإنه يكون متطيرا .
وكذلك في باب التفاؤل إذا رأى شيئا ، فجعله ذلك الشيء يقدم ، ولولا ذلك الشيء الذي رآه ما أقدم ، فإن ذلك أيضا من الطيرة وهي نوع من أنواع التأثيرات الخفية على القلوب ، وذلك ضرب من السحر .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 220 .(21/435)
وأما الطرق : فهو مأخوذ من وضع طرق في الأرض ، وهي الخطوط ، فيأتي بخطوط متنوعة يخطها في الأرض ، ليس لها عدد ، ثم يبدأ الكاهن الذي يستخدم الخطوط فيمسح خطا خطا أو يمسح خطين خطين بسرعة ، ثم ينظر ما بقي ، فيقول : هذا الذي بقي يدل على كذا وكذا ، وأنك ستغتني ، أو يدل على أنه سيصيبك كذا وكذا ، ونحو ذلك ، وهو نوع من أنوع الكهانة ، والكهانة ضرب من السحر .
قال هنا : " والطرق : الخط يخط بالأرض ، والجبت : قال الحسن : رنة الشيطان " . وهو من أنواع السحر ؛ لأن الشيطان يدعو إلى ذلك بصوته وبعويله .
قوله : وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » (1) .
رواه أبو داود بإسناد صحيح . في هذا الحديث بيان أن تعلم النجوم تعلم للسحر ، ويأتي في باب خاص " باب ما جاء في التنجيم " أنواع تعلم النجوم وما جعل الله- جل وعلا- النجوم له .
_________
(1) أخرجه أبو داود (3905) بلفظ «من اقتبس علما . . . » الحديث والإمام أحمد في المسند (2000) وابن ماجه (3726) .(21/436)
قوله : " من اقتبس شعبة" : يعني من تعلم بعضا من علم النجوم ؛ لأن الشعبة هي : الطائفة من الشيء ، أو جزء من أجزائه ، فكل جزء من أجزاء علم النجوم الذي هو علم التأثير نوع من أنواع السحر ، قال . " فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد" يعني : كلما زاد في تعلم علم النجوم زاد في تعلم السحر ، حتى يصل إلى آخر حقيقة علم التأثير كما يسمونه ، فيصبح سحرا وكهانة على الحقيقة ، ويأتي أن التنجيم منه علم التأثير وهو جعل الكواكب والنجوم في حركتها والتقائها وافتراقها وطلوعها وغروبها مؤثرة في الحوادث الأرضية ، أو دالة على ما سيحدث في الأرض ، فيجعلونها دالة على علم الغيب ، ومنبئة على المغيبات ، وهذا القدر من السحر ؛ لأنه يشترك معه في حقيقته وهو أنه تأثير بأمر خفي .
قوله : " وللنسائي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - : « من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه » (1) .
_________
(1) أخرجه النسائي في السنن برقم (4084) .(21/437)
قوله : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر" يعني : أن عقد العقد والنفث فيها من أنواع السحر . والنفث المقصود به هنا : النفث الذي فيه استعاذة واستعانة بالشياطين ، فليس كل نفث في عقدة يعقد السحر ، بل لا بد أن يكون النفث بأدعية معينة ورقى شركية وتعويذات وكلام تحضر الجن عند تلاوته وتخدم هذه العقدة السحرية ، وهو ما كان يتعاطاه الناس المردة في زمان النبي -عليه الصلاة والسلام- من النفث في العقد ، كما قال- جل وعلا- : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } وهن السواحر .
قوله : " فقد سحر" أي يخدم هذا السحر بالنفث في العقدة ، وفائدة العقدة عند السحرة أنه لا ينحل السحر ما دامت معقودة ، فينعقد الأمر الذي أراده الساحر بشيئين : بالعقدة ، وبالنفث بالعقدة ، أي عقدة حبل أو خيط أو نحو ذلك ، وبالنفث فيها بالأدعية الشركية والاستعانة بالشياطين ، ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم في هذا الباب : أن العقد تارة تكون مرئية واضحة ، وتارة تكون صغيرة جدا .(21/438)
قوله : " ومن سحر فقد أشرك " هذا عام ؛ لأنه جعل الإشراك جزاء السحر ، بأسلوب الشرط والجزاء ، فكأنه قال : كل من سحر فقد أشرك ، يعني : سحر بذلك النحو الذي ذكر ، وهو أن يعقد عقدة ثم ينفث فيها ، و"من سحر فقد أشرك " وهذا دليل لما ذكرناه في الباب قبله ، من أن كل سحر يعد من أنواع الشرك ؛ لأنه لا يمكن أن يحدث السحر إلا بالنفث في العقد ، أو باستحضار الجني ، وبعبادة الجن ، ونحو ذلك ، وهذا شرك بالله .
قوله : " ومن تعلق شيئا وكل إليه " تقدم نظير هذا ، ومعنى هذا الحديث : أن القلب إذا تعلق بشيء- بمعنى أحبه- ورضيه وتعلق به ، فإنه يوكل إليه ، ويجعل هو السبب الذي من أجله يجيء نفعه أو يجيء ضره . ومعلوم أن كل الأسباب الشركية تعود على فاعلها أو على الراضي بها بالضرر لا بالنفع ، والعبد إذا تخلى عن الله- جل وعلا- ووكل إلى نفسه أو وكل إلى غير الله- جل وعلا- فقد خاب وخسر وضر أعظم الضرر ، فسعادة العبد وعظم صلاح قلبه ، وعظم صلاح روحه ، بأن يكون تعلقه بالله- جل وعلا- وحده .(21/439)
وقوله هنا : "ومن تعلق شيئا وكل إليه " دليل على أن من تعلق بالله فإن الله كافيه ، ومن تعلق قلبه بالله إنزالا لحوائجه بالله ، ورغبا فيما عند الله ، ورهبا مما يخافه ويؤذيه- يعني يؤذي العبد- فإن الله- جل وعلا- كافيه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ، وإذا تعلق العبد بغير الله فإنه يوكل إلى ذلك الغير ، والعباد فقراء إلى الله ، والله- جل وعلا- هو ولي النعمة وولي الفضل ، قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } فمن أنزل حاجته بالله أفلح ، ومن تعلق قلبه بالله أفلح ، وأما من تعلق بالخرافات ، أو تعلق بالأمور الشركية كالسحر، وكالذهاب إلى الأولياء ، وطلب المدد منهم ، أو طلب الإغاثة منهم ، فإنه يوكل إلى المخلوق ، ومن يوكل إلى المخلوق فإنه يضره ذلك أعظم الضرر ، كما قال- جل وعلا- : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } [ الحج : 13] .
قوله : " وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا هل أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة القالة بين الناس » رواه مسلم (1) .
_________
(1) صحيح مسلم (2606) .(21/440)
قوله : العضه هكذا تروى في كتب الحديث (العَضْهُ) ، وفي كتب غريب الحديث واللغة تنطق هكذا (العِضَه) لأشباهها في وزنها ، وهي كما فسرها النبي -عليه الصلاة والسلام- : النميمة القالة بين الناس .
وأصل العضه في اللغة يطلق على أشياء ، منها السحر ، والنميمة والقالة بين الناس نوع من أنواع السحر ، وهي كبيرة من الكبائر ، ومحرم من المحرمات . ووجه الشبه بين النميمة وبين السحر : أن تأثير السحر في التفريق بين المتحابين ، أو في جمع المتفرقين ، تأثيره على القلوب خفي ، وهكذا عمل النمام ، فإنه يفرق بين الأحباب لأجل كلام يسوقه لهذا وكلام يسوقه لذاك ، فيفرق بين القلوب ويجعل العداوة والبغضاء بين قلب هذا وهذا ، كما قال - جل وعلا- عن السحر : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } [البقرة : 102] ، والنميمة هي القالة بين الناس ، وهي من أنواع السحر ، وكبيرة من الكبائر ، والكبائر من أعظم الذنوب العملية .
" ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن من البيان لسحرا » (1) .
_________
(1) رواه البخاري (5146) ومسلم (2009) .(21/441)
المقصود بالبيان هنا : التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة البينة التي تأخذ المسامع والقلوب ، فتسحر القلوب ، فربما قلبت الحق باطلا ، والباطل حقا ، حتى يغدو قول ذلك الذي يعد من أهل البيان والفصاحة هو الحق ، وأن ما لم يقله أو رده هو الباطل- في الظاهر ، وفي ظن سامعيه- ، وهذا ضرب من السحر ؛ لأنه تأثير في النفوس بالألفاظ ، وقلب الحق باطلا ، والباطل حقا ، فتأثيره خفي كتأثير السحر في الخفاء ؛ ولهذا قال . " إن من البيان لسحرا" .
والصحيح من أقوال أهل العلم : أن هذا ذم للبيان وليس مدحا له ، قال . "إن من البيان لسحرا" على جهة الذم ، وبعض أهل العلم يقول : إن ذاك على جهة المدح ؛ لأنه يصل في التأثير إلى أن يؤثر تأثيرا بالغا كتأثير السحر في النفوس ، والتأثير البالغ إذا كان من جهة البيان فإنه جائز ، وهذا من جهة المدح له ، وبيان عظم تأثيره . وهذا فيه نظر ، لأنه لما جعل البيان سحرا علمنا أنه أراد ذمه ؛ ولهذا أورده الشيخ -رحمه الله- في هذا الباب الذي اشتمل على أنواع من المحرمات .(21/442)
فالذي يستغل ما آتاه الله- جل وعلا- من اللسان والبيان والفصاحة في قلب الباطل حقا وفي قلب الحق باطلا ، هذا لا شك أنه من أهل الوعيد ومذموم على فعله ؛ لأن البيان : يقصد به نصرة الحق لا أن يجعل ما أبطله الله- جل وعلا- حقا في أنفس الناس وفي قلوبهم .(21/443)
" باب ما جاء في الكهان ونحوهم "
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال . « من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما » (1) . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال . « من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » رواه أبو داود (2) . وللأربعة والحاكم - وقال : صحيح على شرطهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » (3) . ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا .
(4) وعن عمران بن حصين مرفوعا . « ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » رواه البزار بإسناد جيد (5) .
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله : " ومن أتى . . " إلى آخره (6) . ، قال البغوي : العراف : الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك .
_________
(1) أخرجه مسلم (2230) دون قوله « فصدقه بما يقول » .
(2) أخرجه أبو داود (3904) .
(3) أخرجه أحمد 2 / 429 والبيهقي 8 / 135 والحاكم 1 وصححه ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه أبو يعلى (8- 54) .
(5) أخرجه البزار (3044) .
(6) أخرجه الطبراني كما في « مجمع الزوائد » 5 / 117 وقال المنذري : إسناده حسن.(21/444)
وقيل : هو الكاهن ، والكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل ، وقيل : الذي يخبر عما في الضمير .
وقال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- : العراف اسم للكاهن ، والمنجم ، والرمال ، ونحوهم ، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في قوم يكتبون "أبا جاد" وينظرون في النجوم : ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق .
فيه مسائل :
الأولى : لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن .
الثانية : التصريح بأنه كفر .
الثالثة : ذكر من تكهن له .
الرابعة : ذكر من تطير له .
الخامسة : ذكر من سحر له .
السادسة : ذكر من تعلم أبا جاد .
السابعة : ذكر الفرق بين الكاهن والعراف .
الشرح :
" باب ما جاء في الكهان ونحوهم " هذا الباب أتى بعد أبواب السحر " لأن حقيقة عمل الكاهن أنه يستخدم الجن لإخباره بالأمور المغيبة في الماضي ، أو الأمور المغيبة في المستقبل التي لا يعلمها إلا الله- جل جلاله- ، فالكاهن يجتمع مع الساحر في أن كلا منهما يستخدم الجن لغرضه ويستمتع بالجن لغرضه .(21/445)
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد : أن الكهانة استخدام للجن ، واستخدام الجن كفر وشرك أكبر بالله- جل وعلا- ؛ لأن استخدام الجن في مثل هذه الأشياء لا يكون إلا بأن يتقرب إلى الجن بشيء من العبادات ، فالكهان لا بد - لكي يُخدَموا بذكر الأمور المغيبة لهم- أن يتقربوا إلى الجني ببعض العبادات ، إما بالذبح ، أو الاستغاثة ، أو بالكفر بالله- جل وعلا- بإهانة المصحف ، أو بسب الله ، أو نحو ذلك من الأعمال الشركية الكفرية .
فالكهانة صنعة مضادة لأصل التوحيد ، والكاهن مشرك بالله- جل وعلا- ؛ لأنه يستخدم الجن ولا يمكن أن تخبره الجن بالمغيبات إلا إذا تقرب إليها بأنواع العبادات .
وكانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة وفي غيرها ، والكهان أناس يدعى فيهم الولاية والصلاح ، وأن عندهم علم ما مضى ، أو عندهم علم المغيبات التي ستحدث للناس ، أو تحدث في الأرض ؛ ولهذا كانت العرب تعظم الكهان وتخاف منهم ، وكانت العرب تعطي الكاهن أجرا عظيما لأجل ما يخبر عنه .(21/446)
والكاهن- كما ذكرنا- لا يصل إلى حقيقة عمله بأن يخبر عن الأمور المغيبة إلا باستخدام الجن ، والتقرب إليهم التقربات الشركية ، فتستمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة ، ويستمتع هو بالجني من جهة ما يخبره به من الأمور المغيبة .
والجن تصل إلى الأمور المغيبة التي تصدق فيها عن طريق استراق السمع ، فإن بعضهم يركب بعضا حتى يسمعوا الوحي الذي يوحيه الله- جل وعلا- في السماء ، فربما أدرك الشهابُ الجنيَّ قبل أن يلقي الكلمة لمن تحته ، وربما أدركه بعد أن يلقي الكلمة ، فتأتي هذه الكلمة للجن فيعطونها الكهان ، فيكذب معها الكاهن ، أو تكذب معها الجن مائة كذبة ، حتى يعظم شأن الكهان ، وحتى تعظم عبادة الإنس للجن .
وقبل بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- كان استراق السمع كثيرا جدا ، وبعد بعثته -عليه الصلاة والسلام- حرست السماء من أن تسترق الجن السمع ، لأجل تنزل القرآن والوحي ، حتى لا يقع الاشتباه في أصل الوحي والنبوة ، وبعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- رجع الاستراق ولكنه قليل بالنسبة لما كان عليه قبل البعثة ، فصارت عندنا أحوال استراق السمع ثلاثة .
1 - قبل البعثة : كثير جدا .(21/447)
2 - وبعد بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- : لم يحصل استراق من الجن ، وإن حصل فهو نادر في غير وحي الله- جل وعلا- بكتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم .
3 - بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- : رجع استراق السمع أيضا ، ولكنه ليس بالكثرة التي كانت قبل ذلك ؛ لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، والله- جل وعلا- بين ذلك في القرآن في آيات كثيرة من أن النجوم والشهب ترمي الجن كما قال- جل وعلا- : { إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ } [الحجر : 118] ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الشهب مرصدة للجن .
إذا ظهر ذلك فالكاهن قد يطلق عليه العراف ، والكاهن والعراف اسمان متداخلان ، فقد يطلق أحدهما على الآخر ، وعند بعض الناس يطلق الكاهن على من يخبر بما يحصل في المستقبل ، ويطلق العراف على من يخبر عن الغائب عن الأعين مما حصل في الماضي من مثل مكان المسروق ، أو السارق من هو؟ ونحو ذلك مما هو غائب عن الأنظار وإنما يعلمه العراف بواسطة الجن .(21/448)
والصحيح في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية : من أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلمون في معرفة الأمور بتلك الطرق . فكل من تكلم في معرفة الأمور المغيبة الماضية أو المستقبلة بتلك الطرق طريق التنجيم ، أو الخط في الرمل ، بطريق الطرق ، أو بالودع ، ونحو ذلك من الأساليب ، أو بالخشبة المكتوب عليها أباجاد ، ونحو ذلك من قراءة الفنجان ، أو قراءة الكف ، كل من يخبر عن الأمور المغيبة بشيء يجعله وسيلة لمعرفة الأمور المغيبة يسمى كاهنا ، ويسمى عرافا ، لأنه لا يحصل له أمره إلا بنوع من أنواع الكهانة ، وسيأتي ذلك- إن شاء الله- .
قوله : " باب ما جاء في الكهان ونحوهم " و (نحوهم) . يعني من العرافين ، والمنجمين ، والذين يخطون في الرمل ، والذين يكتبون على الخشب ، ونحو ذلك .
قوله : " روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال . « من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لا تقبل له صلاة أربعين يوما » .(21/449)
هكذا ذكر المؤلف -رحمه الله- حديث الباب بهذا اللفظ وعزاه لمسلم ، وقد نبه الشراح على أن لفظه في مسلم : « من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما » بدون لفظة" فصدقه " أما لفظة" فصدقه " فقد رواها الإمام أحمد في مسنده . وعلى هذا فالمؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر هذا اللفظ ، وعزاه لمسلم على طريقة أهل العلم في عزو الحديث لأحد صاحبي الصحيح إذا كان أصله فيهما لاتحاد الطريق أو نحو ذلك .
قوله : « من أتى عرافا فسأله عن شيء لا تقبل له صلاة أربعين يوما » هذا الحديث فيه جزاء الذي يأتي العراف ويسأله ، فمن أتى عرافا فسأله عن شيء- ولو لم يصدقه- فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما .
والمقصود من قوله : « لم تقبل له صلاة أربعين يوما » أنها تقع مجزئة لا يجب عليه قضاؤها ، ولكن لا ثواب له فيها ؛ لأن الذنب والإثم الذي اقترفه حين أتى العراف فسأله عن شيء ، يقابل ثواب الصلاة أربعين يوما ، فأسقط هذا هذا ، ويدل ذلك على عظم ذنب الذي يأتي العراف فيسأله عن شيء ولو لم يصدقه ، وهذا عند أهل العلم على حالتين :(21/450)
الحالة الأولى : من أتى العراف فسأله عن شيء رغبة في الاطلاع ، أما من أتى العراف فسأله للإنكار عليه وحتى يتحقق أنه عراف فلا يدخل في ذلك ؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد .
الحالة الثانية : أن يأتي العراف أو الكاهن فيسأله عن شيء ، فإذا أخبره الكاهن أو العراف صدقه بما يقول ، فالحديث الأول الذي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه . « لم تقبل له صلاة أربعين يوما » ، والحديث الثاني فيه أنه . « كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » فيتضح بالحديث أن الحالة الثانية- وهي من أتى العراف أو الكاهن فسأله عن شيء فصدقه- أنه يكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما .(21/451)
وهذه الحالة تدل على أن الذي أتى الكاهن أو العراف فصدقه ، أنه لم يخرج عن الملة ؛ لأنه حد -عليه الصلاة والسلام- عدم قبول صلاته بأربعين يوما ، والذي أتى الكاهن إذا حكم عليه بأنه كافر كفرا أكبر ومرتد وخارج من الملة فإن صلاته لا تقبل بتاتا حتى يرجع إلى الإسلام ، وقد قال طائفة من أهل العلم . دل قوله : « فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما » على أن قوله : « كفر بما أنزل على محمد » أنه كفر أصغر وليس بالكفر المخرج من الملة ، وهذا القول هو القول الأول ، وهو الصحيح ، وهو الذي يتعين جمعا بين النصوص ، فإن قول النبي -عليه الصلاة والسلام- . « من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما » يدل على أنه لم يخرج من الإسلام ، والحديث الآخر وهو قوله : « من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد » (1) . يدل على كفره ، فعلمنا بذلك أن كفره كفر أصغر ، وليس كفرا مخرجا من الملة ، هذا أحد الأقوال في مسألة كفر من أتى الكاهن فصدقه بما يقول .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 408-476 والبيهقي 8 / 135 والحاكم 1 / 8.(21/452)
والقول الثاني . أنه يتوقف فيه ، فلا يقال يكفر كفرا أكبر ، ولا يقال أصغر ، وإنما يقال : إتيان الكهان وتصديقهم كفر بالله- جل وعلا- ، ويسكت عن ذلك ، ويطلق القول كما جاء في الأحاديث ، وهذا لأجل التهديد والتخويف حتى لا يتجاسر الناس على هذا الأمر ، وهذا هو مذهب الإمام أحمد في المنصوص عنه .
والقول الثالث من أقوال أهل العلم : أن الذي يصدق الكاهن كافر كفرا أكبر مخرج من الملة وهذا القول فيه نظر من جهتين :
الجهة الأولى : ما ذكرنا من الدليل من أن قوله -عليه الصلاة والسلام- . « لم تقبل له صلاة أربعين يوما » يدل على أنه لم يكفر الكفر الأكبر ، ولو كان كفر الكفر الأكبر لم يحد عدم قبول صلاته بتلك المدة من الأيام .(21/453)
والجهة الثانية : أن تصديق الكاهن فيه شبهة ، وادعاء علم الغيب أو تصديق أحد ممن يدعي علم الغيب كفر بالله- جل وعلا- كفرا أكبر ، لكن هذا الكاهن الذي ادعى علم الغيب يخبر بالأمور المغيبة فيما صدق فيه عن طريق استراق الجن للسمع ، فيكون إذا هو نقل ذلك الخبر عن الجني ، والجن نقلوه عما سمعوه في السماء ، وهذه شبهة . فقد يأتي الآتي إلى الكاهن ويقول : أنا أصدقه فيما أخبر من الغيب ؛ لأنه قد جاءه علم ذلك الغيب من السماء عن طريق الجن ، وهذه الشبهة تمنع من تكفير من صدق الكاهن الكفر الأكبر .
فالقول الأظهر : أن كفره كفر أصغر وليس بأكبر ؛ لدلالة الأحاديث ؛ ولظهور التعليل في ذلك .
قوله . « فقد كفر بما أنزل على محمد » يعني القرآن ؛ لأنه قد جاء في القرآن وما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من السنة أن الكاهن ، والساحر ، والعراف لا يفلحون ، وأنهم يكذبون ولا يصدقون .
قوله : وعن عمران بن حصين مرفوعا : « ليس منا من تطير أو تطير له » يأتي في باب ما جاء في التطير .(21/454)
قوله : " ليس منا" يدل على أن الفعل محرم ، ويقول بعض أهل العلم . إن قوله -عليه الصلاة والسلام- . " ليس منا" يدل على أنه من الكبائر ، قوله : " أو تكهن " يعني ادعى علم الغيب وادعى أنه كاهن ، أو أخبر بأمور من المغيبة يخدع من رآه بأنه كاهن . قوله : " أو تكهن له " يعني : من رضي أن يتكهن له فأتى فسأل عن شيء . قوله : " أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " (1) .
وهذا كله لأجل أن تصديق الكاهن فيه إعانة له على الشرك الأكبر بالله- جل وعلا- ، هذا حكم الذي يأتي الكاهن .
أما الكاهن فذكرنا حكمه ، وهو أنه مشرك بالله الشرك الأكبر ؛ لأنه لا يمكن له أن يخبر بالأمور المغيبة إلا بأن يشرك .
قوله : " قال البغوي : العراف : الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ، ومكان الضالة ، ونحو ذلك .
هذا الذي ذكرنا من أن العراف عند بعض أهل العلم من يخبر بأمور سبقت لكنها خفية غيبية عن الناس ، لكنها من حيث الوجود وقعت في ملكوت الله .
قوله : " وقيل : هو الكاهن " يعني أن العراف والكاهن اسمان لشيء واحد .
_________
(1) أخرجه البزار في المسند (3044) .(21/455)
" والكاهن" : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل ، وقيل : الذي يخبر عما في الضمير ، وقال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- : العراف اسم للكاهن ، والمنجم ، والرمال ، ونحوهم " . المنجم : هو الذي يستخدم علم التنجيم والتأثير يقول : إذا ظهر نجم كذا والتقى بنجم كذا فمعناه أنه سيحدث كذا وكذا ، أو إذا ولد لفلان ولد في برج كذا فإنه سيحصل كذا وكذا له من الغنى ، والفقر ، أو السعادة ، أو الشقاوة ، ونحو ذلك ، فيستدلون بحركة النجوم على حال الأرض وحال الناس فيها وسيأتي تفصيله- إن شاء الله- .
" والرمال " : هو صاحب الطرق ، أو الذي يخط في الرمل ، أو يستخدم الحصى على الرمل .
" ونحوهم " : يعني من مثل الذين يقرؤون الكف ، ويقرؤون الفنجان ، أو في هذا العصر الذي يكتبون في الصحف والجرائد والمجلات البروج ، وما يحصل في ذلك البرج ، وأنت إذا ولدت في هذا البرج فمعناه أنه سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا ، هذه كلها من أنواع الكهانة كما سيأتي .
" وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم : ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق " (1) .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11 / 26 وابن أبي شيبة في المصنف 8 / 602 والبيهقي في السنن 8 / 139.(21/456)
وذلك لأن كتابة (أبا جاد) والنظر في النجوم- يعني للتأثير- نوع من أنواع الكهانة ، والكهانة محرمة وكفر بالله- جل وعلا- .(21/457)
واعلم أن أصناف الكهانة كثيرة جدا وجامعها الذي يجمعها : أنه يستخدم الكاهن وسيلة ظاهرة عنده ليقنع السائل بأنه وصل إليه العلم عن طريق أمور ظاهرة كالنجوم ، أو عن طريق الخط ، أو عن طريق الطرق ، أو عن طريق الفنجان ، أو عن طريق الكف ، أو عن طريق النظر في الحصى ، أو عن طريق الخشب ونحو ذلك ، هذه كلها وسائل يغر بها الكاهن من يأتيه ، وهي في الحقيقة وسائل لا تحصل ذاك العلم ، ولكن العلم جاءه عن طريق الجن وهذه الوسيلة إنما هي وسيلة لخداع الناس ، ولكي يظن الظان أنها تؤدي إلى العلم وأن هؤلاء أصحاب علم وفن بهذه الأمور ، وفي الواقع هو لا يتحصل على العلم الغيبي عن طريق خط ، أو عن طريق فنجان ، أو عن طريق النظر في البروج ، أو نحو ذلك ، وإنما يأتيه العلم عن طريق الجن ، وهو يظهر هذه الأشياء حتى يحصل على المقصود كي يصدق الناس أنه لا يستخدم الجن ، وأنه ولي من الأولياء ، وإلا فكيف يستنتج المغيبات من هذه الأمور الظاهرة؟! ويوجد في بعض البلاد : كغرب أفريقيا وبعض شمالها وفي الشرق من يتعاطى هذه الأشياء ، ويزعم أنه من الأولياء ، ويقول : إن الملائكة تخبره بكذا ، فهو لا يفعل الفعل إلا بإرشاد من الملائكة ، فالذي يفعل(21/458)
هذه الأفعال من الأمور السحرية أو الكهانة يعتبر في تلك البلاد من الأولياء ؛ ولهذا ترى بعض الشراح يذكر في مقدمة هذه الأبواب أن أولياء الله تعالى لا يتعاطون الشرك ، ولا يتعاطون مثل هذه الأمور ، فأولياء الله مقيدون بالشرع ، وليسوا من أولياء الجن .(21/459)
" باب ما جاء في النشرة "
وعن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال : " هي من عمل الشيطان » رواه أحمد بسند جيد ، وأبو داود (1) وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله .
وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب : رجل به طب ، أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه . انتهى ، وروي عن الحسن أنه قال : لا يحل السحر إلا ساحر . قال ابن القيم : النشرة : حل السحر عن المسحور وهي نوعان : حل سحر بمثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يحمل قول الحسن فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب ، فيبطل عمله عن المسحور . والثاني : النشرة بالرقية ، والتعوذات ، والأدوية ، والدعوات المباحة، فهذا جائز .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن النشرة .
الثانية : الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه ، مما يزيل الإشكال .
الشرح :
" باب ما جاء في النشرة " النشرة متعلقة بالسحر ، وأصلها من النشر وهو : قيام المريض صحيحا ، وهي : اسم لعلاج المسحور سميت نشرة ؛ لأنه ينتشر بها أي يقوم ويرجع إلى حالته المعتادة .
_________
(1) أخرجه أحمد 3 / 294 وأبو راود (3868) وحسنه الحافظ في « الفتح » 1 / 233 .(21/460)
وقول المؤلف -رحمه الله- هنا " باب ما جاء في النشرة " ، يعني : من التفصيل ، وهل النشرة جميعا- وهي حل السحر- مذمومة؟ أو أن منها ما هو مذموم ، ومنها ما هو مأذون به؟؟ .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : وهي أنه كما أن السحر شرك بالله- جل وعلا- يقدح في أصل التوحيد ، وأن الساحر مشرك الشرك الأكبر بالله ، فالنشرة التي هي حل السحر قد تكون من ساحر ، وقد تكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها ، أو الأدعية ونحو ذلك ، فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد ، ومنافية لأصله ، فالمناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر ، وكذلك مناسبتها لكتاب التوحيد ؛ لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يشركون بالله- جل وعلا- . والنشرة قسمان : نشرة جائزة ، ونشرة ممنوعة .(21/461)
فالنشرة الجائزة : هي ما كانت بالقرآن ، أو بالأدعية المعروفة ، أو بالأدوية عند الأطباء ، ونحو ذلك ، فإن السحر يكون عن طريق الجن ، - كما تقدم- ويحصل منه- حقيقة- إمراض في البدن ، وتغيير في العقل والفهم ، وإذا كان الأمر كذلك ، فإنه تعالج بالمضادات التي تزيل ذلك السحر ، فمما يزيله : القرآن الكريم ، والقرآن الكريم هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر ، وكذلك الأدعية ، والأوراد ، ونحو ذلك ، مما هو معروف من الرقى الشرعية .
ونوع من السحر يكون في البدن ، أي : من جهة عضوية ، فهذا أحيانا يعالج بالرقى والأدعية والقرآن ، وأحيانا يعالج عن طريق الأطباء العضويين ، وذلك لأن السحر- كما سبق- يمرض حقيقة ، فإذا أزيل المرض أو سبب المرض فإنه يبطل السحر ؛ ولهذا قال ابن القيم في آخر الكلام : " والثاني : النشرة بالرقية ، والتعوذات ، والأدوية ، والدعوات المباحة فهذا جائز " ؛ لأنه يحصل منه المرض ، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يعالج بما أذن به شرعا من الرقى والأدوية المباحة .(21/462)
والقسم الثاني من النشرة : وهي التي من أنواع الشرك : أن ينشر عنه بغير الطريق الأول بطريق السحر ، فيحل السحر الأول بسحر آخر ، وذكرنا أن السحر لا ينعقد أصلا إلا بأن يتقرب الساحر للجني ، أو أن يكون الجني يخدم الساحر الذي يشرك بالله دائما .
كذلك حل السحر لا بد فيه من إزالة سببه وهو خدمة شياطين الجن للساحر . وهذا لا يمكن إلا للجن ، فإن الساحر الثاني الذي ينشر السحر ويرفع السحر لا بد أن يستغيث أو أن يتوجه إلى بعض جنه في أن يرفع أولئك الجن الذين عقدوا هذا السحر أن يرفعوا أثره فعلى هذا لا يكون السحر من حيث العقد والابتداء إلا بالشرك بالله ، ومن حيث الرفع والنشر لا يكون إلا بالشرك بالله- جل وعلا- ؛ ولهذا قال الحسن : " لا يحل السحر إلا ساحر " (1) ، يعني : لا يحل السحر بغير الطريق الشرعية المعروفة إلا ساحر ، فإذا جاء أحد وقال : أنا أحل السحر ، قيل له : تستخدم القراءة والتلاوة والأدعية؟ فإذا قال :
_________
(1) أخرجه ابن جرير في (التهذيب) كما في (فتح الباري) 10 / 233 .(21/463)
لا . قيل : هل أنت طبيب تطب ذلك المسحور؟ فإن قال : لا . فهو إذا ساحر ؛ لأنه إذا لم يستخدم الطريقة الثانية فإنه لا يمكن أن يحل السحر إلا ساحر ؛ لأنه فك أثر الجن في ذلك السحر ، ولا يمكن إلا عن طريق شياطين الجن الذين يؤثرون في ذاك .
" عن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال : " هي من عمل الشيطان » (1) هذا سؤال عما كان معهودا معروفا عندهم في هذا الاسم وهو اسم النشرة ، والذي كان معروفا معهودا هو أن النشرة إنما هي من جهة الساحر ، لأنها- عند العرب- حل السحر بمثله ؛ لهذا « لما سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن النشرة قال . " هي من عمل الشيطان » قال العلماء : (ال) أو لام التعريف في قوله " النشرة " هذه للعهد ، يعني : النشرة المعهود استعمالها ، وهي حل السحر بمثله ، فقال -عليه الصلاة والسلام- . « هي من عمل الشيطان » ؛ لأن رفع السحر لا يكون إلا بعمل شيطان جني ؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- : " هي " يعني : الرفع والنشر " من عمل الشيطان" لأن العقد أصلا من عمل الشيطان ، والرفع والنشر من عمل الشيطان ، فإذا هو سؤال عن النشرة التي كانت تستخدم في الجاهلية .
_________
(1) أحمد في المسند 3 / 294 وأبو داود (3868) والبيهقي في السنن 9 / 301 .(21/464)
" رواه أحمد بسند جيد ، وأبو داود ، وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله " (1) وقوله : " يكره هذا كله " يعني : أن تكون النشرة عن طريق التمائم التي فيها القرآن ؛ لأنه مر بنا أن ابن مسعود كان يكره جميع أنواع التمائم حتى من القرآن ، كما قال إبراهيم النخعي -رحمه الله- . كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن . يعني : أصحاب ابن مسعود ، فابن مسعود كان يكره التمائم من القرآن ، وهو أن يعلق شيئا من القرآن لأي غرض ، لدفع العين ، أو لإزالة السحر ، ورفع الضرر ؛ لهذا قال الإمام أحمد لما سئل عن النشرة التي تكون بالتمائم من القرآن ، قال : ابن مسعود يكره هذا كله .
أما النشرة باستخدام النفث ، والرقية من غير تعليق ، فلا يمكن للإمام أحمد ولا لابن مسعود أن يكرها ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم ذلك ، وأذن به عملا في نفسه ، وكذلك في غيره -عليه الصلاة والسلام- .
_________
(1) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 77 .(21/465)
" وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب : رجل به طب ، أو يؤخذ عن امرأته ، أيحل عنه أو ينشر؟ قال : لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه " (1) : يريد ابن المسيب بذلك ما ينفع من النشرة بالتعوذات ، والأدعية ، والقرآن ، والدواء المباح ، ونحو ذلك ، أما النشرة التي هي بالسحر ، فابن المسيب أرفع من أن يقول إنها جائزة ، ولم ينه عنها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « هي من عمل الشيطان » ؛ لهذا قال " لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح ، فأما ما ينفع فلم ينه عنه " يعني : من الأدوية المباحة ، ومن الرقى ، والتعوذات الشرعية ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك ، فهذا لم ينه عنه ، بل أذن فيه .
" وروي عن الحسن أنه قال : لا يحل السحر إلا ساحر " (2) وهذا بينا معناه .
" قال ابن القيم : النشرة : حل السحر عن المسحور وهي نوعان : حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يحمل قول الحسن ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب " . كما ذكرنا لكم سلفا .
" فيبطل عمله عن المسحور " ، وهذه حقيقة النشرة الشركية .
_________
(1) رواه البخاري 10 / 323 .
(2) تقدم .(21/466)
إذا تبين ذلك ، فإنما حكم حل السحر بمثله أنه لا يجوز ومحرم ، بل هو شرك بالله- جل وعلا- ؛ لأنه لا يحل السحر إلا ساحر . وبعض العلماء من أتباع المذاهب يرى جواز حل السحر بمثله إذا كان للضرورة ، كما قال فقهاء مذهب الإمام أحمد في بعض كتبهم : ويجوز حل سحر بمثله ضرورة ، وهذا القول ليس بصواب ، بل هو غلط ؛ لأن الضرورة لا تكون جائزة ببذل الدين والتوحيد عوضا عنها ، ومعروف أن الضروريات الخمس التي جاءت بها الشرائع أولها : حفظ الدين ، وغيره أنى منه مرتبة- ولا شك- ، فلا يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى ، وضرورة الحفاظ على النفس وإن كانت من الضروريات الخمس ، لكنها دون حفظ الدين مرتبة ؛ ولهذا لا يقدم ما هو أدنى على ما هو أعلى ، أو أن يبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى من الضروريات الخمس ، والأنفس لا يجوز حفظها بالشرك ، ولأن يموت المرء وهو على التوحيد خير له من أن يعافى وقد أشرك بالله- جل وعلا- ، لأن السحر لا يكون إلا بشرك ، والذي يأتي الساحر ويطلب منه حل السحر ، فقد رضي قوله وعمله ، ورضي أن يعمل به ذاك ، ورضي أن يشرك ذاك بالله لأجل منفعته ، وهذا غير جائز .(21/467)
فتحصل من هذا أن السحر- نشرا ووقوعا- لا يكون إلا بالشرك الأكبر بالله - جل وعلا- ، وعليه فلا يجوز أن يحل لا من جهة الضرورة ، ولا من جهة غير الضرورة من باب أولى بسحر مثله ، بل يحل وينشر بالرقى الشرعية .(21/468)
" باب ما جاء في التطير "
وقول الله تعالى : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 131] .
وقوله : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } . [يس : 19] .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا عدوى ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا صفر » أخرجاه (1) ، وزاد مسلم : « ولا نوء ، ولا غول » (2) ولهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا عدوى ، ولا طيرة ويعجبني الفأل " قالوا : وما الفأل؟ قال : "الكلمة الطيبة » (3) ، ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : « ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلما ، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك » (4) .
_________
(1) أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220) .
(2) أخرجه مسلم (2222) .
(3) أخرجه البخاري (5776) ومسلم (2224) .
(4) أخرجه أبو داود (3719) وصححه النووي .(21/469)
وله من حديث ابن مسعود مرفوعا : « الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » رواه أبو داود ، والترمذي ، وصححه (1) وجعل آخره من قول ابن مسعود . ولأحمد من حديث ابن عمرو : « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " قالوا : وما كفارة ذلك؟ قال : "أن تقولوا : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك » (2) وله من حديث الفضل بن العباس : « إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك » (3) .
فيه مسائل :
الأولى : التنبيه على قوله : (ألا إنما طائرهم عند الله) مع قوله : (طائركم معكم) .
الثانية : نفي العدوى .
الثالثة : نفي الطيرة .
الرابعة : نفي الهامة .
الخامسة : نفي الصفر .
السادسة : أن الفأل ليس من ذلك ، بل مستحب .
السابعة : تفسير الفأل .
الثامنة : أن الواقع في القلوب من ذلك- مع كراهته- لا يضر ، بل يذهبه الله بالتوكل .
التاسعة : ذكر ما يقول من وجده .
العاشرة : التصريح بأن الطيرة شرك .
الحادية عشرة : تفسير الطيرة المذمومة .
الشرح :
_________
(1) أخرجه أبو داود (3910) والترمذي (1614) .
(2) أخرجه أحمد 2 / 220 .
(3) أخرجه أحمد (2131) .(21/470)
هذا " باب ما جاء في التطير " سبق بيان أن الطيرة من أنواع السحر ، ولهذا جاء المؤلف -رحمه الله- بهذا الباب بعد الأبواب المتعلقة بالسحر ؛ لأنها من أنواعه بنص الحديث .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن التطير نوع من الشرك بالله- جل وعلا- بشرطه ، والشرك الذي يكون من جهة التطير مناف لكمال التوحيد الواجب ؛ لأنه شرك أصغر .(21/471)
وحقيقة التطير : أنه التشاؤم أو التفاؤل بحركة الطير من السوانح والبوارح ، أو النطيح والقعيد ، أو بغير الطير مما يحدث . فكانوا في الجاهلية إذا أراد أحد أن يذهب إلى مكان ، أو يمضي في سفر ، أو أن يعقد له خيارا ، استدل بما يحدث له من أنواع حركات الطيور ، أو بما يحدث له من الحوادث على أن هذا السفر سفر سعيد فيمضي فيه ، أو أنه سفر سيئ وعليه فيه وبال فيرجع عنه . وعلى هذا فضابط الطيرة الشركية التي من قامت في قلبه وحصل له شرطها وضابطها فهو مشرك الشرك الأصغر ، هو ما جاء في آخر الباب من قوله عليه الصلاة والسلام : « إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك » ، (1) فالطيرة شرك ، وهي التي تقع في القلب ، ويبني عليها المرء مضاء في الفعل ، أو نكوصا عنه . فإذا خرج مثلا من بيته وهو ينوي سفرا ، أو رحلة ، أو ينوي القيام بصفقة تجارة ، أو نحو ذلك ، فحصل أمامه حادث ، فهذا الحادث الذي حصل أمامه من تصادم سيارة ، أو اعتداء من واحد على آخر ، أو نحو ذلك ، إن أوقع في قلبه شؤما ، واستدل بهذا الحادث على أنه سيفشل في سفره أو في تجارته أو أنه سيصيبه مكروه في سفره ، ورجع ولم يمض فقد حصل له التطير الشركي ، أما إذا حصل ذلك في قلبه وحصل له
_________
(1) أخرجه أحمد 1 / 213 .(21/472)
نوع تشاؤم ، ولكنه مضى وتوكل على الله ، فهذا لا يكاد يسلم منه أحد ، كما جاء في حديث ابن مسعود « وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل » (1) كما سيأتي .
فهذه حقيقة التطير الشركي وضابطه ، وتبين أن التطير عام ليس خاصا بالطير وحركاتها ، وقد تقدم في " باب ما جاء في شيء من أنواع السحر " أن العيافة متعلقة بالطير كما فسرها عوف الأعرابي بقوله : العيافة زجر الطير ، فهي متعلقة بالطير من حيث إنه يحرك الطير ويزجره حتى ينظر أين يتحرك ، وأما الطيرة فهي أن يتشاءم أو يتفاءل ويمضي أو يرجع بحركة تحصل أمامه ولو لم يزجر أو يفعل ، أو بشيء يحصل أمامه ، إما من الطير أو من غيره .
قوله " باب ما جاء في التطير" ، يعني : من أنه شرك بالله- جل وعلا- إذا أمضى أو رجع ، وكفارة التطير إذا وقع في القلب ، ونحو ذلك من الأحكام .
_________
(1) أخرجه أحمد 1 / 389 ، 438 ، 440 وأبو داود (3910) والترمذي (1614) .(21/473)
" وقول الله تعالى : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 131] . هذا مقطع من آية في سورة الأعراف أولها : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } يعني إذا أتاهم خصب وسعة وزيادة في الأرزاق { قَالُوا لَنَا هَذِهِ } يعني : نحن المستحقون لها { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يعني : أصابهم جدب ، أو نقص في الأرزاق ، أو بلاء ، قالوا : هذا بسبب شؤم موسى ومن معه ، فهم الذين بسببهم وبسبب أقوالهم وأعمالهم حصل لنا هذا السوء وهذه الويلات ، فتطيروا بهم ، يعني : جعلوهم سببا لما حصل لهم ، قال- جل وعلا- : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } طائرهم ، يعني : ما يطير عنهم من عمل صالح أو طالح ، وأنهم يستحقون الحسنات أو يستحقون السيئات ، كل هذا عند الله- جل وعلا- ، أو أن معنى قوله { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } يعني : أن سبب ما يأتيهم من الحسنات أو ما يأتيهم من(21/474)
السيئات ، أن ذلك من جهة القضاء والقدر ، فهو عند الله- جل وعلا- .
ومناسبة هذه الآية لهذا الباب : أن هذا التطير من صفات أعداء الرسل ، ومن خصال المشركين ، وإذا كان كذلك فهو مذموم ، ومن خصال المشركين الشركية ، وليست من خصال أتباع الرسل ، وأما أتباع الرسل فإنهم يعلقون ذلك بما عند الله من القضاء والقدر ، أو بما جعله الله -جل وعلا- لهم من ثواب أعمالهم أو العقاب على أعمالهم كما قال تعالى : { أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } .(21/475)
قوله تعالى : { قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } الآية ، وهي من سورة يس ، والذين تطيروا بأولئك هم المشركون أصحاب تلك القرية حيث قالوا : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال أتباع الرسل : { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ } يعني : سبب وقوع السيئات عليكم ، أو سبب قدوم الحسنات عليكم هو من عند أنفسكم ، فالسوء الذي سينالكم والعقاب الذي سينزل بكم ملازم لكم ملازمة ما تتطيرون به من عمل سوء ، ومن معاداة للرسل ، وتكذيب للرسل ، هذا ملازم لكم وستتطيرون به { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } لأنه من جهة أنهم فعلوا السيئات وكذبوا الرسل وهذا سيقع عليهم وباله .
ومناسبة هذه الآية للباب كمناسبة الآية قبلها من أن هذه هي قالة المشركين ، وأعداء الرسل .
" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا عدوى ، ولا طيرة ، ولا هامة ، ولا صفر » أخرجاه (1) زاد مسلم : « ولا نوء ، ولا غول » (2) .
_________
(1) أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220) .
(2) من رواية جابر (2222) .(21/476)
موطن الشاهد قوله : « ولا طيرة » . ومن المعلوم أن المنفي هنا ليس هو وجود الطيرة ؛ لأن الطيرة موجودة من جهة اعتقاد الناس ، ومن جهة استعمالها ، وكذلك العدوى موجودة من جهة الوقوع ؛ ولهذا قال العلماء : النفي هنا راجع إلى ما تعتقده العرب ويعتقده أهل الجاهلية ؛ لأن ( لا)- هنا- نافية للجنس واسمها مذكور ، وخبرها محذوف ، لأجل العلم به ، فإن الجاهليين يؤمنون بوجود هذه الأشياء ، ويؤمنون أيضا بتأثيرها ، فالمنفي ليس هو وجودها وإنما هو تأثيرها فيكون التقدير هنا : لا عدوى مؤثرة بطبعها ونفسها وإنما تنتقل العدوى بإذن الله- جل وعلا- ، وكان أهل الجاهلية يعتقدون أن العدوى تنتقل بنفسها ، فأبطل الله ذلك الاعتقاد- فقال -عليه الصلاة والسلام- . " لا عدوى " يعني : مؤثرة بنفسها .
" ولا طيرة " أي : مؤثرة أيضا ، فإن الطيرة شيء وهمي يكون في القلب ، لا أثر له في قضاء الله وقدره ، فحركة السانح ، أو البارح ، أو النطيح ، أو القعيد ، لا أثر لها في حكم الله وفي ملكوته ، وفي قضائه وقدره ، فخبر (لا) النافية للجنس تقديره (مؤثرة) أي : لا طيرة مؤثر ، بل الطيرة شيء وهمي .
وكذلك قوله : « ولا هامة ولا صفر » . . إلخ الحديث .(21/477)
وقد سبق بيان أن خبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا في لغة العرب إذا كان معلوما ، كما قال ابن مالك في آخر باب (لا) النافية للجنس في الألفية :
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد مع سقوطه ظهر
" ولهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا عدوى » . يعني لا عدوى مؤثرة بنفسها ، بل بإذن الله - جل وعلا- .
" ولا طيرة " : مؤثرة أصلا ، وإنما ذلك راجع إلى قضاء الله وقدره .
قوله : « ويعجبني الفأل " قالوا : وما الفأل؟ قال : " الكلمة الطيبة » (1) : كان -عليه الصلاة والسلام- يحب الفأل وفسره بأنه الكلمة الطيبة ؛ لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها ، وأنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات ، يكون من باب حسن الظن بالله- جل وعلا- ، فالفأل حسن ظن بالله ، والتشاؤم سوء ظن بالله- جل وعلا- ؛ ولهذا كان الفأل ممدوحا ومحمودا ، والشؤم مذموما .
ومعلوم أن العبد مأمور بأن يحسن الظن بالرب- جل وعلا- ولهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يتفاءل ، وكل ذلك من تعظيم الله - جل وعلا- وحسن الظن به وتعلق القلب به ، وأنه لا يفعل للعبد إلا ما هو أصلح له .
_________
(1) أخرجه البخاري في (5776) ومسلم (2224) .(21/478)
" ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال : « ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل » . الطيرة : يعني التأثر بالكلمة ؛ لأننا ذكرنا أن الطيرة عامة تشمل الأقوال والأعمال التي تحصل أمام العبد ، فإذا كان ثم تطير فإن أحسنه الفأل ، يعني : أن يقع في قلبه أنه سيحصل له كذا وكذا من جراء كلمة سمعها ، أو من جراء فعل حصل له . وأحسن ذلك الفأل وغيره مذموم ، وإنما كان الفأل محمودا وممدوحا ومأذونا به ؛ لما ذكرنا من أنه إذا تطير متفائلا فإنه محسن الظن بالله- جل وعلا- لأن التفاؤل يشرح الصدر ، ويؤنس العبد ، ويذهب الضيق الذي يوحيه الشيطان ويسببه في قلب العبد ، والشيطان يأتي للعبد فيجعله يتوهم أشياء تضره وتحزنه فإذا فتح العبد على قلبه باب التفاؤل أبعد عن قلبه باب تأثير الشيطان في النفس .(21/479)
قوله : « ولا ترد مسلما » هذا خبر في معنى النهي ، وقد بينا أن النهي قد يعدل عنه للخبر ، كما أن الأمر قد يعدل عنه إلى الخبر لتأكيد النهي ولتأكيد الأمر ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ } [النحل : 49] فهذا خبر مثبت لكنه كالأمر المؤكد ، وقوله : " لا ترد مسلما " هذا خبر منفي لكن فيه النهي أن ترد الطيرة مسلما عن حاجته ، فإذا ردته عن حاجته ، فقد حصل له الشرك بالتطير .
قوله : « فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ، ولا حول ولا قوة إلا بك » (1) : هذا دعاء عظيم في دفع ما يأتي للقلب من أنواع التشاؤم وأنواع الطيرة .
" وعن ابن مسعود مرفوعا : « الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، الطيرة شرك » (2) . يعني : أنها شرك أصغر بالله- جل وعلا- .
وقوله : « وما منا إلا » يعني : إلا وقد يقع في قلبه بعض التطير ؛ لأن هذا من الشيطان ، والشيطان يأتي القلوب فيغريها بما يفسدها " وما منا إلا " يعني : ويعرض له ذلك .
_________
(1) رواه أبو داود (3719) .
(2) تقدم .(21/480)
قوله : « ولكن الله يذهبه بالتوكل » لأن حسنة التوكل وإتيان العبد بواجب التوكل يذهب عنه كيد الشيطان بالتطير ، فالواجب على العبد إذا عرض له شيء من التشاؤم ألا يرجع عما أراد عمله ، بل يعظم التوكل على الله- جل وعلا- ؛ لأن هذه الأشياء التي تحصل لا تدل على الأمور المغيبة ؛ لأنها أمور طرأت ووقعت هكذا أمام العبد ، وليس لها أثر فيما يحصل مستقبلا .
ولأحمد من حديث ابن عمرو : « من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك » هذا هو ضابط الطيرة التي تكون شركا ، وهو أن ترد المتطير عن حاجته ، فإذا لم ترده عن حاجته ، ولم يستجب لها ، فلا حرج عليه وبذلك إلا أن عظمت في قلبه ، فربما دخلت في أنوع محرمات القلوب ، الذي يذهب ذلك كله هو التوكل على الله ، وتعظيم الرغب فيما عنده وحسن الظن بالله - جل وعلا- .
« قالوا : فما كفارة ذلك؟ قال : "أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك » (1) " : لا طير إلا طيرك يعني : لن يحصل إلا قضاؤك الذي قضيته ، أو لن يحصل ويقضى إلا ما قدرته على العبد . فعلم المغيبات إنما هو عند الله- جل وعلا- .
_________
(1) أخرجه أحمد 2 / 220 .(21/481)
" باب ما جاء في التنجيم "
قال البخاري في صحيحه : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به (1) . انتهى . وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص ابن عيينة فيه ، ذكره حرب عنهما . ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر » . رواه أحمد وابن حبان في صحيحه (2) .
فيه مسائل :
الأولى : الحكمة في خلق النجوم .
الثانية : الرد على من زعم غير ذلك .
الثالثة : ذكر الخلاف في تعلم المنازل .
الرابعة : الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل .
الشرح :
" باب ما جاء في التنجيم " . يعني في حكم التنجيم ، وأنه منقسم إلى جائز ومحرم ، والمحرم منه نوع من أنواع السحر ، وهو كفر وشرك بالله- جل وعلا- ، فادعاء معرفة المغيبات عن طريق النجوم ، هو التنجيم المذموم المحرم الذي هو من أنواع الكهانة والسحر .
والتنجيم الذي يتعاطاه الناس ثلاثة أنواع :
_________
(1) أخرجه البخاري 6 / 295 معلقا ، ووصله ابن جرير في « التفسير 1 / 91 .
(2) أخرجه أحمد 4 / 399 وابن حبان 7 / 366 .(21/482)
الأول : التنجيم الذي هو اعتقاد أن النجوم فاعلة مؤثرة بنفسها ، وأن الحوادث الأرضية منفعلة ناتجة عن النجوم وعن إرادات النجوم ، وهذا تأليه للنجوم ، وهو الذي كان يصنعه الصابئة ويجعلون لكل نجم وكوكب صورة وتمثالا ، تحل فيها أرواح الشياطين ، فتأمر أولئك بعبادة تلك الأصنام والأوثان ، وهذا بالإجماع كفر أكبر وشرك كشرك قوم إبراهيم.
والنوع الثاني من التنجيم : هو ما يسمى علم التأثير ، وهو الاستدلال بحركة النجوم والتقائها وافتراقها ، وطلوعها وغروبها ، على ما سيحصل في الأرض ، فيجعلون حركة النجوم دالة على ما سيقع مستقبلا في الأرض ، والذي يفعل هذه الأشياء ويستدل بها يقال له : المنجم ، وهو من أنواع الكهان ؛ لأنه يخبر بالأمور المغيبة عن طريق الاستدلال بحركات الأفلاك وتحرك النجوم ، وهذا النوع محرم وكبيرة من الكبائر ، وهو نوع من الكهانة وكفر بالله- جل وعلا- ؛ لأن النجوم ما خلقت لذلك وهؤلاء تأتيهم الشياطين ، فتوحي إليهم بما يريدون وبما سيحصل في المستقبل ويجعلون حركة النجوم دليلا على ذلك .
وقد أبطل قول المنجمين في أشياء كثيرة من الواقع ونحو ذلك كما في فتح عمورية في قصيدة أبي تمام المشهورة :(21/483)
السيف أصدق أنباء من الكتب ...
. . . . وغيرها .(21/484)
النوع الثالث مما يدخل في اسم التنجيم : ما يسمى بعلم التسيير ، وهو أن يتعلم منازل النجوم وحركاتها ، لأجل أن يعلم القبلة ، والأوقات ، وما يصلح من الأوقات للزرع وما لا يصلح ، والاستدلال بذلك على وقت هبوب الرياح ، وعلى الوقت الذي جرت سنة الله ألا ينزل فيه من المطر كذا ، ونحو ذلك . فهذا يسمى علم التسيير ، وقد رخص فيه بعض العلماء ، وسبب الترخيص فيه : أنه يجعل النجوم وحركتها والتقاءها وافتراقها ، وطلوعها أو غروبها ، يجعل ذلك وقتا وزمنا ، لا يجعله سببا ، فيجعل هذه النجوم علامة على زمن يصلح فيه كذا وكذا ، والله -جل وعلا- جعل النجوم علامات كما قال تعالى : { وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } فهي علامة على أمور كثيرة ، كأن يعلم- مثلا- أنه بطلوع النجم الفلاني يدخل وقت الشتاء ، فدخول الوقت ليس بسبب طلوع النجم ، ولكن حين طلع استدللنا بطلوعه على دخول الوقت ، وإلا فهو ليس بسبب لحصول البرد ، وليس بسبب لحصول الحر ، وليس بسبب للمطر ، وليس بسبب لمناسبة غرس النخل أو زرع المزروعات ونحو ذلك ، ولكنه وقت ، فإذا كان على ذلك فلا بأس به قولا أو تعلما ؛ لأنه يجعل النجوم وظهورها وغروبها أزمنة وذلك مأذون(21/485)
به .
" قال البخاري في صحيحه : قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث : زينة للسماء " . كما قال- جل وعلا- { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا } [ فصلت : 12] .
" ورجوما للشياطين " . والآيات على ذلك كثيرة .
" وعلامات يهتدى بها " كما قال- جل وعلا- : { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [ النمل : 63] وقال -جل وعلا- : { وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16] ونحو ذلك من الآيات ، فهي علامات يهتدى بها ، إلى معرفة الجهات . كجهة القبلة ، وجهة الشمال ، وجهة الغرب ، وجهة الشرق ، ويهتدى بها أيضا إلى معرفة أماكن البلاد والقرى حيث يعرف أن البلدة الفلانية باتجاه النجم الفلاني ، فإذا أراد السائر ليلا في البر أو في البحر أن يتجه إلى بلد معين ، استدل واهتدى بالنجوم إليه ، ونحو ذلك مما أجرى الله سنته به .(21/486)
قوله : " فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به " (1) وهذا صحيح ؛ لأن النجوم خلق من خلق الله ولا نفهم سرها إلا بما أخبر الله- جل وعلا- به ، فما أخبرنا به أخذناه ، وما لم نخبر به فلا يجوز أن نتكلف فيه ؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام- . « إذا ذكر القدر فأمسكوا ، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا » (2) والمراد هنا بذكر النجوم ، يعني : في غير ما جاء به الدليل ، إذا ذكر القدر في غير ما جاءت به الأدلة فأمسكوا ، وإذا ذكر أصحابي في غير ما جاء به من فضلهم وحسن صحبتهم وسابقتهم ونحو ذلك من الدليل فأمسكوا ، وكذلك إذا ذكرت النجوم وما فيها بغير ما جاء فيه الدليل فأمسكوا ؛ لأن ذلك ذريعة لأمور محرمة .
قوله : " وكره قتادة تعلم منازل القمر ، ولم يرخص ابن عيينة فيه ، ذكره حرب عنهما . ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق "
_________
(1) أخرجه البخاري 6 / 295 .
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (1427- 10448) .(21/487)
جعل الله -عز وجل- القمر منازل كما قال : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يس : 39] فله ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل يوم منزلة منها ، فما حكم تعلم هذه المنازل؟ فيها قولان لأهل العلم : فقد كرهه بعضهم ، ورخص فيه طائفة وهو الصحيح ؛ لأنه -جل وعلا- امتن على عباده بذلك فقال { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [يونس : 5] وظاهر الآية أن حصول المنة به في تعلمه ، وذلك دليل الجواز .
" وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر » (1) ووجه الاستدلال من هذا الحديث قوله : « ومصدق بالسحر » ، وقد تقدم أن من التنجيم ما هو من أنواع السحر ، كما قال -عليه الصلاة والسلام- . « من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد » (2) وإذا صدق بالنجوم ، فإنه مصدق بالسحر ، والمصدق بالسحر لا يدخل الجنة .
قال هنا . « ثلاثة لا يدخلون الجنة . مدمن الخمر » وإدمان الخمر من الكبائر .
« وقاطع الرحم » : وهي من الكبائر .
« ومصدق بالسحر » : وهو أيضا من الكبائر .
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 399 وابن حبان 7 / 366 .
(2) تقدم .(21/488)
ومما يدخل في التنجيم في هذا العصر بوضوح -مع غفلة الناس عنه- ما يكثر في المجلات مما يسمونه البروج ، فيخصصون صفحة أو أقل منها في الجرائد ، ويجعلون عليها رسم بروج السنة برج الأسد ، والعقرب ، والثور ، إلى آخره ، ويجعلون أمام كل برج ما سيحصل فيه ، فإذا كان الرجل أو المرأة مولودا في ذلك البرج يقول : سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا وكذا ، وهذا هو التنجيم الذي هو التأثير ، والاستدلال بالنجوم والبروج على التأثير في الأرض وعلى ما سيحصل في الأرض ، وهو نوع من الكهانة ، ووجوده في المجلات والجرائد على ذلك النحو وجود للكهانة فيها ، فهذا يجب إنكاره إنكارا للشركيات ولدِّعَاء معرفة الغيب وللسحر وللتنجيم ؛ لأن التنجيم من السحر كما ذكرنا ، ويجب إنكاره على كل صعيد ، ويجب أيضا على كل مسلم أن لا يدخله بيته ، وأن لا يقرأه ، ولا يطلع عليه ؛ لأن الاطلاع على تلك البروج وما فيها- ولو لمجرد المعرفة- يدخل في النهي من جهة أنه أتى الكاهن غير منكر عليه .(21/489)
وإذا قرأ هذه الصفحة وهو يعلم برجه الذي ولد فيه ، أو يعلم البرج الذي يناسبه ، وقرأ ما فيه ، فكأنه سأل كاهنا ، فلا تقبل له صلاة أربعين يوما ، فإن صدق بما في تلك البروج فقد كفر بما أنزل على محمد ، وهذا يدلك على غربة التوحيد بين أهله ، وغربة فهم حقيقة هذا الكتاب- كتاب التوحيد- حتى عند أهل الفطرة وأهل هذه الدعوة ، فإنه يجب إنكار ذلك على كل صعيد وأن لا يؤثم المرء نفسه ، ولا من في بيته بإدخال شيء من الجرائد التي فيها ذلك في البيوت ؛ لأن هذا معناه إدخال للكهنة إلى البيوت ، وهذا- والعياذ بالله- من الكبائر ، فواجب إنكار ذلك وتمزيقه والسعي فيه بكل سبيل حتى يدحر أولئك ؛ لأن أهل التنجيم وأهل البروج هم من الكهنة ، والتنجيم له معاهد معمورة في لبنان وفي غيرها ، يتعلم فيها الناس حركة النجوم ، وما سيحصل بحسابات معروفة ، وجداول معينة ، ويخبرون بأنه من كان من أهل البرج الفلاني فإنه سيحصل له كذا وكذا ، عن طريق تعلم وهمي يغرهم به رؤوسهم وكهانهم ، فالواجب على طلبة العلم أن يسعوا في تبصير الناس بحقيقة ذلك في كلماتهم ، وبعد الصلوات ، وفي خطب الجمعة ؛ لأن هذا مما كثر البلاء به ، والإنكار فيه قليل ، والتنبيه(21/490)
عليه ضعيف ، والله المستعان .(21/491)
" باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء "
وقول الله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة : 82] .
وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ، وقال : النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب » رواه مسلم (1) .
ولهما عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال : « صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » . (2) .
ولهما من حديث ابن عباس بمعناه ، وفيه : قال بعضهم : " لقد صدق نوء كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآية { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إلى قوله { تُكَذِّبُونَ } (3) .
فيه مسائل :
_________
(1) أخرجه مسلم (934) .
(2) أخرجه البخاري (846) و (1038) و (4147) و (7503) ومسلم (71) .
(3) أخرجه مسلم (73) .(21/492)
الأولى : تفسير آية الواقعة .
الثانية : ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية .
الثالثة : ذكر الكفر في بعضها .
الرابعة : أن من الكفر ما لا يخرج من الملة .
الخامسة : قوله " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" بسبب نزول النعمة .
السادسة : التفطن للإيمان في هذا الموضع .
السابعة : التفطن للكفر في هذا الموضع .
الثامنة : التفطن لقوله "لقد صدق نوء كذا وكذا " .
التاسعة : إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها . لقوله : " أتدرون ماذا قال ربكم؟ " .
العاشرة : وعيد النائحة .
الشرح :
هذا " باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء " ، والاستسقاء بالأنواء هو نسبة السقيا إلى الأنواء ، والأنواء هي " النجوم ، يقال للنجم . نوء .
والعرب والجاهليون كانوا يعتقدون أن النجوم والأنواء سبب في نزول المطر ، فيجعلونها أسبابا ، ومنهم- وهم طائفة قليلة- من يجعل النوء والنجم هو الذي يأتي بالمطر كما سبق في حال الطائفة الأولى من المنجمين الذي يجعلون المفعولات منفعلة عن النجوم وعن حركتها .(21/493)
فقوله -رحمه الله- : " باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء " يعني : باب ما جاء في نسبة السقيا إلى النوء ، وعبر بلفظ الاستسقاء ؛ لأنه جاء في الحديث "والاستسقاء بالنجوم " .
ومناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب : أن الاستسقاء بالأنواء نوع من التنجيم . لأنه نسبة السقيا إلى النجم وذلك أيضا من السحر ؛ لأن التنجيم من السحر بمعناه العام .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن الذي ينسب السقيا والنعمة والفضل الذي يؤتاه حين نزول المطر إلى النوء أو النجم . يكون قلبه ملتفتا عن الله- جل وعلا- إلى غيره ، ومتعلقا بغيره ، وناسبا النعم إلى غير الله- جل وعلا- ومعتقدا أن النجوم أسباب لهذه المسببات من نزول المطر ونحوه ، وهذا مناف لكمال التوحيد ، فإن كمال التوحيد الواجب يوجب على العبد أن ينسب النعم جميعا إلى الله وحده ، وأن لا ينسب شيئا منها إلى غير الله ولو كان ذلك الغير سببا ، فينسب النعمة إلى مسديها ولو كان من أجرى الله على يديه تلك النعم سببا من الأسباب ، فإنه لا ينسبها إلى غير الله- جل وعلا- كيف وأن النجوم ليست بسبب أصلا . ففي ذلك نوعان من التعدي :
1 - أنها ليست بأسباب أصلا .(21/494)
2 - أن تجعل أسبابا لم يجعلها الله- جل وعلا- أسبابا ، وتنسب النعم والفضل والسقيا إليها ، وهذا مناف لكمال التوحيد وكفر أصغر بالله- جل وعلا- .
" وقول الله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال علماء التفسير : معنى هذه الآية : وتجعلون شكر رزقكم ، أي شكر ما رزقكم الله من النعم ومن المطر أنكم تكذبون بأن ا لنعمة من عند الله بنسبتها لغير الله- جل وعلا- وإضافتها إلى الأنواء ، والواجب- شكرا لنعم الله جل وعلا ، وشكرا لله جل وعلا ، على ما رزق وأنعم وتفضل- ، أن تنسب النعم جميعا إلى الله ، وأن ينسب الفضل إلى الرب وحده ، دون ما سواه .(21/495)
" وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن » قوله : " من أمر الجاهلية " هذا دليل على ذمها وأنها من شعب الجاهلية ، ومن المعلوم أن شعب الجاهلية جميعا يجب الابتعاد عنها ؛ لأن خصال أهل الجاهلية مذمومة ، كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال : « أبغض الرجال إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم ، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه ، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية » (1) فكل شعبة من شعب أهل الجاهلية إذا ظهر من يعيدها إلى أهل الإسلام بعد أن أنقذهم الله من ذلك ببعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- وظهور القرآن والسنة وبيان الأحكام فإنه مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ، وهو من أبغض الرجال إلى الله- جل وعلا- . فقوله : " من أمر الجاهلية " هذا دليل الذم ، وليس الإخبار بأنها باقية دليل الإباحة .
قوله : "- لا يتركونهن : الفخر بالأحساب " يعني على وجه التكبر والرفعة .
_________
(1) أخرجه البخاري (6882) .(21/496)
" والطعن في الأنساب " أي : النيل ، والقدح في أنساب الناس من غير دليل شرعي ، ومن غير حاجة شرعية ، فإن القاعدة التي ذكرها الإمام مالك وغيره من أهل العلم : أن الناس مؤتمنون على أنسابهم ، فإذا كان لا يترتب على ذكر النسب أثر شرعي ، من إعطاء حق لغير أهله ، أو بميراث ، أو بعقد نسبة ، أو بزواج ، ونحو ذلك ، فإن الناس مؤتمنون على أنسابهم أما إذا كان له أثر فلا بد من الإثبات ، لا سيما إذا كان مخالفا لما هو شائع متواتر عند الناس ، فالطعن في الأنساب من أمور الجاهلية .
" والاستسقاء بالنجوم " : وهو نسبة السقيا إلى النجوم ، ويشمل ما هو أعظم من ذلك وهو أن تطلب السقيا من النجم ، كحال الذين يعتقدون أن الحوادث الأرضية تحصل بالنجوم نفسها ، وأن النجوم هي التي تحدث المقدرات الأرضية ، والمنفعلات الأرضية .
قوله : " والنياحة ، ثم قال : « النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب » رواه مسلم (1) .
النياحة من الكبائر وهي رفع الصوت عند المصيبة ، وشق الجيب ونحو ذلك ، وهي منافية للصبر الواجب ، ومن خصال الجاهلية .
_________
(1) تقدم .(21/497)
ولهما عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال : « صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال . " هل تدرون : ماذا قال ربكم؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » (1) .
قوله : " على إثر سماء كانت من الليل " يعني مطر ، والمطر يطلق عليه سماء ؛ لأنه يأتي من جهة العلو ، كما قال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
يعني : إذا نزل المطر .
" فلما انصرف " : يعني من صلاة الصبح .
« أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم » . هذه من الكلمات التي تقال في حياته -عليه الصلاة والسلام- ، وأما بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- فإذا سئل المرء عما لا يعلم فليقل : لا أدري ، أو فليقل : الله أعلم ، ولا يقل الله ورسوله أعلم ؛ لأن ذكر علم النبي -عليه الصلاة والسلام- مقيد بحياته الشريفة -عليه الصلاة والسلام- .
_________
(1) تقدم .(21/498)
" قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" هنا قسم العباد إلى قسمين : مؤمن بالله- جل وعلا- وهو الذي نسب هذه النعمة وأضافها إلى الله - جل وعلا- وشكر الله عليها ، وعرف أنها من عند الله ، وحمد الله وأثنى عليه بها ، والصنف الثاني : "وكافر" ، ولفظ كافر اسم فاعل الكفر ، أو اسم من قام به الكفر ، وهذا يصدق على الكفر الأصغر والكفر الأكبر ، فهم انقسموا إلى مؤمنين ، وإلى كافرين ، والكافرون منهم نوعان : النوع الأول : من كفر كفرا أصغر ، كمن يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا ، يعتقد أن النوء والنجم والكوكب سبب في المطر ، فهذا كفره كفر أصغر ؛ لأنه لم يعتقد التشريك والاستقلال ، ولكنه جعل ما ليس سببا سببا ، ونسب النعمة إلى غير الله ، فقوله من أقوال أهل الكفر ، وهو كفر أصغر بالله- جل وعلا- كما قال العلماء . والنوع الثاني : كافر الكفر الأكبر ، وهو الذي اعتقد أن المطر أثر من آثار الكواكب والنجوم ، وأنها هي التي تفضلت بالمطر ، وهي التي تحركت بحركة لما توجه إليها عابدوها أنزلت المطر إجابة لدعوة عابديها ، وهذا كفر أكبر بالإجماع ؛ لأنه اعتقاد ربوبية وإلهية لغير الله- جل وعلا- .(21/499)
" فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب " : لأنه نسب النعمة لله وحده ، ونسبة النعمة لله وحده دلت على إيمانه .
ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه : قال بعضهم : " لقد صدق نوء كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآية : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إلى قوله : { تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 75-82] (1) : وهذا ظاهر .
وهنا تنبيه في هذه المسألة : وهو ما يحصل أحيانا من بعض الناس من أنهم يقولون في الوسمي مثلا إذا طلع يأتي المطر ، ونجم سهيل إذا طلع فسيحصل كذا ، ونحو ذلك ، فهذا القول كما علمت له حالان .
الحال الأولى : أن يقول ذلك معتقدا أن النجم أو البرج الذي أتى هو زمن جعل الله سنته فيه أنه يأتي فيه المطر ، وإن شاء الله سيأتي مطر ونحو ذلك ، فهذا جعل للوسم زمنا ، وهذا جائز .
الحال الثاني : أن يقول : الوسم جاء وسيأتي المطر ، أو طلع النجم الفلاني وسيأتينا كذا وكذا ، معتقدا أن هذا الفصل أو ذلك البرج أو ذلك النجم سببا ، فهذا كفر ونسبة للنعمة لغير الله ، واعتقاد تأثير أشياء لا تأثير لها .
_________
(1) أخرجه مسلم (73) .(21/500)
فينبغي أن يفرق بين ما يستعمله العوام من جعل تلك المواسم ، والنجوم أزمانا وأوقاتا للمطر أو للبرد ، أو الحر ، وبين نسبة أهل الشرك والضلال الأفعال للنجوم ، إما استقلالا ، وإما على وجه التسبب .(22/1)
باب قول الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165] .
وقوله : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24] .
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » أخرجاه (1) .
ولهما عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار » (2) وفي رواية : « لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى . . . » (3) إلى آخره .
_________
(1) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) .
(2) أخرجه البخاري (16) و (21) و (6941) ومسلم (43) .
(3) أخرجه البخاري (6041) .(22/2)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : " من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " رواه ابن جرير . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } قال : المودة .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية البقرة .
الثانية : تفسير آية براءة .
الثالثة : وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال .
الرابعة : نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام .
الخامسة : أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها .
السادسة : أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها .
السابعة : فهم الصحابي للواقع : أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا .
الثامنة : تفسير { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } .
التاسعة : أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا .
العاشرة : الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه .(22/3)
الحادية عشرة : أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله ، فهو الشرك الأكبر .
الشرح :
هذا الباب والأبواب التي بعده شروع من الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- في ذكر العبادات القلبية ، وما يجب أن تكون عليه تلك العبادات من الإخلاص لله- جل وعلا- ، فهذا في ذكر واجبات التوحيد ومكملاته ، وبعض العبادات القلبية ، وكيف يكون إفراد الله- جل وعلا- بها . وابتدأها بباب المحبة ، وأن العبد يجب أن يكون الله- جل وعلا- أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه ، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة ، وهي المحبة التي فيها تعلق بالمحبوب ، بما يكون معه امتثال للأمر رغبا إلى المحبوب واختيارا ، واجتناب النهي رغبة واختيارا .(22/4)
فمحبة العبادة هي : المحبة التي تكون في القلب ، يكون معها الرغب والرهب ، والطاعة والسعي في مراض المحبوب والبعد عما لا يحب المحبوب . والموحد لم يوحد الله إلا بسبب ما وقر في قلبه من محبة الله- جل وعلا- لأنه استدل بربوبية الله- جل وعلا- وأنه الخالق وحده ، وأنه ذو الملكوت وحده ، وأنه ذو الفضل والنعمة على عباده وحده ، وأنه محبوب ، وأنه يجب أن يحب ، وإذا أحب العبد ربه فإنه يجب عليه أن يوحده بأفعال العبد حتى يكون محبا له على الحقيقة ؛ لذلك نقول : المحبة التي هي من العبادة هي المحبة التي يكون فيها اتباع للأمر ، واجتناب للنهي ، ورغب ورهب ؛ ولهذا قال طائفة من أهل العلم : المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع :
1 - محبة الله على النحو الذي وصفنا ، وهذا نوع من العبادات الجليلة ويجب إفراد الله- جل وعلا- بها .
2 - محبة في الله ، وهو أن يحب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ، وأن يحب الصالحين في الله ، وأن يحب في الله ، وأن يبغض في الله .(22/5)
3 - محبة مع الله ، وهذه محبة المشركين لآلهتهم ؛ فإنهم يحبونها مع الله- جل وعلا- فيتقربون إلى الله رغبا ورهبا نتيجة محبة الله ، ويتقربون إلى الآلهة رغبا ورهبا نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة ، ويتضح المقام بتأمل حال المشركين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة ، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب ، وفي خوف وطمع ، وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي ، أو يتوجه إليه بأنواع العبادة لأجل تحصيل مطلوبه ، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله- جل وعلا- شرك أكبر به ، بل هي عماد الدين ، بل هي عماد صلاح القلب ؛ فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محبا لله - جل وعلا- وأن تكون محبته لله- جل وعلا- أعظم من كل شيء ، فالمحبة التي هي محبة الله وحده - يعني محبة العبادة- هذه من أعظم أنواع العبادات ، وإفراد الإله بها واجب ، والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية ، فمن أحب غير الله- جل وعلا- محبة العبادة فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله- جل وعلا- .(22/6)
هذه الأنواع الثلاثة هي المحبة المتعلقة بالله ، أما النوع الثاني من أنوع المحبة وهي المحبة المتعلقة بغير الله من جهة المحبة الطبيعية ، فقد أذن بها الشرع وأجازها ؛ لأن المحبة فيها ليس محبة العبادة والرغب والرهب الذي هو من العبادة ، وإنما هي محبة للدنيا وذلك كمحبة الوالد لولده ، والولد لوالده ، والرجل لزوجته ، والأقارب لأقربائهم ، والتلميذ لشيخه ، والمعلم لأبنائه ، ونحو ذلك من الأحوال ، هذه محبة طبيعية لا بأس بها ، بل جعلها الله- جل وعلا- غريزة في الإنسان .
قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا } [ البقرة : 165] أندادا ، يعني : أشباها ونظراء وأكفاء ، يعني : يساوونه في المحبة ؛ لهذا قال { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } ، وأحد وجهي التفسير في قوله يحبونهم كحب الله ، يعني : أن المشركين يحبون الأنداد كحبهم لله .
والوجه الثاني من التفسير : أن المشركين يحبون الأنداد كحب المؤمنين لله .(22/7)
والوجه الأول أظهر ، والكاف فيه هنا في قوله { كَحُبِّ اللَّهِ } بمعنى : مثل ، أي : يحبونهم مثل حب الله ، وهي كاف المساواة ومثلية المساواة ، ولهذا قال - جل وعلا- في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار . { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }{ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97-98] قال العلماء : سووهم برب العالمين في المحبة بدليل هذه الآية ولم يسووهم برب العالمين في الخلق والرزق وأفراد الربوبية .(22/8)
وقوله : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24] هذا يدل على أن محبة الله- جل وعلا- واجبة ، وأن محبة الله يجب أن تكون فوق كل محبوب ، وأن محبة الله أعظم من محبته لأي شيء ، قال- جل وعلا- : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } إلى أن قال : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وهذا وعيد فيدل على أن تقديم محبة غير الله على محبة الله كبيرة من الكبائر ، ومحرم من المحرمات ؛ لأن الله توعد عليه وحكم على فاعله بالفسق والضلال ، فالواجب لتكميل التوحيد أن يحب العبد الله ورسوله فوق كل محبوب ، ومحبة النبي -عليه الصلاة والسلام- هي في الله ليست محبة مع الله ، لأن الله هو الذي أمرنا بحب النبي -عليه الصلاة والسلام- ، فإن من أحب الله- جل(22/9)
وعلا- أحب رسله .
" عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » (1) قوله : " لا يؤمن أحدكم " يعني : الإيمان الكامل وقوله : "حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " يعني : أن يكون محابي مقدمة على محاب غيري ، فحتى أكون أحب إليه وأعظم في نفسه من ولده ووالده والناس أجمعين ، وفي حديث عمر المعروف « أنه قال للنبي -عليه الصلاة والسلام- : إلا من نفسي فقال : " يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال عمر : أنت الآن أحب إلي من نفسي ، قال : " فالآن يا عمر » يعني كملت الإيمان .
_________
(1) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) .(22/10)
فقوله : « لا يؤمن أحدكم » يعني الإيمان الكامل حتى يقدم محبة النبي -عليه الصلاة والسلام- على محبة الولد والوالد والناس أجمعين ، ويظهر هذا بالعمل ، فإذا كان يقدم محاب هؤلاء على ما فيه مرضاة الله- جل وعلا- وعلى ما أمر به -عليه الصلاة والسلام- ؛ فإن محبته -عليه الصلاة والسلام- تكون ناقصة ؛ لأن المحبة محركة كما قال شيخ الإسلام في كتابه " قاعدة في المحبة" : المحبة هي التي تحرك فالذي يحب الدنيا يتحرك إلى الدنيا ، والذي يحب العلم يتحرك للعلم ، والذي يحب الله- جل وعلا- محبة عبادة ورغب ورهب يتحرك طالبا لمرضاته ويتحرك مبعدا عما فيه مساخط الرب- جل وعلا- .
كذلك الذي يحب النبي -عليه الصلاة والسلام- على الحقيقة ، فإنه يسعى في اتباع سنته ، وفي امتثال أمره ، وفي اجتناب نهيه ، والاهتداء بهديه ، والاقتداء بسنته -عليه الصلاة والسلام- .(22/11)
" ولهما عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار » (1) : والاستدلال به ظاهر على أن محبة الله ورسوله يجب أن تكون مقدمة على محبة ما سواهما ، وأنها من كمال الإيمان ، وأن العبد لن يجد كمال الإيمان إلا بذلك .
" وفي رواية : « لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى . . » إلى آخره " (2) : المقصود بالحلاوة هنا الحلاوة الناتجة عن تحصيل كماله ؛ لأن الإيمان له حلاوة توجد في الروح ، وكلما سعى العبد في تكميل إيمانه اشتد وجده لهذه الحلاوة ، واشتد شعوره بتلك الحلاوة واللذة التي تكون في القلب .
" وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : " من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك " :
هذه محبة في الله راجعة إلى الأمر والنهي وهي من أقسام المحبة .
قوله : " أحب في الله " . يعني : كانت محبته لذلك المحبوب لأجل أمر الله .
" أبغض في الله " . يعني : كان بغضه لذلك المبغض لأجل أمر الله .
_________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(22/12)
" ووالى في الله " : كانت موالاته للعقد الذي بينه وبين ذاك في الله- جل وعلا- من أخوة إيمانية .
" وعادى في الله " . يعني : لما حصل بينه وبين ذاك الذي خالف أمر الله إما بكفر أو بما دونه .
" فإنما تنال ولاية الله بذلك " . يعني : إنما يكون العبد وليا من أولياء الله بهذا الفعل ، وهو أن يوالي في الله ويعادي في الله- جل وعلا- .
والولاية- بالفتح- هي : المحبة والنصرة . يقال : والى ولاية يعني : أحب محبة ، ونصر نصرة ، وأما الولاية- بالكسر- فهي : الملك والإمارة قال- جل وعلا- : { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } [ الكهف : 44] يعني : أن المحبة والنصرة إنما هي لله -جل وعلا- وليست لغيره ، فقوله : " فإنما تنال ولاية الله بذلك " يعني : تنال محبة الله ونصرته بذلك ، بأن يأتي بالمحبة في الله والبغض في الله .(22/13)
" ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " (1) : المؤاخاة والمحبة في الدنيا هذه تراد للدنيا ، والدنيا قصيرة زائلة ، وإنما يغتر بها أهل الغرور . وأما أهل المعرفة بالله ، والعلم بالله ، وأهل كمال توحيده ، وأهل كمال الإيمان ، وتحقيق التوحيد فإنما تكون محابهم ومشاعرهم القلبية وأنواع العلوم والمعارف التي تكون في القلب وأنواع العبادات والمقامات والأحوال التي تكون في القلب يكون ذلك كله تبعا لأمر الله ونهيه ورغبة في الآخرة ، أما الدنيا فلها أهلون ، وهي مرتحلة عنهم ، وهم مقبلون على أمر آخرتهم ؛ ولذلك لن تجدي المحبة في الدنيا على أهلها شيئا ، إنما الذي يجدي هو الحب في الله والرغب في الآخرة .
_________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (353) وأبو نعيم في الحلية 1 / 312 والطبراني في الكبير (13537) .(22/14)
" وقال ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } قال : المودة " (1) ؛ لأن المشركين كانوا يشركون بآلهتهم ، ويحبونها ، ويظنون أنها ستشفع لهم يوم القيامة لأجل مودتهم لها ، ومحبتهم لها ، وستتقطع تلك الأسباب وتلك الحبال المدعاة الموهومة يوم القيامة ، ولن يجدوا نصيرا ، كما قال الله -جل جلاله- : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } يعني : كل ما ظنوه سببا نافعا عند الله فإنه سينقطع يوم القيامة : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } [ البقرة : 166] .
_________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (2423) والحاكم في المستدرك 2 / 272 .(22/15)
" باب قول الله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 115] .
وقوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [ التوبة : 18] . وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10] .
وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعا : « إن من ضعف اليقين أن ترض الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره » (1) وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » (2) رواه ابن حبان في صحيحه .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية آل عمران .
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في « الحلية» 5 / 106 و 10 / 41 والبيهقي في « شعب الإيمان » (203) وإسناده ضعيف .
(2) أخرجه ابن حبان 1 / 247 .(22/16)
الثانية : تفسير آية براءة .
الثالثة : تفسير آية العنكبوت .
الرابعة : أن اليقين يضعف ويقوى .
الخامسة : علامة ضعفه ومن ذلك هذه الثلاث .
السادسة : أن إخلاص الخوف لله من الفرائض .
السابعة : ذكر ثواب من فعله .
الثامنة : ذكر عقاب من تركه .
الشرح :
" باب قول الله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175] : هذا الباب في بيان عبادة الخوف ، ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة . وهي أن خوف العبد من الله - جل وعلا- عبادة من العبادات التي أوجبها الله- جل وعلا- ، فالخوف والمحبة والرجاء عبادات قلبية واجبة ، وتكميلها تكميل للتوحيد ، والنقص فيها نقص لكمال التوحيد .
والخوف من غير الله- جل وعلا- ينقسم إلى ما هو شرك ، وإلى ما هو محرم ، وإلى ما هو مباح ، فهذه ثلاثة أقسام .(22/17)
القسم الأول : الخوف الشركي ، وهو خوف السر ، يعني : أن يخاف في داخله من هذا المخوف منه ، وخوفه لأجل ما عند هذا المخوف منه مما يرجوه أو يخافه من أن يمسه سرا بشيء ، أو أنه يملك له في آخرته ضرا أو نفعا ، فالخوف الشركي متعلق في الدنيا بخوف السر ، بأن يخاف أن يصيبه ذلك الإله بشر وذلك شرك .
والخوف المتعلق بالآخرة ، معناه أن يخاف العبد غير الله ويتعلق خوفه بغير الله من أن لا ينفعه ذلك الإله في الآخرة ، فلأجل رغبه في أن ينفعه ذلك الإله في الآخرة وأن يشفع له ، وأن يقربه منه في الآخرة ، وأن يبعد عنه العذاب في الآخرة ، خاف منه فأنزل خوفه به .
فالخوف من العبادات العظيمة التي يجب أن يفرد الله- جل وعلا- بها ، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك .(22/18)
والقسم الثاني . الخوف المحرم وهو أن يخاف من مخلوق في امتثال واجب ، أو البعد عن المحرم ، مما أوجبه الله أو حرمه ، كأن يخاف من مخلوق في أداء فرض من فرائض الله ، وفي أداء واجب من الواجبات ، فلا يصلي خوفا من مخلوق ، ولا يحضر الجماعة خوفا من ذم المخلوق له أو استنقاصه له ، فهذا محرم ، قال بعض العلماء : وهو نوع من أنواع الشرك ، لأن ترك الأمر والنهي الواجب بشرطه خوفا من ذم الناس ، أو من ترك مدحهم له ، أو من وصمهم له بأشياء ، فيه تقديم لخوف الناس على خوف الله تعالى ، وهذا محرم ؛ لأن الوسيلة إلى المحرم محرمة .
القسم الثالث : الخوف الطبيعي المأذون به ، وهذا أمر طبيعي كخوف من عدو ، أو من سبع ، أو من نار ، أو من مؤذ ومهلك ، ونحو ذلك .
" باب قول الله تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175] .
وجه الاستدلال من هذه الآية : أنه قال : { فَلَا تَخَافُوهُمْ } وهذا نهي عن إنزال عبادة الخوف بغيره ، فهذا يدل على أنه نهي عن أحد أفراد الشرك .(22/19)
قوله : { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أمر بالخوف منه جل وعلا ، فدل على أن الخوف عبادة من العبادات ، وتوحيد الله بهذه العبادة توحيد ، وإشراك غير الله معه في هذه العبادة شرك ؛ والخوف من الخلق- كما ذكرنا- في ترك فريضة الجهاد ، إنما يكون من جراء الشيطان ، فالشيطان هو الذي يخوف المؤمنين من أوليائه ، ويخوف أهل التوحيد وأهل الإيمان من أعداء الله- جل وعلا- لكي يتركوا الفريضة ؛ فلهذا كان ذلك الخوف محرما ، يعني : الخوف من الأعداء الذي يترتب عليه ترك فريضة من فرائض الله من الجهاد وغيره ، والواجب ألا يخاف العبد إلا ربه- جل وعلا- وأن ينزل خوفه به ، وألا يخاف أولياء الشيطان .(22/20)
وقوله -جل وعلا- هنا : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } : معناها على الصحيح من التفسير أو على الراجح : يخوفكم أولياءه ، يعني : يخوف أهل الإيمان أولياء الشيطان ، ففاعل يخوف ضمير يعود على الشيطان ، والمفعول الأول محذوف دل عليه السياق ، والتقدير : يخوف الشيطان الناس أولياءه ، يعني : يجعل الشيطان أهل التوحيد في خوف من أعدائهم ؛ لهذا قال السلف في تفسيرها . { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } يعني : يخوفكم أولياءه ، وهذا ظاهر من الآيات قبلها كقوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173] .(22/21)
" وقوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } [ التوبة : 18] : وجه الدلالة من الآية قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ } وهذا نفي واستثناء ، وتقدم أن مجيء أداة الاستثناء بعد النفي يدل على الحصر والقصر ، فالآية دالة بظهور على أن الخشية يجب أن تكون من الله ، وأن الله أثنى على أولئك لأنهم جعلوا خشيتهم لله وحده دون ما سواه ، والخشية أخص من الخوف .
وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10] : قوله : { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } بأن خاف منها ، وترك ما أوجب الله عليه ، أو أقدم على ما حرم الله عليه ، خشية من كلام الناس .(22/22)
" وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعا : « إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤت الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره » (1) وجه الاستدلال من هذا الحديث قوله : " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله " .
" من ضعف اليقين " : يعني من أسباب ضعف الإيمان ، والذي يضعف الإيمان ارتكاب المحرمات ؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، فدل على أن إرضاء الناس بسخط الله معصية وذنب ومحرم لأن هذا الذي أرضى الناس بسخط الله خافهم أو رجاهم ، وهذا مناسبة إيراد الحديث في الباب .
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 5 / 106 والبيهقي في شعب الإيمان (203) .(22/23)
" وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » رواه ابن حبان في صحيحه (1) ، هذا جزاء الذي أفرد الله بعبادة الخوف وجزاء الذي لم يكمل التوحيد في عبادة الخوف ، فالذي التمس رضا الله بسخط الناس عظم الله وخافه ، ولم يجعل فتنة الناس كعذاب الله ؛ بل جعل عذاب الله- جل وعلا- أعظم فخاف الله وخشيه وطمع فيما عنده ، فلم يلتفت إلى الناس ، ولم يرفع بهم رأسا ، فكان جزاؤه أن رضي الله عنه ، وجعل الناس يرضون عنه .
« ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس » : لأنه ارتكب ذنبا بأن خاف الناس ، وجعل خوفه من الناس سببا لعمل المحرم ، أو ترك فريضة من فرائض الله ؛ لهذا قال " من التمس رضا الناس بسخط الله " فكان جزاؤه أن سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس .
_________
(1) أخرجه ابن حبان في الصحيح 1 / 247 وابن أبي شيبة في المصنف 13 / 436-573 .(22/24)
" باب قول الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } " [ المائدة : 23] .
وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2] وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64] وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3] .
وعن ابن عباس قال : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } [ آل عمران : 173] . رواه البخاري والنسائي (1) .
فيه مسائل :
الأولى : أن التوكل من الفرائض .
الثانية : أنه من شروط الإيمان .
الثالثة : تفسير آية الأنفال .
الرابعة : تفسير الآية في آخرها .
_________
(1) أخرجه البخاري (4563) و (4564) .(22/25)
الخامسة : تفسير آية الطلاق . السادسة : عظم شأن هذه الكلمة ؛ أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد .
الشرح :
مناسبة الباب لكتاب التوحيد أن التوكل على الله فريضة من الفرائض ، وواجب من الواجبات ، وأن إفراد الله - جل وعلا- به توحيد ، وأن التوكل على غير الله شرك مخرج من الملة ، والتوكل على الله شرط في صحة الإسلام ، وشرط في صحة الإيمان فالتوكل عبادة عظيمة ، فعقد المؤلف -رحمه الله- هذا الباب لبيان هذه العبادة .(22/26)
وحقيقة التوكل على الله - جل جلاله- : أن يعلم العبد أن هذا الملكوت إنما هو بيد الله- جل وعلا- يصرفه كيف يشاء ، فيفوض الأمر إليه ، ويلتجئ بقلبه في تحقيق مطلوبه وفي الهرب مما يسوءه ، يلتجئ في ذلك ويعتصم بالله - جل جلاله- وحده ، فينزل حاجته بالله ويفوض أمره إلى الله ، ثم يعمل السبب الذي أمر الله به " فحقيقة التوكل في الشرع تجمع تفويض الأمر إلى الله- جل وعلا- ، وفعل الأسباب ، بل إن نفس الإيمان سبب من الأسباب التي يفعلها المتوكلون على الله ، بل إن نفس التوكل على الله- جل وعلا- سبب من الأسباب ، فالتوكل حقيقته في الشرع تجمع عبادة قلبية عظيمة ، وهي تفويض الأمر إليه ، والالتجاء إليه ، والعلم بأنه لا أمر إلا أمره ، ولا شيء إلا بما قدره وأذن به كونا ، ثم فعل السبب الذي أوجب الله- جل وعلا- فعله أو أمر بفعله ، فترك فعل الأسباب ينافي حقيقة التوكل الشرعية ، كما أن الاعتماد على السبب وترك تفويض الأمر إلى الله- جل وعلا- ينافي حقيقة التوكل الشرعية ، فالمتوكل في الشرع هو من عمل السبب ، وفوض الأمر إلى الله- جل وعلا- في الانتفاع بالسبب ، وفي حدوث المسبب من ذلك السبب ، وفي توفيق الله وإعانته فإنه لا حول ولا(22/27)
قوة إلا به- جل وعلا- .
والتوكل- كما قال الإمام أحمد - : عمل القلب ، فالتوكل عبادة قلبية محضة ؛ ولهذا كان إفراد الله- جل وعلا- بها واجبا ، وكان صرفها لغير الله - جل وعلا- شركا .
والتوكل على غير الله- جل وعلا- له حالان .
الحال الأولى : أن يكون شركا أكبر ، وهو أن يتوكل على أحد من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله - جل جلاله- ، كأن يتوكل على المخلوق في مغفرة الذنب ، وأن يتوكل على المخلوق في تحصيل الخيرات الأخروية ، أو يتوكل على المخلوق في تحصيل ولد له ، أو في تحصيل وظيفة له ، فيتوكل عليه بقلبه ، وهو لا يقدر على ذلك الشيء ، وهذا يكثر عند عباد القبور وعباد الأولياء ، فإنهم يتوجهون إلى الموتى بقلوبهم يتوكلون عليهم ، ويفوضون أمر صلاحهم فيما يريدون في الدنيا والآخرة إلى أولئك الموتى وإلى تلك الآلهة والأوثان التي لا تقدر من ذلك على شيء ، فهذه عبادة صرفت لغير الله - جل وعلا- وهو شرك أكبر بالله - جل وعلا- مناف لأصل التوحيد .(22/28)
والنوع الثاني : أن يتوكل على المخلوق فيما أقدره الله- جل وعلا- عليه ، وهذا نوع شرك ، بل هو شرك خفي ، وشرك أصغر ؛ ولهذا قال طائفة من أهل العلم . إذا قال : توكلت على الله وعليك فإن هذا شرك أصغر ؛ ولهذا قالوا :
لا يجوز أن يقول : توكلت على الله ثم عليك ؛ لأن المخلوق ليس له نصيب من التوكل ، فإن التوكل إنما هو تفويض الأمر والالتجاء بالقلب إلى من بيده الأمر وهو الله- جل وعلا- ، والمخلوق لا يستحق شيئا من ذلك .
فالتوكل على المخلوق فيما يقدر عليه شرك خفي ونوع شرك أصغر ، والتوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق ، وهذا يكثر عند عباد القبور والمتوجهين إلى الأولياء والموتى ، هو شرك يخرج من الملة .(22/29)
وحقيقة التوكل الذي ذكرناه لا يصلح إلا لله- جل وعلا- ؛ لأنه تفويض الأمر إلى من بيده الأمر والمخلوق ليس بيده الأمر ، فالتجاء القلب ورغب القلب وطمع القلب في تحصيل المطلوب إنما يكون ذلك ممن يملكه وهو الله - جل وعلا- ، أما المخلوق فلا يقدر على شيء استقلالا وإنما هو سبب ، فإذا كان سببا فإنه لا يجوز التوكل عليه ؛ لأن التوكل عمل القلب وإنما يجعله سببا بأن يجعله شفيعا ، أو واسطة ، ونحو ذلك ، فهذا لا يعني أنه متوكل عليه ، فيجعل المخلوق سببا فيما أقدره الله عليه ولكن يفوض أمر النفع بهذا السبب إلى الله- جل وعلا- ، فيتوكل على الله ويأتي بالسبب الذي هو الانتفاع من هذا المخلوق بما جعل الله- جل وعلا- له من الانتفاع أو من القدرة ونحو ذلك .(22/30)
" باب قول الله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23] : هذه الآية فيها الأمر بالتوكل على الله وحده ، ولما أمر به علمنا أنه من العبادة ، ولما قدم الجار والمجرور في قوله : { وَعَلَى اللَّهِ } على ما يتعلق به وهو الفعل { فَتَوَكَّلُوا } دل على وجوب إفراد الله - جل وعلا- بالتوكل وأن التوكل عبادة يجب أن تحصر وتقصر في الله - جل وعلا- ، هذا وجه الدلالة من الآية .
ودليل آخر في هذه الآية ، وهو قوله وتعالى : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } حيث جعل الإيمان لا يصح إلا بالتوكل ، وأن التوكل شرط الإيمان ، فقال : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وهذا هو الشرط ، وجوابه محذوف ، وتقديره : فأفردوا الله بالتوكل ، فجزاء الشرط هو إفراد الله بالتوكل ، فصارت دلالة الآية من جهتين .(22/31)
وكذلك قوله -جل وعلا- في آية سورة يونس : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [يونس : 84] فقوله { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا } أمر بإفراده بالتوكل -جل وعلا- وقدم الجار والمجرور ، لإفادة الحصر والقصر والاختصاص بالله -جل وعلا- ، ثم جعل إفراده بالتوكل -جل وعلا- شرطا في صحة الإسلام فقال : { إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } فهاتان الآيتان دلتا على أن التوكل عبادة ، وأن إفراد الله به -جل وعلا- واجب ، وأنه شرط في صحة الإسلام ، وشرط في صحة الإيمان ، وهذا كله يدل على أن انتفاءه مذهب لأصل التوحيد ومناف لأصله إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل جلاله- .(22/32)
" وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2] : وجه الدلالة من الآية : أنه وصف المؤمنين بهذه الصفات الخمس وآخرها قوله : { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وظاهر من دلالة الآية حيث قدم الجار والمجرور على أنهم أفردوا الله بالتوكل ، فدل على أن هذه العبادات الخمس هي أعظم مقامات أهل الإيمان ، وهذا ينبغي التنبه له ، إذ كل أمور الدين والعبادات والفروع العملية التي يعملها العبد ، إنما هي فرع عن تحقيق هذه الخمس التي جاءت في هذه الآية { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وهذه الصفة تجمع الكلمات الشرعية وتجمع الدين جميعا ؛ لأن ذكر الله فيه القرآن وفيه السنة .(22/33)
" وقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64] يعني : كافيك الله وكافي من اتبعك من المؤمنين ؛ لأن الحسب هو الكافي ، والكلمة المشابهة لها (حسب) تقول : هذا بحسب كذا ، يعني : بناء على كذا ، وأما الكافي فهو (الحسب) بسكون السين .
ووجه مناسبة الآية لهذا الباب : أن الله حسب من توكل عليه ، قال- جل وعلا- : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3] فالله حسب من توكل عليه ، فدل على أن الله -جل وعلا- أمر عباده بالتوكل عليه حتى يكون كافيهم من أعدائهم وحتى يكون -جل وعلا- كافي المؤمنين من المشركين ، قال -جل وعلا- : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ } يعني : كافيك الله ، ولهذا أعقبها المؤلف بالآية الأخرى وهي قوله -جل وعلا- : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } والتوكل على الله - جل وعلا - كما سبق ، يرجع إلى فهم توحيد الربوبية ، وإلى عظم الإيمان بتوحيد الربوبية ، فإن بعض المشركين قد يكون عنده من التوكل على الله الشيء العظيم .(22/34)
والتوكل على الله من العبادات العظيمة التي تطلب من المؤمن ؛ لهذا نقول : إن إحداث التوكل في القلب يرجع إلى التأمل في آثار الربوبية ، فكلما كان العبد أكثر تأملا في ملكوت الله : في السماوات والأرض ، والأنفس ، والآفاق ، كان علمه بأن الله هو ذو الملكوت وأنه هو المتصرف ، وأن نصره لعبده شيء يسير جدا بالنسبة إلى ما يجريه الله - جل وعلا - في ملكوته ، فيعظم المؤمن بهذا التدبر الله - جل وعلا - ، ويعظم التوكل عليه ، ويعظم أمره ونهيه ، ويعتقد أن الله - جل جلاله - لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، سبحانه وتعالى .
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } : رتّب الحسب - وهو الكفاية - على التوكل عليه ، وهذا فضيلة التوكل ، وفضيلة المتوكلين عليه .(22/35)
" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } " (1) وهذا يبين عظم هذه الكلمة وهي قول المؤمن : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فإذا حقق العبد التوكل على الله وحققه في القلب فقد حقق هذا النوع من توحيد التوكل في النفس ، فإن العبد إذا أعظم رجاءه في الله ، وأكمل توكله على الله ، فإنه وإن كادته السماوات والأرض ومن فيهن فإن الله سيجعل له من أمره يسرا ، وسيجعل له من بينها مخرجا .
قوله : " حسبنا الله " يعني : كافينا الله .
" ونعم الوكيل " يعني : ونعم الوكيل ربنا ، هذه كلمة عظيمة قالها إبراهيم عليه السلام في الكرب ، وقالها أيضا النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في الكرب لما قال لهم الناس : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } [ آل عمران : 173 ] وذلك لعظم توكلهم على الرب - جل وعلا - .
_________
(1) تقدم .(22/36)
" باب قول الله تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] .
وقوله : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [ الحجر : 56 ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله » (1) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الأعراف .
الثانية : تفسير آية الحجر .
الثالثة : شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله .
الرابعة : شدة الوعيد في القنوط .
الشرح :
هذا باب قول الله تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] ، وقوله : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [ الحجر : 56 ] . هذا الباب عقده المؤلف للآيتين جميعا لاتصالهما .
_________
(1) أخرجه البزار (106) ، وابن أبي حاتم في « التفسير » ، كما في « الدر المنثور » 2 / 147 وقال : إسناده حسن .
(2) أخرجه عبد الرزاق في « المصنف » 10 / 459 .(22/37)
والمراد بهذا الباب بيان أن الجمع بها الخوف والرجاء واجب من واجبات الإيمان ، ولا يتم التوحيد إلا بذلك ، فعدم الجمع بين الخوف والرجاء مناف لكمال التوحيد ، فالواجب على العبد أن يجعل خوفه مع الرجاء ، وأن يجعل رجاءه مع الخوف ، وأن لا يأمن المكر كما لا يقنط من رحمة الله - جل وعلا - .
فالآية الأولى وهي قول الله تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } : فيها بيان أن المشركين من صفاتهم أنهم أمنوا عقاب الله فلم يخافوا ، والواجب بالمقابل أن تكون قلوبهم خائفة وجلة من الله - جل وعلا - قال سبحانه : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } يعني : أيعلمون تلك المثلات ، وفعل الله - جل وعلا - بالأمم السالفة ، التي قصها الله في سورة الأعراف فأمنوا مكر الله ؟!! فإذا كان كذلك ، وحصل منهم الأمن ، مع وجود النذر فيما حولهم ، وأن الله قص عليهم القصص والأنباء ، فإن ذلك من صفات الخاسرين كما قال تعالى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .(22/38)
والأمن من مكر الله ناتج عن عدم الخوف ، وترك عبادة الخوف ، وعبادة الخوف قلبية ، والمراد هنا هو خوف العبادة . وهذا الخوف إذا كان في القلب ، فإن العبد سيسعى في مراضي الله ويبتعد عن مناهيه ، وسيعظم الله - جل وعلا - ويتقرب إليه بالخوف ؛ لأن الخوف عبادة ، ويكون عبادة من وجوه ، منها : أن يتقرب إلى الله - جل وعلا - بالخوف ، وأن يتقرب إلى الله - جل وعلا - بعدم الأمن من مكره ، وذلك أن الله هو ذو الجبروت ، فعدم الأمن من مكر الله راجع إلى عدم فهم صفات الله - جل وعلا - وأسمائه التي منها : القهار ، والجبار ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه ، ونحو ذلك من صفات الربوبية .
ومكر الله - جل وعلا - من صفاته التي تطلق مقيدة ، فالله - جل وعلا - يمكر بمن مكر بأوليائه وأنبيائه ، وبمن مكر بدينه ؛ لأنها في الأصل صفة نقص ، ولكن تكون صفة كمال إذا كانت بالمقابلة ؛ لأنها حينئذ فيها معنى إظهار العزة ، والقدرة والقهر والجبروت وسائر صفات الجلال ، فمكر الله - جل وعلا - من صفاته التي يتصف بها ، على وجه التقييد ، فنقول : يمكر بأعداء رسله ، يمكر بأعدائه ، يمكر بمن مكر به ، ونحو ذلك .(22/39)
وحقيقة مكر الله - جل وعلا - ومعنى هذه الصفة : أنه - جل وعلا - يستدرج العبد ويملي له ، حتى إذا أخذه لم يفلته ، فييسر له الأمور حتى يظن أنه في غاية المأمن ، فيكون ذلك استدراجا في حقه ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : « إذا رأيتم الله يعطي العبد ، وهو مقيم على معاصيه ، فاعلموا أن ذلك استدراج » (1) وهذا ظاهر من معنى المكر ؛ لأن في معنى المكر والكيد وأمثالهما معنى الاستدراج .
ولا ترادف في اللغة ، بل هناك فروق بين المكر والاستدراج ، والكيد ، ونحو ذلك ، لكن نقول هذا من جهة التقرير ، فالمكر فيه استدراج وفيه زيادة أيضا على الاستدراج بحيث يكون قلب ذلك المستدرج آمنا من كل جهة .
" وقوله : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } : هذا فيه أن من صفة الضالين أنهم يقنطون من رحمة الله - جل وعلا - ، ومعنى ذلك بالمفهوم أن صفة المتقين المهتدين أنهم لا يقنطون من رحمة الله ، بل يرجون رحمة الله - جل وعلا - ، والجمع بين الخوف والرجاء واجب شرعا ، فإن الخوف عبادة ، والرجاء عبادة ، واجتماعهما في القلب واجب ، فلا بد أن يكون هذا ، وهذا جميعا في القلب حتى تصح العبادة .
_________
(1) أخرجه أحمد 4 / 145 .(22/40)
ومن هنا اختلف العلماء في أيهما يغلب : الخوف أم الرجاء ؟ هل يغلب العبد جانب الرجاء أو يغلب جانب الخوف ؟ والتحقيق : أن ذلك على حالين : الأولى : إذا كان العبد في حال الصحة والسلامة فإنه إما أن يكون مسددا مسارعا في الخيرات ، فهذا ينبغي أن يتساوى في قلبه الخوف والرجاء ، فيخاف ويرجو ؛ لأنه من المسارعين في الخيرات . وإذا كان في حال الصحة والسلامة وكان من أهل العصيان ، فالواجب عليه أن يغلب جانب الخوف حتى ينكف عن المعصية . الحال الثانية : إذا كان في حال المرض المخوف فإنه يجب عليه أن يعظم جانب الرجاء على الخوف ، فيقوم في قلبه الرجاء والخوف ولكن يكون رجاؤه أعظم من خوفه ، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام : « لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه تعالى » (1) ، وذلك من جهة رجائه في الله - جل جلاله - .
ومن هنا اختلفت كلمات أهل العلم ، فتجد بعضهم يقول : يجب أن يتساوى الخوف والرجاء ، وبعض السلف قال : يغلب جانب الخوف على جانب الرجاء ، وبعض السلف قال : يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف ، وهي أقوال متباينة ظاهرًا ، ولكنها متفقة في الحقيقة ؛ لأن كل قول منها يرجع إلى حالة مما ذكرنا .
_________
(1) أخرجه مسلم (7229) .(22/41)
فمن قال : يغلب جانب الخوف على الرجاء فهو في حق الصحيح العاصي . ومن قال : يغلب جانب الرجاء على الخوف فهو في حق المريض الذي يخاف الهلاك أو من يخاف الموت . ومن قال : يساوي بين الخوف والرجاء فنظر إلى حال المسددين المسارعين في الخيرات ، الذين وصفهم الله - جل وعلا - بقوله { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] ، وقوله - جل وعلا - في سورة الإسراء : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 57 ] وهذا ظاهر .
فالشيخ - رحمه الله - عقد هذا الباب لبيان وجوب أن يجتمع الخوف والرجاء في القلب ، وقد مر بنا أن هذه أبواب متتالية لبيان حالات القلب والعبادات القلبية وأحكام ذلك .(22/42)
" عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ، فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله » (1) : وجه الشاهد من ذلك : أنه جعل اليأس من روح الله ، وهو ذهاب الرجاء من القلب ، وترك الإتيان بعبادة الرجاء ، جعله من الكبائر ، وجعل الأمن من مكر الله ، وهو ذهاب الخوف من الله - جل وعلا - من القلب جعله من الكبائر ، فعدم الرجاء في الله من الكبائر ، وعدم الخوف من الله - جل وعلا - من الكبائر ، وهي كبائر من جهة أعمال القلوب ، واجتماع الكبيرتين معا بأن لا يكون عنده رجاء ولا خوف ، أعظم من كبيرة ترك الخوف وحده من الله ، أو ترك الرجاء وحده من الله - جل وعلا - ؛ ولهذا قرن بينهما في هذا الحديث حيث قال : « سئل عن الكبائر فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله » وبهذا يتبين لك الفرق بين اليأس من روح الله أو القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله ، ؛ لأن اليأس راجع إلى ترك عبادة الرجاء ، والأمن من مكر الله راجع إلى ترك عبادة الخوف ، واجتماعهما واجب من الواجبات ، وذهابهما أو الانتقاص منهما نقص في كمال توحيد من قام ذلك بقلبه .
_________
(1) أخرجه البزار في المسند (106 - كشف الأستار ) .(22/43)
" وعن ابن مسعود قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله " (1) : : في هذا الأثر ما في الحديث قبله ، لكن هنا فصل في القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، فجعل القنوط من رحمة الله شيئا ، وجعل اليأس من روح الله شيئا آخر ، وهذا باعتبار بعض الصفات لا باعتبار أصل المعنى ، وإلا فإن القنوط من الرحمة واليأس من الروح بمعنى واحد ، لكن يختلفان من حديث ما يتناوله هذا ويتناوله هذا ، فالقنوط من رحمة الله عام ؛ لأن الرحمة أعم من الروح ، والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم ، وروح الله - جل وعلا - يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب ، فقوله : القنوط من رحمة الله هذا أعم ؛ ولهذا قدمه فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام ، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى ، واختلاف في الصفات ، أو بعض ما يتعلق باللفظ .
فهذا الحديث مع الحديث قبله والآيتين : دلالتهما على ما أراد المؤلف من عقد هذا الباب واحدة ، ودلالة الجميع : أن الخوف والرجاء واجب اجتماعهما في القلب وإفراد الله - جل وعلا - بهما ، والمقصود خوف العبادة ، ورجاء العبادة .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 10 / 459 ، والطبراني في « الكبير» (8783) .(22/44)
" باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله "
وقول الله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] ، قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم (1) ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت » (2) ، ولهما عن ابن مسعود مرفوعا : « ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية » (3) . وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة » (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » (5) . حسنه الترمذي .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية التغابن .
الثانية : أن هذا من الإيمان بالله .
الثالثة : الطعن في النسب .
الرابعة : شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 28 / 123 .
(2) أخرجه مسلم (67) .
(3) أخرجه البخاري (1294) ، و (1297) ، و (3519) ، ومسلم (103) .
(4) أخرجه الترمذي (2398) ، والحاكم 1 / 340 .
(5) أخرجه الترمذي (2398) وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه .(22/45)
الخامسة : علامة إرادة الله بعبده الخير .
السادسة : إرادة الله به الشر .
السابعة : علامة حب الله للعبد .
الثامنة : تحريم السخط .
التاسعة : ثواب الرضا بالبلاء .
الشرح :
" باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله " : الصبر من المقامات العظيمة ، والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح ، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر ؛ لأن العبادة أمر شرعي ، أو نهي شرعي ، أو ابتلاء ، بأن يصيب الله العبد بمصيبة قدرية فيصبر عليها .
فحقيقة العبادة : أن يمتثل الأمر الشرعي ، وأن يجتنب النهي الشرعي ، وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله - جل وعلا - العباد بها . فالابتلاء حاصل بالدين وحاصل بالأقدار ، فبالدين كما قال - جل وعلا - لنبيه صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : إنما بعثتك لأبتليك ، وأبتلي بك » (1) . فحقيقة بعثة النبي عليه الصلاة والسلام الابتلاء ، والابتلاء يجب معه الصبر ، والابتلاء الحاصل ببعثته بالأوامر والنواهي .
_________
(1) أخرجه مسلم (2865) ، وأحمد 4 / 162 .(22/46)
فالواجبات تحتاج إلى صبر ، والمنهيات تحتاج إلى صبر ، والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر ؛ ولهذا قال طائفة من أهل العلم : إن الصبر ثلاثة أقسام : صبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وصبر على أقدار الله المؤلمة .
ولما كان الصبر على المصائب قليلا أفرد له الشيخ - رحمه الله - هذا الباب لبيان أنه من كمال التوحيد ، ومن الواجب على العبد أن يصبر على أقدار الله ؛ لأن تسخط العباد وعدم صبرهم ، كثيرا ما يظهر في حال الابتلاء بالمصائب ، فعقد هذا الباب لبيان أن الصبر واجب على أقدار الله المؤلمة ، ونبه بذلك على أن الصبر على الطاعة واجب ، وأن الصبر عن المعصية واجب .
وحقيقة الصبر في اللغة : الحبس ، ومنه قولهم : قتل فلان صبرا ، إذا حبس أو ربط فقتل من دون مبارزة ولا قتال . ويقال للصبر الشرعي إنه صبر ؛ لأن فيه حبس اللسان عن التشكي ، وحبس القلب عن السخط ، وحبس الجوارح عن إظهار السخط من لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك ، فحبس هذه الأشياء هو حقيقة الصبر ، فالصبر إذًا في الشرع هو : حبس اللسان عن التشكي ، وحبس القلب عن التسخط ، وحبس الجوارح عن إظهار السخط بشق أو نحو ذلك .(22/47)
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ؛ لأن من لا صبر له على الطاعة ، ولا صبر له عن المعصية ، ولا صبر له على أقدار الله المؤلمة ، فإنه يفوته أكثر الإيمان .
وقوله : " باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله " يعني : أن من خصال الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ، والإيمان له شعب ، كما أن الكفر له شعب ، فنبه بقوله : « من الإيمان بالله الصبر » على أن من شعب الإيمان الصبر ، ونبه في الحديث الذي رواه مسلم على أن النياحة من شعب الكفر ، فيقابل كل شعبة من شعب الكفر شعبة من شعب الإيمان ، فالنياحة على الميت شعبة من شعب الكفر ، يقابلها في شعب الإيمان الصبر على أقدار الله المؤلمة .(22/48)
" وقول الله تعالى : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم " (1) . هذا تفسير من علقمة - أحد التابعين - لهذه الآية ، وهو تفسير ظاهر الصحة والصواب ؛ وذلك أن قوله : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } إنما ورد في سياق ذكر ابتلاء الله بالمصائب ، فـ { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ } يعني : يعظم الله - جل وعلا - ويمتثل أمره ويتجنب نهيه { يَهْدِ قَلْبَهُ } للصبر ، و { يَهْدِ قَلْبَهُ } لعدم السخط ، و { يَهْدِ قَلْبَهُ } للعبادات ؛ ولهذا قال : " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله " وهذا هو الإيمان بالله " فيرضى ويسلم "
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 28 / 123 ، وأخرجه عبد الرزاق في التفسير 3 / 95 .(22/49)
والمصائب من القدر ، والقدر راجع إلى حكمة الله - جل وعلا - ، وحكمة الله - جل وعلا - هي وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها ، فالحكمة بعامة مرتبطة بالغايات المحمودة من وضع الأمر في موضعه ، فمن وضع الأمر في غير موضعه فقد ظلم ، ومن وضع الأمر في موضعه عدل ، وقد يكون غير حكيم ، أي قد يكون عادلا ولكن غير حكيم ، فإذا وضع الأمر في موضعه الموافق للغاية المحمودة منه فذاك هو الحكيم ، والله - جل وعلا - منفي عنه الظلم ومثبت له كمال العدل سبحانه حيث يضع الأمور في مواضعها ، ومثبت له - جل وعلا - كمال الحكمة حيث إن وضعه الأمور في مواضعها موافق للغايات المحمودة منها ، فنعلم بذلك أن المصيبة إذا أصابت العبد فإن الخير له فيها ، إما أن يصبر فيؤجر ، وإما أن يتسخط فيؤزر على ذلك ، وهذا في حق الخاسرين ، فالله - جل وعلا - له الحكمة من الابتلاء بالمصائب ؛ لهذا يجب على العبد أن يعلم أن ما جاء من عند الله هو قدر الله - جل وعلا - وقضاؤه الموافق لحكمته فيجب الصبر على ذلك .
قوله : " يعلم أنها من عند الله " : يعني : أن الله هو الذي أتى بها ، وهو الذي أذن بها قدرا وكونا .(22/50)
" فيرضى ويسلم " : الرضا بالمصيبة مستحب وليس بواجب ؛ ولهذا يختلط على كثيرين الفرق بين الرضا والصبر ، وتحرير المقام في ذلك : أن الصبر على المصائب واجب من الواجبات ؛ لأن فيه ترك السخط على قضاء الله وقدره ، والرضا له جهتان : الجهة الأولى : راجعة إلى فعل الله - جل وعلا - ، فيرضى بقدر الله الذي هو فعله ، ويرضى بفعل الله ، ويرضى بحكمة الله ، ويرضى بما قسم الله - جل وعلا - ، وهذا الرضا بفعل الله - جل وعلا - واجب من الواجبات ، وتركه محرم ومناف لكمال التوحيد .
والجهة الثانية : الرضا بالمقضي ، أي بالمصيبة في نفسها ، فهذا مستحب ، ليس واجبا على العباد أن يرضوا بالمرض ، وأن يرضوا بفقد الولد ، وأن يرضوا بفقد المال ، لكن هذا مستحب وهو رتبة الخاصة من عباد الله ، لكن الرضا بفعل الله - جل وعلا - بمعنى الرضا بقضاء الله من حيث هو واجب ، أما الرضا بالمقضي فإنه مستحب ؛ ولهذا قال علقمة هنا : " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى " يعني : على قضاء الله " ويسلم " لعلمه أنها من عند الله - جل جلاله - ، وهذا من خصال الإيمان .
"(22/51)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اثنتان الناس هما بهم كفر » : يعني . خصلتان من شعب الكفر قائمتان في الناس ، وستبقيان في الناس : « الطعن في النسب ، والنياحة على الميت » (1) .
وجه الشاهد من هذا الحديث : قوله : " والنياحة على الميت " لأن النياحة مخالفة للصبر ، والصبر الواجب فيه : حبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك ، وحبس اللسان عن التشكي والعويل وهذا هو النياحة ، فالنياحة من شعب الكفر ؛ لأنها منافية للصبر .
_________
(1) أخرجه مسلم (67) ، وأحمد في المسند 2 / 377 -441 .(22/52)
وكونها من شعب الكفر لا يدل على أن من قامت به فهو كافرٌ الكفر المطلق المخرج من الملة ، بل يدل على أن من قامت به قامت به خصلة من خصال الكفار ، وشعبة من شعب الكفر ؛ ولهذا قال هنا : « اثنتان في الناس هما بهم كفر » فنكر كلمة " كفر " ، والقاعدة في فهم ألفاظ الكفر التي تأتي في الكتاب والسنة : أن الكفر إذا أتى معرفا بالألف واللام فإن المراد به الكفر الأكبر ، وإذا أتى منكرا - أي بدون الألف واللام - فإنه يدل على أن الخصلة تلك من شعب الكفر ، ومن خصال أهل الكفر ، وأن ذلك كفر أصغر كما قال عليه الصلاة والسلام : « لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » (1) لأن ذلك من خصال الكفار ، ونحو ذلك قوله : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (2) هذا في الكفر الأصغر .
وأما الكفر المعرف بالألف واللام فالقاعدة التي حررها الأئمة كشيخ الإسلام وغيره : أنه إذا أتى فيراد به الكفر الأكبر ، كقوله عليه الصلاة والسلام : « بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة » (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري (121) و (4405) و (6869) و (7080) ، ومسلم (118) .
(2) أخرجه مسلم (221) .
(3) أخرجه مسلم (134) .(22/53)
" ولهما عن ابن مسعود مرفوعا : « ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية » (1) دل هذا الحديث على أن من فعل هذه الأفعال فهو ليس من أهل الإيمان ، وقد سبق بيان أن كلمة " ليس منا " تدل على أن الفعل من الكبائر ؛ ولهذا فإن ترك الصبر وإظهار التسخط كبيرة من الكبائر ، والمعاصي تنقص الإيمان ؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ونقص الإيمان قد ينقص كمال التوحيد ، بل إن ترك الصبر مناف لكمال التوحيد الواجب .
_________
(1) أخرجه البخاري (1294) و (1297) ، ومسلم (103) ، وأحمد 1 / 386 .(22/54)
" وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة » (1) : هذا فيه بيان حكمة الله - جل وعلا - التي إذا استحضرها المصاب ، فإنه يعظم عنده الصبر ، ويتحلى بهذه العبادة القلبية العظيمة وهي ترك التسخط ، والرضا بفعل الله - جل وعلا - وقضائه ؛ لأن العبد إذا أريد به الخير فإن العقوبة تعجل له في هذه الدنيا ؛ لأن رفع أثر العقوبة عن العبد يكون بعشرة أشياء ، منها : أن تعجل له العقوبة في الدنيا ، يعني : أن يعاقب في الدنيا بمرض ، أو بفقد مال ، أو بمصيبة ؛ لأن مخالفة أمر الله في ملكوته لا بد أن تقع لها عقوبة ، إن لم يغفر الله - جل وعلا - ويتجاوز ، فإذا كانت العقوبة في الدنيا فإنها أهون من أن تكون في البرزخ ، أو أن تكون يوم القيامة ؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام : « من يرد الله به خيرا يصب منه » (2) ؛ ولهذا كان بعض السلف يتهم نفسه إذا رأى أنه لم يصب ببلاء أو لم يمرض ونحو ذلك ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحمى مثلا : « لا تسبوا الحمى
_________
(1) أخرجه الترمذي (2398) ، والحاكم 1 / 340 ، وابن حبان 1 / 278 .
(2) أخرجه البخاري (5645) .(22/55)
فوالذي نفسي بيده إنها لتنفي الذنوب عن العبد كما ينفي الكير خبث الحديد » (1) ففي المصائب نعم على العبد ، والله - جل وعلا - له الحكمة البالغة فيما يصلح عبده المؤمن .
" وقال صلى الله عليه وسلم : « إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » (2) : دل قوله : " من رضي فله الرضا " على أن الرضا عبادة ؛ لأن رضا الله عن العبد إذا رضي عنه دال على أن ذلك الفعل محبوب له ، وذلك دليل أنه من العبادات ، وكذلك الجملة الثانية دليل على أن السخط محرم ، . قال : " ومن سخط فله السخط " يعني : من الله - جل وعلا - .
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (3469 ) .
(2) أخرجه الترمذي (2396) .(22/56)
وحقيقة السخط على الله - جل وعلا - : أن يقوم في قلبه عدم محبة ذلك الشيء ، وكراهته ، وعدم الرضا به ، واتهام الحكمة فيه ، فمن قامت به هذه الأشياء مجتمعة فقد سخط ، ويظهر أثر السخط على اللسان أو على الجوارح ، أو في القلب من جهة عدم الرضا بالأوامر ، وعدم الرضا بالنواهي ، وعدم الرضا بالشرع ، فيتسخط الأمر ، ويتسخط النهي ، ويتسخط الشرع ، فهذا كبيرة من الكبائر ، ولو امتثل ذلك فإن تسخطه وعدم الرضا بذلك قلبا دليل على انتفاء كمال التوحيد في قلبه ، وقد يصل بالبعض إلى انتفاء التوحيد من أصله إذا لم يرض بأصل الشرع وسخطه بقلبه واتهم الشرع أو اتهم الله - جل وعلا - في حكمه الشرعي(22/57)
" باب ما جاء في الرياء "
وقول الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] .
وعن أبي هريرة مرفوعا « قال الله تعالى : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه » (1) . رواه مسلم . وعن أبي سعيد مرفوعا : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل » رواه أحمد (2) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الكهف .
الثانية : الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله .
الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك ، وهو كمال الغنى .
الرابعة : أن من الأسباب : أنه تعالى خير الشركاء .
الخامسة : خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء .
السادسة : أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله ، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه مسلم (2985 .
(2) أخرجه أحمد 3 / 30 ، وابن ماجه (4204) ، وقال البوصيري : هذا إسناد حسن .(22/58)
هذا " باب ما جاء في الرياء " يعني : من الوعيد ، وأنه شرك بالله - جل وعلا - .
والرياء حقيقته من الرؤية البصرية ، وذلك بأن يعمل عمل العبادة لكي يرى أنه يعمل العمل الذي هو من العبادة ، إما صلاة ، أو تلاوة ، أو ذكر ، أو صدقة ، أو حج ، أو جهاد ، أو امتثال أمر ، أو اجتناب نهي ، ونحو ذلك ، لا لطلب ما عند الله ، ولكن لأجل أن يراه الناس على ذلك ، فيثنوا عليه به . هذا هو الرياء ، وقد يكون الرياء في أصل الإسلام كرياء المنافقين ، فالرياء على درجتين :
الدرجة الأولى : رياء المنافقين ، بأن يظهر الإسلام ويبطن الكفر لأجل رؤية الخلق ، وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله - جل جلاله - ؛ ولهذا وصف الله المنافقين بقوله : { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [ النساء : 142 ] . فقوله : { يُرَاءُونَ النَّاسَ } . يعني : الرياء الأكبر الذي هو إظهار أصل الإسلام وشعب الإسلام ، وإبطان الكفر وشعب الكفر .(22/59)
والنوع الثاني من الرياء : أن يكون الرجل مسلما أو المرأة مسلمة ، ولكن يرائي بعمله أو ببعض عمله ، فهذا شرك خفي وذلك الشرك مناف لكمال التوحيد ، والله - جل وعلا - . قال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 و 116 ] على قول من قال : إن قوله : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } يدخل فيه الشرك الخفي والأصغر .(22/60)
" باب ما جاء في الرياء ، وقول الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، قوله . { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } هذا نهي عن الإشراك ، والنهي هنا عام لجميع أنواع الشرك ومنها شرك الرياء ، ؛ ولهذا يستدل السلف بهذه الآية على مسائل الرياء ، كما أوردها الإمام - رحمه الله تعالى - هنا ؛ لأنه . قال : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . يعني : بما يشمل ترك المراءاة ، فإن الرياء شرك ، وقوله : { وَلَا يُشْرِكْ } هذا عموم يعم أنواع الشرك جميعا ؛ لأن { يُشْرِكْ } نكرة جاءت في سياق النهي ، فعمت أنواع الشرك .(22/61)
وقوله : { أَحَدًا } يعم جميع الخلق بمراءاة أو بتسميع أو بغير ذلك ، فدلالة الآية على الباب ظاهرة ، وأن المراءاة نوع من الشرك الأصغر ، وضرب من الشرك الخفي ، ؛ لأننا نقول : الرياء شرك أصغر باعتبار أنه ليس بأكبر ، ولا مخرج من الملة ، وتارة نقول : الرياء شرك خفي ؛ لأنه ليس بظاهر وإنما هو باطن خفي في قلب العبد ؛ ولهذا تجد أن كثيرين من أهل العلم يعبرون عن الشرك الأصغر بيسير الرياء ، وتارة يعبرون عن الشرك الخفي بالرياء ؛ ذلك لأن الشرك يختلف من حيث الإطلاق - كما سبق - من عالم إلى آخر ، فتارة يقسمون الشرك إلى أكبر وأصغر ، ومنهم من يقسمه إلى أكبر وأصغر وخفي ، وكل له اصطلاحه ، وكل الأقوال صواب .
" عن أبي هريرة مرفوعا ، « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه » (1) : هذا الحديث يدل على أن الرياء مردود على صاحبه ، وأن الله - جل وعلا - لا يقبل العمل الذي خالطه الرياء ، والعلماء فصلوا في ذلك فقالوا : الرياء - إذا عرض للعبادة - له أحوال :
_________
(1) أخرجه مسلم (2985) .(22/62)
الحالة الأولى : أن يعرض للعبادة من أولها ، فإذا عرض للعبادة من أولها فإن العبادة كلها باطلة ، كأن ينشئ الصلاة لنظر فلان ، فهو لم يرد أن يصلي ، لكن لما رأى فلانا ينظر إليه صلى ، فهذا عمله حابط ، يعني أن الصلاة التي صلاها حابطة وهو مأزور على مراءاته ومرتكب الشرك الخفي ، الشرك الأصغر .
والحال الثانية : أن يكون أصل العبادة لله ، ولكن خلط ذلك العابد عمله رياء ، كمن أطال الركوع وأكثر التسبيح وأطال القراءة والقيام لأجل من يراه ، فأصل العبادة - والتي كانت لله - له ، وما عدا ذلك فهو حابط ؛ لأنه راءى في الزيادة على الواجب فيحبط ذلك الزائد وهو إثم عليه ، لا يؤجر عليه ولا ينتفع منه ، ويؤزر على إشراكه وعلى مراءاته في العبادات البدنية . أما العبادات المالية فيختلف الحال عن ذلك .(22/63)
قوله : « من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » : يعني بجميع أنواع المشركين وبجميع أنواع الأعمال ؛ لأن ( عملا ) في قوله : " من عمل عملا " نكرة جاءت في سياق الشرط ، فعمت جميع الأعمال : . الأعمال البدنية ، والأعمال المالية ، والأعمال التي اشتملت على مال وبدن ، فالبدنية : كالصلاة والصيام ، والمالية : كالزكاة والصدقة ، والمشتملة على بدن ومال : كالحج والجهاد ونحو ذلك ، والمقصود من قوله : " من عمل عملا " أنه أنشأه " أشرك فيه معي غيري " جعله لله ولغير الله جميعا ، فإن الله - جل وعلا - أغنى الشركاء عن الشرك ، لا يقبل إلا ما كان له وحده سبحانه وتعالى .(22/64)
" وعن أبي سعيد مرفوعا : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي ، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل » (1) : هذا فيه بيان أن هذا النوع من الشرك هو أخوف على هذه الأمة عند النبي صلى الله عليه وسلم من المسيح الدجال ؛ ذلك أن أمر المسيح أمر ظاهر بين ، والنبي عليه الصلاة والسلام بين ما في شأنه ، وبين صفته ، وحذر الأمة منه ، وأمرهم بأن يدعوا آخر كل صلاة ، وأن يستعيذوا من شر المسيح الدجال ، ومن فتنة المسيح الدجال ، أما الرياء فإنه يعرض للقلب كثيرا ، والشيطان يأتي إلى القلوب ، وهذا الشرك يقود العبد إلى أن يتخلى شيئا فشيئا عن مراقبة الله - جل وعلا - ويتجه إلى مراقبة المخلوقين ؛ لذلك صار أخوف عند النبي صلى الله عليه وسلم علينا من المسيح الدجال ، ثم فسره بقوله : « الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل »
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3 / 30 ، وابن ماجه (4204) .(22/65)
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا "
وقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 - 16 ] .
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة .
الثانية : تفسير آية هود .
الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة .
الرابعة : تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط .
الخامسة : قوله : " تعس وانتكس "
السادسة : قوله : " وإذا شيك فلا انتقش .
_________
(1) أخرجه البخاري (2886) و (2887) و (6435) .(22/66)
السابعة : الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات .
الشرح :
هذا الباب باب عظيم من أبواب هذا الكتاب ترجمه الإمام - رحمه الله - بقوله : " باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا "
" من الشرك " يعني : من الشرك الأصغر أن يريد الإنسان بأعماله التي يعملها من الطاعات الدنيا ولا يريد بها الآخرة ، وإرادة الإنسان الدنيا ، . يعني : ثواب الدنيا ، فهو أعم من حال الرياء ، فالرياء حالة واحدة من أحوال إرادة الإنسان الدنيا ، فهو يصلي أو يزيد ويزين صلاته لأجل الرؤية ولأجل المدح ، لكن هناك أحوال أخر لإرادة الناس بأعمالهم الدنيا ، فلهذا عطف الشيخ - رحمه الله - هذا الباب على الذي قبله ليبين أن إرادة الإنسان الدنيا تأتي في أحوال كثيرة أعم من حال الرياء بخاصة ، لكن الرياء جاء فيه الحديث وخافه النبي عليه الصلاة والسلام على أمته ، فهو في وقوعه كثير والخوف منه جلل .
وهذا الباب اشتمل على الحكم بأن إرادة الإنسان بعمله الدنيا من الشرك .
وقوله : " إرادة الإنسان " يعني : أن يعمل العمل وفي إرادة ، أي الذي بعثه على العمل ثواب الدنيا ، فهذا من الشرك بالله - جل جلاله - وسيأتي تفصيل أحوال ذلك .(22/67)
" وقول الله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 - 16 ] . هذه الآية من سورة هود مخصوصة بقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ الإسراء : 18 ] . فهي مخصوصة بمن شاء الله - جل وعلا - ، فقوله هنا : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } . يعني : ممن أراد الله - جل وعلا - له ذلك وممن شاءه الله ، فهذا العموم الذي هنا مخصوص بآية الإسراء .(22/68)
والذين يريدون الحياة الدنيا أصلا وقصدا وتحركا هم الكفار ؛ ولهذا نزلت هذه الآية في الكفار ، لكن لفظها يشمل كل من أراد الحياة الدنيا بعمله الصالح ؛ ولهذا جمع الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في رسالة له أحوال الناس فيما قاله السلف تفسيرا لهذه الآية ، وجعل كلام السلف يتناول أربعة أنواع من الناس كلهم يدخل في هذا الوعيد :
النوع الأول ممن ركبوا هذا الشرك الأصغر وأرادوا بعملهم الحياة الدنيا : أنه يعمل العمل الصالح وهو فيه مخلص لله - جل وعلا - ، ولكن يريد به ثواب الدنيا ولا يريد به ثواب الآخرة ، كأن : يتعبد الله - جل وعلا - بالصلاة وهو فيها مخلص لله ، أداها على طواعية واختيار وامتثال لأمر الله ، لكن يريد منها أن يصح بدنه ، أو وصل رحمه وهو يريد منه أن يحصل له في الدنيا الذكر الطيب والصلة ونحو ذلك ، أو عمل أعمالا من التجارة والصدقات وهو يريد بذلك تجارة لكي يكون عنده مال فيتصدق وهو يريد بذلك ثواب الدنيا .(22/69)
فهذا النوع عمل العبادة امتثالا للأمر ، ومخلصا فيها الله ، ولكنه طامع في ثواب الدنيا ، وليس له همة في الآخرة ولم يعمل هربا من النار وطمعا في الجنة ، فهذا داخل في هذا النوع وداخل في قوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ] .
والأعمال التي يعملها العبد ويستحضر فيها ثواب الدنيا على قسمين :
القسم الأول : أن يكون العمل الذي عمله ، واستحضر فيه ثواب الدنيا وأراده ، ولم يرد ثواب الآخرة ، لم يرغب الشرع فيه بذكر ثواب الدنيا ، مثل : الصلاة والصيام ونحو ذلك من الأعمال والطاعات ، فهذا لا يجوز له أن يريد به الدنيا ، ولو أراد به الدنيا ، فإنه مشرك ذلك الشرك .(22/70)
والقسم الثاني : أعمال رتب الشارع عليها ثوابا في الدنيا ، ورغب فيها بذكر ثواب لها في الدنيا ، مثل : صلة الرحم ، وبر الوالدين ، ونحو ذلك ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : « من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه » (1) ، فهذا النوع إذا استحضر في عمله حين يعمل ذلك العمل ، استحضر ذلك الثواب الدنيوي ، وأخلص لله في العمل ولم يستحضر الثواب الأخروي ، فإنه داخل في الوعيد ، فهو من أنواع هذا الشرك ، لكن إن استحضر الثواب الدنيوي والثواب الأخروي معا ، له رغبة فيما عند الله في الآخرة ويطمع في الجنة ، ويهرب من النار ، واستحضر ثواب هذا العمل في الدنيا ، فإنه لا بأس بذلك ؛ لأن الشرع ما رغب فيه بذكر الثواب في الدنيا إلا للحض عليه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « من قتل قتيلا فله سلبه » (2) ، فمن قتل حربيا في الجهاد لكي يحصل على السلب ، ولكن قصده من الجهاد الرغبة فيما عند الله - جل وعلا - مخلصا فيه لوجه الله ، لكن أتى هذا من زيادة الترغيب له ولم يقتصر على هذه الدنيا بل قلبه معلق أيضا بالآخرة ، فهذا النوع لا بأس به ولا يدخل في النوع الأول مما ذكره السلف في هذه الآية .
_________
(1) أخرجه أحمد 3 / 156 بنحوه ، من حديث أبي سعيد الخدري ، وأصله متفق عليه من حديث أنس .
(2) أخرجه أحمد 5 / 306 من حديث أبي قتادة .(22/71)
النوع الثاني مما ذكره السلف مما يدخل تحت هذه الآية : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } : [هود : 15 ] أنه يعمل العمل الصالح لأجل المال ، فهو يعمل العمل لأجل ما يحصله من المال ، مثل : أن يدرس ويتعلم العلم الشرعي لأجل الوظيفة فقط وليس في همه رفع الجهالة عن نفسه ومعرفة العبد بأمر ربه ونهيه والرغب في الجنة وما يقرب منها والهرب من النار وما يبعد عنها ، فهذا داخل في ذلك ، أو حفظ القرآن ليكون إماما في المسجد ، ويكون له الرزق الذي يأتي من بيت المال ، فغرضه من هذا العمل إنما هو المال ، فهذا لم يعمل العمل صالحا وإنما عمل العمل الذي في ظاهره أنه صالح ولكن في باطنه قد أراد به الدنيا .
النوع الثالث : أهل الرياء الذين يعملون الأعمال لأجل الرياء .
النوع الرابع : الذين يعملون الأعمال الصالحة ومعهم ناقض من نواقض الإسلام ، كمن يصلي ويزكي ويتصدق ويقرأ القرآن ويتلوه ، ولكن هو مشرك الشرك الأكبر ، فهذا وإن قال إنه مؤمن فليس بصادق في ذلك ؛ لأنه لو كان صادقا لوحد الله - جل وعلا - .(22/72)
فهذه بعض الأنواع التي ذكرت في تفسير هذه الآية وكلها داخلة تحت قوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } فهؤلاء جميعا أرادوا الحياة الدنيا وزينتها ولم يكن لهم هم في رضا الله - جل وعلا - وطلب الآخرة بذلك العمل الذي عملوه .
وهنا إشكال أورده بعض أهل العلم : وهو أن الله - جل وعلا - قال في الآية التي تليها { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 16 ] ، وأن هذه في الكفار الأصليين أو فيمن قام به مكفر ، أما المسلم الذي قامت به إرادة الدنيا فإنه لا يدخل في هذه الآية .(22/73)
والجواب : أنه يدخل ؛ لأن السلف أدخلوا أصنافا من المسلمين في هذه الآية ، والوعيد بقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ } ، فمن كانت إرادته الحياة الدنيا فلم يتقرب إلى الله - جل وعلا - بشيء { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } [ هود : 15 ] فهؤلاء أرادوا الدنيا بكل عمل ، وليس معهم من الإيمان والإسلام مصحح لأصل أعمالهم ، فهؤلاء مخلدون في النار ، أما الذي معه أصل الإيمان وأصل الإسلام الذي يصح به عمله ، فهذا قد يحبط العمل بل يحبط عمله الذي أشرك فيه وأراد به الدنيا ، وما عداه لا يحبط ؛ لأن معه أصل الإيمان الذي يصحح العمل الذي لم يخالطه شرك .
فهذه الآية فيها وعيد شديد ، وهذا الوعيد يشمل كما ذكرنا أربعة أصناف ، وكما قال أهل العلم : إن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي وإن كانت في الكفار ، لكن لفظها يشمل من أراد الحياة الدنيا من غير الكفار .(22/74)
" في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة » . . إلخ " (1) . وجه الشاهد من ذلك : أنه دعا على عبد الدينار ، وعلى عبد الدرهم ، وعلى عبد الخميصة . وعبد الدينار والدرهم هو الذي يعمل العمل لأجل الدينار ، ولولا الدينار لما تحركت همته في العمل ، لولا هذه الخميصة لما تحركت همته في العمل ، فهو إنما عمل لأجل هذا الدينار ، لأجل هذه الدنيا ، وما فيها من الدرهم ، والجاه والمكانة ونحو ذلك ، وقد سماه النبي عليه الصلاة والسلام عابدا للدينار ، فدل ذلك على أنه من الشرك ؛ لأن العبودية درجات ، منها : عبودية الشرك الأصغر ، ومنها عبودية الشرك الأكبر ، فالذي يشرك بغير الله - جل وعلا - الشرك الأكبر هو عابد له ، كأهل الأوثان ، وعبدة الأصنام ، وعبدة الصليب ، وكذلك من يعمل الشرك الأصغر ، ويتعلق قلبه بشيء من الدنيا فهو عابد ، لذلك يقال : عبد هذا الشيء ؛ لأنه هو الذي حرك همته ، ومعلوم أن العبد مطيع لسيده ، أينما وجهه توجه ، فهذا الذي حركته همته للدنيا وللدينار وللدرهم عبد لها ؛ لأن همته معلقة بتلك الأشياء ، وإذا
_________
(1) تقدم.(22/75)
وجد لها سبيلا تحرك إليها بدون النظر هل يوافق أمر الله - جل وعلا - أم لا يوافق أمر الله - جل وعلا - وشرعه ؟ ! .(22/76)
" باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرمه ، فقد اتخذهم أربابا من دون الله "
وقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر (1) .
وقال أحمد بن حنبل : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك (2) .
وعن عدي بن حاتم : « أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم، قال : " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ ! " فقلت بلى ، قال : " فتلك عبادتهم » (3) . رواه أحمد والترمذي وحسنه .
فيه مسائل :
_________
(1) أخرجه أحمد (3121) .
(2) أخرجه ابن بطة في « الإبانة الكبرى» (97) .
(3) أخرجه الترمذي (3094) ، وأحمد 4 / 257 و 378 .(22/77)
الأولى : تفسير آية النور .
الثانية : تفسير آية براءة .
الثالثة : التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي .
الرابعة : تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر ، وتمثيل أحمد بسفيان .
الخامسة : تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية . وعبادة الأحبار هي العلم والفقه . ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين . وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين .
الشرح :
هذا الباب والأبواب بعده في بيان مقتضيات التوحيد ، ولوازم تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي وتستلزم أن يكون العبد مطيعا لله - جل وعلا - فيما أحل وما حرم ، محلا للحلال محرما للحرام ، لا يتحاكم إلا إليه - جل وعلا - ولا يحكم في الدين إلا شرع الله - جل وعلا .(22/78)
والعلماء وظيفتهم تبيين معاني ما أنزل الله - جل وعلا - على رسوله صلى الله عليه وسلم وليست وظيفتهم التي أذن لهم بها في الشرع أن يحللوا ما يشاءون ، أو يحرموا ما يشاءون ، بل وظيفتهم الاجتهاد في فقه النصوص ، وأن يبينوا ما أحل الله وما حرم - جل وعلا - ، فهم أدوات ووسائل لفهم نصوص الكتاب والسنة ، ولذلك كانت طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله ، يطاعون فيما فيه طاعة لله - جل وعلا - ولرسوله ، وما كان من الأمور الاجتهادية فيطاعون ، ؛ لأنهم هم أفقه بالنصوص من غيرهم ، فتكون طاعة العلماء والأمراء من جهة الطاعة التبعية لله ولرسوله ، أما الطاعة الاستقلالية فليست إلا لله - جل وعلا - حتى طاعة النبي عليه الصلاة والسلام إنما هي تبع لطاعة الله - جل وعلا - فإن الله هو الذي أذن بطاعته وهو الذي أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى الشهادة له بأنه رسول الله ، قال - جل وعلا - { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، وقال - جل وعلا : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ النساء : 64 ] .(22/79)
فالطاعة الاستقلالية نوع من أنواع العبادة ، فيجب إفراد الله - جل وعلا - بها ، وغير الله - جل وعلا - إنما يطاع لأن الله - جل وعلا - أذن بطاعته ، ويطاع فيما أذن الله به في طاعته ، فالمخلوق لا يطاع في معصية الله ؛ لأن الله لم يأذن أن يطاع مخلوق في معصية الخالق - جل وعلا - وإنما يطاع فيما أطاع الله - جل وعلا - فيه على النحو الذي يأتي .
فهذا الباب عقده الشيخ - رحمه الله - ليبين أن الطاعة من أنواع العبادة ، بل إن الطاعة في التحليل وفي التحريم هي معنى اتخاذ الأرباب ، كما قال الله - جل وعلا - : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } [ التوبة : 31 ] ، وما سيأتي من بيان حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه .(22/80)
قوله : " باب من أطاع العلماء والأمراء " : العلماء والأمراء هم أولو الأمر في قوله - جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] قال العلماء : أولو الأمر يشمل من له الأمر في حياة الناس في دينهم - وهم العلماء - وفي دنياهم - وهم الأمراء - ، وقد قال - جل وعلا - : { وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ولم يكرر فعل الطاعة ، قال ابن القيم وغيره : دل هذا على أن طاعة أولي الأمر ليست استقلالا وإنما يطاعون في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أمروا بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
والأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص من الكتاب والسنة فإنهم يطاعون في ذلك ؛ لأن الله أذن به ، ولما في ذلك من المصالح المرعية في الشرع .(22/81)
قوله : " في تحريم ما أحل الله " : يعني في تحريم الأمر الذي أحله الله ، بحيث هناك حلال في الشرع فيحرمونه : أي يحرمه العالم ، أو يحرمه الأمير ، فيطيعه الناس ، وهم يعلمون أنه حلال ، لكن يطيعونه في التحريم ، ومثاله : أن الله أحل أكل الخبز فيقولون : الخبز حرام عليكم دينا ، فلا تأكلوه تدينا ، ويحرمونه لأجل ذلك ، فإن أطاعوهم كان ذلك طاعة لهم في تحريم ما أحل الله .
قوله : " أو تحليل ما حرم الله " : يعني أحلوا ما يعلم أن الله حرمه ، مثاله : حرم الله الخمر فأحله العلماء أو أحله الأمراء ، فمن أطاع عالما أو أميرا في اعتقاد أن الخمر حلال ، وهو يعلم أنها حرام ، وأن الله حرمها ، فقد اتخذه ربا من دون الله - جل وعلا - .
ففي هذا الباب حكم وشرط ، فالحكم قوله في آخره : " فقد اتخذهم أربابا " وهو جزاء الشرط ، والشرط قوله : " من أطاع العلماء والأمراء " ، وضابط هذا الشرط ما بينهما وهو قوله : "في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه " ، وهذا يستفاد منه - يعني من اللفظ - أنهم عالمون بما أحل الله ، فحرموه طاعة لأولئك ، عالمون بما حرم ، فأحلوه طاعة لهم .(22/82)
قوله في آخره : " فقد اتخذهم أربابا " ؛ ذلك لأجل آية سورة براءة : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، وحديث عدي بن حاتم في ذلك .(22/83)
والأرباب جمع الرب ، والرب والإله لفظان يفترقان إذا اجتمعا ، ويجتمعان إذا افترقا ، ؛ لأن الرب هو : السيد الملك المتصرف في الأمر ، والإله هو : المعبود ، وقد سئل المصنف الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن الفرق بينهما الإله والرب في مثل هذه السياقات في نحو قوله : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 80 ] ، وفي نحو قوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا }{ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ما معنى الربوبية هنا ؟ قال : الربوبية هنا بمعنى الألوهية ؛ ، بمعنى المعبود ؛ لأن من أطاع على ذلك النحو فقد عبد ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي حين . قال : " إنا لسنا نعبدهم " فعدي فهم من كلمة " أربابا " العبادة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مقررا لذلك : " أليس يحرمون " إلخ ، فهو إقرار منه عليه الصلاة والسلام بأن معنى الربوبية هنا العبودية .(22/84)
فلهذا قال الشيخ - رحمه الله - حينما سئل : الألوهية والربوبية أو كلمة الرب والإله من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت ، وإذا افترقت اجتمعت ، . يعني : كلفظ الفقير والمسكين ، والإسلام والإيمان ، ونحوهما ؛ لأن الإله يطلق على المعبود ، وجاء في نصوص كثيرة إطلاق الرب على المعبود كما ذكرنا في الآيات وفي الحديث ، وكقوله عليه الصلاة والسلام في مسائل القبر : " . « فيأتيه ملكان فيسألانه من ربك ؟ » يعني : من معبودك ؛ لأن الابتلاء لم يقع في الرب الذي هو الخالق الرازق المحيي المميت .(22/85)
إذا لفظ ( الرب ) و ( الإلهية ) من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت ، فقد يطلق على الأرباب آلهة وعلى الآلهة أرباب ، وهل هذا الإطلاق لأجل اللغة ؟ يعني أن أصله في اللغة يدخل هذا في هذا وهذا في ذاك ، أو أنه لأجل اللزوم والتضمن ؟ الظاهر - عندي - الأخير ، وهو أنه لأجل اللزوم والتضمن ، فإن الربوبية مستلزمة للألوهية ، والألوهية متضمنة للربوبية فإذا ذكر الإله فقد تضمن ذلك ذكر الرب ، وإذا ذكر الرب استلزم ذلك ذكر الإله ، ولهذا قال - جل وعلا - هنا : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ }{ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } [ آل عمران : 80 ] يعني : آلهة ؛ لاستلزام لفظ الربوبية للإلهية ، وكذلك قوله : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا } يعني : آلهة معبودين كما أتى تفصيله في الحديث .(22/86)
" وقال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر " (1) : هذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح وإسناده : . عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أو نحو ذلك ، وقد ذكر إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع في الفتاوى بنصه ، فذكر الإسناد والمتن ، وغالب الذين خرجوا كتاب التوحيد قالوا : إن هذا الأثر لا أصل له بهذا اللفظ ، وهذه جراءة منهم حيث إنهم ظنوا أن كل كتب الحديث بين أيديهم ، ولو تتبعوا كتب أهل العلم لوجدوا أن إسناده والحكم عليه موجود في كتبهم .
_________
(1) أخرجه أحمد (3121) .(22/87)
ووجه الاستشهاد ما اشتمل عليه هذا الأثر ، وهو قوله : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر " ؛ لأن الواجب على المسلم إذا سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم فقهه ، أو بينه له أهل العلم ألا يترك ذلك الحديث وفقهه لقول أحد كائنا من كان ، إذا كان الحديث ظاهرا في الدلالة على ذلك ، وكان القول الآخر لا دليل عليه ، أما إذا كانت المسألة اجتهادية في الحديث من جهة الفهم فهذا مجاله واسع ، وابن عباس رضي الله عنهما يحمل كلامه هذا على أن هؤلاء الذين قالوا له تلك المقالة ، قالوا له : قال أبو بكر وعمر ، عارضوا قوله في المتعة بقول أبي بكر وعمر الذي هو مناقض لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يذهبان إلى أن إفراد الحج أفضل من التمتع وابن عباس كان يوجب أفضلية التمتع ويسوق الأدلة في ذلك ، وقول أبي بكر وعمر أخذ به طائفة من أهل العلم كمالك وغيره ، بل قال طائفة : إن إفراده الحج وسفره مرة أخرى للعمرة خير له من أن يجمع بين حج وعمرة في سفرة واحدة ، كما هو اختيار شيخ الإسلام ، واختيار غيره من(22/88)
المحققين .
والمقصود من ذلك أن كلام ابن عباس هذا ليس في المسألة الفقهية ، يعني : أن المؤلف رحمه الله لم يسق قول ابن عباس لخصوص مسألة التمتع والإفراد ، ولكن في مسألة عموم لفظه ، وهو أنه لا يعارض قول النبي عليه الصلاة والسلام الظاهر معناه بقول أحد لا دليل له على قوله ، ولو كان ذلك القائل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فكيف بمن دونهما من التابعين أو من الصحابة ، فكيف بأئمة أهل المذاهب وأصحاب أهل المذاهب - رحمهم الله تعالى - ؟؟!! واحترام العلماء وأهل المذاهب واجب ، لكن أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يتركها لقول أحد كائنا من كان .
" وقال أحمد بن حنبل : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان " : وسفيان هو : ابن سعيد بن مسروق الثوري أحد العلماء المعروفين ، وكان له مذهب وله أتباع .(22/89)
قوله : " يذهبون إلى رأي سفيان " يدل على أن سفيان لم يكن له مستند على ما ذهب إليه ، وهو عالم من العلماء ، وأحد الزهاد الصالحين المشهورين ، ولكن قد تخفاه السنة فيكون قد حكم برأيه أو بتقعيد عنده ، لكن السنة جاءت بخلاف ذلك ، فلا يسوغ أن يجعل رأي سفيان في مقابل الحديث النبوي .(22/90)
" والله تعالى يقول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . [ النور : 63 ] أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" : إذا رد بعض قول النبي عليه الصلاة والسلام لقول أحد يخشى عليه أن يعاقب فيقع في قلبه زيغ ، قال الله - جل وعلا - عن اليهود : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . فهم زاغوا بمحض إرادتهم واختيارهم مع بيان الحجج وظهور الدلائل والبراهين ، لكن لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم عقوبة منه لهم على ذلك ، وهذا معنى قوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } . أي : نوع شرك ، وقد يصل ذلك إلى الشرك الأكبر بالله - جل وعلا - إذا كان في تحليل الحرام مع العلم بأنه حرام ، وتحريم الحلال مع العلم بأنه حلال .(22/91)
" عن عدي بن حاتم : « أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقلت له : إنا لسنا نعبدهم » : فيه أنه فهم من قوله : { أَرْبَابًا } أنهم المعبودون .
" قال عليه الصلاة والسلام : « أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟! فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم » رواه أحمد والترمذي وحسنه (1) . هذا الحديث فيه بيان أن طاعة الأحبار والرهبان قد تصل إلى الشرك الأكبر ، واتخاذ أولئك أربابا ومعبودين ، والأحبار هم : العلماء . والرهبان هم : العباد .
وطاعة الأحبار في التحليل والتحريم على درجتين :
_________
(1) أخرجه الترمذي (3094) .(22/92)
الدرجة الأولى : أن يطيع العلماء أو الأمراء في تبديل الدين ، يعني : في جعل الحرام حلالا وفي جعل الحلال حراما ، فيطيعهم في تبديل الدين ، وهو يعلم أن الحرام قد حرمه الله ، ولكن أطاعهم تعظيما لهم ، فحلل ما أحلوه طاعة لهم وتعظيما وهو يعلم أنه حرام ، يعني : اعتقد أنه حلال وهو حرام في نفسه ، أو حرم حلالا تبعا لتحريمهم ، وهو يعلم أن ما حرموه حلال ولكنه حرم تبعا لتحريمهم ، هذا يكون قد أطاع العلماء أو الأمراء في تبديل أصل الدين ، فهذا هو الذي اتخذهم أربابا ، وهو الكفر الأكبر والشرك الأكبر بالله - جل وعلا - ، وهذا هو الذي صرف عبادة الطاعة إلى غير الله ؛ ولهذا قال الشيخ سليمان - رحمه الله - في شرحه لكتاب التوحيد : " الطاعة هنا في هذا الباب المراد بها طاعة خاصة ، وهي الطاعة في تحليل الحرام أو تحريم الحلال " وهذا ظاهر .(22/93)
الدرجة الثانية : أن يطيع الحبر ، أو يطيع الأمير ، أو يطيع الرهبان ، في تحريم الحلال أو في تحليل الحرام من جهة العمل ، أطاع وهو يعلم أنه عاص بذلك ومعترف بالمعصية لكن اتبعهم عملا وقلبه لم يجعل الحلال حراما متعينا أو سائغا ، ولكن أطاعهم حبا له في المعصية ، أو حبا له في مجاراتهم ، ولكن في داخله يعتقد أن الحلال هو الحلال ، والحرام هو الحرام ، فما بدل الدين ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب ، وهاتان الدرجتان هما من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الآية ، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب والعصيان ؛ لأنه ما حرم الحلال ولا أحل الحرام ، وإنما فعل الحرام من جهة العصيان ، وجعل الحلال حراما من جهة العصيان ، لا من جهة تبديل أصل الدين . ويريد الشيخ - رحمه الله - بذكر الرهبان وبإيراده للآية : التنبيه على أن الطاعة في تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، جاءت أيضا من جهة الرهبان العباد ، وهذا موجود عند المتصوفة وأهل الغلو في التصوف ، والغلاة في تعظيم رؤساء الصوفية ، فإنهم أطاعوا مشايخهم والأولياء الذين زعموا أنهم أولياء ، أطاعوهم في تغيير الملة ، فهم يعلمون أن السنة هي كذا(22/94)
وكذا ، وأن خلافها بدعة ، ومع ذلك أطاعوهم تعظيما للشيخ ، وتقديسا للولي ، أو يعلمون أن هذا شرك والدلائل عليه من القرآن والسنة ظاهرة ، لكن تركوه وأباحوا ذلك الشرك وأحلوه ؛ لأن شيخهم ومقدمهم ورئيس طريقتهم أحله ، وهذا كان في نجد كثيرا إبان ظهور الشيخ بدعوته ، وهو موجود في كثير من الأمصار ، وهو نوع من اتخاذ أولئك العباد أربابا من دون الله - جل وعلا ، وهذا المقام أيضا فيه تفصيل على نحو الدرجتين اللتين ذكرتهما عن شيخ الإسلام - رحمه الله - .(22/95)
باب قول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } [ النساء : 60 - 62 ] .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } . [ البقرة : 11 ] ، وقوله : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] ، وقوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] .(22/96)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » (1) قال النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح .
وقال الشعبي : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ، وقال المنافق : نتحاكم إلى اليهود ؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه فنزلت { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } . الآية (2) .
وقيل : نزلت في رجلين اختصما ، فقال أحدهما : نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر إلى كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر ، فذكر له أحدهما القصة ، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم : أكذلك ؟ قال : نعم ، فضربه بالسيف فقتله (3) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على معرفة فهم الطاغوت .
الثانية : تفسير آية البقرة : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ } . الآية .
_________
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في « السنة» (15) والحديث ضعيف .
(2) أخرجه ابن جرير في « التفسير (9891) و (9892) و (9893) .
(3) أخرجه الثعلبي كما في « الدر المنثور» عن ابن عباس ، وأخرجه الطبري في « التفسير » من طريق مجاهد (1 -99) بإسناد صحيح . وانظر« فتح الباري » 5 / 37 .(22/97)
الثالثة : تفسير آية الأعراف : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } .
الرابعة : تفسير { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } .
الخامسة : ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى .
السادسة : تفسير الإيمان الصادق والكاذب .
السابعة : قصة عمر مع المنافق .
الثامنة : كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الشرح :(22/98)
هذا الباب من الأبواب العظيمة المهمة في هذا الكتاب ، وذلك لأن إفراد الله - جل وعلا - بالوحدانية في ربوبيته وفي إلهيته يتضمن ويقتضي ويستلزم - جميعا - أن يفرد في الحكم ، فكما أنه - جل وعلا - لا حكم إلا حكمه في ملكوته ، فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس وفي الفصل بينهم ، فالله - جل وعلا - هو الحكم ، وإليه الحكم سبحانه ، قال - جل وعلا - : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر : 12 ] ، . وقال - جل وعلا - { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } [ الأنعام : 57 ] فتوحيد الله - جل وعلا - في الطاعة وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكمين لما أنزل الله - جل وعلا - على رسوله . فترك تحكيم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بحكم الجاهلية ، أو بحكم القوانين ، أو بحكم سواليف البادية ، أو بكل حكم مخالف لحكم الله - جل وعلا - هذا من الكفر الأكبر بالله - جل جلاله - ومما يناقض كلمة التوحيد : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .(22/99)
وقد عقد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب ليبين أن الحكم بما أنزل الله فرض ، وأن ترك الحكم بما أنزل الله وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين وتنزيل ذلك منزلة القرآن أن ذلك شرك أكبر بالله - جل وعلا - ، وكفر مخرج من ملة الإسلام .
قال الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في أول رسالته " تحكيم القوانين " : إن من الكفر الأكبر المستبين ، تنزيل القانون اللعين ، منزلة ما نزل به الروح الأمين ، على قلب سيد المرسلين ، ؛ ليكون حكما بين العالمين ، مناقضة ومحادة لما نزل من رب العالمين . انتهى كلامه بمعناه .(22/100)
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة ، وإفراده بالحكم ، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، كل ذلك يقتضي ألا يحكم إلا بشرعه ؛ فلهذا كان الحكم بالقوانين الوضعية ، أو الحكم بسواليف البادية ، من الكفر الأكبر بالله - جل وعلا - ، ؛ لقوله تعالى - هنا في هذه الآية - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } [ النساء : 60 ] فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة جلية ، وهي : أن التحاكم إلى غير شرع الله قدح في أصل التوحيد ، وأن الحكم بشرع الله واجب ، وأن تحكيم القوانين ، أو سواليف البادية أو أمور الجاهلية ، مناف لشهادة . أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ؛ فإن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله أن يطاع فيما أمر ، وأن يصدق فيما أخبر ، وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .(22/101)
فالحكم بين المتخاصمين لا بد أن يرجع فيه إلى حكم من خلق المتخاصمين ، ومن خلق الأرض والسماوات ، فالحكم الكوني القدري لله - جل وعلا - وكذلك الحكم الشرعي لله - جل وعلا - فيجب ألا يكون بين العباد إلا تحكيم أمر الله - جل وعلا - فإن ذلك هو حقيقة التوحيد في طاعة الله - جل وعلا - في مسائل التخاصم بين الخلق .(22/102)
" باب قول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } [ النساء : 60 ] " : قوله { يَزْعُمُونَ } يدل على أنهم كذبة ، فلا يجتمع الإيمان مع إرادة الحكم والتحاكم إلى الطاغوت ، قوله : ( يريدون ) هذا ضابط مهم ، وشرط في نفي أصل الإيمان عمن تحاكم إلى الطاغوت ، فإن من تحاكم إلى الطاغوت قد يكون بإرادته - وهي الطواعية والاختيار والرغبة في ذلك وعدم الكراهة - ، وقد يكون بغير إرادته ، بأن يكون مجبرا على ذلك ، وليس له في ذلك اختيار ، وهو كاره لذلك ، فالأول هو الذي ينتفي عنه الإيمان ، إذ لا يجتمع الإيمان بالله وبما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت ، فالإرادة شرط ؛ لأن الله - جل وعلا - جعلها في ذلك مساق الشرط ، فقال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } و { أَنْ يَتَحَاكَمُوا } هذا مصدر ، . يعني : يريدون التحاكم إلى الطاغوت ، والطاغوت . اسم لكل ما تجاوز به العبد حده من متبوع ، أو معبود ، أو مطاع - كما تقدم بيانه - .(22/103)
قوله : { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } : يعني أن يكفروا بالطاغوت ، وأن يكفروا بكل تحاكم إلى غير شرع الله - جل وعلا - ، فالأمر بالكفر بالتحاكم إلى الطاغوت أمر واجب ، ومن إفراد التوحيد ، ومن إفراد تعظيم الله - جل وعلا - في ربوبيته ، فمن تحاكم إلى الطاغوت بإرادته ، فقد انتفى عنه الإيمان أصلا ، كما دلت عليه الآية .
قوله : { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } دل ذلك على أن هذا من وحي الشيطان ، ومن تسويله .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] الإفساد في الأرض : الإشراك بالله ، وبتحكيم غير شرع الله ، فالأرض إصلاحها بالشريعة والتوحيد ، وإفسادها بالشرك بأنواعه الذي منه الشرك في الطاعة ؛ ولهذا ساق الشيخ هذه الآية تحت هذا الباب ، لأجل أن يبين لك أن صلاح الأرض بالتوحيد الذي منه إفراد الله - جل وعلا - بالطاعة وأن لا يحاكم إلا إلى شرعه ، وأن إفساد الأرض بالشرك ، الذي منه أن يجعل حكم غير الله - جل وعلا - جائز التحاكم إليه .(22/104)
وهذه الآية ظاهرة في أن من خصال المنافقين أنهم يسعون في الشرك وفي وسائله وأفراده ويقولون : إنما نحن مصلحون وفي الحقيقة أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ؛ لأنهم إذا أرادوا الشرك ورغبوا فيه وحاكموا وتحاكموا إلى غير شرع الله فإن ذلك هو الفساد والسعي فيه سعي في الإفساد .(22/105)
وقوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ] وحكم الجاهلية هو : أن يحكم بعضهم على بعض ، بأن يسن البشر شريعة فيجعلونها حكما ، والله - جل وعلا - هو الذي خلق العباد ، وهو أعلم بما يصلحهم ، وما فيه العدل في الفصل بين الناس في أقضيتهم وخصوماتهم ، فمن حاكم إلى شرائع الجاهلية فقد حكم البشر ، ومعنى ذلك أنه اتخذه مطاعا من دون الله ، أو جعله شريكا لله - جل وعلا - في عبادة الطاعة ، والواجب أن يجعل العبد حكمه وتحاكمه إلى الله - جل وعلا - دون ما سواه ، وأن يعتقد أن حكم الله - جل وعلا - هو أحسن الأحكام ، { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [ الأنعام : 114 ] وقال هنا : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فدل على أن حكم غيره إنما هو - كما قال طائفة - زبالة أذهان ونحاتة أفكار لا تساوي شيئا عند من عقل تصرف الله - جل وعلا - في ملكه وملكوته وأن ليس ثم حكم إلا حكم الرب - جل وعلا - .(22/106)
وهذه المسألة - أعني مسألة التحاكم إلى غير شرع الله - من المسائل التي يقع فيها خلط كثير ، خاصة عند الشباب في هذه البلاد وفي غيرها ، وهي من أسباب تفرق المسلمين ؛ لأن نظر الناس فيها لم يكن واحدا ، والواجب أن يتحرى طالب العلم ما دلت عليه الأدلة وما بين العلماء من معاني تلك الأدلة وما فقهوه من أصول الشرع والتوحيد وما بينوه في تلك المسائل .
ومن أوجه الخلط في ذلك : أنهم جعلوا المسألة - مسألة الحكم والتحاكم - واحدة ، . يعني : جعلوها صورة واحدة ، وهي متعددة الصور ، فمن صورها : أن يكون هناك تشريع لتقنين مستقل ، يضاهى به حكم الله - جل وعلا - . هذا التقنين من حيث وضعه كفر ، والواضع له ، والمشرع والسان لذلك ، وجاعل هذا التشريع منسوبا إليه وهو الذي حكم بهذه الأحكام ، هذا المشرع كافر ، وكفره ظاهر ؛ لأنه جعل نفسه طاغوتا ، فدعا الناس إلى عبادته ، عبادة الطاعة وهو راض ، وهناك من يحكم بهذا التقنين - وهذه الحالة الثانية - فالمشرع حالة ، ومن يحكم بذلك التشريع حالة ، ومن يتحاكم إليه حالة ، ومن يجعله في بلده من جهة الدول هذه حالة رابعة .(22/107)
فصارت عندنا الأحوال أربعا : المشرع ، ومن أطاعه في جعل الحلال حراما والحرام حلالا ومناقضة شرع الله ؛ هذا كافر . ومن أطاعه في ذلك فقد اتخذه ربا من دون الله . والحاكم بذلك التشريع فيه تفصيل : فإن حكم مرة أو مرتين أو أكثر من ذلك ولم يكن ذلك ديدنا له وهو يعلم أنه عاص بتحكيم بغير شرع الله ، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب ، ولا يكفر حتى يستحل ؛ ولهذا تجد أن بعض أهل العلم يقول : الحاكم بغير شرع الله لا يكفر إلا إذا استحل ، وهذا صحيح ، ولكن لا تنزل هذه الحالة على حالة التقنين والتشريع ، كما قال ابن عباس : ليس الكفر الذي تذهبون إليه ، هو كفر دون كفر . . يعني : أن من حكم في مسألة أو في مسألتين بهواه بغير شرع الله وهو يعلم أنه عاص ولم يستحل ، هذا كفر دون كفر .
أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتا ويحكم دائما ويلزم الناس بغير شرع الله ، فهذا من أهل العلم من قال : يكفر مطلقا ككفر الذي سن القانون ؛ لأن الله - جل وعلا - قال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقا طاغوتا وقال : { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } .(22/108)
ومن أهل العلم من . قال : حتى هذا النوع لا يكفر حتى يستحل ؛ لأنه قد يعمل ذلك ويحكم وهو يعتقد في نفسه أنه عاص ، فله حكم أمثاله من المدمنين على المعصية الذين لم يتوبوا منها . والقول الأول - وهو أن الذي يحكم دائما بغير شرع الله ويلزم الناس بغير شرع الله أنه كافر - هو الصحيح - عندي - وهو قول الجد الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في رسالته تحكيم القوانين " ؛ لأنه لا يصدر في الواقع من قلب قد كفر بالطاغوت ، بل لا يصدر إلا ممن عظم القانون ، وعظم الحكم بالقانون .
الحال الثالثة : حال المتحاكمين ، يعني : الذي يذهب هو وخصمه ويتحاكمون إلى قانون ، فهذا فيه تفصيل - أيضا - ، وهو : إن كان يريد التحاكم إلى الطاغوت ، وله رغبة في ذلك ، ويرى أن الحكم بذلك سائغ ولا يكرهه ، فهذا كافر أيضا : ؛ لأنه داخل في هذا الآية ، ولا تجتمع - كما قال العلماء - إرادة التحاكم إلى الطاغوت مع الإيمان بالله ، بل هذا ينفي هذا ، والله - جل وعلا - قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } .(22/109)
وأما إن كان لا يريد التحاكم ولا يرضاه ، وإنما أجبر على ذلك ، كما يحصل في البلاد الأخرى ، من إلزامه بالحضور مع خصمه إلى قانوني أو إلى قاض يحكم بالقانون ، أو أنه علم أن الحق له في الشرع فرفع الأمر إلى القاضي في القانون لعلمه أنه يوافق حكم الشرع ، فهذا الذي رفع أمره في الدعوى على خصمه إلى قاض قانوني لعلمه أن الشرع يعطيه حقه وأن القانون وافق الشرع في ذلك ، فهذا الأصح أيضا - عندي - أنه جائز .
وبعض أهل العلم يقول : يتركه ولو كان الحق له ، والله - جل وعلا - وصف المنافقين بقوله : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } [ النور : 49 ] فالذي يرى أن الحق ثبت له في الشرع وما أجاز لنفسه أن يترافع إلى غير الشرع إلا لأنه يأتيه ما جعله الله - جل وعلا - له مشروعا ، فهذا لا يدخل في إرادة التحاكم إلى الطاغوت فهو كاره ولكنه حاكم إلى الشرع ، فعلم أن الشرع يحكم له فجعل الحكم الذي عند القانوني وسيلة للوصول إلى الحق الذي ثبت له شرعا .(22/110)
الحال الرابعة : حال الدولة التي تحكم بغير الشرع ، تحكم بالقانون ، فالدول التي تحكم بالقانون - أيضا - فقد فصل الشيخ محمد بن إبراهيم الكلام في هذه المسألة في فتاويه ، وخلاصة قوله : أن الكفر بالقانون فرض ، وأن تحكيم القانون في الدول إن كان خفيا نادرا فالأرض أرض إسلام ، . يعني : أن الدولة دولة إسلام ، فيكون له حكم أمثاله من الشركيات التي تكون في الأرض ، قال : وإن كان ظاهرا فاشيا ، فالدار . دار كفر ، . يعني : الدولة دولة كفر ، فيصبح الحكم على الدولة راجع إلى هذا التفصيل :(22/111)
إن كان تحكيم القانون قليلا وخفيا ، فهذه لها حكم أمثالها من الدول الظالمة ، أو التي لها ذنوب وعصيان ووجود بعض الشركيات في دولتها . وإن كان ظاهرا فاشيا - والظهور يضاده الخفاء ، والفشو يضاده القلة - قال : فالدار دار كفر ، وهذا التفصيل هو الصحيح ؛ لأننا نعلم أنه صار في دول الإسلام تشريعات غير موافقة لشرع الله - جل وعلا - والعلماء في الأزمنة الأولى ما حكموا على الدار بأنها دار كفر ولا على تلك الدول بأنها دول كفرية إلا لأن الشرك له أثر في الدار ، وإذا قلنا : الدار فنعني الدولة ، فمتى كان التحاكم إلى الطاغوت ظاهرا فاشيا فالدولة دولة كفر ، ومتى كان قليلا خفيا أو كان قليلا ظاهرا وينكر ، فالأرض أرض إسلام ، والدار دار إسلام ، والدولة دولة إسلام .
فهذا التفصيل يتضح به هذا المقام وبه تجمع بين كلام العلماء ولا تجد مضادة بين قول عالم وعالم ولا تشتبه المسألة - إن شاء الله تعالى - .(22/112)
" باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات "
وقول الله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .
وفي صحيح البخاري قال علي : " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟! " (1) .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك ، فقال : ما فرق هؤلاء ، يجدون رقة عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه ؟ " (2) . انتهى .
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك ، فأنزل الله فيهم : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } (3) .
فيه مسائل :
الأولى : عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات .
الثانية : تفسير آية الرعد .
الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع .
الرابعة : ذكر العلة : أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ، ولو لم يتعمد المنكر .
الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك ، وأنه أهلكه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه البخاري (127) .
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20895) .
(3) أخرجه ابن جرير في التفسير (20397) .(22/113)
هذا الباب ترجم له إمام هذه الدعوة بقوله : " باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات " يعني : وما يلحقه من الذم ، وأن جحد شيء من الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد ومن خصال الكفار والمشركين .(22/114)
وقد ذكرنا فيما سبق أن توحيد الإلهية عليه براهين ، ومن براهينه توحيد المعرفة والإثبات وهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، فمن أدلة توحيد الإلهية توحيد الربوبية كما سبق في " باب قول الله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ الأعراف : 191 ] " ، وكذلك توحيد الأسماء والصفات برهان على توحيد الإلهية ، ومن حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الإلهية ؛ ؛ ولهذا تجد المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله وفي صفاته من هذه الأمة : من الجهمية ، والمعتزلة ، والرافضة ، والأشاعرة ، والماتريدية ، ونحو هؤلاء ، تجد أنهم لما انحرفوا في باب توحيد الأسماء والصفات لم يعلموا حقيقة معنى توحيد الإلهية ففسروا ( الإله ) بغير معناه وفسروا : ( لا إله إلا الله ) بغير معناها الذي دلت عليه اللغة ودل عليه الشرع ، وكذلك لم يعلموا متعلقات الأسماء والصفات وآثارها في ملك الله - جل وعلا - وسلطانه ؛ لهذا عقد الشيخ - رحمه الله - هذا الباب لأجل أن يبين أن تعظيم الأسماء والصفات من كمال التوحيد وأن جحد الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد ، فالذي يجحد اسما سمى(22/115)
الله به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك عنه وتيقنه فإنه يكون كافرا بالله - جل وعلا - كما قال سبحانه عن المشركين : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] .
والواجب على العباد من أهل هذه الملة ، أن يوحدوا الله - جل وعلا - في أسمائه وصفاته ، ومعنى توحيد الله في أسمائه وصفاته : أن يتيقن ويؤمن بأن الله - جل وعلا - ليس له مثيل في أسمائه ولا في صفاته كما قال ـ جل وعلا ـ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] فنفى وأثبت ، نفى أن يماثل الله شيء - جل وعلا - وأثبت له صفتي السمع والبصر .
قال العلماء : قدم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة أن التخلية تسبق التحلية ، فيجب أن يخلو القلب من كل براثن التمثيل ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه ، أو تشبيه خلق الله به ، فإذا خلا القلب من كل ذلك ، وبرئ من التشبيه والتمثيل ، أثبت ما يستحقه الله - جلا وعلا - من الصفات ، فأثبت هنا صفتين وهما السمع والبصر .(22/116)
وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات دون غيرهما من الصفات ، أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء ؛ لأن صفتي السمع والبصر مشتركة بين أكثر المخلوقات الحية ، فجل المخلوقات الحية التي حياتها بالروح والنفس لا بالنماء فإن السمع والبصر موجود فيها جميعا ، فالإنسان له سمع وبصر وسائر أصناف الحيوانات لها سمع وبصر ، فالذباب له سمع وبصر يناسبه ، والبعير له سمع وبصر يناسبه ، وكذلك الطيور ، والأسماك ، والدواب الصغيرة ، والحشرات كل له سمع وبصر يناسبه .(22/117)
ومن المتقرر عند كل عاقل أن سمع هذه الحيوانات ليس متماثلا ، وأن بصرها ليس متماثلا وأن سمع الحيوان ليس مماثلا لسمع الإنسان ، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات وكذلك البصر ، فإذا كان كذلك كان اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في السمع والبصر اشتراكا في أصل المعنى ، ولكل سمع وبصر بما قدر له وما يناسب ذاته ، فإذا كان كذلك ولم يكن وجود السمع والبصر في الحيوان وفي الإنسان مقتضيا لتشبيه الحيوان بالإنسان ، فكذلك إثبات السمع والبصر للملك الحي القيوم ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان أو في المخلوقات ، فلله - جل وعلا - سمع وبصر يليق به ، كما أن للمخلوق سمعا وبصرا يليق بذاته الحقيرة الوضيعة ، فسمع الله كامل مطلق من جميع الوجوه لا يعتريه نقص وبصره كذلك .(22/118)
واسم الله ( السميع ) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع ، وكذلك اسم الله ( البصير ) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر ، فدل ذلك على أن النفي مقدم على الإثبات ، وأن النفي يكون مجملا والإثبات يكون مفصلا ، فالواجب على العباد أن يعلموا أن الله - جل جلاله - متصف بالأسماء الحسنى وبالصفات العلى وأن لا يجحدوا شيئا من أسمائه وصفاته ، فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته فهو كافر ؛ لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين .
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله ، وهو سبب لمعرفة الله ، والعلم به ، بل إن العلم بالله ومعرفة الله - جل وعلا - تكون بمعرفة أسمائه وصفاته ، وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله - جل وعلا - ، وهذا باب عظيم ربما يأتي له زيادة إيضاح عند " باب قول الله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] .
فتلخص من هذا أن لقوله : " باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات " صلة وطيدة بكتاب التوحيد من جهتين :
الجهة الأولى : أن من براهين توحيد العبادة توحيد الأسماء والصفات .(22/119)
الثانية : أن جحد شيء من الأسماء والصفات شرك وكفر مخرج من الملة ، وأن من ثبت عنده الاسم ، أو ثبتت الصفة ، وعلم أن الله - جل وعلا - أثبتها لنفسه ، وأثبتها له سوله صلى الله عليه وسلم ثم جحدها ونفاها أصلا ، فإن هذا كفر ؛ لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة .(22/120)
" وقول الله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] . الآية " ، الرحمن : من أسماء الله - جل وعلا - والمشركون والكفار في مكة كانوا يقولون : لا نعلم الرحمن إلا رحمن اليمامة ، فكفروا باسم الله ( الرحمن ) ، وهذا كفر بنفسه ؛ ولهذا قال - جل وعلا - : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } يعني : باسم الله ( الرحمن ) ، وهذا اسم من أسماء الله الحسنى ، وهو مشتمل على صفة الرحمة ؛ لأن ( الرحمن ) فيه صفة الرحمة ومبني على وجه المبالغة ، فالرحمن أبلغ في اشتماله على صفة الرحمة من اسم ( الرحيم ) ؛ ولهذا لم يتسم به على الحقيقة إلا الله - جل وعلا - فهو من أسماء الله العظيمة التي لا يشركه فيها أحد ، أما ( الرحيم ) فقد أطلق الله - جلا وعلا - على بعض عباده بأنهم رحماء ، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم ، رحيم كما قال : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . [ التوبة : 128 . ] .(22/121)
والاسم والصفة بينهما ارتباط من جهة أن كل اسم لله - جل وعلا - مشتمل على صفة ، فأسماء الله ليست جامدة ، بل كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة ، فالاسم من أسماء الله يدل على مجموع شيئين بالمطابقة . وهما : الذات ، والصفة التي اشتمل عليها الاسم ، ويدل على أحدهما - الذات أو الصفة - بالتضمن ؛ ولهذا نقول : كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة من صفات الله ودال بالمطابقة على كل من الذات والصفة ، أي الذات المتصفة بالصفة حتى لفظ الجلالة ( الله ) الذي هو علم على المعبود بحق - جل وعلا - مشتق ، على الصحيح من قولي أهل العلم ؛ لأن أصله ( الإله ) حذفت همزته تخفيفا لكثرة دعائه وندائه بذلك في أصل العربية ، فهو مأخوذ من ( الإلهة ) وهي العبادة ، فلفظ الجلالة ( الله ) ليس اسما جامدا ، بل هو مشتق من ذلك .(22/122)
وجميع الصفات التي تتضمنها الأسماء كلها دالة على كمال الله - جل وعلا - وعلى عظمته ، فالعبد المؤمن إذا أراد أن يكمل توحيده فليعظم العناية بالأسماء والصفات ؛ لأن معرفة الاسم والصفة يجعل العبد يراقب الله - جل وعلا - وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده وقلبه وعلمه بالله ومعرفته ، كما سيأتي في تقاسيم الأسماء والصفات .(22/123)
" وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ " (1) هذا فيه دليل على أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد ؛ فإن من العلم ما هو خاص ، ولو كان نافعا في نفسه ومن أمور التوحيد ، لكن ربما لا يعرفه كثير من الناس ، وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات كبعض مباحث الأسماء والصفات ، وذكر بعض الصفات لله - جل وعلا - فإنها لا تناسب كل أحد حتى إن بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليه بعض المسائل الدقيقة في الأسماء والصفات ، ولكن يؤمرون بالإيمان بذلك إجمالا ، والإيمان بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب والسنة ، أما دقائق البحث في الأسماء والصفات فإنما هي للخاصة ، ولا تناسب العامة والمبتدئين في طلب العلم ؛ لأن منها ما يشكل ، ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يكذب الله ورسوله ، كما قال هنا علي رضي الله عنه : " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟! "
_________
(1) أخرجه البخاري (127) .(22/124)
فمناسبة هذا الأثر لهذا الباب : أن من أسباب جحد الأسماء والصفات أن يحدث المرء الناس بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات ؛ لأن عامة الناس عندهم إيمان إجمالي بالأسماء والصفات يصح معه توحيدهم وإيمانهم وإسلامهم ، فالدخول في تفاصيل ذلك غير مناسب إلا إذا كان المخاطب يعقل ذلك ويعيه ، وليس أكثر الناس كذلك ؛ ولهذا نهى الإمام مالك - رحمه الله - لما حدث عنده بحديث الصورة نهى المتحدث بذلك ؛ لأن العامة لا يحسنون فهم مثل هذه المباحث ، وهكذا في بعض المسائل في الأسماء والصفات لا تناسب العامة ، فقد يكون سبب الجحد تحديث الرجل ببحث لا يعقله ، فيؤول به ذلك إلى أن يجحد شيئا من العلم بالله - جل وعلا - ، أو يجحد شيئا من الأسماء والصفات .(22/125)
فالواجب على المسلم وبخاصة طالب العلم أن لا يجعل الناس يكذبون شيئا مما قاله الله - جل وعلا - أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووسيلة ذلك التكذيب أن يحدث الناس بما لا يعرفون ، وبما لا تبلغه عقولهم ، كما جاء في الحديث الآخر : " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (1) ، وقد بوب على ذلك البخاري في الصحيح في كتاب العلم بقوله : " باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه " ، وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي للمعلم والمتحدث والواعظ والخطيب أن يعيه ، وأن يحدث الناس بما يعرفون وأن يجعل تقوية التوحيد وإكمال توحيدهم والزيادة في إيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون .
_________
(1) أخرجه مسلم (14) .(22/126)
" وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك ، فقال : ما فرق هؤلاء ؟!! يجدون رقة عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه ؟ " (1) : هذا الرجل لما لم يعرف هذه الصفة انتفض ؛ لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه ، فخاف من تلك الصفة ، والواجب على المسلم أنه إذا سمع صفة من صفات الله في كتاب الله أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجريها مجرى جميع الصفات ، وهو أن إثبات الصفات لله - جل وعلا - إثبات بلا تكييف ، وبلا تمثيل ، فإثباتنا للصفات على وجه تنزيه الله - جل وعلا - عن المثيل والنظير في صفاته وأسمائه ، فله من كل اسم وصفة أعلى وأعظم ما يشتمل عليه من المعنى ؛ ولهذا قال ابن عباس هنا : " ما فرق هؤلاء ؟ " يعني : ما سبب خوف هؤلاء ؟ لماذا فرقوا ؟ خافوا من هذه الصفة ومن إثباتها .
قوله : " يجدون رقة عند محكمه " يعني : إذا خوطبوا بالمحكم الذي يعرفون ، وجدوا في قلوبهم رقة لذلك ، والمحكم : هو ما يعلم ، أي الذي يعلمه سامعه هذا هو المحكم .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20895) ، وابن أبي عاصم في السنة (485) .(22/127)
قوله : " ويهلكون عند متشابهه " فإذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئا لا تعقله عقولهم هلكوا عنده ، وخافوا ، وفرقوا ، وأولوا ، ونفوا أو جحدوا ، وهذا من أسباب الضلال .
والمتشابه : الذي يشتبه علمه على سامعه .
والقرآن والعلم والشريعة كلها محكمة ، وكلها متشابهة ، ومنها محكم ، ومنها متشابه ، فهذه ثلاثة أقسام :
فالأول : المحكم كما قال - جل وعلا - : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }{ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } [ هود : 1-2 ] فالقرآن كله محكم ، بمعنى : أن معناه واضح ، وأن الله - جل وعلا - أحكمه ، فلا اختلاف فيه ولا تباين ، وإنما يصدق بعضه بعضا كما قال - جل وعلا - : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [ النساء : 82 ] .(22/128)
والقرآن والشريعة أيضا متشابهة كلها ، بمعنى : أن بعضها يشبه بعضا ، فهذا الحكم يشبه غيره ، وهذه المسألة تشبه تلك ؛ لأنها تجري معها في قاعدة واحدة ، فنصوص الشريعة يصدق بعضها بعضا ويؤول بعضها إلى بعض وقد قال - جل وعلا - : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [ الزمر : 23 ] فقال : { كِتَابًا مُتَشَابِهًا } فالقرآن متشابه ، يعني : أن بعضه يشبه بعضا ، فهذا خبر في الجنة ، وهذا خبر في الجنة ، وبعض الأخبار يفصل بعضا ، وهذه قصة وهذه قصة ، وكل تصدق الأخرى وتزيدها تفصيلا ، وهكذا كل ما في القرآن .(22/129)
والقرآن أيضا والشريعة والعلم منه محكم ومنه متشابه باعتبار آخر ، كما جاء في آية آل عمران : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، فمنه محكم : وهو الذي اتضح لك علمه ، ومنه متشابه : وهو الذي اشتبه عليك علمه . وبهذا نعلم أنه ليس عند أهل السنة والجماعة - أتباع السلف الصالح - شيء من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد ، بمعنى أنه لا توجد مسألة من مسائل التوحيد ، أو من مسائل العمل يشتبه علمها على كل الأمة هذا لا يوجد ، بل ربما اشتبه على بعض الناس وبعضهم يعلم المعنى كما قال - جل وعلا - : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] على أحد وجهي الوقف ، فهذا المتشابه الموجود الذي هو قسيم للمحكم قد يشتبه على بعض الناس ، فإذا اشتبه عليك علم شيء من التوحيد أو من الشريعة فإن الواجب ألا تفرق عنده وألا تخاف وألا تتهم الشرع وإلا وقع في قلبك شيء من الزيغ ؛ لأن الذين يتبعون المتشابه بمعنى : لا يؤمنون به ، فإن هؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ ، وهذا هو الذي عناه(22/130)
ابن عباس رضي الله عنهما حين قال : " يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه " يريد به هذا الوجه من أن الذين يهلكون عند المتشابه هم أهل الزيغ الذين قال الله - جل وعلا - فيهم : { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] .(22/131)
فأهل الزيغ يتبعون المتشابه ابتغاء أحد أمرين : إما أن يبتغوا بالمتشابه الفتنة ، وإما أن يبتغوا به التأويل ، والواجب أن يرد المتشابه إلى المحكم ، فنعلم أن الشريعة يصدق بعضها بعضا ، وأن التوحيد بعضه يدل على بعض ، وكالقاعدة المعروفة في الصفات التي ذكرها عدد من الأئمة كالخطابي وشيخ الإسلام في التدمرية : " أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض " و " أن القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه وينهج على منواله " " ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [ الرعد : 30 ] " (1) ، فإنكار الصفة أو إنكار الاسم بمعنى عدم التصديق بذلك هذا جحد ، وهذا يختلف عن التأويل ، فالتأويل والإلحاد له مراتب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير (20397) .(22/132)
" باب قول الله تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } [ النحل : 83 ] .
قال مجاهد ما معناه : هو قول الرجل : هذا مالي ورثته عن آبائي . وقال عون بن عبد الله : يقولون : لولا فلان لم يكن كذا . وقال ابن قتيبة : يقولون : هذا بشفاعة آلهتنا .
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه « وإن الله تعالى قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . . » الحديث ، وقد تقدم - : وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به .
قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة والملاح حاذقا ، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير معرفة النعمة وإنكارها .
الثانية : معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير .
الثالثة : تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة .
الرابعة : اجتماع الضدين في القلب .
الشرح :(22/133)
هذا الباب من الأبواب العظيمة في هذا الكتاب وبخاصة في هذا الزمن ، لشدة الحاجة إليه ، وترجمه المصنف - رفع الله مقامه في الجنة - بقوله : " باب قول الله تعالى : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } فوصف الكفار في سورة النحل التي تسمى سورة النعم ، وصفهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وإنكار النعمة أن تنسب إلى غير الله ، وأن يجعل المتفضل بالنعمة غير الذي أسداها وهو الله جل جلاله .
فالواجب على العبد أن يعلم أن كل النعم من الله - جل وعلا - وأن كمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة كل نعمة إلى الله - جل وعلا - وأن إضافة النعم إلى غير الله نقص في كمال التوحيد ، ونوع شرك بالله جل وعلا ؛ ولهذا تكون مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد : أن ثمة ألفاظا يستعملها كثير من الناس في مقابلة النعم أو في مقابلة اندفاع النقم وتكون تلك الألفاظ نوع شرك بالله - جل وعلا - بل هي شرك أصغر بالله - جل وعلا - فنبه الشيخ - رحمه الله - بهذا الباب على ما ينافي كمال التوحيد من الألفاظ ، وأن نسبة النعم إلى الله - جل وعلا - واجبة .(22/134)
قوله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } : أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أن لفظ ( المعرفة ) يستعمل في القرآن وفي السنة غالبا فيما يذم من أخذ المعلومات كقوله - جل وعلا - : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] ، وكقوله في هذه الآية : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] . وهذا على جهة الأكثرية ، وإلا فقد وردت المعرفة بمعنى العلم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : " إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعرفوا الله ، فإن هم عرفوا الله . . » (1) فهذا يدل على أن بعض من روى الحديث من التابعين جعل المعرفة بمعنى العلم ، وهم حجة في هذا المقام فيدل على أن استعمال المعرفة بمعنى العلم لا بأس به .
_________
(1) تقدم.(22/135)
وهذا الباب معقود لألفاظ يكون استعمالها من الشرك الأصغر ، ذلك أن فيها إضافة النعمة إلى غير الله ، والله - جل وعلا - قال : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] وهذا نص صريح في العموم ؛ لأن مجيء النكرة في سياق النفي يدل على العموم ظهورا ، فإن سبقت النكرة بـ ( من ) دلت على العموم نصا ، والتنصيص في العموم معناه أنه لا يخرج شيء من أفراده ، فدلت الآية على أنه لا يخرج شيء من النعم أيا كان ذلك الشيء ، صغيرا كان أو كبيرا ، عظيما أو حقيرا ، لا يكون إلا من الله جل وعلا ، فكل النعم صغرت أو عظمت هي من الله - جل جلاله - وحده ، وأما العباد فإنما هم أسباب تأتي النعم على أيديهم ، وأسباب في إيصال النعمة إليك ، فمن كان سببا في معالجتك ، أو سببا في تعيينك ، أو سببا في نجاحك ، أو نحو ذلك لا يدل على أنه هو ولي النعمة ، أو هو الذي أنعم ، فإن ولي النعمة هو الرب جل وعلا ، وهذا من كمال التوحيد فإن القلب الموحد يعلم أنه ما ثم شيء في هذا الملكوت إلا والله - جل وعلا - هو الذي يرسله ، وهو الذي يمسك ما يشاء كما قال سبحانه : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا(22/136)
وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] فكل النعم من الله - جل وعلا - والعباد أسباب في ذلك ، فالواجب إذا أن تنسب النعمة إلى المسدي لا إلى السبب ؛ لأن السبب لو أراد الله - جل وعلا - لأبطل كونه سببا ، وهذا السبب إذا كان آدميا فقلبه بين إصبعين من أصابع الله - جل وعلا - لو شاء لصده عن أن يكون سببا ، أو أن ينفعك بشيء ، فالله - جل وعلا - هو ولي النعمة ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - : ما من أحد تعلق بمخلوق إلا وخذل ، وما من أحد تعلق بمخلوق في حصول نفع له أو اندفاع مكروه عنه إلا خذل ، وهذا في غالب المسلمين ؛ وذلك لأن الواجب على المسلم أن يعلق قلبه بالله ، وأن يعلم أن النعم إنما هي من عند الله ، والعباد أسباب يسخرهم الله - جل جلاله - وهذا هو حقيقة التوحيد ومعرفة تصرف الله - جل وعلا - في ملكوته .(22/137)
" قال مجاهد ما معناه : هو قول الرجل : هذا مالي ورثته عن آبائي " (1) : يعني أن قول الرجل " مالي ورثته عن آبائي " مناف لكمال التوحيد ونوع شرك ؛ لأنه نسب هذا المال إليه ونسبه إلى آبائه ، وفي الواقع أن هذا المال أنعم الله به على آبائه ثم أنعم الله به على هذا المؤمن ؛ إذ جعل الله - جل وعلا - قسمة الميراث تصل إليه ، وهذا كله من فضل الله - جل وعلا - ومن نعمته ، والوالد سبب في إيصال المال إليك ، ولهذا لا يجوز للوالد أو لصاحب المال أن يقسم الميراث على ما يريد هو ؛ لأن المال في الحقيقة ليس مالا له كما قال - جل وعلا - : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [ النور : 33 ] ، فهو مال الله - جل وعلا - يقسمه كيف يشاء « إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم » (2) فالواجب على العبد أن يعلم أن ما وصله من المال ، أو وصله من النعمة عن طريق آبائه هو من فضل الله - جل وعلا - ونعمته ، والده أو والدته أو قريبه سبب من الأسباب ، فيحمد الله - جل وعلا - على هذه النعمة ، ويقابل ذلك السبب بجزائه إما بدعاء وإما بغيره .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 14 / 157 .
(2) أخرجه أحمد 1 / 387 .(22/138)
" وقال عون بن عبد الله : يقولون : لولا فلان لم يكن كذا " (1) : كقول القائل : لولا الطيار لذهبنا في هلكة ، ولولا أن سائق السيارة كان ماهرا لذهبنا في كذا وكذا ، أو يقول : لولا أن الشيخ كان معلما وأفهمنا هذه المسألة لما فهمناها أبدا ، أو يقول : لولا المدير الفلاني لفصلت ، ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها تعليق حصول الأمر بهذه الواسطة . والأمر إنما حصل بقضاء الله وبقدره ، وبفضل الله وبنعمته من حصول النعم ، أو اندفاع المكروه والنقم ؛ ولهذا يجب على العبد أن يوحد فيقول : لولا الله ثم فلان ، فيجعل مرتبة السبب ثانية ولا يجعلها هي الأولى الوحيدة ؛ لأن الله - جل وعلا - هو المسدي للنعم المفضل بها .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 14 / 157 .(22/139)
قوله : " لولا فلان لم يكن كذا " إنما قال هنا : " فلان " من جهة كثرة الاستعمال ، أما في الواقع فإن الناس يستعملونها فيما يتعلقون به من جمادات ، كبيت ، أو سيارة ، أو طيارة ، أو بقعة ، أو مطر ، أو ماء ، أو سحاب ، أو هواء ، ونحو ذلك ، فنسبة النعمة إلى إنسان ، أو إلى بقعة ، أو إلى فعل فاعل ، أو إلى صنعة ، أو إلى مخلوق ، كل ذلك من نسبة النعم إلى غير الله ، وهو نوع من أنواع الشرك في اللفظ وهو من الشرك الأصغر بالله - جل وعلا - كما سيأتي في الباب بعده إن شاء الله .
وقال ابن قتيبة : يقولون : هذا بشفاعة آلهتنا " يعني : إذا حصلت لهم نعمة ، أو جاءتهم أمطار ، أو مال ، أو نجحوا في تجارتهم ، إذا حصل لهم ذلك توجهوا للأولياء ، أو توجهوا للأنبياء ، أو توجهوا للأصنام ، أو للأوثان ، فصرفوا لها شيئا من العبادة فقالوا : الآلهة شفعت لنا فلذلك جاءنا هذا الخير ، فيتذكرون آلهتهم وينسون أن المتفضل بذلك هو الله - جل وعلا - وأن الله سبحانه لا يقبل شفاعة شركية من تلك الشفاعات التي يذكرونها .(22/140)
" وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه : « وإن الله تعالى قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . . . » الحديث ، وقد تقدم : وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ، ويشرك به . قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقا ، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير : وهذا باب ينبغي الاهتمام به وتنبيه الناس عليه ؛ لأن نعم الله على أهل الإيمان في كل مكان كثيرة لا حصر لها ؛ . ولهذا يجب أن تنسب النعم إلى الله - جل وعلا - وأن يذكر بها وأن يشكر ؛ لأن من درجات شكر النعمة أن تضاف إلى من أسداها كما قال تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] ، فأول درجات الشكر التحديث بالنعمة كأن تقول : هذا من فضل الله ، وهذه نعمة الله ، فإذا التفت القلب إلى مخلوق فإنه يكون قد أشرك هذا النوع من الشرك المنافي لكمال التوحيد .(22/141)
" باب قول الله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " [ البقرة : 22 ] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية : الأنداد : هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل ، على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت . وقول الرجل : لولا الله وفلان ، لا تجعل فيها فلانا ، هذا كله شرك . رواه ابن أبي حاتم (1) .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » (2) . رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم .
وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا (3) .
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان » . رواه أبو داود بسند صحيح (4) ، وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول : أعوذ بالله وبك (5) ، ويجوز أن يقول : بالله ثم بكم ، قال : ويقولون : لولا الله ثم فلان ولا تقولوا : لولا الله وفلان .
فيه مسائل :
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (230) .
(2) أخرجه الترمذي (1535) والحاكم 1 / 18 و 4 / 297 وصححه ووافقه الذهبي .
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8 / 469 ، والطبراني في الكبير« (8902) .
(4) أخرجه أبو داود (4980) ، وصححه النووي .
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (347) .(22/142)
الأولى : تفسير آية البقرة في الأنداد .
الثانية : أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر .
الثالثة : أن الحلف بغير الله شرك .
الرابعة : أنه إذا حلف بغير الله صادقا ، فهو أكبر من اليمين الغموس .
الخامسة : الفرق بين الواو و( ثم ) في اللفظ .
الشرح :
هذا " باب قول الله تعالى { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] " ، وفيه بيان أن هناك ألفاظا فيها التنديد ، والتنديد معناه : أن تجعل غير الله ندا له ، فيكون التنديد في نسبة النعم إلى غير الله ، ويكون في الحلف بغير الله ، ويكون في قول : ما شاء الله وشاء فلان ، وغير ذلك من الألفاظ .
فهذا الباب فيه بيان أن التنديد يكون في الألفاظ ، والتنديد هنا المراد به : التنديد الأصغر الذي هو شرك أصغر في الألفاظ وليس التنديد الكامل الذي هو الشرك الأكبر .(22/143)
" قوله - جل وعلا - : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] : هذا عام يشمل اتخاذ الأنداد بالشرك الأكبر ويشمل أيضا اتخاذ الأنداد بأنواع الإشراك التي دون الشرك الأكبر ؛ لأن قوله : ( أندادا )نكرة في سياق ، النهي فتعم جميع أنواع التنديد ، والتنديد منه ما هو مخرج من الملة ، ومنه ما لا يخرج من الملة ؛ ولهذا ساق عن ابن عباس أنه قال : " الأنداد : هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل " فجعل مما يدخل في هذه الآية الشرك الخفي أو شرك الألفاظ التي تخفى على كثير من الناس .
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : من أن حقيقة التوحيد ألا يكون في الملة إلا الله - جل وعلا - وألا يتلفظ بشيء فيه جعل غير الله - جل وعلا - شريكا أو ندا له كمن حلف بغير الله أو كمن قال : ما شاء الله وشاء فلان ، أو لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ونحو هذه الألفاظ .(22/144)
قوله " لا تجعل فيها فلانا ، هذا كله به شرك " يعني لا تقل : لولا الله وفلان ، بل قل : لولا الله لحصل كذا ، هذا هو الأكمل ، فالذي ينبغي في استعمال هذه الألفاظ أن تنسب إلى الله ، فظهر لنا هنا أن ثمة : درجتين كاملة ، جائزة ، وغير ذلك لا يجوز :
فالدرجة الأولى - وهي الكاملة - : أن يقول : لولا الله لما حصل كذا .
والدرجة الثانية وهي الجائزة - : أن يقول : لولا الله ثم فلان لما حصل كذا ، فهذه جائزة وهي توحيد ، ؛ لجعله مرتبة فلان نازلة عن مرتبة إنعام الله ، ولكن هذا ليس هو الكمال ؛ ولهذا قال ابن عباس هنا : " لا تجعل فيها فلانا " ؛ لأن الكمال أن تقول : لولا الله لأتانا اللصوص ، ولولا نعمة الله لما حصل كذا ، ولولا فضل الله لما حصل كذا ، هذه هي المرتبة الكاملة ، والجواز أن تقول : لولا الله ثم فلان .(22/145)
وأما الذي لا يجوز والذي قال فيه ابن عباس : " كله به شرك " فهو أن يقول : لولا الله وفلان ، بالواو ؛ لأن ( الواو ) تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه دون تراخ في المرتبة ، أما ( ثم ) فتفيد التراخي في المرتبة ، أو التراخي في الزمن ، على ما هو معلوم في هذا المبحث في حروف المعاني من النحو ؛ فلهذا كان قول القائل : لولا الله وفلان شرك ، أو ما شاء الله وشاء فلان شرك أصغر . والواجب أن يقول : لولا الله ، أو أن يقول : ما شاء الله وحده ، كما سيأتي في باب بعد ذلك .
فاتضح من هذا أن الكمال أن ينسب ذلك إلى الله - جل وعلا - وحده ، وأن الجائز أن يقول : لولا الله ثم فلان .
" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم " قوله : « من حلف بغير الله » يعني : عقد اليمين بغير الله - جل وعلا - « فقد كفر أو أشرك »(22/146)
واليمين هي : تأكيد الكلام بمعظم به بين المتكلم والمخاطب ، بأحد حروف القسم الثلاثة : الواو ، أو الباء ، أو التاء ، والواجب ألا يؤكد الكلام إلا بالله - جل وعلا - ؛ لأن المعظم على الحقيقة هو الله - جل وعلا - ، وأما البشر فليسوا بمعظمين بحيث يحلف بهم ، نعم ربما عظموا بشيء يناسب ذاتهم التعظيم البشري اللائق بهم ، أما التعظيم الذي يصل إلى حد أن يحلف به فهذا إنما هو لله - جل وعلا - .
فالواجب إذا ألا يؤكد الكلام إلا بالله - جل وعلا - إذا أراد الحلف ، فمن كان حالفا فليحلف بالله ، وليؤكد الكلام بالله - جل وعلا - باستخدام أحد الأحرف الثلاثة : الواو ، أو الباء ، أو التاء .(22/147)
وأما إذا استخدم غير هذه الأحرف كلفظ ( في ) ونحو ذلك فإنه لا يعد حلفا إلا إن كان في قلبه أنه يمين ولكنه أخطأ التعبير ، فالعبرة بما في النفس من المعاني ، أما ما في اللفظ فإنه في هذا المقام يؤول إلى ما في القلب ؛ لهذا قال هنا : « من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك » ، وإنما كفر أو أشرك ؛ لأنه عظم هذا المخلوق كتعظيم الله - جل وعلا - في الحلف به وكفره وشركه شرك أصغر ، وقد يصل إلى أن يشرك بالحلف شركا أكبر إذا عظم المحلوف به تعظيم الله - جل وعلا - في العبادة .
فالحلف بغير الله تعالى تعظيم لذلك المحلوف به في الحلف ، فإن انضاف إلى ذلك تعظيم المحلوف به تعظيم عبادة صار شركا أكبر ، كحلف الذين يعبدون الأوثان بأوثانهم فإنه شرك أكبر ؛ لأنه يعظم ذلك الوثن ، أو ذلك القبر ، أو تلك البقعة ، أو ذلك المشهد ، أو ذلك الولي ، يعظمه كتعظيم الله في العبادة فيكون حلفه حلفا بمعظم به في العبادة ، ويكون شركا أصغر بمجرد الحلف بغير الله ، فكل من حلف بغير الله فهو مشرك الشرك الأصغر ، قد يصل في بعض الأحوال إلى أن يكون مشركا الشرك الأكبر إذا كان يعبد هذا الذي حلف به .(22/148)
وهناك يمين بغير الله في اللفظ فهذه أيضا شرك ، ولو لم يعقد القلب اليمين ، كمن يكون دائما على لسانه استعمال الحلف بالنبي ، أو بالكعبة ، أو بالأمانة ، أو بولي ، ونحو ذلك وهو لا يريد حقيقة اليمين ، وإنما يجري على لسانه مجرى اللغو ، فهذا أيضا شرك ؛ لأنه تعظيم لغير الله - جل وعلا - .
" وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " : هذا لأجل عظم الحلف بغير الله - جل وعلا - وأن الحلف بغير الله شرك ، وأما الكذب فإنه كبيرة والشرك الأصغر هذا أعظم من الكبائر ؛ فلهذا استحب أن يكذب مع التوحيد وألا يصدق مع الشرك ؛ لأن حسنة التوحيد أعظم من سيئة الكذب ؛ ولأن سيئة الشرك أشنع من سيئة الكذب .(22/149)
" وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان » رواه أبو داود بسند صحيح " : : هذا من جهة الإرشاد إلى ما ينبغي أن يقال ، فلا تجعل مشيئة العبد مقارنة مشتركة مع مشيئة الله ، بل الواجب أن ينزه العبد لفظه حتى يعظم الله - جل وعلا - ، والقلب المعظم لله - جل وعلا - لا يمكن أن يستعمل لفظا فيه جعل لمخلوق في مرتبة الله - جل وعلا - في المشيئة ، أو في الحلف ، أو في الصفات ونحو ذلك ؛ لهذا قال : « لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان » وهذا النهي للتحريم ؛ لأن هذا التشريك في المشيئة ، شرك أصغر بالله - جل وعلا - .
قوله : « ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان » : لأن ( ثم ) تفيد التراخي في المشيئة ، وهذا لأن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله - جل وعلا - قال تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 29 ] فمشيئة العبد ناقصة ومشيئة الله كاملة .(22/150)
" وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول : أعوذ بالله وبك ) : لأن ( الواو ) تقتضي التشريك في الاستعاذة ، والاستعاذة كما ذكرنا لها جهتان : جهة ظاهرة ، وجهة باطنة ، أما الجهة الباطنة وهي : الالتجاء ، والاعتصام ، والرغب ، والرهب ، وإقبال القلب على المستعاذ به ، فهذه لا تصلح إلا لله .
والاعتماد في الاستعاذة على المخلوق فيما أقدره الله عليه جائز ، ؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق ظاهرا فيما أقدره الله عليه جائزة ؛ لهذا " كان يكره أن يقول : أعوذ بالله وبك " والكراهة في استعمال السلف يراد منها غالبا المحرم ، وقد ترد لغير المحرم ولكن يستعملونها فيما لا نص فيه .
ومجيء الكراهة بمعنى التحريم في القرآن في قوله تعالى لما ذكر الكبائر في سورة الإسراء : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [ الإسراء : 38 ] ، وفي القراءة الأخرى : كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها أي : محرما التحريم الشديد .
" ويجوز أن يقول : بالله ثم بك" : لما فيها من التراخي " قال : ويقولون : لولا الله ثم فلان ، ولا تقولوا : لولا الله وفلان "(22/151)
" باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله"
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله » . رواه ابن ماجه بسند حسن ) . (1) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء .
الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى .
الثالثة : وعيد من لم يرض .
الشرح :
" باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله " ، قوله : " لم يقنع " استفاد منه كثير من الشراح أن المراد بهذا الباب ما يكون عند توجه اليمين على أحد المتخاصمين ، فإنه إذا كانت الخصومة ، وتوجهت اليمين في الدعوى فإن الواجب على الآخر أن يقنع بما حلف عليه الآخر بالله - جل وعلا - فخصوا ما جاء من الدليل ، وخصوا هذا الباب بمسألة الدعاوى ، يعني : اليمين عند القاضي .
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (2101) ، وحسنه الحافظ في « فتح الباري » 11 / 535 .(22/152)
وقال بعض أهل العلم : إن الحديث عام ، والحديث حسنه طائفة من أهل العلم ، كما ذكر الشيخ - رحمه الله - فقوله : « من حلف له بالله فليرض » هذا عام في كل حلف ، سواء كان عند القاضي أو لم يكن عند القاضي ، وهذا القول أوجه وأصوب ظاهرا ؛ لأن سبب الرضا بما حلف عليه بالله هو التعظيم لله - جل وعلا - ؛ فإن تعظيم الله في قلب العبد يجعله يصدق من حلف له بالله ، ولو كان كاذبا ، لكن له ألا يبني عليه لكن يصدقه ولا يظهر تكذيبا له لتعظيم الله - جل وعلا - « من حلف له بالله فليرض » فليجعل توحيده وتعظيمه لله - جل وعلا - له وكذب ذاك في الحلف بالله عليه .
وقال طائفة من أهل العلم - وهذا قول ثالث - : إن هذا راجع إلى من عرف صدقه في اليمين ، أما من كان فاجرا فاسقا لا يبالي إذا حلف أن يحلف كاذبا فإنه لا يجب تصديقه ؛ لأن تصديقه - والحالة هذه - مع قيام اليقين أو القرائن العامة بكذبه ليس بداخل في الحديث ؛ لقوله في أول الحديث : « من حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض » فتعلق قوله : « من حلف له بالله » بما قبله ، وهو قوله : « من حلف بالله فليصدق » ، يعني من حلف له من كان صادقا ، فليرض .(22/153)
قوله : « ومن لم يرض » أي : من لم يرض باليمين بالله « فليس من الله » ، فيدل على أن فعله من الكبائر ؛ لأن قوله : « ليس من الله » هذا ملحق لفعله بالكبائر .
وهذا الباب فيه نوع تردد عند الشراح ، والظاهر في المراد منه أن الإمام المصنف - رحمه الله - ذكره تعظيما لله - جل وعلا - ، وقد ذكر في الباب قبله من حلف بغير الله ، وأن حكمه أنه مشرك ، فهذا فيه أن الحلف بالله يجب تعظيمه ، وأن لا يحلف المرء بالله إلا صادقا ، وأن لا يحلف بآبائه ، وأن لا يحلف بغير الله ، ومن حلف له بالله فواجب عليه الرضا تعظيما لاسم الله ، وتعظيما لحق الله - جل وعلا - ، حتى لا يقع في قلبه استهانة باسم الله الأعظم ، وعدم اكتراث به أو بالكلام المؤكد به .
فتلخص من هذا أن كثيرا من أهل العلم جعلوا قول المصنف : " باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله " خاصا بما إذا توجهت اليمين على أحد المتخاصمين عند القاضي ، وأن طائفة من أهل العلم قالوا في قوله : « ومن حلف له بالله فليرض » : إن هذا عام في كل من حلف له بالله ، فإنه يجب عليه الرضا ، وآخرون قالوا : يفرق بين من ظاهره الصدق ، ومن ظاهره الكذب ، والله أعلم(22/154)
" باب قول : ما شاء الله وشئت"
عن قتيلة : « أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تشركون تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون : والكعبة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت » . رواه النسائي وصححه (1) .
وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال : " أجعلتني لله ندا ؟ بلى ما شاء الله وحده » (2) .
_________
(1) أخرجه النسائي 7 / 6 ، وفي عمل اليوم والليلة (986) ، وصححه الحافظ في الإصابة 4 / 389 .
(2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (988) .(22/155)
ولابن ماجه عن الطفيل - أخي عائشة لأمها - قال : « رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال : هل أخبرت بها أحدا قلت : نعم ، قال : فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : معرفة اليهود بالشرك الأصغر .
الثاني : فهم الإنسان إذا كان له هوى .
الثالثة : قوله صلى الله عليه وسلم : « أجعلتني لله ندا » فكيف بمن قال : " مالي من ألوذ به سواك " والبيتين بعده ؟ .
الرابعة : أن هذا ليس من الشرك الأكبر ، لقوله : يمنعني كذا وكذا "
_________
(1) أخرجه . ابن ماجه (2118) ، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة 2 / 151 .(22/156)
الخامسة : أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي .
السادسة : أنها قد تكون سببا لشرع لبعض الأحكام .
الشرح :
هذا الباب ترجمه بقوله : " باب قول : ما شاء الله وشئت " ، وهذه المسألة تقدم الكلام عليها في " باب قول الله تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] " وأن قول القائل : ما شاء الله وشئت ، شرك في اللفظ ، وتشريك في المشيئة ، وهذا من الشرك الأصغر .
والباب واضح من حيث ما اشتمل عليه ، لكن فيه فوائد ، منها :(22/157)
أن قوله في حديث قتيلة : « أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تشركون تقولون : ما شاء الله وشئت . وتقولون : والكعبة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت » . رواه النسائي وصححه " : فيه من الفوائد ما ذكره الشيخ - رحمه الله - في مسائل الباب حيث قال : فيه فهم الإنسان إذا كان له هوى . فهؤلاء اليهود هم أهل الشرك يقولون : عزير ابن الله ، ويشركون بالله - جل وعلا - لكنهم مع كونهم مشركين نقموا على أهل الإسلام أنهم يشركون ، وهذا لأجل الطعن فيهم ، فالهوى وطلب تنقص أهل الإسلام والنقد عليهم ومخاطبتهم بما يسوؤهم ، كل هذا كان قصدا لهم ؛ ولهذا فهموا من أين يدخلون ، فأهل الإسلام أهل التوحيد قالوا لهم : إنكم تشركون ، وهم أهل الشرك ، فردوا عليهم بما قالوا ، مما يستفاد منه أن صاحب الهوى قد يفهم الصواب ، فإذا فهم الصواب فإن الواجب أن يقبل منه ؛ لأن المسلم يجب عليه أن يقبل الحق ممن جاء به ، ولو كان يهوديا أو نصرانيا ، فهذا اليهودي والنصراني توجها إلى المؤمنين بالقدح فيهم بالشرك ، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من(22/158)
قبول الحق الذي قالوه أنهم يهود ، بل قبل ما جاء به ذلك اليهودي فأوصاهم أن يتركوا ذلك التنديد ، ؛ لأن الحق هو ضالة المؤمن أين وجده أخذه ، فلا يمنعه من قبول الحق أن قاله مشرك ، أو قاله كافر ، أو قاله فاسق ، أو قاله مبتدع ، أو قاله ضال ، إذا كان الكلام في نفسه حقا ؛ لأنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : « الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها » (1) .
والحديث الذي بعده واضح .
_________
(1) وأخرجه ابن ماجه (4169) .(22/159)
" ولابن ماجه عن الطفيل - أخي عائشة لأمها - قال : « رأيت : كأني أتيت على نفر من اليهود قلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد » : هذا فيه أن صاحب الهوى أو صاحب الملة الباطلة قد يرد على صاحب الحق بأن عنده باطلا كما أن عند ذاك باطلا ، فإذا واجهه بذلك فالواجب عليه أن يتجرد للحق وأن لا يرد الحق لأجل أن من أتى به صاحب باطل ، فالقاعدة عند أهل السنة والإيمان أن البدعة لا ترد ببدعة والباطل لا يرد بباطل ، وقد حصل كثير من البدع في تاريخ الإسلام ، وحصلت الشبهات ، وقويت بعض الضلالات بسبب أن من وجه بحق لم يتقبله ورده ؛ لأن الذي واجهه بذلك الحق صاحب باطل ، فلما لم يقبل الحق صار يوجه الأدلة ويؤولها ؛ من أجل إبطال ذلك الحق ، وهذا كما فعله طائفة من أهل البدع ، والواجب أيضا ألا ترد البدعة ببدعة ، وإنما ترد البدعة بحق ، وإذا جهل المرء كيف يرد البدعة بحق ، فليصبر حتى يتعلم ، أو يسأل أهل العلم ، وليس من الواجب عليك أن ترد مباشرة ، بل إذا ووجهت بحق ولو كان من أضل الضلال فاقبل ، فإبليس - الشيطان - قبل منه بعض الحق الذي(22/160)
جاء به ، وأرشد إليه أبا هريرة ، وهؤلاء اليهود والنصارى في هذين الحديثين قبلنا منهما حقا أرشدونا إليه في أعظم المسائل وأجل المطالب ، وهو توحيد الله - جل جلاله - .
وهذه المسائل ليست من الشرك الأكبر ، بل من الأصغر ، كما دل عليه قوله في آخره : « قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها » والنهي عن الشرك في الألفاظ أتى بالتدريج في تاريخ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وتبليغه أمته بالأوامر والنواهي ، فكان الحلف بالآباء جائزا ، ثم فهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك . وكذلك قول : ما شاء الله وشئت ، ثم نهاهم عن ذلك ؛ ولهذا قال المصنف في مسائل كتاب التوحيد : فيه أن الشرك فيه أكبر وأصغر ؛ لقوله : « كان يمنعني كذا وكذا » ، " وأما الشوك الأكبر فلا يجوز أن يؤخر إنكاره أو أن يمنع عنه مانع ، أما شرك الألفاظ فقد تكون المصلحة والفقه - فقه الدعوة وفقه ترتيب الأهم والمهم وتقديم الأهم على المهم - أن يؤخر بعضه لتتم المصلحة العظمى ، أما الشرك الأكبر فلا مصلحة تبقى مع وجوده .(22/161)
" باب من سب الدهر فقد آذى الله "
وقوله الله تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [ الجاثية : 24 ] . في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ، « قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار » . (1) " ، وفي رواية : « لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر » (2) .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الدهر .
الثانية : تسميته أذى لله .
الثالثة : التأمل في قوله : " فإن الله هو الدهر"
الرابعة : أنه قد يكون سابا ، ولو لم يقصده بقلبه .
الشرح :
_________
(1) أخرجه البخاري (4826) و (6181 ) و (7491) ، ومسلم (2246) .
(2) أخرجه مسلم (2246) .(22/162)
الدهر هو : الزمان ، كاليوم والليلة ، والأسابيع ، والأشهر ، والسنين ، والعقود ، هذا هو الدهر ، وهذه الأزمنة مفعولة لا فاعلة ، فهي لا تفعل شيئا ، وإنما هي مسخرة يسخرها الله - جل جلاله - ، وكل يعلم أن السنين لا تأتي بشيء ، وإنما الذي يفعل هو الله - جل وعلا - في هذه الأزمنة ؛ ولهذا كان سب هذه السنين سبا لمن تصرف فيها ، وهو الله جل جلاله - ؛ لهذا عقد المؤلف هذا الباب ليبين أن سب الدهر ينافي كمال التوحيد ، وأن سب الدهر يعود على الله - جل وعلا - بالإيذاء ؛ لأنه سب لمن تصرف في هذا الدهر .
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : وهو أن سب الدهر من الألفاظ التي لا تجوز ، والتخلص منها واجب واستعمالها مناف لكمال التوحيد ، وهذا يحصل من الجهلة كثيرا ، فإنهم إذا حصل لهم في زمان شيء لا يسرهم سبوا ذلك الزمان ، ولعنوا ذلك اليوم ، أو لعنوا تلك السنة ، أو لعنوا ذلك الشهر ، ونحو ذلك من الألفاظ الوبيلة ، أو شتموا الزمان ، وهذا لا شك لا يتوجه إلى الزمن ؛ لأن الزمن شيء لا يفعل وإنما يفعل فيه ، وهو أذية لله - جل وعلا - .(22/163)
قوله : " باب من سب الدهر " : السب في أصله : التنقص ، أو الشتم ، فيكون بتنقص الدهر ، أو يكون بلعنه ، أو بشتمه ، أو بنسبة النقائص إليه ، أو بنسبة الشر إليه ، ونحو ذلك ، وهذا كله من أنواع سبه . والله - جل وعلا - هو الذي يقلب الليل والنهار .
قوله : " فقد آذى الله " : كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار » ففيه رعاية للفظ الحديث .(22/164)
وسب الدهر - كما ذكرنا - محرم ، وهو درجات وأعلاها لعن الدهر ؛ لأن توجه اللعن إلى الدهر أعظم أنواع المسبة وأشد أنواع الإيذاء ، وليس من مسبة الدهر وصف السنين بالشدة ، ولا وصف اليوم بالسواد ، ولا وصف الأشهر بالنحس ، ونحو ذلك ؛ لأن هذا مقيد ، وهذا جاء في القرآن في نحو قوله - جل وعلا - { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ } [ فصلت : 16 ] . فوصف الله - جل وعلا - الأيام بأنها نحسات ، والمقصود : في أيام نحسات عليهم ، فوصف الأيام بالنحس ؛ لأنه جرى عليهم فيها ما فيه نحس عليهم ، ونحو ذلك قوله - جل وعلا - في سورة القمر : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } [ القمر : 19 ] ، فهذا ليس من سب الدهر ؛ لأن المقصود بهذا أن الوصف ما حصل فيها كان من صفته كذا وكذا على هذا المتكلم ، وأما سبه أن ينسب الفعل إليه فيسب الدهر لأجل أنه فعل به ما يسوؤه ، فهذا هو الذي يكون أذية لله - جل وعلا - .(22/165)
" وقول الله تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } [ الجاثية : 24 ] " هذه الآية ظاهرة في أن نسبة الأشياء إلى الدهر من خصال المشركين أعداء التوحيد ، فنفهم منه أن خصلة الموحدين أن ينسبوا الأشياء إلى الله - جل وعلا - ولا ينسبوا الإهلاك إلى الدهر ، بل الله - جل وعلا - هو الذي يحيي ويميت .
" في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ؛ يسب الدهر وأنا الدهر » : . قوله : « وأنا الدهر » لا يعني أن الدهر من أسماء الله - جل وعلا - ، ولكنه رتبه على ما قبله ، وهو قوله : « يسب الدهر وأنا الدهر » ؛ لأن حقيقة الأمر أن الدهر لا يملك شيئا ولا يفعل شيئا ، فسب الدهر سب لله ؛ لأن الدهر يفعل الله - جل وعلا - فيه ، فهو ظرف للأفعال وليس مستقلا ؛ فلهذا لا يفعل ، ولا يحرم ، ولا يعطي ، ولا يكرم ، ولا يهلك ، وإنما الذي يفعل هذه الأشياء مالك الملك المتفرد بالملكوت وتدبير الأمر الذي يجير ولا يجار عليه .(22/166)
فقوله - إذا - : « وأنا الدهر » فيه نفي نسبة الأشياء إلى الدهر ، وأن هذه الأشياء تنسب إلى الله - جل وعلا - فيرجع مسبة الدهر إلى مسبة الله - جل وعلا - ؛ لأن الدهر لا ملك له ، والله هو الفاعل .
« أقلب الليل والنهار » : والليل والنهار هما الدهر ، فالله - جل وعلا - هو الذي يقلبهما ، فليس لهما من الأمر شيء .(22/167)
" باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه "
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله » (1) قال سفيان : مثل شاهان شاه . وفي رواية : « أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه » (2) ، وقوله " أخنع " يعني : أوضع .
فيه مسائل :
الأولى : النهي . عن التسمي بملك الأملاك .
الثانية : أن ما في معناه مثله ، كما قال سفيان .
الثالثة : التفطن للتغليظ في هذا ، ونحوه ، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه .
الرابعة : التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه .
الشرح :
التوحيد يقتضي من الموحد المؤمن بالله - جل وعلا - أن يعظمه وألا يجعل مخلوقا في منزلة الله - جل وعلا - فيما يختص به ، ؛ لأنه قد يجعل المخلوق في منزلة الله لشبهة وصف قام به ، ككون القاضي هو رئيس القضاة أو أعلم ، فيجعل في اللفظ والتسمية قاضيا للقضاة ؛ فلهذا نبه الشيخ - رحمه الله - على أن التسمي بالأسماء التي معناها إنما هو لله - جل جلاله : لا يجوز ، والتوحيد يقتضي ألا يوصف بها إلا الله وألا يسمى بها إلا الله - جل وعلا - .
_________
(1) أخرجه البخاري (6206) ، ومسلم (2143) .
(2) أخرجه مسلم (2143) ، وأحمد في المسند 2 / 315 .(22/168)
فتسمية غير الله بتلك الأسماء التي ستأتي لا تجوز ومحرم ، بل هي أخنع الأسماء وأوضع تلك الأسماء وأبغض الأسماء إلى الله - جل جلاله - .
قوله : " باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه " : " التسمي " يشمل ما إذا سمى نفسه ، أو سماه غيره به فرضي ، أما إذا سماه غيره به فلم يرض ، فإنه لا يدخل في الذم ؛ لعدم الرضا ، فيلحق الوعيد المسمي ، ومن رضي بذلك الاسم .
قوله : " بقاضي القضاة ونحوه " : ونحو قاضي القضاة مثل : ملك الأملاك ، وشاهان شاه ، ونحو ذلك ، وقاضي القضاة : هو الذي يقضي بين القضاة ، تقول : قاضي المسلمين ، يعني : الذي يقضي بين المسلمين ، وقاضي الرياض ، يعني : الذي يقضي في الخصومات التي بين أهل الرياض ، . فقاضي القضاة لفظ حقيقة معناه : الذي يقضي بين القضاة ، وهذا إنما هو لله - جل جلاله - فهو الذي يقضي بين العباد ، وبين القضاة وبين العبيد ، فهو قاضي القضاة على الحقيقة سبحانه وتعالى فيخبر عنه بذلك ، ؛ لأن " قاضي القضاة " ليست من أسماء البشر ، فالذي يقضي بين القضاة هو الله - جل جلاله .(22/169)
والذي أطلقوا هذه التسمية على كبير القضاة ، أو على كبير العلماء ، لا يعنون بها أن ذاك يقضي بين القضاة ، وإنما يعنون بها أنه وصل إلى مرتبة في القضاء أو في العلم أعلى من درجة القاضي ، فصار قاضي القضاة ، كما شاع في الزمن المتأخر في الدولة العثمانية أنهم يسمون المفتي : شيخ الإسلام ، ووكيل المفتي : وكيل شيخ الإسلام ، وهي تسمية خاصة .
وقد انتشر في بلاد المسلمين التسمية بقاضي القضاة ونحوه ، منذ القرن الرابع الهجري إلى أوقات متأخرة قريبة من هذا الزمان ، والواجب على العبد ألا يجعل هذه التسمية جارية على لسانه ، ولا أن يرضى بها .
وكذلك مالك الأملاك ، أو شاهان شاه ، يعني : ملك الأملاك ، ؛ لأن فيه تسمية البشر بما يختص بالله ، فإن ملك الأملاك هو الله - جل وعلا - ، والأملاك واسعة ، والإنسان إنما يطلق عليه أنه مالك للشيء المعين ، وليس مالكا لكل شيء ، فالذي يملك كل شيء هو الله وحده ، والبشر يملكون بالإضافة بعض الأشياء .(22/170)
وكذلك الملك - بالضم - وهو : نفاذ الأمر والسيطرة ، فإنه يكون في بعض الأرض وليس في كل الأرض ، فالذي يملك يقال له : مالك إذا كان يملك ملكا ، أو ملك إذا كان يملك ملكا ، بمعنى : نفاذ الأمر ، ويضاف إلى بقعته فيقال : ملك المملكة العربية السعودية ، وملك الأردن ، ونحو ذلك .
وأما الإطلاق العام ملك الأملاك ، أو شاهان شاه ، فإن الأملاك منها ما هو على الأرض ومنها غير ذلك وهذا إنما هو لله - جل وعلا - ، فالتوحيد يوجب ألا يتسمى بذلك أحد ، وألا يرضى بتسمية أحد بذلك ، حتى لو وجد في بعض الكتب لا ينقل كما هو ، وقد يغلط بعض الباحثين وبعض طلبة العلم فينقل قولا عن بعض أهل العلم المتقدمين ، ممن يتجوزون في مثل هذه الألفاظ وفيه : " وقال : قاضي القضاة كذا " ، " وكان قاضي القضاة كذا " ، ولا يغيره ، والواجب أن يغيره تعظيما لله - جل وعلا - ، وأمانة النقل التي يدعون هي في مرتبة دون توحيد الله - جل وعلا - بكثير كثير ، فالواجب تغيير . ذلك ، وهذا من توحيد الله وتغيير اشتراك الخلق مع الله - جل وعلا - في حقه فيما يزعمه بعض الخلق .(22/171)
" في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك » : " أخنع " يعني : أوضع ، وأحقر ، وأبعد الأسماء عند الله ، رجل تسمى ملك الأملاك .
قوله : « لا مالك إلا الله » وهذا من أساليب الحصر ، يعني : أن الملك إنما هو لله وحده ، وهناك فرق بين مالك وملك ، فمالك : اسم فاعل من الملك ، يقال : ملك الشيء ، يعني : اقتناه وصار مختصا به من الملك ، وهذا راجع إلى التصرف بالأعيان .
وأما الملك - بالضم - فالاسم منه الملك ، وهو : الذي ينفذ أمره ونهيه . فالملك راجع إلى الأعيان ، والملك راجع إلى المعاني ، هذا في قول عدد من محققي أهل اللغة .
" قال سفيان : مثل شاهان شاه ، وفي رواية : « أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه » وسبب كونه أغيظ رجل وأخبث رجل أنه جعل نفسه مماثلا لله - جل وعلا - في الحق بهذه التسمية .(22/172)
" باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك "
عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم " فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين ، فقال : " ما أحسن هذا! فما لك من الولد ؟ " قال : شريح ، ومسلم ، وعبد الله قال : " فمن أكبرهم ؟ " قلت : شريح ، قال : " فأنت أبو شريح » (1) . رواه أبو داود وغيره .
فيه مسائل :
الأولى : احترام أسماء الله وصفاته ، ولو لم يقصد معناه .
الثانية : تغيير الاسم لأجل ذلك .
الثالثة : اختيار أكبر الأبناء للكنية .
الشرح :
هذا الباب فيه الإرشاد إلى الأدب الذي يجب أن يصدر من قلب الموحد ومن لسانه ، فإن الموحد متأدب مع الله- جل جلاله- ، ومتأدب مع أسمائه ، وصفاته ، ومع دينه ، فلا يهزل- مثلا- بشيء فيه ذكر الله ، ولا يلقي الكلمة عن الله- جل وعلا- دون أن يتدبر ما فيها ، وكذلك لا يسمي أحدا بأسماء الله- جل وعلا- ويغير الاسم لأجل هذا ، فأسماء الله- جل وعلا- يجب احترامها ، وتعظيمها ، ومن احترامها أن يجعل ما لا يصلح إلا لله منها لله وحده ، وألا يسمى به البشر .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4955).(22/173)
قوله : " باب احترام أسماء الله تعالى " : هذا الاحترام قد يكون مستحبا من جهة الأدب ، وقد يكون واجبا ، فأسماء الله تعالى يجب احترامها ، بمعنى يجب ألا تمتهن ، ويستحب احترامها أيضا فيما كان من الأدب ألا يوصف به غير الرب جل وعلا .
وهذا راجع إلى تعظيم شعائر الله- جل جلاله- قال سبحانه : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج : 32] ، وقال- جل وعلا- : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج : 30] : قال أهل العلم : الشعائر : جمع شعيرة ، وهي : كل ما أشعر الله بتعظيمه ، يعني : أعلم بتعظيمه فهو شعيرة ، ومما أشعر الله بتعظيمه أسماؤه الحسنى- جل وعلا- فيجب احترامها وتعظيمها ولهذا يستدل أهل العلم على وجوب ألا تمتهن أسماء الموجودة في الجرائد ، أو في الأوراق ، أو أن ترمى ، أو أن توضع في أمكنة قذرة ، وعلى وجوب احترام كل ما فيه اسم من أسماء الله بهاتين الآيتين ، وبالقاعدة العامة في ذلك .(22/174)
قوله : " وتغيير الاسم لأجل ذلك " ساق فيه حديث أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم ، و " يكنى " بالتخفيف هي الفصيحة ، أما يكنى بالتشديد فهي لغة ضعيفة ، تقول : فلان يُكْنَى بكذا ، أما يُكَنَّى فليست بجيدة لأن يُكْنَى هي التي كان عليها غالب الاستعمال فيما ذكره أهل اللغة .
والحكم من أسماء الله- جل وعلا- ، والله- جل وعلا- لم يلد ولم يولد ، فتكنية المخلوق بأبي الحكم غير لائقة لأن الحكم من أسماء الله ، والله - جل وعلا- لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فإن الحكم ، وهو : بلوغ الغاية في الحكم ، والفصل بين المتخاصمين ، راجع إلى من له الحكم وهو الله- جل جلاله- ، وأما البشر فإنهم لا يصلحون أن يكونوا حكاما أو أن يكون الواحد منهم حكما على وجه الاستقلال ولكن يكون حكما على وجه التبع ؛ ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أبي شريح هذه التكنية فقال له : « إن الله هو الحكم » ودخول (هو) بين لفظ الجلال وبين اسمه (الحكم) يدل على اختصاصه بذلك كما هو مقرر في علم المعاني لأن (هو) ضمير عماد أو ضمير فصل لا محل له من الإعراب ، وفائدته أن يجعل الثاني مختصا بالأول .(22/175)
« وإليه الحكم » : يعني أن الحكم إليه لا إلى غيره فاسم (الحكم) الذي يفيد استغراق صفات الحكم ليس إلا إلى الله جل وعلا .
ذاك الرجل علل فقال : « إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين ، فقال : " ما أحسن هذا » ، " ما أحسن هذا " راجع إلى الحكم ، وعائد إلى الإصلاح ، وهو أنه يصلح ويحكم بينهم ، فيرضى كلا الفريقين ، وهل حكم بينهم بالشرع ، أو حكم بينهم بما عنده ، يعني : بما يراه ؟ الجواب : أنه حكم بينهم بما يراه ، ولو كان الحكم بينهم بالشرع لجاز إطلاق الحكم على من يحكم بين المتخاصمين بالشرع ، أما إطلاقه على الفاصل بين المتخاصمين بغير الشريعة فإن هذا مخالف للأدب .(22/176)
فالواجب ألا يسمى أحد بالحكم أو الحاكم أو نحو ذلك إلا إذا كان منفذا لأحكام الله- جل جلاله- ؛ لهذا قال سبحانه : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } [النساء : 35] ، فسمى المبعوث من هذا وهذا حكما لأنهما يحكمان بالشرع ، فالذي يحكم بما حكم به الله الذي هو الحكم يقال له : حكم لأنه حكم يحكم من له الحكم وهو الله- جل جلاله- فيسوغ إطلاق ذلك ولا بأس به ؛ لأن الله- جل وعلا- وصف من يحكمون بشرعه بأنهم حكام وهم القضاة ، فقال- جل وعلا- في سورة البقرة : { وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 188] فقوله : { الْحُكَّامِ } : هو جمع الحاكم ، وساغ إطلاق ذلك عليه ؛ لأنه يحكم بالشرع .(22/177)
والمقصود أن من الأدب ألا يسمى أحد بشيء يختص الله- جل وعلا- به ولذلك أورد المؤلف هذا الباب إثر الباب الذي قبله ، لأجل هذه المناسبة ، فتسمية " ملك الأملاك " مشابهة لتكنيه " أبي الحكم " من جهة أن في كل منهما اشتراكا في التسمية ، لكن فيها اختلاف من جهة أن " أبا الحكم " راجع إلى شيء يفعله هو ، وهو أنه يحكم فيرضون بحكمه وذاك " ملك الأملاك " ادعاء ليس له شيء ؛ ولهذا كان أخنع اسم عند الله جل جلاله .(22/178)
" باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول "
وقول الله تعالى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [التوبة : 65] .(22/179)
وعن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم ، وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض : « أنه قال رجل في غزوة تبوك : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء ، يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك : كذبت ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركبان ، نقطع به عناء الطريق ، قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ما يلتفت إليه وما يزيده عليه » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : - وهي العظيمة- أن من هزل بهذا فإنه كافر .
الثانية : أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنًا من كان .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في « التفسير » (16911) و (16912) و (16914) و (16915) و (16916).(22/180)
الثالثة : الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله .
الرابعة : الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله .
الخامسة : أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل .
الشرح :
هذا " باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول " .
التوحيد الخالص في القلب ، بل أصل التوحيد لا يجامع الاستهزاء بالله- جل وعلا- وبرسوله وبالقرآن لأن الاستهزاء معارضة ، والتوحيد موافقة ولهذا قال بعض أهل العلم : الكفار نوعان : معرضون كمن قال الله فيهم : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء : 24] ، ومعارضون ، وهم المجادلون ، أو الذين يعارضون بأنواع المعارضات لأجل إطفاء نور الله ، ومن ذلك الاستهزاء ونحوه .
فالتوحيد استسلام وانقياد وقبول وتعظيم ، والهزء والاستهزاء بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول معارضة لأنه مناف للتعظيم ، ولهذا كان كفرا أكبر بالله- جل وعلا- ، إذ لا يصدر الاستهزاء بالله ، أو برسوله صلى الله عليه وسلم ، أو بالقرآن ، من قلب موحد أصلا ، بل لا بد أن يكون إما منافقا ، أو كافرا مشركا .(22/181)
قوله : " باب من هزل " الهزل خلاف الجد ، وصفته : أن يتكلم بكلام فيه الهزل والاستهزاء والعيب إما بالله أو بالقرآن أو بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وقول الشيخ- رحمه الله- هنا : " باب من هزل بشيء " الباء هذه ، هل هي التي يذكر بعدها وسيلة الهزل ، أو الباء التي يذكر بعدها المهزول به ؟ ؟ الظاهر هو الثاني ، فعلى الأول يكون المعنى : أنه ذكر الله بشيء فيه هزل ، وذكر الرسول بشيء فيه هزل ، يعني : هزل ، وهو يذكر هذه الأشياء .
وعلى الثاني يكون معنى : " من هزل بشيء فيه ذكر الله " أن المستهزئ به أو المهزول به هو ذكر الله ، أو القرآن ، أو الرسول ، ومعلوم أن المعنى المراد هو الثاني لأن الشيخ يريد أن المستهزئ به هو الله ، أو الرسول ، أو القرآن ، اتباعا لنص الآية .(22/182)
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة : وهو أن الهزل والاستهزاء بالله أو بالرسول أو بالقرآن مناف لأصل التوحيد ، وكفر مخرج من الملة ، لكن بضابطه الذي ذكرناه ، وهو : أن الاستهزاء- وهو الاستنقاص واللعب والسخرية- يكون بالله- جل جلاله- أو يكون بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يكون بالقرآن ، وهذا هو الذي جاء فيه النص قال- جل وعلا- : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة : 65- 66] ، فمن استنقص الله- جل وعلا- ، أو هزل بذكره لله- جل وعلا- ، يعني : حينما ذكر الله- جل وعلا- استهزأ وهزل ولم يظهر التعظيم في ذلك ، فتنقص الله- جل وعلا- كما يفعله بعض الفسقة ، والذين يقولون الكلمة لا يلقون لها بالا تهوي ببعضهم في النار سبعين خريفا ، أو هزل بالقرآن أو استهزأ بالقران أو بالسنة ، يعني : بالنبي عليه الصلاة والسلام ، فإنه كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة هذا ضابط هذا الباب .(22/183)
ويخرج عن ذلك ما لو استهزأ بالدين فإن الاستهزاء بالدين فيه تفصيل ، فإن المستهزئ بالدين ، أو الساب له ، أو اللاعن له ، قد يريد دين المستهزأ به ، ولا يريد دين الإسلام أصلا ، فلا يرجع استهزاؤه إلى واحد من الثلاثة ؛ فلهذا نقول : الكفر يكون أكبر إذا كان الاستهزاء بأحد الثلاثة التي ذكرنا ونصت عليها الآية ، أو كان راجعا إلى أحد الثلاثة .
أما إذا كان الاستهزاء بشيء خارج عن ذلك ، فإنه يكون فيه تفصيل : فإن هزل بالدين ، فينظر هل يريد دين الإسلام ، أو يريد تدين فلان ؟ ومثال ذلك أن يأتي واحد من المسلمين ويستهزئ- مثلا- بهيئة أحد الناس وهيئته يكون فيها التزام بالسنة ، فهل يكون هذا مستهزئا الاستهزاء الذي يخرجه من الملة ؟ الجواب : لا ؛ لأن هذا الاستهزاء راجع إلى تدين هذا المرء ، وليس راجعا إلى الدين أصلا ، فيعرف بأن هذا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا علم أنه سنة ، وأقر بذلك ، وأن النبي فعله ثم استهزأ ، بمعنى : استنقص أو هزأ بالذي اتبع السنة مع علمه بأنها سنة وإقراره بصحة كونها سنه فهذا رجع إلى الاستهزاء بالرسول .(22/184)
وكذلك الاستهزاء بكلمات قد يكون مرجعها إلى القرآن ، وقد لا يكون مرجعها إلى القرآن فيكون فيه تفصيل ، فالخلاصة - إذا - أن الاستهزاء إذا كان بالله ، أو بصفاته ، أو بأسمائه ، أو بالرسول عليه الصلاة والسلام ، أو بالقرآن فإن هذا كفر ، وإن كان الاستهزاء غير ذلك فينظر : إن كان راجعا إلى أحد الثلاثة فهو كفر أكبر ، وإن كان غير ذلك فإنه يكون محرما ولا يكون كفرا أكبر " وقول الله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }{ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة : 65- 66] : هذه الآية نص في أن المستهزئ بالله ، وبالرسول ، وبآيات الله- جل وعلا- والمقصود بها آيات الله- جل وعلا- الشرعية ، يعني : القران ، أن هذا المستهزئ كافر ، وأنه لا ينفعه اعتذاره بأنه كان في هزل ولعب بل هو كافر لأن تعظيم الله- جل وعلا- وتوحيده يوجب عليه أن لا يستهزئ .(22/185)
وهذه الآية نزلت في المنافقين ، وبعض أهل العلم قال : ليست في المنافقين ، وهذا غلط وليس بصواب ، لأسباب ، منها : أن هذه السورة التي منها هذه الآية هي في حال المنافقين ؛ ولأن سياق الآية- سابقها ولاحقها- يدل على أن الضمائر ترجع إلى المنافقين . قال- جل وعلا- قبل هذه الآية في سورة براءة : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ }{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التوبة : 64 - 65 ] فالآية السابقة لآية الباب هي في المنافقين نصا ، فالضمير- إذا- في قوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } يعود على من ذكر قبل هذه الآية ، وهم المنافقون المنصوص عليهم بقوله : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ } ، وكذلك ما بعدها من الآيات في المنافقين في قوله- جل وعلا- { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } [التوبة : 67] والأدلة على ذلك كثيرة .(22/186)
فالصواب في ذلك أن المراد بالآية هم المنافقون ، وأما أهل التوحيد فإنه لا يصدر منهم استهزاء أصلا ، ولو استهزءوا لعلمنا أنهم غير معظمين لله ، وأن توحيدهم ذهب أصلا لأن الاستهزاء يطرد التعظيم .
فالواجب على المسلمين- جميعا- وعلى طلبة العلم- بخاصة- أن يحذروا من مزالق الكلام لأن كثيرين يتكلمون بكلام لا يلقون له بالا ، ربما استهزءوا ، أو ربما تكلموا بكلام فيه شيء من الهزل ، وفيه شيء من الضحك ، وكان في أثناء هذا الكلام ذكر الله ، أو فيه قراءة القرآن ، أو فيه ذكر بعض العلم ، وهذا مما لا يجوز وقد يدخل أحدهم في قول النبي عليه الصلاة والسلام : « وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي بها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا » (1) . نسأل الله- جل وعلا- السلامة والعافية .
_________
(1) أخرجه الترمذي (2314).(22/187)
فالواجب على العبد أن يعظم الله ، وأن لا يتلفظ إلا بكلام عقله قبل أن يقوله لأن اللسان هو مورد الهلكة ، قال معاذ للنبي عليه الصلاة والسلام : « أومؤاخذون يا رسول الله بما نقول ؟ قال : " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو قال على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم » . (1) . فالله الله في اللسان فإنه أعظم الجوارح خطرا ، ومما يتساهل فيه أكثر الناس ، فاحذر الخوض فيما لا يعنيك ، وبخاصة فيما يتعلق بالدين ، أو بالعلم ، أو بأولياء الله ، أو بالعلماء ، أو بصحابة النبي عليه الصلاة والسلام ، أو بالتابعين ، فإن هذا مورده خطير والله المستعان ، فقد عظمت الفتنة ، والناجي من سلمه الله جل وعلا .
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5 / 231-236-237 والترمذي (2649).(22/188)
" باب قول الله تعالى :
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [فصلت : 50]
قال مجاهد : هذا بعملي ، وأنا محقوق به (1) . وقال ابن عباس : يريد من عندي ، (2) . وقوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص : 78] قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب (3) . وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل ، (4) . وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف (5) .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 25 / 3.
(2) أخرجه ابن جرير في التفسير 25 / 3.
(3) أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور 6 / 440.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 6 / 440.
(5) رواه ابن جرير في التفسير 24 / 12.(22/189)
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن ثلاثة من بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال : فمسحه فذهب عنه قذره ، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو البقر - شك إسحاق- فأعطي ناقة عشراء ، وقال : بارك الله لك فيها . قال فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : شعر حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، فقال : أي المال أحب إليك ؟ قال : البقر أو الإبل ، فأعطي بقرة حاملا ، قال : بارك الله لك فيها . فأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلي بصري ، فأبصر به الناس ، فمسحه فرد الله إليه بصر قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان ، وولد هذا ، فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم .(22/190)
قال : ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين ، قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بكم ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ، والمال بعيرا أتبلغ به في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة ، فقال له : : كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيرا فأعطاك الله- عز وجل- المال ؟ !! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأقرع في صورته . فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا ، فقال له : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال : وأتى الأعمى في صورته فقال : رجل مسكين ، وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ، ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله ، فقال : أمسك مالك فإنما ابتليتم ، فقد رضي الله عنك ، وسخط على صاحبيك » أخرجاه (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآية .
الثانية : ما معنى : { لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } .
_________
(1) أخرجه البخاري (3464) و (6653) ومسلم (2964).(22/191)
الثالثة : ما معنى قوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } .
الرابعة : ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة .
الشرح :
هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان وجوب تعظيم الله- جل وعلا- في الألفاظ وأن النعم يجب أن تنسب إليه ، وأن يشكر عليها فتعزى إليه ، ويقول العبد : هذا أنعم الله علي به ، والكذب في هذه المسائل ، أو أن يتكلم المرء بكلام ليس موافقا للحقيقة ، أو هو مخالف لما يعلمه من أن الله- جل وعلا- قد أنعم عليه بذلك فهذا قد يؤديه إلى المهالك ، وقد يسلب الله- جل وعلا- عنه النعمة بسبب لفظه .
فالواجب على العبد أن يتحرز في ألفاظه وبخاصة فيما يتصل بالله- جل وعلا- ، أو بأسمائه وصفاته ، أو بأفعاله وإنعامه ، أو بعدله وحكمته ، والتحرز في ذلك من كمال التوحيد ؛ لأنه لا يصدر التحرز إلا عن قلب معظم لله ، مجل لله ، مخبت لله ، يعلم أن الله- جل جلاله- مطلع عليه ، وأنه سبحانه هو ولي الفضل ، وهو ولي الإنعام ، وهو الذي يستحق أن يجل فوق كل جليل ، وأن يحب فوق كل محبوب ، وأن يعظم فوق كل معظم .(22/192)
فالله- جل جلاله- يجب توقيره وتعظيمه في الألفاظ ، ومن ذلك ما عقد له الشيخ هذا الباب حيث قال : " باب ما جاء في قول الله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } [فصلت : 50] قال مجاهد في تفسيرها : " هذا بعملي ، وأنا محقوق به . " يعني أنه نسب النعمة إلى نفسه ، وأنه جدير وحقيق بها ، وأن الله- جل وعلا- تفضل عليه لأنه مستحق لهذا الإنعام ، والمال ، والجاه ، ولرفعة القدر عند الناس ، فصار إليه ذلك الشيء من المال والرفعة والسمعة الطيبة لأنه مستحق لذلك الشيء بفعله وبجهده ونحو ذلك مما قد يطرأ على قلوب ضعفاء الإيمان وضعفاء التوحيد .
والواجب أن يعلم العبد أنه فقير غير مستحق لشيء على الله- جل وعلا- وأن الله هو الرب المستحق على العبد أن يشكره ، وأن يذكره ، وأن ينسب النعم إليه ، أما العبد فليس مستحقا في الدنيا بحق واجب على الله- جل وعلا - إلا ما أوجبه الله -جل وعلا- على نفسه .(22/193)
ومثل قول القائل : هذا بعملي ، وأنا محقوق به ، - بعد أن أتته رحمة من بعد ضراء- مثل هذا القول يكثر في ألفاظ الناس ، كقول الطبيب مثلا : هذا الذي حصل من شفاء المريض بسببي ، أو نجاحي ، ونيلي لهذا الأمر إنما بسبب جهدي ، وبسبب تعبي ، ونحو ذلك مما يجعل إنعام الله -جل وعلا- على العبد بذلك بسبب استحقاقه ، أو أن ينسى الله -جل وعلا- وينسب الأشياء إلى نفسه ؛ ولهذا قال : " قال ابن عباس : يريد من عندي " : أي أنا الذي أتيت بهذا المال أو بهذه النعمة وهذا من عندي ، ولم يتفضل علي به .
فيدخل في هذا الوصف الذي جاء في الآية نوعان من الناس : من ينسب الشيء إلى نفسه ، ولا ينسبه إلى الله -جل وعلا- أصلا ، والثاني : أن ينسبه إلى الله تعالى ، لكن يرى نفسه مستحقا لذلك الشيء على الله -جل وعلا- كما يحصل من بعض المغرورين أنه إذا أطاع الله واتقاه ، وحصلت له نعمة قال : حصلت لي هذه النعمة من جراء استحقاقي لها ، فأنا العابد لله -جل وعلا- ولا يستحضر أن الله- جل وعلا- يرحم عباده ولو حاسبه على عمله لم تقم عباداته وعمله بنعمة من النعم التي أسداها الله -جل وعلا- له .(22/194)
فالواجب -إذًا- على العبد أن ينسب النعم جميعا لله ، وأن يشعر بأنه لا يستحق شيئا على الله ، وإنما الله هو المستحق للعبودية ، وهو المستحق للشكر ، وهو المستحق للإجلال ، والعبد فقير مذنب مهما بلغ . وانظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه كيف علمه النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول في ، آخر صلاته : « اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي » (1) . إذا كان أبو بكر علمه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو بهذا الدعاء ، فكيف بحال المساكين أمثالنا ، وأمثال أكثر هذه الأمة ؟ وكيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئا ؟ !
فتمام التوحيد -إذًا- أن يجل العبد ربه تبارك وتعالى ويعظمه ، وأن لا يعتقد أنه مستحق للنعم ، أو أنه أوتيها بجهده ، وجهاده ، وعمله ، وذهابه ومجيئه ، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ؛ لأن فعل العبد سبب وهذا السبب قد يتخلف ، وقد يكون مؤثرا ، ثم إنه إذا أثر فلا يكون مؤثرا إلا بإذن الله -جل وعلا- فرجع الأمر إلى أنه فضل الله يؤتيه من يشاء .
_________
(1) أخرجه البخاري (8387) و (7388) ومسلم (2705).(22/195)
" وقوله { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص : 78] قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب " ، هذه الآية في قصة قارون ، قال -جل وعلا- : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } [القصص : 76- 78] إلى أن قال : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } قال قتادة : " على علم مني بوجوه المكاسب " وهذا يحصل من كثير ممن أغناهم الله -جل وعلا - وأعطاهم أموالا كثيرة ، فتجد أحدهم ينسب الشيء إلى نفسه ، فيقول : أنا خبير بإدارة الأموال ، وأنا أفهم في التجارة ، وأنا عندي علم بوجوه المكاسب ، ونحو ذلك ، وينسى أن الله -جل وعلا- هو الذي تفضل ، ولو منع الله السبب الذي فعله من التأثير لم يصر شيئا ، فالله -جل وعلا- هو الذي تفضل عليه ، وهو الذي وفقه وهو الذي هداه للفكرة ، وهو الذي جعل السبب مؤثرا ، فالله هو المنعم ابتداء وهو المنعم ختاما ، فالواجب إذًا أن يتخلص العبد من رؤية نفسه وأن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، ويكثر من قولها ، فإنها كنز من كنوز الجنة .(22/196)
فهذا الباب معقود كما ذكرنا لتخليص القلب واللسان من ألفاظ واعتقادات باطلة ، يظن المرء فيها أنه مستحق أشياء على الله -جل وعلا- والتوحيد هو أن يكون العبد ذليلا خاضعا بين يدي الله ، يعلم أنه لا يستحق شيئا على الله -جل وعلا- وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء .
" وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل " : وهذا يشمل أحد النوعين اللذين ذكرتهما . " وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف " .
ثم ساق حديث أبي هريرة الطويل ، والدلالة منه ظاهرة : وأن الله- جل وعلا- عافى هؤلاء الثلاثة في أبدانهم ، ورزقهم من فضله ، ثم نسب اثنان منهم النعمة إلى أنفسهم ، وثالث نسبها إلى الله ، فجزى الله الأخير خيرا ، وأدام عليه النعمة ، ورضي عنه ، وعاقب الآخرين ، وسخط عليهما ، وهذا فضل الله ينعم ثم يثبت النعمة فيمن يشاء ، ويصرفها عمن يشاء ، ومن أسباب ثبات النعمة أن يعظم العبد ربه ، وأن يعلم أن الفضل بيد الله ، وأن النعمة هي نعمة الله .(22/197)
وفي ختام هذه الأبواب أوصي المسلم بأن يكون حذرا من آفات اللسان ، متثبتا فيما يتكلم به ، وأن يعلم أن كل خير إنما هو من الله ، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو سلبه الله العناية منه طرفة عين لهلك ، ولكان من الخاسرين ، فإن العبد أحوج ما يكون إلى الاعتراف بذنبه ، والعلم بأسماء الله وبصفاته ، وبآثار ذلك في ملكوته ، وبربوبيته- جل وعلا- على خلقه ، وبعبادته حق عبادته .(22/198)
باب قوله تعالى :
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف : 190] .
قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمر وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب .
وعن ابن عباس في الآية قال : لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس ، فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة ، لتطيعانني ، أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنه فيشقه ولأفعلن ، ولأفعلن ، يخوفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت ، فأتاهما ، فقال مثل قوله ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت ، فأتاهما ، فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله : { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم . (1) .
وله بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته (2) . وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا } قال : أشفقا أن لا يكون إنسانا (3) . ، وذكر معناه عن الحسن ، وسعيد ، وغيرهما " .
فيه مسائل :
الأولى : تحريم كل اسم معبد لغير الله .
الثانية : تفسير الآية .
_________
(1) أخرجه ابن جرير في « التفسير » (15517).
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في « التفسير » (15521).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير كما في الدر المنثور 3 / 624.(22/199)
الثالثة : أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها .
الرابعة : أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم .
الخامسة : ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة ، والشرك في العبادة .
الشرح :
مناسبة هذا الباب للأبواب قبله : أن جميع الأبواب في معنى واحد ، وهو أن شكر النعمة لله- جل وعلا- فيما أنعم به ، يقتضي أن تنسب إليه- جل وعلا- وأن يحمد عليها ، ويثنى عليه بها ، وأن تستعمل في مراضيه- جل وعلا- وأن يتحدث بها ، فالذي ينسب النعم إلى نفسه لم يحقق التوحيد ؛ فإنه جمع بين ترك تعظيم الله- جل وعلا- وبين ادعاء شيء ليس له ، وقد يعتقد في غيره أنه هو المنعم عليه ، كقول القائل : لولا فلان لم يكن كذا ، أو نحو تلك العبارات التي تدخل في قوله تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] وفي قوله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } [ النحل : 83 ] فهذه الألفاظ وأمثالها راجعة إلى عدم شكر النعمة .(22/200)
ومن شكر النعم أن الله- جل وعلا- إذا أنعم على عبد بولد ، وجعله سليما معافى ، ورزقه بتلك النعمة -التي هي نعمة الولد- أن يشكر الله عليها ، ومن عدم شكر النعمة تلك ، ونسبتها إلى غير الله : أن يعبد الولد لغير الله- جل وعلا- فإن هذا مضاد للاعتراف بأن المنعم بذلك الولد هو الله -جل جلاله- وقد يصل ذلك إلى حد الشرك الأكبر ، إذا عبد الولد لولي أو لعبد صالح ، وهو يعني حقيقة العبودية التي هي أن هذا عبد لذاك ؛ لأن ذاك إله . كمن يعبد لبعض المشايخ ، فيقول : عبد السيد ويعنون به : السيد البدوي ، ويقولون : عبد زينب ، وعبد علي ، وعبد عمرو ، ونحو ذلك من الأسماء التي فيها اعتقادات .
فمن عبد ولدا لغير الله -جل وعلا- فقد نافى شكر النعمة ؛ ولهذا أتبع الشيخ- رحمه الله- هذا الباب الأبواب قبله لما كان يشترك معها في هذا المعنى ، وأن الواجب على العبد أن يحقق التوحيد ، وأن لا ينسب النعم لغير الله -جل وعلا- فإن وقع منه ذلك فواجب عليه أن يبادر بالتوبة ، وألا يقيم على ذلك .
" باب قول الله تعالى :(22/201)
{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف : 190] :
قوله : { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا } الضمير هنا يرجع إلى آدم وحواء ، والذي عليه عامة السلف أن القصة في آدم وحواء حتى قال الشارح الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- : إن نسبة ذلك إلى غير آدم وحواء هو من التفاسير المبتدعة . وسياق الآية لا يقتضي غير ذلك إلا بأوجه من التكلف ؛ ولهذا اعتمد الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- التفسير الذي عليه عامة السلف ، ففسر هذه الآية بأن المراد بها آدم وحواء ، فقوله : { فَلَمَّا آتَاهُمَا } يعني : آتى الله آدم وحواء صالحا . وقوله : { صَالِحًا } يعني : من جهة الخلقة ؛ لأنه كان يأتيهما ولد فيموت ، أو يكون معيبا فيموت ، فالله -جل وعلا- رزقهما هذا الولد الصالح السليم في خلقته ، المعافى في بنيته ، وكذلك هو صالح لهما من جهة نفعهما .(22/202)
{ جَعَلَا } يعني : آدم وحواء { لَهُ } يعني : لله- جل وعلا- { شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } وكلمة شركاء جمع الشريك ، والشريك في اللغة هو المقصود بهذه الآية ، ومعنى الشركة في اللغة : اشتراك اثنين في شيء ، فجعلا لله -جل وعلا- شركاء فيما آتاهما ، حيث سميا ذلك الولد عبد الحارث . والحارث هو إبليس ، وهو الذي قال : إن لم تسمياه عبد الحارث لأفعلن ولأفعلن ، ولأجعلن له قرني أيل -وهو ذكر الوعل- وفي هذا تهديد بأن يشق بطن الأم ، فتموت ويموت أيضا الولد .(22/203)
فلما رأت حواء ذلك ، وأنها قد مات لها عدة بطون ، أطاعت الشيطان في ذلك ، فصارت الشركة شركة في الطاعة ، وآدم وحواء عليهما السلام قد أطاعا الشيطان من قبل ، حيث أمرهما بأن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله -جل وعلا- عنها ، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خدعهما مرتين » (1) . ، وهذا هو المعروف عند السلف ، فيكون إذًا قوله : { شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } من جهة التشريك في الطاعة ، ومعلوم أن كل عاص مطيع للشيطان ، وكل معصية لا تصدر من العبد إلا وثم نوع تشريك حصل في الطاعة ؛ لأنه إما أن يطيع هواه ، وإما أن يطيع الشيطان ؛ ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره من المحققين : إنه ما من معصية يعصي بها العبد ربه إلا وسببها طاعة الشيطان أو طاعة الهوى ، وذلك نوع تشريك ، وهذا هو الذي حصل من آدم وحواء عليهما السلام ، وهو لا يقتضي نقصا في مقامهما ، ولا يقتضي شركا بالله -جل وعلا- وإنما هو نوع تشريك في الطاعة . والمعاصي الصغار جائزة على الأنبياء ، كما هو معلوم عند أهل العلم ، فإن آدم نبي مكلم ، وصغار الذنوب جائزة على الأنبياء ، ولا تقدح في كمالهم ؛ لأنهم لا يستقيمون عليها ، بل يسرعون وينيبون إلى الله
_________
(1) انظر : تفسير القرطبي 7 / 338.(22/204)
-جل وعلا- ويكون حالهم بعد ما وقع منهم ذاك أعظم من حالهم قبل أن يقع منهم ذلك ؛ لأنه يكون لهم مقامات إيمانية واعتراف بالعبودية أعظم ، وذل وخضوع أكبر بين يدي الله -جل وعلا- ، ومعرفة أكمل بتحقيق ما يجب لله -جل وعلا- وما يستحب .(22/205)
فهذه القصة -كما ذكرنا- صحيحة ، وآثار السلف الكثيرة تدل عليها ، وسياق الآيات في آخر سورة الأعراف يدل عليها ، والإشكال الذي أورده بعض أهل التفسير من المتأخرين ، وهو أن آدم وحواء جعلا لله شركاء ، وهذا نص الآية لا يمنع ؛ لأن التشريك هنا تشريك فيما يدل عليه المعنى اللغوي ، وليس شركا أصغر ، ولا شركا أعظم ، وحاشاهما من ذلك ، وإنما هو تشريك في الطاعة ، كما قال -جل وعلا- { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] وكما قال أيضا في الآية الأخرى { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [ الجاثية : 23] فكل من جعل هواه متبعا فقد جعله مطاعا ، وهذا نوع تأليه ، لكن لا يقال : عبد غير الله ، أو أله غير الله ، أو أشرك بالله -جل وعلا- لكن هو نوع تشريك ، فكل طاعة للشيطان أو للهوى فيها هذا النوع من التشريك ، إذ الواجب على العبد أن يعظم الله -جل وعلا- وأن لا يطيع إلا أمره -جل وعلا- وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .(22/206)
فظهر بهذا التقرير أن هذه القصة لا تقتضي نقصا في مقام آدم عليه السلام ولا في مقام حواء ، بل هو ذنب من الذنوب ، تابا منه ، كما حصل لهما أول مرة في الأكل من الشجرة ، بل إن أكلهما من الشجرة ومخالفة أمر الله -جل وعلا- أعظم من هذا الذي حصل منهما هنا ، وهو تسمية الولد عبد الحارث ، وذلك أن الخطاب الأول كان من الله -جل وعلا- لآدم مباشرة ، خاطبه الله -جل وعلا- ونهاه عن أكل هذه الشجرة ، وهذا خطاب متوجه إلى آدم بنفسه ، وأما هذه التسمية فإنه لم ينه عنها مباشرة ، وإنما يفهم النهي عنها من وجوب حق الله -جل وعلا- ، فذاك المقام زاد على هذا المقام من جهة خطاب الله -جل وعلا- المباشر لآدم ، وهذا أمر معروف عند أهل العلم ؛ ولهذا فسر قتادة كلمة شركاء بقوله كما نقل الشيخ حيث قال : " له بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته " وهذا هو الصحيح في تفسير الآية .(22/207)
" قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ، كعبد عمر وعبد الكعبة وما أشبه ذلك ، حاشا عبد المطلب " (1) . : قول ابن حزم : " اتفقوا " يعني : أجمعوا ، أي : أجمع أهل العلم فيما علمه هو أن التعبيد لغير الله محرم ؛ لأن فيه إضافة النعم لغير الله ، وفيه أيضا إساءة أدب مع الربوبية والإلهية ، فإن تعبيد الناس لغير الله -جل وعلا- غلط من جهة المعنى ، وأيضا فيه نوع هضم لمقام الربوبية ، فلذلك حرم في شريعة الإسلام هذه التسمية ، بل وفي شرائع الأنبياء جميعا ، فاتفق أهل العلم على ذلك ، وأن كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو ، وعبد الكعبة ، وعبد علي ، وغير ذلك من الأسماء ، فإن هذا وما أشبهه محرم ولا يجوز .
_________
(1) أخرجه ابن حزم « مراتب الإجماع » (154).(22/208)
قوله : " حاشا عبد المطلب " : يعني : لم يجمعوا عليه ؛ فإن من أهل العلم من قال : تكره التسمية بعبد المطلب ولا تحرم ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في غزوة حنين : « أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب » (1) . قالوا : وجاء في أسماء الصحابة من اسمه عبد المطلب ؛ ولهذا قالوا : لا يحرم ، وهذا القول ليس بصحيح في أن عبد المطلب لا تكره التسمية به ولا تحرم ، وما استدلوا به ليس بوجيه ، وذلك أن قول النبي عليه الصلاة والسلام : " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " كان من جهة الإخبار ، والإخبار ليس فيه تعبيد مباشر بإضافة ذلك المخلوق إلى غير خالقه ، وإنما هو إخبار ، وباب الإخبار أوسع من باب الابتداء كما هو معلوم .
وأما تسمية بعض الصحابة بعبد المطلب ، فالمحققون من الرواة يقولون : إن من سمي بعبد المطلب ، فالصحيح أن اسمه المطلب بدون التعبيد ، ولكن نقل بعبد المطلب ، لأنه شاعت التسمية بعبد المطلب دون المطلب ، فوقع خطأ في ذلك ، وبحث هذه المسائل يطول ، ومحله كتب الحديث وكتب الرجال .
_________
(1) أخرجه البخاري (2864) و (2874) ومسلم (1776).(22/209)
" وعن ابن عباس في معنى الآية قال : لما تغشاها آدم حملت ، فأتاهما إبليس ، فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعانني أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنه فيشقه ، ولأفعلن ولأفعلن ، يخوفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم . وله بسند صحيح عن قتادة قال : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته " : وهذا دليل على التفريق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة ، فالشرك في العبادة كفر أكبر مخرج من الملة ، أما الشرك في الطاعة فله درجات يبدأ من المعصية والمحرم وينتهي بالشرك الأكبر ، فالشرك في الطاعة درجاته كثيرة ، وليس درجة واحدة ، فقد يحصل شرك في الطاعة فيكون معصية ، ويحصل شرك في الطاعة فيكون كبيرة ، ويحصل شرك في الطاعة ويكون كفرا أكبر ، ونحو ذلك ، أما الشرك في العبادة فهو كفر أكبر بالله -جل جلاله- ؛ ولهذا فرق أهل العلم بين شرك الطاعة وشرك العبادة ، مع أن العبادة مستلزمة للطاعة ،(22/210)
والطاعة مستلزمة أيضا للعبادة ، لكن ليس في كل درجاتها .
" وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } قال : أشفقا أن لا يكون إنسانا " : يعني : خافا أن يكون له -كما قال الشيطان- له قرنا أيل ، أو خلقته مختلفة ، أو يخرج حيوانا ، أو قردا ، أو نحو ذلك ، فقالا : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا } يعني : ولدا صالحا سليما من الآفات ، سليما من الخلقة المشينة ، فوعدا بأن يكونا من الشاكرين { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا } عبدا ذلك للحارث ، خوفا من أن يتسلط الشيطان عليه بالموت أو الإهلاك ، فأخذتهما شفقة الوالد على الولد فكان ذلك خلاف شكر تلك النعمة ؛ لأن من شكر نعمة الولد أن يعبد الولد لله الذي أنعم به وأعطاه وتفضل به .(22/211)
باب قول الله تعالى :
{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } [الأعراف : 180] .
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } يشركون ، (1) . وعنه : سمو اللات من الإله ، والعزى من العزيز . وعن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها " .
فيه مسائل :
الأولى : إثبات الأسماء .
الثانية : كونها حسنى .
الثالثة : الأمر بدعائه بها .
الرابعة : ترك من عارض من الجاهلين الملحدين .
الخامسة : تفسير الإلحاد فيها .
السادسة : وعيد من ألحد .
الشرح :
هذا الباب في وجوب تعظيم أسماء الله الحسنى ، وأن من تعظيمها أن لا يلحد فيها ، وأن يدعى الله -جل وعلا- بها ، والأسماء الحسنى هي :
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير كما في الدر المنثور (613).(22/212)
الأسماء البالغة في الحسن نهايته ، فالخلق يتسمون بأسماء ، لكن قد لا تكون حسنة ، أو قد تكون حسنة ، ولكن ليست بالغة في الحسن نهايته ؛ لأن الحسن في الأسماء يكون راجعا إلى أن الصفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم تكون حقا ، موجودة فيمن تسمى بها ، والإنسان وإن تسمى باسم فيه معنى فقد لا يكون فيه من ذلك المعنى شيء ، فيسمى صالحا وقد لا يكون صالحا ، ويسمى خالدا وقد لا يكون خالدا ، ويسمى محمدا وقد لا يكون كثير خصال الحمد وهكذا ، فإن الإنسان قد يسمى بأسماء لكن لا تكون في حقه حسنى ، والله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته ، وهي الأسماء المشتملة على صفات الكمال ، والجلال ، والجمال ، والقدرة ، والعزة ، والجبروت وغير ذلك ، وله من كل اسم مشتمل على صفة أعلى وأعظم وأسمى المعاني التي اشتملت عليها الصفة .(22/213)
وأهل العلم إذا فسروا الأسماء الحسنى فإنما هو تقريب ، ليدلوا الناس على أصل المعنى ، أما المعنى بكماله فإنه لا يعلمه أحد إلا الله -جل جلاله- ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في دعائه : « لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك » (1) . فالناس حين يفسرون أسماء الله- جل وعلا- فإنهم يفسرون ذلك بما يقرب إلى الأفهام المعنى ، أما حقيقة المعنى على كماله فإنهم لا يعونه ؛ لأن ذلك من الغيب ، وكذلك الكيفية فإنهم لا يعلمونها ؛ لأن ذلك من الغيب ، فالله- جل وعلا- له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى .
_________
(1) أخرجه الترمذي (3566) ، وابن ماجه (1179) .(22/214)
ومن الأسماء ما لا يكون حسنا إلا بقيد مثل : الصانع ، والمتكلم ، والمريد ، والفعال أو الفاعل ، ونحو ذلك ، فهذه الأسماء لا تكون كمالا إلا بقيد ، وهو أن يكون متكلما بما شاء إذا شاء بما تقتضيه الحكمة وتمام العدل ، فهذا يكون محمودا ؛ ولهذا ليس من أسماء الله المتكلم ، وكذلك الصانع قد يصنع خيرا ، وقد يصنع غير ذلك ، والله- جل وعلا- ليس من أسمائه الحسنى الصانع ؛ لاشتماله على هذا وهذا ، فإذا أطلق من جهة الخبر فيعنى به ما يقيد بالمعنى الذي فيه كمال ، وكذلك فاعل أو فعال فإن الفعال قد يفعل أشياء لا توافق الحكمة ، وقد يفعل أشياء لا يريدها بل مجبر عليها ، والكمال أن يفعل ما يريد ولا يكون مجبرا لكمال عزته وقهره ؛ ولهذا قال الله- جل وعلا- عن نفسه : { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ]- لأن تقييد كونه فعالا بما يريد ، يدل على الكمال في أشياء كثيرة ، وهي معروفة في مباحث الأسماء والصفات .(22/215)
وأسماء الله الحسنى تنقسم باعتبارات من جهة المعنى ، قال طائفة من أهل العلم : إن منها أسماء الجمال ، وأسماء الجمال لله- جل جلاله- هي الأسماء المشتملة على حسن في الذات ، أو حسن في المعنى وبر بالعباد والمخلوقين ، فيكون من أسماء الجمال صفات الذات ، واسم الله الجميل ، ويكون من أسماء الجمال : البر ، والرحيم ، والودود ، والمحسن ، وما أشبه ذلك . ومن أسماء الله ما هو من الجلال فيقال : هذه أسماء الجلال ، وأسماء الجلال لله هي التي فيها ما يدل العباد على جلال الله ، وعظمته وعزته- جل وعلا- وجلاله حتى يجل ، من مثل : القهار ، والجبار ، والقدير ، والعزيز ، ونحو ذلك ، فهذه أسماء الجلال ، وهناك أسماء في تقسيمات مختلفة ، تطلب من كلام ابن القيم - رحمه الله- أو من كلام الشراح ، فإن المقصود هو أن العبد المؤمن الموحد ينبغي أن يتعرف إلى الله- جل وعلا- بأسمائه وصفاته ، ولا تتم حقيقة التوحيد في قلب العبد حتى يعلم أسماء الله- جل وعلا- ويعلم صفات الله- جل وعلا- فإن العلم بها تتم به حقيقة التوحيد .(22/216)
والعلم بها على مراتب ، منها : أن يعلمها إثباتا ، يعني : أن يثبت ما أثبت الله لنفسه ، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيؤمن أن هذا الاسم من أسماء الله ، وأن هذه الصفة من صفات الله جل وعلا .
والثاني : أن يسأل الله- جل وعلا- بأسمائه وصفاته بما يوافق مطلوبه ؛ لأن الأسماء والصفات نتعبد لله- جل وعلا- بها ، بأن ندعوه بها كما جاء في هذه الآية ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
والثالث من الإيمان بالأسماء والصفات : أن ينظر إلى آثار أسماء الله وصفاته في الملكوت ، فإذا نظر إلى آثار الأسماء والصفات في الملكوت وتأمل ذلك علم أن كل شيء ما خلا الله باطل ، وأن الحقيقة أن الحق الثابت اللازم هو الله- جل وعلا- وأما ما سوى الله فهو باطل ، وزائل ، وآيل إلى الهلاك { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص : 88] .
قوله : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } : اللام في قوله { وَلِلَّهِ } هي لام الاستحقاق ، يعني : الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته مستحقة لله- جل وعلا- والله مستحق ذلك .(22/217)
{ فَادْعُوهُ بِهَا } : يعني : إذا علمتم أن الله هو المستحق لذلك ، وآمنتم به ، فادعوه بها ، وهذا أمر ، والدعاء هنا فسر بالثناء والعبادة ، وفسر بالسؤال والطلب ، وكلاهما صحيح ؛ فإننا ندعو الله بها ، أي : نحمده ، ونثني عليه بها ، فنعبده متوسلين إليه بالأسماء الحسنى ، وما اشتملت عليه من الصفات العلى ، وكذلك أن نسأله بها ، يعني : إذا كان لنا مطلوب نتوجه إلى الله ، فنسأله بتلك الأسماء بما يوافق المطلوب ، فإذا سألنا الله المغفرة نأتي بصفات الجمال ، وإذا سألنا الله- جل وعلا- النصرة نأتي بصفات الجلال ، وهكذا فيما يناسب ، وهناك تفصيلات أيضا لهذا الأمر .
والمقصود أن قوله- جل وعلا- { فَادْعُوهُ بِهَا } : يعني : اسألوه بها ، أو اعبدوه ، واثنوا عليه بها- جل وعلا- ، فيشمل دعاء المسألة ، ودعاء العبادة .
والباء في قوله { بِهَا } هي باء الوسيلة ، أي : ادعوه متوسلين بها .(22/218)
قوله : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : { ذَرْوًا } يعني : اتركوا ، وهذا يوجب على المسلم أن يبتعد عن حال الذين يلحدون في أسماء الله- جل وعلا- . والإلحاد في أسماء الله هو : الميل والعدول بها عن حقائقها إلى ما لا يليق بالله -جل وعلا- .
وهذا الإلحاد في أسماء الله وصفاته مراتب منها : أن يسمي البشر المعبودين بأسماء الله ، كما سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز ، ونحو ذلك .
ومن الإلحاد في أسماء الله : أن يجعل لله- جل وعلا- ولد ، وأن يضاف المخلوق إليه إضافة الولد إلى والده ، كحال النصارى .
ومن الإلحاد : إنكار الأسماء والصفات ، أو إنكار بعض ذلك ، كما فعلت الجهمية الغلاة ، فإنهم لا يؤمنون باسم من أسماء الله ، ولا بصفة من صفات الله إلا الوجود والموجود ، لأن هذه الصفة هي التي يستقيم معها برهانهم بحلول الأعراض في الأجسام ، ودليل ذلك على الوحدانية كما هو معروف في موضعه .(22/219)
ومن الإلحاد أيضا والميل بها عن الحق الثابت الذي يجب لله- جل وعلا- فيها : أن تؤول وتصرف عن ظاهرها إلى معان لا يجوز أن تصرف إليها ، فيكون ذلك من التأويل ، والواجب الإيمان بالأسماء والصفات وإثباتها ، واعتقاد ما دلت عليه ، وترك التعرض لها بتأويل ونحوه ، وهذه هي قاعدة السلف فنؤمن بها ولا نصرفها عن حقائقها بتأويل أو بمجاز أو نحو ذلك ، كما فعل المعتزلة ، وفعلته الأشاعرة ، والماتريدية وطوائف ، كل هذا نوع من أنواع الإلحاد .
وإذا تقرر ذلك علم أن الإلحاد منه ما هو كفر ، ومنه ما هو بدعة بحسب ما ذكرنا ، فالحال الأخيرة -وهي التأويل ، وادعاء المجاز في الأسماء والصفات- بدعة وإلحاد لا يصل بأصحابه إلى الكفر ، أما نفي وإنكار وجحد الأسماء والصفات ، فهذا كفر ، كحال الجهمية ، والنصارى ، ومشركي العرب .
" ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس { يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } : يشركون " : يعني يجعلون اللات من الإله ، فينادون اللات ، وعندهم أنهم نادوا الإله ، فصار شركا .(22/220)
" وعنه : سمو اللات من الإله ، والعزى من العزيز وعن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها " : وهذه مرتبة من مراتب الإلحاد في أسمائه ؛ لأن الله- جل وعلا- له الأسماء الحسنى ، فمن أدخل اسما لم يثبت في الكتاب والسنة أنه من أسماء الله فقد ألحد ؛ لأنه مال وعدل عن الحق الذي يجب في الأسماء والصفات إلى غيره ، والحق هو أن تثبت لله ما أثبته لنفسه ، إذ لا أحد أعلم بالله من الله- جل جلاله وتعاظم شانه- وكذلك لا أحد أعلم من الخلق بالله- جل وعلا- من رسوله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم . فمن أدخل فيها ما ليس منها فقد ألحد ، كمن قال : إن من أسماء الله : الماكر ، والمستهزئ ، والصانع ، وجعل ذلك من الأسماء الحسنى ، فإن هذا لا يجوز ، ومنها ما يجوز بتقييد في باب الإخبار ، ومباحث هذا الباب طويلة لاتصالها بالأسماء والصفات وهي معروفة في مبحث توحيد الأسماء والصفات .(22/221)
" باب لا يقال السلام على الله "
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا : السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقولوا : السلام على الله فإن الله هو السلام » (1) .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير السلام .
الثانية : أنه تحية .
الثالثة : أنها لا تصلح لله .
الرابعة : العلة في ذلك .
الخامسة : تعليمهم التحية التي تصلح لله .
الشرح :
مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله : أن ترك قول : السلام على الله ، هو من تعظيم الأسماء الحسنى ، ومن العلم بها ، ذلك أن السلام هو الله- جل جلاله- ، والسلام من أسمائه سبحانه وتعالى ، فهو المتصف بالسلامة الكاملة من كل نقص وعيب ، وهو المنزه والمبعد عن كل آفة ونقص وعيب ، فله الكمال المطلق في ذاته ، وصفاته الذاتية ، وصفاته الفعلية- جل وعلا- ، والسلام في أسماء الله معناه أيضا : الذي يعطي السلامة ويرزقها ، وأثر هذا الاسم في ملكوت الله أن كل سلامة في ملكوت الله من كل شر يؤذي الخلق ، فإنها من آثار هذا الاسم ، فإنه لكون الله- جل وعلا- هو السلام فإنه يفيض السلامة على العباد .
_________
(1) أخرجه البخاري (835) ومسلم (402).(22/222)